23

كيفية تنزل العلم في مراتب الوجود

8608
مشاهدة المتن

المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني

القسمعنوان البصري

المجموعةالعلم و المعرفة

جلسات المجموعة(8 جلسة)

التوضيح

هل يمكن لأي إنسان أن يدرك بالظاهر حقائق الأمور؟ وهل يمكن بالتعلّم أن يصل إلى المعرفة الواقعية للعلوم؟ كيف أنّ الأمور تتنزل من قبل الله تعالى في الأمور كلها؟ ما معنى الزبد وما ينفع الناس الواردة في الآية القرآنية أما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض؟ ما نسبة الحقائق التي توصّل إليها الإنسان في علم الطب؟ هي مواضيع أجاب عليها سماحة آية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني رضوان الله عليه في هذه المحاضرة، كما تناول مواضيع أخرى مرتبطة بها

/۱۲
بي دي اف بي دي اف الجوال الوورد

كيفية تنزل العلم في مراتب الوجود

1
  •  

  • هو العليم 

  •  

  • كيفية تنزل العلم في مراتب الوجود

  • شرح حديث عنوان البصريّ - المحاضرة ٢٣

  •  

  • ألقاها

  • آية الله الحاجّ السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ

  • قدس الله سره

  •  

كيفية تنزل العلم في مراتب الوجود

2
  •  

  • أعوذ باللـه من الشيطان الرجيم

  • بسم اللـه الرحمن الرحيم

  • الحمد للـه ربّ العالمين

  • والصلاة والسلام على أشرف المرسلين

  • ورسول ربّ العالمين

  • أبي القاسم المصطفى محمّد وعلى آله الطيّبين الطاهرين

  • واللعنة على أعدائهم أجمعين 

  •  

  • تشبيه نور العلم بالنور الظاهري

  • فقال: يا أبا عبد الله ليس العلم بالتعلّم، إنّما هو نور يقع في قلب من يريد الله تبارك وتعالى أن يهديه، فإن أردت العلم فاطلب أولاً في نفسك حقيقة العبودية واطلب العلم باستعماله واستفهم الله يفهمك.

  • يقول الإمام الصادق عليه السلام لعنوان البصري بأنّه لا ينبغي أن تتصوّر بأنّ العلم عبارة عن المحفوظات أو الوصول إلى بعض النتائج في العلوم الظاهرية، بل العلم عبارة عن نور يجعله الله في قلب من يريد هدايته، هذا هو العلم. وبعبارة أخرى معنى العلم هو انكشاف الواقع، وعلينا أن نرى ما هو الواقع، ما هو مفهومه ومن أي مقولة هو. لماذا لم يطلق الإمام الصادق عليه السلام اسم العلم على هذه العلوم، بل اعتبر أنّ العلم هو خصوص النور؟! نحن نتصوّر بأنّ مراد الإمام الصادق من النور هو اللمعة الظاهرية، ونعتبر أنّ هذا تشبيه للمعقول بالمحسوس، ونتصوّر بأنّه إذا حصل للإنسان نور في قلبه فهذا يعني أنّه حصل له ضياء؛ كما هو في عالم الحس! كلا! ليس هذا مراد الإمام! بل حتى إطلاق النور على هذا النور الظاهري إنّما هو بسبب أنّه يكون ظاهراً بنفسه وعدم كونه مبهماً. فعندما تدخل هذه الغرفة ليلاً يكون كل شيء مجهولاً لديك؛ فإن كان هناك خمسون شخصاً فسوف تدوس على هذا وذاك، أو قد تسقط على الأرض أو تصطدم بأحدهم، لماذا؟ لأنّ الحقائق الموجودة في هذه الغرفة مجهولة لك ومخفيّة، فلا تعلم بأنّه يوجد في هذه الغرفة إنسان ويوجد حجر وخزانة وخشب وحديد؟ بل كل شيء مجهول لك، وعندما تشغل المصباح يصبح كل شيء واضحاً لك، يصبح باستطاعتك التمييز بين الإنسان وغيره، وبين الموجود من ذوات الأرواح وبين غيره من الجمادات، والسبب في ذلك هو أنّك أشعلت المصباح، وبما أنّه يوجد نور فقد تشخّصت لديك الحقائق الخارجية.

