المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني
المجموعةسنة 1434
التوضيح
في هذه المحاضرة، يتعرّض سماحة السيّد قدس سره تعالى لبيان الحقيقة الربطيّة القائمة بين الإنسان وخالقه والتي تُشكّل جوهر الدين وحقيقته؛ وذلك من خلال الإجابة عن الأسئلة التالية: كيف ينظر أولياء الله تعالى إلى الأمور، وبالخصوص إلى الأعمال التي تصدر منهم؟ هل هناك فاصلة بين الله تعالى وخلقه؟ هل يوجد حدّ لرحمة الله الواسعة؟ وكيف يكون القنوط من الرحمة الإلهية من أهم موانع الطريق؟ ما هي حقيقة الدين، وما علاقته بالحقيقة الربطيّة بين العبد وربّه؟ وما هو دور التوجّه إلى هذه الحقيقة في سلوك الإنسان؟ بالإضافة إلى بيان بعض النكات والأسرار السلوكيّة الأخرى.
هو العليم
الحقيقة الربطيّة بين العبد وربّه.
شرح دعاء أبي حمزة الثمالي - سنة ۱٤٣٤ هـ ق – المحاضرة الحادية عشر
ألقاها:
آية الله الحاجّ السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ
قدس الله سره
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
بِسمِ الله الرَّحمَنِ الرَّحيم
و صلَّى اللهُ عَلَى سيّدنا ونَبِيّنا أبي القاسِمِ مُحمّد
اللهمّ صلّ على مُحمّد وآل مُحمّد
و عَلَى آله الطّيّبين الطّاهِرينَ واللّعنة عَلَى أعدائِهِم أجمَعينَ
عظُم يا سيّدي أملي وساء عملي فأعطني من عفوك بمقدار أملي ولا تؤاخذني بأسوء عملي؛ فإنٌّ کرَمَك يجلّ عن مجازات المذنبين وحلمك يكُبر عن مكافات المقصِّرين.۱
روح الدين والوجود مبنيّةٌ على أصل حقيقة الإمامة
إنَّ هذه الفقرات من دعاءِ الإمام السجّاد عليه السلام تعكس واقع حالنا؛ فكأنَّما الإمام قد فتح ملفنا هنا، ووضع أمام أعيُنِنا برنامج عملنا الذي يُفترضُ بنا أن نعمل بموجبه.
كنتُ أتحدَّثُ يوماً ما مع المرحوم الوالد فيما يتعلقُ بكتابِ معرفةِ الله الذي ألَّفهُ في ثلاثة أجزاء، فقلت له: ما هو هدفكم من تأليفِ هذا الكتاب؟ فقد كان المرحوم العلاّمة ألَّف كُتباً في مجالات مختلفة، ككتابِ معرفةِ الإمامِ الذي يعتبرُ من الكتب الثمينةِ جداً، والذي قال لي بشأنهِ: لقد رأيتُ بأنَّه لم يتمَّ الاعتناءُ بموضوعِ الإمامة؛ فعلى الرغم من كون الإمامةِ هي الأساس الأهم من أُسس التشيّع، ولكنَّ هذا الأصلَ المهم والأساسي في مذهب التشيّع لم يُعطَ أيَّةِ أهميَّة ـ لقد كانت تلك هي عين عبارتهم٢ـ بل اقتصر الأمر على تداول لفظ الإمامة بين الناس وإقامة المراسم الخاصة بالمناسبات المتعلقة بالأئمة؛ وأمّا فيما يتعلق بمعرفة الإمام وتبيين معنى الإمامة وإيصال هذا المعنى للناس الغافلين، وتعريف الإمام على أنَّه روح الدين، وأنَّ سدى ولحمة المذهب مبنيّة على أساس حقيقة الإمامة، وأنَّ هذا الأصل الأساسي جارٍ وسارٍ في جميع شؤون الحياة وشراشر الوجود، فهذا أمرٌ لم يتطرق إليه أحد؛ ليس هذا فحسب، بل لا يوجد من يفهم هذا الأمر حتّى يخوض فيه.
فلو كان جائزاً نشر الأمر المحرَّم، لنقلت لكم هنا قضيّة تتعرَّفون من خلالها على رأي بعض الأشخاص الذين عايشناهم في هذا العصر عن موضوع الإمامة؛ إلاّ إنَّني أعزف عن ذلك لأنَّ نشر خبر الفاسد يُعدُّ مفسدةً بحد ذاته.
كان المرحوم العلاّمة يقول: لم يتمّ الاهتمام بهذا الأصل الأساسي بقدر ما تمّ ويتمّ الاهتمام بأمور كثيرة أُخرى، وقد يكون منشأ هذا الأمر هو غربة إمام الزمان عليه السلام وغَيبته.
إطلاق لفظ إمام على غير المعصوم هو تعدّ على مبادئ المذهب
لقد قال المرحوم العلاّمة لشخص من أقاربنا كان يتباحث معه حول مسألة الإمامة وعدم جواز إطلاق لفظ الإمام على غير المعصوم عليه السلام التي كان يعتقد لها المرحوم العلاّمة ـ حيث كنت متواجداً هناك، لكن خارج المجلس وليس داخله ـ : لا تعتقدوا بأنَّ إطلاق لفظ الإمام على غير المعصوم سيعمل على تقوية نظامكم، بل سيعمل على تزلزله، لأنّه تجاوز على مبادئ المذهب.
فنظرةُ هؤلاءِ الأشخاص [لمقام الإمامة] هي نظرةٌ دونيّةٌ مبنيّةٌ على بناءٍ كبيت العنكبوت، لا على أساسٍ رصين ومُحكم وراسخ؛ فكيف يمكن أن يُقام البناءُ على أساس أفكار أولئك الناس الذين يتوهّمون رؤية صورة وجهٍ في القمر، فيقولُ أحدهم للآخرِ: انظر إلى الوجه، فتِلكَ هي عينهُ، وها هو حاجبهُ، فيصدِّقُ أحدهما الآخر؟! فهل تريدون بعملكم هذا دعم وتعزيز هكذا بناء، وتجعلون أساس بنيانكم قائماً على هذا النوع من التفكير وتجعلونه سُلَّماً للوصول إلى أهدافكم؟ هيهات أن يتمَّ لكم ذلك!
أهل التوحيد ينظرون دائماً إلى الأمور من منظار الحق لا من منظار الكثرات والتعلّقات
لماذا لا تنظرون إلى الأمور من منظار أعلى؟! فهذا هو الفرق بين مدرسة الحق والمناهج الاعتباريّة؛ ففي المناهج الاعتباريّة تكون الرؤية متمركزة على الكثرات والجزئيات وما يرغب فيه ويهواه عامة الناس.
في إحدى الانتخابات التي تمّت في إيران من أجل انتخاب أعضاء مجلس الشورى الإسلامي، كنتُ راكباً في سيارة بصحبةِ أحد الأصدقاء، وكان مذياع السيارةِ يبُثُّ الأخبار، وكانت هُنَالِك مقابلةٌ مع أحد الأعضاءِ الفائزين والحاصلينَ على المقامِ الأول في تلك الانتخابات، فكان يقول بكل سرور وشغف: لقد أفرحتم قلب رسول الله في هذه الانتخابات!
