المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني
المجموعةسنة 1438
التوضيح
كيف يمكن للسالك أن يوازن بين مراعاة الآخرين والألفة معهم و حسن المعاشرة وصلة الرحم، و بين المحافظة على طريقه و الصلابة في الحق؟ يجيب سماحة آية الله السيد محمد محسن الطهراني عن هذا السؤال المهم في هذه المحاضرة القيّمة مستشهداً بسيرة العلامة الطهراني رضوان الله عليه. وجدير بالذكر أن أهم عناوين المحاضرة كانت كالتالي: تعلّق الأطفال بالدنيا أقل من الكبار بكثير. الساخرون من العرفاء لا يعرفون النعيم الذي حصلوا عليه. الأولياء وصلوا ثمّ جاؤوا ليأخذوا بأيدينا. كان العلاّمة الطهراني رؤوفا برفقائه وصولاً لرحمه. لم يكن العلامة الطهراني يضحّي بالحقّ لأجل أيّ أحد. لم يكن لدى العلامة الطهراني أي تعلّق بالدنيا. العلاقة الخاصّة للعلامة الطهراني مع الإمام الرضا عليه السلام.
هو العليم
السالك بين مراعاة الآخرين والصلابة في طريق الحق
شرح دعاء أبي حمزة الثمالي - سنة ۱٤٣۸ هـ ق - المحاضرة الثالثة
محاضرة ألقاها
آية الله الحاجّ السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ
قدس الله سره
أعوذ باللـه من الشيطان الرجيم
بسم اللـه الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين
والصلاة والسلام على سيّدنا ونبيّنا أبي القاسم محمد
وعلى آله الطيبين الطاهرين
واللعنة على أعدائهم أجمعين
«وَ لَوْ خِفْتُ تَعْجِیلَ الْعُقُوبَةِ لاجْتَنَبْتُهُ لا لِأَنَّکَ أَهْوَنُ النَّاظِرِینَ وأَخَفُّ الْمُطَّلِعِینَ؛ بَلْ لِأَنَّکَ یَا رَبِّ خَیْرُ السَّاتِرِینَ وأَحْکَمُ الْحَاکِمِینَ وأَکْرَمُ الْأَکْرَمِینَ»
يقول عليه السلام: لو كنت خائفًا من أن تعجّل عليّ بالعقوبة لما ارتكبت ذنوبًا قطعًا، وليس هذا لأنّك تتساهل في إشرافك ورقابتك عليّ أو لأنك مشرف ورقيب ضعيف، ولا لأنّ اطّلاعك على الأفعال وعلى النفوس اطّلاع ناقص وبلا قيمة؛ بل ارتكبت الذنب ـ وما زلت أرتكبه ـ لأنّك يا ربّ خير الساترين، ولأنّك في مقام الحُكم أفضل الحاكمين، ولأنّك في مقام الكرم لديك أرقى مرتبة من مراتب الكرم والعظمة والمجد والعفو.
لقد ذكرنا للأصدقاء أنّ من الطبيعي أن تحصل هذه المسألة عند الإنسان، لأنّه في النهاية بشرٌ، وهو بطبيعته يميل نحو الأمور الدنيويّة والشهوات والغفلة والكثرات. لقد خلقه الله في هذه الدنيا وجعله ذا نفسٍ، وهذه النفس ـ وبسبب حبّها لذاتها ـ تحبّ آثار ذاتها بالتّبع، وهي تتعدّى الحدود في سبيل جلب المنافع ودفع المضار، وكلّ ما يجري على الإنسان من حوادث يجعله يتعلّق بهذه الغريزة أكثر، وكلّما زاد عمر الإنسان فإنّ هذه المسألة تزيد معه أيضًا.
تعلّق الأطفال بالدنيا أقل من الكبار بكثير
لاحظوا ميول الأطفال إلى الأمور الدنيوية ولاحظوا مستواها، فستجدون أنّ مستواها قليلٌ جدًا، بحيث أنّكم تضحكون على الأفعال التي يقوم بها الأطفال، وكأنّ الدنيا ليست ذات أهميّة لهم، فهم لا يهتمّون كثيرًا لو أُخذ منهم شيءٌ أو أُعطي لهم شيء، فلو قارنتم تصرفاتهم مع الكبار والبالغين فسترون كم هي قليلةٌ تعلّقاتهم، وكم هو قليل ما يريدونه من الدنيا! إنّهم يقنعون بالقليل، ففي مقام البذل والعطاء ترون كيف أنّهم يتخلّون عمّا بأيديهم بسهولة، بسهولة جدًّا، بخلاف البالغين فإنهم لا يتخلّون عن الأشياء بهذه السهولة.
هناك رواية جميلة عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول فيها ما معناه: إني أحب من الأطفال أربعة خصال۱: أحدها أنهم يبكون. إنّ البكاء ناشئ من ظهور الرحمة، في مقابل الضحك والمراد منه القهقهة التي يكون فيها جانب الحيوانيّة والكثرات ظاهرًا. أما التبسّم وما شابه فلا إشكال فيه وله محلّه.
