34

محوريّة الحقّ في مدرسة التشيّع

8545
مشاهدة المتن

المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني

القسمعنوان البصري

المجموعةحقيقة العبودية

جلسات المجموعة(8 جلسة)

التوضيح

هل من السهل استعمال العلم في طريق الإخلاص؟ ما هي الميزة الأساسيّة التي تفصل التشيّع عن بقيّة المذاهب؟ هل يجوز للشيعيّ تقديس غير المعصومين الأربعة عشر؟ كيف ينبغي أن تكون علاقتنا بالحقّ؟
هي أسئلة سعى سماحة آية الله الحاجّ السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ قدّس الله نفسه الزكيّة للإجابة عنها في هذه المحاضرة التي عقدها تتمّةً لشرح فقرة «واطْلُبِ العِلمَ بِاستِعمالِه» من رواية عنوان البصريّ الشريفة؛ علاوةً على استعراضه لمجموعة من المسائل والمباحث الفرعيّة الأخرى.

/۱۷
بي دي اف بي دي اف الجوال الوورد

محوريّة الحقّ في مدرسة التشيّع

1
  •  

  • هو العليم 

  •  

  • محوريّة الحقّ في مدرسة التشيّع

  • شرح حديث عنوان البصريّ - المحاضرة ٣٤

  •  

  • ألقاها

  • آية الله الحاجّ السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ

  • قدس الله سره

  •  

محوريّة الحقّ في مدرسة التشيّع

2
  •  

  • أعوذُ بِاللَه مِنَ الشَّيطانِ الرَّجيم‌

  • بِسمِ اللَه الرَّحمنِ الرَّحيم‌

  • وَصَلَّى اللَه عَلى سَيَّدنا وَحَبيبِنا، أبي ‌القاسِمِ المُصطَفى مُحمَّد

  • وَعَلى آلِه الأطْيَبينَ الأطهَرين الهُداةِ المَعصومين‌

  • لاسِيَّما بقيَّةِ اللَه في الأرَضين، أرواحُنا لِتُراب مقدَمِهِ الفداء

  • وَاللَعنة عَلى أعدائهم وَمُخالِفيهم ومُنكِري حُقوقِهِم وَفَضائِلِهِم وَمَناقِبِهم‌

  • إلَى يوم الدّين‌

  •  

  • «فَإنْ أرَدتَ العِلمَ، فَاطْلُبْ أوّلاً في نَفسِكَ حَقيقةَ العُبوديَّةِ، واطْلُبِ العِلمَ بِاستِعمالِه، واستَفْهِمِ اللهَ يفْهِمْكَ».

  • استعمال العلم في طريق الإخلاص يحتاج إلى دقّة

  • یقول الإمام الصادق عليه السلام لعنوان: عندما تُريد أن تطلب العلم، عليك في الوهلة الأولى أن تعثر في نفسك على حقيقة العبوديّة؛ فترى نفسك عبدًا؛ وهذا له آثار ولوازم؛ أي أن يعدّ الإنسان نفسه عبدًا تعني الالتزام بمجموعة من الأمور والقضايا؛ فلا يُمكن للإنسان أن يقول: «أنا عبد»؛ هكذا، وبالحظّ؛ كأن يأتي الإنسان عند رفيقه، ويُبرز الودّ والمحبّة له، ويُظهر له الإيثار والإنفاق؛ لكن، حينما تأتي الظروف المناسبة، لا يقوم بأيّ شيء من ذلك؛ فهذا كذب.

  • ويبدو أنّني حدّثتكم ذات يوم عن قصّة أوردها مولانا في ديوانه المثنويّ، وتحكي عن إحدى الأمّهات التي كانت تُبرز المحبّة لابنتها، وتقول: «جعلني الله تعالى فداء لك! لا أحياني الله تعالى بعد موتك!»، وأمثال ذلك؛ إلى أن سقطت ابنتها طريحة للفراش؛ وذات ليلة، كانت هناك بقرة في ساحة البيت، وأرادت أن تشرب الماء؛ وباعتبار أنّ الوقت كان منتصف الليل، فإنّها وضعت رأسها في قدر الطعام، فعلِق فيه، فبدأت تمشي وهي تحمله على رأسها، فدخلت إلى البيت؛ لأنّها لم تكن ترى شيئًا؛ فظنّت تلك المرأة العجوز أنّ عزرائيل ولج إلى الغرفة، فقالت (وكان اسم ابنتها مِهسَتي):

  • ملك الموت! من نه مهستي ام‌***من يكى پير زال مِهنَتيم‌
  • أنا لست "مِهسَتي" يا ملك الموت، أنا امرأة عجوز متداعية ومتهالكة.

  • فمِهسَتي هي في تلك الغرفة؛ فهنا، سيتبيّن كم من الرجال يُشبهون الحلاّج،۱ وإلى أيّ حدّ سيصدق الإنسان في محبّته. وعلى أيّ تقدير، فإنّ كلّ من يدّعي العبوديّة تلزمه بعض الأمور التي سيتحدّث عنها الإمام الصادق عليه السلام في الفقرات اللاحقة، حيث سنصل إن شاء الله تعالى في الجلستين القادمتين للكلام عن هذه اللوازم المترتّبة على العبوديّة.

    1. مثل فارسيّ يُكنّى به عن الذي يدّعي بعض الأشياء، ومعناه: علينا أن نرى إلى أيّ حد أنت جادّ وصادق في دعواك؛ وعلى ما يبدو، فإنّ المراد من الحلاّج هنا هو: العارف الشهير الحسين بن منصور الحلاّج، وقصّته معروفة. المعرّب

محوريّة الحقّ في مدرسة التشيّع

3
  • ففي الجلسات السابقة، بينّا لماذا يقول الإمام: إذا أردت طلب العلم، عليك في البداية أن تخطو هذه الخطوة؛ وهي أن ترى نفسك عبدًا أمام الله تعالى، وليس مولى؛ فلا تأمره تعالى وتنهاه، بل تأتمر بأوامره؛ «واطلب العلم باستعماله»؛ فاقصد من العلم استعمالَه، وليس شيئًا آخر؛ كالمصالح الدنيويّة، والأهواء، والنزوات؛ فينبغي أن يكون الهدف من العلم هو الوصول إلى حاقّه وحقيقته ومغزاه، وليس مسائل أخرى؛ إذ في كثير من الأحيان، يشتبه الأمر على الإنسان؛ وحتّى أنّه قد يكون مدّعيًا للحقّ، واتّباعه، وإبلاغه، لكن، فقط ذلك الحقّ الذي يجري على لسانه هو؛ فتجده يبذل قصارى جهده لأجله، ويتعاطف معه، ويتحرّك للدفاع عنه ونصرته، ويتحمّس له؛ وأمّا إذا جرى هذا الحقّ على لسان شخص آخر، فإنّ ردّة فعله لا تكون بالمستوى ذاته.

  • حكى لنا أحد الأصدقاء أنّ عالمًا من علماء طهران كان يؤمّ مسجدًا ـ ولا يخفى أنّه ارتحل عن هذا العالم ـ؛ وذات يوم، كان يمشي في طريقه إلى المسجد، فرأى مجموعة من الشباب منهمكين في لعب القمار، حيث حصل ذلك في العهد السابق؛ فمرّ من أمامهم، لكنّهم لم يعتنوا به، واستمرّوا في اللهو واللعب والقمار؛ ومع أنّه كان مسنًّا، إلاّ أنّه أخذ عصاه، ورفعها فوق رؤوسهم، وبدأ يقول: «ألا تخجلون من لعب القمار في منطقة مسجدي؟!»؛ خلاصة القول أنّه شهر عصاه في وجوههم، فلاذوا بالفرار؛ وبعد ذلك، التفت إلى ذلك الصديق، وقال له: «أنا لا أسمح بأن يرتكب أيّ أحد عملاً مخالفًا لرضى الله تعالى حينما أنطلق من بيتي، إلى أن أصل إلى المسجد». فإذا نظرنا إلى ظاهر المسألة، سنراها مسألة صحيحة وصائبة؛ فهي من باب النهي عن المنكر، ولا يصحّ أن تجلس مجموعة من الناس، ويلعبون القمار والشطرنج؛ فهو فعل حرام، وينبغي التصدّي له، والوقوف بوجهه؛ كما أنّ مراتب النهي عن المنكر مختلفة؛ هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، فإنّ ذلك الشيخ هو إمام جماعة مسجد الحيّ؛ ومواجهتُه بشكل علنيّ تتعارض مع علوّ المبادئ الإسلاميّة، ورفعتها، وهيمنة الشعائر الإسلاميّة، وقيمتها؛ وجميع هذه الأمور محفوظة في محلّها؛ لكنّ الكلام هو أنّه علينا أن نسأل ذلك العالم: هل إنّ نهيك عن المنكر صادر من كون ذلك الفعل ارتُكب في منطقة مسجدك، وترى فيه إساءة لك، أم أنّك كنت ستنزعج وتغضب بنفس تلك الدرجة، حتّى إذا سمعت بأنّ الناس يلعبون القمار في المنطقة الفلانيّة من طهران، أو خارجها؟ فنرى بأنّ الله تعالى سريعًا ما يُمسك بتلابيب الإنسان! فهنا، لا يُمكننا أن نخدعه سبحانه. فانزعاجك هل هو بسبب وقوع هذا الفعل في طريقك، أم بسبب اطّلاعك على ارتكاب المعصية؟ هل التفتّم؟! وهنا يأتي الشيطان، ويتوسّل بنفس طريق الله تعالى لقطع الطريق على الإنسان، وبنفس الأحكام الإلهيّة، لكي... ؛ فهو لا يأتي مثلاً، ويهدي كأسًا من الخمر إلى إمام المسجد؛ لأنّه يعلم بأنّه لن يشربها؛ ولو أنّنا أشرنا إلى أنّ البعض منهم يفعلون ذلك، إذا كنتم تتذكّرون؛ كما أنّه لا يقوم بوضع آلة القمار والشطرنج والنرد أمامه، ويدعوه للعب على مرأى من المأمومين؛ ولا يأتيه أيضًا بحبل، لكي يتسلّق به الجدار، ويلجأ للسرقة؛ لأنّه يعلم أنّه لن يفعل ذلك؛ ولو للمحافظة على سمعته كحدّ أقلّ؛ فإذن، من أيّ طريق سيتسلّل إليه؟ من طريقه الخاصّ؛ فيقول له: أنت إمام مسجد، وإمام جماعة؛ ومع ذلك، يأتي هؤلاء، ويسعون لمخالفة حكم الله تعالى في داخل دائرة سيطرتك ـ وقد يكون تعبيري قاصرًا ـ ، ومجال أمرك ونهيك، ونطاق تنفيذ أحكامك! أمسكهم، وقيّدهم، واضربهم، وافعل لهم كذا وكذا!