كيفية تنزل العلم في مراتب الوجود

3
  • قصّة وصف الفيل بعد التعرّف عليه في الظلام

  • لا شك بأنّ الإخوان يستحضرون قصّة الفيل الذي ذكرها مولانا۱؛ حيث جيء يوماً بفيل من الهند ووضع في مكان مظلم، فوضع أحدهم يده على ذيله فتحسّس ذيله، فقال الفيل بهذا الشكل؛ بشكل اسطوانة، والآخر وضع يده على رجله فقال الفيل بهذا الشكل، وآخر وضع يده على خرطومه فقال الفيل بهذا الشكل وهكذا... وعندما خرجوا وقيل لهم كيف هو الفيل، صار كل واحد منهم يبيّن الفيل بشكل مختلف عن الآخر؛ كل منهم يعرّفه بما كان يلمسه. لماذا كانت التعاريف مختلفة؟ لأنّه لم يكن هناك نور، وبما أنّه لا يوجد نور فسوف تكون التعاريف مختلفة.

  • هر كس از ظن خود شد يار من***وز درون من نجست اسرار من
  • [كل شخص يظن أنّه قد صار من أصدقائي، ولكن لم يقف أحد على أسراري الداخلية]

  • فكل شخص ينظر إلى الأمور من منظاره هو، وبما أنّ الأفهام مختلفة فكل منهم يعرض الواقع بشكل مختلف، لا أنّه يعرض الواقع كما هو موجود فعلاً.

  • السبيل إلى الواقع هو النور

  • حسناً، ما هو الطريق الذي يوصل الإنسان إلى الواقع؟ وبعبارة أخرى ما هو الواقعية؟ الطريق الموصل للواقع هو أن يكون للإنسان نور، وأن يكون له ملاك لتشخيص الحق من الباطل، وذاك الملاك هو النور. فإن كان لديه ذلك فلن تشتبه عليه الأمور، فلا يعتلي المنبر لسنتين مثلاً ويتكلّم بأمر، وبعد سنتين يندم على ما قاله؛ لأنّه [الذي لديه نور] يكون قد شخّص الأمر من الأول، ومن يشخّص الأمر بشكل معيّن لا يعمل على خلاف تشخيصه. بينما الذي ليس لديه نور، يمشي ويمشي إلى أن يصل إلى طريق مسدود، فيقول عجباً! لقد كنت أمشي لمدّة عشر سنين، فما الذي كنت أسعى إليه خلال هذه السنوات؟! لماذا؟ لأنّه لم يكن لديه نور من الأول، وكان يمشي على غير هدى، إلى أن وصل إلى طريق مسدود، فرأى أنّه أتلف عمره، فهاتان السنتان أو الأربع سنوات أو العشر سنوات ذهبت من عمر الإنسان! لكن الذي لديه نور، فلا يمشي عبثاً؛ بل يذهب.. فإذا وصل إلى السيد الحداد مثلاً، يعرف السيد الحداد من أول لحظة؛ لأنّه لديه نور، وإذا وصل إلى المرحوم العلامة الطباطبائي، يعرف بأنّ هذا الرجل رجل حقّ، وميزانه يدور على أساس الحق، قوام ميزانه الحق. 

    1. ـ مثنوي معنوي، الدفتر الثالث

كيفية تنزل العلم في مراتب الوجود

4
  • بينما البقية ينظرون إلى الظاهر، يقولون: ما شاء الله أي رجل هذا! وأي حال هذه! وما هذه الخصوصيات! ويتحرّكون على أساس هذه الأمور، وفجأة يصلون إلى طريق مسدود. لذا من الأول قالوا لنا: ينبغي أن يكون لديك نور، أن يكون في يدك ملاك لتشخيص الحق والباطل. فهذه وسائل ووسائط يمكن للإنسان من خلالها الوصول إلى حقيقة واقعية. 

  • رواية الإمام السجاد في ضرورة عدم الاغترار بظاهر الإنسان

  • لأجل ذلك قال لنا الإمام السجاد عليه السلام في رسالته إلى محمد بن مسلم الزهري، وأيضاً ورد في رواية أخرى۱: لا تنظروا إلى عبادة الرجل، ولا تنظروا إلى كيفية ذهابه وإيابه بين الناس ولا إلى حسن سلوكه وتعامله الجميل، إذ قد تكون هذه الأمور منه ليخدع الناس بها؛ لأنّ من يريد أن يأتي ويأخذ بقلب أحد من الناس فعليه أن يتكلّم بكلام جذّاب ويتعامل بشكل جيد ويحسّن سلوكه. فالعلوم عبارة عن وسائل وأدوات يحتاجها الإنسان لهذه الأمور، نعم كل شخص بحسب موقعيته. لكن لا فائدة من هذه الأمور. لذا الإمام عليه السلام يقول: ليس العلم بالتعلّم! 