أجل، إنّ حالة البكاء هي حالة الرحمة، وهذه حالة الرحمة تحصل للإنسان في كلٍّ من حالتي الحزن والانبساط والبهجة، تحصل في كلتا الحالتين، فإذا أشفق الإنسان على أمرٍ ما، تحصل له حالة البكاء، كما إذا حضر مجلس عزاءٍ ومصيبة، حصلت له حالة من الشفقة على أقرباء الميّت، أو عندما يفقد شخصًا عزيزًا تحصل له حالة البكاء أيضًا، فحالة الرحمة والرأفة حين حزن الإنسان توجب البكاء له، أو عندما يشارك في مجالس أهل البيت عليهم السلام ومجالس عزاء سيد الشهداء والأئمة عليهم السلام ويستمع للمصيبة تحصل له حالة البكاء، وهذا طبيعي، فمن الطبيعي أنّ الإنسان إذا ما شعر بتعلّقٍ تجاه شخصٍ ما، فإنّ بعض الألم الحاصل عند ذلك الشخص سينتقل له، وهذا يجعله يبكي، وحالة البكاء رحمةٌ. يقول حافظ رحمه الله في ذلك البيت المشهور:
هر گنج سعادت که خدا داد به حافظ | *** | از یمن دعای شب وورد سحری بود |
[إنّ كلّ كنوز السعادة التي أعطاها الله لحافظ فهي ببركة دعاء الليل وأذكار السحر]
ولديه بيت آخر يقول فيه:
حافظ ز دیده دانه اشکی همی فشان | *** | باشد که مرغ وصل کند قصد دام ما |
[يا حافظ، انثر حبوب الدمع من عينيك لتصنع منها فخّاً يجذب طائر الوصال إليك]
إنّ هذا البيت عجيب جدًا، إنّ ما يقوله هنا عجيبٌ واقعًا بل هو إعجاز، فمعنى هذا البيت أنّ طائر الوصل يبحث عن حبوب، ما هي هذه الحبوب في الدنيا؟ هي تلك الدموع التي تتساقط من أعينكم، تلك الدموع هي التي تستوجب جلب الرحمة الخاصّة ونزول البركات الخاصّة والنعم الخاصّة، فتفاض على القلب. هل التفتم؟
ويقول رحمه الله في بيت آخر:
ما در پیاله عكس رخ يار ديده ايم | *** | اي بي خبر ز لذت شرب مدام ما |
[إنّنا رأينا صورة الحبيب في الكأس، يا هذا إنّك لا تعلم أيّ لذةٍ في شربنا الدائم]
ما أرقى ما يقوله! إنّه راقٍ جدًا !
الساخرون من العرفاء لا يعرفون النعيم الذي حصلوا عليه
يعني: فما معنى هذه السخرية التي تسخرون بها منّا؟! أي عندما يقولون ساخرين: من هؤلاء؟! وما هم؟! وماذا يقولون؟! [يقول لهم جناب حافظ:] اذهب واعتنِ بشؤونك، اذهب وافرح بأفكارك، اذهب وافرح بالصراع اليومي الذي يدور في دماغك وعقلك، لا شأنَ لك بنا، فنحن لا نتدخّل بشؤونك، فلماذا تتدخل بشؤوننا؟! نحن لا نتدخّل بشؤونك، فافعل ما شئت من الأفعال.. ومن الواضح أنّ كلامه موجّه لأهل الدنيا ها! لأهل الدنيا، وللذين يريدون التغلّب على بعضهم في المجالات المختلفة، في المسائل الماليّة، والمسائل الدنيويّة والسياسيّة، والرياسات وأمثال ذلك ممّا يمكن أن يُطلق عليه اسم الدنيا، فإنّ حافظ الشيرازي يقول لهم: اذهبوا لشأنكم، ولن نتدخّل بأموركم.
قوله: «ما در پیاله...» يعني: في ذلك الإناء والكأس الذي نتناول منه، ونحن نتناول منه بشكل مستمرّ، لا أنّنا نتناول مرّةً واحدةً ثمّ ننتظر إلى شهر آخر، لا يا عزيزي، بل بشكل مستمرّ، في الصباح وعند الظهر وحين الليل، دائمًا يأتي [الحبيب].
قوله:
ما در پیاله عكس رخ يار ديده ايم | *** | ... |
[أي: إنّنا رأينا صورة الحبيب في الكأس]
فالحبيب عندنا وبقربنا، لقد جعلت هذه الكأسُ الحبيبَ بجانبنا، أمّا أنت فأين؟! وماذا تعرف عن هذه العوالم؟! ومن أين ستعرف لذّة شربنا على نحو الدوام؟ أين ستعرف لذّة شربنا الدائم؟ فنحن نشرب من هذا الكأس باستمرار!
حسنًا هنيئًا مريئًا له، فهو شيء جيد جدًّا، نعم لو لم يتناول حافظ [الشيرازي] هذه النعم فمن الذي سيتناولها؟! أيّ الأشخاص؟! لو لم يكن هؤلاء الأشخاص موجودين، ولو لم تكن هذه الأشعار موجودةً، ولو لم يكن هؤلاء الأولياء والأعاظم ولو لم تصلنا هذه الأفكار من الأعاظم، فمن غير المعلوم أن نحصل على شرارةٍ أو شعلةٍ أو فكرةٍ من هذه الأفكار، بل كنّا سنعتقد أنّ الأمور كلّها هي ما نراه نحن، كنّا سنظنّ أنّ الدنيا هي هذه، والجنّة هي هذه، والنار هي هذه، هذه التي يذكرها الناس لنا ، وسنتصور أنّها كما يصفونها لنا.
الأولياء وصلوا ثمّ جاؤوا ليأخذوا بأيدينا
أمّا هؤلاء الأعاظم، فقد جاؤوا وأزاحوا لنا الستار، وبينوا لنا أمورًا جديدةً، قالوا لنا: لا تعتنوا بما يُقال لكم، لا تنظروا إلى هذه المسائل، ولا تنظروا إلى هذه الضوضاء، لا تنظروا إلى الشعارات والازدحام، ولا تنظروا إلى الذين يغترون بالـ «أنا»، وأخذوا الله ووضعوه في كيسٍ ووضعوا الكيس في جيبهم، وقالوا: إنّ كلّ شيء إنّما هو موجودٌ هنا، وليس هناك أيُّ شيءٍ آخر في أيّ مكانٍ آخر، لا، لا تنظروا إلى هؤلاء، إنّهم يقولون لنا:
برون آی از سرای امّ هانی | *** | بخوان مجمل حدیث لن ترانی |
يقول: [اخرج يا هذا من بيت أمّ هاني، واذهب واقرأ ما ورد في حديث لن تراني].
