المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني
المجموعةسنة 1432
التوضيح
في المحاضرة الثالثة من محاضرات حجيّة فعل وليّ الله وقوله، تناول آية الله السيّد محمّد محسن الطهراني قدس سره نقطتين أساسيّتين: الأولى: أهميّة الرجوع إلى القرآن لحلّ مشكلاتنا الفكريّة والعمليّة وشبهاتنا، متوقّفاً عند بعض الشخصيّات التي طرحها القرآن من أنبياء كيونس وموسى عليهما السلام وصلحاء كلقمان والخضر وأشقياء كفرعون والنمرود ملفتاً إلى أنّ المشيئة الإلهيّة المطلقة جارية على الجميع، ولا بدّ من ضرورة الالتفات الشديد إلى النفس في عبوديّتها. والثانية: توضيح معاني الدين والشرع والمشرّع والشارع، وبيان أنّ الملاك في ثبوت الحجيّة العقليّة لأيّ موضوع هو طريقيّته وكاشفيّته عن المصالح والمفاسد الواقعيّة. متعرّضاً في سبيل ذلك إلى بعض الأدلة والشواهد القرآنيّة، والتاريخيّة والتطبيقات الأصوليّة.
وهي نفسها المحاضرة 16 من محاضرات شرح دعاء أبي حمزة 32
هو العليم
ما هو المعيار في الحجية الذاتية ؟
شرح دعاء أبي حمزة الثمالي - سنة ۱٤٣٢ هـ ق – المحاضرة السادسة عشر
محاضرة ألقاها
آية الله الحاجّ السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ
قدس الله سره
أعوذ باللـه من الشيطان الرجيم
بسم اللـه الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين
والصلاة والسلام على سيّدنا ونبيّنا أبي القاسم محمد
وعلى آله الطيبين الطاهرين
واللعنة على أعدائهم أجمعين
مقدّمة في إبداء الاستعداد لتلقّي الأسئلة وتلخيص ما سبق من معنى الشرع
وصلَ بنا الكلام حول حجيّة فعل وليّ الله ومنجزيّته بالنسبة للآخرين إلى هذه النقطة على ما أذكر...
ولكن قبل أن نتابع البحث، أودّ أن أنبّه على أنّ من الممكن أن يثير هذا الكلام بعض الأسئلة لدى الحاضرين، وخصوصاً أهل الفضل والعلم، وأنا لا اطلاع لديّ على كيفيّة فهم الآخرين للمطلب، فإن كان هناك أسئلة فلتكتَب وتقدّم لي حينما أحضر في هذه الجلسات، وعلى كلّ حال، فهذا شهر رمضان قد شارف على الانتهاء، ولا أدري ما إن كانت هذه المطالب ستنتهي فيما تبقّى منه، أم ستستمرّ إلى جلسات ما بعد شهر رمضان. فعلى كلّ حال، لتكتَب هذه الأسئلة والمطالب والإشكالات ولتطرح في هذا المجلس، فإن كان هناك إشكال فليَعلم به الجميع، وليسمع الجميع جوابه أيضاً.
نعم وصل الكلام إلى أنّ الشرع هو بمعنى طريق الوصول إلى الغاية من الخلقة، فهذا هو معنى الشرع، فـ {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ...}۱ هي بمعنى أنّ الله تعالى جعل لكم من الدين شرعاً، فمن هنا بيانيّة، والدين عبارة عن الطريق والآداب التي يؤدّي السير فيها والالتزام بها إلى الهدف من الخلقة، والذي هو التكامل. هذا هو معنى الدين.
بناء على ذلك، إن كان هناك طريق لا يوصل الإنسان إلى الهدف والغاية من الخلقة والتي هي التكامل... ومسألة أنّ الهدف هو التكامل مسألة واضحة في القرآن، لذا لن نتوقّف عند بيانها، ولن نفصّل الآيات التي تتحدّث عن حقيقة الهدف من الخلقة، وحقيقة المقصد، وحقيقة مقام الخلافة الإلهيّة، وكذلك لن ندخل في الروايات التي وردت عن الأئمّة عليهم السلام في هذا المجال، والتي تفيد «أنّ الله ما خلق خلقَ الله إلا ليعرفوه فإذا عرفوه عبدوه واستغنو بعبادته عن عبادة ما سواه»٢، فالتعرّض لهذه المسائل يسبّب الإطالة في هذه المجالس.
فمن الواضح إذن أنّ الدين هو الطريق الذي يوصل الإنسان إلى الهدف من الخلقة، سواء كان دين الأنبياء السابقين، أو دين خاتم الأنبياء نبيّنا صلّى الله عليه وآله، فمهما كان هذا الدين فإنّ الله هو الذي {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى...}٣ ، فنفس الدين الذي أوصينا به موسى وعيسى عليهما السلام نحن نشرّعه لكم ونرسله إليكم، أو كما في بعض الآيات {وَ اتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائي إِبْراهيمَ وَ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوب}٤؛ أي أنّ دين النبيّ هو نفس دين وشريعة النبيّ إبراهيم وإسحاق وإسماعيل وغيرهم من الأنبياء، فالله يقول أنتم لستم على بدع من الشرائع، فنفس الشريعة التي كانت للأنبياء السابقين أرسلناها إليكم ـ نعم مع بعض الإصلاحات والتغييرات التي كانت في بعض الأحكام ـ لذا فعليكم أن تسيروا على هذه الشريعة نفسها.
حول أهميّة القرآن وضرورة التأمّل في قصصه لدفع الشبهات
إنّ هذا القرآن عجيب جدّاً كما تحدّثنا قبل بضعة ليالٍ، ونحن لا نعرف قيمة هذا القرآن، ولحدّ الآن لم نتعرّف على عظم شأنه، فنحن لا نعرف أنّ القرآن أيّ كتاب مهمّ هو؟! وأيّ كتاب هاد وفاتح للسبل هو؟! فكلّ آية منه هي رسالة إلينا تهدينا في شبهاتنا وأسئلتنا وإبهاماتنا...
هذه الآيات عجيبة جدّاً أن كيف...؟ وقد قلت لكم أنّ القرآن ليس مجرّد كتاب قصص، وكتاب تاريخ، فمهما كان في التاريخ فليكن! ما علاقته بي أنا؟ فقد انقضى وانتهى، وأنا الآن أعيش في هذه السنة وفي هذا الشهر وفي هذه الليلة، فماذا يعنيني ما حدث في زمن النبيّ موسى عليه السلام؟ فهذا تماماً كأن يقال لي: حدث في السنة الفائتة في البلد الفلاني وفي نقطة معيّنة من الأرض أن قال أحد الناس كلاماً معيّناً.. لقد تكلّم مع قومه فما علاقتي أنا بذلك؟! أو أن يقال: هناك الآن جماعة من الناس يلقون المحاضرات في بقعة معيّنة من الأرض، وأنّ هناك احتفالاً في مكان آخر، هناك عرس أو عزاء أو ما شابه.. فهذه القضايا التاريخيّة لا علاقة لها بنا، ولا تمسّنا، فهي أحداث حصلت وانقضت فيما مضى من الزمان، ونحن نعيش في هذا العصر الآن، نحن نعيش في هذه الظروف، فلماذا كان القرآن مشحوناً بالحكايات والقصص وتواريخ الناس والأنبياء، والأشقياء والأتقياء؟ فلا فرق بين هؤلاء من حيث تعرّضه لهم، فهو يتحدّث عن الجميع، فكم تحدّث عن عاد وفرعون؟! وكم تحدّث عن عيسى وموسى ولقمان؟!
لقمان الذي يقول البعض أنّه لم يكن نبيّاً بل كان حكيماً، فواقعاً الأمر عجيب جدّاً، ولو كان حكيماً فالأمر أعلى شأناً وأهمّ، فالله يقول نحن أعطينا النور والحكمة لرجل لم يكن نبيّاً وعليكم أن تتّبعوه، فالقرآن كتاب عجيب.. واقعاً عجيب جداً، ولا بدّ من التفكّر مليّاً في القصص الواردة فيه.. لا بدّ من التفكّر في قضايا داوود وسليمان...
خصوصيات الأذكار
وفيما يرتبط بيونس عليه السلام وقومه، ففي هذه الكثير من أسرار التوحيد التي تجعل الإنسان أمامها حيران...
{وَ ذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمينَ}۱، واقعاً هذا أمر عجيب، فذكر اليونسيّة هذا المعروف على الألسن، وهو مسمّى باسم النبيّ يونس عليه السلام، هذا الذكر... وسأخبركم الآن بأمر حوله، إنّ أولياء الله لم يتركوا هذا الذكر من بداية سيرهم وسلوكهم نحو الكمال وذلك الهدف والفناء الذاتي، وهذا سهل، بل لم يتركوه حتى بعد الرجوع من الفناء الذاتي والحركة في البقاء.. البقاء بالله، حيث يجد هذا الذكر هناك معنى جديداً، فهذا أمر عجيب جداً!! فكيف يؤثّر هذا الذكر {لا إِلهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمينَ} في حركة الإنسان وسيره في نقطتين متقابلتين: الحركة نحو الكمال، والرجوع بعد الكمال، فلا تناسب بين هاتين الحركتين، ومع ذلك فإنّ هذا الذكر يؤثّر في كلتيهما، إذ لكلّ ذكر مكانه، والأذكار هي بمثابة طبقات الأدويّة في الصيدليّة، فعندما تصاب بمرض ما هل تذهب إلى متجر الأدوية وتشرع بتناول الأدوية المصفوفة فيها من أولها حتّى آخرها؟ أم أنّك تأخذ الوصفة الطبيّة، وتقدّمها للمتخصّص، فيعطيك ما كتب فيها من دواء فتتناوله؟ فأنت لا تتناول كافّة الأدويّة في الصيدلية. فهناك الأذكار التوحيدية والأذكار الولائيّة وأذكار ما قبل الفناء والحركة نحو حريم الله، وأذكار ما بعد الفناء والبقاء، وهناك تغييرات في الأذكار وفي كيفيّة أدائها... فأنتم تتصوّرون أنّ ذكر اليونسيّة هذا فقط يؤدّى بحال السجود المعهود؟ لا فهناك عشرات الأنواع من ذكر اليونسيّة ولا يمكن التعرّض لها، كم نوعاً منها نعرف؟ فقط نعرف نوعاً واحداً، وهو أن نسجد ونقول: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين. فلكلّ واحدة من هذه الأذكار خواصّها المختلفة عن غيرها، لكلّ آثاره الخاصّة، فليس الأمر اعتباطاً بحيث يجلس الإنسان ويشرع بما يريد من الأذكار من هذا ومن ذاك ليحصل على شيء، لا فليس الأمر كذلك، وهي أهمّ وأدقّ وأكثر حساسيّة وخطورة من ذلك، فقد يقع الإنسان في خطر الهلاك إذا قال ذكراً ما في غير موقعه، فقد يموت الإنسان ويتوقّف قلبه عن العمل، فليس في هذا الأمر لعب ومزاح ليأتي الإنسان ويقول لهذا: أدّ هذا الذكر، ولفلان: قم بذاك، بل لا بدّ أن تكون عن علم ودراية، ولا بدّ أن يكون صاحبها خبيراً...