  • تفسير آية: أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها

  • ولدينا آية في القرآن عجيبة تبيّن هذه المسألة؛ حيث تبيّن مسائل الدنيا والأمور التي تجري في عالم الدنيا بشكل عجيب، والآية هي: {أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها}٢.

  • الآن عندما كنت في طريقي إلى هنا، خطرت هذه الآية في بالي، وواقعاً هي آية عجيبة، ثم تبيّن الآية {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَ أَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْض‌}، عندما ينزل المطر ويحصل سيل، يحمل السيل معه القش والأوساخ والفقاعات على وجهه، ثم بعد مدّة تذهب هذه الفقاعات والأوساخ، فلا تعود ترى الفقاع والأوساخ على الماء، يكون جميع ذلك قد ذهب، لكن الماء يبقى مكانه {وَ أَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْض‌}. هذه الآية تبيّن لنا حقيقة التوحيد بشكل دقيق في جميع مظاهر الكثرة؛ فنحن لدينا علوم مختلفة؛ الطب، والرياضيات والكيمياء والهندسة وعلم البناء، وهكذا سائر العلوم والفنون الأخرى الموجودة في هذا العالم، فإنّ كلاً منها يفيد أمراً غير الذي يفيده العلم الآخر. 

    1. ـ قَالَ عَلِيّ بْنُ الحُسَيْنِ عَلَيهِ‌ السَّلَامُ: إذَا رَأيْتُمُ الرَّجُلُ قَدْ حَسُنَ سَمْتُهُ وَ هَدْيُهُ وَ تَمَاوَتَ في مَنْطِقِهِ وَ تَخَاضَعَ في حَرَكَاتِهِ فَرُوَيْدَاً لَا يَغُرَّنَّكُمْ... إلى آخر الرواية (راجع معرفة المعاد، ج ۷، ص ٢٣٦، وقد نقلها المرحوم العلامة الطهراني عن كتاب الاحتجاج للطبرسي، ج ٢، ص ٥٢)
    2. . سورة الرعد من الآية ۱۷.

كيفية تنزل العلم في مراتب الوجود

5
  • بيان الزبد الذي يذهب جفاء في العلوم

  • يوجد لدينا جانب ظاهري وجانب آخر علمي، ففي الجانب الظاهري لا فرق بين جميع هذه العلوم؛ إذ علم الطب مسؤوليته تشخيص المرض ثم وصف الدواء له، ونحن نرى تحقّق هذا الأمر في الخارج، وقد ثبت ذلك بالتجربة، فإذا حصل وجع رأس لأحد يوصف له قرص مسكن فيتحسّن، وإذا حصل له وجع قلب مثلاً يوصف له الدواء الفلاني، وهكذا بالنسبة إلى سائر الأمراض الأخرى يوصف له الدواء ويحصل على النتيجة، وقد أثبتت التجربة صحة ذلك، إذ بناء الطب على التجربة. وعلم الرياضيات والكيمياء هكذا. وكذلك الفقه؛ حيث إنّ الفقه هو المسؤول عن بيان أفعال المكلّفين؛ فيقول: افعل هذا، ولا تفعل ذلك، وهذا حلال أو حرام، ذاك مستحب أو مكروه. والفلسفة هي المسؤولة عن معرفة الوجود والكون، وهي التي تعنى بالإجابة على أنّ ما نراه في العالم هل هو واقع أم لا؟ وهل الماهية هي الأصيلة أم الوجود؟ وما هي العلاقة بين المخلوق والخالق؟ وكيف يصدر المخلوق المادّي من الخالق المجرّد؟ وما هي العلاقة بين المجرّد والمادّي؟ فالفلسفة هي المعنيّة بالإجابة على أمثال هذه المسائل والإشكالات. فكل علم يقوم بالإجابة على أمور خاصّة به. هذه الأمور هي {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً}.