اخرج إلى الخارج، اخرج من هذه الأفكار، اخرج من هذه المسائل، اخرج من هذه الأمور، اخرج وتعال لترى ماذا هناك! تعال وانظر ماذا هناك!
واقعًا لو لم يكن هؤلاء الأعاظم موجودين، ولو لم نكن قد رأيناهم، [فأين كنّا لنكون؟! وما الذي كان سيحلّ بنا؟!] فنحن رأيناهم في حياتنا، وأنتم رأيتم أيضًا، فهؤلاء الذين أعمارهم كبيرة، كان لديهم ارتباط بالمرحوم العلّامة الطهراني رضوان الله عليه، وكانوا يرونه ويستفيدون منه، قلّ ذلك أم كثر، فكلّ واحدٍ بحسب فهمه وسعته الوجوديّة، فقد أدرك كلّ واحدٍ شيئًا ما، ولكن ليس من المعلوم أين كنّا سنكون الآن لو لم نعاصرهم، واقعًا ليس من المعلوم أين كنّا لنكون الآن!! أنا لا أقول: أنّنا كنّا سنصبح من شاربي الخمر، أو ممن يسرق المنازل، وننهب الأموال ونهرب، نعم قد لا نصل إلى هذه الدرجة، ولكن في نهاية المطاف، كنّا سنكون في هذا الأفق الداني لا أكثر، فيومًا نجري خلف هذا، ويومًا خلف ذاك. أمّا ما رأيناه وسمعناه وشعرنا به، فهل يسمح لنا أن نمشي خلف هؤلاء؟! هل يتركنا نفعل ذلك؟! هل يتركنا؟!
في مرّةٍ من المرات كنّا في مجلسٍ من المجالس، وكان هناك عدد من الرفقاء والأصدقاء، وكنّا جالسين، وإذا بأحدهم يسألني سؤالًا، ويقول: عفوًا يا سيّد فإنّنا نتجاسر عليك، نتجاسر عليك، ومع ذلك نرجو أن تجيب على هذا السؤال، فقد جاء في ذهننا فاسمعه على الأقل، فقلت له: تفضل اذكره ولا تستحي، فقال: لو أنّه الليلة، لو أنّه الليلة جاؤوا وقالوا لك: غدًا صباحًا سننصبك في المنصب الفلاني، يعني أعلى شيء يمكن أن يُتصوّر في هذا العالم، فقلت له: لكنتُ تركتُ إيران في نفس هذه الليلة ولسافرت إلى أقصى بقاع العالم بعيدًا عنه، بحيث لا يمكن لأحدٍ أن يجدني، ولو بعد مائة سنة أخرى، ولو بحث مائة سنة أخرى. فهل أنا فارغ الأشغال؟! وهل أسعى إلى وجع الرأس؟! فهل يسعى الإنسان إلى وجع الرأس؟!
يا عزيزي يكفينا إذا حصلنا على الخبز والجبن والخضروات أن نأكلها، وأن نضع رأسنا وننام في مكان مساحته متر في مترين، ونسأل الله أن يُبقي لنا نفسًا نتنفّسه، فنشكر الله على ذلك، أمّا هذا الكلام فأيُّ كلامٍ هو، أخذتني الضحكة وأنا أجيبه، وهو أيضًا صار يضحك، وكان هناك عددٌ من الرفقاء وصار الجميع يضحك، قال لي: أنا أتجاسر عليكم بسؤالي، فقلت له: وهذا جوابك، قال: جوابٌ أكثر إشكالًا، فعندما يكون سؤاله هو هذا فينبغي أن يجاب عليه بما يناسبه. هل التفتم؟
لقد جاء الأعاظم ودلّونا على الطريق، وقالوا لنا: إذا كان المعيار هو العلم، فعلمنا ليس أقلّ من البقيّة، هذا إذا لم يكن أكثر منهم، وإن كان المعيار على الاطّلاع على المسائل الدنيويّة، فكذلك إن لم يكن اطّلاعنا عليها أكثر من الآخرين فعلى الأقل ليس أقلّ منهم، وإن كان المعيار هو التجربة، فتجربتنا ليست أقل من الآخرين، وإن كان المعيار هو العمر الذي مضى من الآخرين، فنحن أيضًا انقضى منا زمانٌ من عمرنا، وما مرّ على الآخرين من مسائل وأفكار وتجارب، قد مرّ علينا أيضاً، وأمّا الفهم الذي يدّعيه العديد من الناس، فلدينا أكثر منه؛ فقد فهمنا أنّ جميع هذه الأمور لا قيمة لها، وأنّها جميعًا بلا طائل، ولذا فنحن نسعى خلف أمرٍ آخرٍ، وقد مشينا في سبيلنا وطريقنا وقد وصلنا ورأينا الحقّ، وسنثبت عليه إلى آخر عمرنا، رأينا الحقّ وهو إلى الأخير بهذا النحو، ونحن نثبتُ عليه كلّ يوم أكثر وبتأكيد أكبر وبإحكام أكبر وبإتقان أكبر، وبجزمٍ مبرمٍ أكثر وأكثر، وها نحن ندعوكم أنتم أيضًا، فتفضّلوا وتعالوا أنتم أيضًا.