العبرة من قصة النبي يونس
{وَ ذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلاَّ أَنْتَ...} لماذا وردت قضيّة النبيّ يونس عليه السلام؟ وماذا يريد الله أن يوجّه إلينا من خلالها؟ فهو نبيّ الله ويقوم بالفرار من قومه بعد أن بذل قصارى جهده، ومهما نصح لهم لم يجد نفعاً، فدعا عليهم، فلمّا أتى العذاب، رأى أنّ العذاب سيناله معهم. إذ عندما تنفجر قنبلة كيميائيّة في مكان فإنّها تسمّم الأجواء كلّها، ولا تفرّق بين المتنفّس الرضيع أو الشيخ الكبير أو الشاب، فالأعصاب هي الأعصاب وجهاز مناعة البدن هو نفسه، فلو كان نبيّ الله حاضراً مع قومه لناله العذاب، لذا لا بدّ أن يخرج، هذا أولاً. وثانياً، لو كان نبيّ الله هناك فربّما لا ينزل العذاب، فليس الأمر عشوائياً بحيث ترمى القنبلة على الجميع، لا ففعل الله دقيق جدّاً وليس مثل أفعالنا، فأفعالنا عشوائيّة، أما فعل الله فهو دقيق جداً. وقد كان المرحوم العلاّمة كثيراً ما يقرأ هذه الأبيات ويعترض على الشيخ الأجلّ شاعر شيراز سعدي الشيرازي حيث يقول:
قضا دگر نشود گر هزار ناله وآه | *** | به کفر يا به شكايت برايد از دهنى |
فرشتهاى كه وكيل است بر خزائن باد | *** | چه غم خورد كه بميرد چراغ پير زنى |
[يقول: لن يتغيّر القضاء إلا أن تتعالى آلاف الآهات بالشكر أو الشكاية من أحد الأفواه
فالملك الموكّل بخزائن الريح لا يهمّه أن يموت وينطفئ مصباح امرأة عجوز].
فكان المرحوم العلاّمة يقول: لا إنّ الملك ينظر إلى حال هذه العجوز، لذلك فأحياناً يأتي العذاب ثمّ يتجاوز عنها، حيث يمرّ قربها ولا يصيبها، وقد حصل ذلك كثيراً.
وعلى كلّ حال، فقد رأى النبيّ يونس أنّه لو جاء العذاب وكان حاضراً لأصابه معهم، فقرّر أن يخرج، هذا احتمال. أو أنّه يحتمل أن الله أمره بالخروج لأنّ العذاب لا ينزل ما دام موجوداً، هذا ثانياً، فقد أمره الله بالخروج ليكون هو وملائكته "مرتاحي البال" في إنزال العذاب، ليفعلوا ما يشاؤون! [ضحك] ويعاقبوا هؤلاء الكفرة الذين لا يؤمنون، والذين هم ـ فضلاً عن عدم إيمانهم ـ يقفون أمام الإيمان والدين ويحاربونهما، فأفعال الله ليست عبثيّة.
المشيئة الإلهية تابعة للحكمة لا لرغبات الناس
لقد خرج النبيّ، وبعد أن صار في وسط البحر [حدث ما حدث...] لقد كان عمله سليماً، فقد نصح لسنوات طوال، ثمّ دعا الله، والله ينزل العذاب بدعائه هو، ولكنّ فعل الله ليس اعتباطياً. ولو كان اعتباطياً وكان الله يجلس وينتظر أوامر يونس لما كان الله إلهاً.. لو كان الله يجلس وينتظر أوامري وأمثالي لما كان الله إلهاً.. لو كان الله ينتظر ما أقوله له، فإن قلت يجب أن يموت فلان، أماته على الفور، لما كان إلهاً.. يجب أن يطرد فلان، والله يستجيب ويقتله.. يجب أن يبقى فلان.. يجب أن يمرض فلان.. يجب أن ... لو كان الأمر كذلك لما كان الله هو الله. إذا قلنا يجب أن يموت فلان، فالله يقول لنا: لا بل أنتم من يجب أن تموتوا، ألم يحصل ذلك؟ بلى قد يحصل.. لو أراد الله أن يجلس وينتظر ما أنوي أنا وما أفكّر لم يكن إلهاً.. لم يكن حكيماً.. لم يكن مدّبراً.. لم يكن قهّاراً.. لم يكن جبّاراً. بل أنا من أكون إلهاً إذن، أنا بفكري هذا وخيالي وذوقي ونفسي الغارقة في الأهواء والميول.. لا نفس رسول الله، ولا نفس أمير المؤمنين، بل النفس التي هي من أمّ رأسها حتّى أخمص قدميها.. من هذا الشعر الذي ترونه وحتّى الظفر الذي تحت الجوارب هي غارقة في الأهواء وقاذورات الدنيا والرياسات والأنانيّات والفرعونيّات، ومع ذلك أتوقّع أن يحصل ما أريد، فيا عجباً!! ألله يسمع كلامي أنا؟!! فيا له من إله إذن!
فليس الله جالساً ينتظر أوامري أنا، لا أبداً، بل هناك دقّة وحساب، نعطي مجالاً لأيام، فاذهب وجل جولة لننظر، فإن كان سيرك صحيحاً ومناسباً فبسم الله... وإلا اقتلعناك بأيسر ما يكون، أرأيتم كيف نقتلع؟ هؤلاء الذين كانوا يقولون نحن صامدون حتّى آخر قطرة من دمنا أين هم؟ ألا ترون إلى ما يجري في الدنيا؟ أين هم؟ فالقضايا التي يحدّثنا الله عنها من قصص فرعون ونمرود هي لأيّ وقت؟ انظر، فهي لتنظر فيها الآن. لقد جهّز هؤلاء ما جهّزوا، واشتروا الطائرات، والقنابل والصواريخ، وصرفوا أموال الناس على حواشيهم ومترفيهم وأوباشهم حتّى يحافظوا عليهم، فأين هم الآن؟ وماذا حصل؟ لقد زال كلّ ذلك، فعندما تأتي المشيئة الإلهيّة...
وقد تحدّثت إليكم قبل أيام عن صدّام الذي لم يكن أحد ليصدّق أنّ هذا الغول سيقتلَع شرّه يوماً من الأيام، لم يكن أحد ليصدّق بذلك، أنا لم أكن أصدّق، فلو كنّا نحتمل في الشاه قبل الثورة أن يزول بنسبة واحد في المائة لِما كان عليه من القوّة، ففيه لم نكن نحتمل بنسبة واحد في الألف، فقد كان شيئاً عجيباً، كان صحراوياً متوحّشاً، ولكن ماذا حصل؟ كان تقدير الله أن يزول فلا بدّ أن يزول، وجاءت مشيئة الله لتغلق ملفّه، فمهما كان يصرخ ويستنجد أن تعالوا لنعيد بلدنا وترابنا! هيا! حاولوا أن تضربوا وتحفروا الأرض لعلّكم تصلون إلى شيء...!
قالوا له: نحن لا نفقه ما تقول، وعليك أن تزول.
ـ ماذا أزول؟
ـ نعم يجب أن تزول، فلماذا تبقى؟ أفهل العراق لك لتبقى؟!
علينا أن نعتبر من ذلك جيّداً، فكلّ واحد منّا في هذه الدنيا هو مجرّد عارية، أنا وأنت وهذا وذاك، لا بدّ أن يأتي يوم ونذهب، فكلّ واحد منّا هو أمانة مستعارة في هذه الدنيا.
والشاه الذي كان في العهد السابق كان يفكّر كذلك أيضاً، أنا يجب أن أمضي؟! ألم تشاهدوه في ذلك الحين؟! معظمكم لم يكن معاصراً له، عندما كنّا نرى صوره في الصحف واقفاً باعتداد... عجباً عجباً عجباً...!! فما الأمر يا عزيزي؟! {وَ لا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً...}۱ {وَ إِذْ قالَ لُقْمانُ لاِبْنِهِ وَ هُوَ يَعِظُهُ...}٢ فهذه من نصائح لقمان، {وَ لا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً} لا تمش في الأرض متكبراً، {إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ...}٣ فأنت لن يمكنك بوزنك هذا الذي لا يتجاوز السبعين كيلوغرام أن تحدِث في الأرض ثقباً صغيراً، فمن أنت؟! ولو ألقي عليك حصى صغيرة لما تحرّكت من بعده. لقد كان يقف موقفاً ويلبس قبّعة فيبدو وكأنّ رأسه كلّه قبّعة، ولا أدري إن كان هذا النوع من القبّعات موجوداً الآن أم لا؟ انزعها يا عزيزي واجلس مثل سائر الناس. كان يربط بعض الأوسمة والشارات والحبال، حتّى إذا نظرت إليه قلت: يا للعجب ما هذا الرجل؟ فنفس هذا الإنسان الذي كان يعلّق تلك الأوسمة يستخسر المرء أن يلقي بنظرة عليه. إنّهم يريدون أن يصنعوا لأنفسهم جلالاً وأبهّة مجازيين اعتباريين... اذهب وحصّل لنفسك عزّة وجلالاً حقيقياً.. كن عبداً لله؛ تقلْ للشمس توقّفي تتوقّف، فلماذا يا عزيزي تفتخر بأمرك اثنين من الناس أن يفعلوا فيفعلوا؟ فنفس هذا الذي تأمره الآن سيأتي يوم ويضربك على أمّ رأسك، نفسه، نعم نفس هذا الذي تأمره أن يضرب ويقتل ويفعل كي تبقى أنت...