ـ ذلك لأنَّك كنت الفائز الأول فيها!!
وبعد عِدَّةِ سنواتٍ نجد هذا الشخص يحتلُّ مقاماً متدنيّاً في الانتخابات التي تمّت في ذلك الوقت، فلا بدَّ وأن يكون هذا الأمر قد أحزن قلب رسول الله!! ـ إنَّه لم يقل ذلك، بل أنا الذي أقولهُ ـ هذا هو نموذج من جعل الكثرة والاعتبارات المحور الذي تدور حوله الحياة؛ وهي نظرة قد تنجح في بعض الأحيان، وفي أحيان أخرى لا تنجح.
فقد يكون الناخب ملأ معدته من الأكل الطيّب في إحدى الجولات، ويكون منشرح الحال في ذلك الوقت، فيذهب وينتخب الشخص الفلاني. وفي مرةٍ أخرى قد لا يكون غذاؤه بالمستوى المطلوب، وقد يرافق ذلك عراكٌ في البيت، فيخرج إلى الشارعِ بحالةٍ سيئةٍ، ويعطي رأيه بشكلٍ عشوائي لشخصٍ آخر؛ ليفوز ذاك الذي يكون في آخر القائمة! فهذا هو حال الناس، ففي الغالب لا يكون انتخابهم لشخصٍ ما مَبنِيّاً على أساس عقلائي، بل على عدد وكيفيّة الصور التي تطبع وتوزع لذلك الشخص.
أمّا أهل المعرفة والتوحيد، فإنَّهم ينظرون دائماً من الأعلى، ليروا ما الذي يريده الله وإمام الزمان منهم، غير مبالين بما يرغب فيه عامة الناس؛ فالأمر عندهم سيّان، سواءً أرضي الناس أم لم يرضوا. [فلسان حالهم يقول:] لماذا نكون فضوليِّين ونتدخَّل في أمور إمام الزمان ونقوم بتغيير بعض المسائل، ونأتي لنقول بأنَّه من المستحسن هنا أن نذكر هذه الأمور لغرض تحسين الأوضاع، ولو كانت باطلة؟!
إذا ما ألقينا نظرةَ على ما يحصلُ في العالمِ على طول الزمان، فإنَّنا سنلاحظ بأنَّ هذا المنهج كان حاضراً على الدوام؛ وهو منهج ينزع نحو الكثرة والتعلّقِ بالجزئيات والكثرات، ويمثّل تياراً مستمراً منذ بدء خلقةِ آدم وحتّى يومنا هذا، وسيستمرّ إلى ما شاء الله؛ وفي مقابله، يوجد تيّار آخر يرنو إلى الوحدة والنزوع إلى الكلّيات، ويسعى لرفع التعيّنات والتعلّقات وجلب رضا الله. إنَّ هذين التيّارين يشقّان طريقهما في الحياة معاً، وهما لا يمكن أن يتوافقا فيما بينهما أبداً. وقد تمّت الإشارة إلى هذه المسألة وتصويرها في العديد من الآيات القرآنيّة، نظير: {ولكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ}۱، { بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلاَّ قَليلاً}٢، {وأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ}٣. فهذه الأكثريّةِ موجودةٌ دائماً في مقابل تلك الأقليّة.
يقول المرحوم العلاّمة: لمّا رأيتُ عدم إعطاء أهميَّةٍ لموضوعِ الإمامةِ، شرعتُ في تأليف كتابِ معرفةِ الإمام من أجل توضيح وتبيين هذا الموضوع؛ ولكي نقول للناسِ بأنَّ الإمام هو شخص واحد؛ وهو وليُّ العصر ـ أرواحنا فداه ـ ولا غير، ولكنَّنا لا نستطيع إجبار الآخرين على تقبُّلِ ذلك، فلكل شخصٍ فكرهُ وذوقهُ وطريقهُ وتشخيصهُ الخاص به للأمور، وله أن يقبلَ هذا الأمرَ أو لا يقبلهُ.
فقلتُ له: حسناً، من الواضح أنّ سبب تأليفِ كتابِ معرفةِ الإمامِ هو سبب وجيه، لكن ما هو السببُ الكامنُ من وراء تأليفِكم كتابِ معرفة الله؟ علماً بأنَّ تحقُقِ هذا التأليفِ كان يعتبرُ أمراً في غايةِ الأهميّةِ بالنسبة لي، وكنتُ قد طلبتُ من سماحتهِ التعجيلَ بتأليفِ هذا الكتاب، لأمورٍ كانت تختلجُ في ذهني؛ ولقد كان يَعدُ بذلك، ولكنَّ تأليف هذا الكتابِ تأخر، حتّى تم إنجازهُ في آخر المطاف؛ من دون حتّى أن يكتمل.
فقال: لقد أردتُ بهذا التأليف أن أكسِر ذلك الحاجزِ الذي وُضِع بين اللهِ وخلقه، وأزيل ذلك التصوّر الذي نُقِش في أذهان الناس عن أن اللهَ موجودٌ مجهول بعيدٌ جداً، وهو في أفقٍ غير معلوم.
أولياء الله يسعون لكسر الحاجز المجعول بين الله وخلقه
إنَّ الله ليس بغول، بل هو رفيقٌ شفيقٌ، وهو أقرب شيءٍ إلى الإنسان وأكثرُ أُنساً ولُطفاً به من أيّ موجودٍ آخر. وكلُ ما قيِل لكم عن أنّ اللهَ بعيدُ المنالِ وأنَّهُ موجودٌ خيالي ووهميّ لا تصل إليه الأيدي، فهو كلامٌ باطل. والحقُ أنّ الإنسان ليعجبُ عندما يُطالع ما كتبهُ بعض الأشخاص المُتصدّين لبعضِ المناصب والذين كانوا زعماء على أنفسهم! حينما يقولون: لا تتفكّروا ولا تتكلّموا في ذات الله، فلا يمكنُ الوصول إلى ذلك المقام، ولا يجبُ عليكم البحثُ في ذلك أبداً، بل عليكم الاشتغالُ بهذه الأعمالِ والعباداتِ من صلاةِ وصومِ، وليس عليكم التفكيرُ أو الكلام عن ذات الله!! فإذا كان على الإنسان ألاّ يعرف ما هو الله وما هي خصائصه، فإلامَ يتوجَّه قلبه أثناء عباداته؟ فهل سيتوجَّه إلى السماء؟ فالسماء عبارة عن مجموعة من النجوم وهي ليست الله! أم يتوجَّه إلى الأرض؟ فالموجود تحت الأرض هو حقول النفط وليس الله؛ أفهل فكّر هؤلاءِ الأشخاصِ بأنّه ينبغي عليهم في نهاية المطاف أن يجيبوا عن الأسئلة المطروحة؟! فعندما يقول الإنسان الله أكبر، فإلى أيّ حقيقة يتوجَّه في قوله هذا؟ فهل يكفي أن تقول بأنَّ هنالك إله؟ فأين هو هذا الإله الذي يتوجَّه إليه القلب؟ فأنت عندما تُصلّي، لا تُصلّي للعمود، بل لله؛ فلا بدَّ أن يكون للمُصلي تصوُّرٌ صحيحٌ عن تلك الحقيقة حتّى يتوجَّه إليها قلبهُ عند صلاتهِ، وصيامهِ وبقيّةِ أعمالهِ العباديّةِ. فبناءً على هذا التصويرِ الذي يطرحُه هؤلاءِ الأشخاصِ، سيكونُ الدين عبارة عن سلسلة من الحركات والسكنات الروتينيّة التي يشغلُ الإنسان بها نفسه في طيِّهِ لهذه الحياة الدنيا، ثم ينتقل بعدها إلى حياةٍ أُخرى، فيعفو اللهُ بلطفهِ عن بعضِ الأخطاءِ ويؤاخذُ الإنسانَ على بعض المعاصي الأخرى، لينشغل الإنسان بعدها بما أعدَّهُ اللهُ لهُ من الحورِ العينِ وحدائقٍ فيها أشجارٌ من البرتقالِ والكُمثرى!!! فهذه ليست هي المعرفة الحقيقيّة.
