المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني
القسمعنوان البصري
المجموعةالطعام و التغذية
التوضيح
وهي محاضرة من سلسلة محاضرات شرح حديث عنوان البصري، ألقاها سماحة آية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني قدس سره ليلة الثامن عشر من شهر جمادى الثاني لعام 1432 هـ، وتعرض فيها إلى أهمّية أجواء الصفاء الاجتماعي للسالك بصورة عامّة وخصوصاً للاستفادة من الأشهر الثلاثة المباركة رجب وشعبان ورمضان، فبيّن أن التسبّب بالأذى للآخرين يمنع من الاستفادة من النفحات الإلهيّة في الأيام والأماكن والأفراد. وتضمّنت المحاضرة العديد من الوصايا في رفع ما يكدّر الصفو ويفسد العلاقات. فأشار إلى ضرورة التأمّل في حقائق الأفعال وعدم الاكتفاء بظواهرها، وإلى فهم حقيقة الولاية وواقعيّتها كمحرّك أساس لتقدّمنا، موضحاً أنّ الاختلاف في الرأي مسألة طبيعيّة اجتماعيّاً ولا ينبغي أن تفسِد الودّ، وأنّ المعيار في قبول الأفكار وردّها هو الدليل والبرهان لا القائل بها، كما أوصى بضرورة التغاضي عن اختلافاتنا مع الآخرين كما نتغاضى عن اختلافاتنا مع أزواجنا، ونقل وصيّة الأولياء للسالكين في ضرورة جبران الأخطاء خاصةً قبل دخول شهر رجب، ثمّ بيّن مواطن النفحات التي ينبغي التعرّض لها وكيفيّة الإفادة منها؛ فأكد على أنّ مطالعة كتب الأولياء هي نوع من اللقاء بهم، وأنّ اللقاء الخاصّ والحضوري بالإمام ليس هو المهم، بل المهم هو الاتبّاع والفهم لأنّ الولاية ملأت أركان كلّ الوجود. وفي ختام المحاضرة تعرّض لبعض التوصيات المهمّة لشهر رجب من قبيل: استحباب الصيام وزيارة القبور والمشاهد المشرّفة وصلة الرحم و زيادة المراقبة وقراءة القرآن و الأدعية الخاصّة بالشهر
هو العليم
أهميّة الصفاء الاجتماعي في السير والسلوك
شرح حديث عنوان البصريّ - المحاضرة ۱۸٩
ألقاها
آية الله الحاجّ السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ
قدس الله سره
أعوذ باللـه من الشيطان الرجيم
بسم اللـه الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين
والصلاة والسلام على سيّدنا ونبيّنا أبي القاسم محمد
وعلى آله الطيبين الطاهرين
واللعنة على أعدائهم أجمعين
نبذة عن المواضيع المطروحة في المحاضرة السابقة
كان الكلام في بيانات الإمام الصادق عليه السلام في الحديث الشريف لعنوان البصري، وكان الكلام قد وصل إلى كيفيّة التغذية، وقد بينّا أنّ مسألة التغذية هي من المسائل المهمّة المرتبطة بالتكاليف التي ينبغي على الإنسان أن يتعاهدها ليصل إلى الغاية المبتغاة، وأنّ عدم الالتفات إلى هذا الأمر سيستوجب حصول بعض النتائج على الإنسان، والتي من الممكن أن تُوصد الطريق أمامه، وأنْ تُنتج بعض النتائج والأضرار التي لا يمكن تلافيها وجبرانها لاحقاً، وقد عرضنا بمحضر الإخوة بعضاً من هذه الأمور.
وقد بيّنا أنّ الهدف المهمّ من كيفيّة التغذية هو تحضير الإنسان وتحضير النفس والروح وتهيئتها للقيام بالأعمال الأخرى، وإذا لم يلتفت الإنسان إلى هذا الأمر، فإنّه سيتخلَّف عن باقي الأمور الأخرى وستعاق حركته، ففي النهاية يبنغي على الإنسان أن يَطوي هذا الطريق بهذا البدن وبهذه القوى وبهذه الخصوصيّات، وينبغي عليه أن يسير في هذا السبيل.
بعض الوصايا المهمّة تتعلّق بالتغذية في أشهر رجب وشعبان ورمضان
وحيث أنّنا على مشارف شهر رجب المبارك، وكذا الأشهر الثلاثة المباركة: رجب، وشعبان، ورمضان؛ لذا فإنّ العناية بهذه المسألة تحوز مزيداً من الأهميّة، وتستلزم دقّة أعلى:
ينبغي العناية بالغذاء الذي نأكله من ناحية حاجة البدن كمّاً وكيفاً؛ فلا ينبغي أن يكون الطعام موجباً للثقل في الحركة، ولا أن يكون ثقيلاً على المعدة، ولا ينبغي أن يُوجب ضعف البدن أيضاً، فكلا الأمرين خطأ، بل المطلوب هو أن يمكّنه من الاستفادة التامّة والرشد الكامل في مواطن وأوقات الترقّي والاستفادة، وقد ذكرنا العديد من هذه المسائل بمحضر الإخوة والأخلاّء، وقد وصل إلى مسامعنا جميعاً طوال السنوات الماضية المتمادية ما بيّنه الأعاظم سواءٌ في زمن حياتهم أم بعد ارتحالهم، وذلك في الجلسات العديدة والمختلفة التي كانت تقام بمحضر الإخوان، وقد بيّن هذا العبد مرام فيها رؤية هؤلاء العظماء.
وبالطبع، ينبغي في شهر رجب المبارك أن تصبح الدقّة أعلى فيما يتعلّق بهذه المسائل، وينبغي إيجاد حالة الاستعداد اللازمة للسالك، تماماً كما بينّاه سابقاً بمحضر الأصدقاء، حيث ذكرتُ أنّ الحقير كان يشعر ويحسّ بشكل تامّ بأنّ الأعاظم كانوا يترقبّون الأيام التي تسبق أيام شهر رجب المبارك بشكل واضح وجليّ جداً، فكانوا يتكلّمون عن هذا الأمر في أحاديثهم وخطبهم ومواعظهم في مختلف المواطن والأجواء. وعلى كلّ حال، إنّ وظيفة الذين جلسوا على هذه السفرة وأخذوا نصيبهم منها هو أن لا يبخلوا على الآخرين بما وصل إلى أيديهم من المسائل المختلفة.
شروط الاستفادة من الأشهر الثلاثة المباركة: إزالة الغلّ، التفكّر في الوقائع، التقوى وفهم حقيقة الولاية
إذاً ينبغي الالتفات إلى مسألة الغذاء وكيفيّته، ولكن مضافاً إلى ذلك هناك مسائل أخرى تحوز على أهميّة عالية أيضاً؛ ولا زلت أذكر أنّ العلامة رضوان الله عليه كان في جلسة من جلساته التي تحدّث فيها عن مراقبة السالك، فتكلّم في إحدى الليالي لمدّة ساعة كاملة عن رفع الخلاف والكدورة بين الإنسان والآخرين، ورفع التشنّجات والضيق الذي يمكن أن يحصل اتجاه الآخرين، ورفع تلك المسائل التي تبقى راسخة في الأذهان؛ كأن ينزعج الإنسانـ لا سمح الله ـ من الآخر، أو يتعلّق الحقّ الشرعي برقبة فردٍ من الأفراد والعياذ بالله؛ فمن الممكن جداًَ أن لا نلتفتَ إلى أنّ الفعل الذي نقوم به حرامٌ شرعاً، أو فيه إشكال، أو حتّى لو لم يكن حراماً إلاّ أنّه خطأ. وهذا الأمر يُحدث في نفس الإنسان أثراً سلبيّاً كبيراً جداً قد لا يزول.
فعندما يدخل أحد «الميكروبات» إلى جسم الإنسان، لابدّ أن يأخذ حقنةً من المضادات الحيويّة؛ وفي بعض الأحيان لا يكفي أخذ حبّة من الدواء، وعندما تلتهب «الروايا» ينبغي أن تُجرى عمليّةٌ جراحيّةٌ لعلاجها، حيث تصبح المضادات الحيويّة عديمة الفائدة، كما أنّه لو بقي على حاله تلك فتناول حبَّة من الدواء اليوم دون أن يتناولها في اليوم التالي، أو زاد في المقدار يوماً وأنقص منه في اليوم الآخر، عندها سينتشر الالتهاب في جميع الرئة، وسيموت الإنسان.