ماذا كان يقول نمرود؟ يجب أن أكون أنا فالمصلحة تقتضي أن أكون أنا، لقد كان لديه مصلحة هو الآخر، وفرعون كان يقتل الأطفال الذين يولدون، لأنّ المصلحة تقتضي أن يبقى وتبقى حكومته، لقد قطع رؤوس الأطفال! فيا للعجب، يذبح الأطفال الأبرياء كيلا يكون موسى بينهم، {يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَ يَسْتَحْيُونَ نِساءَكُم}۱
ضرورة التأمل في القصص القرآنية وأخذ العبر
لماذا أورد الله هذه القصص؟ حتّى نفكّر أنا وأنت اليوم بأنفسنا وبمستقبلنا، نعم أنا وأنت.. نعم أنت أنت أخاطبك أنت! يجب أن نفكّر بأنفسنا وبمسقبلنا!! فإذا جاءت المشيئة الإلهيّة تنتفي الأوهام والاعتبارات والاجتماعيات، فقبل عدّة أيام كنّا ننظر إلى ذاك الرجل الذي كان يقول سأبقى حتّى آخر قطرة... ولا أدري كيف يتكلّم هؤلاء.. حتّى إذا جدّ الجدّ فرّوا، أما بعضهم فلديهم تلك الشهامة ويصمدون حتّى الموت، ويبقون على كلامهم، ولكن بعضهم الآخر ليس لديهم تلك الجرأة، فما إن يشعروا بالخطر حتّى يختفوا كالفئران في ثلاثين ثقباً.. اخرج على الأقل إلى الخارج، فقد كنت تقول أنك ستبقى صامداً حتّى آخر قطرة من دمك، فاخرج مع هؤلاء المساكين الذي يقتلون أنفسهم الآن، لتصبْ قدمَك رصاصة واحدة على الأقل! ولتشعر بشعور واحد من الألم! فنفس هؤلاء الذين يقولون: نحن نقف حتّى اللحظة الأخيرة.. ونحن نشعر بالتكليف وبالواجب الوطني وما شابه... ماذا حصل لهم، وأين هم؟ لقد فرّوا، ثمّ يأتون بهم ويقتلونهم أمام الملأ. فذاك الذي كان يقتل المئات من هؤلاء الناس المساكين في العراق ذهب واختبأ في البالوعة، أليس في ذلك عبرة لنا، لقد اختبأ في البالوعة، فأخرجوه منها، وقالوا: تعال أين أنت؟ تعال فأنت مطلوب! نعم نتكلّم عن نفس صدّام هذا، فأخرجوه على تلك الحال، وهو يقول أنا رئيس جمهوريّة العراق، وهم يقولون له قم وامش فأيّ رئيس أنت؟! أنت الآن لست رئيس نفسك، فكيف تكون رئيس العراق؟! وهذه حالنا جميعاً، فكلّنا علينا أن نعلم أنّ نظام.. هذه الدنيا ليس في أيدينا، فعلينا أن نكون ملتفتين إلى كلامنا وأفعالنا، فلا نخرج عن حدودنا؛ لأنّ غضب الله وتدبير الله لا يميّز بين صدّام وغيره، ولم يميّز.
فهذه القصص التي في القرآن.. لأيّة غاية هي؟ هي لنفكّر اليوم فيما ينبغي أن نفعل، فهي عجيبة جداً، واقعاً...
وقفة مع الخضر عليه السلام
وقصّة الخضر، هل تحسبون أنّها قصّة ساذجة، لقد سار موسى مع رفيقه يوشع بن نون ـ وبعضهم يقول أنه شمعون الصفا ـ وقبر يوشع الآن في بغداد، وقد قمنا بزيارته خلال زيارتنا الأخيرة قبل مدّة إلى المشاهد المشرّفة، وهو إلى جنب قبر جناب معروف الكرخي، بوّاب الإمام الرضا عليه السلام والسريّ السقطي والجنيد البغدادي، وكنّا في الزيارة السابقة قد تشرّفنا بزيارة قبور السفراء الأربعة، أما في هذه المرّة فلم نوفّق، فهناك قبر يوشع بن نون، يبعد عنهم تقريباً مقدار خمسين متراً، وهو قبر نوراني جليل، يحيط به الصفاء، وتغلب عليه جنبة النورانيّة.. وهناك يشعر الإنسان بالصفاء والنورانيّة والأنس، لقد كان وصياً للنبيّ موسى عليه السلام، وقد جاء إليه لقضيّة أو سؤال أو مشكلة.. ولدينا في الروايات وكذلك في الآيات أنّ النبيّ موسى عليه السلام طلب من الله أن يوفّقه لرجل يزيد في علمه، فاستجاب الله له وقسم له اللقاء بالخضر. فما علاقتنا نحن بهذه القصّة؟ وقد حدثت تلك القصّة وجاء الخضر وقام بتلك المسائل فما علاقتها بنا؟ إنّها ترتبط بنا ارتباطاً وثيقاً، فالقرآن عجيب جداً، علينا أن نهتمّ بالقرآن أكثر فأكثر، وفي خاتمة هذه الأبحاث سأبيّن لكم العلّة في ورود هذه القصص في القرآن.
معنى الشرع والدين والمعيار في ثبوت الحجيّة
على كلّ حال، فالشرع هو عبارة عن الطريق الموصل إلى الواقع.. المسير نحو الواقع، فكلّ طريق يوصل الإنسان إلى الواقع، ويحصّل له المصلحة النفسيّة والواقعيّة والفعليّة التي تسبّب الرشد والتكامل والترقّي المقصود من قبل الله، فهذا الطريق هو حجّة، نعم كلّ طريق يوصل الإنسان إلى ذلك.. فالدين هو عبارة عن النور، {قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَ كِتابٌ مُبينٌ يَهْدي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَ يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَ يَهْديهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقيمٍ}۱، فهذا النور وهذا الكتاب يسبّبان هدايتكم إلى الطريق الذي ينتهي إلى الأمن والسلام، {وَ هُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ}٢، فماذا يقول الله في حقّ أوليائه: {لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ}، ثمّ يقول: {وَ تَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ...}٣ ويقول: {وَ هُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ}٤. أو كما يقول في آية أخرى: {وَ آخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمينَ}. [وأصلها:] {دَعْواهُمْ فيها سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ وَ تَحِيَّتُهُمْ فيها سَلامٌ وَ آخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمينَ}٥ فهؤلاء الذين يدخلون الجنّة ـ وبالطبع من كان من أصحاب المقامات الرفيعة لا كلّهم ـ تحيّتهم سلام، أي أنّكم وصلتم إلى السلامة ودخلتم إلى السلام، فالسلام من السلامة، والسلامة تخلو من الإحساس بالقلق وبالغبن وبالغبطة، فليس هناك تشويش، فالطريق الذي يوصل الإنسان إلى الحقيقة هو نور، والآيات القرآنيّة التي تتحدّث عن ذلك كثيرة، والروايات عديدة... {لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّنات}٦ ، أو {هُوَ الَّذي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَ دينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّه ...}۷، فالهدى الهداية إلى الواقع. {قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ}، فما هو هذا النور؟ هو النبيّ، فالنبيّ نور في الظلمات، ألم يقل أمير المؤمنين في أولياء الله: «هجم بهم العلم على حقيقة البصيرة...» ثمّ يقول: «أولئك والله نور الله في ظلمات الأرض»۸، فهذا نفس معنى {قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ}، فالنور يعني الوسيلة إلى الهداية، فإذا كنتم في ظلمة لا ترون موضع خطاكم، وأخذتم مصباحاً في أيديكم، فإنّ هذا المصباح واجب الطاعة، إذ هو الذي يبيّن لكم من أيّ المواضع تمرّون ومن أيّها لا ينبغي أن تمرّوا، ويدلّكم على موضع الحفرة وعلى الطريق الآمن.. على المهالك والمآمن، فإذا أطفأتم هذا المصباح هلكتم واقتحمتم الأودية والمخاطر، فهذا المصباح إذن هو الحجّة عليكم عقلاً وشرعاً، نعم، المصباح! هل رأيتم كم هو الأمر سهل؟ إذا أطفأتم المصباح فهل ترون شيئاً؟ لا ترون، فالدين أو الشريعة مصباح.. مصباح يوصلكم إلى الواقع.. ذلك الواقع الذي هو عبارة عن التكامل النفسي والوصول إلى مرتبة الفعليّة.