يقول المرحوم العلاّمة: لقد قمتُ بتأليف هذا الكتاب من أجلِ جلبِ ذلكَ الإله الذي قذفوه بعيداً عن الناس ووضعوه في مكانٍ ناءٍ لا تصل إليه الأيدي، فقمت بإدنائه منهم شيئاً فشيئاً حتّى أجلسته إلى جانبهم، وقلتُ لهم لا تخافوا من الله، ومن جلالهِ وجمالهِ وملائكتهِ؛ فهو على درجة من الشفقةِ والرفقِ والرحمةِ بحيث لا ينبغي الخوفُ منه، وهو بعكس ما حدّثوكم عنه، وإنَّما قالوا ذلك لعدم امتلاكهم للعلم والمعرفة، فحرموا بذلك أنفسهم وحرموا الآخرينَ من حقيقةِ التوحيد. فلمّا كانت أيديهم لا تصلُ إلى المطلوبِ، قالوا للآخرين: لا يمكن أن تصل أيديكم إليه؛ فإذا كانت يدك لا تصل، فلعلّ أيدي الآخرين تصل إلى المُراد.
فهذا هو الذي يُريدُ الإمام السجَّاد تعلِيمنا إيّاه؛ فهو يقول: هذا هو الله الذي نأمل الوصول إليه ولا نخافُ منهُ ومن مظاهرِ جلالهِ وقهّاريتهِ، بل هو على درجةٍ عاليةٍ من الجمالِ والسعةِ والرحمةِ الشاملةِ وسعةِ الصدرِ والتحمّلِ والحلمِ والصبرِ، بحيث لا يغلقُ الباب بوجوهنا مهما أذنبنا وأخطأنا، ما دام ذلك الذنب والخطأ بين العبد وربّه؛ فهو يقول: عبدي إذا ما جافيتني، فأنا لا أجافيك، وإذا ما أنبت إليَّ، فستجدني أمامك؛ لأنَّني أنا الله الذي شمل وجودي كل عالم الوجود، فكيف أجافيك؟ فلا يُمكن من الأساس أن ندير وجهننا عن الله تعالى؛ لأنّه وسع جميع عالم الوجود، فإذا أدرت وجهك عنّي، ستجدني أمامك! فأنت الذي تتصوَّر بأنَّك أدرت وجهك عنّي، فإن فعلت ذلك، ستجدني أمامك؛ وإذا ما فتحت عينكَ فستجدني، فإذا ما أدرتَ رأسكَ يميناً أو شمالاً، فستجدني أمامك؛ فأين تهرب منّي؟ ابحث عن مكان لا وجود لي فيه!
قبل مدّة من الزمان، كنت أحضر مجلس فاتحة، وكان الخطيب يقول: يا إمام الزمان أيّ مكان يخلو منك؟ فقلت له: إنَّه قلبك الذي لا وجود لإمام الزمان فيه! فهو موجود في كلّ مكان ما عدا قلبك ايّها الكذّاب المُرائي!! فقد كنت أعرفه.
أيّ مكان لا نستطيع أن نجد الله فيه؟
رحمة الله واسعة إلى حدّ يفوق التصوّر
يعلّمنا الإمام السجَّاد هنا صفات الله الذي نسير نحوه؛ فرحمتهُ ولطفهُ وعطفهُ وكرمهُ كالبحر. فإن أردتَ أن ترى أحد مظاهره، فانظر إلى هذا النموذج: فذاك الذي سدَّ بجيشهِ الطريق على سيِّدِ الشهداءِ وكان المُتسبب بوقوعِ فاجعةِ كربلاء، عندما يُضاء قلبه بالنورِ ويتنبّهُ ويرى جهنّم والجنّة أمامَ عينيهِ ويرى أنَّ لحظة اتخاذِ القرارِ قد حانت ـ لأنَّه إذا ما تأخّر عن الانتفاض فسيكون قد فات الأوان، فالأمر قد أصبح جاداً الآن، وقد يحصل لنا نحن مثل هذا الموقف أيضاً، فنسأل اللهَ أن يأخذ بأيدينا في هكذا حال ـ فعندما يحصل له ذلك، نرى كيف يَقبلُ الإمام الحسين توبتهُ.
وبعد وفاةِ المرحوم العلاّمة ـ رضوان الله عليه ـ رأيتُ بأنَّ الفتنة قد بدأت، ولقد رأيتُ عجباً؛ فانظر إلى الفرق بينما كنّا نتوقّعهُ، وبين ما حصل بالفعل؟ فأين ذهبت كل تلك المجالسِ والمواعظِ، وما الذي جرى لأولئك الأشخاصِ الذين كانوا يجالسونه ويتحدَّثون معه؟! فذهبت إلى حرم الإمام الرضا عليه السلام وقلت له: أيّها الإمام الرضا، لا حيلة لي تجاه ما يحصل؛ لأنّني كنت على اطّلاع بالذي سيحصل، ورأيت بأنّ تلك القضايا التي كانت مكنونة في نفوس القوم لسنوات عديدة قد استيقظت من نومها، ورأيت حدوثَ ما كان يَحذّرُ منه المرحومُ العلاّمةِ؛ فعلمتُ عندها بعدم استطاعتي عمل شيءٍ للوقوف بوجه ما يحصل؛ فقد دخل الشيطان إلى الميدانِ بكلِّ قوَّتهِ، وها هو يُريدُ الانتقام لتلك الضرباتِ الموجعةِ التي تلقّاها من مدرسة المرحوم العلاّمة ومن خطاباته ومواعظه؛ [فلسان حاله يقول:] بما أنَّه قد توسّد الأرض، فقد آن لي الأوان لكي أرفع رأسي!
وقد كتبت في الجزء الثاني من كتاب أسرار الملكوت القليل القليل عمّا حصل، فلا بدّ وأن يكون الأخلاّءُ قد قرؤوا ذلك، ولكنّكم لو كنتم تعلمون ما الذي حصل! ـ وإن كان البعض يعلمُ ذلك ـ فذهبتُ إلى حرم الإمام الرضا وقلت له: أنا لا أمتلك أيّ حظّ من الفهم ، فإذا ما رأيت نفسي يوم القيامة خائباً خاسراً، فسأقول لك بأنّني عرضت عليك في السابق جهلي وعدم فهمي، وأنت وحدك الذي تستطيع أن تأخذ بيدي، ولم أكن مازحاً في ذلك، بل قلته بكلّ جدّيةٍ! قلت له: أمّا ما يتعلق بالعلم، فليس لديّ منه شيء؛ فهل تريدُ منّي أن أكتبَ وثيقةً بذلك وألقيها في الضريح لكي أستدلّ بها يوم القيامة ـ مع أنّه لا يحتاج إلى وثيقة۱ ـ فلا علم ولا فهم لي.