لقد قال المرحوم العلّامة لهذا العبد مرّتين، وذلك في موطنين مختلفين، أحدهما عندما ذهبت إليه ذات مرّةٍ لأنقل له منامًا رأيته، وحينما أخبرته به، هزّ برأسه ثمّ نظر إليّ وقال: «يا سيّد محمّد محسن! إن كنت تريد الدنيا، فابقَ غير مشهور، وإن كنت تريد الآخرة فابقَ غير مشهور» حسنًا، أنا فهمتُ مراده من هذا الكلام، وفهمتُ حقيقة المسألة، وفي مرّةٍ أخرى وهكذا بدون أيّ مقدّمة حيث كنتُ ذهبتُ إلى سماحته، ولكنّ هذه المرّة الثانية كانت في الأشهر الأخيرة من حياته، وهكذا بدون أيّ مقدّمة كنّا جالسين فنظر إليّ وقال: «انظر إلى ما تراه صحيحًا أنت وامشِ على أساسه دون أن تلتفت إلى الآخرين، واترك الدنيا بشكل دائم» لقد كانت هذه الكلمات عجيبة بالنسبة لي، ليست عجيبة بمعنى [أنّ الأمر الذي بيّنه كان مستغرباً من سماحته]؛ فنحن عايشنا سماحته ونعرف ممشاه وشاهدنا مسيره، فعندما أتى إلى إيران مهاجرًا من النجف، كانت هذه الهجرة بأمر أستاذه! بأمر أستاذه! حيث بقي هنا ما يقرب من اثنين وعشرين سنة، كان يذهب إلى المسجد وكان مع رفقائه، وكان رفقاؤه في هذه المدّة في حالة من التغيير والتبدّل؛ إذ كانوا في زمن معيّن بشكل ثم تغيّروا، ثم التقى بأفرادٍ آخرين وحصل لهم تغيّر أيضًا، نعم ضمن حدود، ثمّ في أواخر عمره التقى بأفراد آخرين أيضًا. وما كنت ألاحظه في هذه الأثناء هو أنّه كان دائمًا ومع كل هذه التغيّرات هو نفسه لم يتغيّر، ففي جميع هذه التغيّرات والعلاقات لم أر منه أي تعلّق أبدًا!
كان العلاّمة الطهراني رؤوفا برفقائه وصولاً لرحمه
نعم، بالنسبة إلى الرفيق فلا بدّ أن يكون للإنسان تعلّق به، فذلك تعلّق إلهيّ، وهذا الأمر محفوظٌ في محلّه، وأمّا فيما سوى ذلك، فلم أرَ منه أيّ تعلّق؛ مثلًا أن يهتمّ بجذب الناس وجمعهم حوله ويحافظ عليهم حتى لا ينقصوا واحدًا، ويبقى ملازمًا لكلّ واحد منهم .. لم نشاهد منه مثل هذا الأمر أبدًا، وكنت ألمس ذلك منه بشكلٍ كاملٍ في الموارد المختلفة التي كانت تحصل. وفي عين وجود هذه الحالة عنده فقد كان مَضرِب المثل في محبّته الكبيرة للأشخاص الذين كان على علاقة بهم وفي العطف عليهم؛ يعني أنّه جمع بين هاتين الجهتين، إذ كيف يمكن لشخص أن يكون في نفس الوقت الذي يكون عطوفًا على أصدقائه، [فارغاً من التعلّق بهم].
نقل لي أحد أصدقائه قضيّةً ـ وكان من أصدقائه القدامى، وهو لا يزال حيًا، فنسأل الله تعالى أن يسلّمه ـ وقد نقل لي هذه القضيّة عندما كان العلاّمة الطهراني رضوان الله عليه في المستشفى وقد أجرى عمليّة في عينه، وكان يأتي إليه هذا الصديق كلّ يومٍ حاملًا معه الطعام والعصير، وكان يبرز له المحبّة الشديدة، وهو مريض الآن عافاه الله.
في أحد الأيام قال لي: يا سيد محمّد محسن، سأقول لك قصّة: مرضتُ مرّةً ـ وكان هذا الشخص من أصدقاء المرحوم العلاّمة الأوائل الذين كانوا من تلامذة المرحوم الأنصاري، وبالإضافة إلى ذلك كان له علاقة سببيّة بالمرحوم الأنصاري ـ قال لي: مرضتُ يومًا، ولم يتمكّن الأطباء من تشخيص مرضي، وكانت حالتي تسوء يوميًا من دون تشخيصٍ للمرض، فقالوا: لا ينبغي أن تبقى هكذا، بل الأفضل لك أن تدخل إلى «مستشفى شُورَوِي»، والتي تقع في شارع «شِمران» حتى نرى ماذا نفعل! فدخلت تلك المستشفى.. وكانت تلك المستشفى كسائر المستشفيات، لا تسمح بالزيارة إلا مرّتين بالأسبوع (الأحد والأربعاء) وذلك بعد الظهر لمدّة ساعة أو ساعتين فقط. بقيت في تلك المستشفى مدّة إلى أن شخّصوا المرض، واستمر ذلك لأسبوعٍ أو أسبوعين، وبدأوا بالعلاج واستمرّ لأسبوع أو أسبوعين، فكان مكوثي في المستشفى ما يقرب من شهرٍ، والحاصل أنّ مدّة مرضي طالت شهرًا.. يقول: إنّ والدك كان يأتيني كلّ يوم!
كم كان منزلنا بعيدًا عن المستشفى؛ حيث كان يقع في منطقة «أحمديّة دولاب» في أقصى مدينة طهران، أضف إلى ذلك الظروف في ذلك الزمان، إذ أذكر ـ وكنت طفلًا ـ أنّه في ذلك الوقت أنّه كان يمشي مقدار كيلومتر أو كيلومتر ونصف على طرق ترابية إلى أن يصل إلى الشارع الذي يمرّ فيه السيارات.. نعم أكثر من كيلومتر، وكان نفس هذا المسير يطويه مرّتين يوميًا للوصول إلى المسجد.
قال لي: كان والدك يأتيني كلّ يوم حاملًا معه العصير الذي كانت تعدّه والدتك رحمة الله عليها ـ وكانت حيّة زمن نقل القصّة ـ ولا أدري هل كان عصير تفاح أو عصيرًا آخر، كان يحمله ويأتي به إلى المستشفى في الساعة العاشرة أو الحادية عشرة أو العاشرة والنصف، وكانت غرفتي في المستشفى مطلّة على مدخلها، حيث كنت أراه يطلّ في نفس الوقت كلّ يومٍ من باب المستشفى حاملًا معه شيئًا، وكان يدخل إلى الغرفة فيضع العصير هناك وكنت أشرب مقدارًا منه، وأترك مقدارًا منه لما بعد الظهر، ثمّ كنّا نخرج ونتمشّى في حديقة المستشفى معًا، قال: كنّا نتمشّى ما يقرب من نصف ساعة، ونفس هذا المشي كان هو السبب في تحريك عجلة الشفاء، (وسرّ ذلك أنّ هذا المشي كان مع حالةٍ من العشق والمحبّة، ومن الطبيعي أنّ ذلك يحرّك الإنسان). قال كنا نتمشى معًا، وعندما كان وقته ينتهي قريب الظهر [كان يعتذر مني] ولم أكن أرغب في مفارقة السيّد محمّد حسين، ولكنّه كان يقول: لديّ مسجد وينبغي أن أصل إلى المسجد ظهرًا. والحاصل أنّه كان يوصله إلى باب المستشفى ليأخذ سماحته سيارة تاكسي من هناك ويذهب إلى المسجد الذي يقع في شارع «سعدي شمالي» قبل مستشفى «أمير أعلم».
أحيانًا أذهب إلى هذا المسجد، مرّة في السنة أو مرّتين، فلدينا ذكريات هناك، أجلس وأصلّي جانبًا، ولا أحد يعرفني هناك باستثناء شخصٍ أو شخصين، فجميع من نعرفهم ذهبوا؛ إمّا ذهبوا إلى رحمة الله أو انتقلوا من هناك، سوى شخص أو شخصين يأتون ويسلّمون عليّ ويترحّمون على الوالد، نعم لا أحد يعرفني، كنت أجلس جانبًا وأفكّر وحدي.
أجل، قال لي: في كلّ يومٍ كان والدك يفعل ذلك، كان يأتيني دائماً، في حين أنّ الآخرين جميعًا حتّى الأقارب كانوا يقتصرون في مجيئهم على يومي الأحد والأربعاء وضمن الساعة المحدّدة بعد الظهر للزيارة. ماذا يعني ذلك؟ والحال أنّه كان لديه الكثير من الرفقاء في ذلك الوقت، ذكرت لكم بأنّه كان هناك العديد من الأشخاص المنتسبين إلى المرحوم الأنصاري وكانوا من أصدقائه، ولكن كان هذا الشخص (السيّد العلاّمة) من بينهم يطوي لأجله هذا الطريق وكان عنده هذه الهمّة، ويرى أنّه يستحق هذا البذل لأجله، وكان له هذا الحال معه! ولهذا امتاز سماحته عنهم جميعاً في النهاية! فليس الجميع سواء، ففي النهاية الناس مختلفون!
وكان مع هذه الخصوصيّات التي لديه وهذا الحال الذي عنده، كان لديه خصلةٌ مقابلةٌ أيضًا؛ وهو أنّه لم يكن يضحّي بقناعاته لأجل أفكار الآخرين وسلائقهم وحالاتهم! فالناس يريدون أن يمشي الآخرون طبقًا لميولهم..
ـ فيقول أحدهم للإنسان: عليك أن تأتي وتقبل بهذا!
ـ فيجيب: لا أريد أن أقبل.
ـ لا بل عليك أن تقبل.
ـ لماذا أقبل أنا؟ بل أنت عليك أن تقبل بي، لماذا أنا؟
ـ ينبغي أن تأتي وتمشي في هذا الطريق، فهذا الطريق هو الذي نرتضيه نحن!
ـ هل طريقك صحيح حتّى تدعوني إليه، أم أنّه باطل؟! فإن كان صحيحًا فهات دليلك، وإن لم يكن لديك دليلٌ فلماذا تصرّ هكذا عليّ! فهذا ترجيح بلا مرجّح؛ فأنا أقول بأنّ هذا الطريق صحيح ولديّ دليل عليه، وأنت تدعوني إلى طريقك والحال أنّه لا دليل لك عليه، لا يصحّ هذا!
دائمًا هكذا كان في هذه الخصوصيّات وفي هذا الحال وفي التعلّق بالرفيق والمحبة الزائدة التي كانت مضربً للمثل بينهم في ذلك، بل حتّى في المسائل الأسرية والعائليّة وصلة الرحم.. إذ بعد وفاته كلّما كنّا نلتقي بأحدٍ من الأرحام أو نزوره، كان يقول: رحم الله والدك! هذا العمل الذي تقوم به [أي الزيارة وصلة الرحم] وحالك إنّما هو بسبب والدك، فقد كان كذلك! يعني أنّه كان شخصًا نموذجيًا في عائلتنا من حيث مراعاته لصلة الرحم ومراعاة مسألة الألفة والأنس، ولم يكن أحدٌ مثله في ذلك. وفي مسألة الرفاقة كان كذلك؛ فقد كان يبذل وقته لأجل الرفيق؛ كان يتحدّث معهم ويطيّب خاطرهم، وكان يقضي حاجاتهم، وإذا كان أحدهم بحاجة إلى شيء لم يكن ينام.. أعرف ذلك بنفسي لم يكن ينام!