محوريّة الحقّ في مدرسة التشيّع

4
  • فمن كان هذا؟ كان شيطانًا، ومن دون شكّ أو ارتياب؛ وفقط صورته التي تبدّلت؛ وهنا يتبيّن بأنّه على الإنسان أن يغوص في نفسه، ويختبرها؛ وحينما تخلص [نيّته]، ويرى بأنّ الأمر لا يفرق عنده، ففي تلك الحالة فقط، يأتي، ويُقدم، ويأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر؛ وحيتئذ، سنرى بأنّ أمر هذا الإنسان بالمعروف يختلف عن الماضي، وأنّ أسلوب كلامه مغاير للسابق، وأنّه تخلّص من تلك الشدّة والحدّة، وأنّه يتحرّك بمقتضى التكليف الذي يشعر به، لا أكثر؛ وهذه مسألة دقيقة جدًّا؛ لماذا؟ لأنّ طريق الله تعالى دقيق؛ ولأنّ طريقه سبحانه حقّ؛ والحقّ يخضع لقواعد خاصّة، ومعايير محدّدة. 

  • الميزة الأساسيّة التي تفصل الشيعة عن بقيّة المذاهب

  • فالأمر المهمّ أنّ العبد لا ينبغي عليه في مقام العبوديّة أن يجعل نصب عينيه سوى المولى؛ ولا يجب على الإنسان الذي يكون من شيعة أمير المؤمنين أن يتراءى له غير المؤمنين، ويكون غيره مهمًّا بالنسبة إليه، ويُشكّل له مركزًا ومحورًا؛ فشيعة أمير المؤمنين تعتقد بأربعة عشر معصوم، وحسب! أوّلهم حضرة خاتم الأنبياء محمّد بن عبد الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وآخرهم حضرة بقيّة الله الحجّة بن الحسن العسكريّ أرواحنا لتراب مقدمه الفداء؛ فهذا هو الذي يكون من شيعة أمير المؤمنين؛ وكلّ واحد غير المعصومين الأربعة عشر ينبغي تقييمه بواسطة عرضه عليهم؛ فكلّما كان أقرب إليهم، كان أحسن، وكلّما كان أبعد منهم، لا يُمكننا القبول به، كائنًا من كان؛ فالعصمة والطهارة المطلقة مختصّة بهؤلاء الأربعة عشر وحسب؛ وأمّا بقيّة الناس والعظماء، فهم معزّزون ومكرّمون بمقدار ما يتحقّقون بهذه الطهارة المطلقة؛ فبنفس المقدار الذي يتمكّنون فيه من ذلك، سيفوزوا؛ وبمقدار ما انفصلوا عنهم، ولم يقبلوا منهم، سيخسروا؛ مهما كانوا، سواء كانوا من العوامّ، أو من مراجع التقليد؛ فنحن ملزمون باتّباع أولئك الأربعة عشر فقط؛ أجل، قد يوجد أشخاص ـ وهذا خاضع للأدلّة ومجموعة من المسائل والأمور التفصيليّة وغير ذلك ـ تمكّنوا من دخول هذا الحريم، والعبور من الحجب الظلمانيّة والنورانيّة، وصارت نفوسهم مندكّة وفانية في عين مقام الولاية العظمى لهؤلاء الأربعة عشر؛ فهؤلاء فقط وفقط يُستثنون من هذه القاعدة؛ لكن، متى وأين؟! فتجد كلّ من هبّ ودبّ يُطلق على نفسه اسم العارف، أو الوليّ، أو الواصل، أو كذا؛ فما معنى هذا الكلام؟! 

محوريّة الحقّ في مدرسة التشيّع

5
  • فهذه هي المسألة المهمّة التي نمتاز بها نحن الشيعة، حيث نرى أنفسنا ـ خلافًا للسنّة وإخواننا من أهل العامّة ـ أتباعًا للحقّ؛ فلا يفرق لدينا أين يكون هذا الحقّ. إنّ حياة المدرسة الشيعيّة تتوقّف على الإيمان بالتبعيّة للحقّ أينما كان، ومن دون أيّ فارق؛ وأمّا العامّة، فليسوا بهذا النحو؛ إذ يقولون: نحن نتبع الحقّ ما دام لم يُفضِ للمساس بشخصيّة الخلفاء، لا سيّما الأوّل والثاني منهم؛ لكن، إذا استتبع الأمرُ الخدش بهم، فلا مجال للحديث عن الحقّ هناك؛ يا للعجب! لماذا؟! لماذا لا ينبغي الكلام هنا؟ فالحقّ حقّ دائمًا؛ أ فلأنّ ذلك سيُؤدّي إلى المساس بشخصيّتي أبي بكر وعمر؛ فلهذا، لا ينبغي الكلام؟ من قال ذلك؟ 

  • ـ لأنّهما خليفتا رسول الله.

  • ـ لا بأس، ائتونا بدليل على أنّ خليفة رسول الله لا يُخطيء، وأنّه معصوم، وسنعترف لكم بذلك.

  • يقولون: ينبغي علينا المحافظة على حرمة الخلفاء؛ وحكمُهم إلى الله تعالى؛ فنحن لا علم لنا [بحقائق الأمور]؛ لكنّنا نسألهم: ما هو الفارق بينكم وبينهم؟ أ فهل كان مكتوبًا على جباههم في زمان رسول الله أنّهم خلفاء، أم أنّهم كانوا مثل بقيّة الصحابة؟ لقد كانوا مثل البقيّة، ولا يختلفون عنهم في شيء، فكانوا مثلكم. ولنفرض الآن مثلاً أنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يدخل هذا المجلس فجأةً، ويجلس في هذا المكان، فإنّنا سنكون جميعًا بالنسبة إليه سواسيّة.. نرجو من الله أن نكون ـ إن شاء تعالى ـ من شيعة الرسول، وندعوه سبحانه ألاّ يحرمنا في هذا العالم وفي ذاك من رعايته وولايته صلّى الله عليه وآله وسلّم، ورعاية وولاية أبنائه الطاهرين عليهم السلام؛ فهذا هو هدفنا، ومنتهى آمالنا؛ وحينئذ، فليقُل كلّ العالم ما يحلو له، فلا يهمّنا ذلك؛ وليستمرّوا في كلامهم إلى أن يتعبوا، فغاية ما نريد: ألاّ تقصر أيدينا في الدنيا والآخرة عن التعلّق بأذيال هؤلاء الأربعة عشر فقط وفقط. فلنفرض الآن أنّ الرسول أتى إلى هنا، فإنّنا سنكون بأجمعنا سواسيّة بالنسبة إليه؛ وحينما يرحل عنّا، فإنّنا سنجتمع لكي نختار من بيننا من يكون رئيسًا علينا؛ إمّا بالقرعة، أو الانتخابات، أو غير ذلك؛ ففي هذه الحالة، هل سيختلف هذا الرئيس عن البقيّة؟ لا، لن يختلف؛ لأنّ مسألة الانتخاب كانت اعتباريّة؛ وبالتالي، لن تُحدث أيّ فارق؛ فحينما كان رسول الله هنا، لم تكن تختلف عن الآخرين في أيّ شيء، فما الذي حصل حتّى صرت تختلف عنهم بعد الانتخابات؟ هل زادت هذه الانتخابات من علمك؟ أي: حينما انتخب الناس أبا بكر، هل صار فجأة بعد ذلك مرجعًا وعالمًا كبيرًا؟

محوريّة الحقّ في مدرسة التشيّع

6
  • جاء يهوديّ، ورآه جالسًا على المنبر؛ فقال: من هو الخليفة بعد رسول الله؟ قالوا له: انظر! تبارك الله أحسن الخالقين! إنّه على المنبر يتحدّث والنور يشعّ من وجهه؛ فقال: لديّ مجموعة من الأسئلة؛ السؤال الأوّل: أين الله؟ قال: {الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى}۱؛ فقد كان عالمًا بالقرآن؛ فقال: إذن، فالبساط الذي هو الأرض لا إله له؛ فبدأ يُفكرّ بماذا يُجيبه، فقال: «اضربوه، وأخرجوه من هنا!»؛ فأنت تقول إنّ الله تعالى على العرش، وأنا أقول لك: إذن البساط ليس له إله؛ فتقول: اضربوه! فهذا هو الخليفة الذي يفتخر به إخواننا من العامّة؛ مع أنّ هذه المسألة التي ذكرتها لكم ينقلها علماء أهل السنّة بأنفسهم، وقد أوردوها في كتبهم. فهو لا يحير جوابًا، بل يأمرهم بضربه؛ وحينئذ، ماذا تكون هذه الحكومة؟ عبارة عن حكومة السوط والقهر والشعارات [الفارغة]. كان عليك أن تقول: لا أعلم، وسوف أسأل أهل العلم عن ذلك.. نادوا على عليّ لكي يأتي؛ لكنّه عوضًا عن ذلك، يلجأ للضرب والطرد؛ فقال ذلك اليهوديّ: إذا كانت الحكومة الإسلاميّة بهذا النحو، فالوداع، سأرحل من هنا! فذهبوا عند عليّ عليه السلام، ليأتي، ويُدافع عن الإسلام! فقد ذهب ذلك اليهوديّ؛ فجاء أمير المؤمنين عليه السلام، والذي كان قاعدًا في بيته؛ لكن، ما إن يرتكبوا الحماقات، ويُفسدوا الأمور، حتّى يأتي هو ويُصلحها؛ فجاء عليه السلام؛ والرفقاء يعرفون بقيّة القصّة؛ لأنّني ذكرتها سابقًا؛ وبعد انتهاء حديث اليهوديّ مع أمير المؤمنين، نطق بالشهادة برسالة النبيّ؛ فأسلم، وشهد بخلافة أمير المؤمنين بلا فصل أمام أبي بكر وعمر؛ وحينئذ، ماذا عساهم [أي أهل السنّة] أن يقولوا؟ فإذا كان هذا هو خليفة رسول الله... ؛ وبالتالي، فإنّ الانتخابات لا تزيد من علم أيّ أحد؛ بل إنّها قد تُفقده مكتسباته؛ وأمّا أن تزيده... ؛ فنحن لم نر لحدّ الآن أنّ أحدًا انتخبه الناس، فتضاعف علمُه فجأةً بعد الانتخابات إلى ضعفين؛ وإذا رأى أحد ذلك، فليُخبرنا. ومن هنا، فإنّ [هذه الانتخابات] تكون أمرًا اعتباريًّا؛ وحينئذ، هل من شأن ذلك أن يُخطيء، أم لا؟ حتمًا يُخطيء؛ وفي هذه الحالة، ما هو الداعي لكي نتغاضى عن أخطائه؟ وهل يوجد قانون ومنطق يقول: إذا أخطأ أحد، علينا أن نقول إنّه ليس بخطأ، وعلينا غضّ الطرف، وعدم الالتفات؟! يقول إخواننا من العامّة: إذا أتينا، وقلنا إنّ أبا بكر أخطأ، وعمر أخطأ، وارتكب معصية، وكان عمله مخالفًا لعمل رسول الله، وقتل ابنته، وانحرف بالخلافة عن مسارها الأصليّ، وأضلّ الناس، فإنّ أبناءنا لن يتّبعوا بعد ذلك أبا بكر وعمر؛ ولهذا، فإنّنا نلجأ للكتمان. إنّك إذا لجأت للكتمان، فإنّ ابن تلك العائلة الذي يرى ذكرك وفكرك منصبّان بأجمعهما على مدح أبي بكر وعمر والثناء عليهما لن يتوجّه فكرُه إلى أيّ شيء آخر، ولن يندفع نحو البحث والتحقيق، بل سيقول: إنّهما قدّيسان! وفي هذه الحالة، إذا أتى شيعيّ، وتكلّم بكلام، فإنّ الدنيا تقوم عليه ولا تقعد؛ وكأنّ السماء ستقع على الأرض! ويُقال عنه: لقد تحدّث عن عمر بهذا النحو! لا يصحّ ذلك أبدًا! لقد عمد إلى التشكيك في شخصيّة عمر! والتشكيك في شخصيّة حضرة أبي بكر! وشخصيّة فلان! فما هو السبب في ذلك؟ سببه أنّنا لجأنا إلى الكذب منذ البداية، وتقاعسنا عن بيان الحقّ، وارتكبنا خيانة في حقّ التاريخ.

    1. سورة طه، الآية ٥.

محوريّة الحقّ في مدرسة التشيّع

7
  • ذات يوم، رأيت أحدهم يتحدّث مع آخر عن أحد الأشخاص؛ فكان يمدحه، ويستعرض صفاته، وأنّه كان بالنحو الكذائيّ، وأنّه كان مدمنًا على صلاة الليل، وأمثال ذلك؛ فقلت له: أيّها السيّد! هل أنت مطّلع على أحواله؟ فقال لي: نعم؛ فقلت له: إنّه جاري، وأنا على علم بأنّه حتّى صلاة الصبح يُصلّيها قضاء أحيانًا؛ فما الذي تقوله أنت؟ إنّك تكذب! أَ فمثل هذا لا تفوته صلاة الليل؟! إنّ صلاة الصبح تفوته، فما الذي تقوله؟ فترى هؤلاء يلجؤون للكذب؛ ممّا يُؤدّي لانخداع الناس الذين ينقصهم الفهم، فيسلكون طريقًا خاطئًا. فكما أنّ التفريط في حقّ الآخرين، والتركيز على نقدهم، وإفشاء بعض أسرارهم، وإشاعة بعض المسائل التي لم تُذع عنهم، بل يعلم بها الخواصّ فقط هي أعمال محرّمة، وتدخل في الغيبة، وتُؤدّي إلى انحطاط الإنسان؛ فكذلك الشأن بالنسبة للإفراط تجاه أحد الأشخاص، والمبالغة في حقّه، والتي تُؤدّي إلى وقوع البعض في الخطأ؛ فإنّها فعل حرام، وحرام، وحرام، من دون وجود فارق، أيًّا كان ذلك الشخص. فالمائز بين مدرسة التشيّع، وبقيّة المدارس يتمثّل في مسألة الحرّية في بيان الحقّ؛ فالشيعيّ حرّ في بيانه للحقّ؛ وتحديده لطريقه يكون نابعًا من اختياره وانتخابه، وليس من القهر والعصا والسيف وإثارة الشائعات وأمثال ذلك؛ لأنّ المدارس التي تعتمد على هكذا أمور ليست خاضعة للحقّ. فهذه هي مدرسة الشيعيّ.. مدرسة الحريّة؛ وفي هذه المدرسة، لا وجود للاحتكار؛ لأنّ الطريق مفتوح أمام الكلّ، وللجميع الحرّية في انتخاب الطريق؛ فلو فرضنا أنّ كافّة الناس قالوا: «أيّها السيّد، إنّ هذا العلم مضرّ بالنسبة إليك»، لما لزم أن يُصغي إلى كلامهم، بل عليه أن يُحدّد بنفسه هل طلبه مفيد بالنسبة إليه، أم لا؛ وليقولوا ما يحلو لهم. لقد قال جميع الناس بعد ارتحال الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم إنّ الحقّ مع أبي بكر وعمر؛ سوى ثلاثة أو أربعة أشخاص بقوا محيطين بأمير المؤمنين، أ فهل نقصت بذلك حقّانيته عليه السلام؟ وهل صار مُبطلاً؟ بل حتّى لو لم يأت أولئك الثلاثة، لما أثّر فيه شيئًا؛ لأنّه عليه السلام لا يحتاج إلى سلمان، ولا إلى...، بل الجميع يحتاج إليه هو. يقول الخليل النحويّ [الفراهيديّ] في حقّ أمير المؤمنين: يكفي لإثبات حقّانية عليّ أنّ الكلّ يحتاج إليه، وهو مستغنٍ عن الكلّ.. احتياجُ‌ الكُلِّ إليه واستغنائُهُ عَن الكلّ؛ فإذا كان أحد بهذا النحو، ألا يكون حقًّا؟ حتمًا سيكون كذلك! فهذه هي مدرسة التشيّع؛ يقول أمير المؤمنين: إذا لم يرغب سلمان أو عمّار أو حذيفة أو المقداد أو أبو ذرّ بالمجيء، فلا يأتون؛ لأنّني أنا الذي أشخّص الحقّ؛ ولهذا، إذا أردتم أن تُجبروني على البيعة، فافعلوا، لكنّكم لن تتمكّنوا من تغيير باطني؛ فسحبوا أمير المؤمنين بالحبل إلى المسجد «كالجمل المخشوش»۱؛ أي أنّهم وضعوا الحبل على عنقه، وجرّوه بذلك النحو. وبحقّ، تعالوا، وانظروا الآن إلى سلوك الدولة الإسلاميّة تجاه عليّ عليه السلام! وليأت إخوتنا من أهل السنّة، ولينظروا ما الذي فعله قادتُهم بصهر الرسول؛ أ فهكذا تُريدون أخذ البيعة من الناس؟! أي: بأن تضعوا الحبل على عنق صهر الرسول الذي يدين استمرار كلّ الإسلام لوجوده، وكلامه، وسيفه، وتضحيته؟ أ هكذا يكون الأمر؟ فما إن ينظر الإنسان إلى هذه الأحداث، ويرى أمير المؤمنين في تلك الحالة، حتّى تلزمه قراءة الفاتحة على هؤلاء، وتوديعهم من دون تأخير. وفي ذلك الحين، يأخذون أمير المؤمنين إلى المسجد لأجل البيعة؛ لكنّه لا يرتضي بذلك؛ فيضربون يده بيد أبي بكر، ويهتفون بالتسليمات والصلوات؛ فتتمّ ـ على حدّ زعمهم ـ البيعة؛ لكن ما حقيقة هذه البيعة؟ إنّها بيعة "شعاريّة". على هؤلاء أن يعلموا بأنّ حكومتهم قد كانت بهذا النحو، وأنّ قادتهم امتطوا ظهور الناس بهذه الطريقة؛ فضربوا ابنة الرسول وقتلوها، وأحضروا أمير المؤمنين إلى المسجد، واستلّوا منه البيعة بذلك النحو؛ وحينما صار ذاك خليفة لرسول الله، اكتسب شخصيّةً، فلم يعُد بالإمكان الاعتراض عليه؛ لكن، هل إنّ الشخصيّة التي يحصل عليها الإنسان بهذا النحو تحظى بأيّة قيمة؟ وهل ينبغي احترام هكذا شخصيّة، والتي تحصل بهذه الطريقة؟ بعد ذلك، احتاروا، ولم يعلموا ما الذي ينبغي عليهم قوله [لتبرير أفعالهم]، فجاؤوا، وقالوا: «أصحابي كالنُّجُوم، بِأيِّهِمُ اقتَدَيتُم اهتَدَيتُم‌»٢؛ فهم كانوا مضطرّين لأن يقولوا أصحابي كالنجوم؛ لأنّهم ارتكبوا عملاً مشينًا، واحتاروا في كيفيّة تبريره، فقرّروا اختلاق الحديث؛ إذ ينبغي في نهاية المطاف أن ...، ولا يُمكنهم أن يظلّوا ساكتين هكذا، بل عليهم تقديم جواب للناس؛ فلا يسعهم أن يبقوا جالسين من دون حركة؛ ومن هنا، بدؤوا في وضع الأحاديث، ونقل المنامات، ونسج الكرامات؛ إذ يتعيّن في الأخير المحافظة على استمراريّة هذه المسألة بطريقة ما؛ فلماذا كانت تتمّ تلك الدعوات، والإطعامات، وتخليد الذكريات و...؟ للمحافظة على الاستمراريّة، حيث ينبغي أن نحافظ على بقاء تلك القضيّة بنحو من الأنحاء؛ بينما الحاكم في الإسلام هو الحريّة.

    1. بحار الأنوار، ج ۸٢، ص ٢٦٣.
    2. بحار الأنوار، ج ٢٣، ص ۱٥٦. وللاطّلاع على شأن هذه الرواية سندًا ودلالةً، يُمكن الرجوع إلى كتاب الصوارم المهرقة في جواب الصواعق المحرقة للقاضي نور الله التستريّ، ص ٣؛ كما أنّ هناك رواية منقولة عن الإمام الرضا عليه السلام جاء فيها: سُئِلَ الرِّضَا عليه السلام عَنْ قَوْلِ النَّبِيِّ: «أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ بِأَيِّهِمُ اقْتَدَيْتُمُ اهْتَدَيْتُمْ»، وَعَنْ قَوْلِهِ صلّى الله عليه وآله وسلّم: «دَعُوا لِي أَصْحَابِي»، فَقَالَ: هَذَا صَحِيحٌ يُرِيدُ مَنْ لَمْ يُغَيِّرْ بَعْدَهُ ولَمْ يُبَدِّلْ. قِيلَ: وكَيْفَ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ قَدْ غَيَّرُوا وبَدَّلُوا؟ قَالَ: لِمَا يَرْوُونَهُ مِنْ أَنَّهُ صلّى الله عليه وآله وسلّم قَالَ: «لَيُذَادَنَّ رِجَالٌ مِنْ أَصْحَابِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَنْ حَوْضِي كَمَا تُذَادُ غَرَائِبُ الْإِبِلِ عَنِ الْمَاءِ فَأَقُولُ: يَا رَبِّ أَصْحَابِي أَصْحَابِي، فَيُقَالُ لِي: إِنَّكَ لَا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ فَيُؤْخَذُ بِهِمْ ذَاتَ الشِّمَالِ، فَأَقُولُ: بُعْدًا لَهُمْ وسُحْقًا» أَ فَتَرَى هَذَا لِمَنْ لَمْ يُغَيِّرْ ولَمْ يُبَدِّلْ؟ (بحار الأنوار، ج ٢۸، ص ۱۸)

محوريّة الحقّ في مدرسة التشيّع

8
  • مشكلتنا الأساسيّة المتمثّلة في عدم التعاطي مع الحقّ بشكل سليم

  • لا أعلم هل حدّثتكم بالحكاية التالية سابقًا، أم لا؛ فقد كان الشيخ محمّد حسين الكمبانيّ الأصفهانيّ رحمة الله تعالى عليه من عظماء ومفاخر علماء الشيعة الذين برزوا منذ صدر الإسلام وإلى الآن؛ فقد كان من أهل المراقبة والذكر، حيث أخذ برنامجًا للذكر والمراقبة من الميرزا جواد الملكيّ التبريزيّ رحمة الله تعالى عليه، والذي يقع قبره في مقبرة شيخان بقمّ؛ وهو من كبار الأولياء، وكان تلميذًا للمرحوم الآخونذ الملاّ حسين قلّي الهمدانيّ. كان المرحوم الكمبانيّ من الشخصيّات العظيمة، حيث تندرج كتبه في ضمن الطراز الأوّل من الكتب العلميّة، ويُعكف على دراستها وتحقيقها في أعلى المستويات العلميّة؛ وقد كان يأتي إلى حرم المؤمنين عليه السلام، وينهمك في السجود، وقراءة الأذكار، ويقرأ الذكر اليونسيّ هناك؛ إذ كان يرى بأنّه مكان خلوة، علاوةً على أنّه حرم أمير المؤمنين؛ فهل يُمكن أن يوجد مكان أفضل منه؟ ففي البيت، هناك صراخ الأطفال وبكاؤهم، كما أنّهم لا يفترون عن طرق الباب؛ وأمّا هنا، فحرم أمير المؤمنين، حيث يُمكنه أداء سجدته من دون أن يهتمّ لحاله أيّ أحد. مرّت فترة من الزمان، فبدؤوا يتناقلون الكلام، ويتساءلون: من هذا الذي يسجد؟ عجيب! ما هذه الأفعال؟ ما معنى السجود لمدّة ساعة واحدة؟ إنّ هذه من أفعال الصوفيّة، وألاعيب الدراويش! لم نسمع بهذه الأمور من قبل! لم تكن هذه البرامج موجودة سابقًا! ومن الذي كان يتحدّث بهذا الكلام؟ إنّهم علماء النجف الذين كانوا يقولون ذلك في حقّ الشيخ محمّد حسين الأصفهانيّ؛ إلى درجة أنّهم بدؤوا يهمسون بالقول: لقد صار درويشًا، وصوفيًّا، وكذا، وهو يقول الذكر اليونسيّ في سجوده. وبعد ذلك، أتاه سيّد الشهداء عليه السلام في إحدى تلك السجدات، وقال له: قم يا عزيزي، واذهب إلى بيتك، وأدّ هذه السجدات هناك؛ فقد بدؤوا يتحدّثونك عنك، وليست هناك حاجة لتؤدّيها هنا! فما معنى ذلك؟ معناه أنّ الإمام الحسين عليه السلام يقول: يا عزيزي! نحن أيضًا لم نعُد نعلم ماذا نفعل مع هؤلاء! فهذا هو معنى ذلك الكلام، وبكلّ صراحة؛ فهو عليه السلام يقول: قم، واذهب إلى بيتك، وأدّ السجدات هناك يا عزيزي! فهم يتحدّثونك عنك؛ فقام، وذهب إلى بيته. ثمّ إنّه لمّا جاءه أحدهم، قال له: إذا كان من المفترض أن تكون هذه السجدة من عمل الصوفيّة، فإنّ سجدة موسى بن جعفر التي كانت تستمرّ من الصبح إلى الظهر ستكون من عمل أصوف الصوفيّة؛ وعلينا أن نقول عنه عليه السلام أنّه كان أكثر الدراويش دروشةً! فما سبب ذلك؟ سببه الجهل. لقد جاء المرحوم الشيخ محمّد حسين الأصفهانيّ بعينه، برفقة كلّ من المرحوم الشيخ محمّد رضا المظفّر، والمرحوم البلاغي عند السيّد أبي الحسن الأصفهانيّ؛ وقد أشرت إلى هذه المسألة من على المنبر في مشهد بمناسبة مولد إمام الزمان عليه السلام على ما يبدو؛ وذلك أثناء حديثي عن ظهوره عليه السلام، وأنّه حينما يظهر، ينفتح باب العلم في وجه الجميع؛ فلن تعود هناك أيّة قيود أمام الناس من أجل طلب أيّ علم مفيد بالنسبة إليهم، بحيث سترتفع جميع تلك القيود والاتّهامات؛ فذهبوا عنده بالنجف، حيث كان هو المرجع في ذلك العصر؛ وحينما أتى الخادم، قالوا له: نحتاجه في أمر معيّن؛ فجاء السيّد أبو الحسن؛ وبعدما تحدّثوا قليلاً، قال لهم: ماذا يُريد المشايخ منّي؟ وتجدر الإشارة إلى أنّ هذه القصّة التي أحكيها لكم هي عين كلام العلاّمة الطباطبائيّ رحمة الله تعالى عليه؛ أي أنّني أنقلها لكم من دون واسطة؛ فقال لهم: ماذا يُريد المشايخ منّي؟ قالوا له: جئنا لنقول لك إنّ الناس في الأزمنة السابقة كانوا يتّصفون في تعاطيهم مع القضايا الدينيّة بصفاء الباطن، والبساطة، والخلوص؛ فكان يُصغون إلى مراجعهم ويُطيعونهم في كلّ ما يأمرونهم به، من دون أن يُشكلوا عليهم، أو يُجادلوهم؛ وأمّا في هذا العصر، فقد اختلفت الظروف، وصار الإسلام موضعًا لهجمات اللادينيّين من كلّ جانب، وبدأت تنتشر المدارس المادّية المختلفة، وأصبحوا يُهاجمون أصل الإسلام وكيانه من ناحية عقائديّة وعقليّة وتخصّصية، وليس من ناحية فقهيّة؛ فلم تعُد تنفعنا الآن رسالة توضيح المسائل في أبواب الطهارة والنجاسة والصلاة والدعاء وأمثالها؛ كما أنّ كتابة الرسائل العمليّة ونشرها لا تستطيع في ظروفنا الحاليّة صدّ الهجمات الموجّهة إلى الأصول العقائديّة؛ فالرسالة العمليّة تقول من باب المثال: إذا أصابت نجاسة هذا الموضع، عليك أن تصبّ عليه الماء مرّتين؛ بينما ذلك [المستشكل] يقول: أنا لا أعترف بأصل إسلامكم؛ وتأتون لتسألونني عن المسائل الفرعيّة! وأيضًا، مكتوب في الرسالة العمليّة أنّه عند الشكّ في الصلاة بين ثلاث أو أربع ركعات، ينبغي البناء على الأربع، وإكمال الصلاة؛ لكنّ ذلك يقول: إنّني لا أقبل بأصل صلاتكم من الأساس؛ وتأتي أنت، وتُحدّثني عن أحكام الشكّيات! ولهذا، فإنّنا بحاجة لأن يدرس طلاّبنا الفلسفة والعلوم العقليّة، حتّى يتمكّنوا من الصمود أمام هذه الهجمات. ومن الجدير بالذكر أنّني بيّنت لكم هذه القصّة بنفس الطريقة التي سمعتها من المرحوم العلاّمة الطباطبائيّ؛ لكن، إذا كان لأحدكم إشكال في هذا البيان، فليتفضّل الآن. لاحظوا! لا يستطيع أيّ أحد أن يعترض على ذاك الكلام؛ لماذا؟ لأنّه يحكي عن مسألة فطريّة؛ وأنا أسألكم الآن: هل يتوجّه أيّ إشكال إلى ذلك الكلام الذي ذكرت فيه أنّ الشيخ محمّد حسين الأصفهانيّ جاء عند السيّد أبي الحسن الأصفهانيّ، وحدّثه بتلك المسألة؟ فنحن نشاهد ذلك بأمّ أعيننا؛ لكن، هل تعلمون ما هو الجواب الذي قدّمه السيّد أبو الحسن الأصفهانيّ؟ شاهدوا ما الذي سيقوله الآن! فجوابه لم يتوجّه إلى المقدّمة، ولا إلى الصغرى، ولا الكبرى، ولا النتيجة، بل قال: قد يعتقد أحد بأنّ أموال الإمام عليه السلام وسهمه ليست مِلكًا شخصيًّا له، لكنّني أرى أنّ هذه الأموال ملكًا شخصيًّا لي، وأنا لا أرضى بمنح ريال واحد منها إلى طالب علم يدرس الفلسفة؛ فهذا هو جواب السيّد أبي الحسن الأصفهاني الذي كان مرجعًا للتقليد؛ هذا، مع أنّ خصمه لم يكن طالبًا في مرحلة المقدّمات، بل كان هو الشيخ محمّد حسين الكمبانيّ؛ بمعنى أنّه: إذا أردنا أن نضع كتب السيّد أبي الحسن الأصفهانيّ في مقابل مصنّفات الشيخ محمّد حسين الأصفهانيّ، فإنّها تخرج عن دائرة المقارنة من الناحية العلميّة؛ فقد كانت علميّة الشيخ وتقواه محطّ اعتراف من الجميع؛ وأمّا خصمه الآخر، فقد كان هو الشيخ محمّد رضا المظفّر تلميذ الشيخ محمّد حسين الأصفهانيّ، والذي كان من أبطال النجف؛ لماذا ينبغي أن يكون الأمر بهذا النحو؟ ولماذا يتمّ التعامل بهذه الطريقة عوضًا عن تقديم الجواب؟ فهذه المشكلة هي مشكلتنا الدائميّة؛ ففي قبال المسائل الحقّة، لا نسعى للتعاطي معها بحقّ، وفهمها، وإدراكها، وتحمّلها، ثمّ اتّخاذ الموقف المناسب تجاهها، بل نسلك مسارًا خاطئًا في التعامل معها، ونذهب من الطريق الترابيّ، ونتخلّى عن الطريق الأصليّ.

محوريّة الحقّ في مدرسة التشيّع

9
  • القداسة في مدرسة التشيّع مقتصرة على المعصومين الأربعة عشر وحسب

  • فنحن الآن نُشكل على إخواننا من أهل السنّة بأنّهم على هذه الشاكلة، لكن، هل نحن مختلفون عنهم؟ فنحن نقوم بالفعل ذاته، ونُطبّق المسألة ذاتها. إنّ القداسة في مدرسة التشيّع مقتصرة على المعصومين الأربعة عشر فقط؛ وأمّا الباقي، فعليهم مواءمة أنفسهم معهم؛ وإذا لم يتمكّنوا من ذلك، فالمشكلة راجعة إليهم هم، وليس إلينا نحن.

  • لقد شاهدت المرحوم العلاّمة رضوان الله تعالى عليه يُمجّد والده مرّات وكرّات؛ وأنا أريد أن أنقل هذه القصّة لأوّل مرّة هنا؛ إذ لم أتحدّث عنها حتّى في المجالس الخاصّة؛ لكنّني أريد هنا أن أذكرها للرفقاء والأحبّة لكي يتبيّن لنا أنّ الفرد ليس بملاك، بل الملاك بالنسبة إلينا هم المعصومون الأربعة عشر وحسب؛ وأمّا غيرهم فليسوا بملاك كائنًا من كانوا. لقد كان المرحوم العلاّمة يمدح أباه كثيرًا؛ فقد كان رجلاً عظيمًا، ومن أهل الإيثار والإنفاق والحلم؛ كما أنّ الجهاد الذي أبداه ضدّ رضا شاه لم يقم به أيّ أحد؛ وقد كان يرى جميع الناس أنّه الوحيد الذي... ؛ أجل، كان هناك أيضًا المرحوم المدرّس، والذي أبلى بلاءً حسنًا في تلك الظروف، ولم يكن يغضّ الطرف عن الحقّ، وكان بحقّ رجلاً شجاعًا، ولا يأبه لأيّ شيء، ويهمّه فقط اتّباع الحقّ والصراحة في الكلام وأمثال ذلك؛ ومع ذلك، فإنّ الضغوطات التي تعرّض لها جدّنا كانت عجيبة حقًّا؛ وينقلون عنه العديد من الحكايات في هذا المجال؛ فيحكي عنه أولئك المسنّون الذين عاصروا تلك الفترة، ولا يزالون على قيد الحياة، وكانوا يعيشون في شارع شاه آباد والمسمّى حاليًّا بشارع الجمهوريّة، وفي منطقة بهارستان حيث كان يتردّد هناك أنّه ولمرّات عديدة حينما كان يمرّ رضا شاه بسيّارته من هناك، فإنّه كان يقف أمام السيّارة إمّا عمدًا أو لا ـ فأنا لا أعلم ـ ، حتّى تضطرّ سيّارة رضا شاه للتوقّف، فيعبر هو؛ فإلى هذه الدرجة كان يُبدي معارضته العلنيّة له؛ وكان رضا شاه يقول ـ وهذا عجيب جدًّا ـ: أنا لم أشاهد من بين المشايخ والعلماء أحدًا أشدّ وأصلب من السيّد محمّد صادق اللاله زاري في معارضته لرأينا في مسألة الحجاب ومخالفة الأحكام الإسلاميّة. ويحكي لنا والدنا ـ وأنا أذكر هذه الأمور من باب التأكيد على المسألة التي أريد بيانها ـ أنّه كان يقول: «بعدما لاذ رضا شاه بالفرار، ورحل عن إيران، تمكّنت تلك الليلة وبعد مرور عشرين سنة من وضع رأسي على الوسادة بكلّ راحة»؛ وكان جدّنا يقول: «ذات ليلة، تمنّيت ألاّ أبقى حيًّا إلى الصباح بسبب أفعال ذلك الرجل!»؛ وهو لم يكن مازحًا، حيث كان مضربًا للأمثال في غيرته على الدين؛ وكانت أحواله ومعنويّاته تحكي عن علوّ نفسه، وإبائه، وسموّ روحه؛ فجميع هذه المسائل صحيحة؛ لكن، ذات يوم، كنت في الطابق العلويّ من منزلنا بطهران، وقد كان عمري آنذاك يبلغ تقريبًا السادسة أو السابعة عشرة، فسمعت صوت والدي قد ارتفع أثناء حديثه مع بعض أخواته بشأن مهر أحد بناتها؛ أي بخصوص مهر ابنت أخته، بحيث إنّ المسألة كانت ستصل ـ مثلاً ـ إلى حدّ النزاع؛ وفي تلك الأيّام، كنت مشغوفًا بحبّ الاستطلاع؛ فأحببت أن أنزل إلى تحت، لكي أرى ما الذي يحدث، فوقفت عند الممرّ، لكي أسمعهم ماذا يقولون؛ فشاهدت المرحوم العلاّمة يتحدّث، وتلك المرأة التي كانت من أقربائه، ومحارمه كانت تقول: «لا يُمكننا تجاوز ذلك المنهج الذي سار عليه المرحوم الوالد»؛ فقال لها: «إنّ هذا الكلام مجانب للصواب؛ فالمنهج الوحيد الذي نقبل به هو منهج الأئمّة عليهم السلام؛ ومهما كان والدي، فقط أخطأ في هذه المسألة».. هكذا بصوت مرتفع!

محوريّة الحقّ في مدرسة التشيّع

10
  • لقد كان رأي المرحوم الوالد ـ كما هو عليه الأمر في الحقيقة ـ يقضي بكون سنّة رسول الله تعالى في باب الزواج من نساء الأمّة مبنيّة على مهر السنّة؛ وقد جاءت الأحاديث مطابقة لهذا الأمر، حيث رُوي عن موسى بن جعفر عليهما السلام أنّه قال إنّ جبرائيل أتى، وعيّن مهر ابنة رسول الله، فقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: أنا مكلّف من قبل جبرائيل بأن أجعل مهر ابنتي خمسمائة درهم؛ وسأفعل ذلك؛ حتّى يكون سنّة لأمّتي.۱ وفي هذه الحالة، نأتي نحن ـ ومرادي نحن علماء الدين ـ ونؤوّل هذا الكلام الصريح الصادر من رسول الله، ونقول: أيّها السيّد! في ذلك العهد، كانت خمسمائة درهم تُساوي القيمة الفلانيّة، و... .

  • كنت في مجلس، فجاء أحدهم، وأثار هذه المسألة، وقد كان من مشايخ طهران المشهورين، فغضبت بشدّة، ونهرته، فلم ينبس ببنت شفة، وسكت، حيث كان يقول: «صحيح أنّها كانت خمسمائة درهم، لكنّ هذا المبلغ كان يُمثّل جميع ثروة عليّ، وإلاّ، فإنّه لا يلزم أن يكون المهر خمسمائة درهم فقط»؛ فقلت له: أيّها السيّد! لو فرضنا أنّ عليًّا كان يملك كلّ الأرض ذهبًا، هل كان سيجعلها مهرًا لزوجته ابنة الرسول؟ فهل المسألة بهذا النحو، أم أنّها موافقة لما جاء في الروايات التي تقول بأنّ السنّة ينبغي أن تكون بتلك الطريقة؟ لماذا تلجؤون للشعارات؟ لماذا تعملون على تأويل الكلام الصادر عن رسول الله؟ لماذا؟ لقد قدّم عليّ كلّ ما يملك لأجل السيّدة الزهراء؛ وصحيح أنّه لم يكن يملك شيئًا غير درعه، لكن، هذا ليس دليلاً يُسوّغ لكم أن تقولوا: «يُمكنكم أنت أيضًا أن تهبوا [للزوجة] كلّ أموالكم بعنوان مهر»، وتطرحون ذلك كحكم شرعيّ وفقهيّ وأخلاقيّ؛ ما هذا الكلام؟ إنّه عبارة عن إحداث انحراف في سنّة النبيّ، وعمليّة خداع للناس، واحتيال على الدين، واستغلال لتلك العلوم. لقد قال الرسول: «جعلت مهر ابنتي خمسمائة درهم، لكي يتأسّى بذلك الجميع، ولا يُغالوا في »؛ وأنت تلجأ للتبرير بما يتعارض وكلام رسول الله الصريح! بعد ذلك قال [المرحوم العلاّمة]: «أنا لا أقبل بنهج والدي القاضي بالزيادة في المهر، وقوله أنّ السبب في ذلك هو أن يعرف الأزواج قدر نساءنا»؛ فالقضيّة هي بهذا النحو؛ أي أنّ التمجيد محفوظ في محلّه؛ لكن، حينما نُصادف موقفًا يكون من الضروريّ فيه التصريحُ بالحقّ، فإنّ الإنسان لا يُمكنه الكتمان؛ وهذا الأمر هو الذي أدّى بنا للاعتقاد بأنّ والدنا كان رجلّ حقّ؛ فتلك المسألة محفوظة في محلّها، وهذه القضيّة أيضًا محفوظة في محلّها؛ فالسنّة هي سنّة الرسول، وكلّ من يُخالفها لا نرتضي قوله كائنًا من كان، ولو كان آية الله؛ فنحن لا نقبل بالباطل من أيّة جهة صدر؛ فهكذا تكون مدرسة التشيّع؛ لأنّها المدرسة التي تضع نصب عينيها الحقّ وحسب، وترفض كلّ ما يُخالفه، وتُنحّيه جانبًا. وحتّى حينما نقلت لكم في الجلسة السابقة تلك الحكاية عن آية الله السيّد الخوئيّ رحمة الله تعالى عليه التي حدثت له مع المرحوم العلاّمة، فإنّ ذلك كان مبتنيًا على مسألة أنّنا نُكنّ له الاحترام؛ فنحن نستفيد من علومه وكلماته؛ وأنا بدوري، جعلت آراءه من ضمن الأمور التي أعتمد عليها في مطالعتي أثناء تقرير درس الخارج؛ لكن، كما أنّ مجال نقد آراء الناس مفتوح أمام طالب العلم، بحيث لا يُمكنه أن يُخضع آراءه ومبادئه ومُدرَكاته لتأثير شخصيّاتهم، فإنّ طالب العلم يحقّ له أيضًا إبداء رأيه تجاه منهج أحد الأفراد، وبيان مواطن الصحّة والخطأ فيه؛ ولقد كان المرحوم السيّد البروجرديّ رضوان الله تعالى عليه يقول مرارًا وتكرارًا من على المنبر: «الشخصيّة التي يتمتّع بها العظماء لا ينبغي أن تصدّ الطلاّب عن التحقيق والتفحّص في مواطن الخطإ والصواب»؛ فالمراجع العظام محترمون لدينا، ونحن نُقيّم جهودهم ومساعيهم المبذولة في سبيل تنقيح المباني والأحكام؛ وهذا بحدّ ذاته مبنى كنّا نقول به، ولا زلنا كذلك.

    1. الكافي، ج ٥، ص ٣۷۷.

محوريّة الحقّ في مدرسة التشيّع

11
  • عدم بلوغ أعلى مراتب التوحيد والعرفان ليس مسوّغًا لعدم احترام العلماء الأعلام

  • ذات يوم، كنت أشارك في مجلس يحضره أيضًا بعض أصدقاء المرحوم الوالد القدامى، فأقدموا كنايةً وتلميحًا على إهانة أحد العلماء المتقدّمين بقولهم: هذا كذا وكذا... فانتابني الأسى والاستياء في ذلك المجلس، وقلت: ما الذي تعنيه إهانتكم لهذه الشخصيّة العظيمة؟ فالشيخ عبّاس القمّي لم يكن بالشخصيّة الهيّنة؛ فهو صاحب كتاب مفاتيح الجنان؛ وقد كان مشهورًا بالقداسة والتقوى، وكان يقول: لقد عملت بجدّ لمدّة ثلاثين سنة من أجل تأليف كتاب سفينة البحار؛ والعلماء والطلاّب مطّلعون على الجهد والتعب الذي بذله المرحوم الشيخ عبّاس القمّي في النظر في كتاب بحار الأنوار، لتصنيف كتاب سفينة البحار؛ كما كان من أهل التهجّد وصلاة الليل، وكان رجلاً عظيمًا، ووجهه يشعّ بالنور؛ لكنّه لم يكن من أهل العرفان.. حسن جدًّا، لم يكن منهم؛ لكن، هل إنّ الذي لا يكون من أهل العرفان، ولا يكون واقفًا على المسائل التوحيديّة سوف يذهب إلى جهنّم؟! فلكل واحد مقام خاصّ، ودرجة معيّنة؛ والله تعالى ينظر إلى همّة كلّ فرد، وإخلاصه في العمل؛ وبمقدار ما يتحقّق بذلك، يُعطيه الله تعالى الأجر والثواب، ويرفع من مقامه ودرجته؛ وصحيح أنّ الباري عزّ وجلّ لم يُوفّقه إلى إدراك تلك المراتب الرفيعة، لكنّ ذلك لا يعني أنّ الجنّة ستكون خالية بأجمعها، سوى مرتبة واحدة عالية مختصّة بأفراد معدودين، بل إنّ للجنّة مراتب مختلفة: مرتبة عالية، ومرتبة أدنى، إلى أن نصل إلى مرتبة ...؛ أ فلم يتحدّث القرآن الكريم عن أصحاب اليمين، وأصحاب الشمال، والمقرّبين؟ فأصحاب اليمين هم طائفة من المؤمنين الذين لهم أحوال خاصّة، وصفات نفسانيّة معيّنة، ومراتب محدّدة؛ غاية الأمر أنّهم يختلفون عن المقرّبين.. حسن جدًّا، فالمقرّبون عدّتهم قليلة ومحدودة، لكنّ هذا لا يُسوّغ لنا إهانة الإنسان وسحقه إذا لم يصر منهم؛ لا، أ فهل نحن أيضًا من المقرّبين؟ أ فهل نحن بدورنا ...؟ لا.

  • أذكر في أحد الأيّام أنّ المرحوم الوالد كان يتحدّث مع هؤلاء الأفراد بخصوص المسألة ذاتها؛ فرأيته يُحامي بشدّة عن العلاّمة الحلّي رحمة الله تعالى عليه، والمحقّق الحلّي، والشيخ الطوسيّ، وأمثالهم، ويقول لهم: من الذي حافظ على هذا الدين؟ والعديد من هؤلاء العلماء ضحّوا بأرواحهم في سبيل الدين؛ نظير القاضي نور الله التستريّ؛ هل تعلمون ماذا فعلوا به؟ حينما انتبهت جماعة من الهند إلى أنّه شيعيّ، عقدوا العزم على إعدامه، وسعت كافّة القبائل للتبرّك بدمه، والمشاركة في سفك دمه؛ فأخذوا سياطهم الشائكة، وأهووا بها على جسده، إلى أن اختلط لحمه بجلده وعظمه؛ فقد كان علماؤنا بهذا النحو، كما أنّ الشهيد الأوّل أُهرق دمه في سبيل إحياء الدين، وكذلك الشأن بالنسبة للشهيد الثاني؛ فقد ضحّى عظماؤنا بأرواحهم في سبيل الدين، غاية الأمر أنّ بعضهم كانت وفاتهم طبيعيّة، والبعض الآخر... فجميع هذه الأمور محفوظة في مكانها. قال لهم والدي: هل هذه الصلاة التي تُؤدّونها وصلتكم عن طريق مكاشفة، أو منام، أو وحي؟ فمن الذي أبلغكم بها؟ ومن الذي أوصل إليكم هذا الصيام؟ بالتأكيد، أولئك العلماء؛ فصحيح أنّهم ليسوا عرفاء، فليكُن ذلك؛ وصحيح أنّهم ليسوا من أولياء الله تعالى الذين بلغوا الدرجة العليا، فليكونوا كذلك؛ لكن، أولياء الله تعالى بدورهم ليسوا أئمّة، فهل سيُثير ذلك أيّ إشكال؟ فمرتبة الإمام أعلى من الجميع، وينبغي لها أن تكون كذلك. لا يجوز لنا لمجرّد أن يكون أحد العلماء في مرتبة دانية أن نأتي نحن، ونُلغي وجوده من الأساس، ونمحيه، ونقول عنه أنّه مُنَحّى، ومطرود، وملعون، وواقع مثلاً تحت سخط الله تعالى وغضبه؛ فالمسألة ليست بهذا النحو! لقد كان السيّد الخوئيّ رحمة الله تعالى عليه رجلاً فاضلاً، ومن أهل التهجّد؛ ولديّ اطّلاع على أحواله، فقد كانت أعماله لله تعالى، وهذه بأجمعها محفوظة في مكانها الخاصّ؛ لكنّنا في الوقت ذاته لا نستطيع القبول بكلامه عن مسألة العرفان، وإبداء رأيه فيها؛ وهذا أيضًا محفوظ في مكانه الخاصّ. فنحن مطالبون بأن نُقيّم ـ بنظرة وفكر منفتحين ـ نهج كلّ واحد ومدرسته، اعتمادًا على نهج الأئمّة عليهم السلام، بحيث تكون مكانة كلّ واحد ودرجته متوقّفة على مقدار اتّباعه لمدرسة الأئمّة عليهم السلام. فإذا كنّا نعلم بأنّ التحقيق في المسائل العلميّة والمنطقيّة والفلسفيّة من المبادئ المتسالم عليها في مدرسة الإمام الصادق، وأنّه عليه السلام كان يسوق الناس إلى الإسلام عن طريق البيان والمنطق، فكيف نُجيز لأيّ أحد أن يقدح في هذا الأمر بعنوان الدفاع عن مدرسة الإمام الصادق عليه السلام؟ فنحن لا نقبل بذلك بتاتًا؛ وهذه مسألة لا يُمكننا ارتضاؤها أبدًا؛ أجل، يبقى أنّ لكلّ واحد مكانته المحفوظة، وله درجة خاصّة، ومقام معيّن.

محوريّة الحقّ في مدرسة التشيّع

12
  • عدم جواز إطلاق لفظ الإمام بنحو مطلق على غير الإمام

  • لقد كان المرحوم الوالد رضوان الله تعالى عليه يُبدي أقصى درجة من الغيرة والحميّة تجاه حدود الإمامة وثغورها ونطاقها، بحيث لم نر أحدًا بلغ ذلك المستوى من الدفاع عن حريم الإمام عليه السلام؛ وقد صنّف الجزء الثامن عشر من كتاب معرفة الإمام، لكنّه لم يُطبع بعد،۱ حيث أثبت فيه بالأدلّة أنّ إطلاق لفظ الإمام ينبغي أن يكون مقتصرًا بنحو مطلق على الأئمّة الإثني عشر فقط؛ بمعنى أنّه: في الثقافة الشيعيّة، ينبغي إطلاق الإمام على الأئمّة الإثني عشر، ولا يجوز إطلاقه على غيرهم؛ أجل، لدينا إمام الجماعة، وإمام الجمعة مثلاً، ولا إشكال في ذلك، حيث يُراد من إمام الجماعة الذي يُقتدى ويُؤتمّ به في الصلاة؛ وهكذا أيضًا بالنسبة إلى إمام الجمعة، وأمثال ذلك؛ وأمّا إذا أطلقنا لفظ الإمام بنحو مطلق؛ كأن نقول: جاء الإمام، ذهب الإمام، قال الإمام، ...، فإنّ الإمام هنا يعني الإمام بشكل مطلق؛ وهو يختصّ بأولئك الإثني عشر، ولا يجب تجاوز هذه الدائرة.

  • وقد أورد المرحوم العلاّمة هناك مجموعة من الأدلّة على ذلك، لكنّني لن أخوض فيها الآن، وليس محال بحثها هنا؛ أجل، يبقى أنّ رأيي مطابق لرأيه؛ فلا يجوز إطلاق لفظ الإمام بنحو مطلق على غير المعصومين الإثني عشر، وأنا لا أطلقه على أيّ أحد.

  • وإذا بلغ بنا الحديث هذه النقطة، دعوني أخبركم بالمسألة التالية: كان سماحة آية الله السيّد موسى الصدر حفظه الله تعالى من أصدقاء المرحوم الوالد؛ ونرجو من الله تعالى أن يكون لا زال على قيد الحياة، وأن يحفظه، ويُدخله في كنفه ورعايته، ويُنجّيه، ويُحرّره من أيادي شياطين الأنس وأعداء الإسلام والحقّ، فقد كان من أصدقاء المرحوم الوالد الحميمين جدًّا، وكان يُقال له الإمام موسى الصدر، فكان مشهورًا بلقب الإمام منذ القديم. 

  • حينما سافرت إلى لبنان قبل سنتين، حكى لي أحد أصدقائه اسمه الدكتور ... القصّة التالية، وقد تبيّن لي من خلال نقله للأحداث أنّه كان من حواريّيه، فكنت مشتاقًا جدًّا لسماعها منه، وقلت له بإصرار: «أخبرني بكلّ ما تعلم»، وقمت بتدوين كلّ ما ذكره لي، لكن بعدما غادر المكان؛ لأنّه كان قد جاء إلى زيارتنا في بيت الشيخ ... ؛ وكنت قد سألته: «أيّها السيّد! هل لديك ما تقوله عن مسألة مناداته بعبارة "الإمام موسى"، وإطلاق لفظ الإمام عليه؟»، فقال لي: «بالمناسبة، نعم! فقد حصلت مسألة أثارت تعجّبي الشديد، وحدّثته بها أيضًا بعد ذلك؛ ففي السابق، لم يكونوا يُنادون عليه بالإمام موسى؛ وذات يوم، قال لي: "يا دكتور! برأيي، فإنّ إطلاق لفظ الإمام على غير المعصومين الإثني عشر حرام"؛ وهذه هي عين عبارته، ولا أعلم هل كان يتوقّع حصول ذلك بالنسبة إليه، أم أنّه كان يقصد بذلك شيئًا آخر؛ وقال أيضًا: "أنا أشاهد إطلاق هذا اللفظ على البعض ـ هنا مثلاً أو في مكان آخر ـ ، لكن، اعلم أنّ هذا لا يجوز"»، وقال [الدكتور]: «بعد مرور مدّة من الزمان، سمعناهم يقولون للسيّد الصدر: الإمام موسى، فتعجّبت كثيرًا من ذلك؛ فذهبت إليه في أحد الأيّام، وقلت له: يا سيّدي! كنت تتحدّث سابقًا عن هذه المسألة بذلك النحو، لكنّنا نراهم الآن يُنادونك بها؛ فقال لي: "لقد خرج الأمر من يدي، لقد خرجت المسألة من يدي"»؛ فكان يتحدّث عن تلك المسألة بهذه العبارة. 

    1. لا يخفى أنّ هذا الجزء من كتاب معرفة الإمام طُبع لاحقًا؛ وهو متوفّر ولله الحمد بالأسواق. المعرّب

محوريّة الحقّ في مدرسة التشيّع

13
  • ولا يخفى أنّني غير مطّلع على ظروف السيّد موسى الصدر في ذلك الحين؛ لكن، في الوقت ذاته، كان رجلاً عظيمًا جدًّا، وخلوقًا إلى حدّ كبير، وعالمًا، ومن أهل التقوى، إلى درجة أنّ أفعاله وأخلاقه مضرب للأمثال حاليًّا في لبنان؛ وذلك بلحاظ شجاعته، وحرّيته، وفكره، وكماله الفكريّ، وتقديمه ليد العون، ومقارعته لإسرائيل الغاصبة خذلها الله تعالى، وتحقيقه للانسجام والمحبّة والأنس بين الناس. وفي معظم المنازل التي كنّا نزورها هناك، كنّا نرى صورته موضوعة في غرفة الاستقبال الخارجيّة بصفته رجلاً إلهيًّا، وبطلاً، ونموذجًا يُحتذى به، ومفخرة من مفاخر الإسلام؛ وهو كذلك حقيقةً وواقعًا.. وإن كان على قيد الحياة، فإنّنا ندعو الله أن يُخلّصه ـ إن شاء سبحانه ـ في أقرب وقت ممكن، حيث بوسعي أن أقول لكم بجدّ: إنّنا نشعر بالفراغ الذي تركته هذه الشخصيّة في دولتنا الإسلاميّة، والفراغ الذي أحدثه غياب مثل هذا الرجل العظيم، والمفكّر، والذي يتّسم ببُعد النظر، والإخلاص، والفكر الحسن. 

  • وقد قلت للمرحوم الوالد منذ البداية: إنّنا نحسّ بالفراغ الذي تركه، ويُمكنني التأكيد على أنّ الاستعمار هو الذي سلبه وسرقه منّا، وأخفاه عنّا؛ لأنّه كان يعلم بأنّ ثورتنا ستنتصر، وخلاصة القول أنّ الأمور خرجت من أيديهم؛ وحقيقةً، فإنّنا نشعر بحاجة أكيدة في هذه الظروف التي تعيشها الدولة الإسلاميّة إلى أمثاله، بل إليه هو أيضًا؛ وبحقّ، فإنّ مكان نظائر هذه الشخصيّات خالٍ؛ فنحتاج إلى أن يأتوا، ويضعوا أيديهم في أيدي بعض، ويتكاتفوا، ويُفكّروا بنحو مشترك، ويُعينوا القائد، ويعملوا على مساندته، وإعداد كلّ ما من شأنه المساهمة أكثر في رقيّ وتعالي الأحكام الإسلاميّة في البلد. لاحظوا معي! فنحن لدينا هذه المسألة عنه؛ فهو بنفسه كان يرى بأنّ إطلاق الإمام [على غير الإمام] حرام؛ أي الإمام موسى الصدر بنفسه كان يعتقد بذلك؛ لكن، مع ذلك، فقد أطلقوها عليه؛ هذا، مع أنّنا لا نستطيع القول إنّه تراجع عن رأيه؛ إذ ليس من المعقول التراجع في الرأي من الحرمة إلى الوجوب.

  • خيانة المؤرّخين في كتابتهم للتاريخ

  • فكلامنا هنا أنّه: ما الذي يقتضيه الاحتياط في هكذا مواقف كحدّ أقلّ؟ بمعنى أنّه: إذا فرضنا أنّ الإنسان واجه موقفًا يُحتمل فيه وجود حُرمة، ولا يكون هناك حكم بالوجوب، فإنّ عليه أن يحتاط، ولا يُقدم على ذلك الفعل؛ أ فهل إنّ عدم إطلاق لفظ الإمام [على غير الإمام] سيحطّ من شأن الإنسان ومكانته؟ لا، والله! وأنا أقسم بالله تعالى، وأُمضي على قسمي، ومستعدّ لتقديم أيّة ضمانة على أنّه إذا لم يُنادني أحد ـ أنا الجالس هنا ـ بلقب آية الله، وناداني بلقب حجّة الإسلام أو ثقة الإسلام، فإنّ ذلك لن يُنقص من مقامي أيّ شيء أبدًا؛ وها أنا ذا أقول لكم ذلك بنفسي: لن يحطّ من مكانتي بتاتًا! بل لعلّ العكس من ذلك يزيدني مشاكلَ أكثر، ويُفاقم من معاناتي من الأمر الذي نُعاني منه نحن جميعًا. 

محوريّة الحقّ في مدرسة التشيّع

14
  • فلماذا إذن يقوم الإنسان بهذا العمل؟ وهل يوجد إشكال في إطلاق لقب حجّة الإسلام، أو ثقة الإسلام، والعالم المحترم؟ وهل يوجد عيب في ذلك؟ المهمّ أن يكون للإنسان شرف في ذلك العالم؛ فهذه هي المسألة المهمّة. فحينما أورد المرحوم الوالد هذه المسألة في الجزء الثامن عشر من كتاب معرفة الإمام، وصنّف كتابًا تحت عنوان: «وظيفة الفرد المسلم» أثار فيه مجموعة من القضايا؛ وقد اطّلع عليه الكثيرون، حيث جرت طباعته ونشره، لكن ليست بتلك الكيفيّة المطلوبة؛ فهو مطبوع، لكنّه لا يوجد في الأسواق؛ إذ رأوا المصلحة في عدم طرحه بهذا النحو. لقد أثار المرحوم العلاّمة في ذلك الكتاب مجموعة من المسائل المتعلّقة بالثورة، وأنّه كان حاضرًا بنفسه منذ البداية في تلك الأحداث؛ ولا يخفى أنّه ذكر أيضًا علاقته بآية الله السيّد الخمينيّ، وتطرّق إلى المسائل التي كانت تدور بينهما، وأفصح عنها إلى حدّ ما، ولم يُبيّنها فعلاً كلّها؛ وبطبيعة الحال، قد لا تتوافق هذه المسألة مع مذاق الكثيرين الذين يتوقّعون وجود عبارات وتعبيرات أخرى [في ذلك الكتاب]؛ لكن، حينما يأتي رجل عالم، وله اطّلاع على الأحداث، ومؤرّخ، ويُريد الحديث عن حقيقة تاريخيّة، فإنّه لا يستطيع أن يخون التاريخ، ويحكي عن أمر مخالف للواقع.

  • وحاليًّا، هم في صدد تصنيف كتاب يُؤرّخ لتاريخ الثورة؛ لكنّهم لم يأتوا فيه على أيّ ذكر لاسم والدي؛ في حين أنّ الجميع يعلم بأنّه اضطلع بالدور الثاني، إن لم نقل الأوّل فيها؛ فلم يذكروا اسمه، ولو لمرّة واحدة؛ هذا، مع أنّ هناك بعض الكتب التي ورد فيها أنّ السيّد محمد الحسين الطهرانيّ شارك في الجلسة الكذائيّة؛ أ فليست هذه خيانة للتاريخ بحقّ؟ لماذا لا يلتزم المؤرّخ ببيان الحقيقة، ويبقى بعد ذلك الانتخاب للقاريء؟ هذا، مع أنّ الذين يكتبون هذا التاريخ كانت لهم معرفة وثيقة بالمرحوم الوالد، لا أنّهم من الغرباء، بل كانوا يعرفونه.

  • أتذكّر ذات مرّة أنّ أحدهم كان يتكلّم في مكان ما، وجاء عن الحديث عن أحد المنازل، فقال: «أجل، في المنزل الفلانيّ الذي يقع في ساحة الإمام الحسين، كنّا نجتمع هناك، وكان المرحوم الفلانيّ حاضرًا أيضًا»؛ في حين أنّ أصل عقد تلك الجلسة كان باقتراح من المرحوم الوالد؛ لكنّه لم يأت على ذكر اسمه أبدًا؛ لماذا؟ لأنّ المسألة خاضعة لحسابات خاصّة؛ فتلك الجلسة كانت في أصلها بإعدادٍ من المرحوم الوالد في بيت والد زوجته ـ أي جدّنا ـ الواقع في ساحة الإمام الحسين؛ فانطلاقًا من هذه الجلسة، كان يقود تلك الأحداث، ويُبيّن آراءه الخاصّة، ويجرّ العلماء واحدًا واحدًا للمجيء إلى طهران؛ ومنهم السيّد الميلاني؛ فوقّعوا بأجمعهم على أنّ سماحة آية الله ....؛ لأنّهم كان يُريدون إعدام السيّد الخمينيّ بذريعة أنّه يُهدّد أمن البلد؛ ولذلك، فقد اعتبروه عنصرًا مخلاً بالأمن، وقالوا بضرورة محاكمته ميدانيًّا؛ مع أنّ المحاكمة الميدانيّة كانت تعني الإعدام؛ فقام المرحوم الوالد انطلاقًا من تلك الجلسة بجذب كافّة العلماء إلى منطقة "داوديّة" بطهران، حيث كنت أرافقه في تلك الأيّام؛ ومع أنّ عمري كان يبلغ السابعة، إلاّ أنّ جميع تلك الأحداث هي على مرأى منّي الآن، وبشكل دقيق؛ وذلك عندما ذهبنا للقاء السيّد الميلاني، وجاء إلى هناك المرحوم الملاّ محمد عليّ الهمدانيّ، وجاء أيضًا علماء شيراز، وأتى أيضًا كلّ من المرحوم الشيخ بهاء الدين محلاّتي، وأبناؤه، والسيّد محيي الدين؛ فأنا أتذكرّ ذلك بأجمعه. وجاء أيضًا المرحوم آية الله دستغيب إلى طهران؛ فأتوا به إلى منزل جدّنا الحاجّ الشيخ معين الشيرازيّ بمنطقة داوديّة. 

محوريّة الحقّ في مدرسة التشيّع

15
  • فمن الذين قام بكلّ هذه الأعمال؟ قام بها والدنا، حيث أحضر الجميع إلى هناك، فوقّعوا على أنّ آية الله السيّد الخمينيّ مرجع، وانّ المرجعيّة تتمتّع بالحصانة؛ ولهذا، فقد رُفع عنه حكم الإعدام بتلك الطريقة؛ أي أنّ والدنا هو الذي رفع حكم الإعدام عن سماحة آية الله الخمينيّ، وليس أحد آخر؛ فقد كان ذلك من تخطيطه هو؛ لكن، هل أتوا على ذكر اسمه في الكتب؟!

  • فهذا ما يقوله التاريخ؛ ويوجد الآن بعض الأشخاص ممّن حضروا تلك الأحداث؛ وأنا الآن سأذكر اسم أحدهم؛ وهو والد صديقنا المكرّم، وسيّدنا المبجّل سماحة الشيخ روح الله الحائريّ؛ أي آية الله الشيخ صدر الدين الحائريّ؛ وهو على قيد الحياة، ويعيش بشيراز؛۱ فاذهبوا إلى هناك، واسألوه؛ فقد كان من العناصر السرّية التي تُحيط بالمرحوم الوالد؛ علاوةً على المرحوم الشيخ مطهّري، وآية الله المرحوم القاضي الطباطبائيّ، والذي استُشهد على يد جماعة الفرقان، حيث كانت ثلّة من الأفراد تُشكّل جماعة سرّية لها ارتباط بآية الله السيّد الخمينيّ فقط؛ ومن بينهم آية الله الحائريّ الشيرازيّ؛ فاذهبوا عنده، واسألوه عن تاريخ الثورة؛ إذ لا يزال على قيد الحياة. أ فليست خيانة للتاريخ أن يأتي الإنسان، ويكتب عنه، بنحو يُؤدّي إلى غفلتي أنا الذي لا أملك أيّ وسيلة للاطّلاع، سوى مجموعة من الأوراق التي أراها أمامي؟! إنّها خيانة! فكما أنّ تضخيم الشخصيّات خيانة للتاريخ، فإنّ التنقيص منها أيضًا خيانة له؛ فالتاريخ ينبغي أن يكون شفّافًا وواضحًا؛ كما أنّ المؤرّخ يجب عليه التزام الشفافيّة عند الكتابة؛ ويتعيّن عليه تقديم التاريخ للأجيال اللاحقة بنحو شفّاف.

  • إنّ خلافنا مع أهل السنّة يرجع برمّته إلى هذه المسألة؛ فلماذا يستنكف العامّة عن الحديث لأبنائهم عن حادثة ركل الباب، وضرب ابنة النبيّ؟ لماذا؟ لماذا لا تنقلون هذه المسائل؟ لماذا لا تحكون لهم عن سحب عليّ عليه السلام بالحبل؟ لماذا تقصّون عليهم التاريخ، بنحو يُؤدّي بهم للقول: «أ فهل كان عليّ يُصلّي؟!»؟ فمن الذي كان يلجأ إلى هذه الأفعال؟ كان يقوم بها معاوية؛ فحينما سمع أهل الشام بأنّ الإمام عليّ عليه السلام قُتل في المحراب ـ الأمر الذي لم يتمكّن معاوية من إخفائه ـ ، فإنّهم قالوا: «وهل كان عليّ يُصلّي، حتّى يقتلوه في المحراب؟»؛ وهذا يعني أنّهم لم يكونوا على علم، ونُقلت لهم الأحداث بشكل مشوّه؛ لكن، من الذي أقدم على ذلك؟ لقد كان أمثال أبي هريرة، وأبي الدرداء، وسَمُرة بن الجُندَب، وأولئك المشايخ يعتلون المنبر، ويقولون: سمعت من شفتي رسول الله أنّه قال: إنّ آية {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ}٢ وردت في حقّ ابن ملجم؛ في حين أنّ آية {وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ}٣ جاءت في حقّ عليّ؛ فمن الذي كان يذكر هذا الكلام؟ إنّهم المشايخ بعينهم؛ غاية الأمر أنّهم مشايخ ذلك العصر؛ وهم مجموعة من الأفراد سمعوا بعض الأشياء من النبيّ، وكانوا وجهاء عند الناس؛ فهؤلاء هم الذين كانوا يُقدمون على تلك الأفعال؛ وإلاّ، فإنّ المجرم وقاطع الطريق لا يُمكنه اعتلاء المنبر، وحتّى إذا تمكّن من ذلك، فلن يُصغي أحد إلى كلامه، بل سيضحك الناس عليه، مهما قال؛ ولهذا، ينبغي أن يكون أبو هريرة هو من يعتلي المنبر؛ حتّى يقول الناس: «لقد حضر عند الرسول؛ ولهذا، فإنّه صادق»، ويجب أن يأتي سمرة بن الجندب، حتّى يقول الناس: «لقد كان برفقة النبيّ لمدّة عشرة أو ثلاثة عشرة سنة؛ ولا بدّ أنّه سمع عنه أشياء»، ويقولوا أيضًا: «إنّه صادق»، وينبغي أن تأتي شخصيّة مثل عائشة زوجة الرسول، وتمتطي الناقة لتخدع الناس، ويقولوا: «إنّها صادقة»؛ بينما لو جاءت امرأة كيفما كانت، وفعلت ما فعلته عائشة، لقال الناس: «يا عزيزي! إنّ هذه تتوفّر على السوابق الكذائيّة»، ولما قبلوا بكلامها. وهذا هو الذي يُلحق الضرر بالتاريخ؛ فالضرر الذي يلحق بالتاريخ ينجم عن تفريطنا بنهج الأئمّة عليهم السلام ومدرستهم، وإشغال فكرنا بمسائل هامشيّة، وانحرافنا عن مسألة الحقّ والحقيقة، وخوضنا في مسائل مجانبة للصواب، ومزجنا للحقّ بغيره من الأهواء والأمور الأخرى؛ فنصاب بالخسران بمقدار من نرتكبه من هذه الأفعال.

    1. كان هذا الكلام قبل خمس سنوات تقريبًا من ارتحال آية الله صدر الدين الحائريّ رحمة الله تعالى عليه؛ ولهذا، اقتضى التنويه. المعرّب
    2. سوره البقرة، الآية ٢۰۷.
    3. سورة البقرة، مقطع من الآية ٢۰٥.

محوريّة الحقّ في مدرسة التشيّع

16
  • مدرسة التشيّع هي مدرسة الحقّ

  • ذات يوم، قال المرحوم العلاّمة: كنت أتحدّث مع أحد مشايخ النجف، وأقول له: إنّ هذا الفعل الذي يُرتكب في بيت ذلك السيّد المرجع مجانب للصواب، ومنافي للإسلام، و...؛ فقام، وقال لي: وليكن كذلك؛ فقد تقتضي المصلحة في بعض الحالات أن يقوم الإنسان بعمل مخالف لرضى الله تعالى. وا عجباه! يا للعجب! فكان يقول: «قد تقتضي المصلحة أن يقوم الإنسان بعمل مخالف لرضى الله تعالى»! ولهذا، إذا لاحظتم، كم ظهر لدينا من أمثال العلاّمة الطباطبائي؟ كم؟ وكم واحد صار مثل العلاّمة الطباطبائيّ؟ أو نظير العلاّمة الطهرانيّ؟ وكم عدد الذين أصبحوا مثل الشيخ جواد ملكي التبريزيّ؟ أو مثل المرحوم القاضي؟ وكم عدد الذين تحلّقوا حول أمير المؤمنين؟ أ فهل كانوا أكثر من خمسة أو ستّة أفراد؟ لماذا؟ لأنّ عليًّا كان حقًّا، والناس لا يرغبون في الحقّ، ولا يُريدونه؛ وعدد الذين يتمسّكون بالحقّ قليل. والدنا لم يكن شخصيّة عاديّة، بل كان يُقال عنه: إذا بقي السيّد محمّد الحسين في النجف، فإنّ المرجعيّة الشيعيّة ستنحصر فيه؛ وقد كانوا بأجمعهم يعترفون بذلك؛ إذ لم يكن من طلبة العلم العاديّين؛ لكن، في الوقت ذاته، يأتي هؤلاء بأنفسهم، ويقولون عن والدنا: لقد أصبح هذا السيّد صوفيًّا، ومن الدراويش؛ وهو يتبع رجلاً أمّيًا؛ لقد فقد عقله.. أجل، لقد بلغ بهم الأمر إلى أن يقولوا: لقد فقد عقله، ويتّبع رجلاً مجهول الأصل والنسب، ومجهول كذا! قولوا، ثمّ قولوا ما تشاؤون؛ فبعدما تمكّنت من بلوغ الحقيقة، فإنّني لا أستطيع التخلّي عنها، ولتفرحوا أنتم، ولتغتبطوا بما تقولونه...

  • طوطيان در شكّرستان كامراني مي كنند***وز تحسّر دست بر سر مي زند، مسكين مگس‌
  • [يقول: تمرح طيور العشق في حقول السكّر، بينما تضرب الذبابة المسكينة على رأسها تحسّرًا]

  • اذهب، واضرب على رأسك كما يحلو لك؛ ونحن مع أستاذنا يُفيض علينا أضعاف كلّ ما نطلبه مائة مرّة؛ فهم لا يتعبون من القول: «لقد صار درويشًا، وصوفيًّا، واعتزل الناس، ويتبع فلان، و...»؛ قولوا ذلك، ثمّ كرّروا قوله، إلى أن تتعبوا. إنّ المسألة المهمّة والمصيريّة تتمثّل في أنّ مدرسة الإمام الصادق عليه السلام هي مدرسة الحقّ، ومدرسة الإمام الباقر عليه السلام هي مدرسة الحقّ، وليست مدرسة القهر، والضغوطات، والشغب، والفوضى؛ فقد كان يأتي الناس، ويحاورنه؛ كما كان عليه السلام يُرسل تلامذته، ويحثّ الناس على أن يأتوا عنده، ويتحدّثوا معه، ويتباحثوا معه؛ ومن شاء، فليقبل؛ ومن شاء، فليرفض؛ فهذه هي مدرسة الإمام الصادق، ونحن لن نعدل عنها، ونرجو ألاّ نُحرم في الدنيا والآخرة من شفاعته عليه السلام.

محوريّة الحقّ في مدرسة التشيّع

17
  • اللَهمَّ صلِّ عَلى مُحمَّد وآل مُحمَّد