فوجدتُ أنّ الإمام قد استجابَ دعائي؛ فعلى سبيل المثال، كان الآخرون يسلكون مسلكاً معيّناً، أمّا أنا فقد كان أمراً ما يأخذُ بيدي باتّجاه آخر، فأعمل بحسبه، ثمّ أجدُ بأنَّ الصحيحَ هو ما ذهبتُ إليه. ولقد رأيتُ رعاية الإمامِ وهدايتهُ كالشمسِ في رابعةِ النهار وفي موارد كثيرة جداً.. لماذا؟! لأنَّني سلَّمت أمري وقلت: أنا لا أفهم شيئاً، والأمر صعب وخارج عن القدرةِ الفكريّة حقاً.
في تلك الفترة وعندما كنت في مشهد، وبعد انتهائي من إلقاء الخطبة في يوم الخامس عشر من شعبان، طلبت منّي إحدى السيدات وقتاً للمقابلة، فأعطيتها وقتاً في اليوم التالي، وعند حضورها، جلست تنظر إليّ لمدة تقارب خمسة دقائق ـ حيث كانت تنوي التأثير على قراري بواسطة القيامِ ببعض التصرفاتِ الخارقةِ للعادة ـ فقلتُ لها: إن كان مجيئك من أجل طرح أمرٍ ما، فتفضّلي فقد أعطيتك من الوقت ما مقدارهُ نصفُ ساعةٍ، وها هي خمسة دقائقٍ قد مرَّت، فما الذي تريدين طرحهُ؟ فبدأت تتكلَّم وتتكلَّم، ونقلت قضيّةً معينةً؛ فقلتُ في نفسي: هل أعطيتك هذا الوقت لتأتي وتتكلّمي حول هذه الأمور التافهة؛ ولكنَّني تركتُها تتكلَّم، فقد كنتُ أعطيتُها وقتاً من أجل ألاّ ينكسر قلبها. وفي خاتمة المطاف وبعدما تكلّمت لمدة خمسة عشر أو عشرين دقيقة، قلت لها: ما الذي تريدين أن تصلين إليه من وراء هذا الكلام؟ فقالت: إنَّك تستطيع أن تقوم بهذا العمل ـ ولا أخوض في التفاصيل ـ فقلت لها: ما دام طلبكِ لا يستند إلى مُرجّحٍ، فلماذا لا تعكسي الأمر؟ لماذا لا تذهبي إلى ذلك الشخص وتطلبي منه أن يُطيعني بدلاً من أن تطلبي منّي إطاعته؟ فبُهتت..
من آن نيم كه نقد دل بهر شوخى | *** | در خزانه به مهر تو ونشانه توست۱ |
(يقول: أنا لست بذاك الذي يسلّم قلبه بأيّ كلام وأيّ مزاح، فمفتاح خزانة قلبي بيدك وعلامتها عندك)
فقلت لها: اذهب يا سيّدي لحال سبيلك! ولا يخفى أنَّها كانت امرأة ولم تكن رجلاً، غير أنّ هكذا أمور تصدر غالباً من مثل هؤلاء؛ ألم يرد في القرآن {إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظيمٌ} ؛ {فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ}٢؟!
فكان ذلك من قبيل هذا المكر.. قلت لها: اذهب يا سيّدي، اذهبي يا سيّدتي لحال سبيلك، فنحن لم نصل إلى ما وصلنا إليه بسهولة لكي نُسلم إليكِ زمام الأمور؛ فقد صُرفت جهود مضنية من أجلِ إيصالِ هذه المدرسةِ إلى ما وصلت إليه ـ ولا أقصد هنا نفسي، بل أقصد صاحب هذه المدرسة ـ وقد قلت للمرحوم العلاّمة في تلك الليلة التي كنّا فيها في الطائرة ذاهبين إلى طهران من أجل إجراء عملية جراحيّة لعينه: سمعتُ بأنَّه من الممكن أن يكون سبب هذا المرض الذي أصاب عينكم هو كثرة القراءةِ، فلماذا لا تقللّون من القراءةِ والكتابةِ؟ فأنتم تتجاوزون الحد المسموح به؛ فلكلّ شيء حد محدود. لقد كان هذا هو دأبه، فما إن عاد من المستشفى في إحدى المرات، وقبل أن نقوم بترتيب فراشه حتّى قال لي: اذهب واجلب لي ذلك الكتاب، فقلت له: دعوا العَرق ينشف عن وجهكم أولاً، قال: اجلبه يا سيّد، فلم يبق لي كثيراً من الوقت! فجلس وشرع في الكتابة.. أنا لم أرَ في حياتي شيء كهذا! قال لي: يا سيِّد مُحسن، لو تقطّعت أوصال بدني قطعةً قطعة ـ فعيني شيءٌ بسيط ـ فأنا لستُ مُستعداً أن أتراجع عن جملة واحدة كتبتها؛ فهل يُمكن لأحد أن يمتلك مثل هذا اليقين بمنهجه ومعتقداته وما يصدر عنه؟ حينئذٍ، يأتي مجموعة من الأشخاص ويسعون للتلاعب بمدرسته وتحويلها إلى مسرحيّة!
لقد كان يقول: يا عزيزي، إنّ الله تعالى ليس موجوداً مرعباً، فلا ينبغي الخوف منه؛ إنّ الله تعالى موجود معكم وإلى جانبكم... لقد لفت الأخلاّء انتباهي إلى أنَّني قرأت إحدى الروايات المتعلقة بصفات المؤمن بشكل غير صحيح وكانت الرواية « إنّ أمرنا صعبٌ مستصعب لا يحتمله إلاّ ملكٌ مُقرَّب، أو نبيٌ مُرسل، أو عبد امتحن الله قلبه للإيمان». إنَّ ما كان يدور في ذهني وكنت أُريد الإشارة إليه هو حديث الإمام الهادي عليه السلام للفتح بن يزيد الجرجاني عند إحضار الإمام من المدينة إلى سامراء، حيث قال له في بعض الطريق: « يا فَتح! إنّ اللهَ جلَّ جلالهُ لا يوصَفُ إلّا بما وَصَفَ بِه نَفْسَهُ... وكَيفَ يوصَفُ محمّدٌ صلّى الله عليه وآله ... أم كيفَ يوصفُ مَن قرنَ الجليلُ طاعَتَه بطاعةِ رسولِ اللهِ صلّى الله عليه وآله... يا فتحُ! كَما لا يوصَفُ الجَليلُ جَلَّ جلالُه ولا يوصَفُ الحُجَّةُ فكذلكَ لا يوصَفُ المُؤمنُ المسلِّمُ لأمرِنا ...»۱ (وهو ذلك المؤمن الذي اجتاز الاختبار واتصل قلبه بنا وأدرك حقيقة التوحيد).
وهذا هو نفس مضمون الحديث القدسي « لم يسعني أرضي ولا سمائي ووسعني قلبُ عبديَ المؤمنُ اللَّيّن الوادع»٢(أي لا تستطيع لا السموات ولا الأرض ولا أيّ من الخلائق إدراك حقيقتي والتحقّق بمقام الخلافة الإلهيّة لعدم امتلاكهم تلك السعة الوجوديّة). فأردت أن أوضّح هنا بأن الرواية التي ذكرتُها بالأمس هي بالشكل الذي قرأته اليوم، وهي تُشير إلى حقيقةٍ أدنى من تلك التي أردتُ الإشارة إليها؛ فهي تشير إلى ظهور مقام الولاية، أمّا ما أردت الإشارة إليه فهو أصل مقام الولاية الذي يساوي حقيقة التوحيد.
القنوط واليأس من رحمة الله أكبر الموانع من السلوك إلى الله
يقول الإمام السجّاد هنا: أنا أريدُ الوصول إلى هكذا هدف؛ فمن الطبيعي عندما ننظر إلى هكذا هدف أن نقول: كيف لنا أن نصل إليه مع ما نأتي به من أعمال؟! أين نحن من كلّ هذه الأمور؟! أفلا نتداول بيننا مثل هذه الكلمات؟ فهذا القول صحيح، غير أنَّ الأمر يتجاوز ذلك أحياناً إلى حالةِ اليأسِ فيقولُ الإنسان: لقد سلك كثير من الناس هذا الطريق ممّن هو أكبر منّا ثمّ لم يتمكن من المتابعة وسقط! إنَّ الشيطان هو من يزرع ذلك اليأس والوهن والوهم في الأذهان والنفوس، وفي العزم والاهتمام والهمّة فيُثبِّط عزيمة الإنسان؛ وهذا يعتبر سوء ظنٍّ بالله، وهو من أعظم الذنوب؛ إذ يرى الإنسانُ اللهَ عاجزاً وفي مستوىً أدنى؛ وهي حالة موجودة لدينا بدرجاتٍ متفاوتة، وقد لاحظت الكثير من هذا القبيل؛ فترى الشخص يأتي ليطلب شيئاً ما، وعندما أقول له: لماذا لا تطلب ذلك من الله؟! يقول: كلّما طلبت من الله، لم أحصل على نتيجة. فقلت له: إذا كان الله لم يُصغ إليك، فهل تتوقّع ذلك منِّي؟! فأنت قد وضعت الله جانباً وجئت لتطلبَ منِّي أنا! ينبغي أن تتوجَّه بقلبِك إلى اللهِ، وتجعلهُ هو الأصل في رؤيتك للأمور؛ وأمّا نحن، فنحن بأجمعنا ـ جميع الأفرادِ والمخلوقاتِ ـ عبارةٌ عن مظاهر ووسائط.. لماذا لا يترسَّخ هذا الأمر في أنفُسِنا، ولا يأخذ بُعده الواقعي؟ فهذا تصرّف غير صحيح وعلى الإنسان التخلِّي عن ذلك إذا ما أراد السلوك إلى الله.
على السالك الوصول إلى المقام الذي يهون فيه عنده كلُّ ما سوى الله تعالى
لقد ابتعدنا عن هذه المسألة، ولم يعُد لها أيّ مكان بيننا، حيث انشغلنا بالسعي وراء حواسّنا الظاهريّة، ووراء المظاهر والوسائل والأسباب المادّية، فبدأت تلك الحقيقة بالابتعاد شيئاً فشيئاً حتّى تصوّرنا أنّها خارجة عن قدرتنا.. فلننشغل إذن بهذه الكثرات وهذا الأمور!!!
وهذه هي حال الناس، حيث نراهم يتشبّثون بالمسائل العاديّة، ويسعون لكسب الجاه بالتقرِّب إلى هذا وذاك ودعوتهم إلى المنازل والتباهي أمام الآخرين بحضورهم في منازلهم.
في أحد أيّام عاشوراء قبل عدّة سنوات، تمّت دعوة أحد الوعّاظ للخطابة في مسجد القائم، حيث كان يأتي في الصباح ويتحدّث عن بعض الأمور، ولا أعلم من كان ذلك الخطيب، لكنّه كان يقول في اليوم التاسع بأنَّ شهادة حضرة أبي الفضل العبّاس كانت في هذا اليوم! وكان يقول: السبب في ذلك هو أنّ هذا اليوم مخصّص لحضرة أبي الفضل! فلم يكن يُفرِّقُ بين يوم شهادة أبي الفضل والذي كان في عصر يوم عاشوراء وبين اليوم المُخصَّص له، فقلت له: بناءً على ما تقول، فإنَّ شهادة علي الأكبر والقاسم كانت قبل يوم عاشوراء أيضاً؛ فهلاّ طالعت الكتب التي تتحدّث عن الواقعة قبل أن تصعد المنبر لتلقي هكذا ترهات على الناس!
واستمرّ في كلامه قائلاً: قبل عدّة أيامٍ، كنتُ في مكان ما، وكان عددٌ من الوزراءِ حاضرين في ذلك المكان أيضاً.
وماذا بعد؟! وما هذا الكلام الذي تذكره من على المنبر يا هذا؟!
ومن هم هؤلاء الأشخاص الذين تتباهى بذكرهم؟!
والله إنّ مثل هؤلاء الأشخاص هم من الذين على الإنسان أن يُجهد نفسه لردّ السلام عليهم! فمن المعلوم أنَّهم لا يختارون لمنصب الوزارة هذه الأيام من يكون بمستوى الفارابي وابن سينا! لقد حضر مجلسنا عدّة من السادة الوزراء... فما الذي يقصده هذا الشخص بكلامه؟ يعني أنّه يسعى لكسب المنزلة بمجئ هؤلاء لمجلسه! إنَّ من يكون طالباً للحقّ وسالكاً إلى الله لا يسعى وراء أمورٍ من هذا القبيل، بل إنَّ ذلك طريق أولئك الذين تكون أيديهم خالية، فهو يتشبّث بهذا الأمر وذاك من أجل إيجاد مكانة له بين الناس.
[انظروا إلى الفرق بين هذا النوع من التصرّفات وبين تصرّف السيد الحدّاد] فعندما قالوا له بأنَّ السيِّد محمد حسين، وبحكم ما تربطه من علاقة وثيقة ببعض الأشخاص، فإنَّه من الممكن أن يتراجع عن موقفه أيضاً ـ فيما يتعلق بتلك الفتنةِ المُشارُ إليها في كتابِ الروحِ المُجرَّد ـ ؛ فقال السيِّد الحدّاد: هيهات أن يحصل ذلك، فالسيّد محمّد حسين راسخ في مواقفه كالجبل، وحتّى إذا ما تراجع، فليتراجع؛ فتراجعه هذا لا يُحدثُ أيّ تغييرٍ أو تزلزلٍ في موقفي، فثباتي على مواقفي باقٍ على حاله؛ لأنَّ الله معي.. فهذه هي مدرسة الحق التي يستطيع الإنسان الاعتماد عليها.
فسواءً التحق به شخص أم تخلّى عنه آخر، فذلك لا يُغيرُ من الموقفِ شيئاً؛ إذ إنَّ وَليَّ الله هو المَلِك المطلق دائماً، المستغرق في مقام عزّه؛ لأنَّ تلك العِزَّة هي مظهر وتجلّي لعِزَّةِ الحقِّ تعالى ومناعته وكبريائه وبهائه؛ فلا حاجة لهذه المدرسة للتصوير والتقاط الأفلام والمواقع الإلكترونيّة والتبليغ وأمثال ذلك، ولا تجعل نفسها مُسيَّرة تحت نفوذِ هكذا نمط من السلوك؛ بل تعملُ وفقاً للتكليف، ولا شأن لها بتوسيع نفوذها، فإن حصل ذلك، فمرحباً، وإلاّ فلا. ولا حاجة لها كذلك إلى تصوير مجالسها وبثّها، بحيث لو لم تكن هنالك كاميرا للتصوير في يوم من الأيّام، فسيتم تعطيل المجلس لأنَّ الخطابة سوف لن تُبثَّ إلى الخارج! فهكذا خطيب يتحدّث في واقع الحال مع الكاميرا لا مع المخاطبين؛ فلو تعطَّلت الكاميرا، فستنقطعُ سلسلةِ أفكارهِ وينسى الموضوع الذي كان يتحدّثُ بشأنه؛ فما يجري في داخل نفس هذا الخطيب هو في واقع الحال عبارة عن فيلم وشريط سينمائي! فكلامه تمثيل، وحياته تمثيل، بل إنَّه صار بنفسه عبارة عن تمثيل وفيلم!!!
تحرَّر من هذا الحال يا هذا، واعلم بأنَّك إنسانٌ ويُمكنك أن تربط قلبك بمقام يهونُ لديك فيه كل ما سوى الله؛ فلماذا تجعل نفسك أسيرة لهذه التخيّلات وهذا التوّهم؟!
فالإمام السجّاد يدلّنا هنا على مثل هذا المنهج، فيقول لنا: إنَّ الله ليس بعيداً، بل هو جالس إلى جانبكم، وأمّا إذا ما اعترضتم وقلتم:
دوست نزديكتر از من به من است | *** | اين عجبتر كه من از وى دورم |
(يقول: لي حبيب أقرب إلى نفسي منّي، أليس عجيباً أن أكون أنا بعيداً عنه؟!)
فيقول الإمام السجّاد هنا: نعم، إنَّ ما تقولونه صحيح، فأفعالكم وتصرفاتكم لا تتناسب مع ما يتطلّبهُ مقام القرب؛ فأنتم تسلكون الطريق الخاطئ وأنتم متوغلّون في الكثرات وتتّبعون الأوهام والتخيلات؛ فكل ذلك صحيح، ولكن مهما يكن الأمر، فهنالك حلٌّ لهذه المسألة، والحلُّ يكمن في أنَّ هذا الإله هو إله يُغمض عن السيئات ولا يُحاسب عليها، فإذا ما قلتَ لقد أخطأت يا ربّ بارتكابي هذا العمل، أو إنَّني لم أكن أعلم خطأ هذا الأمر، أو إنَّني ضعيف وغلبني الشيطان، فسيقول لك الله: لا بأس عليك وسأغفر لك، غير أنَّه هنالك قضيّة واحدة لا يُغمض الله عنها، وهي الأنانية؛ وهو أن تقول: أنت واحد يا ربّ وأنا واحد في قبالك؛ فسيقول لك الله عندها: خذها إذاً!!
فالله لا يُحب الأنانية، والاستكبار، والوقوف بوجه الحق، والظلم، والتغاضي عن الحقائق والتظاهر بعدم فهمها؛ فهذه أمور لا يغفرها الله، وأمّا الذنوب والعثرات والأخطاء؛ كأن يكذب الإنسان لأمر يعتقد بأنَّ فيه المصلحة ـ فالشيطان يتربّص بالإنسان ـ فتلك أمور يغفرها الله.
السالك هو من يُنجز تكليفهُ بكلّ اهتمام من دون الالتفات إلى ما يترتّب عليه
فبناءً عليه، يقول لنا الإمام السجّاد بأنَّ الأمر ليس معقّداً والمخلَصُ منه بيدي؛ فالقضيّة ذات جانبين:
الأوّل يتمثّل في الأخطاء التي تصدرُ منَّا؛ وقد خلقنا اللهُ على هذه الشاكِلةِ، فلو شاء لجعلنا معصومين مثل إمام الزمان عليه السلام. فما دُمتَ قد خلقتنا بهذا الشكل يا ربّ، فنحن عبادك، فكن شفيقاً بنا.
رحم الله المرحوم الشيخ محمّد حسين الكمباني الغروي الأصفهاني رضوان الله عليه ـ أين يُوجدُ من أمثالهِ هذه الأيّام؟! ـ ، فقد كان يأتي للنجف كلّ يوم، ويؤدّي الذكر اليونسي ساجداً في حرم أمير المؤمنين عليه السلام لمدة ساعة أو ساعتين، وكان يكرّرُ الورد أربعمائة مرة وربّما أكثر أو أقلّ؛ فكثر اللغطُ حولهُ، وأخذوا يقولون عنه بأنَّه قد أصبح درويشاَ وصوفيّاً، وأنا أقول: لو كان من يُكثر السجود صوفيّاً، فيجب أن يكون الإمام موسى بن جعفر عليه السلام من أكثرِ الصوفيِّين تصوّفاً، فقد كان يسجد صباحاً ولا يرفع رأسهُ من سجدته إلاّ عند الظهر! لا ينبغي للمرء أن يشغل نفسه بهذا القيل والقال، فلا نهاية لذلك، بل عليه أن يفعل ما يراه صحيحاً؛ فرأى الشيخ الكمباني الإمام الحسين في المكاشفة يأمرهُ بأن يكون مجيئه للحرم لغرض الزيارة فقط، ثمّ يذهب بعدها إلى بيته لأداء الذكر اليونسي هناك لقطع هذا القيل والقال.
ففي كلّ يوم كان يمرّ فيه إلى جانب حرم أمير المؤمنين عليه السلام، أو يدخل فيه إلى الحرم ، أو يعبر فيه من ذلك الصحن، كان يقرأ هذه الأشعار ويذهب:
گرچه سيه روی شدم غلام تو هستم | *** | خواجه مگر بنده سياه ندارد |
(يقول: مع أنَّ وجهي أسود إلا أنني مازلت عبدك، أفلا يمتلك السيِّد عبداً أسوداً؟!)
عندما يتأمّل الإنسان، يرى كم كان هذا الرجل إنساناً واقعيّاً، نعم، أفلا يمتلك السيِّد غلاماً أسوداً! وهذا هو واقع حالنا نحن أيضاً، فلسان حالنا يقول: إلهي قد خلقتنا على هذه الشاكلة.. عباداً من أهلِ المعاصي، فاقبلنا يا رب؛ أفهل يجب أن يكون جميع عبادك من أمثال الإمام الحسن والحسين والسجّاد عليهم السلام؟! فلا بدّ وأن يكون بعض عبادك من أمثالِنا؛ فلا تستطيع يا رب أن تطرُدنا من دائرة حكومتك وسيطرتك؛ فهذا عمل لا يستطيع حتّى الله أن يفعله، وهو أن يفصلنا عن سلطته، وأنا أقسمُ بأبي الفضل بأنَّ الله لا يستطيع أن يُخرجنا من دائرة حكومته؛ فأين سيُلقي ينا والحال هذه؟! لأنّه إذا أخرجنا من تحت ولايته، فهذا يعني بأنَّنا قد أصبحنا عدماً؛ فلم يعد لنا عندها أيّ وجود. نعم، من الممكن أن يقوم الله تعالى بإعدامنا، وأمّا أن يكون لنا وجود، وتكون لنا حياة وحركة، وفي ذات الوقت نكون خارجين عن إحاطة الله وحكومته، فذلك يُعدُّ من الممتنعات، ولو أراد الله أن يفعل ذلك، فلن يتمكّن منه!
فنحن نخاطب الله قائلين: في ذات الوقت الذي تكون فيه قادراً على كلّ شيء، فإنَّك لا تستطيع أن تُخرجنا من تحت حكومتك. فما دمت قد أوجدتنا في هذه الدنيا، وخلقتنا من كتم العدم؛ فلا بدَّ من أن تُغمض عن أخطاءنا، وتغفر ذنوبنا؛ لأنّك أنت الذي خلقتنا على هذه الشاكلة، كما أنّنا علمنا الكثير عن كرمك ورحمتك.
يقول الإمام السجّاد في هذا المقام: هنا يكمن الحلّ؛ فمن ناحية عليك أن تنظر إلى نفسك، ومن ناحية أخرى عليك أن تنظر مع من تتعامل.. إنّك تتعامل مع ربّ كريم يقول لك: مهما أذنبت، فالطريق مفتوح لعودتك، وإن كان ذلك في الثواني الأخيرة من حياتك؛ فلو أنّك أذنبت طوال عمرك، ثمّ تبت في اللحظات الأخيرة من حياتك، فتوبتك مقبولة؛ ألم يحصل ذلك مع الحر بن يزيد الرياحي؟ ألم تّقبل توبته عندما تاب في الساعة الأخيرة من حياته؟ ولقد حصل ذلك أيضاً مع الكثير من أمثاله.
حقيقة الدين عبارة عن الحقيقة الربطيّة بين العبد وخالقه
فإذا ما أُزيح الحجاب من أمام عيني الإنسان، فإنَّه سيتصل بالمصدر، ولا علاقة للديانة التي يعتنقها الشخص بهذا الموضوع، سواءً كان يعتنق الديانة الإسلاميّة أو النصرانيّة أو اليهوديّة أو كان لا يعتنق أيّة ديانة على الإطلاق؛ فالأمر متعلّق بقلب الإنسان. فلقد كان هنالك حجاب يحولُ بين الإنسانِ وبين حقيقته ـ والتي هي عبارةٌ عن تلك الحقيقة الربطيّة ـ فالآن وقد أُزيح هذا الحجاب، فسواءً كان الإنسان مسلماً أو يهوديّاً أو نصرانيّاً أو لا دين له، فما إن يشعر بضرورة الاتّصال بتلك الحقيقة وأنّه لا يوجد سوى تلك الحقيقة يُمكنها أن تكون ملجأً وظهيراً له، فقد حصل له الاتّصال والارتباط، ولا علاقة لهذا الأمر بالإسلام ولا بالدين.
وتُعدّ هذه المسألة من بين المسائل التي يعتبرها الآخرون دليلاً على عدم اهتمام العظماء بموضوع الدين، إلاّ أنّ الأمر ليس بالشكل الذي لا يهتم به العظماء بأمور الدين، بل إنَّ العظماء لا يعدّون هذا الظاهر ديناً؛ لأنّ الدين من وجهةِ نظرهم هو عبارة عن تلك الحقيقة وتلك الجنبة الربطيّة [بين العبد وخالقه]، وأمّا الظاهر، فهو عبارة عن مجموعة من الأعمال التي ينبغي على الإنسان أن يُؤدّيها حتى يرتقي ويصل إلى غايته،والتي يرتقي بها نحو مستوى أفضل، بينما تتمثّل حقيقة الدين في جنبته الربطيّة؛ وفي تلك الجنبة الربطيّة، لا يُمكن خداع الله تعالى. فإذا ما كانت عقيدة العبد حقاً وواقعاً بأنَّ ما يُدركه هو الله [أي أن ما أدركه هو الحق والواقع]، ويُتابع ما أدركه ويمشي على أساسه، فإن هذا العبد سيكون مُتصلاً بالمبدأ. وأمّا إذا كان الأمر على العكس، بحيث يجعل الإنسان من تلك المظاهر الأساس الذي يبني عليه حياته، فيأخذ باللفّ والدوران والتمثيل، ويريد أن يبني حركته على هذه الأمور، فليس لهكذا إنسان ديناً وإن كان يعتبر نفسه شيعيّاً، وواعظاً ومبلّغاً وداعية؛ فالله لا ينظر إلى هذه الظواهر، بل ينظر إلى أمرٍ آخر؛ فموازين ذلك العالم تختلف عن هذه الموازين المعمول بها.
فبناءً على ذلك، يقول الإمام السجّاد عليه السلام: لا تنظر إلى عملك، ولا تحسب له حساباً، بل انظر إلى تلك الحقيقة الموجودة في ذلك الجانب؛ فماذا على السالك أن يفعل؟ على السالك ألاّ يُقيم لعمله وزناً، وهذا هو عين البرنامج السلوكي الذي يوصي العظماء تلامذتهم بالالتزام به. فإذا ما أدى أحدنا صلاة الليل، أو أدّى فريضة الحج وقام بالطواف والسعي وأمضى بعض الوقت في الصحراء وتحمَّل المشقّة، فلا يُفترض به أن يحسب لعمله هذا حساباً ويضع في ذهنه أنَّ الله سيكافئه على هذا العمل؛ فهكذا توقّع هو توقّع خاطئ، فلا ينبغي للإنسان أن يتصوَّر أنَّ له على الله حقاً، وإلاّ فإنَّ الله سيضع نعمه التي أنعمها عليه بين يديه، ويقول له: ألم أٌهيئ لك طائرة أمريكية الصنع من نوع بوينغ ۷٤۷ كوسيلة لذهابك، لتجلس في أحد مقاعد الدرجة الأولى، وتصل بكل راحة في مدة ساعتين، وتذهب لتجلس بعدها في أرقى الفنادق المكيّفة؛ هذا في الوقت الذي كان فيه سفر الحج يستغرق ستة أشهر، يتعرّضُ فيه الحجّاج إلى هجوم قطّاع الطرقِ والحيواناتِ الوحشيّة التي كانت تُقطعهم إرباً إرباً؟! لقد كان من ينوي الذهاب إلى مكة أو كربلاء يكتب وصيّته قبل ذهابه؛ فكتابة مثل هذه الوصيّة تعودُ إلى ذلك الزمان، حيث كان احتمال عدم العودة راجحاً؛ ولهذا لم يكن يُشاهد في الحيّ أكثر من واحد من الحجاج أو زوّار كربلاء في ذلك الوقت؛ فهل كان ذهابك إلى مكة بهذا الشكل، أم في وسائل نقل مكيّفة؟ وهل كان سفرك، سفر للزيارة أم سفر للنزهة؟ وهل كان السفر يتمّ في عصر رسول الله صلى الله عليه وآله بواسطة الطائرة؟
لقد حجَّ الإمام الحسن عليه السلام عشرين مرة ـ وفي بعض المصادر عشرة أو خمسة عشر مرة ـ ماشياً على قدميه من المدينة إلى مكة، وقد كانت النجائب تُقاد بين يديه، وكذلك كان الإمام موسى بن جعفر يذهب إلى الحج ماشياً؛ فهذا هو تاريخ أئمتنا.
أمّا نحن، فإذا ما أدّينا الحج أو العمرة، ترانا نقول: ها قد أدّينا الحج، فماذا تريد منّا بعد يا ربّ؟ عليك أن تُعطينا أجراً بإزاء ذلك!
وكذلك الأمر عندما نقول: لقد قمنا بمساعدة الفقراء! فيأتي الجواب عندها: ومن أين جئت بهذا المال؟ هل قمت بحفر الأرض واستخراج هذا المال منها؟ أليس الله هو الذي هيّأ لك وسائل كسب الرزق، وبعث إليك ذلك الزبون؛ فما دخلك أنت في كلّ ذلك؟!
ترى أحدهم يأخذ معه عشرين مليون توماناً كمصاريف عندما يذهب إلى مكة، أمّا إذا ما جاءهُ الدائن، فتراه يُعطيه صكّاً بأمد ستّة أشهر! إنّ الله تعالى سيحفظ له هذا الموقف ليُحاسبهُ عليه يوم القيامة؛ فيحبسهُ في الحر الشديد لمدة ستةِ أشهر بإزاء تلك الأشهر الستة التي عطّل فيها أموال ذلك الشخص، ويقول له: تحمّل هذا الحرّ، فهو ليس بالأمر العسير! وعندما يبدأ بالاستغاثة، يقول له الله: سأعاملك بنفس الأسلوب الذي عاملت به عبادي! فلا يمكننا أن نتحايل على الله، فقد أوكل بكلّ واحد منّا ملكين لا نراهما، أحدهما جالس على اليمين والآخر على الشمال؛ مع كلّ منهما ملفّ ضخم، وجهاز حاسوب له قرص سعته كذا "جيجا بايت" بحيث يستطيعان تسجيل ما لا نهاية له من المعلومات، فيسجلان كلّ عمل وكل خاطرة تخطر على قلب الإنسان؛ علماً بأنَّ هذه المعلومات غير قابلة للحذف، بل تبقى مسجّلة هناك بكلّ ثبات وإحكام. فإذا كان عملك في هذه الدنيا صالحاً، فسيقومون بفتح ذلك القرص، ويُرسلوك إلى مثواك الأخير بناءً على ما فيه من معلومات. وأمّا إذا كنتَ تلفُ وتدورُ في هذه الدنيا، فستُعامل هناكَ بنفس الأسلوبِ، غير أنَّ الّلفَ والدورانَ هناكَ سيكونُ بشكلٍ مختلف يجعلك تندم على كلّ ما فعلته!!
لقد بيَّنت لكم ما عليَّ، وعليكم أن تستوعبوا حقيقة الأمر.
يقول الإمام السجّاد: عليك ألاّ تحسب لعملك حساباً، ولا تأخذه بنظر الاعتبار
گرچه وصالش نه به کوشش دهند | *** | هر قدر ای دل که توانی بکوش۱ |
(يقول: وإن كان وصاله لا يُعطى بالجدِّ والمثابرة، لکن عليك ـ يا قلبي ـ أن تسعى بكل ما أوتيت من قوّة)
فإذا ما أردت أن تأخذ عملك بنظر الاعتبار، فإنّهم سيعرفون كيف يتعاملون معك؛ لأنّ لهم اليد الطولى عليك.. هل تريد أن تُحاسبنا؟ نحن بدورنا أيضاً سنحاسبك! سيقولون لك: ومن الذي وضع كل تلك الإمكانيات تحت تصرّفك حتّى استطعتَ القيام بهذا العمل؟ عندها سيرى الإنسانُ أنَّهُ مغلوبٌ على أمره؛ وهذا هو الأمر الذي يؤكّد عليه العظماء دائماً، فهم يؤكّدون بأنَّ على السالك أن يُنجز ما هو مُكلّف به، ولا يلتفت إلى ما يترتب عليه؛ فإذا ما فاته واجب في يوم من الأيام، فلا ينبغي عليه أن يبقى أسير ذلك الأمر ويبقى يتألّم ويتحسّر: لماذا فاتني ذلك الواجب؟ فإن فاتتك صلاة الليل، فإنَّك تستطيع أن تقضيها، فلا مبرر للحسرة والتألم واستمرار التفكير في هذا الموضوع. إنَّ من يكون دأبهُ الخوضُ في هكذا مواضيع، لا يتقدّم في سلوكه؛ لذا على السالك أن يعبُر هذه الموانع. نعم، على السالك أن ينجز العمل المُكلّف به بكل اهتمام، ولا يتهاون به؛ ثم يُوكل أمره إلى الله قائلاً: إلهي، إن أعطيتني، فذلك تفضّلٌ منك وأنا لك من الشاكرين والممتنّين، وإن لم تعطني، فما زلت أنا عبُدك وتحت طاعتك.. إلهي، أنا عبد مخلِص لك، فإن أعطيتني فأنا مخلِص لك، وإن لم تعطني، فعليَّ أن أقبل، فتفضّل عليّ وارحمني يا ربّ! وبهذا يُريح الإنسان نفسه، كما أنّ الله تعالى يُحبّ أن يتعامل معه عبده بهذا النوع من التعامل؛ فلا يتحاسب معه، ولا يُدقّق معه في الحساب، وإلاّ فإنّ الله تعالى سيعامله بنفس الأسلوب؛ فإذا ما كان الإنسان يستعمل أداة العدّ اليدوي في تعامله مع الله، فسيُخرج له الله حاسوباً كبيراً فيه جميع المعلومات، ممّا يجعله يفقد وعيه!
لقد أمضينا هذه الليلة في الحديث عن هذه المواضيع، ونحن بانتظار الوصول إلى مرحلة الحديث عن كيفيةِ تبديل الله للأعمال التي تنصّل العبد عنها وأوكلها إلى الله. فعندما يسحب الإنسان نفسهُ من الوسط، ولا يرى لنفسهِ دور فيما يجري، ولا يتحاسب مع الله تعالى، عندها سيخرج العمل من دائرة النفس بالتدريج، ويأخذ صبغة إلهيّة كما جاء في الدعاء: «وأن تهب لي يقيناً تباشرُ به قلبي»، حيث سنتحدث عن ذلك في الليالي القادمة. فعندما يضع الله قدمهُ في الوسط، سيكون ذلك العمل من الأعمال التي توصلُ صاحبها إلى المقصد.. عملاً خالياً من تدخّل نفس الإنسان.
ها قد مضى من شهر رمضان معظمه، ولم يبق منهُ إلاّ أيّاماً قلائل! نأمل أن يجعلنا الله من المؤهلين لنيل الفيوضاتِ التي تُفاضُ في هذه الليالي المباركة والمصيريّة [ليالي القدر]، حيث سيتم فيها تقديرُ مقدّرات السنةِ القادمةِ، وأن يمُنَّ علينا لنيل نصيبنا من تلك المواهب الخاصةِ ومن تلك النِّعم والألطاف التي يمُنُّ بها على أوليائه.
اللهم صلّ على محمّد وآل محمّد