المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني
المجموعةسنة 1432
التوضيح
وهي المحاضرة الأولى من محاضرات حجية فعل ولي الله، اعتبرها سماحة آية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني قدس سره بمثابة المقدمة لهذا البحث، حيث أشار إلى الداعي للإجابة على إشكال حجية فعل ولي الله، مبيناً أن عين البصيرة التي ينظر بها ولي الله هي عين الواقع، وأن ثواب الأعمال بمقدار الإخلاص والانقياد، وأشار في كلامه إلى أن المشيئة الإلهية قاهرة على الجميع، ثم كشف عن أن دراسة مسألة أفعال ولي الله تعتمد على أساس البيان العلمي، وقد ارتكز في كلامه على أن الحاجة إلى الشرع والنبي والإمام هي العقل الناقص عند البشر، مبيناً أن بعض الأحكام التي نطلقها أساسها الشائعات والأوهام، وأن الحاجة إلى النبي كي ينقل الإنسان إلى الرتب العالية، معتبراً أن عقل الإنسان الظاهري مهما كمل يبقى بحاجة إلى ولي مرشد. وهي توازي المحاضرة 14 من محاضرات شرح دعاء أبي حمزة 32
هو العليم
حاجة الإنسان إلى التشريع الإلهي
شرح دعاء أبي حمزة الثمالي - سنة ۱٤٣٢ هـ ق – المحاضرة الرابعة عشر
ألقاها:
آية الله الحاجّ السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ
قدس الله سره
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على سيدنا ونبينا محمد
وعلى آله الطيبين الطاهرين
واللعنة على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين
ذكرنا للإخوة أن كلامنا وبحثنا قد انجرّ بشكل من الأشكال إلى البحث في حجية أفعال وأقوال أولياء الله، ولعل هذا الأمر من مسائل الخير والختم بخير؛ لأن هذه القضية كانت مورد بحث وكلام منذ مدة طويلة، وأخيراً رأيت في بعض المقالات ـ حتى في الحوزة هنا وغيرها ـ أن هناك اعتراضات وإشكالات على هذه المسألة. وأعتقد بأن الكثير من هذه الإشكالات تشتمل على جهة مغرضة. نعم يبدو من بعض هذه الاعتراضات أنها صدرت بصورة جهل وعدم اطلاع، أو بسبب الجهل بالموضوع أو الجهل بالحكم.. وعلى كل حال، وظيفتنا هي الإجابة على هذه الأسئلة، مهما كان السائل، وأياً كان منشأ هذا السؤال.. فهذا الأمر لا يغير الحال بالنسبة إلينا.
الداعي للإجابة على إشكال حجية فعل ولي الله
ولا شك أن طريقتنا في معالجة هذه الأمور ـ كما نبّهت على هذا الأمر مراراً بعد وفاة المرحوم الوالد رضوان الله عليه ـ هي المحافظة على مباني أولياء الله بالمقدار المتاح. وعلى هذا الأساس، تم الاعتراض على بعض كلام الحقير وكتاباته، ولكن أشهد الله تعالى على أن هذا الكلام وهذه الكتابات لم تكن تنشأ عن أي شيء سوى المحافظة على هذه المدرسة، وأني إنما أتحرك على هذا الأساس، وسأبقى أمشي على هذا المنوال ما دام التكليف موجوداً، أما إذا ارتفع التكليف فسيختلف الأمر. وهذا ما يشاهده الإخوة أحياناً من الاختلاف في كيفية سرد المسائل وعرض المطالب، وسبب هذا الاختلاف هو اختلاف التكليف الملقى على عاتق الحقير، وأما كيف يمكن أن ألتفت إلى هذا التكليف وأعرف ذلك، فيمكن لكل شخص أن يكون له تكليف وحجة خاصة. لكن بالنسبة إلى الحقير، فقد ذكرت السبب لهذا الاختلاف في بعض الموارد، وأما الكثير من الموارد الأخرى فلم أذكر الوجه فيه.
وعلى كل حال، فما كان إلى الآن هو ما يشاهده الجميع، ولا مانع من إفشاء بعض المسائل، بالحد الذي تسمح به الأخلاق ويجيزه الشرع. وكما يعلم الإخوة والأصدقاء من أن المقصود من هذا الكلام ليس شخصاً معيناً، مهما كان ذلك الشخص، ومن أي شريحة كان؛ سواء كان غريباً، أو من جملة الإخوة، وسواء كان صديقاً أم غير صديق.. فكل من لديه إشكال عليه أن يطرح إشكاله، ولا إشكال في مجرد طرح الإشكال والسؤال، إذ قد يطرأ على ذهن الإنسان مسألة معينة. بل الحقير يعتمد في جلساته في طهران أو في قم على أساس طرح الإشكال، يعني أن الجلسات التي نقيمها في طهران، نتحدث بمقدار نصف ساعة أو ثلاثة أرباع الساعة، ونترك المجال في الأخير للإجابة على الأسئلة؛ مهما كانت هذه الأسئلة، سواء كانت أسئلة شرعية أو غير شرعي؛ كالأسئلة الأخلاقية أو السلوكية أو الاعتقادية.. أما بالنسبة إلى الأسئلة المتعلقة بعض الأحداث الأخرى فلا علاقة لنا بها، فإن الناس يعلمون بذلك، ولا علاقة لنا بها أساساً، والأمر الذي نتحدث فيه هو في حدود الأمور الاعتقادية، ويمكن لكل شخص أن يلتفت إلى الأمور الأخرى ويعلم تكليفه ضمن الحدود التي يفهمها والبصيرة التي لديه، وذلك من خلال الكلام الذي نلقيه. وأنتم ترون هذا الأمر.. فما كان بالعيان لا يحتاج إلى بيان، ولا بد للشتاء أن ينقضي وسيظهر ما تخفيه الثلوج.
عين البصيرة التي ينظر بها ولي الله هي عين الواقع
والآن بدأت المسائل تنجلي أكثر فأكثر.. فالإنسان يسمع أحياناً بعض المسائل، وعند ذلك يلتفت إلى أن كلام أولئك العظماء كان صحيحاً.. فمن يقول بأن كلام أولياء الله لا حجة له، عليه أن يأتي وينظر إلى أنه ـ وبعد مضي هذه المدة الطويلة ـ ترى العديد من الأشخاص يأتون ويعتذرون ويطلبون المسامحة.. هذا هو الأمر الذي كنا نسمعه من أولياء الله في ذلك الزمان. إذ كانوا يقولون لنا في ذلك الزمان: اجلسوا في منازلكم! ولا تتحركوا من مكانكم! وغيرها من الأمور.. في ذلك الزمان كان أغلب الأشخاص يقومون ببعض الأمور ويرون بعض المطالب على أنها واجب شرعي! هل التفتم؟ وكانوا يرون حرمة عدم القيام ببعض الأمور.. لكن الأولياء كانوا يقولون لنا اجلسوا في منازلكم ولا تتحركوا.. وبعد مضي هذا الوقت الطويل ظهرت الأمور، وشرع الآخرون بالاعتذار.. ما هذا؟ هذه هي البصيرة! فولي الله عنده بصيرة، بينما أنا لا أملك تلك البصيرة. ولي الله عينه الباطنية مفتوحة يرى فيها حقيقة الأمور، بينما عيني مغمضة، فهو يرى ما لا أراه أنا.. فذاك الذي عينه مبصرة يقول لي: اجلس في منزلك ولا تتحرك! ذاك هو الذي يبصر. ذاك الذي أشار بعصاه ـ عندما كنا خارجين من المسجد معاً في عصر الشاه ـ إلى صحيفة كانت معروضة عند بائع الصحف، وقال: صورة من هذه؟ وكانت صورة بني صدر.. الذي فرّ بصورة عجيبة... فقلت له صورة رجل يقال له بني صدر، وهو من الرجال المقربين من السيد الخميني، وكان هو الرابط بينه وبين بعض الأشخاص، فحرّك رأسه وقال: سيأتي يوم ينزل بواسطته بلاء كبير على هذه الأمة لا يمكن تداركه! والله وبالله لقد سمعت هذا الكلام منه!! كلام من هذا؟ هذا كلام الذي عين قلبه مفتوحة. في ذلك الوقت كان الجميع يقولون كل شيء، وكانوا يعينون لنا التكاليف؛ فهذا يقول هذا الفعل حرام، وذاك يقول: هذا واجب وذاك مستحب، وكل شخص يقوم بتعيين تكليف بالشكل الذي يراه، أما نحن فقد اعتمدنا على هذا الرجل، وسمعنا منه وأطعناه. لكن كان بعض الإخوة يعترضون عليه ويقولون له: فعلك خطأ وأنت مشتبه في هذا الأمر.. وكان هؤلاء من نفس الإخوة المرتبطين بالعلامة.. وإن كان بعضهم يعترض علانية، وبعضهم الآخر يعترض بلسان حاله وفي قلبه..
في يوم من الأيام قال لي: لقد حصل يوماً أمر ـ وهذا الذي أذكره إنما هو بعنوان مقدمة للكلام ـ في هذا الأمر جرى امتحان لجميع الناس.. طبعاً الدرجات تختلف في ذلك، وقال: الذين قُبلوا في هذا الامتحان بعض الأشخاص فقط، وأشار بيده (يعني بعدد أصابع اليد)، فأولئك الذين كانوا يعرفون الوالد منذ ثلاثين عاماً، بعضهم أكمل في هذا الامتحان.. فالإكمال يبدأ من علامة عشرة من عشرين إلى ما دون.. فبعضهم نال درجة عشرة وبعضهم تسعة.. وذلك بحسب التشكيك الذي حصل في قلبهم.. وبعضهم نال سبعة.. وبعضهم نال صفر، والصفر يكون قد انتهى الأمر ورسب وانتقل بشكل كلي، وبالفعل فقد انتقل بعضهم ورحلوا وترخّصوا.. وكان أعداد هؤلاء كثير.. إنهم من عباد الله المرخصين (ضحك) طبعاً هذه ليست آية..
في أحد الأيام سألني المرحوم العلامة عن حالتي، فقلت له: إنا من عباد الله المرخصين، فقال ممازحاً: متى زلت هذه الآية؟ قلت بالأمس! عندما كنت أفكر في أحوال نفسي، فرأيت أنها تنطبق على هذه الحالة. فقال: كلاً! بل إن شاء الله من عباد الله المخلصين، فقلت له إن شاء الله بدعائكم تتبدل هذه الراء إلى لام وتتقدم قليلاً من مكانها.. فهؤلاء ترخّصوا وصاروا من المرخصين..
قال لي أحد الأصدقاء في ذلك الوقت، وقد أتى إلى منزلي وكان من الأصدقاء الحميمين، لكنه لم يكن مطلعاً، بل كان رجلاً عادياً.. فقال في ذلك اليوم السابع عشر من شهريور الذي حصلت فيه تلك الفاجعة الكبرى، وقتل الناس فيه في مجزرة مروعة.. قال: كنت في منزلي، وإذا بصوت الناس يعلو، ويطلقون الشعارات ويكبّرون... فقلت في نفسي: لقد أوصانا السيد بعدم التظاهر والتحرك.. إلى متى علينا أن نبقى كذلك جالسين في منزلنا؟ إلى متى سنبقى بدون أن نقدم المساعدة لهؤلاء الناس؟ وبدون أن نبرز وجودنا ودعمنا لهم؟ فعلينا أن نكون كهؤلاء الناس الذين يعرّضون أنفسهم للخطر.. وواقعاً كانوا كذلك، وكانوا يقومون بهذه الأمور بناء على فهمهم وتكليفهم، وكانوا يعتمدون على ما يسمعونه من كلام العلماء وحثّهم على القيام بذلك، وبناء على الأحكام التي كانت تصلهم، ولا شك في أنهم مأجورون عند الله على هذه الأفعال..
ثواب الأعمال بمقدار الإخلاص والانقياد
لكن لا يوجد اثنان مثل بعضهما البعض، فكل شخص له ملفه الخاص به، فحتى لو كان اثنان معاً في مكان، وقاما بنفس الفعل.. أحدهما يذهب إلى الجنة، والآخر يلقى على وجهه في النار.. مع أنهما قاما بنفس الفعل.. الأول ينتقل إلى الجنة، والآخر يكون شهيد الحمار، ويؤخذ إلى جهنم، ويقال له: أنت لم تأت لمحاربة الكفار والذبّ عن رسول الله، بل قاتلت ذاك الكافر لتأخذ حماره الجميل، وتغنم منه، فأنت تقاتل لأخذ الغنيمة..
أولئك الذين وضعهم رسول الله على جبل أحد، ولم يمتثلوا أمره.. هل أتوا لمقاتلة الكفار؟ هل أتوا لإطاعة رسول الله؟ وهل أتوا للدفاع عن دين النبي؟ أو أنهم أتوا وقاتلوا لإشباع بطنهم؟ عندما قال لهم النبي لا تتركوا تلك التلة قرب جبل أحد ـ إن شاء الله يرزق الجميع الذهاب إلى هناك لمشاهدة تلك الهضبة التي جعل عليها النبي خمسين من أمهر الرماة ـ وأمرهم بالمحافظة على ظهر المسلمين، وعدم ترك المكان إلى أن يأمرهم النبي، لكنهم عندما شاهدوا أن المشركين انهزموا أمام المسلمين، أسرعوا بالنزول لأخذ نصيبهم من الغنائم، باعتبار أن المقدار الذي يبقى من العتاد في ساحة الحرب يكون لمن يأخذه، وهذه غير الغنائم العامة التي ينبغي أن توزّع بإجازة النبي والإمام على المسلمين جميعاً.. وهي التي يطلق عليها السَلَب، وهي عبارة عن السيف والمركب وما يكون مع المقتول من الذهب والفضة، فإن السلب مختص بالقاتل؛ لأنه هو الذي عرّض نفسه للخطر، ولقاء هذه المجاهدة وتعريض النفس للخطر يعطى هذه الأمور، وهذا من جملة حقوقه.. فقال هؤلاء فيما بينهم، علينا أن نلحق ونأخذ سهمنا من الغنائم.. أنظروا أيها الإخوة.. هذا هو مقدار اعتقاد الناس بالنبي، يعني أنهم مقابل قطعة ذهب تركوا العمل بكلام النبي.. مقابل فرس.. مقابل خوذة أو درع تركوا العمل بأمر النبي ونزلوا، وحصل ما حصل من جناية في معركة أحد، تلك الجناية العظيمة التي نزلت على رأس النبي، وعلى رأس أمير المؤمنين، وعلى سائر المسلمين في معركة أحد.. والتي كانت معركة عجيبة، حيث حصل فيها مجزرة مروعة، واستشهد فيها العديد من أصحاب النبي.. الجميع نزل وبقي أحد عشر رجلاً في أماكنهم، وقالوا: إن النبي أمرنا أن نبقى هنا، فسنبقى ولو قطعت أشلاؤنا، وما دام لم يأتنا أمر بالنزول فلن ننزل. وحتى الآن لم نر النبي ليأمرنا بذلك، فنحن باقون هنا. وعندما شاهد خالد بن الوليد ذلك أتى مع خمسائة فارس والتفّ على المسلمين وقتل هؤلاء جميعاً، وفعل ما فعل، كما ذكر في التاريخ.. هؤلاء الأحد عشر رجلاً مضوا مباشرة إلى الجنة.. وهنيئاً لهم، إذ أنهم دخلوا الجنة بدون حساب وكتاب، أما أولئك الذين نزلوا لأخذ الغنيمة فقد قتل أكثرهم أيضاً، لكنهم ذهبوا إلى جهنم.. لماذا؟ لأنهم نزلوا لأخذ الغنيمة.. فأتاهم خالد بن الوليد من ورائهم.. قائلاً: أتيتم لأجل الغنيمة؟ إذاً كلوا! وكان هو مأمور الله أيضاً.. لا ينبغي أن نظن بأن خالداً ليس مأموراً.. فالله تعالى لديه الكثير من المأمورين.. لديه مأمور ظالم، ومأمور مظلوم.. أليس لدينا رواية أن «الظالم سيفي، أنتقم به وأنتقم منه» وقد شاهدنا الكثير من هذه المسائل في التاريخ.. وفي البلاد.. الآن أنظروا إلى هنا وهناك، ماذا ترون؟ ترون أن الله تعالى يأتي إلى الواحد تلو الآخر.. والظاهر أن الله قد أخرج سيفه، وبدأ يتهاوى إثر ذلك الديكتاتوريون والظالمون والحكام.. يأتي ويقول له: تفضّل لقد وصلت النوبة إليك..
المشيئة الإلهية قاهرة على الجميع
نرى أن ما جرى لصدام هو من الأمور العجيبة، واقعاً كانت مجريات عجيبة، فقد شاهدنا بأم أعيننا تقدير الله ومشيئته، فعندما اقتضت مشيئة الله أن تنزل، فلا تعود الأمور تبحث عن الأسباب، وعن السؤال لماذا وكيف... كم هي الجرائم التي قام بها صدام؟ واقعاً هل يمكن للإنسان أن يأتي بظالم أطغى من صدام؟ كان وحشاً قاسيَ القلب لا دين له، لا يمتلك شيئاً غير الأنانية والفرعونية.. لم يكن لديه رحمة ولا مروة ولا أي شيء آخر.. لكن عندما انتهت مدته وصار من المقرر أن يذهب.. انتهى كل شيء.
كنت أستمع يوماً إلى مندوب العراق في الأمم المتحدة، عندما قال: أنتم تقولون بأن لدينا أسلحة دمار شامل وأسلحة ممنوعة... إذا استطعتم أن تجدوا شيئاً من ذلك، فيمكنكم أن تفعلوا ما شئتم، لكن أثبتوا هذا الأمر أولاً.. إلا أنهم قالوا له لا نعرف هذه الأمور، الذي نعرفه هو أنكم تملكون أسلحة دمار شامل.. هنا شعرت واقعاً أن مشيئة الله نزلت في تغيير هذا النظام.. المسألة ليست مسألة وجود أسلحة دمار أو عدم وجودها، المسألة هي مسألة «أنتقم منه»، فعليه أن يتفضل! كانوا يقولون: لا فائدة من هذا الكلام، بل أنتم تملكون أسلحة، وهو يقول لهم: تعالوا وفتشوا العراق كله، وأرسلوا من تريدون إلى أي مكان شئتم.. فلن تجدوا شيئاً، ومع ذلك يقال له: بل لديكم.. وبعد أن انتهت الأمور، أتى مراسل صحفي وسأله: إلى أين توصلتم؟ فقال له: انتهت اللعبة... جميع هذه الأمور كانت لعبة.. وهؤلاء كانوا موحّدين (ضحك) حيث فهموا أن تقدير الله تعلق في أن يذهب هذا الرجل.. هذه من الأمور التي تعلّمنا الكثير.. إذ علينا أن نركّز أكثر على هذه الأمور.. وعلينا أن نعتبر من مصير الظالمين.. من كان يصدّق أن صدام سيذهب، أنا لم أكن أصدق ذلك.. فهل كان لشخص أن يتصور أن يذهب هذا الرجل؟ لكن عندما يأتي التقدير الإلهي، لا يعود مجال لهذا الكلام أبداً.. لو كان هناك من هو أكبر من صدام بألف مرة، ولو كان موثقاً إلى الأرض بآلاف الأوتاد والمثبتات.. فسوف يطير عندما تأتي المشيئة وكأنه ريشة أو قشة تبن في مهب الرياح.. حيث إنك لا تشعر به إلا وهو قد رحل، ويأتي آخرون.. وهكذا. فمشيئة الله تعلقت في أن تطهر الأرض من وجود هؤلاء المستكبرين، هذه هي المسألة.. هي أن تطهر الأرض من وجود الظالمين، ومن وجود الطغاة.. فالناس بدأوا يفهمون ويشعرون بما يجري.. ذاك الأخ الذي كان من أعز أصدقائنا، وكان إلى جانب ولي الله، وحضر لسنوات عديدة في محضر أولياء الله، والتقى بالسيد الحداد، وكان يتردد لسنوات عديدة إلى مسجد ولي الله، ويستمع إلى كلامه.. قال: لماذا أمرنا ولي الله أن لا نشارك في هذه المظاهرات؟ أليس من الواجب أن نقدم العون للدين والمساعدة للناس؟ هؤلاء الذين يذهبون وينادون بأعلى أصواتهم بالتكبير وسائر الشعارات.. قال: لقد أحسست بتكليف شرعي... نستجير بالله من هذا الإحساس بالتكليف.. إذ كل شخص عامي يأتي ويقول: أشعر بالتكليف هنا.. كلا! بل تكليفك يجب أن يحدّد من قبل شخص خبير، وبعد ذلك تذهب للعمل به، لا أنك تكون في الواقع في بداية الطريق، وكالصوص الذي خرج لتوّه من البيضة، تأتي وتقول لقد شعرت بالتكليف أن أقوم وأتحرك مع هؤلاء وأشاركهم في فعلهم.
لكني من جهة قلت إن ولي الله لم يأمرني بهذا الفعل، فإذا قمت به وحصل بعض المسائل وكذا وكذا.. فألقي في قلبه الخوف مما سيصير به، إذ لم يعطِ دستوراً لهذه الأمور، بل أعطى دستوراً بالجلوس في المنزل. ومن جهة أخرى كنت أشعر بوجود تكليف.. فنزلت وشاركت الناس لمدة عشرة دقائق، إلى أن ارتاحت نفسي بذلك، وعدت بعدها إلى المنزل، حتى لا يحصل خطر لا أستطيع أن أجيب عليه أستاذي.. لقد شاركت حتى ارتاحت نفسي، وطردت عن نفسي تلك الأوهام والتجاذبات التي كانت تأخذها يميناً وشمالاً بهذه الدقائق العشرة.
عندما قال لي ذلك، أجبته بجواب لن أذكره لكم. لكنه تعجب كثيراً من جرأتي في الكلام وعدم خوفي، حيث قلت له فيما قلت: لو فرضنا أنه حصل لك شيء في هذه الحالة، فماذا سيكون مصيرك؟ وقد تعجب كثيراً من ذلك.. وبعد مضي سنوات على هذه الحادثة، والحال أن الأمور لا تبقى كما هي، بل تتحول المسائل ويرى الإنسان أموراً جديدة مختلفة، ويشاهد مطالب أخرى.. أتى يوماً إليّ وقال: يا فلان! جزاك الله خيراً، لو لم تتحدث إليّ في ذلك اليوم بذاك الكلام لهلكت.. الآن التفت إلى صحة ذلك الكلام واقتنعت به.. وكان قد جرى له أمر عندما تحدث معي، وقال لقد نجيتني بكلامك هذا ولفت نظري.. فما أكثر العجيج وأقل الحجيج، انظر! فما دمت الآن بجانب ولي الله، وكان لديك إحساس بأن تكليفك هو القيام بهذا الأمر، ومنعك ولي الله من القيام بهذا التكليف الذي تعتبره تكليفاً.. وعلى هذا الأساس قمت بالمشاركة لمدة عشرة دقائق كي ترتاح نفسك، لكن ولي الله لن يعاتبك مباشرة على هذا العمل، بل يترك الأمور إلى ما بعد سنة أو سنتين أو عشر سنوات.. بعد ذلك عندها تلتفت إلى أن تكليفك الذي شخصته كان اشتباهاً.. هذا الفعل فعل ولي الله، حيث قمت بأمر خاطئ، لكن تنبّهك إليه يحتاج إلى مرور زمان.. بحاجة إلى تبدل أحوالك، وتغيرها، وبحاجة إلى أن ترى بعينك أموراً لا تستطيع أن تقبل بها، بحاجة إلى هذه الأمور.. إذاً عندما قال لنا اجلس في منزلك، كان هو المحق في ذلك. وذاك كان الصحيح.
دراسة مسألة أفعال ولي الله على أساس البيان العلمي
ذكرنا في الجزء الثاني من كتاب «أسرار الملكوت» مطالب ترتبط بولي الله، وبالرغم من أن حقيقة المسألة أعلى بكثير مما ذكرناه، وأن ما كتبناه لم يكن جميع المطلب، لكن على كل حال، ذكرنا ما يقتضيه ظرفية المخاطب وسعة إدراك أهل البصر والبصيرة. وهذا المقدار كان بالنسبة إلى البعض أمراً كبيراً جداً.. وموجباً للاعتراض ومورداً للنقد؛ سواء من المقربين أو من غيرهم.. والقول بأنه من غير المعلوم كون هذه المطالب منطبقة مع الموازين، وأنه يوجد في هذه المطالب مبالغة وإفراط، وأنه يوجد في هذه المسائل إبهامات تحتاج إلى توضيحات.. وبطبيعة الحال، هناك بعض الإبهامات التي تحتاج إلى توضيح، وكان الحقير على استعداد لبيان هذه المطالب في ذلك الوقت، وأنا الآن في صدد توضيحها.. إذ سنعمل في هذه الليالي والليالي اللاحقة على بيان هذه المطالب والمطالب الأخرى التي تحتاج إلى توضيح، كي تتضح الأمور بشكل كامل. وإن كنا قد وضحنا بعض تلك المطالب في كتاب «أفق وحي»، وبعضها ذكر في هوامش كتاب «مطلع أنوار»، ما جعل المسائل أوضح بعض الشيء.. لكن على كل حال، يبقى هناك مجال للسؤال، ونحن نحاول ـ ما دام التوفيق الإلهي والمشيئة الإلهية مستمرّة ـ أن نذكر توضيح ذلك، ونكتب مقالة فيها. وما نبينه لدينا يقين فيه وقطع، وما أذكره للإخوة في هذه الليالي إن شاء الله، لا شك لديّ في أي كلمة منها. فإن كانت خطأ، فذلك خارج عن دائرة اختيار الحقير، إذ من الممكن أن أشك في أن الآن نهار ليس ليلاً، ولكن لدي قطع بأن الآن هو ليل، وكما أنه لدي قطع بأن الآن هو ليل لا نهار، فكذلك لدي قطع بالأمور التي أذكرها لكم، وهذه المطالب مطالب علمية.. لن نتحدث في هذه الليالي عن مسائل شهودية، أو عن مسائل سمعناها من العظماء والأولياء، أو عن مسائل قد تكون مبنية على أساس حسن الظن.. بل ما سنذكره يعتمد فقط وفقط على أساس المطالب العلمية والتي لدينا قطع بها. وعلى جميع الإخوة الذين يستمعون إلى هذه المطالب أن يتعاملوا معها من منطلق علمي محض، لا من منطلق رأي المكتلم؛ سواء كان الحقير أو أي شخص آخر. إذ قد أكون مشتبهاً في ذلك، ولعلي أكون مخطئاً في ترتيب المقدمات والأدلة، «وما أبرّئ نفسي» عن الخطأ والزلل، والمبرّأ عن الخطأ والزلل هو خصوص الإمام المعصوم عليه السلام والولي المتصل به.. نعم سوف نوضح مسألة الخطأ بالنسبة إلى الولي، وأنه لأي جهة صدر منه ذلك، إذ يمكن أن يخطئ أحياناً. لكن المراد هو الخطأ في الفهم والخطأ في التشخيص.. فهذه الأمور غير موجودة في الولي، كما أنها منتفية عن الإمام المعصوم عليه السلام.
الحاجة إلى الشرع والنبي والإمام هي العقل الناقص عند البشر
في الوهلة الأولى علينا أن نعلم ما هو الشرع، ولماذا نحن بحاجة إلى الشرع؟ أصل مباحثنا هو السؤال لماذا نتحاج إلى الشرع؟ ألا يكفي العقل الذي أعطانا إياه الله تعالى؟!
اليوم يقال بأنه على كل إنسان أن يعمل على مقتضى فهمه وعقله، ولا يمكن لأحد أن يلزم أحداً في القيام بأي شيء. بل يعمل على أساس فهمه، وعلى أساس عقله. حسناً هذا رأي، ولكن هذا الرأي رأي سخيف ومردود؛ باعتبار أنه من المشخص أننا نرى ـ من الناحية العلمية والتجريبية ـ أن الأشخاص عقولهم لم تصل إلى مرحلة العقل الكامل، بل عقل الأشخاص في تشخيص المطالب قد يخطئ، وفي بعض الموارد قد يصيب. كما هو الحال في الأطفال، حيث لا يمكننا أن نوكل أمر الأطفال إلى أنفسهم، والحال أن الأطفال قد يستشكلون علينا ويقولون: نحن مختارون في القيام بأي عمل بناء على تشخيصنا. فهل كل ما يقوله الطفل تقبل به؟ طبعاً هذا الأمر منتفٍ؛ لأن عقل الطفل في خمس سنوات أو سبع سنوات لا يمكنه أن يدرك المصالح والمفاسد، إذ لا بصيرة له، لذا قد يحكم على المفاسد بأنها مصالح، وعلى المصالح بأنها مفاسد، ويلزم الآخرين بذلك.. كأن يكون مريضاً ومع ذلك يطلب أكل البوظة، والحال أنه لا ينبغي أن يأكلها، لأنه إذا أكل هذه الأمور سوف يزداد مرضه ويقضي عليه حتماً. أو أن يقول أريد أن أفعل هذا الأمر في البرد.. أو القيام بسائر الأعمال غير العقلائية التي يطلبها الأطفال أحياناً. بل قد تكون المسألة من الناحية الحقوقية والجزائية مورد مؤاخذة أيضاً, فإذا فرضنا أن ولياً ترك طفله للقيام بأي عمل، فإن المحكمة ستحكم على الولي عندئذٍ. وكذا من الناحية الشرعية، إذا ترك الولي الطفل يفعل ما يشاء، وحصل له خطر، يكون الولي هو المسؤول؛ سواء فيما يرتبط بالدية أو التعزير أو غيرها.. وكذا الحال بالنسبة إلى المجنون.. وقد طرحت هذه المسائل في الشرع والفقه، لماذا؟ لأن الطفل ليس لديه عقل، ليس لديه قدرة على التشخيص.. وعندما لا يكون لديه قدرة على التشخيص يكون بمثابة المال الذي لا اختيار له فيه. فكما أن حفظ المال واجب على الإنسان، كذلك يجب حفظ الولد من المخاطر والمفاسد. ولو قصّر في ذلك، فسوف يحاسب على تقصيره. هذه المسألة تتقدم مع تقدم الطفل عندما يكبر، حيث يزيد فهمه وإدراكه بالنسبة إلى المسائل. وهذه من الأمور التي نشاهدها، إذ قد نرى أن بعض الأشخاص قد يشتبه في مرحلة متقدّمة من عمره، وقد يخطئ في الأمور والمقدمات التي يستفيد منها في الوصول إلى المطلوب..
هذا بالنسبة إلى الأمور المرتبطة بالأمور الدنيوية، وعليه فنحن نرى أن المجتمعات تستفيد من العقول والأفراد التي تضع القوانين وتشكل مجلساً لوضع القوانين وغيرها من الأمور التي ينبغي أن لا ندخل فيها، وكذا سائر الأمور الاجتماعية، إذ قد يطرح مسألة أولوية الفرد على المجتمع أو أولوية المجتمع على الفرد.. وعلى هذا الأساس، العلة التي جعلتنا بحاجة إلى النبي أو الإمام، إنما هو عدم كفاية عقلنا في إدراك المصالح والمفاسد، وإلا فلا مبرر لإرسال الله النبي.. من يقول: علينا أن نجلس في منزلنا ولا نتحرك أبداً.. بنفس هذا السبب نحن نحتاج إلى نبي، وبنفس هذا السبب نحن بحاجة إلى إمام.. لماذا؟ لأن عقلنا في تلك الظروف يحكم بشكل معين.
ارتكاز بعض الأحكام التي نطلقها على أساس الشائعات والأوهام
لكن هذا الحكم في الواقع يتكون على أساس الشائعات والمسموعات والمرتكزات الذهنية وسائر الجوانب التي تجعلنا نحكم بأمر معين، وقد تكون تلك القضية خطأ من أساسها. إذ قد يكون أصل ذلك الخبر الذي وصلنا باطل من أساسه. وقد حصل ذلك، إذ لدينا الآلاف بل المليارات من الأخبار التي لا أساس لها. كم من خوارق العادة التي نقلت عن بعض الأشخاص، وعندما حققنا في ذلك وجدنا أنها لا أساس لها؟ هل أعدّ لكم ذلك؟ كم من المسائل والأخبار سمعناها طوال حياتنا، وعندما تحققنا منها وجدنا أنها لا أصل لها؟ إذ وجدنا أن الشخص الذي حدث بها كان متوهماً ومتخيلاً؟ وكم من الأخبار التي سمعنا بها.. في الآونة الأخيرة ألم نسمع بذلك.. بأن مسألة قد حصلت وأن فلاناً تكلم بهذا الكلام منذ الصغر... ألم تسمعوا بهذه الأمور التي تبعث على الاستهزاء والمسخرة؟!! وصاحبها لا يزال حياً حاضراً، اذهبوا واسألوه.. وعندما خربت الأمور، قال كلا بل المسألة أنه تم رؤية منام.. عجيب صارت المسألة رؤيا.. جيد أنه لم تصل النوبة إلى ادعاء المشاهدة.. هكذا المسألة بهذه السهولة.. ولا زلنا ندور هكذا.. وكأن شيئاً لم يحصل. كم من المطالب التي سمعنا بها، لكن تبين أنه ليس لها أساس من الصحة، ولا أصل لها أبداً. فإذا فرضنا أن شخصاً سريع التصديق ـ وإن كان أكثر الناس الآن لا يرون صورة على وجه القمر والنجوم.. لقد انتهت تلك الأمور ـ لكن لو فرضنا أن شخصاً سريع التصديق وبسيط.. ألا يقبل بذلك؟ حتماً يقبل! ويرتب أثراً عليه.. إذ ترتيب الأثر لا يحصل على خصوص شراء البطيخ والخيار، بل يحصل على المسائل التي فيها تقديم الروح، والتضحية بالنفس وإفناء الحياة.. ألم يكن ذلك؟ لماذا حصل كل ذلك؟ إنما حصل بسبب تلك التصديقات السريعة.. ثم نعلم أن عقولنا جميعاً كانت مشتبهة.. لو لم يكن هناك اشتباه، لما قدم الناس أرواحهم، ولما ضحوا بأنفسهم وأموالهم وممتلكاتهم.. ماذا كانوا سيفعلون؟ كانوا سيجلسون في منازلهم دون حراك.. لهذا السبب نقول بأنه ينبغي أن يأتي النبي، وينبغي أن يكون لدينا إمام دائماً.. لأن عقلنا لا يكفي.. فقد شاهدنا أنه لا يكفي.. ما أقوله لكم لا أذكره من تلقاء نفسي، بل أذكره عن تجربة ومشاهدة للمسائل التي وقعت أمام عيني، ولا تزال تقع وستستمر في الوقوع.. هذه الأمور التي نراها هي السبب الذي جعلنا نقول بأنه عليك أن تضع يدك في يد رجل أكبر منك وأخبر.. يعني يجب أن يكون هناك عقل منفصل بجانب عقلك، يجب أن تشاور خبيراً وبصيراً، حتى لا تقدم أموالك بلا طائل، ولا تتلف نفسك بلا مبرر، ولا توقع نفسك في المفاسد.. وكي لا تبتعد عن مصالحك الواقعية.. هذه الأمور إنما هي لأجل ذلك؛ لأن العقل لا يكفي.. علينا أن ندقق في الأمور، ولا نضيع الحلقات المترابطة فيما بينها.
لماذا نحن بحاجة إلى نبي؟ لو كنا واقعاً من ناحية العقل كاملين.. ما معنى كمال العقل؟ يعني أن يكون لدينا القدرة على تشخيص الصلاح والفساد في أي مرتبة كنا، وفي أي موقعية ومكانة كنا فيها. فلو كنا في الشارع، أن يكون لدينا القدرة على تشخيص مسألة النظر إلى هذا الأمر أو عدم النظر إليه، فإذا شخص العقل الأمر بشكل صحيح، وأمرني بالنظر، كان النظر مفيداً. وإذا كنت في المنزل وأتى شخص، فهل التحدث معه بهذا الأمر مفيد أو مضر؟ العقل يشخص أن التحدث معه بهذا الأمر مفيد، ويكون كذلك. وإذا شخص العقل بأن التحدث ليس مفيداً، كان الأمر كما شخّص.
الحاجة إلى النبي كي ينقل الإنسان إلى الرتب العالية
ماذا يعني كونه مفيداً؟ يعني أنه ينقلنا درجة نحو الأعلى، ويرفع فهمنا درجة، ويقربنا أكثر من الهدف المنشود من الخلقة، وإلا لو كان المراد مجرّد الصلاة وبعد ذلك الجلوس إلى التلفزيون ومشاهدة كرة القدم لمدة ساعتين.. فلن نكون بحاجة إلى نبي عندئذٍ. فلو كانت الحياة عبارة عن تناول الطعام والجلوس إلى التلفزيون ومشاهدة مباراة كرة القدم بين إيرلاندا، وفوليبال واشنطن وباسكتبال أستراليا وما إلى ذلك.. إذا كان الإنسان يريد أن يصرف وقته في هذه الأمور طوال النهار، وأن يتكلم على هذا وعلى ذاك.. فلن نكون بحاجة إلى إمام الزمان، ولا بحاجة إلى نبي ولا بحاجة إلى مرجع تقليد، بل نكتفي بالصلاة والصوم والعمل بما هو مفروض، وبعد ذلك نشغل أنفسنا ببعض المسائل، ثم ننام في الليل. يكفينا أن لا نكذب، والعمل بالمسلمات الدينية.. ولدينا اطلاع كافٍ على هذه الأمور، فلا حاجة إلى إمام الزمان وغيره. لكن إذا كنا نريد أن نرفع من ظرفيتنا وموقعنا، ونخرج من عالم الجهل هذا الذي لا يوجد فيه غير التخيل والتوهم، وأن يحصل لدينا بصيرة بالأمور المجهولة، وأن يحصل لدينا اطلاع على المخفيات، ومعرفة الخلقة وعالم الوجود، وإشراف على مصالحنا الواقعية، وأن نكون مثل أصحاب الأئمة ـ لا أقول مثل الأئمة، إذ الإئمة مقامهم محفوظ وهم أربعة عشر معصوم ـ بل نكون كأصحابهم الخاصين؛ كسلمان والمقداد وعمار وحبيب بن مظاهر، وجابر بن يزيد الجعفي، ومعروف الكرخي وبايزيد البسطامي، وسائر العظماء من أصحاب الأئمة، كمحمد بن مسلم وجابر بن عبد الله الأنصاري، طبعاً هذا ضمن محدودة خاصة.. أولئك الأصحاب الذين نالوا تلك المراتب من الكمال الوجودي بقربهم من الإمام عليه السلام، ووصلوا إلى تلك المرتبة العالية.. فإذا أردنا الوصول إلى تلك المراتب، وفي مرتبة أخرى هناك عظماء آخرون من العلماء والأولياء والعرفاء، ومن الأشخاص البارزين الذين تظهر خصوصياتهم لسائر الناس، وهم يختلفون عن سائر الأشخاص في خصوصياتهم. وقد جربنا ذلك في حياتنا مع هؤلاء، إذ لم نأت من وراء الجبل، بل نحن على اطلاع على جميع الأقسام والفئات.. فقد رأينا جميع الفئات وخبرناهم جميعاً.. فلقد شارك الحقير في مجالس لم أذكرها لأحد حتى الآن، ولا ضرورة لذكرها، لقد شاركت في مجالس من يدعي اطلاعه على علم الغيب في قم وفي مدن أخرى وأماكن أخرى.. أقول لكم ذلك بهذا الإجمال.. جلست مع أفراد لديهم طي الأرض، جلست مع أشخاص كانوا يرتبطون بأرواح أشخاص كانوا منذ آلاف السنين.. فقد رأيت جميع ذلك.. ولم يكونوا هؤلاء من الأشخاص العاديين، بل كانوا أعلى بكثير من الناس.. لذا فأنا لست بلا اطلاع ولم آت من خلف الجبل.. لكن مع ذلك، كل ما رأيته من هؤلاء لا يصل إلى غبار ما شاهدته من العظماء والأولياء.. بل لا يقبل التصور أصلاً.. يعني لا يمكنني أن أضع حداً لمعرفة هؤلاء، وحداً لقدرة هؤلاء وسعتهم الوجودية، وإذا أردت أن أقيس أولئك على الأولياء لكانوا بمثابة القطرة في البحر.. لا قطرة في النهر فقط، بل قطرة في بحر بالنسبة إليهم. لأجل هذه المسألة نحن بحاجة إلى إنسان خبير، وولي إلهي.. فإن كان هذا الولي معصوماً، فهو نور على نور، وإذا لم يكن الإمام المعصوم، فيكون نائبه وهو العارف بالله وولي الله.. وإذا لم يكن هذا ولا ذاك، فماذا ستكون النتيجة؟ ستكون أن يذهب المال وتذهب الروح وجميع الأمور.. فهل لدي تلك القدرة على تشخيص المصلحة التي يمكن لعقلي أن يقوم بها في المواضع المختلفة؟ أبدأ بنفسي ولا أتحدث عن سائر الإخوة، إذ نحن كبعضنا في هذه الأمور بلا أي اختلاف أبداً، أغلبنا في مرحلة علمية واحدة وسطح واحد وضمن حدود واحدة، ولا يوجد بيننا شخص بارز، فإذا قلت هذا الأمر الأمر بالنسبة إلى نفسي، فهذا الحكم يمكن تسريته إلى الجميع.. لا فرق في ذلك، وإذا كنت ترى نفسك مختلفاً عن الجميع، فقل: أنا مختلف عن الجمع؛ أنتم تخطئون، أما أنا فلا أخطئ.. قل ذلك.. لا أسمع اعتراضاً من أحد (ضحك) يمكنك أن تقول نحن لا نخطئ، وهذا الكلام الذي تتحدث به مخصوص بك، ومرتبط بحياتك أنت وتجاربك وعلمك ومعرفتك.. أما نحن فلدينا عقل متصل ومنفصل ولا حاجة لنا إلى إمام ولا نبي ولا ولي إلهي ولا أستاذ.. بل يمكننا أن نشخص جميع المصالح والمفاسد إلى حين موتنا، وفي كل موضع حتى الآن رأينا أن المصلحة فيما كنا قد شخصناه وقمنا به، ولم نشتبه في شيء مما قمنا به إلى الآن.. هل تدّعي مثل هذا الادعاء؟ حتماً لا تدعي ذلك! حسناً إذا كنت لا تدعي هذا الأمر، فالآخرون أيضاً لا يدعون ذلك، بل الكثير من الإخوة الموجودين هنا معرفتهم أفضل من معرفة الآخرين.. وإدراكهم أعلى من إدراك البقية. لكن نقول بأن الجميع في سطح واحد. وبناء على ذلك، عقلنا هذا يريد أن يخلص هذه النفس من التعلقات، لا أن يجعلنا كمسلم ظاهري فقط.. أن نكون كسائر المسلمين السنة مثلاً، فهل الإسلام الذي عند أهل السنة يحتاج إلى إمام الزمان؟ كلا! لا يحتاج إلى إمام الزمان، وأساساً هل لديهم إمام زمان؟! الآن في المسجد الحرام يصلون صلاة التراويح، وترى أعداداً غفيرة من الناس يصلون صلاة التراويح، تراهم يصلون صلاة التراويح المحرمة.. يفعلون حراماً؛ لأن صلاة التراويح بناء على سنة النبي ينبغي أن تكون فرادى لا جماعة.. صلاة التراويح جماعة حرام، وهم يقومون بها.. فهل هم بحاجة إلى إمام الزمان؟ كلا! بل لا حاجة لإمام الزمان بهؤلاء، بل يقول لأحدهم اذهب وصل إلى الحد الذي ينقسم ظهرك إلى قسمين.. وبدلاً من قراءة جزء واحد من القرآن اقرأ ثلاثين جزءاً منه.. لن ينفع ذلك.. لماذا؟ لأنك تقرأ القرآن خلافاً لسنة رسول الله، وأنت تفعل ذلك وتخالف السنة عمداً. لقد تحدثت إلى بعضهم في هذا الموضوع، وأقروا بأن هذا العمل مخالف لسنة النبي، وما يقام هو مخالفة عمدية، وكانوا يغتمون لهذه النتيجة.. ومع ذلك يصلون هذه الصلاة. لذا كان هذا الأمر مورد تعجب عندي.. إذ أنت حينما تأتي وتصلي وتجعل الناس يأتمون بك ـ وإن كان الناس الجاهلين مستضعفين في ذلك ـ أنت عندما تصلّي هذه الصلاة وتعلم بأنها مخالفة.. ما هذا الاحتيال؟! أي شيء هذا؟! أنت تعلم بأن هذا الأمر مخالف لسنّة النبي، وتعلم بأن هذه الصلاة إنما شرّعت بحالة الفرادى لا جماعة، وأنت تعلم بأن النهي عن العبادات موجب لبطلانها، أما في المعاملات فهناك آراء أخرى، لكن في العبادات النهي موجب للبطلان، وأنت تعلم ذلك، فكيف تقف وتصلي وتقرأ بصوت جميل، وتأنس بأن جميع الناس في العالم يسمعون صوتك بشكل مباشر.. واقعاً يتعجب الإنسان من هذا الفعل. فهذه الصلاة لا تحتاج إلى إمام الزمان، ولا تحتاج إلى ولي الله، وهذه الصلاة لا تحتاج إلى هادي وخبير.. فإن كان إسلامنا بهذا الشكل؛ بأن نأتي بالصلاة والصوم، فلسنا بحاجة إلى إمام الزمان، ولا يأتي إمام الزمان إلينا أصلاً.. ولو كنا نريد أن نخرج من حد صلاة التراويح ونرتفع قليلاً.. والحال أن لدينا في قلبنا الكثير من أمثال صلاة التراويح.. لكن لا نطلق عليها اسم صلاة التراويح.. إذا أردنا أن نرتفع أكثر من هذا الحد، وأن نعلم مصالحنا الواقعية، وأن نشخص ما هو مضر لنا.. إذا أردنا ذلك، فهل يكفي عقلنا هذا بذلك أم لا؟ التجربة الشخصية للحقير ـ الذي هو ابن ولي الله ـ وكنت على علاقة به لسنوات متمادية.. إن تجربتي الشخصية ـ مع اطلاعي بعض الشيء على المطالب الحوزوي بالحد الأدنى ـ أنّه بدون إرشاد من الولي الإلهي لا يمكن لعقلي أن يصل إلى المصالح والمفاسد الواقعية. هذا ما أشخصه بالنسبة إليّ وأقوله بوضوح.. هذا هو إحساسي ووجداني.. هذا ما أدركه وأشعر به، والآخرون كذلك مثلي في هذا الأمر.
العقل الظاهري مهما كمل يبقى بحاجة إلى ولي مرشد
مثلاً يأتي شخص ويخبرك بأمر، فيحمرّ وجهك لذلك، وبعد ذلك يتبين أن الخبر غير صحيح.. أنت لم تكلف نفسك من الأول أن تستخبر صدق الخبر من كذبه.. ومع ذلك تدعي بأنك لست بحاجة إلى أستاذ.. يمكن لطفل أن يضحك علينا ويهزأ بنا.. بأمر ظاهر يتغير رأينا بشكل كامل.. ومع ذلك نقول بأننا لسنا بحاجة إلى هادي وإلى مرشد وإلى عقل منفصل، وأن عقلنا كامل، ما هذا الكلام؟! البشر هذه الأيام لا يحتاجون إلى مرشد، بل يستطيعون أن يشخصوا مصالحهم بأنفسهم دون الرجوع إلى الغير.. نعم لقد شاهدنا عدم احتياجهم إلى مرشد، انظروا إلى مظاهرات كذا، وبعد ذلك نعرف بأن الإنسان في هذا العصر ليس بحاجة إلى مرشد، وانظروا إلى الأعمال التي تقام هنا وهناك؛ سواء هنا أو غير هنا، وسواء الأفراد أو الدول.. ولاحظوا أعمالهم وتصرفاتهم وأماكنهم ومجالسهم العامة واجتماعاتهم.. كي نقف على عقلهم الكامل.. ما شاء الله على هذا العقل.. مائة رحمة على عقل الحمار، الذي على الأقل إذا وضع على ظهره سرج يحافظ عليه من السقوط، مائة رحمة على الحمار.. مع ذلك نقول لسنا بحاجة، وأن عقل الإنسان اليوم كامل.. نقوم بكل أنواع الجنايات تحت عنوان المصلحة، ونقترف جميع أنواع المحرمات تحت عنوان المصلحة.. ونرتكب الكذب والخيانة تحت عنوان المصلحة.. هذا هو عقلنا. لهذا السبب أرسل الله تعالى إلينا النبي.. فضلاً عن المسائل المستقبلية التي لا اطلاع لنا عليها ولا يمكننا الاطلاع عليها.. بل نتحدث عن المطالب التي تقع أمام أعيننا دون أن نفهمها.. أما المطالب التي ستقع في المستقبل والتي ترتبط بنا، فهل يستطيع عقلنا أن يشرف عليها؟ لا يستطيع هذا العقل أن يعرف ماذا يوجد خلف هذا الجدار.. هل يفهم ذلك؟ لو فرضنا أنك أعقل العقلاء، وجميع عقول البشر ـ ستة مليارات نسمة ـ جمعت في عقلك، فهل يمكنك أن تدرك من يوجد خلف الباب؟ هذا إذا جمعنا عقول الناس جميعاً في عقلك. إذا كان لديك عقل جميع الناس ـ المراد به العقل الظاهر لا عقول الأشخاص الذين وصلوا إلى مراتب ـ فهل يمكنك أن تخبر من يوجد خلف الباب؟ هل هو صديقك أو عدوك؟ لا يمكنك الإجابة مع أنه أمر ظاهر وحاضر.. أما السؤال عن ما سيجري في الأسبوع القادم وبعد شهر.. وما الذي يحيكه الآخرون لك.. وغيرها.. أي عقل من عقولنا يمكنه أن يصل إلى ذلك؟ النتيجة هي صفر.
أما ولي الله فيقول لا تفعل! فذاك الذي يرى هو عقلي لا عقلك، يقول افعل.. اذهب.. قم بهذا العمل.. لا تذهب إلى المكان الفلاني.. لا تقم بهذا العمل.. هذه الأمور جميعاً أعلى من العقل الترابي الذي نمتلكه نحن، هذه الخلايا العقلية الترابية لا يمكنها أن تدرك هذه الأمور.
حسناً! لأجل هذه المسألة وهذه القضية أرسل الله النبي، وإلا فلو كان المفترض أن يقوم الناس بهذه الأعمال العادية والظاهرية.. فلن يكونوا بحاجة إلى نبي، بل يجلس الناس بعضهم إلى بعض ويتحاورون في المجلس ويضعون قانوناً لهم، وإذا اكتشفوا وجود خلل في تشريعهم يصلحونه.
إذاً مجيء الأنبياء والأئمة عليهم السلام، ومجيء الأولياء الإلهيين إنما هو لتكامل النفس ونقلها من مرتبة الجهل إلى مرتبة المعرفة.. لأجل هذا. نعم في هذه الظروف يحصل الكثير من المطالب الأخرى؛ كالضرر الدنيوي، والضرر الأخروي أما الأساس في هذه المسألة هي أنه: {لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَ أَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَ الْميزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ}، الغاية هي ليقوم الناس بالقسط والاعتدال؛ بأن يكون لهم في كل مسألة اعتدال، في المسائل الاجتماعية ما هو الاعتدال، في المسائل الشخصية ما هو الاعتدال، في المسائل العبادية ما هو الاعتدال؟ هل الاعتدال في العبادة أن تقف للصلاة من الصباح إلى المساء؟ كلا ليس كذلك.. هل الاعتدال في العبادة هي أن تجلس لقراءة القرآن من الصباح إلى المساء؟ كلا.. هل الاعتدال في العبادة أن تصوم طوال أيام السنة؟ كلا.. هل الاعتدال في العبادة هي أن تترك المنزل وتعتزل في غار وتترهب هناك؟ كلا.. بل المراد الاعتدال والقسط في كل قضية.. المراد الاعتدال مع الرفيق والأخ، والاعتدال مع المجتمع.. الاعتدال مع الزوجة والأولاد، ومع الصديق والعدو، والاعتدال في العلاقة مع الله.. الأنبياء أتوا لأجل هذا.. وعليه فمسألة مجيء الأنبياء ـ وسنكمل البحث في الليلة القادمة إذا وفقنا الله ـ لتحديد مسألة القسط، وبيان مسألة النور ما هي وأي موقعية لها في هذه المسألة، وأن مسألة مجيء الأنبياء وتشريع الشرائع الإلهية إنما هو لأجل أن ينتقل الإنسان من مرتبة الجهل إلى مرتبة المعرفة.
اللهم صل على محمد وآل محمد.