وهذه المسائل التي نتحدّث عنها هي من هذا القبيل، فلا يصلح العمل فقط بالجلوس وقراءة الأوراد والأذكار وصلاة الليل ... لا لن يصلح الأمر هكذا أبداً ! بل ينبغي على الإنسان أن يرفع ذلك النزاع، فالإنزعاج والضيق الذي نسبّبه للصديق يقف حائلاً أمام صلاتنا، فحتّى لو وقف الإنسان وصلّى خلف رسول الله صلّى الله عليه وآله لن يكون لصلاته أيّة فائدة..!! حتّى لو صلّى خلف الرسول صلّى الله عليه وآله لن يكون هناك أيّة فائدةٍ لصلاته! وكذا لو صلّى خلف إمام الزمان عجّل الله فرجه، لا فائدة؛ فهناك سدٌّ كـ «سدّ الإسكندر» يقف حائلاً بينك وبين الإمام وإن لم تكن ترى ذلك الحائل، بل تعتقد وتتخيّل أنّك ـ ولله الحمد ـ نلت التوفيق؛ فأنت تصلّي خلف إمام الزمان، فأيّ مكان يصلّي فيه الإنسان أفضل من هذا المكان؟
ففي إحدى الزيارات التي وفّقني الله لها وتشرّفت بالذهاب إلى مكّة والمدينة ـ والظاهر أنّها الزيارة السابقة، قبل سنة أو سنتين حين سافرت للعمرةـ كنتُ في إحدى الليالي في مسجد النبيّ صلّى الله عليه وآله، ولم يكن هناك من أحد، فقد كان من عادتي أن أقصده ليلاً فأقضي فيه ساعتين أو ثلاث ساعات حيث يكون خالياً؛ فقد كنّا في شهر رمضان، وفي ساعات الليل يكون عدد الناس قليلاً جداًلا يتجاوز الثلاثين أو العشرين مثلاً ثمّ ومع مرور الوقت يشرعون بالتوافد، ففي إحدى تلك الليالي ذهبت إلى المحراب.. محراب رسول الله صلّى الله عليه وآله، وجلستُ فيه وصليّت لما في ذلك من استحباب، ثمّ جلست أفكّر في نفسي وقلت: هذا المكان الذي أصلّي فيه الآن... أفتخر بأنّي أجلس في مكان كان رسول الله صلّى الله عليه وآله قد وضع رجله فيه قطعاً، فأنا على يقين من ذلك.
وقد كان المرحوم العلامة يقول دائماً: إذا تشرّفتم بزيارة المدينة، فعليكم بالمشي كثيراً في المسجد وفي محيطه، فلا تجلسوا فقط في الغرفة أو المنزل أو الفندق لتشاهدوا التلفاز، وتشاهدوا الأفلام، بل اذهبوا وامشوا في ذلك المحيط وتحرّكوا، فلا شكّ أنّ أربعة عشر معصوماً قد تحرّكوا في الفضاء المحيط بمسجد النبيّ طوال مائتين وسبعين سنة؛ فرسول الله صلّى الله عليه وآله مشى هناك في محيط مسجده عشر سنوات، وكذلك السيّدة فاطمة الزهراء عليها السلام، وهكذا أمير المؤمنين عليه السلام، وجميعهم: الإمام الرضا عليه السلام، وإمام الزمان... كما أنّ منزل إمام الزمان هو في المدينة، وهو هناك يتحرّك ويمشي. وبالتالي عندما تمشون في تلك البقاع فعليكم أن تعلموا أنّ أقدامكم تطأ المكان الذي وطأته أقدامهم قطعاً، فتحسّسوا أحوال ذلك وأجواءه، بدلاً من أن تنظروا إلى الأبنية والأبواب، فلا تنظروا إلى الظواهر والمظاهر؛ لأنّها تشتّت ذهن الإنسان فلا تدعوها تمنعكم عن التوجّه إلى حقيقة الولاية.
هذه من المسائل التي تركوها لنا وحافظوا عليها من أجلنا، فعندما تطأ أقدامهم ذلك المكان، يتمّ تسجيل تلك القدم، ويحصل لذلك أثرٌ، فأقدامهم تختلف عن قدم الحقير وأمثال الحقير؛ فنحن عندما تطأ أقدامنا أرضاً، فلو كان فيها بئر ماءٍ جف، أمّا هم فعند موطئ أقدامهم تحلّ البركة ويحلّ النور، ويحلّ البهاء، ويتعطّر الجو، ويتغيّر كلٌ شيء، عندما يأتي الوليّ ويجلس في مكانٍ من الأماكن فنفسٌ واحدٌ منه يُعطّر الفضاء بأكمله لأهله، وحتّى لأولئك الذين ينبغي أن يستفيدوا من هذا الفيض.
ينقل المرحوم الوالد في كتابه «الروح المجرّد» ـ ذلك الكتاب المفيد والقيّم الذي لا نظير له ـ قصّةً حدثت عندما كان بمحضر أستاذه السيّد هاشم الحدّاد رضوان الله تعالى عليهما، وذلك عندما كانوا في «بهار» الموجودة في همدان، حيث حدثت هناك مسألةٌ عجيبةٌ، وعلى الأصدقاء أن يراجعوا تلك القصّة ويتأمّلوا فيها، لأنّها تمثّل حقيقة المسألة والقضيّة التي ذكرناها، ففي الحقيقة لا يقتصر تأثيرهم على المستقبل فقط بل هم يؤثّر ونفي الماضي أيضاً؛ فالأفعال التي تصدر عن الوليّ تجعل المكان يتنوّر وتضفي عليه روحاً وصفاءً يمتدُّ إلى ما قبل وجوده وحضوره أيضاً. فعندما يذهب الإنسان إلى هناك يحسّ بتلك الأجواء مع أنّ وليّ الله سيأتي في المستقبل إلى ذلك المكان وسيحضر إليه بعد ألف سنة.
وأرض كربلاء تتمتّع بتلك الخصوصيّات فقد كانت تمتلك ذلك الفضاء النيّر حتّى قبل حضور سيّد الشهداء عليه السلام إليها!!لماذا؟ لأنّ سيّد الشهداء عليه السلام سيأتي إلى ذلك المكان، ولأنّ هذه الواقعة ستحدث في تلك البقعة مستقبلاً، وهذه الأسرار ممّا ينبغي على الإنسان أن يصل إليها وجداناً وشهوداً، وهذه المسألة مهمّة للغاية.
حسناً لقد وجدت نفسي في المكان الذي وضع فيه رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قدمه قطعاً، فتأملّت في نفسي وتساءلت: كم يا تُرى أثّرت فيَّ هذه الصلاة التي صلّيتها هنا؟ كم رفعتني؟ كم أعطتني من توجّه؟ فتأمّلت فلم أجد أنّ لذلك بحدّ ذاته أثراً. فمن دون التوجّه إلى حقيقة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فإنّ هذه الصلاة لن تنفعني شيئاً، وغاية ما قمت به هو أنّي وقفت للصلاة في نفس المكان الذي وقف فيه رسول الله. لكن ألم يسبقنا عُمَر في المجيء إلى هذا المكان والصلاة فيه؟! ألم يصلّ أبو بكر في هذا المكان؟! ألم يأت إلى هذا المكان الذين قَطَّعوا بنت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قطعةً قطعةً، فصلّوا فيه أيضاً؟!نعم، هم لم يصلّوا فوق السقف بل كانوا يصلّون في نفس هذا المكان؛ فكم أثرّت فيهم هذه الصلاة؟ كم رفعتهم هذه الصلاة؟ كم أعطتهم هذه الصلاة من الفهم؟ صفر.. صفر.
ألم تروا النتيجة؟! نعم.. لقد رأيناها، ولقد رأيتم كيف نظروا بعين التقدير إلى جميع جهود النبيّ والعناء الذي تجشّمه!! ورأينا كيف شكروا له سعيه!! وكيف التزموا واتبعوا واقتفوا أثره!!۱ نعم!!
وأنا كذلك صلّيتُ حيث صلّوا، غاية الأمر أنّهم جاءوا قبل ألف وأربعمائة سنة!!
نحن لا نلتفت إلى هذه المسألة، فنقول: لقد صلّيت في هذا المكان، لكن في الحقيقة المسألة هي المسألة ولم تختلف ولم تتغيّر؛ فكم تقدّمتُ عن مقامي الذي أنا فيه بذهابي إلى ذاك المكان؟ كم؟ كم أضفتُ إلى معرفتي ومقامي العلميّ والشهوديّ والحسيّ بمجيئي إلى هنا؟..كم أضفت؟.. كم أضافت مجالس العزاء وهذه الجلسات إلى معرفتنا وعلمنا؟ كم أضاف اللّطم على الصدور وإنشاد الشعر إلينا؟ وأمثال ذلك... فهذا لا يضيف إلينا شيئاً ولا يزيدنا.
وما يزيدنا هو البحث والتحقيق في المسألة وفَهْم حقيقة الولاية وواقعيّتها، وترك الشعارات جانباً، والسعي للوصول إلى الحقيقة، مهما بلغت المسألة. هذا ما يرفع الإنسان ويزيده؛ يقول الإمام المجتبى عليه السلام: أوصيكم بالتقوى وبالاستمرار بالتفكّر بأموركم.. اجلسوا وفكّروا.. هل ما أقوم به هو صحيح أم لا؟ فلا نخدع أنفسنا، لا تقل: الآن دع هذا الأمر، أو هذه المسألة ستحلّ بنفسها، وأمثال ذلك... ، هذه الأفكار كلّها خداع للنفس، لا تقل: لا علاقة لي بالأمر،أو ما علاقتي بهذه المسائل؟!فالإمام عليه السلام يقول: فكّروا وتأمّلوا، وقوّموا أوضاعكم وأحوالكم وزِنوها، انظروا وتأمّلوا، وهناك الكثير من المسائل التي تشكّل حائلاً للإنسان.
يقول المرحوم الوالد: أخرجوا من قلوبكم كلّ غلٍّ اتجاه الناس واتجاه الأصدقاء قبل قدوم شهر رجب، ولا تتركوا هذه الأحقاد في القلوب حتّى تتحجّر وحينها لن تتحطّم الصخور حتّى بظهور إمام الزمان عجّل الله تعالى فرجه الشريف، لا لن ترتفع حينها هذه الأحقاد أبداً.
الاختلاف في الرأي لا يُفسِد الودّ
ومن كان لديه بعض الاعتراضات على الآخرين وعلى الأحكام المبنيّة على سلائقهم الخاصّة، فينبغي عليه أن يتأمّل في هذه الأحكام ويُدقّق فيها؛فعندما يقع خلاف في إحدى المواقف، فمن غير المعلوم أن يكون هو المحقّ في الخلاف، فكلّ ما في الرأي المقابل مخالف لرأيي ولنظرتي للأمور. لكن ما الضَيْر في هذا الاختلاف؟! لِماذ نبقي هذه المسائل في قلوبنا؟! لِماذا تؤدّي إلى تغيير علاقاتنا ورؤيتنا وصِلاتنا ببعضنا البعض، فعندما يكون هناك اختلاف في وجهات النظر، فإنّ الاختلاف يعتبر أمراً طبيعيّاً؛لأنّه «ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه» فليس في الرجل الواحد قلبان، بل في كلّ منهم قلبٌ واحدٌ، وطريقة تفكيرٍ واحدةٍ، فتجد طريقة تفكيري أنا وفق هذا النحو، وطريقة تفكيرك أنت على ذاك النحو، لكن لا أنا معصوم ولا أنت معصوم أيضاً، فنحن إذاً متساويان ولا أحد منّا معصوم. فأنا لديّ مجالٌ فكريٌّ معيّن وأنت لديك مجالٌ فكريٌّ آخر.أنت تفهم الموضوع بهذا النحو وأنا أفهمه بنحو آخر.
نعم السؤال: هل ينبغي أن أبرز رأيي وأعبّر عنه أم لا؟ تلك مسألةٌ أخرى.فهل تعتقدون أنّ الحقير يوافق على كلّ ما يقوله الإخوان الذين هم على صلة به؟! لا، أنا لست موافقاً على ما يقال كلّه،ومع ذلك نتحدّث معاً ويمازح بعضنا بعضاً ونتحاور، والحال أنّي لا أوافق على كلمة واحدة من كلماتهم! [يتبسّم سماحة السيّد]
وأين المشكلة في ذلك، فهل لأنّني لا أوافق على كلامه، إذاً ينبغي أن لا أذهب إلى منزله! لا أبداً. فلا يمكن أن يتّخذ الإنسان موقفاً من الآخر فلا يسلّم عليه لأنّه لا يقبل بكلامه وأفكاره فقط، فإن كنت لا تقبل بكلامه فالطرف الآخر أيضاً لا يقبل بكلامك أنت.
في أحد الأيام كنت أتردّد إلى درس أحد العلماء، وكان ذلك منذ زمن بعيد، فجرى الحديث بمسألةٍ من المسائل، وكان هناك مئة فردٍ تقريباً، وكان من بين الحضور فردٌ يدافع عن أحد العلماء ويحامي عنه و ... ولكنّهم في النهاية كانوا مثلنا ففي بعض المسائل هم درسوا أكثر منّا، وفي بعض المسائل نحن درسنا أكثر منهم، والمسألة ليست بالأمر المهمّ بحيث نقول: إنّ الاختلاف كان فاحشاً. فقال: يا سيّد إنّ ما تقوله يخالف ما يقوله جناب السيّد فلان ! وهذه القضيّة تعود إلى عشرين عاماً أو خمسة وعشرين عاماً.
فأجبته (مع وجود المائة طالب هناك): وكلام جنابه يخالف ما أقوله أنا !![يتبسّم سماحة السيّد]
فلا ينبغي أن يقال هذا الكلام،وطالب العلم لا ينبغي أن يتفوّه بهذا الكلام، بل ينبغي أن يطرح رأيه بالدليل والبرهان: «يا سيّدي المسألة الفلانيّة دليلها كذا» . وليس لدينا: «يا سيّد كلامك يخالف كلام فلان». فنحن لا نملك إلاّ أربعة عشر معصوماً فحسب، وانتهى الأمر.
إن كان رأيي يخالف كلامك، فكلامك يخالف رأيي! وبذلك تكون الحسابات قد تمّ تصفيّتها، ولا مشكلة أبداً. ينبغي أن نحلّ هذه المسائل ونتجاوزها، وينبغي أن نصل إلى حقيقتها، فنفس هذه الأمور هي الموانع، هذه هي الأمور التي أسَرَتنا لسنوات متمادية، وستمنعنا كذلك في المستقبل.
الجميل في المسألة هو أنّ نفس هذا الموقف المتّخذ من كلام معيّن و مخالفتنا لفردٍ ما واعتباره جرماً، نفس هذا الكلام ونفس هذه المخالفة سيعتبران في يومٍ من الأيام ـ بسبب تغيّر الظروف ـ موطناً للمدح والاستحسان.
هل رأيتم كيف هي أحوال الدنيا؟ فأحياناً عندما نخالف، يقول البعض: ما شاء الله فلان لديه فكرٌ ورأيٌ. وعندما تتبدّل الأمور، ينقلب الجميل قبيحاً والقبيح جميلاً. ولكنّ كلّ ذلك لا قيمة له؛ المهم هو أن نرى المبنى الذي قامت عليه تلك الموافقة أو المخالفة. المهمّ أن يكون للإنسان مبنى، نعم أحياناً قد ينطبق هذا المبنى مع رأي فلان، وأحياناً لا ينبطق. فهل ينبغي أن ننظر إلى الرجال والأشخاص؟! هل ينبغي أن نظر إلى العمامة السوداء أو البيضاء؟! هل ينبغي أن أعتني بصغر العمامة وكبرها؟! هل ينبغي أن أعتني بجمال الوجه وبجمال الثوب والعباءة والجبّة؟!
نحن ليس لدينا إلاّ المباني! وهذه المباني لا نأخذها إلا من أربعة عشر رجلاً، والسلام.
لا الحقير يدّعي أنّه معصوم، ولا الآخرون يدّعون أنّهم معصومون، فإمّا أنّ تتّفق تلك المباني والآراء أو لا تتّفق، فإن اتفقت فالحمد لله، وإن لم تتفق، فنحن لسنا بمعصومين!! نحن لسنا معصومون! أليس كذلك؟
ينبغي أن نتغاضى عن اختلافاتنا مع الآخرين كما نتغاضى عن اختلافاتنا مع المقرّبين منّا
ينبغي أن ندقّق في هذه المسائل؛ فكلّ إنسان له رأيه الخاصّ في كلّ أمر من الأمور.. له فكرٌ خاصّ وله سليقة خاصّة. نعم في بعض المواطن نجد أنّنا لا نوافق رأيه في المسألة الفلانيّة، لكن هل من الصحيح إن كنّا لا نتّفق معه أن لا نجيب على اتصاله التلفوني؟! أو عندما يسلّم لا نجيب السلام؟! وهكذا...؟!
حسناً، أنا سأسألكم سؤالاً: أنتم في المنزل هل تتفقون مع زوجاتكم في كلّ المسائل؟! هل لكم نفس الرأي في كلّ المسائل؟! لا، بل يمكن أن تقلّدوا أنتم أحد المراجع، بينما تقلّد زوجتكم مرجعاً آخر.
ماذا قال الحقير بعد ارتحال المرحوم العلامة؟ قلت: لا يحقّ لأحد أن يعلم أحداً آخر بمن يقلّد. لماذا؟ لأنّي كنت أعلم أنّهم سيأتون غداً ويقولون: إمّا تقلّدوا الرجل الفلاني، وإمّا أن تخرجوا من جماعتنا! أنا كنت أرى أنّ ذلك سيحصل، وهذا ما حصل بالضبط.
ولذلك قلت حينها: أيّها الإخوة، إن كنتم تقلّدون رجلاً ما، أو سألتم أحداً عن أمر ما، فلا ينبغي أن تقولوا ذلك للآخرين، لا ينبغي أن تقولوا ذلك.
وهذا الأمر ينطبق على الحقير أيضاً، فقد أجريته بنفسي على زوجتي! ففي يومٍ من الأيام سألتني: من ينبغي أن أقلّد؟ فأجبتها: لا دخل لي بالأمر، قلّدي أي مرجعٍ تريدين. فقالت: ما رأيك بالعالم الفلاني. فقلت: جيّد. قالت: يعني هل تؤيّد تقليده؟ قلت: لا شأن لي بذلك اذهبي وحققّي بنفسك، فأنا لا أضمن أحداً ولا آخذ بعهدتي دِينَ أحد. بل أنتِ اذهبي وحقّقي بنفسك. قالت: لقد رأيت أنّ العالم الفلاني جيّد. قلت: حسناً. قالت: إذاً أحضر لي رسالته العمليّة. قلت: أنا لا أشتريها، فأنتِ أردت تقليده إذاً أنتِ اجلبيها، اذهبي إلى جوار «الحَرَم» فستجدينهم يبيعونها بجانب الطريق، فهناك خمسون رسالة عمليّة، وستجدينها بين تلك الرسائل. وما أكثر الرسائل هناك. حسناً، ذهبَتْ وأحضرتها. ومن يومها حتّى الآن لم تفتحها، وفي كلّ مسألةٍ تسألني عن الحكم. فقلت لها: من تقلّدين أنتِ؟! [يتبسّم سماحة السيّد] .. ذهبتِ وأحضرتِ رسالته العمليّة، ثمّ تأخذين حكمك منّي!!
لو أنّني توقّفت في المسألة وقلت: كيف تسألني زوجتي من أقلّد؟! سأجعلها تندم على فعلتها؟! سأفعل كذا وكذا ... (نعم نعرف هذه الأفعال التي يفعلونها) ، هذه لا مبالاة منها ...
لا يا عزيزي أبداً، لا نفعل ذلك. ولماذا لا نفعل؟ لأنّنا نحتاج إلى بعضنا البعض، ولأنّنا نعيش في منزلٍ واحد.
سأتكلّم بالمسألة بشكل صريح: هل لأنّنا نحتاج إلى بعضنا البعض لذا فنحن مجبورون على أن نغضّ الطرف عن الاختلافات فيما بيننا؟! وهل بسبب العلاقة التي بيننا ينبغي علينا أن نتجاوز الخلافات؟! ولذا نقول: لا بأسفي أن يكون هناك اختلاف.
لكن بما أنّنا لا نحتاج إلى صديقنا، فحينما يتفوّه بكلمة، نشيح بوجهنا عنه؟! لأنّنا لا نحتاجه؟! هذا خطأ.. هذا باطل.
لو كانت العلاقات تبنى على المصالح وعلى من نحتاج إليه، فنحن نحتاج إلى الصديق والرفيق أكثر من حاجتنا إلى زوجاتنا!
لقد أضعنا الطريق! ونحن نسير في الطريق الخاطئ! إنّ السالك يحتاج إلى صديقه [السلوكي] أكثر من حاجة الزوج والزوجة أحدهما إلى الآخر. والأمر لا يختلف بين الرجل والمرأة.
لكنّنا جئنا وفتحنا حسابين: حساباً لدُنيانا، ولمسائلنا العائليّة، ولعلاقاتنا الاجتماعيّة، ولعلاقاتنا بجيراننا، ولعلاقتنا بالعمل والشريك وبالمصالح الماليّة، وفصلنا هذه المسائل وحافظنا عليها، ولا ينبغي لأحد أن يمسّها بسوء، ولا ينبغي أن تخدش أدنى خدش. وفتحنا حساباً آخر لمسائلنا السلوكيّة: نجلس بمحضر سماحة السيّد.. ونأخذ البرنامج والدستور السلوكي.. ونذهب إلى الجلسات، وانتهى الأمر. والحال أنّ هذا الفصل خاطئ بأكلمه، بل ينبغي أن يكون الحسابان حساباً واحداً ممتزجاً بعضه مع بعض.
عندما تهين الخادمة التي في منزلك، فاعلم أنّ هذا الأمر سينعكس مباشرةً على سلوكك ليصبح حجاباً. وعندما تحكم على صديقك حكماً ظالماً في معاملاتك، فقطعاً سيشكّل ذلك مانعاً لك عن التقدّم، واعلم أنّ صلاتك لن ترتفع أعلى من سقف هذه الغرفة!! لا ينبغي الشكُّ حتّى في الأمر، لا تشكُّوا في الأمر حتّى شكّاً.
إذا رأيتم أنّكم فقدتم السكينة من نفوسكم، فابحثوا عن القلب الذي كسرتموه وآذيتموه! إذا رأيتم أنّه ليس لديكم سكينة في نفوسكم أو قلوبكم فابحثوا عن الخطأ في تصرّفاتكم وأعمالكم! إذا رأيتم أنّكم مهما فعلتم لا يحصل لديكم أيّ توجّه، فابحثوا عن الخلل في أعمالكم! كلّ هذه المسائل معجونة بعضها مع بعض، ولا أقول: متّصل بعضها ببعض كالحلقات، بل هي كالعجين، مختلطة بعضها ببعض، فكما أنّكم تخلطون بعض المواد مع موادّ أخرى فتصبح عجيناً،فهذه هي كذلك كالعجين مترابط بعضها بالآخر.
وأنا لا أذكر هذه المسائل لكم من تلقاء نفسي، بل هذا ما سمعته من الأعاظم صراحةً، وأنا لا أقولها لكم بنفس الصراحة التي ذكروها لي، بل بمقدار أقلّ من الصراحة، أمّا هم فكانت صراحتهم أكثر من ذلك!
ينبغي أن نذهب ونرى: ما الذي أزعج هذا القلب؟ فهذا القلب المزعوج هو المانع، ولو أنّك تختم القرآن من أوّله إلى آخره عشر مرّات فلن يساوي ذلك حتّى بعوضة!! ولو أنّك تصلّي صلاة الليل عشر سنوات وفي كلّ ركعة تقرأ سورة بأكملها، لن يكون لصلاتك تلك أيّة نتيجة!! فقد كسرت ذلك القلب!! لكن حينما تصلح الأمر عندها ستصلح الأمور بنفسها..وستعتدل بشكل «أوتوماتيكي».
ولذا كان المرحوم العلاّمة يؤكّد على هذه المسألة قبل دخول شهر رجب، والحقير يطرح الأمر نفسه، فإن كنت تريد أن تحصل على الفيوضات، فهذا هو السبيل إلى ذلك، أمّا إن لم ترد، فالأمر مختلفٌ. وبدون لف ولا دوران، هذا هو السبيل.
كانوا يقولون: لكلّ مقام مقال؛ فحين الاختلاف نختلف ألف خلاف لكنّنا في النهاية نجلس إلى نفس السفرة ونأكل مع بعضنا البعض، نجلس مع أبنائنا مع زوجتنا ونتحدّث، ونعيش حياتنا ونتغاضى عن الخلاف.
أمّا بالنسبة للصديق، فلماذا نقول: الرجل الفلاني قال كذا في المجلس الفلاني؟ حسناً قال ما قال وانتهى الأمر، فهل ينبغي أن يكون كلّ كلام يقال مناسباً لطباعنا، من قال ذلك؟ وهل ما أراه وحيٌ يوحى؟! هل هو وحي حتّى أرى أنّ على الجميع أن يمشوا طبقاً لما أقول؟! فلماذا لا أسير أنا طبقاً لسلائق الآخرين.
القاعدة: هي أنّ عملنا ينبغي أن ينطبق على المباني.
أمّا إن جاء أحدٌ وعرض مسألة مخالفة لرأينا فينبغي التعامل مع الأمر بشكل طبيعي كما نتعامل مع كلّ المسائل الأخرى.
وصيّة الأولياء للسالكين هي جبران الخطأ واغتنام السفرة الملكوتيّة للأشهر الثلاثة كلّ اغتنام
كان الأعاظم أمثال المرحوم القاضي، والمرحوم الشيخ الأنصاري، والمرحوم الآخوند حسين قلي الهمداني، وأمثال المرحوم السيّد أحمد الكربلائي رضوان الله عليهم أجميعن، بل حتّى العلامّة الطباطبائي رضوان الله عليه سمعت أنّه كان يأمر بهذه المسألة أيضاً، كانوا يوصون تلامذتهم قبل حلول شهر رجب المبارك بأن يقوموا بحلّ المشاكل وإصلاح ذات البين، فلا تبقى أيّة كدورةٍ، ثمّ يدخلون في شهر رجب.
فيا أيّها العزيز! إنّ هذا الشهر يأتي ويذهب، فهل تضمن أن تبقى إلى العام القادم؟! نعم الآن بحسب الظاهر.. صحيح أنّ شهر رجب لم يحلّ بعد، لكن بحسب الظاهر إنّ الله منحك هذا التوفيق لكي تستفيد من بركات هذا الشهر، فلم لا نغترف منه؟! ولم لا نجلس على هذه السفرة الملكوتيّة التي فُرشت لنا؟! فهل نقف ونتحسّر، ونقول: إنّ السفرة تبعد عنّا ثلاثة أمتار؟! لم لا تحرّك نفسك قليلاً؟! أيّها الحبيب: اذهب وتقدّم مترين إلى الأمام. أم نبقى ننظر لها ونتحسّر؟! فالناس يأتون ويجلسون على السفرة ويستفيضون منها، ثمّ يذهبون، ثمّ ستُجمع السفرة وتغلق لتجد أنّ شهر رجب قد انتهى. أغلقت السفرة.. أغلقت السفرة.
كانوا يقولون: عندما تريد أن تزور صديقك اصطحب معك علبة من الحلوى، اصطحب معك ما يدخل السرور إلى قلبه(حلوى أو غيرها)، وذلك لكي يتمّ التجاوز عن هذه المسائل. والواقع أنّ الإنسان يمكنه أن يفهم هذه المسألة: عندما يكون هناك نوع من الكدورة بين إنسانٍ وآخر، ثمّ عندما تزول هذه الكدورة هو بنفسه يشعر بالارتياح وأنّ الأمور قد تغيّرت في نفسه، وأنّ نفسه صارت خفيفة.
في بعض الأحيان يقول الإنسان أمراً جيّداً، فيصل إلى الشخص الآخر، فيغفر له ما فعله سابقاً، من دون علم الشخص الأوّل. لكن في نفس الوقت يشعر الشخص الأوّل بحالة من الخفّة والراحة! فما الذي حصل؟ لقد حصل هناك أمرٌ ما!
أمّا لو أنّ بعض القلوب انزعجت، وكنت أعلم أنّهم انزعجوا منّي، فلا فائدة، لا فائدة. لقد صارت الكرة في ملعبك، من أراد فليتقدّم.
جاءني قبل فترة أحد الأفراد، قبل حوالي شهر، قال لي: سيدنا حصل كذا وكذا ... ، فقلت له: يا عزيز لقد قلت لك سابقاً، إنّ هذه الحالة لن تزول إلاّ أن ترضيَ الناس عنك، وإلا سيعود وبالها عليك، لكنّك لم تسمع!! وليس عندي لك من سبيل آخر، ليس عندي سبيل آخر لحلّ المشكلة. فعندما لا يكون للأمر إلاّ حلّ واحدٌ، هل أقول لدي حلٌ آخر؟! قال: فماذا أفعل الآن؟ قلت له: أنا لا أعلم. ألم أقل لك: لا تفعل، لا تزعج قلب أحد ولا تكدّره، فالقلب صار منزعجاً الآن ومكدّراً، ولم يعد هناك من فائدة، وكلّ يوم يصبح الأمر أسوء وأسوء.
نحن لا نريد أن نتغيّر، بل نريد أن نحافظ على رغباتنا وعلى أفكارنا وعلى طريقتنا في التصرّف، ثمّ إذا حصل خلاف، نبدأ بالصياح والنواح. هذا الأمر غير صحيح، ولا يمكن أن يُقبل في أيّ مكان، ولا يوصل إلى أي مكان.
فهذا هو الدواء لهذا الداء، وليس هناك تأثير لأيّ علاج آخر. كلّ مرض له دواء واحد فقط، ولا سبيل آخر للأمر، إن كان لديكم سبيل الآخر فتفضّلوا: بسم الله ، والحقير يقول للناس: من عنده سبيل آخر لحلّ الأمر فليتفضّل: بسم الله. أمّا الحقير فلا سبيل آخر لديه، ليس لديّ، وأنا عاجز عن إيجاد سبيل آخر.
لذا وجد الحقير أنّه ينبغي أن نتحدّث عن هذه المسألة قبل الحديث عن شهر رجب، وأن نضعها بين يدي الأصدقاء والرفقاء، وينبغي علينا أن نلتفت إلى أنّ الرحمة الإلهيّة والنور والصفاء الإلهيّين إنّما تنزل على تلك القلوب والنفوس المستعدّة، فأنا لا أقول: علينا أن نصل إلى مقام العِصمة قبل الورود إلى الحرم الإلهي لهذه الأشهر الثلاث، فلا أحد يصل إلى مقام العصمة، بل ما يقوله الحقير: ينبغي على من يرغب بالاستفاضة من فيوضات هذه الأشهر الثلاث ينبغي عليه على الأقل أن يتعرّض لتلك الفيوضات، لا أن يغلق أبواب نفسه، فأنا لا أقول: علينا أن نمحو كلّ ما لدينا من ذنوب ومعاصي. بل على الأقل نتعرّض لتلك النفحات. ألم تسمعوا تلك الرواية؟!
بيان حقيقة النفحات ومواطنها وكيفيّة التعرّض لها
«إنّ لربكم في أيام دهركم نفحات، ألا فتعرّضوا لها ولا تعرضوا عنها» فما هي تلك النفحات التي تتنزّل على الناس طوال العام؟ ما هي تلك النفحات؟ تلك النفحات عبارة عن الجذبات التي تأتي وتغيّر ماهية الإنسان الوجوديّة المأسورة، من الرَين والقبائح والكدورات والانقباضات، والظلمات فتأتي وتنظّفها وتحكّها فيصبح الإنسان نظيفاً فيعيش حالة من النشاط.
إنّ شهر رجب وشعبان منها، وأيّام ذي الحجّة منها أيضاً، وكذلك مجالس ذكر أهل البيت عليهم السلام، و مساعدة الوالدين والبرّ بهما، وقضاء حاجة المؤمن وعيادة المريض، وزيارة القبور وطلب المغفرة للأموات وقراءة الفاتحة من مصاديق ذلك أيضاً .. هذه أمثلة كثيرة ومتعدّدة .. ومنها كذلك الإنفاق في سبيل الله، وإدخال السرور على قلب أحد الأفراد من خلال الإنفاق أو ما شابه ذلك، فهذا الأمر مؤثّر جدّا ويقلب الإنسان رأساً على عقب. إنّ هذه جميعاً أمثلة لتلك النفحات، وعلى الإنسان أن يتعرّض لمثل هذه الموارد ويسعى للاستفادة منها، ولا ينبغي له أن يغلق الأبواب على نفسه، و ذلك بأن يشغل نفسه وفكره عن مثل هذه الفُرص، ويعجّز نفسه عن علاج الأمراض والابتلاءات التي أصيب بها، حتّى يمسي عاجزاً عن الانتصار على هوى نفسه، و ذلك أنّ ابتعاده عن هذه الفرص والموارد سببه هوى النفس.فانسحاب الإنسان وادّعاؤه أنّ الأمر لا يعنيه سببه الأهواء النفسيّة، وهو عجز وضعف؛ أمّا ذاك الذي كان مقداماً سبّاقاً لفعل الخير فقد فاز وصار الفلاح والنجاح نصيباً له، وسيقبض الثمن الغالي لذلك.
أمّا لو ذهبنا إلى مجالس الإمام الحسين عليه السلام .. مجالس العزاء واللطم، والتي هي من قبيل تلك المجالس التي رأيتم صورها في كلّ مكان، فهي تمثيل وتظاهر ليس إلاّ، فمن البداية ندخل إلى المجلس حاملين أنانيّتنا معنا، ثمّ عندما نخرج من المجلس نجد أنّنا أخذنا معنا نفس تلك الأنانيّة والفرعونيّة وذلك دون أن نستفيد شيئاً من حضورنا فيه.. من البداية ننظر إلى بعضنا بجمود وبرود كالحائط، ثمّ بعد ذلك نخرج بنفس الجمود كالحائط تماماً؛ فأيّ مجلس هذا؟ ثمّ بعد ذلك نطلق على هذا المجلس اسم مجلس عزاء سيّد الشهداء، و لكنّه في الواقع ليس إلاّ زينة و «ديكوراً»! فليست الزينة بالضرورة من قبيل الأضواء والزخارف التي يعلّقونها وما شابه، بل إنّ نفس جلوسي هنا زينة وديكور وكذلك جلوس هذا السيد وذاك أيضاً، فجميع ذلك زينة وديكور، وبهذا يصير المجلس «مجلس ديكور» !والفيلم الذي نصوّره لمثل هذا المجلس سيكون فيلماً رائعاً جدّاً، فالكاميرا تلتقط صورة كلّ واحد من الحاضرين بشكل دقيق وواضح ...
لقد نقلت لكم ما حصل معي سابقاً في هذا المجال؛ حيث ذهبت إلى أحد مجالس العزاء في يوم عاشوراء، ذهبت إلى ذلك المجلس في عصر يوم عاشوراء ـ و كنّا نذهب إلى ذلك المكان مرّة واحدة في السنة .. يوم واحد في السنة فقط، قلت لنفسي: إنّ لصاحب المجلس عليّ حقّ أن أزوره، وهذه فرصة جيّدة لقضاء ذلك الحقّ، وفي نفس الوقت نستفيد من حضور مجلس العزاء ـ و كان المجلس في أحد شوارع طهران، وكان الحضور كبيراً جدّاً، وكان هناك الكثير من الوجهاء والعلماء وأئمّة الجماعات، وكان الخطيب جيّداً جدّاً ومن السادّة، وكانت خطبته واقعاً في ذلك اليوم ممتازة، وبينما كنّا نستمع فإذا بشخص قام حاملاً «آلة تصوير فيديو» كبيرة جداً على كتفه .. لقد كانت كبيرة وملفتة للنظر بشكل واضح، وصار يدور مصوّراً وجوه الحاضرين واحداً تلو الآخر، فكان بعضهم يتظاهر بالبكاء عندما تسلّط عليه آلة التصوير، وآخرٌ يطأطئ رأسه متظاهراً بالتأثّر، وهكذا استمرّ في تصويرهم واحداً بعد الآخر، ممّا أدّى إلى جذب انتباه أذهان الحاضرين بشكل كامل إلى آلة التصوير، وصرفهم عن الاستماع إلى المجلس، وصار اهتمامهم منصبّاً على انتظار دورهم في التصوير، ولكن الحمد لله نحن كنّا جالسين في مكانٍ لم نوفّق لأن يصوّرنا فيه! ولكن كنّا نراقب ما يحصل باهتمام، وكان في ذلك عبرةٌ كبيرةٌ لنا، واقعاً من المفيد أن يذهب الإنسان إلى بعض الأماكن ويرى ما يحصل ويعتبر بما يشاهده ... وطبعاً لم نتمكّن من البكاء، بل إنّ جميع الحاضرين لم يتمكّنوا أيضاً، بل كان الكلّ يهزّ رأسه متظاهراً بالبكاء.
يا أخي، يا عزيزي، لقد بلغ عمرك الثمانين، فمتى ستفهم؟ ومتى ستترك هذا الديكور وهذه المظاهر؟ حتّى مع الإمام الحسين عليه السلام؟! لقد شغلتك المظاهر في كلّ مكان، ولكن هل ستشغلك هنا أيضاً؟! تقول: (فلنذهب و نعقد مجلس عزاء و لطم و و... ) لأجل رفع شأنك؟! و لكن لماذا تستغلّ الإمام الحسين وتزجّ به في أغراضك الدنيّة هذه؟! ولماذا تستثمر الإمام السجاد والإمام الباقر لأجل ذلك؟! إنّ ذلك يدعو للخجل .. و الله إنّ ذلك يدعو للخجل، ويوم القيامة سيستوقفون الإنسان وسيقولون: إنّ الله لم يخلق أحداً أشدّ مظلوميّة منّا حيث ابتلانا بمثل هؤلاء الأفراد.
لماذا يجب أن نحطّ من قدر مجلس سيّد الشهداء عليه السلام؟! ماذا سيجيب؟ إنّه يقول: أردنا أن نحفظ خاطراتنا وذكرياتنا عن مجلس عاشوراء، إذ إنّه من الجيّد أن يكون عندنا فيلم لهذا المجلس، حتّى يبقى ذلك مستنداً للأجيال القادمة، فهذا من التاريخ الذي ينبغي حفظه حتّى يُعلم من الأشخاص الذين جاؤوا، و من الذين لم يأتوا.
و لكنّنا بذلك انحرفنا عن جادّة الصواب، وعمينا عن الحقيقة، ففي يوم القيامة سيُحضِرون مجلسنا هذا وسيسألوننا: لأيّ غرض عقدتم هذا المجلس؟ وبأيّة نيّة؟ هل كانت نيّتكم تعظيم شعائر الله؟ هل كانت نيّتكم إحياء الذِكر أم إحياء النفس ورفعتها؟ بل يجب ألاّ نسمّي ذلك إحياءً للنفس بل ينبغي أن نسميّه إماتة للنفس .. أيّ النيّتين كان المحرّك والباعث لكم واقعاً؟ هل تحاول أن تخدعنا نحن؟! نحن؟! يا عزيزي لا يمكن لك أن تخدعنا أبداً .. نعم، قد تخدع الآخرين وتغرّهم، أمّا نحن فلا.
و لهذا قال صلوات الله عليه: «فتعرّضوا لها»، أي انتبهوا، واجعلوا أنفسكم في معرض هبوب هذا النسيم الإلهي.
حسناً، لقد خطر في بالي قبل أن أصل إلى هنا بربع ساعة أن أشرح هذا الدعاء العجيب الغريب الذي يقول فيه: «اللهم إنّي أسألك بمعاني جميع ما يدعوك به ولاة أمرك ...»، إنّ هذا الدعاء واقعاً دعاءٌ عجيبٌ !! وبيانه لا يمكن في ليلة أو ليلتين، ولكن حيث أن السيّد الوالد رضوان الله عليه كان قد قرأه وشرحه ذات مرّة للإخوان قبل شهر رجب في مسجد القائم، فرأيت أن نقرأه ونترجم فقراته ترجمة مختصرة، وواقعاً هو دعاء عجيب، وهناك الكثيرون الذين يدّعون أنّ فيه غلوّاً، وأنّهم لا يفهمون من هذا الدعاء شيئاً، ويدّعون أنّه ليس ممّا أُثِر عن الأئمّة عليهم السلام. ولكن قلت: يكفي أن نأتي ونتذاكر بعض المواضيع التي تفضّل بها الأولياء العظام لتكون مقدّمة لذلك الدعاء، وقد طالت هذه المقدّمة شيئاً ما، وفي الجلسة القادمة إن شاء الله ـ والتي ستكون في شهر رجب ـ سنتناول هذا الدعاء قراءةً وتوضيحاً، فنورد بعض الأمور التي ترتبط به.
والحمد لله المسائل التي طرحت كانت مهمّة جداً، وكما ذكرت للإخوة، فقصدنا وغرضنا من هذه المجالس ليس مجرّد طرح هذا النوع من المسائل، بل المقصود هو الإفادة والاستفاضة والحصول على نتيجة، فعندما كانت المجالس على النحو السابق انتهيت إلى قناعة بأنّها لم تكن مفيدة، وما دام العمل غير مفيد فلا داعي للإصرار عليه، والأفضل أن تكون المجالس بنحو آخر، وفي النهاية ستصل الأفكار إلى الجميع، ولا حاجة إلى الحضور الظاهري، فالمسائل تصل إلى الجميع ويدركها الجميع، وتتمّ الحجّة على الإنسان بذلك، ونفس المجيء والذهاب قد يتحوّل أحياناً إلى حجاب، وقد يقطع الطريق على الإنسان.
قراءة كتب العلامة رضوان الله عليه تمثّل لقاءً خاصّاً بسماحته
لقد كان المرحوم العلاّمة يقول: ليس لدينا مواضيع عامّة ومواضيع خاصّة، مواضيعنا هي ما أودعناه في هذه الكتب. ولكن نحن لم نكن ندرك ذلك، بل كنّا نتصوّر أنّه حتماً سيذكر مواضيع معيّنة لفلان. لقد كان يقول لأحد الأفراد: كلّما جئت إلى مشهد يمكنك أن تأتي إلينا بغير موعد، وإن شئت أن تأتي كلّ يوم فلا مانع. فماذا كانت نتيجة ذلك؟ هل حصلنا على شيء؟! هل ارتفع حجاب من الحجب؟! هل انفتح الباب؟ هل تفتّحت أفكارنا؟! لا بل رأينا خلاف ذلك. ثمّ بعد ذلك كان يقول: إذا وصل كلامنا إلى أيّ أحد فهو حجّة عليه، وكنت أرى من الناس من لم يلتق بالمرحوم العلاّمة وكان يعمل ويصل إلى المطلوب، كنت أرى ذلك بعيني. نعم لقد كان يقول: ليس لدينا مواضيع عامّة ومواضيع خاصّة، فما نقوله هو هذا بعينه.
والآن أنا أرى أنّ كل هذه المواضيع قد طرحت في الكتب، وآجر الله الإخوان على ما بذلوا من جهود في الاهتمام بتبليغ وترويج ونشر هذه المسائل، وواقعاً عملهم هذا يستحقّ الشكر والتقدير، وبالطبع ليس الحقير هو من يشكر هذه الجهود، فلست أنا طرف المعاملة، بل صاحب الدين وصاحب الشريعة هو من يعلم كيف يشكر هذه الهِمم وهذه المتاعب وهذه الحميّة، فلست أنا طرف المسألة بل صحاب الولاية، وهو بنفسه يجبر ذلك خير جبران. نعم، الآن أنا أرى أنّ كافّة هذه المواضيع هي التي أوردها في كتبه سواء ما طبع منها وما لم يطبع، فكلّ جملة منها هي عبارة عن لقاء خاصّ، يعني إذا قمتَ باستخراج فقرة من معرفة المعاد وقرأتها فهذا لقاءٌ خاصّ، ألست تريد لقاءاً خاصّاً؟! هذا لقاءٌ خاصٌّ، فكم لقاءاً خاصاً تجد في كتاب واحد؟! ألف لقاءٍ.. خمسمائة لقاء.. مائتي لقاء.. كلّ صفحة منه هي لقاء خاص، هل عليَّ حتماً أن أكتب ذلك؟! لا بأس فاكتبوا أنتم رأس كلّ صفحة وبالنيابة عنّي قال فلان: هذه الصفحة من الروح المجرّد هي لقاء خاص. ألا تريد أن تأتي للقائي؟ جيّد هذا لقاء.
اللقاء الخاصّ والحضوري بالإمام ليس هو المهم، بل المهم هو الاتبّاع والفهم
غير أنّ النفس لا ترضى بذلك، لا بدّ أن يكون اللقاء حضورياً، وهذه هي المشكلة، هذه مشكلتنا، ولا بدّ من حلّ هذه المشكلة، وإذا ما انتهينا يوماً ما إلى أنّ لقاءنا الخاصّ مع إمام الزمان لا يختلف عن اللقاء العام فهذا يعني أنّ شيئاً ما يحصل في نفوسنا! هناك أمرٌ هام يتحقّق! ولكن إذا كان مركوزاً في ذهننا أنّه لا بدّ أن نسمع الموضوع من نفس إمام الزمان، ولا نقبله من غيره، فهذا الإمام لن يكون إمام الزمان، ولو جلست عنده مئة عام فلا فائدة منها، ألم يجلسوا عند النبيّ؟! ألم يلازموه ثلاثة وعشرين عاماً؟! إلاّ أنّها لم تثمر شيئاً، وقد رأيتم أنّها لم تثمر.
أمّا أويس فلم يرَ النبيّ مرّةً واحدةً في اليمن، ولكنّه أُلحِق بالنبيّ صلى الله عليه وآله وصار له وحدة معه، فلا تظنّوا أنّ أويساً هو رجلٌ واحدٌ، كلّ واحد منّا إن أردنا فهو أويس، ولكن نحن لا نريد أن نكون أويساً، نحن نريد أن نكون عبد الرحمن بن عوف.. نريد أن نكون عمر بن الخطّاب.. خالد بن الوليد، أما لو شئنا لكان كلّ واحد منّا أويساً، وأويس هذا لم يخرج من بطن أمّه أويساً، كان إنساناً كسائر الناس، أراد فكان أويساً، أراد فكان عمّاراً.. كان ميثماً.. كان حبيباً... بينما صار الآخرون عُمر بن سعد، وابن زياد وغير هؤلاء، فاختيارنا بأيدينا.
لقد قال المرحوم العلامة مراراً، وقد شهدته في مورد من الموارد وكان هناك الكثير من الموارد الأخرى، قال: حتّى السيّد محمّد محسن هذا إنّما أعطيه بشرط أن يريد، وإن لم يرد فلا أعطيه. هو أبي وأقرب إليّ من الجميع، ولكن ليس في النظام الإلهيّ روابط وعلاقات، وإنّما فيه ضوابط، والضوابط تعني العدل، الضوابط تعني الإنصاف، الضوابط تعني الأمانة، الضوابط تعني الرحمة، هذا معنى الضوابط.
فلذلك ينبغي أن لا نقول: هنيئاً لفلان... لقد كان في خدمة أولياء الله مدّة أربعين سنة، يا ليتنا كنّا معه، فلو كنت معه ماذا كان سيحصل يا ترى؟! لقد كنت خمسة عشر عاماً ورافقتهم في الذهاب والإياب فماذا حصل؟! نفس هذه الحال التي يعيشها البعض فيتمنّون أنّهم لو كانوا مكاني، يمكن أن يكون هناك من يتمنّى لو يكون مكانهم.. هنيئاً لفلان.. هنيئاً لفلان.. كم هو على علاقة جيّدة مع السيّد؟! يا ليتنا كنّا مكانه، هذا عين ذاك، ونفس هذا الذي يقول: يا ليتني، إذا قال شيئاً فإنّه يذهب ويعمل عملاً خلاف قوله، لا تكذب يا عزيزي، لماذا تكذب وتقول:«هنيئاً هنيئاً»؟ لماذا؟!
الولاية ملأت كلّ الوجود، وهي موجودة في كلّ مكان وزمان
ما هذا الكلام؟ ليس لدينا «هنيئاً»، فلو كنّا فوق القمر فالولاية موجودةٌ هناك، ألا نقرأ في الدعاء العجيب ذا المضامين العظيمة: «فبهم ملأت سماءك وأرضك»؟ بهذه الولاية ملأت سماءك وأرضك، فإمام الزمان موجود في السماوات والأرض وفي كلّ عالم الوجود، هو حاضر في كلّ مكان، لو جلست خلف هذا العامود فإمام الزمان حاضر إلى جانبك، ولو جلست في الخارج فالإمام معك، ولو جلست على القمر فالإمام معك، ولو خرجت من المنظومة الشمسيّة فالإمام معك، وهو معكم أينما كنتم، ولا يمكن في كلّ عالم الوجود أن تجد شبراً واحداً يحول بينك وبين الإمام، لا تجد شبراً واحداً، هذا معنى «فبهم ملأت سماءك وأرضك»، كلّ السماوات والأرض مليئةٌ بإمام الزمان، ولا يخلو منه مقدار رأس إبرةٍ منها، هذا هو إمام الزمان، فما معنى هنيئاً لفلان ويا لحسن حظّ فلان بعد ذلك؟!
الفكرة صارت بين أيديكم فخذوها وتقدّموا، ما معنى هنيئاً لفلان وهنيئاً لفلان؟! فأنا لا أستحقّ مثل هذا الكلام، عندما كنت أعيش تحت رعاية الأولياء العظام وفي خدمتهم، ألم يكن كثير من الأفراد الذين ساروا في طريق آخر بعد وفاته وانحرفوا ألم يكونوا يقضون أربعاً وعشرين ساعة في منزله؟! ألم يكونوا كذلك؟! وكان هو يضحك في وجوههم ويبتسم لهم وما شاء الله!؟ نعم الحمد لله، ولو قلت لهم: هنيئاً لكم! ما أحسن حظّكم! فأنتم تلتقون بالسيّد!! لقالوا: نعم نسأل الله أن يقسم لكم ذلك أيضاً، إن شاء الله أنتم توفّقون لذلك، وتستفيضون مثلنا أيضاً، فقد كان هذا الفيض من نصيبنا نحن، وقد حصلنا عليه!!
على الإنسان أن يستفيد ويغتنم الفرص، ولكن ليس هذا هو كلّ القضيّة، هذا جزء منها، فعندما كان المرحوم العلامة يقول: من يقرأ هذه الكتب ويعمل بها سيكون ابناً لنا، ولم يكن يقول ذلك هزلاً وجزافاً، هناك حقيقةٌ واقعيّةٌ يتحدّث عنها، ولا يمكن الوصول إليها بهذه السهولة.. لا يمكن الحصول عليها ببساطة، وهذا المطلب يدركه من كان لديه شيء من الاطّلاع على المسائل، ليدرك أنّه لم يكن يمازح في ذلك، بل كان جاداً، فهو يصير واقعاً ابناً لنا، ومن كان ابناً لنا ولا يعمل فهو ليس ابناً لنا.. ليس ابناً لنا. والمرحوم العلامة لم يترك مسألة دون أن يتحدّث عنها، أبداً لم يترك.
بعض التوصيات المهمّة لشهر رجب
فلهذا، وبما أنّا في رحاب هذا الشهر المبارك، فلا بأس بالمرور والاستذكار الإجمالي لبعض الأمور التي كنّا ذكرناها للإخوان فيما سبق، فهذا الشهر فرصةٌ ثمينةٌ جدّاً، وإذا استطعنا أن نصومه كلّه فسيكون ذلك أكثر تأثيراً، وإن لم نستطع أن نصوم، فلا بدّ من تلك الأذكار الواردة في شهر رجب والمذكورة في مفاتيح الجنان: «سبحان الإله الجليل، سبحان من لا ينبغي التسبيح إلا له سبحان الأعزّ الأكرم، سبحان من لبس العزّ وهو له أهل..»، يقولها مائة مرّة، فإن قيلت حسبت بدلاً من الصيام، بشرط أن يكون الإنسان غير قادر عليه لا أن يكون مهملاً له.
ولنسع جهدنا في هذا الشهر أن نحافظ على خفّة النفس، فإذا صمنا لا نفطر على طعام ثقيل. ولنغتنم ليالي شهر رجب، فهي مهمّة جدّاً، ولها آثار عجيبة، ولنحافظ على خفّتنا فلا نأكل الأطعمة الدسمة التي تثقل المعدة وتذهب بحال الإنسان، فهذه أشياء تؤدّي إلى إتلاف الوقت، وعدم استفادة الإنسان من تلك السفرة التي مُدّت.
ولنذهب على الأقلّ كلّ أسبوع مرّة واحدة لزيارة أهل القبور، وكما قال الأولياء العظام نجلس في ناحية من المقبرة، ونقرأ الفاتحة، ثمّ نقضي مدّة بالتفكّر والسكوت، الذهاب إلى المقبرة مع جماعة من الرفاق والجلوس والتحدّث لا فائدة منه، لتكن وحيداً في ذهابك، ولتجلس جانباً. نعم لا بأس أن يذهب مجموعة ويجلسوا بصمت، لكن الأثر يترتّب على الذهاب وحيداً، فالمرحوم القاضي كان يذهب بمفرده إلى وادي السلام، والأولياء كانوا يذهبون فرادى ويجلسون، والحال أنّ حرم أمير المؤمنين عليه السلام على بعد أمتار من وادي السلام، فلماذا لم يكن يذهب ويجلس في الحرم؟! لقد كان يذهب إلى الحرم أيضاً، ولكن لكلّ مكانٍ أثره الخاصّ، فالأثر المترتّب على وادي السلام هو من وادي السلام، ولا بدّ من الذهاب إلى وادي السلام لتحصيله، فلا ينبغي أن يقال: هذا حرم أمير المؤمنين وليس هناك مكان أشرف منه!
لكلّ مكان شأنه الخاص، فحرم أمير المؤمنين والزيارة لها مكانتها وشأنها، وحرم حضرة السيّدة فاطمة المعصومة سلام الله عليها له مكانته، ولكن زيارة أهل القبور والدخول في هذا الجوّ الخاص له مكانته الخاصّة، المقابر... مقبرة الشيخ.. مقبرة «شيخان»، المقابر الأخرى، فلنذهب ولنفكّر في أحوالهم، ولننظر أنّنا غداً صائرون منهم، غداً سيُأتى بنا إلى هذا المكان، لقد كانوا يوماً ما مثلنا يأتون إلى هذا المكان ويقرأون الفاتحة، وكانوا يفكّرون بذلك أيضاً، كانوا يفكّرون بأنّا الآن نحن نأتي، وغداً يُأتى بنا. والآن نحن جئنا، وسيُأتى بنا غداً وستقرأ لنا الفاتحة، والطريق على هذا المنوال... فلنفترض أنفسنا أنّا صرنا من أهل تلك الديار، ولننظر حينئذ ماذا ينبغي أن نصنع؟! فهذا الذي في القبر الآن لم يعد بإمكانه أن يخرج من قبره، لقد انتهى الأمر، لقد أغلق ملفّه، افرضوا أنّكم ستكونون كذلك بعد يومين أو بعد سنتين، فلم يعطنا أحد أماناً، يمكن أن نموت بعد سنتين أو بعد ثلاث سنوات، أو خمس سنوات، أو أسبوع، نحن سنأتي كذلك إلى هذا المكان، لذا لا يترك الذهاب إلى المقابر في كلّ أسبوع مرّة، وهذا هو الحدّ الأدنى، وإلا فبعضهم كان يذهب في الأسبوع مرّتين أو ثلاث، ففي النجف كانوا يذهبون مرّتين أو ثلاث، وكانوا يقطفون ثمار ذلك بأنفسهم.
زيارة المشاهد المشرّفة في هذا الشهر مؤكّدة جداً، فالمرحوم العلامة كان يقول أن على الساكنين قرب المشاهد أن يزوروها كلّ يوم، والأفضل أن تكون الزيارة بين الطلوعين فإنّ لها أثراً خاصاً لا يحصل في الليل، وليس من الضروريّ أن يطيل الإنسان الجلوس، فليزر وليجلس قليلاً فيرجع، فهذه المسائل هي ممّا جعله الله لنا.
فكما أنّ الله هيّأ النعم الماديّة لاستمرار حياتنا، فقد جعل الله هذه المسائل لآخرتنا، لقد جاء الله بالسيّدة المعصومة سلام الله عليه إلى قم وجعل من قم موطناً لها، وجاء بالإمام الرضا عليه السلام من المدينة إلى مشهد، فالله هو الذي جاء به وجعله هنا لتتنعّم الدنيا بأسرها من بركاته، وحضرة عبد العظيم [الحسني] سلام الله عليه جاء به الله من المدينة إلى هنا إلى الريّ، وجعل من هذه المدينة مدفناً له ومحلاً لجثمانه، لكي يأتي الأهالي ويستفيضوا عن قرب، بدلاً من أن يجلسوا في بيوتهم يقضون أعمارهم عبثاً، فهم بدلاً من ذلك يأتون لزيارة عبد العظيم الذي قال عنه الإمام الهادي عليه السلام: «من زار عبد العظيم بالريّ كمن زار الحسين بكربلاء».
لقد كان هذا الرجل جليلاً وعظيم الشأن إلى حدٍّ جُعِلت زيارته كزيارة سيّد الشهداء عليه السلام، فهذه النعم التي جعلها الله لنا هنا علينا أن نعرف قدرها ونستفيد منها، ونجعل أنفسنا في أجوائها وفضائها وحالاتها، وليَسعَ الإنسان لأن يكون أكثر توجّهاً حين الزيارة لكي يكون نصيبه أوفر.
وصلة الرحم في هذا الشهر مهمّة جداً، وعيادة المرضى لها أثرٌ كبيرٌ فيه أيضاً، وكذلك المراقبة، فلنقلّل من الكلام والحديث، ولننصرف عن المسائل التي تشغل الذهن... لننصرف عن «الأخبار»!! «الأخبار» التي لا تعادل مثقال ذرّة من القيمة!! «فلان قال وفلان أجاب عليه، هذا ذهب وهذا جاء، وهذا احتال على ذاك»، فهذه المسائل لا تفيدنا، وهي ليست بشيء لتكون مفيدةً أصلاً، وليس فيها سوى تغيير النفس وتشويشها، ليس فيها فائدة سوى التخريب، فلنتركها لأهلها.. لنتركها لأهلها.
في السنة الماضية قبل شهر رمضان حيث كان هناك جلسة عنوان في هذا المكان نفسه، قلت أنّ المرحوم العلامة كان يقول: هذه الأمور هي أمور الدنيا، هذه الأمور هي أمور الدنيا، واترك الدنيا لأهلها، لماذا أنت تملأ وقتك، لماذا تضيع وقتك في مثل هذه الأمور؟ لماذا عليك أن تجلس ساعة وساعات في معرفة ما حصل هنا وما حصل هناك، وما قال فلان وما قال فلان؟ اترك الدنيا لأهلها! وكلّما كان الذهن أكثر صفاء كلما تضاعفت قابليّته واستعداده لتلقّي الفيوضات من العالم العلوي، القابليّة تصبح أفضل ممّا لو كان الإنسان يسمع هذه المسائل ثمّ يحاول إخراجها من ذهنه، حيث تجتمع عليه مثل الجنود وتنشأ في نفسه المعارك، فنفسه تصير ميداناً للمعارك بينها وبين هذه المواضيع التي سمعها. لذا فالانشغال بالأخبار ليس جيّداً وليس صحيحاً، وخصوصاً في هذه الأشهر المباركة، والتي على الإنسان فيها أن يكون أكثر دقّة.
وكذلك قراءة القرآن مهمّة جدّاً جداً، وكذلك الأدعيّة الواردة في هذه الأشهر المباركة، فليقرأها الإنسان وليدقّق في معانيها، لا أن يقول: لا، فنحن لسنا ممن يدرك هذه المعاني، بل على الإنسان أن يقرأ وكلّ إنسان يستفيض ويستفيد نصيبه بمقدار فهمه وسعته.
والخلاصة أنّ هذا الشهر هو شهر مهم، ولا قدّر الله أن ينقضي وفي النفس حسرة على فوات الفرصة وعدم القدرة على الاستفاضة. والحمد لله إذ هيّأ لنا الوسائل وأعدّ المقدّمات، وأنزل رحمته وأفاض بعطاياه، فوضع الأمور بين أيدينا، ورزقنا فهمها. انظروا الآن كم هناك من الأفراد من أمثالكم سواء كانوا من المتزيين بزيّ أهل العلم أم من غيرهم، انظروا كيف سلبهم الله الفهم فصاروا جهلاء بغير فهم لا يدركون شيئاً، لقد درسوا، ولكنهم بغير فهم، قرأوا ولكنّهم جهلاء وقوّة الفهم معطّلة عندهم، وفي المقابل فتح الله أفهامكم، وأوضح الطريق أمامكم، ألا يستحقّ ذلك الشكر؟! ألا يستحقّ الشكر؟! فلو أنّ الله سلب فهمنا ماذا كنّا سنصنع واقعاً؟ ماذا؟ فنحن نشاهد من حولنا ونلاحظ، فنفس فتح هذا الطريق أمامنا يجعلنا مسؤولين عنه أمام الله، فقد فتح الله لنا الطريق وهيّأه وعبّده، ولا بدّ من إعداد الجواب على ذلك.
نسأل الله تعالى أن يأخذ بأيدينا ولا يكلنا إلى أنفسنا، وأن لا يحرمنا في هذه الأشهر المباركة وفي جميع الأيام واللحظات من الفكر والذكر والورد والحضور في حريمه، وأن يؤيّدنا بصاحب الولاية، ويجعلنا دائماً من آكلي فُتات مائدته.
اللهم صلّ على محمّد وآل محمّد.