  • الله تعالى هو مصدر أي علم عند الإنسان

  • الله تعالى هو الذي أنزل هذه العلوم على الإنسان، أليس كذلك؟ فإذا فرضنا أنّه ليس لديك حافظة فهل يمكنك أن تحصل على علم؟ فكل ما تقرأه سيكون مثل الشريط المسجّل الذي يمحى بعد التسجيل، سوف يمحى من ذهنك تماماً؛ تقرأ من الليل إلى الصباح، لكنّك كأنّك لم تقرأ شيئاً، أو تذهب من الصباح إلى المساء إلى الدرس لكن عندما تستيقظ في الصباح ترى أنّه لم يبق شيء في ذهنك، وهكذا. وعليه فلا يمكن للإنسان أن يصل إلى مرتبة علمية من دون حافظة، وكذا لا يمكنه ذلك من دون استعداد، وكذا بدون حدّة الذهن، وكذا بدون الإمكانات الخارجية. فإن كان لدى شخص حافظة جيدة واستعداد عالي ولكن كان لديه موانع خارجية؛ كأن يكون لديه وجع قلب أو وجع رأس دائم، فهل يمكن أن يتعلّم شيئاً؟ لا يمكنه! كل هذه الأمور بيد من؟ من الذي أعطاك الحافظة؟ هل أتيت بها من عندك؟ من أين جئت بالاستعداد؟ من الذي رفع عنك الموانع الخارجية؟ فمهما كان لديك استعداد لن تصل إلى شيء، حتى لو كان لديك حافظة قوية جداً كحافظة ابن سينا، مهما كان لديك من قدرات ـ كما ينقل عن بعضهم، مع غض النظر عن صحته أو عدم صحته ـ فقد كان هناك ولا يزال أشخاص لديهم استعداد غير طبيعي.. فما لم ترتفع الموانع ويكون هناك مقتضي، لا يمكن للإنسان الوصول إلى شيء. فحتى لو كان لديه جميع الاستعدادات، لكن لم يكن لديه كتاب يرجع إليه ويقرأ فيه، فلا فائدة فيها، أو لم يكن لديه أستاذ يسأله عن الإشكالات التي تحصل لديه. فمن أين أتت هذه الشروط والظروف؟ هل أتت هذه التوفيقات للإنسان من غير المبدأ الأول والملأ الأعلى؟ هذا هو {أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً}

كيفية تنزل العلم في مراتب الوجود

6
  • ما توصل إليه الإنسان من علم الطب قليل جداً

  • علم الطب حق وصحيح لا شك فيه، وقد أثبت نتيجته بالتجربة، طبعاً بالمقدار الذي وصلوا إليه، وإلا فما لم يصلوا إليه أكثر بملايين المرات مما وصلوا إليه..

  • كنت مرة في خدمة المرحوم العلامة رضوان الله عليه في المستشفى فقلت له: أعتقد بأنّ علم الطب لم يصل إلى واحد بالألف من واقعيات وجود الإنسان، فقال لي: بل لم يصل إلى واحد بالمليون.

  • كان المرحوم الأنصاري يذهب أيام الجمعة إلى خارج همدان مع بعض رفاقه، ويبقون إلى العصر ثم يعودون.. لا بد أنّ من الإخوة الحاضرين الذين يعلمون ذلك فقط الحاج قاسم، أليس كذلك؟ أتذكر ذلك، لا بد أنّك كنت معهم في ذلك.. إذن هو كبيرنا دون مجاملة [ضحك].. والحاصل أنّه كان يذهب ثم يرجع عصراً.. رحم الله المرحوم بيات رحمة الله عليه، الذي كان من الأصدقاء القديمين والملازمين للمرحوم الشيخ الأنصاري؛ حيث منحه الله التوفيق وشملته العناية، والحمد لله فقد انتقل من هذا العالم بيد مليئة.. قال يوماً للمرحوم الوالد، وكنت جالساً أستمع إليهم: كنا راجعين مع المرحوم الأنصاري، فمررنا بقرب مجرى ماء غزير، وكان بالقرب منه أعشاب من تلك الأعشاب التي تأكلها الأغنام والتي تنبت بالقرب من الماء، فأشار إليها وقال هل ترى هذه الأعشاب؟ هذا النوع من الأعشاب هو علاج لسبعين مرض ليس له علاج فعلاً، لكن المصلحة الإلهية اقتضت أن لا يطلع عليه الناس الآن؛ فإنّ ذلك سيجعل عزرائيل بدون عمل [ضحك]. إذا كان الجميع يعلم بفائدة هذه الأعشاب فسوف تطول أعمار الناس أربعة آلاف سنة أو خمسة آلاف أو عشرة آلاف سنة، وعليه فماذا سيفعل عزرائيل؟ فسوف يبقى يصفق يده على الأخرى، يقال بأنّه لا بد من إيجاد فرص عمل، والله تعالى يجعل فرص عمل لملائكته أيضاً، ويجعل لهم شغلاً حتى يعطيهم أجورهم [ضحك].

  • لذا حينما يقال بأنّ الإمام صاحب الزمان عليه السلام قد عاش ألف وأربعمائة سنة فليس هذا معجزة، كلا، بل هو يعلم بهذه الأمور، يعلم بتمام هذه المسائل؛ فعندما يرى ضعفاً في نفسه يأكل هذا الشيء، لا يحتاج إلى شيء آخر، فلا يحتاج إلى إعمال قوة ولائية، أو يخرج عن القوانين الطبيعية.. طبعاً، لا أنّه لا يخرج أساساً عن القوانين الطبيعية، بل له أن يفعل ذلك، لكن هذا الأمر بسيط وعادي، ولو كنا نعلم واحد بالمائة منه لعمّرنا عمر نوح.. لكن ينبغي أن يأتي الناس ويذهبون، عليهم أن يأتوا إلى الأرض ويرحلوا، وأن يشتغل الملائكة بهم، فلا يبقوا عاطلين عن العمل، أن يشتغلوا بالإماتة والإحياء، فهم مظاهر الحياة والممات الإلهية، وهي في حالة تكوين وتكوّن وتبدّل دائم..

كيفية تنزل العلم في مراتب الوجود

7
  • والحاصل، يقول بأنّ هذه الأعشاب يستخرج منها دواء سبعين مرض غير قابل للعلاج، باعتبار أنّه المرحوم الأنصاري كان طبيباً وخبيراً بالطب القديم، لكن كلامه هذا كان خارجاً عن هذه الحدود الظاهرية.

  • هذه مسألة واقعية، ما هذا؟ هذا عبارة عن علم، يحصل نفحات في ذهن الإنسان أثناء تحقيقه تسوقه إلى مرتبة أعلى، حسناً من أين أتت هذه النفحات؟ كيف حصلت نقطة الشروع في الوصل بين هذه المرتبة والمرتبة الأعلى منها؟ لم يكن لدى المحقّق المقدمة السابقة، ولم تكن قد خطرت في ذهن غيره أساساً، فمن أين أتت؟ هل يوجد لدينا احتمال آخر غير أنّها أتت من هناك؟ هذا هو {أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً}، يعني جعل في أذهان الناس نفحات للصعود والوصول إلى مرتبة أعلى والحصول على انكشاف جديد، هذا معنى {أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً}، ثم بعد ذلك تأتي الآية {فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها}، يعني أنّ كل إنسان يأخذ من تلك النفحات بمقدار ذهنه، بعضهم قليل وبعضهم أكثر؛ فالمخترعون والمكتشفون لديهم مراتب، وكذا الفقه والأصول والفلسفة. يأتي أحدهم ويقول: لقد وصلت إلى هذا المطلب، أو وصلت إلى هذه الفتوى، أو وصلت إلى هذه النتيجة، أو توصّلت إلى هذا الاستنباط و... إلى ما شاء الله. هذا هو معنى الآية {أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها}.

  • انشغال الناس بالأسباب والآثار الظاهرية

  • حسناً، بقي هنا نكتة وهي: ما تلك الحقيقة التي وراء هذا النزول؟ فعندما تذهب إلى الطبيب، ويبدأ ببيان بعض الأمور والقول بأنّ علم الطب قد أثبت أنّ هذه الحالة دواؤها كذا، ثم يصف لك الدواء وتأخذه وتشفى، فتقول: ما شاء الله هذا الطبيب جيد ولديه تجربة! فقد ذهبتُ إليه ووصف لي الدواء وتحسّنتُ بسببه.. لكنّك لا تقول: الله تعالى هو الذي ألقى في عقله أنّ هذا الدواء جيد لهذه الحالة، فهذه الحقيقة تبقى مخفية! فنحن نرى ذاك زبد، نرى ذاك الذي يفعل الأمر في الخارج، أما ما يكون تحت هذا الزبد وفي طيات هذا الأمر فلا نراه. لذا ترانا نشكر الطبيب ونحمده على فعله، ونعتبره هو المتلطّف علينا، بل ننشر في الصحف بأنّ الطبيب الفلاني هو الذي نجّى والدتنا من مرضها الصعب! 

كيفية تنزل العلم في مراتب الوجود

8
  • ـ يا عزيزي أي مرض صعب؟! حقيقة الأمر أنّ عزرائيل كان قد وضع إحدى يديه على الأخرى [وترك أمّك وشأنها]. 

  • ـ علينا أن نشكر فلاناً الذي بنى هذا البناء باستحكام! 

  • ـ ما هذا الكلام يا عزيزي؟ الملاك المأمور بالزلزلة لم يجعل الهزة قوية [ضحك] ولو قواها قليلا لذهبت.

  • هذا كله من التوجه إلى الزبد، توجه إلى الرذاذ، توجه إلى القش والتبن، توجّه إلى الفقاعات، فالفقاعات تبدو كبيرة عند حركتها إلى هنا وهناك، لكن ما هي هذه الفقاعات؟ هي عبارة عن هواء، يكفي أن تلامس شوكة حتى تضمحل، هذا {فأما الزبد فيذهب}

  • [يقول الطبيب] نحن لم نجلس هنا بلا عمل! 

  • [يقال له] فإن كان الأمر كذلك، فتلقى هذا الابتلاء وعالج نفسك.

  • قصة ابن سينا وموته بالمرض الذي كان بارعاً في علاجه

  • يعتبر ابن سينا أعظم طبيب، وكان نابغة في الطب، يقال بأنّه كان يشخّص المرض من نبض القلب، بل حتى أنّه إذا تمّ وصل خيط بيد المريض ولامس هو الخيط يمكنه أن يشخص المرض بتأثير النبض على الخيط! نعم ربما يكون هذا النقل إغراقاً ومبالغة، لكنّه ليس بلا سبب، فقد كان قوياً جداً في حدسه! لكن لا أعرف صحة ما يقال عنه في ذلك؛ فقد نقل بأنّهم أحضروا قطة ووضعوها خلف ستارة وربطوها بخيط وأعطوه طرفه على أنّه مربوط بمريض يريد تشخيص مرضه. فقال لهم دواء هذا المريض مائة وخمسون غراماً من اللحم مع فأرتين۱ [ضحك].. هكذا ينقل عنه، لكن على كل حال لم يكن بلا سبب. ومن أكثر الأمراض التي كان ابن سينا ماهراً فيها هو علاج القولنج وهو مرض يصيب المعدة ويؤدّي إلى انسداد الأمعاء، وفي هذه الأيام يعمل لها عملية حتى لا تنسد الأمعاء، فقد كان بارعاً في دواء هذا المرض، واتفاقاً ابتلاه الله بهذا المرض وبعد أسبوع مات بسببه٢. هذا {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً}، ألست أنت الذي كنت تقول أنا أعالج هذا المرض؟ تفضّل! لقد ابتليناك بهذا المرض! هل علمتم الآن أنّ ابن سينا كان فقاعاً؟ هل أدركتم الآن أنّ هذه الأمور لم تكن شيئاً؟ لماذا لم يستطع أن يداوي نفسه؟ لأنّه: "إذا نزل القضاء بطل الدواء"، فإذا جاء الحكم الإلهي فلا يبقى شيء! ولكن عندما يموت الإنسان تقول: آه الآن تذكّرت! دواء هذا المرض هو هذا! حسناً لماذا لم تذكر ذلك قبل موته؟ 

    1. ـ جشن نامه ابن سينا (فارسي)، ج ٢، ص ٤١٨
    2. ـ مجربات ابن سينا الروحانية، ص ۱٣

كيفية تنزل العلم في مراتب الوجود

9
  • هذا {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً}، وأما {مَا يَنْفَعُ النَّاسَ} فعليك أن تعلم بأنّه أتى من مكان آخر! فهذا الذي ليس له وجود الآن بيننا، هذا العلم وهذه القدرة كلّها ذهبت، والذي بقي هو المعرفة التي كانت خلف هذه القضية؛ وهي {مَا يَنْفَعُ النَّاسَ}. ذاك الذي يكون منه هو {مَا يَنْفَعُ النَّاسَ} هو الذي يبقى، يبقى لمن يريد أن يعتبر؛ {وَ كَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَ هُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ}، وإلا فابن سينا ذهب ودفن وانتهى أمره، وكل علم كان معه انتهى بموته.

  • {أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماء} الماء هو القدرة، فإذا رفعتُ هذا الكتاب بوزن ثلاثمائة غرام أو نصف كيلو، فهذا ليس خيالاً بل هو أمر واقعي، فهذه قدرة، هذه {أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماء}، أين الزبد في هذه القضية؟ الزبد فيها هي أن أقول: أنا لديّ هذه القدرة! هذا هو الزبد، وهذا هو الفقاعات، هو نسبة هذه القدرة إليّ أنا. فقولي أنا الذي أستطيع أن أرفع الكتاب هو الزبد، وهذا لا بد أن يذهب. مثلاً تأتي جرثومة إلى جسم هذا الرجل الذي كان بإمكانه أن يرفع وزن ثلاثمائة كلغ وتجعله عاجزاً عن رفع يده ودفع ذبابة عن وجهه، هذا هو {فَيَذْهَبُ جُفَاءً}. فأين تلك القدرة التي كنت تستطيع أن ترفع بها ثلاثمائة كلغ؟ أين ذهبت؟ لقد ذهبت بجرثومة صغيرة جداً لا ترى إلا بعد أن تضعها تحت مجهر يكبّرها مئات آلاف المرات، هذه الجرثومة الصغيرة تلقي بهذا الجسم الكبير على الأرض.

  • نظرة الإمام علي عليه السلام التوحيدية عند موته

  • عندما حضرت الوفاة أمير المؤمنين عليه السلام قال للناس: أيها الناس تعالوا وانظروا إلى علي الذي قلع باب خيبر، كيف صار عاجزاً.. كانوا قد عصّبوا رأسه بقطعة صفراء، ولم يكن يعرف أيهما أشدّ اصفراراً العصبة أم وجهه المبارك! لأنّ ابن ملجم كان قد سمّم السيف الذي ضربه به وسرى السم في جسم الإمام بحيث لم يكن قادراً على رفع يده! هذا علي لم يعد قادراً على رفع يده، فكانوا يمسحون عرق جبينه بخرقة! حين وفاته كان يعطي الناس درساً، ذاك الذي طرح عمرو بن عبد ود ـ الذي كان يحمل فصيل الناقة بيده ـ أنظروا إليه بأي وضع هو. يقول: قد حصل هذا الأمر لي وأنا الإمام، فانتبهوا أنتم على أنفسكم! لماذا؟ لأنّ التوحيد لا يعرف إماماً من غير الإمام! فالله يقول: انظروا هذا أمير المؤمنين الذي يشير إلى الشمس فتعود، لديه زبد، وهو ما نراه نحن منه. أمير المؤمنين يقول: أنا مثل سائر الناس؛ علمي هو علم الله، وقدرتي هي قدرته وحياتي هي حياته، فإذا أردتم أن تنظروا إليّ أنا، فأنا ممن {يَذْهَبُ جُفَاءً}، أنا راحل عنكم، وبعد ساعة سأدفن! نفس أمير المؤمنين الذي كان يشير إلى الشمس فيعيدها دفن تحت التراب وانتهى! لكن كان هناك أمير المؤمنين آخر ثابت، ليس لدينا نحن، وذلك {أَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْض‌}، يعني أنّ ما ينفع الناس كان عند أمير المؤمنين، أما نحن فليس لدينا ذلك. لذا لا يفرق الأمر بالنسبة إليه حين قلع باب خيبر، فيقول: هو الذي قلعه، وحين يتغلّب على الأعداء، يقول: هو الذي تغلّب.. يقوم بجميع الأفعال؛ يزرع النخيل ويحفر الآبار ويشق القنوات ويقول: هو الذي فعل! أما نحن فنقول: أنا الذي فعلت!

كيفية تنزل العلم في مراتب الوجود

10
  • وصية الإمام علي لابنه محمد بن الحنفية في حرب صفين

  • قال عليه السلام لابنه محمد بن الحنفية: "عضّ على ناجذك، أعر الله جمجمتك.."۱، فإنّ ذلك يجعلك قوياً عند الهجوم على الأعداء، تعامل وكأنّه ليس لديك رأس، بل أعرته ووضعته عند الله، وبعد ذلك مما تخاف؟! هذه كلّها فنون حربية أراد الإمام أن يعلّمها لابنه.. أما الحرب الآن فقد صارت حرباً خسيسة؛ حيث يكون الشخص جالساً في منزله، ثم يأتي آخر ويضغط على زر فينطلق صاروخ ويسقط في تلك المنطقة ويبيدها بمن فيها؛ من أطفال وكبار ونساء ورجال.. هذا الفعل فعل خسيس! إذا كنت رجلاً فاحمل بندقية وهو يحمل بندقية وتقف مقابله. أما هذا فليس رجولة.

  • في السابق لم يكن لدينا قتال خسيس، بل كان يحمل هذا سيفاً وذاك سيفاً، وهذا راكب وذاك راكب، لكن إما أحدهما أقوى من الآخر أو لديه فنون قتالية أكثر فينتصر، ففي مثل هذه الموارد يعلّم الإمام ابنه ويقول "اعر الله".. ثم يقول له "وارم بنظرك أقصى القوم"، لا تنظر إلى أمامك فقط بل انظر إلى الأخير، يعني لا تعد ترى لنفسك وجوداً بحيث توجب لك خوفاً ووجلاً! هذه فنون ومهارات حربية. ثم قال له: ما قلته لك هو زبد، وهو الظاهر، وهذا لا بد منه، ولا بد أن يقوم الإنسان به. لكن الأصل هو {مَا يَنْفَعُ النَّاسَ} وهو: "واعلم أنّ النصر من الله"، لأنّك عندما ترفع السيف وتهوي به، بقدرة من تفعل ذلك؟ وهذا الفرس الذي تركب عليه وتقاتل به بقدرة من يتحرّك؟ هذا هو {مَا يَنْفَعُ النَّاسَ}.

  • الانتساب الواقعي في الأفعال هو لله تعالى

  • هل اتضحت المسألة؟ فجميع هذه العلوم وجميع هذه الأفعال وهذه القيم والقدرات التي نراها في عالم الوجود هي عبارة عن نزول ماء من السماء، وهو له جانبان: أحدهما باطل ينتسب إلى الفاعل، والآخر جانب حق وهو انتسابه إلى المبدأ! فنحن نرى جانب الفاعل والمباشر، أما جانب الانتساب إلى المبدأ فلا نراه أصلاً. فنحن ماذا نرى دائماً؟ نرى الزبد! وعليه فالفرق بين العارف والجاهل هو أنّ الجاهل يرى الزبد، أما العارف فيرى الماء الذي يبقى، هذا هو الفارق بينهما.

    1. ـ الكافي، ج ٥، ص ٧٤؛ شرح نهج البلاغة (ابن أبي الحديد) ج ١٥، ص ١٤٧. "يا بُنَى، تَزولُ الجبالُ و لا تَزَلْ؛ عَضَّ علَى ناجِذِك؛ أعِرِ اللَه جُمجُمَتَك؛ تِدْ في الأرضِ قَدَمَتكَ؛ أرمِ بِبَصرِكِ أقصَى القوم و غُضَّ بَصَرَك".

كيفية تنزل العلم في مراتب الوجود

11
  • لكن عندما نتقدّم نرى أنّ الزبد قد ذهب! ثم يتكرّر الأمر معنا؛ فنواجه غداً قضية أخرى، ونرى الزبد ونذهب نحوه، فنرى أنّه ليس شيئاً، عجباً! نبني علاقة مع مسؤول ما وتصير العلاقة جيدة معه فنقول الحمد لله سوف يساعدنا في أمورنا، فما إن نذهب إليه حتى نرى أنّه خُلع من منصبه! نقول: لقد عذبنا أنفسنا كثيراً ودعوناه إلى منزلنا وأطعمناه حتى نستفيد منه يوماً ما.. فنرى أنّه قد عزل من منصبه واستلم مهمة أخرى! فأين ذهبت تلك الأطعمة وأين ذهبت تلك الأموال التي أنفقناها عليه [ضحك] لماذا؟ لأنّنا رأيت الزبد! كان بإمكانك أن لا ترى ذلك! لم يطلب منك أحد أن تفعل ذلك، نحن قلنا لك انظر إلى الواقع! هذا جزاء من يمشي بدون دليل، وغير ذلك... فكل ما هو في هذا العالم إذا تم التوجّه إلى ظاهره فهو زبد؛ {أَمَّا الزَّبَدُ فّيَذْهَبُ جُفَاءً}، وهو فقاعات تذهب.

  • يقول الإمام الصادق عليه السلام لعنوان: "ليس العلم بالتعلّم، إنّما هو نور"، النور يعني {ما ينفع الناس}، هل التفتم؟ هذه المرتبة الأولى من كلام الإمام الصادق.

  • العلم الذي نتعلّمه ليس علماً، بل هو عبارة عن مسائل ومحفوظات تحصل في الذهن وأعمال يقوم بها الإنسان، هذه هي القضية! ولا فرق في هذه المسألة بين الطبابة والهندسة والنجارة والعمارة والفقه والفلسفة... كنت أريد أن أتحدّث عن مسائل أخرى، وما ذكرته لكم حصل بشكل تلقائي، كنت أريد أن أتحدّث عن أنّه كيف يمكن أن يتحقّق هذا الاختلاف بين الظاهر والباطن حتى في مراتب السلوك ومراتب الغيب. لكن نتحدث الآن عن هذه العلوم، فهذه العلوم ليست انكشافاً للواقع، بل هي أمور تظهر للإنسان، أما الواقع فهو تلك الحقيقة التي تكمن في هذه الأمور، وهي أنّها أتت من الله، ومن المبدأ نزلت إلينا، وتلك الحقيقة هي العلم وهي عبارة عن النور.

  • إن شاء الله يوفقنا الله تعالى لأن تصير أعيننا بصيرة ترى تلك الحقيقة وذاك العلم ونور التوحيد، وتميّر بينها وبين الشكوك والتشويشات والاضطرابات وأمثالها.. بحق محمد وآل محمد.

كيفية تنزل العلم في مراتب الوجود

12
  • اللهم صل على محمد وآل محمد