القانون الذي لا يهتمّ بالمسائل الروحيّة ليس ديناً
فلو كان لدينا دين يجعل لنا قوانين لدنيانا فقط [كأن يقول:] سر على الجانب الأيمن ولا تسر على الجانب الأيسر، لا ترتكب المخالفات، لا تكذب لا تظلم، اعتدل، أحسن الجوار، أنجز معاملاتك على هذا النحو، ولا تقم بذاك النوع من المعاملات وهكذا... فقط يتعهّد ببيان المسائل الدنيويّة لنا، ويتعهّدها بشكل جيّد.. فافرضوا أنّ هناك ديناً يهتمّ بهذه المعاملات والعلاقات بشكل جيّد، أما بالنسبة إلى المسألة الأساس التي هي الوصول إلى مراتب المعرفة، والوصول إلى الكمال الإنساني، فهو ساكت ولا يملك فيها أيّة هداية أو إرشاد، فأيّ دين هو هذا؟ إنّه دين ناقص، بل هو ليس بدين، هو عبارة عن مجموعة من القوانين والتي هي موجودة في جميع البلدان، ففي سائر البلدان عندما يجتمع نواب المجالس التشريعيّة ليصوّتوا على قانون معيّن، أو أصحاب المجامع الحقوقيّة ليشرّعوا قانوناً، فهم يكتبون كتاباً في القانون.. فـ "منتسكيو" مثلاً لديه كتاب «روح القوانين» وقد طالعته يوماً، وفي هذا الكتاب قوانين تتعلّق بالمجتمعات والأفراد، وحقوق الإنسان ـ وقد أخذت منها شرعة حقوق الإنسان ـ وفيه مسائل كعدم الاعتداء وعدم الظلم، ورعاية الدول المجاورة، والمسائل الحقوقيّة بين الدول، والعلاقات الاجتماعيّة والشخصيّة، كلّها جمعت في هذا الكتاب وفق مستوى تفكيره ونظره، والكثير من الدول، جاءت بهذه القوانين واعتمدتها في نظامها، فلو أخذنا كتاب روح القوانين وعملنا به، فهل يصبح هو ديننا؟ لا، فهو مجموعة من القوانين لإدارة المجتمع، ولإدارة المجتمعات الشخصيّة، وفي هذا الكتاب أفكار جيّدة، وصحيحة، كما أنّ فيه أفكاراً خاطئة، فلو أخذنا مطالبه الصحيحة وتركنا الخاطئة فهل يعني ذلك أنّ المسألة قد انتهت؟ هل يعني ذلك أنّا لا نحتاج بعد ذلك إلى دين؟ هل ستكون حياتنا مورد رضوان الله تعالى بشكل كامل، هل يرضاها الله وأولياؤه أم لا؟ بل سنكون دولة ومجتمعاً كسائر الدول المعاصرة، دولة ذات إدارة عالية الدقّة وصحيحة، ومع ذلك هي دول كافرة؛ مثل سويسرا وأمثالها فهي تراعي القواني،ن ولا تمارس الظلم والإجحاف، وهي معروفة بذلك، في حين أنّ هناك الكثير من البلدان تكثر فيها السرقة وأمثالها، وليس عددها بالقليل.
فلو فرضنا أنّ رجلاً ذهب إلى تلك الدولة واستلم رئاسة بلديّة، وأخذ ينفّذ القوانين المقرّرة، فيأتي في الوقت المحدّد إلى مكتبه، كما أنّه يعود إلى بيته ويروّح عن نفسه، ويتنزّه ويذهب إلى الحدائق، وله علاقاته الخاصّة مع أصدقائه، لا يكذب ولا يظلم...فمثل هذا موجود، فهل الأمر تامّ بذلك؟ فكثيراً ما يرى الإنسان من مثل هؤلاء أخلاقاً حسنة، ويستحسنها وهي واقعاً تستحقّ التقدير، فنحن نرى من هؤلاء أشياء لا نراها في مجتمعنا الإسلامي والشيعيّ، نعم لا نراها من هؤلاء الناس..لا نراها!! ولكن هل يرجع وضع مجتمعنا إلى الدين، أم إلى المخالفات والتجاوزات التي هي فينا؟!
وكلامنا الآن هو في هذه النقطة: القانون الذي يوضع لإدارة المجتمع غير أنّه لا يرتبط بالمسائل النفسيّة، ولا يرتبط بالمسائل الروحيّة، ولا يرتبط بالتكامل الذي هو نتيجة الخلقة وهدفها.. القانون الذي ينقصه كلّ هذه الأمور ويخلو منها.. هل هو دين؟ كلا ليس ديناً، بل هو مجرّد قوانين لإدارة المجتمع وفق الحدّ الأدنى، وعلى أساس العدالة الاجتماعيّة، فهذا ليس ديناً. فما هو الدين إذن؟ إنّه عبارة عن الطريق الذي يقرّره الله تعالى للإنسان للوصول إلى التكامل الفعليّ والمراتب الفعليّة؛ من التجرّد والتوحيد. وهذا الطريق سيحقّق ـ ضمناً ـ السلامة والعافية والأمن في هذه الدنيا ولهذا المجتمع أيضاً؛ لأنّه لا يمكن للإنسان أن يحقّق تلك الأهداف بدون الأمن والعدالة، إلا أن يكون معتزلاً في غار، نعم لا يمكنه أن يصل بدون ذلك. إذن لو اعتبرنا الدين مائة درجة، فإنّ خمس درجات منها أو عشر درجات ترتبط بالمسائل الاجتماعيّة، وتسعين درجة من المائة ترتبط بالمسائل الشخصيّة والمراتب المعنويّة للإنسان، وحركته نحو الكمال، ولدينا في آيات القرآن: {وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ}۱، ما معنى هذه العبادة؟ إنّها التسليم أمام الأمر والنهي.. هذا هو معنى العبادة، فالعبد هو الذي ينحني مسلِّماً أمام أمر الله ونهيه.
الإيصال إلى الواقع هو المعيار في ثبوت الحجيّة عقلاً
فبناء على ذلك، وبمقتضى حكم العقل ـ لا نتحدّث الآن عن حكم الشرع ـ فإنّ الطريق الذي يوصل الإنسان إلى ذلك الهدف، يمتلك الحجيّة والتنجيز، مهما كان هذا الطريق، وكلّ طريق ومسير يوجب توقّف الإنسان ويوجب تأخّر الإنسان عن ذلك الهدف والمقصود، فهو ليس مورد رضوان الله. وهذا بنفسه يصبح معياراً بيد الإنسان، فالأفعال التي يراها تصدر من الناس، والأقوال التي يسمعها منهم، والآراء والأفكار التي ترده عنهم مهما كانوا، إن كان العمل بها باعثاً على زيادة النورانيّة والمعنويّة والتخفّف من الذنوب فهي حسنة.. بالطبع إذا كانت في نظر الشرع جائزة، لأنّه أحياناً قد يصاب الإنسان بالجهل المركّب.. فمثلاً لدينا في الشرع أنّ الموسيقى محرّمة ولا شبهة في ذلك، فلو جاء عالم وأفتى لك بأنّها حلال بغير شبهة، فلا إشكال.. فهذا رأيه ونظره وفتواه، ولكن إذا جئت واستمعت إلى هذه الموسيقى الحلال التي لا شبهة فيها كما يقول، ثمّ وجدت أنّ رغبتك نحو المسائل الروحيّة قد تضاءلت، وكذلك همّتك إلى الصلاة التي تصلّيها وتلاوة القرآن التي تقوم بها.. وكذلك لو لعبت بالقمار أو بالشطرنج المحرّم والذي يقول فيه الإمام السجّاد عليه السلام: ليس من شيعتنا من وقعت عينه على الشطرنج ولم يلعن أعداءنا، حيث كانوا يلعبون الشطرنج.. وقد جاؤوا برأس الحسين عليه السلام في تلك القصّة المفصّلة، فلو جلست ساعة تلعب الشطرنج وارتكبت هذا العمل المحرّم، فانظر بعدها واختبر نفسك بنفسك، هل لك رغبة في قراءة القرآن والصلاة؟ كلا بل تجد أن لا رغبة لديك بالصلاة ولا بقراءة القرآن.. روحك منقبضة ومنزعجة.. منطوٍ على نفسك.. لا تشعر بالارتياح، فما سبب ذلك؟ لقد تسلّط عليك الشيطان، لقد غرقت في الظلمة، الصلاة نور، والقرآن نور، والتوجّه إلى كلمات أولياء الله والأئمّة عليهم السلام والأدعية هو نور، وأنت تجد أنّك لا ترغب بها. ولنفترض أنّك لم تسمع بحرمة الغيبة، فقمت باستغابة أحد، وجلست تتكلّم عن فلان وفلان ماذا قالا وماذا فعلا؟ فهناك من الناس من لا يعرف لسانه سوى الغيبة، أصلاً هم غافلون عن أنفسهم، ولا يهمّهم سوى ما فعل فلان وفلان، فلو كنت لا تعلم بحرمة الغيبة واغتبت، فهل يمكنك أن تقرأ القرآن؟ هل يمكنك أن تقرأ دعاء؟ هل يمكنك أن تحصّل حضوراً للقلب في الصلاة؟ لا يمكن، فإذن يعلم من ذلك أنّها حرام، لماذا؟ لأنّها خلاف الطريق، فهي تبعدك عن ذلك الطريق الذي يوصلك إلى التجرّد، ويخرجك عن النفس، فهي تصبح خلاف الحق.. الغيبة تصبح خلاف الحق، النميمة تصبح خلاف الحق، الكلام اللهوي واللغوي يصبح خلاف الحق، الاشتغال بالمسائل التافهة يصبح خلاف الحق، فلماذا يملأ الإنسان ذهنه بالمسائل التي لا قيمة لها أبداً، فهذا كلّه خلاف الحقّ والصواب، جيّد؟!
وفي المقابل اذهب وطالع صفحة واحدة من كتب أولياء الله، طالع صفحتين، بينكم وبين الله ألا تتغيّر حالكم، لو سمعتم دقيقتين فقط من كلمات أولياء الله ـ فتسجيلاتهم متوفّرة بين أيدينا ـ ألا يتغيّر حالكم؟ هذه الأفعال تصبح في سبيل وفي سياق هذا الهدف، فهذا الاستماع وهذه المطالعة وهذا الكلام وهذا العمل.. كلها تحمل عنوان أنّها في سبيل ذلك الهدف، في حين أنّ ذاك النوع من الأعمال يتّخذ لنفسه عنوان المخالف لهذا الهدف... وبإمكان الإنسان أن يشخّص ذلك بنفسه. وبالطبع أؤكّد لكم أنّ هناك بعض الموارد لا بدّ فيها من الاحتياط، وذلك حيث يكون هناك قطع بمخالفة هذا العمل للصواب وبحرمته، فمن الممكن أن يشتبه الإنسان، أما لو لم يكن هناك دليل قطعيّ بل كان الأمر مشكوكاً، فيمكن اعتماد ذلك، فهذا أحد الطرق التي يمكن أن توضّح الأمر، هذا أحد الطرق.
المشرّع فاتح الطريق، والشارع مبيّنه
إنّ الطريق الذي يوصل الإنسان إلى الواقع هو عقلاً حجّة ومنجّز. لكن من هو الذي يمثّل هذا الطريق؟ إنه رسول الله، فرسول الله هو المبيّن والمفسّر والموضّح لما يوصل الإنسان إلى ذلك المقصود. ومن هو المشرّع هنا؟ إنّه الله تعالى، فحتّى النبيّ ليس مشرّعاً. نحن نقول شريعة النبيّ وشريعة رسول الله، وفي الآية القرآنيّة لدينا: {شَرَعَ لَكُم}، من الذي شرع؟ الله هو الذي شرع لا النبيّ، الله هو الذي شرع لكم، الله هو الذي فتح الطريق؛ فالحكم بكون صلاة الصبح ركعتين لم يأت به النبيّ من نفسه، بل الله هو الذي حكم ـ وقلت لكم بأنّ المطالب أعلى مما نذكر بكثير، ولكني أقتصر فعلاً على الحدّ الأدنى من البحث والذي ينسجم مع المستوى العلمي المطروح بين الطلبة، ساعياً أن لا أطرح المطالب الفنيّة والعلميّة الدقيقة، فنحن نقتصر على أدنى مستوى ممكن، وإلا فحقيقة المسألة هي شيء آخر أرفع من ذلك ـ شرع لكم من الدين، من الذي شرع؟ الله أم النبيّ؟ الله الذي شرع. فمن هو المشرّع؟ ومن هو الشارع؟ يطلق المشرّع على من يفتح الطريق، والله هو الذي يفتح الطريق، فهو الذي يجعل التكاليف والأحكام، وهو الذي يوجب أربع ركعات لصلاة الظهر.. والله هو الذي يشرّع الصوم، والله والله ... إذن فالله هو من يفتح الطريق للوصول إلى ذلك الهدف، ولكن من خلال مَنْ يفتحه وبواسطة مَن يبيّنه؟ بواسطة النبيّ، فإذن النبيّ يصبح شارعاً. وما قلته في الليالي السابقة من أنّ النبيّ ليس شارعاً، فقد كان مرادي من الشارع هو هذا المعنى وأنّه من يفتح الطريق [أي معنى المشرّع الذي طرح هنا]، فالنبيّ مبيّن وليس مشرّعاً، فهو لا يجعل الحكم من نفسه، بل يبيّنه، وذلك بواسطة إشرافه على الأحكام الإلهيّة، وإشرافه على ما هو أرفع من الأحكام الإلهيّة، وإشرافه على ملاكات الأحكام فهو يبيّن لنا الحكم المؤدّي للوصول إلى ذاك الملاك، ففي الصبح طريق الوصول إلى ذلك الملاك هو أداء ركعتين لا ثلاث، ولو صلّيت ثلاثاً لما وصلت إليه، بل تتوقّف وتتراجع، لذلك فهي باطلة، وعليك أن تصلّيَ ركعتين. وفي وقت المغرب طريق الوصول إلى الملاك هو ثلاث ركعات لا أربع، ولو صلّيت أربعاً لكانت باطلة. تقول: إنّ حالي جيّدة الآن ويمكنني أن أصلّي ركعتين إضافيّتين، الله يقول: أنت مخطئ، عليك أن تفعل ما آمرك به، حالك جيّدة فلتصلّ صلاة أخرى ولتمارس ببعض الحركات الرياضيّة!! أما الصلاة التي تصلّيها لي فهي ثلاث ركعات فقط، وبعدها تسبيح الزهراء، وبينه وبين الصلاة ينبغي أن لا تتكلّم ولا تتلفّت!! فإذا انتهت الصلاة، فاسجد سجدة الشكر واشكر الله ثلاث مرّات، فهذا ما أمرنا به، أما أن نزيد من عندنا، فحينها نكون كالوليد بن عقبة الذي كان سكرانَ فصلّى الصبح في المسجد أربع ركعات بدلاً من ركعتين، فقال حالي جيّدة فلا بأس أن أضيف، لقد كان سكران، فإن صنعنا خلاف ما أمرنا أئمتنا فنحن إذن مثله، ولا مجاملة في ذلك، فقد قالوا لنا: إذا صلّيتم.. فهذه صلاة، وارتباط بالله تعالى، فإذا أديتموها فعليكم أن تؤدّوها كما نأمركم، وإذا انتهت تسجدون سجدة الشكر، وإذا قمتم منها تسبّحون تسبيح السيّدة الزهراء عليها السلام: أربع وثلاثون مرّة الله أكبر، ثلاث وثلاثون الحمد لله، ومثلها سبحان الله، هذا ما قاله الأئمّة. أما إذا أضفنا من عندنا وبدأنا بالتسليم على هذا وذاك، فهذه الصلاة وفضائلها وغير فضائلها ترجع إلى مصلّيها، فلا تتوقّع من الله شيئاً، فهذا ما أضفته أنت بنفسك، وأنقصته بنفسك، وأنت من صنع هذا.
ره چنان رو كه رهروان رفتند | *** |
[يقول: اسلك الطريق كما سلكه السالكون]
تماماً نلتزم كما أمروا بغير فضول منّا وإضافة، فالفضول هنا ممنوع، ولا بدّ من الالتزام بما جاءنا وكما جاءنا. جيّد؟
فإذن طريق الوصول إلى ذلك الملاك هو الالتزام بهذا الشرع، وهذا الشرع هو الطريق، وهكذا.. فالنبيّ هو الذي يحمل اسم الشارع لا المشرّع، لماذا؟ لأنّ النبيّ يعمل بالملاك الذي جعله الله تعالى في طريق الوصول إلى مرتبة الفعليّة، وهذا الملاك ليس بيد النبيّ، ولا بيد غيره بل بيد الله، فتقدير الله هو هذا، ورسول الله هو مجرٍ ومنفّذ لهذا الملاك. فأنا لا اطلاع لديّ على عالم المِلاكات، من هو المطّلع؟ هو النبيّ، وهو يقول: صلّ ركعتين صلاة الصبح على أساس المصلحة التي يراها في تحقيق سعادة الإنسان في وقت أذان الصبح، فالمسألة أرفع من الكلام، إذ تارة ينظر رسول الله فيرى أنّه مكتوب: هناك ركعتان، فهكذا علَّمَنا الناسُ وللأسف، أنّ الأئمّة لديهم كتاب يفتحونه قبل أن يأتوا ويدرّسوا الناس، فهم يقرأون منه ويحضّرون لما سيُسألون كيلا يتحيّروا في الجواب، فهم يقولون أنّ الإمام الصادق يفتح كتاباً ويتعلّم منه!! وقد سمعت ذلك، ولا أقوله من نفسي، فبعد تسعين عاماً من الدراسة يصل فهم بعض العلماء إلى أنّ كلّ ما عند الأئمّة فهو مما كتب في صحيفة فاطمة، وهم يطّلعون على الأحكام منه إلى يوم القيامة ـ وقد كتب ذلك في المجلاّت!! ـ والأئمّة يفتحونه و يتصفّحونه الورقة تلو الأخرى، فإذا وصلوا إلى الصفحة ٣٦٥ قالوا نعم هذه الصفحة تتعلّق باليوم فاليوم سيأتى الناس ويسألوننا هذه الأسئلة وهذه هي إجاباتهم، فلنحفظها كيلا تزول من ذاكرتنا.. ما شاء الله.. ما شاء الله!! هذه هي معرفتنا!! هذه هي معرفتنا!
نعم.. هم فقط ينقلون المسائل الفقهيّة!! فالنبيّ لم يكن سوى ناقل للمسائل الفقهيّة!! فقد كان ينظر وينقل!! غاية الأمر أنّه كان يعرف المسائل ويراها ونحن لا نعرفها! بل بعضهم يقول نحن نعرف! فعمر كان يقول أنا زميل محمّد، فأنا تماماً مثله ولا فرق بيننا، هو يقول شيئاً وأنا أقول شيئاً آخر! فهو يقول: عمرة التمتّع موجودة، وأنا أقول ليس لدينا عمرة تمتّع، هو يقول: لدينا متعة. أنا أقول: ليس لدينا متعة!! واليوم بعضهم يقول أنّ هذه الأحكام كانت سياسيّة، وقد سمعت ذلك من بعض المتحدّثين الجهلة، فهم يقولون إنّ هذه الأحكام سياسيّة تجعل في زمان وترفع في آخر.. وما دام قد اختفت الشمعة التي تضيء العالم فكلّ من يريد أن يتكلّم سيتكلّم بما يحلو له:
شمع جهان سوز چو پنهان شود | *** | شب هر بازيگري به ميدان آمد |
[يقول: إذا اختفت الشمعة التي تضيء الكون *** فسينزل إلى الميدان كلّ لاعب.]
فكلّ من شاء سيأتي وسيصنع لنفسه دوراً، فإمام الزمان في الغيبة الآن، فجُل جولتك، ولكنّه سيأتي إن شاء الله...
النبيّ في نظرهم مجرّد مبيّن للمسألة الفقهيّة فقط، ولكن المقام الأرفع من ذلك، والذي نطرحه بحسب مستوى بحثنا هذا، وهذا المقام الأرفع هو أنّ النبيّ مطّلع على المصالح والمفاسد الواقعيّة ونفس الأمريّة للأفراد، والتي ينبغي على أساسها جعل الحكم، فهذا أرفع بدرجة واحدة من ذلك الكلام الساذج والسخيف الذي يقول به الكثيرون؛ من أنّه مجرّد مبيّن للمسألة. ونحن لا اطلاع لنا على تلك المصالح والمفاسد، نعم نحن مطّلعون على بعضها مما يقتضيه عقلنا وفطرتنا فيما يتعلّق بالكذب والظلم والعدالة والأمن والخيانة، ضمن هذا الحدّ الذي يسمّى بالمستقلاّت العقليّة والفطريّات وأمثال ذلك بحسب الاصطلاح، أما بالنسبة للخصوصيّات والجزئيّات والمصاديق فلا اطلاع لنا على شيء منها، والنبيّ في هذه المسألة هو شارع، فالشارع يعني الطريق الكاشف عن المصالح والمفاسد نفس الأمريّة، فالأنبياء الماضون كلّهم منضوون تحت هذا العنوان، ورسول الله صلى الله عليه وآله شارع، وأوصياء الأنبياء أيضاً كانوا مصداقاً للشارع، فقد كانوا طريقاً يكشف، فإذا كان إنسان وصياً للنبيّ فإنّ حجيّة كلامه هي كحجيّة كلام ذلك النبيّ، فهارون شارع كما أنّ موسى شارع.. يوشع شارع.. شمعون شارع، تماماً كما كان موسى وعيسى، فهم طريق إلى المشرّع، طريق إلى الشريعة، طريق إلى تلك المصالح والمفاسد النفس الأمرية التي يجعل الحكم على أساسها، واضح؟! فالمطالب تقترب شيئاً فشيئاً نحو الدقّة والحساسيّة، ما هي موقعيّة الأئمّة؟ هل الأئمّة مجرّد مبيّنين للمسائل، أم يندرجون تحت عنوان الشارع؟ يندرجون تحت عنوان الشارع، فهم مثل النبيّ ولا يختلفون عنه من هذه الجهة، ولذا لو كان... لذا يقول الله في الآية: {أَطِيعُوا اللَّهَ} أي المشرّع، {أَطِيعُوا الرَّسُولَ} أي الشارع {أُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ} أي الأئمّة وهم من أفراد الشارع أيضاً، هل التفتّم؟ الله، الرسول، أولي الأمر، ومن هم أولو الأمر؟ هم فقط الأربعة عشر معصوماً، هل لدينا غيرهم أولي أمر؟ أهل السنّة يقولون: نعم. أما نحن الشيعة فنقول: ليس لدينا غيرهم، فأولو الأمر هم الأربعة عشر معصوماً والسلام. فإذن أطيعوا الله تعني المشرّع، أطيعوا الرسول تعني الشارع، أولي الأمر منكم... جيّد؟ أولي الأمر منكم.
حجيّة النبي حجيّة ذاتيّة لا جعليّة
طاعة الله حجيّتها ذاتيّة، لأنّه مشرّع، فالله هو الذي شرّع هذا الطريق... وطاعة الرسول لا بدّ أن تكون حجيّتها ذاتيّة أيضاً، لماذا؟ هل لأنّ الله هو الذي قال بحجيّته؟ كلا، لا ترتبط بالله، بل لأنّ رسول الله هو طريق إلى تلك المصالح والمفاسد والكاشف عنها، ولأنّ رسول الله مشرف على المصالح والمفاسد، ولأنّ رسول الله مطّلع على الحقائق نفس الأمريّة، ومشرف على تلك الخصوصيّات وعلى كيفيّة وصول الإنسان إلى ذلك الهدف، فإنّ طاعته تصبح واجبة شرعاً وعقلاً. ولا يهمّنا الآن وجوبها الشرعيّ، بل المهمّ هو وجوبها عقلاً. فلو كان هناك مشرك أو كافر، فلو كنّا الآن نحن كفّاراً أو مشركين لا نعتقد بالله، ولكن نعلم أنّ رسول الله ـ وهذا الكلام أقوله من حيث الحجيّة العقليّة ـ رجل مقبول وصادق وأمين، ألم يكن مشركو مكّة يرضون بالنبيّ ويقولون أنّه محمّد الأمين؟ ألم يكونوا يعترفون بأمانته وبصدقه؟ فأيّ شيء منهم كان يعترف بذلك؟ عقلهم، وإلا فهم لم يكن لهم دين، بل عقل المشركين كان يقول أنّ هذا أمين، عقلهم كان يقول أنّ هذا الكلام مطابق للواقع، عقل المشرك والكافر كان يقول أنّ هذا الكلام من رسول الله هو عين الواقع، وذلك في المسائل والأخبار العادية فهم لم يكونوا يدركون غيرها، وقد جاءهم النبيّ من هذا الباب، فقال لهم ألستم تروني أميناً؟ قالوا بلى، قال إذا أخبرتكم بأنّ وراء هذا الجبل عدوّ لكم ألا تصدّقون؟ قالوا بلى، فورد من خلال عقلهم لإبلاغ الرسالة.
الآن لو كنّا نحن في ذاك الزمان ولم نكن على صلة بالله، بل كنّا كفرة مشركين، ولكن كنّا نرى النبيّ صادقاً أميناً، فهل كنّا سنعدّ كلامه المرتبط بمصالحنا ومفاسدنا حجّة أم لا؟ كنّا سنعدّه حجّة حتماً. فهذا أمر لا شأن له بالكفر وبالشرك، بل يرجع إلى الحجيّة العقليّة، فإذا كان هناك إنسان يبتعد كلامه عن الباطل ويخلو منه، فإنّ كلامه سيتّصف بالحجيّة الذاتيّة.
وجوب مراجعة جميع ما ورد عن النبيّ
لذا في علم الأصول، وفي بحث خبر الواحد وأمثاله ماذا نقول؟ المرحوم السيد البروجردي يقول بهذا الرأي؛ وهو أنّا في سبيل الوصول إلى الأحكام لا يختصّ وجوب النظر في النظر إلى الروايات التي وردت عن الأئمّة عليهم السلام، فهناك الكثير من المطالب التي لم ترد عن الأئمّة، أو أنّها وردت ثمّ اختفت ولم تصلنا، فهناك الكثير من الأعمال التي يقوم بها أهل السنّة بشكل صحيح، فالصلوات التي يصلّونها في أوقات متفرّقة هو عمل صحيح، خلافاً لما يقوم به الشيعة حيث يصلّون الظهر والعصر جمعاً والمغرب والعشاء جمعاً.. فالحقّ معهم في ذلك، وليس معنا، فهم يعملون بسنّة النبيّ والأئمة صلوات الله عليهم. فلنفترض أنّه لم يكن في الروايات التي وردتنا عن الأئمّة عليهم السلام استحباب الإتيان بالصلاة في أوقاتها الخاصّة، فهل يعني ذلك أن لا ننظر إلى أهل السنّة لأنّهم فقط من أهل السنّة، أم يجب علينا أن نبحث ونتحقّق في رواياتهم وكتبهم ومداركهم.. فلعلّنا نجد قرائن وشواهد تورثنا الاطمئنان بأنّ ما يفعلونه صحيح، فإذا حصل لدينا اطمئنان بذلك فعلينا الالتزام به، حتّى لو كان أصحاب العمل من أهل السنّة.
بل أقول أكثر من ذلك، لنفترض أنّ يهودياً أو نصرانياً، فبين اليهود والنصارى قد تجد بعض الناس الصالحين، فليس كلّ اليهود صهاينة، نعم الصهاينة منهم على تلك الحال، ولكن ليس كلّهم صهاينة، فقد تجد بينهم إنساناً صادقاً، وكذلك النصارى.. ليس كلّهم جبابرة ومستكبرين، فكثير منهم أفعالهم خير من أفعالنا، نعم، الكثير من أفعال المسيحيّين يتّسم بالصلاح، فهم مستقيمون صادقون، بل حتّى لو كان في الصدق ضرر عليهم لا يكذبون، وقد حصلت لي تجربة معهم في ذلك، حتّى لو كان الصدق في ضرره.. أما نحن فنتوسّل بألف حيلة ووسيلة... فقد حدّثني أحد الأصدقاء أنّه كان في أحد بلدانهم وأراد أن يشتري جهازاً كهربائيّاً، ووجد جهازاً لا يشكو من أيّ نقص، ومهما نظر فيه لم يجد فيه عيباً، فقال له: بكم هذا الجهاز، فذكر له قيمة معيّنة، فنظر إلى ما كتب عليه فإذا هو أغلى بكثير مما ذكر، فقال له لماذا قلت ذلك السعر؟ فقال له: لأجل هذا الموضِع، انظر، فقد أصيب هنا بخدش صغير جرّاء اصدامه بجهاز آخر، وقد أعدنا صبغه من جديد، ولكن مع ذلك خفّضنا قيمته.. من منّا يفعل ذلك؟ هذا مسيحي، من منّا نحن المسلمون والشيعة يفعل ذلك؟ لقد ذهبت يوماً لأشتري شيئاً وكان مكسوراً، فجعل البائع الجانب المكسور منه إلى جهته حتى لا أراه.. وكان من شيعة عليّ وكان يلبس السواد في أيام العزاء، في شهر رمضان قبل سنوات، والبضاعة مكسورة وهو يستر الكسر ويرسلها إليك ويقول أرسلتها إليك سالمة وقد انكسرت عندك، وكان الشهر شهر رمضان والأيام أيام شهادة أمير المؤمنين عليهم السلام وهو يلبس السواد لذلك، وقد أحيا ليلة القدر، ومع ذلك يريد أن يغشّ.. في حين أنّ ذاك كان مسيحياً.
وقد كنت يوماً في مكان... الأفضل أن أعرض عن ذكر هذه الحادثة الآن فأنا متعب، [إصرار من الحاضرين]، سأذكر منها شيئاً كنت في مكان وقد سقطت محفظتي من جيبي، وكان فيها أكثر من ألفي دولار.. وقد سرت مسافة ثمّ التفت إلى أنّها لست في جيبي، فقلت لمن كان معي: الحقيبة ليست موجودة، لكن لا بأس لنمضِ، قال: لا كيف نمضي بهذه السهولة؟ قلت له: ليست موجودة يا عزيزي فماذا نصنع؟ فقد وجدها من كان هناك وأخذها، وكنت أظنّ أنّ الأمر هناك كما هو عندنا...! فقال: لا لنذهب ونقم بجولة سريعة، قلت له لا داعي لإضاعة الوقت، وقصّتها مفصّلة وقد ذكرتها لكثير من الإخوة وكثيراً ما يتّفق مثلها، والخلاصة أنّا رجعنا إلى المكان الذي كنّا فيه فإذا بالمسؤول عنه، وهو شابّ مسيحيّ يبلغ خمساً وعشرين عاماً أو ستاً وعشرين، شاب مسيحيّ! قلنا له لقد أضعنا محفظة، فقال: ماذا بداخلها وما مواصفاتها؟ فقلنا له لونها كذا، فقال: وضعتها في المكتب الفلاني فاذهبوا وخذوها فأنا سأتّصل بهم الآن، فذهب صديقي وجاء بها، وقد كان حين عودته يمشي مشية المنتصر ويقول وجدتها بصوت مرتفع، وكأنّه عثر على كنز، وواقعاً عثر على كنز نسبة إلى الحال التي نحن عليها في بلدنا، الذي يخفي فيه البائع البضاعة المكسورة، واقعاً هي كنز. ألم يكن بإمكان ذاك الشاب أن يأخذ المحفظة؟! وقد قدّمت له هديّة مائة دولار، فلم يقبل بها مهما أصرّيت عليه، ولكن في النهاية وضعتها في جيبه ومضيت، قال: لماذا تعطيني مالاً؟ فهذا عملي اليومي؟ فليست هذه أول مرّة ولا آخر مرّة أجد فيها مثل ذلك، بل يحدث ذلك في كلّ يوم، ولو أراد هذا أن يأخذ ما يجد لكانت حصيلته اليوميّة خمسة عشر ألف دولاراً [ضحك]... كان يقول هذا عملي كلّ يوم، فأين نجد مسلماً كهذا؟! فقد كان هذا مسيحياً.
فلو أنّ مسيحياً كهذا... وواقعاً لا بدّ أن يصلّي الإنسان شكراً بل يسجد شكراً عندما يجد مثل هؤلاء مقارنة بما هو موجود من الناس، وهذه المسائل مؤثّرة جدّاً في توسعة آفاق الإنسان الفكرية.. في مجال معرفة الناس وتكوين رؤية اجتماعيّة ونفسيّة، فلا ينبغي أنّ نظنّ أنّ هؤلاء الناس سيّئون، وأنّ هؤلاء الشباب فاسدون، وأنّ النساء السافرات سيئات، وأنّ من يتكلّم ببعض الكلام سيّء، كلا بل جميعم جيّدون، وجميعهم أفضل منّا، وجميعهم أكثر استقامة منّا، فهم يبحثون عن فطرتهم ولا يجدون من يجيبهم على فطرتهم، فيقومون بهذه الأفعال، فهم يبحثون عن عقولهم ولكن لا يجدون من يجيبهم، ولو وجدوا لاتجهوا نحوه، فهم خالون من المرض والغرض، فالشاب لا مرض لديه، أيّ مرض لديه؟! الأمراض هي عندنا نحن من ابيضّت لحانا، ونحن الذين نمتلك الآلاف من الأمراض والتعلّقات والدنيا والمشكلات وما شابه ذلك، أما الشاب فلا تعلّق لديه بشيء، فهو يبحث عن فطرته وعقله وقلبه، ولكنه لا يجد من يجيبه.
حجيّة إخبار مطلق الصادق الموثوق ولو كان كافراً
الآن أريد أن أطرح هذا السؤال ـ وهذا الأمر مبحوث من الناحية الأصوليّة ـ لو أنّ شاباً مسيحياً لا نشكّ في صدقه وأمانته، فقد نشكّ في صدق أنفسنا ولا نشكّ في صدقه وحفظه للمطالب وذاكرته وكلامه، فلو لم يكن أفضل منّا فهو ليس أقلّ منّا، ألا يوجد مثل هؤلاء؟ هل هذه الصفات مختصّة بنا فقط؟ فهؤلاء من البشر في النهاية، فلو كان من الأشخاص الذين لا نشكّ في أمانتهم وصدقهم، وقال لنا: أنا ذهبت إلى إمامكم الصادق عليه السلام وقد قال هذا الأمر، أفلا يكون كلامه هذا حجّة علينا؟ قطعاً هو حجّة علينا، قطعاً هو حجّة، لماذا؟ لأنّ ملاك القبول والأخذ متحقّق فيه؛ وهو الصدق وعدم الخطأ المتعارف والذاكرة والأمانة، فحتّى وإن كان مسيحياً أو يهودياً أو مجوسيّاً أو ملحداً ماديّاً، لا فرق في ذلك، فهو وإن كان لا يؤمن بالله ولكنه يقول الصدق ونحن نتيقّن بصدقه وأنّه لا يكذب، فهو يقول: أنا لا أؤمن بالمعاد، وبالطبع اليهود والمسيحيّون يؤمنون بالمعاد، ولكن لنفرض أنّ هذا يقول لنا: أنا لا أؤمن بالمعاد ولكنّي لا أخونكم.
في يوم من الأيام كان أحد أقاربنا بالمصاهرة يقول: كنت في إحدى شركات النفط في عهد الشاه، وكان هناك بعض الموظّفين الإنكليز، وكان هناك في إحدى المحافظات مدير إنكليزي لشركة، وكنت على صداقة معه، وفي أحد الأيام قلت له لديّ سؤال أحبّ أن أطرحه عليكم، فقال: ما هو؟ قلت له: لماذا أنتم لا تتركوننا وشأننا؟ أنتم أيها الإنكليز لماذا لا تتركوننا نحن الإيرانيين وشأننا؟ هذا سؤالي، فطأطأ رأسه وقال: أمهلني، لم يقل ابتداء: هذا عملنا وما هذا الكلام اتركه؟! لا بل ترك هذا الكلام وأحبّ أن يقول لي الصدق، وطلب مهلة، فأمهلته ثلاثة أيام، فنادانى إلى مكتبه وقال: تفضّل، لقد سألتني سؤالاً، وأنا إما أن أرتكب في جوابه خيانة لصديقي أو لبلدي. انظروا، إما أن أكذب على صديقي فأنت صديقي، أو أخون دولتي ومصالحها، وأنا لم أر من المناسب لنفسي أن أخونك.. ودولتي على كلّ حال ستفعل فعلتها، فهذه الدول الملعونة دول الكفر ـ وبالطبع هو لم يقل ذلك وإنما أنا أقوله ـ وكان المرحوم العلامة يقول مهما قالوا الموت لكذا وكذا فأنا أقول الموت للإنكليز، فأنا لا شغل لي مع غيرهم، فلتقل الموت لكذا وكذا شرقاً وغرباً شمالاً وجنوباً، أنا أقول الموت للإنكليز، هذا كلام المرحوم العلاّمة وهو محقّ في ذلك. قال ذلك المدير الإنكليزي: أنا لا أخون صديقي، أنتم ما دام عندكم نفط فلا بدّ أن تدفعوا الثمن، على كلّ حال، هذا هو جوابه، ولكن كلامنا هو أنّ كون الإنسان مسيحياً لا يعني أنّه دائماً يكذب ويخون، فقد تجد أفراداً صادقين.
وبناء على ذلك فحجيّة القبول بخبر العادل، هي جارية أيضاً بالنسبة إلى غير المتديّن وغير الملتزم، ولكن بشرط أن يكون مطمأنّاً بموافقته للواقع مهما كان حاله، لماذا؟ لأنّه سيكون طريقاً كاشفاً، نفس هذا يصبح شارعاً وطريقاً إلى الواقع. يقول: أنا اليوم كنت جالساً عند إمامكم الصادق عليه السلام، وجاء رجل وسأله عن المسألة الفلانيّة، وقال له كذا وكذا، أقول له: سمعت بشكل دقيق؟ يقول نعم، ولنفترض أنّ دقّته وذكاءه كانا يفوقان دقّة أبي بصير وذكاءه، نعم صحيح أنّ أبا بصير من خواصّ الإمام الصادق، ولكن نحن نتحدّث عن قواه الظاهريّة، لا عن مراتب إيمانه، فهذه لها شأن آخر، فكما يجب أن نطيع أبا بصير عقلاً بعنوان أنّه تلميذ الإمام الصادق وفرد عادل وصادق نطيعه فيما ينقله عن الإمام الصادق عليه السلام، كذلك يجب عقلاً أن نطيع الحكم الذي ينقله أيّ يهوديّ أو نصرانيّ أو أيّ إنسان نطمئنّ إلى صدقه فيما ينقله عن الإمام، ولا فرق بينهما، لماذا؟ لأنّ في كليهما لوحِظت حيثيّة موافقة الخبر للمخبر عنه، بل قد يكون تحقّق هذه الحيثيّة في هذا النصراني أقوى؛ كما لو كان أشدّ دقّة وذكاء، كأن ينقل تماماً كالمسجّل ولا ينسى شيئاً حتّى واواً واحدة، وحتّى في مقام التعارض والترجيح يمكننا أن نرتّب أثراً من خلال هذا النوع من المرجّحات، نعم في مقام التعارض يمكن أن نرجّح بذلك.
فإذن في طريق الوصول إلى الواقع، كون الشيء طريقا وكاشفاً هو الملاك، وليس الملاك هو الموضوع أو الشخص الخاص الذي يبيّن الطريق، هذا الحكم حكم عقليّ وحكم أصولي.
ثبوت الحجيّة لرسول الله إنما هي لكونه كاشفاً صادقاً عن الواقع
وعلى هذا الأساس، نسأل لماذا كان رسول الله صلّى الله عليه وآله حجّة علينا؟ لأنّ الرسول صادق في دعواه في الرسالة، فهو يقول: أنا رسول من الله، وقد رأينا هذا الصدق من رسول الله ورأينا منه تلك الأمانة، والآن لا نريد أن نتحدّث عن المعجزات والكرامات، فإنّ لها أبحاثاً أخرى، ولكن من حيث الصدق نحن لا نشكّ بأنّه صادق في ادعائه الذي يدّعيه بأنّي مطّلع على حقائق الغيب، مطّلع على المصالح والمفاسد، جيّد؟ فإذا ادّعى هذا الادعاء فإنّ كلام رسول الله سيكون حجّة علينا عقلاً.
والأمر نفسه جار في الأئمة عليهم السلام، بلا أيّ تفاوت.
جيّد؟ هذا من الناحية العقليّة مهمّ جدّاً، والمطلب الذي ذكرناه اليوم مهمّ جدّاً، ويمهّد للمطالب اللاحقة.
وفي آيات القرآن ألم يرد {إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ}، فكلام رسول الله فصل، والفصل يطلق على الكلام المائز بين الحقّ والباطل، لا يقبل الترديد والشبهة، فهو ليس مثل كلامكم الذي لا يساوي شيئاً، فعقلياتكم توهّمات فضلاً عن توهّماتكم واعتبارياتكم وتخيّلاتكم.
أو الآية التي تقول: {مَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ}، الفضول ممنوع، فما يقوله النبيّ ينبغي أن تقبل به، ما هو الذي يقبل من كلامه؟ كلّ حكم يبيّنه لكم، وكلّ مطلب يقوله لكم، سواء كان أمراً أم نهياً خبراً أم إنشاء؛ لقد حصل كذا وكذا، {فَخُذُوهُ}، صدّقوه، واقبلوه. افعل هذا العمل، {فَخُذُوهُ}، يجب أن تفعله، هذا العمل اتركوه، خذ بهذا النهي واقبل به، لماذا نأخذه؟ لأنّه {قَوْلٌ فَصْلٌ}، فكلامه فصل لا يخطئ، مطابق للواقع ومطابق للمخبر عنه، ومطابق للمصلحة الواقعيّة نفس الأمريّة، فما دام منطبقاً فإنّ العقل يأمر باتّباعه.
حسن سلوك المرحوم العلاّمة وتأكيده على ضرورة الصدق مع العدوّ
يقول المرحوم العلاّمة حينما كنت في معهد الدراسات الفنيّة كان لنا أستاذ مهندس ـ وقد توفّيَ الآن ـ وكان ماديّاً ملحداً، وكان إنساناً مفكّراً بين المادييّن، كان المرحوم العلاّمة الطالب الأول في صفّه، قال المرحوم العلامة: في آخر يوم من العام الدراسي ناداني هذا الأستاذ وقال: لي أريد أن أكلّمك بشيء، فهذا هو اليوم الأخير، وفي نفسي كلام كنت أريد أن أقوله لك منذ بداية العام ـ التفتمّ على الإنسان أن يقبل المطلب الحقّ مهما كان موقعه ـ فجاء المرحوم العلامة إليه فقال له الأستاذ: أنت تعرف يا حسيني أنّي أعتقد بالمذهب المادّي ولا أعتقد بالله؟ يقول: قلت له نعم، فقال له: أتعرف أنّي أشعر بالنفور الشديد من هؤلاء العلماء الحوزويين؟ قال له: وهذا أيضاً أعرفه، فقال له الأستاذ: ولكن مع ذلك أخبرك بشيء وهو أنّه من صحّة عملك ـ ولا شأن لي بكون والدك عالماً فأنا أعلم بذلك ولكن لا لأجل ذلك ـ ومن صدقك، ومن حسن سلوكك أقول لك بأنّه لو كان هناك إسلام فأنت المسلم. لو كان الإسلام صحيحاً فأنت المسلم. التفتّم؟ هذا ماديّ لا يعتقد بالله فضلاً عن النبيّ فضلاً عن أولئك الذين يدّعون النيابة... هؤلاء العلماء الذين يدّعون النيابة العامة أو النيابة الخاصة أو لا أدري ما يدّعون من أشباه هذا الكلام، فهو لا يقبل بشيء من ذلك، ولكنه يقبل بالصدق وبحسن السلوك وبحسن العمل، لماذا يقبل بذلك؟ لأنّه صاحب فطرة، فهو وإن كان ماديّاً إلا أنّ له فطرة، وله عقل، فهو لم يغلق عقله عن كلّ شيء، يقول: لو كان هناك إسلام صحيح فهذا الإسلام أنت الذي تحمله، لا أولئك الذين يدّعونه. فهذا أيضاً يفهم أنّه في كلّ مكان يوجد خداع ويوجد كذب ويوجد أشباه ذلك، كما يفهم أين الصواب ـ دقّقوا في ذلك ففيه مطالب.. وهو يستحقّ التأمّل!!! ـ فهذا الماديّ يدرك أين الصدق، وكذلك النصارى واليهود يدركون من هو الإنسان المستقيم ومن هو المنحرف؛ لأنّهم لم يفقدوا فطرتهم ولم يفقدوا عقلهم، فنفس هذا العقل الذي يلزمنا بطاعة الحقّ هو نفسه يقول للإنسان الماديّ أنّ هذا حق وصواب، هذا الفعل صحيح وهذا خاطئ، فليس هناك سوى عقل واحد لا عقلان، فنفس هذا العقل هو الذي يقول لهذا الماديّ أنّ هذا العمل صحيح وذاك خاطئ، هذا خطأ وهذا صحيح، فإذا أنت كذبت على إنسان ماديّ فهل هذا جائز؟ وهل هو لا يدرك أنك كذبت؟ ولو خدعت نصرانياً ومكرت به ألا يدرك ما يجري؟ ألأنه نصراني يجب أن تكذب عليه، ويجب أن تخدعه ويجب أن تخفي عيب السلعة عنه حين بيعها؟ أو لأنّه يهوديّ؟ لا فهذا محرّم وخلاف للحق، بل لا بدّ من الصدق والحقّ حتّى مع النصراني، ماذا كان يقول المرحوم العلاّمة؟ كان يقول: علينا أن نتعامل مع الجميع بالحق وبالصدق، وكان هذا أصلاً أولياً من أصول الفكر السياسي للمرحوم العلاّمة عام ۱٣٤٢ ش۱، كان يقول: علينا أن نقول الصدق حتّى للشاه، الشاه رجل الباطل، يجب أن لا نتعامل معه بكذب، ويجب أن يسمع منّا الصدق، هذا أصل من أصول ذلك المنهج الفكري، ويجب أن نقول الحقّ والصدق لرئيس الولايات المتّحدة الأمريكيّة أيضاً، لنقل الحقّ لماذا نكذب؟ فلربّما يشعّ في قلبه هو أيضاً بصيص نور فيهتدي، فهو إنسان كسائر الناس، أفهل كان المسلمون في زمان النبيّ شيعة من حين ولادتهم؟ لا، بل كانوا كفّاراً ومشركين ونحو ذلك. والأمر هو كذلك الآن أيضاً، ألا نسمع من هنا وهناك أنّ بعض النصارى يسلمون، وحتّى بعضهم من رجال السياسة؟ جيّد فهم يمتلكون فطرة وعقلاً، ويترقّون ويشرق في قلبهم نور، فليست الهداية مختصّة بأحد، هي للجميع ولكن نحن من يوصد الأبواب، نحن من يضع الأغشية على القلوب، نحن من يفعل ذلك. المرحوم العلاّمة كان يقول: علينا أن نكون صادقين حتّى مع الشاه، ويجب أن يسمع منّا الصدق لا الكذب؛ فإنّه يفهم، لماذا؟ لأنّا ندّعي النيابة عن النبيّ، فإذا كذبنا فقد يأتي ويقول: لعلّ النبيّ كان يكذب مثلكم، فحينها ما هو جوابكم؟ ما هو الجواب عندئذٍ؟ فأنتم تكذبون عليّ وتظنّون أنّي لا أعي حقيقة الأمر؟ تظنّون أنّي لا ألتفت؟ أنتم من تدّعون النيابة عن النبيّ هل كان النبيّ مثلكم؟ هل كان مثلكم؟ وهنا يطأطئ الإنسان رأسه خجلاً... لذا كان المرحوم العلاّمة يقول: لا بدّ أن يكون مسيرنا من النقطة الأولى عين مسير رسالة النبيّ صلّى الله عليه وآله، من النقطة الأولى، ولا نقول لا بأس الآن لا بدّ أن نحقّق شيئاً بأيّ وسيلة اتفقت، وبعد ذلك نصحّح، لا بل من النقطة الأولى لا بدّ أن يكون المسير مسير الصدق والأمانة والاستقامة والاهتمام ببني النوع واللطف والكرامة والعفو، فهؤلاء الأشخاص هم الذين نشروا الإسلام، لا نحن، لقد انتشر الإسلام بواسطة هؤلاء أصحاب الأمانة والصدق والصواب والحق والذين لم يقولوا لقومهم الكذب؛ لأنّ الناس يدركون جيداً ويدركون الاستقامة ويعثرون على الحقّ بين هذين الفريقين، نعم يعثرون.
إن شاء الله بقيّة المطالب تبقى للّيلة القادمة بتوفيق الله.
اللهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد.