المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني
القسممباني الإسلام
المجموعةمحاضرات شهر رمضان 1439 هـ
التاريخ 1439/09/22
التوضيح
تعرض سماحة آية الله السيد محمد محسن قدس سره في هذه المحاضرة القيمة إلى شرح الفقرة التالية من دعاء الافتتاح: (مكّن له دينه الذي ارتضيته له، وأبدله من بعد خوفه أمنا، يعبدك لا يشرك بك شيئا)، و بين كيف أن عباداتنا وأعمالنا بشكل عام لا تخلو من شائبة الشرك، و كيف أنها ستصبح خالصة في زمان الإمام عجل الله فرجه؟ وجدير بالذكر أن هذه المحاضرة ألقيت في مدينة مشهد المشرفة ليلة الثاني و العشرين من شهر رمضان المبارك لعام 1439 هـ ق، و أن أهم عناوينها كانت كالتالي: 1 عبادتنا في زمان الغيبة مشوبة بالشرك. 2 أهمية صلاة الجمعة ووجوبها وجوباً عينياً تعيينياً. 3 أهمية الحج وعدم إدراك بعض العلماء لذلك. 4 شبهة عدم ذهاب الإمام العسكري عليه السلام إلى الحج وجوابها. 5 وجوب الحج مطلق وليس مشروطاً بالاستطاعة. 6 لا يجوز السفر فراراً من الصوم. 7 عند ظهور صاحب الزمان عجل الله فرجه سينتفي الشرك من أعمالنا. 8 في عصر صاحب الزمان سينتفي الخوف من كلمة الحقّ .
هو العليم
يعبدك لا يشرك بك شيئا
محاضرات شهر رمضان لعام ۱٤٣٩ هـ ق – الجلسة الثالثة
ألقيت المحاضرة في الليلة ٢٢ من شهر رمضان المبارك
محاضرة ألقاها
آية الله الحاجّ السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ
قدس الله سره
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلّى الله على سيّدنا أبي القاسم محمّد
وعلى آله الطيّبين الطّاهرين
ولعنة الله على أعدائهم أجمعين
لقد تكلّمنا في الجلسة السابقة عن هذه الفقرة من دعاء الافتتاح، ويا له من دعاءٍ عجيب هذا الدّعاء! على الإنسان أن يقرأ هذا الدّعاء في مختلف الأوقات إذا اقتضى حاله ذلك، فوقت قراءته لا يختصّ بشهر رمضان المبارك، وبالفعل هو دعاءٌ عجيبٌ، عجيبٌ جدًّا.
عبادتنا في زمان الغيبة مشوبة بالشرك
ينبغي للإنسان التأمّل بهذه الفقرة والتدقيق فيها وينظر ما هو المراد منها، وهي الفقرة التي تتحدّث عن الإمام صاحب العصر عليه السلام حيث يقول: «مَكِّنْ لَهُ دِينَهُ الَّذِي ارْتَضَيْتَهُ لَهُ...، يَعْبُدُكَ لا يُشْرِكُ بِكَ شَيْئًا»؛ يعني بما أنّنا في هذا الزّمان زمان الغيبة والإمام لم يظهر بعد، فعبادتنا هذه مشوبة بالشّرك، وليست عبادةً خالصة، أي أنّ عبادتنا ليست ارتباطًا محضًا بالله تعالى، وليست عبادتنا هي تلك العبادة التي تكون موردًا لرضا الله تعالى.
كان المرحوم العلّامة الطهراني يقول: «حينما كتبتُ رسالة صلاة الجمعة..» وفي هذه الرّسالة يُثبت سماحته أنّ صلاة الجمعة يجب أن تُقام إمّا في الزمان الذي تكون الحكومة الإسلاميّة هي الحاكمة، أو في زمان ظهور الإمام، ونحن يجب علينا أن نسعى لذلك؛ أي لإقامة الحكومة الإسلاميّة أوّلًا لنتمكّن من إقامة صلاة الجمعة.
بالطّبع لقد تراجع في آخر هذا الكتاب (رسالة صلاة الجمعة) عن هذه المسألة؛ وقال باستحباب صلاة الجمعة حتّى في غير حكومة الإسلام، وفي غير زمن الظّهور.
وعندما كان سماحته في النّجف كان يحضر دروس صلاة الجمعة عند المرحوم السيّد محمود الشّاهرودي رحمة الله عليه وفي وقتها حصل خلاف بينهما حول هذه المسألة، قال لي سماحته: لقد أقام المرحوم السيّد الشاهرودي الأدلّة على وجوب صلاة الجمعة وسرَدها واحدًا بعد الآخر، وحينما وصل لنهاية البحث قام فجأة بإسقاط جميع هذه الأدلّة قائلًا: (هذا الدّليل فيه مشكلة من حيث السّند، وذاك الدّليل يُخالف المشهور، وذاك الدّليل لم يعمل به الفقهاء والعلماء... وعلى هذا فصلاة الجمعة ليست بواجبة)، يقول السيّد العلّامة: عندما رأيت أنّ كلامه هذا يخالف الأدلّة أظهرت له المخالفة ورددت على جميع كلامه، ومهما حاول الدفاع عن رأيه، أجبته وأبطلت كلامه، حتّى قال لي في نهاية المطاف:
يا سيّد محمّد حسين، دعنا نُكمل بحثنا!
فأجبته قائلًا: أيها السيد العزيز، إن كنت تريد أن أشارك هكذا فقط [من دون أي إشكال أو ردّ] ثم أخرج من الدرس وأنا مطبق على فمي [فأيّ درس سيكون هذا]، ولكن ينبغي أن يكون مجلس الدرس مختلفًا عن المجالس العادية والبسيطة، فإن كان المجلس مجلس درس فقدّموا جوابًا، وأمّا إن لم يكن كذلك وكان من المقرر أن نسكت فسنسكت ولن نتكلّم، ولن يكون هناك فرق عندي حينئذٍ بين أن يكون الحكم واجبًا أم حرامًا أم مستحبًّا مؤكّدًا أم مكروهًا أو أيًّا يكن!
رحمة الله عليه.
ويمكن للجميع قراءة هذه الرّسالة [رسالة صلاة الجمعة] وهي في متناول أيدي الرّفقاء فقد طُبعت، كما تمّت ترجمتها مؤخرًا وطبعت النسخة المترجمة أيضًا۱، وصار بإمكان سائر الرفقاء [حتى من غير طلاّب العلم] أن يطالعوها، وبالطّبع لقد ورد فيها بعض البحوث التخصصيّة التي ليست لكلّ أحد [بل لأهل الاختصاص فقط].
أهمية صلاة الجمعة ووجوبها وجوبًا عينيًا تعيينيًا
في تلك الرسالة استخدمتُ نفس الأدلّة التّي أقامها السيّد العلّامة وأثبتُّ من خلالها وجوب صلاة الجمعة وجوبًا عينيًّا وتعيينيًّا٢ في جميع الأوقات؛ سواءً في زمان الظهور أم في زمان الغيبة، وسواء كانت تحت الحكومة الإسلاميّة أم في غيرها من الحكومات، مثلًا في أستراليا تجب صلاة الجمعة -فأستراليا حكومتها ليست إسلاميّة- أو كانت في أمريكا فصلاة الجمعة هناك واجبة حتمًا، ولا شكّ في وجوبها، وذلك لأنّه كلّما كانت [البلد أشدّ بعدًا عن الحكومة الإسلامية] لزم إثبات الوجوب بشكل أكبر من غيرها من الأماكن، وكذلك سائر البلدان في أوروبّا أو أفريقيا أو غيرها، فيجب إقامة صلاة الجمعة فيها جميعًا.
والحقير يفعل ذلك، فقد أقمتها بنفسي في أحد أسفاري إلى لبنان، وكان ذلك في المنطقة التّي كنّا مقيمين فيها وهي منطقة رفقائنا هناك، وذلك لأنّهم أخبروني أنّ صلاة الجُمعة لا تُقام في مدينة (صور)، أمّا لو كانت تُقام صلاة الجمعة في تلك المدينة لتوجّب علينا الحضور فيها، وأقمتُ الصّلاة حينها لهذا السّبب، أمّا الآن فلا أدري.
وهذا الوجوب العيني والتّعييني يقضي بإقامة صلاة الجمعة في كلّ مكان يكون فيه تواجد للمسلمين، سواء كان ذلك داخل المدينة أو خارجها، وذلك عندما يكون هناك سبعة أشخاص، ويكون أحدهم قادرًا على إلقاء موعظةٍ أخلاقية، ويكون عنده اطلاع ـ ولو إلى حدٍّ ما ـ على بعض الأحاديث وهذه المسائل، وليس من اللّازم أن يكون معمّمًا، فلا دخل لهذه المسألة بالموضوع.
في السّابق كان المرحوم العلّامة يقول للرفّقاء: «حينما تريدون الصّلاة، ضعوا على رؤوسكم عمامة». هل تذكرون هذا الأمر؟! [مخاطبًا السيد بعض الحضور] كان ذلك في مسجد القائم، ورحم الله السيّد مرتضى إذ كان دائمًا يضع عمامة خضراء، ويكفي أن يكون طولها مترًا واحدًا فقط لا أن تكون طويلة، فمترٌ واحدٌ كافٍ، فتُلفّ حول الرأس، وليكن لونها أبيضًا أو أصفرًا، لأنّ نفس رسول الله كان لديه عمامة بيضاء وعمامة صفراء، ولم يكن له عمامة سوداء، [يقول سماحته ملاطفًا:] وهذه العمامة السّوداء نحن اخترعناها، فقد كانت عمامة رسول الله صفراء وكان له عمامة أخرى خضراء اللّون، وهذه الأمور موجودة في سيرة رسول الله وذُكرت في حادثة الغدير مع أمير المؤمنين صلوات الله عليهما وآلهما.
ومن هنا يُعلم أنّه من الواجب إقامة صلاة الجمعة وهي ركعتان، تسبقها خطبة يلقيها إمام الجماعة يتحدّث فيها حول المسائل الأخلاقيّة، والمسائل العرفانيّة، والولائيّة، والأمور التي تكون محلّ ابتلاء النّاس، ويبيّن أحكام الشّرع، وبالمحصّلة يقوم باستجلاب ذلك الفضاء والحال [الروحاني للمجلس وللحاضرين]، وإن كان لديه بعض الأشعار فليصدح بها بصوت جميل، كأن يأتي بأشعار مولانا۱ ـ ويا لها من أشعار! ـ فيأتي بها ويقرؤها على الحاضرين.
إنّ من العجيب أنّ يقع رجلٌ كمولانا موردًا لتكفير عدّة من الحمقى والجهّال، هذا في الوقت الذي يأتي العلّامة المجلسي الأوّل الملّا محمّد تقي المجلسي٢ في إطار حديثه في كتابه «روضة المتّقين»٣ حول بحث صلاة الجمعة فيقول هناك: «ومن الأفضل أن يقوم الخطيب بإحضار أشعار مولانا المليئة بالحياة من كتابه المثنوي، ويقوم بقراءتها على الحاضرين»، عجبًا منك يا جناب العلّامة، فكيف تأتي وتشجّع وترغّب النّاس على قراءة أشعار مولانا مع هذه الاعتراضات عليه؟!!
تعالوا وانظروا أيّ حال سيكون لصلاة الجمعة حينئذٍ، فحينما تنتهي صلاة الجمعة سوف يكون الإنسان بانتظار صلاة الجمعة القادمة بكلّ شوق وطوال الأسبوع، أيّ حال سيكون للإنسان حينها، إذ يقوم الخطيب بإحضار روايات الإمام الصّادق أو الإمام الرضا أو أمير المؤمنين أو الإمام السجّاد صلوات الله عليهم أجمعين، أو يأتي بأدعية الصّحيفة السجاديّة، ثمّ يقرؤها على مسامع النّاس، أو يأتي بكلمات الإمام موسى ابن جعفر القصار لهشام، أو يأتي بالمسائل المتعلّقة بالعقل والجهل فيبيّنها للناس، وأمثال ذلك من هذه الأمور الواردة عن الأئمة المعصومين، ويُتبعها بالحكايات اللّطيفة الطّريفة، ويأتي بالأشعار اللّائقة فيقرؤها ويبيّنها للنّاس.
وبهذا الشّكل تصبح صلاة الجمعة هي نفس تلك الصّلاة التّي تتحدّث عنها الروايات الواردة في فضل صلاة الجمعة، والتّي تقول أنّ للشّخص الذي يحضر صلاة الجمعة بكلّ خطوة يخطوها يُمحا من ذنوبه ما شاء الله، أو الشّخص الذي يرجع من صلاة الجمعة يعود كمن ولدته أمّه وغيرها من الرّوايات العجيبة۱ التّي وردت في خصوص هذه المسألة، وبالطّبع قد بيّنتُ إلى حدٍّ ما هذه الأمور والشّرائط في الرّسالة التّي تحدّثنا فيها عن صلاة الجمعة٢، وتحدّثتُ فيها عن الخصوصيّات التّي ينبغي للخطيب امتلاكها، كأن يكون خطيبًا عادلًا وتقيًّا، ولا يكون له انتساب إلى جهة معيّنة أو يكون منتسبًا للحكّام الظلَمة، أو يكون لديه بعض الأمور الدنيويّة كالانتساب للسيّد فلان فيضطر لمراعاته، فإن تحدّث حول الأمر الفلاني سيصطدم مع السيّد الفلاني، وإن قال الأمر الفلاني لغضب منه الشّخص الفلاني، فيقول لنفسه: (لن أتحدّث عن هذا الأمر وسأترك ذاك الأمر كي لا يغضب منه أحد)، لا ينبغي للخطيب أن يكون بهذا الشّكل، هل التفتّم؟!
فصلاة الجمعة التي تكون منطبقة عليها هذه الشّروط عندما ينتهي منها الشخص سيقول في نفسه: (لماذا انقضت صلاة الجمعة بهذه السّرعة؟ ويا ليتها كانت أطول من هذا)، فيكون منتظرًا للجمعة التالية وهو مشتاق لها، فيقوم بتهيئة نفسه لاستقبال الجمعة الآتية بالغُسل ووضع العطر ومن هذه الأمور، فهذه الأمور مهمّة كلّها، وكلّ واحدٍ منها لها أهميّته المختصّة به.
أهمية الحج وعدم إدراك بعض العلماء لذلك
لقد كنتُ أقرأ دعاء ليالي القدر قبل ليلتين حينما كنت جالسًا في الطّابق العلوي، حيث يقول الإمام في ذلك الدّعاء: «أَنْ تَكْتُبَنِي مِنْ حُجَّاجِ بَيْتِكَ الحَرامِ المَبْرُورِ حَجُّهُمُ المَشْكُورِ سَعْيُهُمُ المَغْفُورُ ذُنُوبُهُمُ»، فكنتُ أقول في نفسي: ما السرّ الموجود في مكة والحجّ بحيث أن الإمام يطلب من الله في ليلة القدر أن يرزقه حجّ بيت الله؟! إنّ هذا الدعاء من أدعية ليلة القدر، فما هي قضيّة الحج؟! وما هي مسألة الحج حتّى يجعلها الإمام أوّل طلبٍ لديه، ثمّ بعدها يُكمل دعاءه بطلب الرّزق وهذه الأمور، فأوّل طلب ذكره الإمام هو حجّ بيت الله الحرام، فما الذي رآه في الحجّ؟ هل هو نفس الذي رأيناه نحن؟! فأحد الأشخاص (ولن أذكر اسمه) يأتي لأحد المجالس ويقول مفتخرًا ـ وهو في التّسعين من عمره وكان مشارفًا على الموت ـ : (أنا وطوال مدّة حياتي هذه لم أكُن مستطيعًا لكي أذهب للحج)
من هو الذي يقول مثل هذا الكلام؟! إنّه عالم وفقيه.. هل نستطيع أن نُطلق على رجلٍ كهذا لقب الفقيه؟! الفقيه هو ذلك الشّخص الذي...، ألم يقرأ هذا الرّجل دعاء الإمام في ليلة القدر؟! إذ لدينا في كلّ سنة ثلاثة ليالي قدر، (وبالطّبع نستطيع قراءة هذا الدّعاء في أوقات أخرى من السّنة) وما الذي فهمه هذا الرّجل عن الحج، لكي يأتي ويفتخر بأنّه زاهد لم يجمع المال، لدرجة أنه لم يذهب إلى مكّة ويقول: (لم يحصل لنا التوفيق ولم أصبح مستطيعًا)، هذا والحال أنّ هذا الشّخص لديه ألف مريد لو أخذ أحدهم بيده لاستطاع أن يذهب إلى الحجّ، ولكنّه ينظر للمسألة بهذه النّظرة، والحال أنّ الإمام المعصوم يطلب من الله في ليلة القدر أن يوفّقه لزيارة بيت الله في عامه هذا، وذلك مع أنّه ذهب للحج عشر مرّات، فالإمام الحسن المجتبى تشرّف بحجّ بيت الله أربعة وعشرون أو خمسة وعشرون مرّة كانت أكثرها مشيًا على قدميه من المدينة إلى مكّة، فكان يأخذ المواشي والجمال والخيول فيضع عليها متاعه ومن معه ويمشي على قدميه، فكان باستطاعته الذّهاب راكبًا ولكنّه كان يطوي هذا الطّريق ماشيًا۱.
ينبغي للإنسان أن يجلس ويتفكّر بهذه الأمور، فهل كان الأئمّة عليهم السّلام لا عمل لديهم (والعياذ بالله)؟!! أمّا نحن حينما ننوي الذّهاب، فإنّنا نأمر أن يشتروا لنا بطاقة في درجة رجال الأعمال في الطّائرة، وذلك حتّى نكون في راحة خلال هاتين السّاعتين اللّتين تكبّدنا عناءهما، وحتّى يرتاح هذا الظّهر المبارك والبطن المبارك وتلك الأرجل المباركة فلا يصيبهم لا قدّر الله أقلّ احتكاك وتعب.
وفي المقابل نرى أنّ الإمام موسى ابن جعفر كان يمشي في الصحراء نحو الحج، و كان الناس يرونه فلا يعرفونه، كما ورد في قصّة شقيق البلخي، وذلك حينما يرى [شقيق] رجُلًا يرتدي لباس أهل الإعراض عن الدّنيا، فيقول لنفسه: (فلأذهب وأنصح هذا الصّوفي)، والقضيّة مفصّلة، ثم يعلم في النّهاية أنّ هذا الرّجل الذي يذهب إلى الحجّ ماشيًا هو الإمام موسى ابن جعفر٢، فهل كان هؤلاء -والعياذ بالله- بلا عمل؟! أم هل كانوا يقومون بهذه الأعمال فقط من أجل السفر والتسلية والتفرّج؟! ما الذي كانوا يرونه؟ ما الذي كانوا يشاهدونه واقعًا في هذه المسائل؟! أولم يكن لديهم حصان أو جمل؟! بل كان لديهم الكثير، فما هذه الأفعال التي كانوا يقومون بها؟
أَنْتَ رَبِّي إِذَا ظَمِئْتُ إِلَى الْمَاءِ | *** | وَ قُوتِي إِذَا أَرَدْتُ الطَّعَامَا |
شبهة عدم ذهاب الإمام العسكري عليه السلام إلى الحج وجوابها
لقد كنتُ في أحد الأماكن، وكان هناك بعض العلماء، وقد جرى الحديث بينهم حول أنّ الإمام العسكري عليه السّلام لم يؤدِّ فريضة الحجّ، وذلك لأنّه كان محاصرًا.
أنّى لك هذا الكلام يا هذا؟! يعني لأنّه كان مسجونًا لم يذهب إلى الحج؟! إنك بهذا تفرض أنّ الإمام مثلك أنت، فإذا اُقفل هذا الباب سيصبح محبوسًا، هل الأمر بهذا الشّكل؟! فكان يقول: إن الإمام لم يؤدِّ الحجّ لإنه كان محبوسًا.
أوّلًا: لدينا رواية أنّ الإمام العسكري عليه السّلام قد سئل وهو في مكّة حول حكم شرعيّ، وقد أجاب الإمام عن ذلك السؤال، والإمام العسكري لا يذهب إلى مكّة لأجل أداء العمرة، بل إنه إذا أراد الذّهاب فسيذهب لأداء الحجّ لا العمرة، مع العلم بأنّه لا إشكال بالذّهاب للعمرة فهي مستحبّة، ولكن بحسب العادة ووفقًا لهذه الرّواية فهي دليل على أنّ هذا الكلام الذي يُتناقل بين العوام كثيرًا [غير صحيح]، وقد سمعتُ هذا الأمر حتّى من بعض المطّلعين، حيث كان يقول: (لو أنّ شخصًا نذر أن يحجّ نيابة عن الإمام العسكري، فسيقبل الله هذا النّذر منه، وذلك لأن الإمام لم يحجّ، ولأنّ الإمام العسكري والد إمام الزّمان فسيكون حسابه مختلفًا حينئذٍ، فالشّخص الذي ينذر أن يحجّ نيابة عن والد إمام الزّمان، فحجّه سيكون مقبولًا حتمًا)، ونفس هذا الشّخص كان يقول: (أنا بنفسي قد جرّبتُ هذا الأمر ووفّقتُ للقيام به)، يا عزيزي هذا الأمر مربوط بنيّتك، ولا علاقة له بواقع المسألة، فالإمام لاحظ نيّتك لذلك استجاب لك هذا النذر.
ثانيًا: لماذا لا يستطيع الإمام الذّهاب للحجّ؟! لماذا؟! بل من أين علمت أنّ الإمام العسكريّ لم يكن يذهب في كلّ سنة إلى الحج؟! ما هو دليلك على ذلك؟ فهل يتوجّب عليه في كلّ مرّة يذهب فيها إلى الحج أن يُظهر نفسه للجميع؟! قد يذهب الإمام ويؤدّي الحجّ ولا يراه حتّى شخصٌ واحدٌ، ما الإشكال في ذلك؟ يمكن أن يذهب ولا يراه أحد، أو أنّهم رأوه ولكنّهم لم ينقلوا لنا ذلك، فنحن لا نملك دليلًا على أنّ الإمام لم يذهب أبدًا، ولا نملك دليلًا على أنّ الإمام يجب عليه أن يلتزم بالظاهر حينما يكون مضيّقًا عليه ومحبوسًا من قِبل حكومة الجور، لا يوجد دليلٌ على ذلك؛ فقد يكون الإمام في نفس الوقت الذي يكون موجودًا فيه بالسجن أو الحبس ويراه الجميع هناك، يكون في نفس الوقت في مكّة ويؤدّي فريضة الحج، فما الإشكال في ذلك؟!
وقد شوهدت هذه الأمور في كثير من الموارد ولها نظائر عديدة؛ أوَلم يأتِ الإمام السجّاد إلى كربلاء في يوم الثالث عشر من محرّم؟! فكيف كان مجيئه؟! وقد جاء إلى كربلاء ولم يكن في يديه أو رجليه سلاسل ولم يكن مقيّدًا أبدًا، فالذين كانوا حاضرين هناك رأوا شابًّا قادمًا يرتدي ثيابًا بيضاء، وقد كانوا في حيرة من أمرهم حينما ظهر الغبار [من ناحية الكوفة]، فجميع أولئك الشّهداء كانوا مقطوعي الرّؤوس وكانت أجسادهم فقط مطروحة على الأرض، فما كانوا يعلمون هذا الجسد لأيّ شخص هو، فأتى الإمام وشرع بتعيين الأجساد وكان يأمر بدفن كلّ شخص في مكانٍ معيّن، فالإمام الحسين عليه السلام يُدفن هنا، وأبو الفضل العباس عليه السلام يُدفن هناك، وهكذا حتّى دفن الجميع ثمّ عاد من حيث أتى. هل التفتّم؟
في أحد الأيّام كان المرحوم العلّامة يقول ـ وكأنّي قد رأيت هذه الرواية أيضًا في مكانٍ ما، ولكني سمعتُها مرارًا من سماحته ـ كان يقول: كان الإمام الباقر عليه السّلام يجلس في مجلس فأتى الأصحاب لمجلس الإمام، ثم قدِم جابر بن يزيد الجُعفي، وجابر بن يزيد الجُعفي كان من خواصّ الإمام وقد كان مثل سلمان۱، أو من الذين هم في مرتبة سلمان، فيأتي ويجلس جانبًا ويُصغي للحديث، ثمّ يلتفت أحد الحضور للإمام الباقر ويقول له:
يا بن رسول الله لقد استفدتُ ليلة البارحة من كلام جابر أيّما فائدة حينما كان معي في المنزل.
فيلتلفت الآخر متعجّبًا ويقول: ماذا؟ لقد كان جابر في بيتي ليلة البارحة، أيّ ساعةٍ كان معك؟
فيقول الآخر: بعد الغروب بساعتين.
فيقوم ثالث قائلًا: ما الذي تقولانه، لقد كان جابر معي ليلة البارحة.
حتّى قام خمسة أو ستّة أشخاص كلّ واحد يقول: (لقد كان جابر معي ليلة البارحة)، وحينها يلتفت الإمام إلى جابر ويقول له: (لا تقم بهذه الأمور)، لا تقم بمثل هذه المشاكسات، اجلس في مكانك ولا تلفت الأنظار [ضحك من سماحة السيّد]، فالنّاس لا يتحمّلون مثل هذه الأمور.
حينما كنتُ أدرِّس وكان البحث يدور حول هذه القضيّة، قضيّة إمكانيّة ارتباط الرّوح بغير هذا البدن، قام أحد الرّفقاء الطّلاب بالسّؤال قائلًا:
هذه الرّوح مرتبطة بأيّ واحد من البدنين؟ فقد صار هناك بدنين موجودين، فارتباطها بالأوّل أم بالثّاني؟
فأجبتُه: كم يدًا لديك؟
قال: يدين اثنتين.
قلتُ له: بأيّهما ارتباطك أكثر؟
فكّر قليلًا ثمّ قال: ارتباطي بهما متساوي.
فقلتُ: والأمر كذلك هنا، كلاهما واحد، ولا فرق بينهما.
وخلاصة الأمر أنّ الإمام العسكري عليه السّلام كان يمتلك هذه الأمور.
وقد ذكرتُ هذه المسألة لمناسبة لها في المقام.
وهذه المسألة مسألةٌ مهمّة جدًّا وهي نفس هذا الإحساس ونفس هذا الإدراك الذي يدركه الإنسان عندما يتشرّف بالذهاب إلى مكّة...
وجوب الحج مطلق وليس مشروطًا بالاستطاعة
هذا والحقير يرى أنّ الحجّ على الشابّ يصير واجبًا عينيًا عليه بمجرّد أن يتكلّف لا أنّه واجب مشروط [بالاستطاعة]، فالحجّ ليس واجبًا مشروطًا، بل هو واجبٌ مطلقٌ۱؛ ماذا يعني هذا؟! يعني أن الحجّ مثل الصلاة، فهل صلاة الصبح بالنسبة لنا واجبة علينا الآن في هذا الوقت أم لا؟ نعم، إنَّها واجبة؛ فإن قلت: إنّ الصبح لم يأتِ بعدُ. قلتُ: إنها واجبٌ مطلقٌ مؤقّت، أي إنها متوقّفة على حصول الوقت، لا أنّ وجوبها غير حاصل وغير موجود عند عدم الوقت؛ ولهذا فإنّك لا تستطيع الليلة وقبل أذان الصبح أن تُفقد نفسك الوعي حتى تصير صلاة الصبح قضاءً، فهذا العمل حرام؛ لإنك ستتسببّ في فوات الصلاة عليك والإتيان بها قضاءً، فتارةً يُغمى على الإنسان بشكل تلقائي، فهذا أمرٌ؛ ولكن أن تأتي وتبلع حبّة قبل أذان الصبح بثانيتين؛ أي قبل أن تصير الصلاة واجبة؛ أي قبل أن يصير الوجوب منجّزًا، فيغمى عليك والمغمى عليه أو النائم لا تكليف عليه، فهذا أمرٌ آخرٌ، أو على سبيل المثال يقول أحدهم: إنّي أشعر بالتعب، فلأتناول قرصًا منوّمًا، ثمّ أقضي الصلاة فيما بعد. وسيستمرّ مفعول ذلك القرص لمدّة ساعتين أو ثلاثة، فينام الإنسان خلالها، وعندما يستيقظ، يجد بأنَّ الشمس قد طلعت؛ إنَّ هذا العمل حرام.
لا يجوز السفر فرارًا من الصوم
وهكذا بالنسبة للمسائل الأخرى التي قد يُغفل عنها، وذلك مثل ما يقال: سافر حتّى يسقط عنك وجوب الصوم ثمّ تأتي به قضاءً، إنَّ هذا العمل حرامٌ أيضًا، نعم، عندما يطرأ على الإنسان سفر فيسافر حينها فهذا لا إشكال فيه كما في قوله تعالى: ﴿وَ مَنْ كانَ مَريضًا أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾٢، والمراد من السفر هنا هو السفر العادي أو السفر الضروري؛ ولكن أن يُسافر أحدهم من أجل أن يفطر، فلا يجوز له ذلك. لماذا؟ لأنَّ الصوم واجبٌ مطلقٌ وليس واجبًا مشروطًا؛ ليس مشروطًا بأن تكون بالحَضَر، بل هو مطلقٌ، فيجب على المكلّف أن يوفّر لنفسه أسباب هذا الحضور.
فمن يُستثنى من وجوب الصيام إذن؟ هو ذلك الشخص الذي يكون على سفر، لا مَن يسافر لأجل أن يفطر، فهنالك فرق بين الحالتين. ولا أرى من يهتمّ بهذا الأمر، وبعبارة أخرى لم توضّح هذه المسألة بشكل صحيح، فعلى الإخوة أن يلتفتوا لهذه المسألة.
عند ظهور صاحب الزمان عجل الله فرجه سينتفي الشرك من أعمالنا
يقول الإمام هنا: «يعبُدك لا يُشرك بك شيئًا» أي يتوجّه إليك من دون أيّ شرك، أي أنّ جميع حركاته وسكناته وصلاته وصومه، وأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر، وكذا يكون توجّه جميع الخلائق إلى ناحية الله من دون شرك، بل يكون مطلقًا وخالصًا ولا يشوبه أيّ خوف؛ فمن هذه الفقرة يُعلم بأنّنا الآن وقبل ظهور الإمام عليه السلام مشركون، هذا هو ما تعطيه هذه العبارة بدون مجاملة لبعضنا.
فالخوف الآن كثير، لقد سمعتُ...
في بعض الأحيان عندما يسمع الإنسان بعض الأمور يغوص في التفكير.. يقول أحدهم: إني كلّما استمعت لمحاضرة فلان أغوص في التفكير والتأمّل العميقين. أي أن كلامه يحتاج لأن يجلس الإنسان ويتأمّل فيه ليرى من أين صدرت هذه الكلمات.
في بعض الأحيان يسمع الإنسان بعض الأمور من بعض الأشخاص فيتعجّب منها، ويتعجّب لماذا قال هذا الكلام؛ وفي بعض الأحيان يسمع الإنسان بعض الكلام فيدهش مما سمع؛ ولكن في بعض الأحيان عندما يسمع بعض الأشياء فإنه يصدم ويندهش ويصاب بالذهول من شدّة تعجّبه ومن هول ما سمع، فيقول: ما الذي تناوله عبد الله حتى صار يتفوّه بمثل هذه الشطحات؟!
إنَّ جميع أعمالنا التي نقوم بها في الوقت الحاضر مبنيّة على الشرك، ما الذي يعنيه هذا الكلام؟ يعني أننا عندما نريد أن نصلّي أو نصوم أو نقيم مجلسًا فإننا نُشرك في عملنا هذا.. لا حاجة للتوضيح، فكلّ عملٍ نقوم به يكون فيه نوع شركٍ، فمثلا عندما نريد أن نقيم مجلسًا، فإننّا ـ و قبل أن نقيمه ـ نفكّر هل سيكون لهذا المجلس عواقب و تبعات أم لا، وكلّ كلمة نريد أن نتفوّه بها، نديرها في أفواهنا ونعيد التفكير فيها بأنّه هل سيكون لهذه الكلمة عواقب و تبعات أم لا، وهكذا نفعل مع كلّ كلمة فنطلقها واحدة تلو الأخرى ونحن قلقون وخائفون من أن يكون هناك احتمال بنسبة الثلاثين أو الأربعين بالمائة بأنّ في هذا الكلام ما يخشى عواقبه ويُخاف منه.
في عصر صاحب الزمان سينتفي الخوف من كلمة الحقّ
أمّا بعد ظهور الإمام، فسوف تنتفي نسبة الثلاثين والأربعين بالمائة هذه، بل وستنتفي حتّى نسبة الواحد بالمائة منها، وستكون صفرًا مطلقًا، وستكون قادرًا على التفوّه بالحقّ بكلّ صراحة، ولن يخطر على بالك حتّى نسبة الواحد بالمائة أنْ ما الذي سيحدث إن قلتُ هذا الكلام.
نعم، لا يجوز لك أن تتفوّه بكلّ تافهٍ من الكلام، ولا أن تلقي بالتهم على الآخرين ولا أن تغتابهم ولا أن تتكلّم بكلام بلا طائل، فكلّ ذلك محفوظ في محلّه، أمّا ما هو موجودٌ اليوم من عدم تمكّن أحدهم من التصريح بالحقّ مخافة أن يخالف كذا وكذا من المصالح، فسوف ينتفي كلّ ذلك. ما الذي يعنيه ذلك؟ إنَّ ذلك هو معنى العبارة:«... لا يُشرك بك شيئًا».
عندما يظهر الإمام عليه السلام، فسوف تتنفّس الناس الصعداء، وتقول: لن يكون هنالك أيّ شكلٍ من أشكال الخوف والاضطراب أو التشويش والقلق أو القيل والقال أو ما شابه ذلك بعد الآن. نعم، لن يخشى أحدهم ما يحصل اليوم من تدخّل في شؤونه الشخصية، ومن مراقبةٍ لجميع حركاته وسكناته. كيف يمكن أن يحصل مثل ذلك؟ إنَّه سيحصل لأنَّ الهيمنة ستكون للحقّ المحض، فلن يكون هنالك أي خوفٍ وذلك لأنَّ الحاكم سيكون هو الحقّ المحض، ولن يكون مكانٌ للخوف هناك، وستكون حرًّا في التفوّه بالكلام الحقّ، هذا إذا كان الكلام حقًّا؛ وأما إذا كان الكلام فيه اتهام وبهتان للآخرين فسيتعاملون معك بطريقةٍ أخرى ويحاسبوك ولن يسمحوا لك بذلك، فالحريّة والديموقراطية وأشباه هذه المصطلحات المتداولة اليوم لن تكون موجودة، فلا يُسمح لأحد أن يغتاب أحدًا أو أن يتّهمه بالباطل أو أن ينمّ عليه أو يعترض طريقه أو أن يتدخّل في شؤونه.
إنَّ هذه الأمور خاصّةٌ بهذا الزمان، ولا وجود لها في ذلك الزمان. نعم في ذلك الزمان سوف يتمكّن الجميع من قول الحقّ، ومن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ـ إن كان ذلك يجري بالحقّ ـ ومن دون أن يعتري الإنسان في أيّة نقطة من نقاط العالم كان، قيد شعرة من القلق عمّا يمكن أن يترتّب على فعله ذاك من تبعات وملاحقات، فهو لا يخاف ممن سيعترض طريقه ويمنعه من ذلك، فمن يستطيع أن يعترض عليه وهو يفعله بأمرٍ من إمام الزمان نفسه؟ فالإمام هو الذي يأمر بهذا. وكذا بالنسبة للصلاة فعندما يصلّي الإنسان لن يشعر بأي شيء من الخوف أو القلق...
عندما كنَّا في مسجد القائم سابقًا أي في زمان شاه إيران، كان أفراد الأمن الإيراني (الساباك) يتردّدون على المسجد دائمًا، حتى أنهم كانوا يعملون بشكل متناوب، وكان المرحوم السيّد مرتضى ـ رحمه الله ـ يعرفهم وكان يمتلك الحال الذي كان يجعله يراوغهم ويسخر منهم، وكنت أتبعه في ذلك عندما كنت صغيرًا في الرابعة أو الخامسة عشر من عمري، فقد كان هو كبيرنا الذي يقودنا وكنَّا نأتمر بأمره، وفي أحد أيّام الجُمَع وبينما كان السيد مرتضى في المسجد، جاء أحدهم، وكان مظهره الخارجي ينمّ عن شخصيّته الحقيقيّة وعلى الرغم من أنَّهم كانوا ملتحين؛ فكانت لحية أحدهم أطول من لحيتي، وكانت جباههم متورّمة من أثر السجود. نقل لي السيد مرتضى هذه الحكاية، فلم أكن متواجدًا حينها، فقال: حضرت المسجد قبل مجيء المرحوم العلاّمة، وفرشت سجّادة الصلاة، وقمت لأداء صلاة النافلة، ولم يكن أحد قد حضر المسجد بعد، فجاء ذلك الرجل، وأخذ عباءة من المكان الذي توضع فيه عادةً، وأخذ في الصلاة، فطويت سجّادتي وخرجت من المسجد، وأخذت أراقبه من خلف النافذة، فأخذ يتلفّت يمينًا وشمالًا. نعم، لقد كان للسيد مرتضى الكثير من أمثال هذه المقالب بحقّهم، فقد كان يمتلك الحال الذي يسمح له بذلك.
لقد كنت أنزعج من هؤلاء كثيرًا، وكانوا بمجرّد أن يُفتضح حال أحدهم، يستبدلونه بغيره. فجاء في أحد الأيّام واحد منهم وكان سمينًا وملتحيًا، فكان يلبس العباءة وكان يقرأ الدعاء بعد الصلاة، لعلّكم كنتم قد رأيتموه [يخاطب سماحة السيّد أحد الحاضرين] فقد كان أسمر البشرة، نعم، لا بدّ وأن تكونوا قد رأيتموه، فجلس إلى جنبي في الصلاة يومًا، وفي فترة ما بين الصلاتين، التفت إليَّ قائلًا: لديّ سؤال يتعلّق بمسألة معيّنة، وأردت أن أعرف رأي «السيِّد» بها؟ فقلت له: أتريد أن تعرف رأي السيّد والدي بها؟ قال: لا، أريد أن أعرف رأي «السيِّد» بشأنها!
وكنت قد عرفت ما الذي يريده الرجل، فكان يقصد رأي السيِّد الخميني، وكان يريد أن يعرف فيما إن كانت لنا علاقة به أم لا، فقلت له: أيّ سيّد تقصد؟ فقال: «السيِّد!» ذلك السيّد الغير متواجد الآن. قلت له: أليس لذلك السيّد اسم يُسمّى به؟ لقد كنت في السابعة عشر من عمري حينها، فقال: أنا أقصد السيّد الخميني، قلت له: أنا لا أعرف رأيه بهذه المسألة، فأنا أسأل السيّد الوالد إن كان لدي سؤال بهذا الشأن. ثمّ سألني قائلًا: أله علاقة بالسيّد؟ قلت له: كلّا، وأيّ نوعٍ من العلاقة يمكن أن تربطه به؟ وكان هذا الرجل يجلس إلى المرحوم العلاّمة ويتحدّث إليه ويسأله عن مسائله الشرعيّة.
ثم مضى على هذا الأمر مدّة من الزمان، وكنت في إحدى الليالي أجلس مع أحد الإخوة في سيارته، ولعلّها كانت سيّارة الحاج علي، فتوقّفنا في التقاطع الذي كان يُسمّى بتقاطع (ژاله) والذي كان دوّارًا عندما كنت صغيرًا، ثمّ حوّلوها إلى تقاطع بعد ذلك، وكان ذلك في إحدى ليالي الصيف، نظرت فرأيت إحدى السيّارات متوقفة إلى جنبنا، وكان فيها ـ ليتكم كنتم هناك ـ عدد من النساء المخدّرات [السيّد ممازحًا ومعرّضًا بهؤلاء النسوة] المؤمنات، المتقيّات واللواتي كنَّ على أعلى درجة من درجات الإيمان والتقوى وبالشكل الذي لا يمكن تصوّره ـ فليتكم كنتم هناك لكي تستفيضوا من ذلك المنظر [السيّد يضحك]ـ فنظرت إلى السائق، فبدا لي بأنِّي أعرفه، غير أنَّني لم أتمكّن من تمييزه بشكل جيّد، فقد كنَّا نقف إلى الخلف منه قليلًا، فقلت للسائق: تقدّم قليلًا لكي نستفيض بشكل أكبر من هذا المنظر، فلديّ ما أريد أن أعرفه، وعندما تقدّم السائق قليلًا، ونظرت إليه فعرفته، فقد كان نفس ذلك الرجل الذي كان يقرأ الدعاء والقرآن في المسجد، والذي كان قد سألني عن رأي السيّد الخميني في مسائله الشرعيّة، فلقد كان هو سائق أولئك النسوة المؤمنات، المتقيّات، الثيّبات والأبكار، فما أن وقع نظره عليَّ، حتّى ضغط على دواسة البنزين بكلّ قوّة، واختفى بحيث أننا لم نشاهده بعدها أبدًا، فلم يحضر في اليوم الذي بعده ولم يأت بعدها أبدًا. نعم، لقد كان هنالك الكثير من هذه النماذج.
يقول المرحوم العلاّمة: عند ذهابي مع السيِّد الحدّاد إلى مدينة مشهد، ولقائنا بالسيِّد الميلاني، جاءني واحدٌ منهم بعد عودتنا من زيارته وقال لي: هل توجد علاقة له بالسيِّد الميلاني؟ فقلت له: وهل أنت مفتّشٌ حتّى تسال عن هذا؟ فقال: لا، لا، أردت أن أسأل فقط؟ فقلت له: وهل يعنيك إن كانت لنا علاقة بهذا أو لم تكن لنا علاقة بذاك؟
فهكذا كان حال ذلك الزمان، أمّا في الوقت الحاضر، فإن شاء الله لا يكون الأمر كذلك، فالوضع كان في ذلك الزمان هكذا، فإن وقفت إلى الصلاة، وقف أحدهم خلفك، وإن كان هنالك مجلس، تراهم يتجسّسون عليه ليعرفوا ما الذي يُقال فيه؟ أو من هم أصدقاء صاحب المجلس، وبمن يرتبط. هذا مع أنَّ عدد أصدقاء المرحوم العلاّمة كان محدودًا في ذلك الوقت، فلم يكن عددهم مثله في أواخر عمره، بل كانوا عبارة عن مجموعة صغيرة من الخواصّ.
أمّا في عصر إمام الزمان، فلن يكون الأمر على هذه الشاكلة، ولن يكون هنالك من يسأل، ولا من سيقوم بفتح ملفٍ في المؤسسة الفلانية عن هذا وذاك، نعم، لن يكون هنالك أيّ ملفٍ، ولا سؤالٍ ولا كتابٍ، ولا مثل ما يحصل اليوم من الاحتفاظ بوثائقٍ في الأرشيف لكي تُستغلّ ضد أحدهم في الوقت المناسب، بل سينتفي كلّ ذلك، بل سيكون الحال هو: «يعبدك لا يُشرك بك شيئًا»؛ فلن يكون هناك أيّة قوّة تقف بوجه الإنسان والسالك عندما يريد أن يصدح بالحقّ ويعمل بموجبه. إنَّ ما ذكرته في حديثي للإخوة لا يمثل سوى بيانٍ للمراتب الدنيا من تفسير هذه الفقرة من الدعاء، وإلّا فهنالك مراتب أخرى [قد لا يسعني الوقت للحديث عنها] فلم يتبقّ لي من وقتٍ أقضيه مع الإخوة، سوى اليوم أو اليومين، حيث سأعود يوم الجمعة إن شاء الله۱، وإلى أن يشاء الله أن يمنحني من التوفيق لكي أزعج الإخوة مرّة ثانية في العودة إلى شرح هذا الموضوع.
نسأل الله أن يوفّقنا لإدراك تلك الأجواء التي يقول فيها الإمام الصادق عليه السلام: لو أدركت زمان الإمام المهدي لخدمته٢ فأيّ موقفٍ سيكون ذلك الموقف الذي يقول عنه الإمام الصادق لو أدركته لآزرته وساعدته؟ فهذا يدلّ على أنَّ الموقف هو ليس بالموقف أو الحدث العادي. إنَّ الإنسان ليتعجّب عندما يرى كيف يقوم أحدهم ببعض أنواع المقارنة والتشبيه، ألم يكونوا قد فكّروا قليلًا بما يتفوّهون به من كلام؟! نعم، ألا يجب أن يكونوا قد فكّروا بذلك؟! فأيّ جوابٍ سيجيبون به الله وهم يتجاوزون حدودهم، على أنَّهم يفعلون ذلك لا لشيء سوى لأجل كسب الدعم والتأييد من الناس؟
كنت وفي الأيام الأولى للثورة أستمع من خلال الراديو إلى محاضرة كان يلقيها أحد عباد الله (وقد توفّي، وعليه الآن أن يدفع ثمن كلامه ذاك)، فقد كان ـ والعياذ بالله ـ يتكلّم بكلامٍ عجيبٍ وغريب...
يا عزيزي إن كان هناك شخصٌ يقول كلامًا غير معلوم المصدر، فهل ينبغي عليك أن تأتي وتنقله وتذيعه على الراديو؟! ويا لها من أباطيل وخزعبلات!!
إنّ طريق الحقّ هو الطريق الذي يرتضيه الله، لا الطريق الذي تستخدم فيه الموارد غير الشرعية لأجل تثبيت موقعيّة الشخص ومكانته. ومن هذا القبيل ما قام به أحدهم من كتابة ثواب ما يترتّب على قراءة سور القرآن، وعندما سأله أحد العلماء عن مصدر الروايات التي نقلها، قال له: لقد كتبت تلك الروايات من أجل أن أقوم بترغيب الناس في قراءة القرآن أكثر!
ما هي علاقتك بذلك الأمر يا هذا؟! فهل أنت الموكّل بالقرآن؟ وهل أنت أحد الأوصياء؟! إنَّ واجبنا يتمثّل في بيان ما جاء عن الأئمة من روايات بشأن القرآن ولا غير؛ فمن سمح لنا بأن نتطفّل ونقوم بتلك الأعمال، وأن نجعل أنفسنا أكثر حرصًا على الإسلام من صاحبه، فنتصرّف نتيجة لذلك بهذه الكيفيّة. ما الذي سيؤدِّي إليه مثل هذا التصرّف؟ إنَّه سيوصل صاحبه إلى طريق مسدود، نعم إنَّه سيوصله إلى هذا الطريق المسدود الذي نراه.
ولهذا السبب نرى بأنَّ العرفاء والعظماء يوصون الأشخاص منذ البداية بأن عليكم أن تدقّقوا في الموضع الذي ستضعون قدمكم فيه منذ البداية، ومِن البداية لابدّ أن تحسب لكلامك الذي تريد أن تقوله حسابًا؛ وعليك أن تعلم بأنّك لستَ إلّا مكلّفًا وعبدًا ليس إلاّ، ولا شأن لك سواءٌ ارتفع الإسلام في هذا الموضع وعلا أم ضعف في ذلك الموضع. فهل أنت المسؤول عن الإسلام والموكّل به؟! إنّ المسؤول عنه هو إمام الزمان لا نحن، والوليّ والقيّم على الدين هو إمام الزمان يفعل ما يشاء، ولا داعي لأن تكون فضوليًّا وتتدخّل في عمله وشغله، بل علينا أن ننشغل بأنفسنا، فما دخلنا نحن حتى يحترق قلبنا على مسألة ما؟!
نسأل الله أن يوفّقنا للسير في نفس المسير الذي يريده الأئمة والأولياء منّا، وأن نأخذ نفس وجهتهم في مسيرنا.
الّلهمّ صلِّ على محمّد وآل محمّد