هل ذكرت هذه القصّة للرفقاء أم لا؟ (وهناك الكثير من هذه المسائل غيرها، وبعضها لا يمكن أن نذكرها، يعني ليس من الصحيح ذكرها) :
كنت في إحدى الليالي في المسجد فرأيت أحد الأصدقاء ـ وهو فعلًا على قيد الحياة، ونسأل الله أن يحفظه فقد صار كبيرًا جدًا ـ غير مرتاحٍ، وكان ذلك في زمن الشاه، إذ كان عمري عندها سبع عشرة أو ثماني عشرة سنة تقريبًا، رأيته غير مرتاحٍ فسألته: لماذا أنت متضايق؟ وكانت ليلة السبت، حيث جلسنا جانبًا والمرحوم العلامة كان قرب المحراب يريد أن يمشي، فقال لي: غدًا لديّ شيك بنكي والحال أنّه لا رصيد عندي، فقلت له: كم يبلغ هذا الشكّ؟ فقال: "ثلاثمائة تومان!" يعني ثلاثمائة تومان لا ثلاثمائة مليون أو مليار تومان.. حيث كان للتومان قيمة في ذلك الوقت! ولم يكن لديّ مال، بل لم أكن أملك فلسين.. بل سألته هكذا فقط!
ولمّا خرج المرحوم العلامة خرجت معه نمشي إلى المنزل، وكان علينا أن نمشي سبعًا إلى ثمان دقائق للوصول إلى المنزل، فقال لي ماذا كنت تتحدّث مع فلان؟ (ولابد أنّه شاهدني أتحدّث معه من بعيد)، فقلت: لقد رأيته غير مرتاح فسألته عن ذلك، فقال: لديّ شيك بنكي غدًا وليس عندي مال! فسألني المرحوم العلاّمة: كم يبلغ مقداره؟ قلت: ثلاثمائة تومان، فقال: أسرع بنا إلى المنزل حتى أعطيك هذا المبلغ لتوصله إليه.
عند ذلك أسرع في المسير؛ حيث كنّا في وسط الطريق، فأسرع في سيره، حتّى وصلنا إلى المنزل، فأعطاني المال وذهبت إلى المسجد، فرأيت أنّ الرجل قد ذهب، يعني رجعت سريعًا إلى المسجد فلم أجده في المسجد، وكان هناك دكان على رأس التقاطع لأحد الأصدقاء ـ ولا يزال حيًا حفظه الله ـ فأعطيته المال وقلت فلان عليه دين غدًا، وهذه الأموال من السيّد العلاّمة فأعطه إياها غدًا حتى يقضي بها دينه، فقال: حسنًا! واستَلَمها منّي وقال: غدًا أعطيه إياها، فعدت إلى المنزل، فقال لي ماذا فعلت؟ قلت: ذهبت إلى المسجد وكان قد رحل، فذهبت إلى فلان وأعطيته المال وقلت له: فلان لديه قرض غدًا فأعطه إياه! فقال لي: هل طلبت منه أن يذهب الليلة إلى منزله ويسلّمه المال؟ فقلت: لا! قال: لماذا لم تقل له ذلك حتى ينام مرتاح البال؟ كان ينبغي أن يعطيه إياها الليلة! هل التفتم؟ لقد عاتبني لغفلتي عن هذا الأمر! فهذا الرجل سينام قلقًا الليلة! ولماذا ينبغي أن يحصل ذلك؟
والحاصل أنّه كان عجيبًا جدًا! يعني كان عجيبًا واقعًا! وهذه إحدى النماذج، وأعرف بعض الموارد التي أخجل أن أذكرها لكم، حقيقةً لا يمكنني أن أذكرها، كنت أريد أن أذكر لكم قصّة أخرى، لكن ذكرها مُشكل، لذا أكتفي بهذا المورد فقط.
يعني أنّه كان إلى هذا الحدّ يراعي مشاعر الرفيق ويراعي أموره، وكانت هذه المسائل مهمّة عنده، ويوليها أهميّة، ولم يكن ذلك منه تمثيلاً أو تصنّعاً، بل كانت هذه الأمور تنشأ واقعًا من نفسه ومن داخله ومن حقيقة وجوده.
لم يكن العلامة الطهراني يضحّي بالحقّ لأجل أيّ أحد
ورغم وجود هذه الصفات و هذه الحالات عنده، إلاّ أنّه ما كان ليضحّي بنفسه لأجل إرضاء الميول والرغبات؛ يعني عندما كان يحصل أمر معيّن فينفصل بعضهم ويبتعدون عن مسير الحقّ، كانوا يحاولون كثيرًا مع المرحوم الوالد ليدخلوه في أمورهم ومحافلهم، باعتبار أنّ المرحوم الوالد كان له مكانةٌ مختلفةٌ عن الآخرين، فكانوا يريدونه أن يكون معهم ليقال: فلانٌ معنا! وهذا يعتبر مهمًّا لهم، ولكنّهم مهما حاولوا لم يستطيعوا ذلك! بل كان يقول: الحقّ هو هذا! فإن جئتم فأنتم محترمون ومقدّرون وسأكون في خدمتكم، وإن لم تأتوا فلا يمكنني أن أتجاوز الحقّ؛ بأن آتي وأشارك في الأماكن والمجالس التي تقف أمام الحق وتعارضه! كيف يمكنني ذلك؟! انظروا كيف كان محافظًا على نفسه.
فتلك المحبة وكرم الأخلاق وتلك المسائل لها مكانتها، ومسألة حفظ الشخصيّة والهويّة والطريق والمسير لها مكانتها أيضًا؛ فعلى الإنسان أن يحافظ دائمًا على هاتين الجهتين، ويهتمّ بهما، إذ يمكن للإنسان أن يتحرّك من خلال هاتين الجهتين، ويمكنه أن يرفع تمام الموانع والعقبات عن طريقه بهما!
هذه هي وضيّعته وحاله، وعندما أتى إلى إيران ـ وهذا الذي كنت أريد أن أقوله ـ بقي ضمن هكذا أجواء لمدّة اثنين وعشرين سنة، كان يقول لي: (يا فلان! لو لم يكن هناك تكليفٌ من قِبل أستاذي، لما كنت لأصرف ساعةً من وقتي مع أحدٍ أبدًا! وطيلة هذه السنوات الإثنتين والعشرين التي عشتها في طهران، لم أُمض منها ولو ساعة واحدة من دون إذن من الأستاذ).
لم يكن لدى العلامة الطهراني أي تعلّق بالدنيا
لقد كان رضوان الله عليه مسؤولًا عن أفضل مساجد طهران، وكانت له منزلةٌ رفيعة، وكان يتردّد على ذلك المسجد مختلف الأفراد والأشخاص، لكنّ قلبه لم يتعلّق ولو بمقدار شعرة بهذا المسجد وهذه المنزلة، وحينما تخلّى عن عمله بالمسجد، كنّا ننقل له بعض المسائل، حيث كنّا متواجدين بطهران، ونذهب أحيانًا إلى مشهد، فنخبره بحصول بعض الأمور، فقال لي أحد المرّات: يا سيّد محمد محسن، لا أريدك أبدًا أن تذكر لي ولو اسم ذلك المسجد، وأرحْ نفسك! فحينما يُخبرونك بأنّه وقع في المسجد الأمر الفلاني، أو المسألة الكذائيّة، فلا تنقل لي ذلك، بل ولا تذكر لي حتّى اسم ذلك المسجد! ما هو السبب في ذلك؟ لأنّه غير متعلّق به؛ في حين أنّ بقيّة الناس لم يكون بهذا النحو.
في أحد الأيّام، شاركت بأحد المجالس.. رحمة الله على صاحب ذلك المجلس، فعلى كلّ حال، كان رجلًا خيّرًا، وكان من علماء طهران، وكان يُقيم مجلس عزاء في عصر الخميس، فذهبت للمشاركة به، فوجدت هناك العديد من أئمّة الجماعة متحلّقين بذلك المجلس، فصار الحديث عن رحلة المرحوم العلاّمة إلى مشهد؛ فقال [صاحب ذلك المجلس] بصوت عالٍ: لقد كان للمرحوم العلاّمة الكثير من المريدين هنا، وكان مسؤولًا عن مسجدٍ له مكانةٌ رفيعةٌ؛ فلماذا تخلّى عن كلّ ذلك ورحل؟! فقلت في نفسي: بما أنّه يتحدّث بهذا الشكل، فلأردّ عليه بكلامٍ ما، سواءً أعجبه هذا الكلام أم لم يعجبه!! فقلت له: (أخبرني يا سيّدي، هل المريد هو من ينبغي عليه أن يبحث عن مراده، أم المُراد ينبغي عليه أن يبحث عن مريده؟!)، فامتقع لون وجهه!!
أجل، أيّهما يجب عليه البحث عن الآخر؟ المُرَاد يبحث عن المرِيد أم المريد يبحث عن المُراد؟! فأنتم يا عزيزي تبحثون عن المريدين، وأنتم الذين تَعُدّون الحاضرين في صلاة الجماعة التي تأمّونها، فإذا نقص واحدٌ منهم، تبدؤون بالتساؤل: لماذا لم يأتِ اليوم؟ لعلّه ذهب إلى مكان آخر! أو إلى مسجد آخر! وتسألونه:
ما الذي حصل لك؟ لعلّك انزعجت منّا!
لا، أنا لم أنزعجك منك، لكنّني فقط أحببت الصلاة في ذلك المسجد..
هل حصل معك أمر، أو وقعتَ في مشكلة؟ تفضّل معنا للمنزل، فنحن ندعوك للعشاء أو الغذاء، ولأكل الأرز مع اللحم المشويّ أو الدجاج! فعلينا أن نجبر خاطر المؤمن، ونعرف لماذا ذهب من هنا!
لكنّ المرحوم العلاّمة لم يكن على هذه الشاكلة، ولم يكن يهتمّ بهكذا أمور؛ ولهذا، حينما ذهب إلى مشهد فقد كان ذلك بأمرٍ من أستاذه. ولينتبه الرفقاء إلى هذه المسألة؛ فكما أنّ ذهابه إلى إيران كان بأمرٍ من أستاذه، فإنّ ذهابه إلى مشهد كان أيضًا بأمرٍ من أستاذه، حيث قال له أستاذه ـ في ذلك السفر الذي ذهب فيه إلى سوريا ـ بالقرب من الضريح المطهّر للسيّدة زينب عليها السلام: (حينما ترجع إلى إيران، عليك بالهجرة إلى مشهد، واتّخذها مقرًّا لإقامتك).
يعني أنّ كلتا الحالتين كانتا بأمرٍ من أستاذه؛ هذا، مع أنّه كان له ميل قلبي وباطني لذلك بحسب ما ذكره لي في العديد من المرّات، حيث كان يقول: حينما غادرت النجف متوجّهًا إلى إيران وطهران، كنت أتمنّى من قلبي أن أرجع مرّة أخرى إلى عليٍّ هذا، أو أذهب عند عليٍّ ذاك؛ أي أن أهاجر إلى عليّ الأب [أي أمير المؤمنين عليه السلام] أو عليّ الابن؛ وهو عليّ بن موسى الرضا عليه السلام؛ فاختار لي الحقّ تعالى عليّ بن موسى الرضا عليه السلام.
العلاقة الخاصّة للعلامة الطهراني مع الإمام الرضا عليه السلام
لقد كان المرحوم العلاّمة يُكنّ محبّة خاصّة للإمام الرضا عليه السلام؛ هذا مع أنّه لا فارق أبدًا بين جميع الأئمّة عليهم السلام، لكنّني لا أعلم ما هو السرّ في المسألة؛ وقد كان يُصرّح أحيانًا بأنّ له حالات خاصّة في علاقته بالإمام الرضا عليه السلام.. نرجو الله تعالى أن يقسم لنا جزءًا من هذه الحالات، حتّى نطّلع على الحقائق، وليس على حقيقةٍ واحدة ؛ لأنّ مثل هذه الحالات تختزن حقائق لا نهائيّة، لا حقيقةً واحدةً أو حقيقتين؛ أي حقائق لا حدّ لها تقف عنده؛ فكلّ من يذهب عند الإمام الرضا تحصل له مسائل من هذا القبيل.. رزقنا الله تعالى!
وهكذا فقد ذهب المرحوم العلاّمة إلى هناك [مشهد المقدّسة]، واستوطن بها؛ ولقد كان مجيئه وذهابه وإقامته هناك، في حين أنّ رداءه لم يتلوّث ولو بمقدار شعرة واحدة بالدنيا والكثرات؛ وهذا هو الطريق الذي دعانا إليه نحن أيضًا، وقال لنا: لقد قطعنا الطريق، ووصلنا؛ فتفضّلوا أنتم أيضًا على بركة الله! فلم يكن ذلك من باب الشعوذة، ولا السحر، ولا الخيال، ولا الأوهام؛ فهذه هي ثمراته، وهذه هي خصائصه.. رزقنا الله إن شاء سبحانه... وتجدر الإشارة إلى أنّ مجيئي هذه الليلة إلى هنا كان بتوفيق من الله تعالى، وإلاّ، فإنّ أحوالي الصحّية لم تكن تسمح لي بالكلام؛ ولا أدري هل تبيّن ذلك من خلال كلامي أم لا، فحالتي الصحّية لم تكن جيّدة، لكنّني توكّلت على الله تعالى، وقلت في نفسي: عليّ ألاّ أَحرم نفسي من لقاء الأصدقاء والرفقاء؛ فلآتي إلى هنا، وستأتي القوّة من تلقاء نفسها! وكنت قد عزمت على الحديث عن مجموعة من المسائل، لكنّ الكلام جرّني إلى مسائل مغايرة تمامًا! فلم أكن أرغب في الحديث عن هذه المسائل في هذه الليلة، لكن مع ذلك، علينا الترحيب بكلّ ما يأتي من هناك؛ ففي نهاية الأمر، هذه الليالي هي ليالي شهر رمضان المبارك، وما أحسن أن يتحدّث الإنسان فيها عن تلك المسائل التي تُؤدّي إلى انبساط القلب وابتهاج النفس!
وقد ذكرت سابقًا أنّ دعاء أبي حمزة الثمالي دعاءٌ عجيب حقًّا؛ فهو يوجّه الإنسان إلى نفسه، ويُبرز له حقيقته، ويضع بين يديه مفتاح الطريق؛ وكأنّ الإمام السجاد يقول من خلاله: تفضّلوا، فهكذا أنا، وهكذا ينبغي علينا أن نكون، وبهذه الطريقة يجب علينا أن نعمل، وكما يقال في المثل: «ره چنان رو که رهروان رفتند»۱؛ فقد كان العظماء على هذه الشاكلة، وسلكوا طريقهم بهذا النحو، وتمكّنوا من قطف ثمار وجودهم في هذه الدنيا، ليتركوا لنا أفضل نتاجاتهم المتمثّلة في كلماتهم ومؤلّفاتهم، ومن ضمنها المسائل الواردة عن المرحوم العلاّمة، والتي طالما كنت أوصي الرفقاء بالاهتمام بها وعدم أخذها على محمل الهزل، وأنبّههم إلى ضرورة الاهتمام بكلامه ومؤلّفاته؛ فأنا على علم بأنّها تحتوي على حقائق وأسرار، وأنا لا أريد من ذلك أن أضيّع وقت الإخوان؛ فو الله وتا الله ـ ولا أدري كيف تريدونني أن أقسم وأؤكّد لكم ـ إنّني مستعدّ للدفاع يوم القيامة عمّا أقوله لكم، وأنا أضمن لكم بأنّه كلّ من يدقّق ويتأمّل في المسائل التي طرحها [المرحوم العلاّمة]، ويتخلّى عن العناد، ولا يرضخ للدنيا والأهواء النفسانيّة، ولا يسعى لاستخدام هذه المسائل في تلبية نزواته، ولا يسحبها نحو رغباته وميوله، فإنّ الله تعالى سيفتح له الباب بالتأكيد، وسيمضي في هذا الطريق؛ مثلما ذكر هو بنفسه، فأنا لم آت بهذا الكلام من عندي، فقد ذكر لي ذلك لمرّات عديدة، وحينئذٍ: «گر گدا كاهل بود تقصير صاحب خانه چيست؟»٢
نرجو من الله تعالى أن يُوفّقنا جميعًا لفهم طريق الأولياء، وأن يُوفّقنا كذلك للعمل بهذا الطريق واتّباعه، لا سيّما في هذا الشهر المبارك.
اللهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد