المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني
القسمعنوان البصري
المجموعةالعلم و المعرفة
التوضيح
تعريف المحاضرة: هل يعتبر مراعاة المؤمن في كل حال، وهل يصح كسر قلب المؤمن للقيام ببعض الأعمال الظاهرين؟ ما معنى بناء أعمال الناس على أساس الظن لا العلم؟ وهل هناك علوم لا تنفع ولا تضر؟ وكيف يمكننا أن نجعل العلوم التي نتعلّمها لله؟ وهل يمكن استخدام العلوم الإلهية في سبيل الوصول إلى مطالب دنيوية؟ أسئلة أجاب عنها سماحة آية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني رضوان الله عليه في هذه المحاضرة، بالإضافة إلى مواضيع أخرى تناولها سماحته فيها؛ حيث تعرّض إلى أن ما يلقيه من مطالب هو مما سمعه من الأولياء، واستعرض بعض القصص من الأولياء التي فيها تطبيق عملي للمباني العرفانية والسلوكية.
هو العليم
نورانية العلوم هو في جعل الغاية منها هو الله تعالى
شرح حديث عنوان البصريّ - المحاضرة ٢٢
ألقاها
آية الله الحاجّ السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ
قدس الله سره
أعوذ باللـه من الشيطان الرجيم
بسم اللـه الرحمن الرحيم
الحمد للـه ربّ العالمين
والصلاة والسلام على أشرف المرسلين
ورسول ربّ العالمين
أبي القاسم المصطفى محمّد وعلى آله الطيّبين الطاهرين
واللعنة على أعدائهم أجمعين
قالَ إمامُنا الصّادقُ عليه السّلام لِعنوان البصري:
يا أبا عَبد اللَه! لَيسَ العِلمُ بِالتّعلُّمِ، إنّما هو نورٌ يقَعُ في قَلبِ مَن يريدُ اللَه تَباركَ و تَعالى أن يهديَهُ. فَإن أرَدتَ العِلمَ فَاطلُب أوّلًا في نَفسِك حَقيقةَ العُبوديَّةِ و اطلُبِ العِلمَ بِاستِعمالِه و استَفهِمِ اللَه يفهِمكَ.
ضرورة المحافظة على الاطمئنان والسكون في جلسات الذكر
قبل الدخول في البحث في رواية عنوان البصري، لا بد من التذكير بأمر كان يؤكّد عليه المرحوم الوالد، بل حتى الأولياء قبله، وهو أنّ الجلسات بشكل عام تعتبر جلسات ذكر، فأي جلسة فيها ذكر لله وذكر لمطالب مرتبطة بالحقائق العرفانية والمعارف الإلهية يشترط أن يحصل فيها حضور الذهن والنفس والاطمئنان، وهذا الأمر من الأمور التي لا تتبدّل ولا تتغيّر، كما هو الحال في مسألة تلقّي المطالب، فإنّ حضور الذهن يعتبر شرطاً فيها، وكل ما له دخل في حضور الذهن وعدمه يكون معتبراً.
كنت أقرأ في يوم عن إحصاء حول الامتحانات التي يجريها طلاب الجامعات، وذكروا بأنّ الامتحانات التي تجري في الصباح نتائجها أفضل من تلك التي تجري ظهراً أو بعد الظهر؛ لكون الذهن خالياً في الصباح، والاختلاف بينهما كبير جداً.
لذا لدينا دستور بأنّه من يريد الصلاة من الأفضل له أن يجلس على سجادته ساكتاً قبل الصلاة بضعة دقائق، ويعمل على تخلية ذهنه من المسائل الأخرى، وبعد ذلك يصلي. أو في سائر المسائل، خصوصاً إذا كان لها جانب عبادي، فالأفضل أن يحصل الإنسان على التوجّه الذهني أكثر.
ضرورة عدم صعود خطيب آخر قبل خطيب الجمعة المنبر
من جملة الإشكالات التي كان يوجّهها المرحوم العلامة على كيفيّة إقامة صلاة الجمعة الآن ـ وهو إشكال صحيح في محلّه ـ هو أنّه يصعد شخص قبل الخطيب الأساسي لصلاة الجمعة ويتكلّم لمدّة ساعة، فكلامه هذا سيغطي على كلام إمام الجمعة، وهذا ليس صحيحاً؛ لأنّ صلاة الجمعة قائمة بالخطيب، يعني أنّه ينبغي اختيار الخطيب الذي يمكنه التحدّث بشكل جميل، وأن يكون بليغاً وكلامه جذّاباً غير ممل، لا أن يضيع وقت الناس بكلامه دون أن يوصل لهم شيئاً، فالناس قد أتوا من أماكن بعيدة وتركوا أعمالهم للمشاركة في هذه الصلاة، وقد انتظروا أسبوعاً كاملاً. وبشكل عام ينبغي أن تكون المطالب التي تطرح في صلاة الجمعة تشتمل على جانبي السياسة والعبادة، لا أن يكون الكلام فارغاً، كأن يأتي شخص له من العمر مائة أو مائة وعشرين سنة إذا سلّمت عليه لا يستطيع ردّ السلام، ثم يأتي ويخطب الجمعة، كلا! فخطبة الجمعة ليست كلاماً فارغاً، بل لا بد أن يتم اختيار خطيب الجمعة في الإسلام؛ حيث كان خلفاء بني أمية وبني العباس يعيّنون أفضل الخطباء للجُمع حتى يجذبوا الناس للحضور فيها ويستطيعوا أن يلقوا إليهم ما يريدون. وكان هؤلاء الخطباء يجذبون الناس بكلامهم البليغ والجذاب، ولا يمكن لأي شخص أن يقوم بهذه المهمة. لذا ينبغي أولاً أن يكون الخطيب في صلاة الجمعة بليغاً وثانياً أن يكون عالماً؛ يأتي بالمطالب من الروايات ومن كتب أهل البيت، لا أن يتلف وقت الناس سدى. بل عليه أن يعلّمهم الروايات وكلام الأئمة عليهم السلام، وأن يعرّف الناس بالمعارف الإسلامية، وأن يطرح المطالب السياسية مع الأمور الدينية، وينبغي أن يستخدم كلا الأمرين للتأثير الإيجابي على الناس. هذه هي شروط الخطيب، لا أن يكون الخطيب لديه مشكلة في طريقة كلامه وخطابه، فضلاً عن المسائل الأخرى.
كان المرحوم الملا محمد تقي المجلسي من مفاخر الشيعة وعظمائها، وهو والد الملا محمد باقر المجلسي صاحب كتاب بحار الأنوار، يقول في شرحه لكتاب الشيخ الصدوق من لا يحضره الفقيه: ينبغي لخطيب الجمعة أن يأنس به الناس، فالناس قد انتظروا أسبوعاً كاملاً حتى يسمعوا منه المسائل السياسية والمسائل العبادية، فعليه أن يؤنس الناس، وأن ينقلهم إلى حالة الوجد ويشحذ هممهم إلى أسبوع كامل، ويقول: بأنّه ينبغي أن يقرأ لهم الأشعار الجميلة؛ وبالخصوص أشعار مولانا في مثنوي، وأن يجعلهم يأنسون بذلك، لا أن يأتي ـ أنا أقول ذلك لا هو ـ ويتحدّث بكلام عادي ليس فيه فائدة، فقط لأجل أنّ المتحدّث ذا اسم لامع، هذا الأمر غير صحيح.
فالخطيب الذي يصعد المنبر قبل خطيب الجمعة يترك أثرين سلبيين: أحدهما يُتعب الناس ويملّلهم من سماع خطبة الجمعة، والثاني: يقلّل واقعاً من اهتمام الناس بالإصغاء لخطبة الجمعة، إذ عندما يجلس الناس ويصغون ساعة إلى مطالبه ـ حتى لو كانت مطالب صحيحة ـ فسوف يقل استعدادهم وتهيؤهم للإصغاء إلى مطالب خطبة الجمعة..
لقد تجرّأنا اليوم على الدكتور، كنت قد أعطيته عهداً أن لا نبدأ بالكلام حتى يأتي.. لكن يا دكتور بدأنا منذ عشر دقائق فقط، والإخوة شاهدون [ضحك].. والعذر عند كرام الناس مقبول، ما ذكرناه حتى الآن عبارة عن مقدمة لا أكثر ـ لقد خطر في بالي الآن هذه القصة أذكرها لكم.
قصّة السيد بحر العلوم في مراعاته لخادم المسجد
نقل المرحوم العلامة بأنّ المرحوم السيد محمد مهدي بحر العلوم ـ وهو نفسه صاحب رسالة بحر العلوم التي طبعت مع حاشية للمرحوم العلامة ـ كان على علاقة وثيقة بالإمام الحجة أرواحنا له الفداء، ولا ينكر أحد ذلك منه أبداً، حتى أنّ بعض العظماء أمثال الميرزا القمي وغيره كانوا يمسحون حذاءه بأطراف عمائمهم، يعني أنّه كان مورد احترام وتعظيم من الجميع، ولم يكن أحد يشك في ذلك، وهذا الأمر كان بسبب اهتمام الإمام صاحب الزمان به، فبمجرد لقاءه بالإمام واهتمام الإمام به صار بحر العلوم. طبعاً كل من لديه شيء فهو من الإمام، لا أنّ المسألة خاصة به، بل جميع عالم الوجود بدءاً من ميكائيل وجبرائيل ومن هم أعلى وانتهاء بالذرة، جميع ذلك من بركات الإمام صاحب الزمان، وهذا الأمر لا شك فيه أصلاً، غاية الأمر أنّ هذه المسألة قد تظهر عند بعضهم دون البعض الآخر.
لقد كان المرحوم السيد محمد مهدي بحر العلوم من عظماء الشيعة ومفاخرها؛ بحيث أنّه كان مقبولاً عند جميع أهل الكتاب من اليهود والنصارى والمجوس بالإضافة إلى الشيعة والسنة، فكان يتحدّث مع النصارى ويأتي لهم بكلمات الإنجيل عن حفظ، وكذلك عندما كان يتحدّث مع اليهود يحدّثهم بالتوراة، فكم من النصارى واليهود أسلموا وتشيّعوا على يديه.. كل هذه الأمور كانت بعناية الإمام صاحب الزمان عليه السلام به. لقد كان من الذين فهموا الدين جيداً ـ فمن يكون مورد عناية الإمام هكذا ينبغي أن يكون ـ كان قد فهم الدين وفهم المعارف.
وقال المرحوم العلامة: كان السيد يذهب مساء إلى الكوفة ويصلي صلاة المغرب والعشاء في مسجد الكوفة، وكان الخادم في مسجد الكوفة يحبّه كثيراً، وكان أميّاً لكنّه يحبّه كثيراً، وكان عندما يأتي السيد يعد ناركيلة ويقدّمها له لشدّة حبه وإخلاصه له؛ فقد كان ينقي التنبك ويهتم به اهتماماً بالغاً، بحيث أنّ إعداد الناركيلة كان يستغرق منه ساعة كاملة، حتى عندما يصل السيد متعباً يجلس ويدخّن الناركيلة فيرتاح قليلاً، هكذا كان المرسوم في ذلك الوقت.. ولكي لا يُشكل أحد [كيف كان المرحوم السيد بحر العلوم يدخن الناركيلة] نقول: بأنّه ربما كان رأيه عدم وجود إشكال في ذلك، والفقهاء في هذه المسألة مختلفون؛ إذ ربما لا يرى فيها ضرراً، أو لم يكن يشعر بضررها، أو أنّ هذا المقدار لا يراه مخلاً ومنافياً للحكم الشرعي.. والحاصل أنّه كان يعدّها له بإتقان، وعندما يأتي يضعها أمامه ويدخنّها السيد مراعاة للخادم، وكان المرحوم السيد يلتفت إلى هذه الأمور، حيث كان مختلفاً عن الآخرين.
وفي يوم من الأيام وصل إلى المسجد متأخّراً ـ واللطيف أنّه كان يحضر في صلاته جميع علماء النجف من مجتهدين ومراجع، كانوا يأتون إلى الكوفة بعد الظهر ويعودون بعد صلاة المغرب ـ يعني وصل بعد دخول الوقت، وكان الجميع بانتظاره ليصلّوا خلفه، وفجأة جاء الخادم حاملاً الناركيلة وقدّمها له، فجلس ودخّنها، والحال أنّ الجميع جالس ينتظره، فلم يكتف بأنّه وصل متأخرّاً، بل جلس يدخّن الناركيلة لمدّة نصف ساعة كاملة دون أن يستعجل في ذلك أو يترك نصفها، بل استمر إلى أن أنهاها بالكامل، وهو يتحدّث إلى الخادم ويمازحه ويضحك معه، وكأنّه لا يوجد أحد (أربعة آلاف شخص) ينتظره للصلاة، ولم يكن أحد يجرؤ على الاعتراض عليه أو مواجهته بالكلام، لأنّهم كانوا يحضرون في المسجد محبّة للسيد وطلباً للجانب المعنوي عنده، وكانوا يأتون إلى الكوفة من النجف مشياً على الأقدام، نعم لم يكن اجتماعهم سياسياً، ولم يكونوا يحضرون خوفاً أو طلباً للجائزة أو توقّياً من التهديد، هكذا كانوا.. رحم الله الماضين منا وألحقنا الله بهم. فلم يكتفِ بالتأخّر ربع ساعة، بل أضاف عليها نصف ساعة أخرى، ولم يقل له أحد: سيدنا لقد ذهبت فضيلة الصلاة في أول الوقت!
ماذا يعني تصرّفه ذلك؟ لقد بيّن بتصرّفه ذلك الفهم الصحيح للدين، فالسيد محمد مهدي بحر العلوم يعلم بفضيلة الصلاة في أول الوقت، ويعرف بأنّ تعطيل أربعة آلاف شخص ـ وأكثرهم من العلماء ـ لا تساوي كسر قلب هذا الخادم المخلص الذي يقوم بهذا العمل من باب الصفاء والمحبّة.. هل التفتم إلى المسألة التي أريد بيانها؟! ومن جهة أخرى لم يكن السيد من الذين لا يبالون بالصلاة وبالمصلّين، أو ممن يقول دعهم يجلسوا في مسجد الكوفة ـ وهو من أفضل الأماكن ـ لمدة ثلاث أرباع الساعة، فمسجد الكوفة هو مسجد أمير المؤمنين (ضحك).. والحاصل أنّه بقي إلى أن انتهى من الناركيلة وأنس الخادم به، وبعد ذلك قام للصلاة، والله العالم كم كانت هذه الصلاة مختلفة عن الصلوات الأخرى..
كنت أريد أن أقول بأنّنا تجاسرنا على الدكتور، لكن رأينا أنّ الرفقاء كانوا جالسين هنا، وعلى كل حال المسألة عند كرام الناس سهلة وهي مورد عفوهم.
والحاصل، أنّه ينبغي على الخطيب في صلاة الجمعة أن يكون كذلك! لكن إذا فرضنا أنّ خطيباً آخر تحدّث لساعة وذهب بتمام الحال والنشاط الذي لدى الناس، فإذا أتى الخطيب الأساسي بعد ذلك لن يجد آذاناً صاغية ليقدّم ما لديه، وإذا لم يكن لديه شيء فسوف يزيد الطين بلة.
على كل حال، هذه من الأمور التي يتم الاشتباه فيها هذه الأيام، لذا لا ينبغي أن يكون هناك خطيب قبل خطيب الجمعة، بل لا بد أن يأتي الخطيب وهو الذي يدير المجلس ويباشر صلاة الجمعة، فيطرح للناس المطالب العلمية والعقائدية المستندة إلى الروايات وكلام الأئمة عليهم السلام، ويعمل على تقوية الجانب الفكري والروحي للناس عبر تلك إلقاء الحقائق، وعبر إشرافه على قضاياهم الحياتية، وعندئذٍ ستكون هذه الخطبة بهذه الكيفية مورد رضا الله تعالى. هذا بالنسبة إلى هذه المسألة.
توصية السيد القاضي بالاهتمام بأمرين: أحدهما محراب نافلة أمير المؤمنين
كانت جلسات الذكر دائماً تقوم على أساس السكوت لمدّة من الوقت حتى يحصل حالة الاستعداد لدى الإنسان.. أذكر قصّة نقلها المرحوم العلامة عن المرحوم آية الله الحاج السيد هادي التبريزي الذي كان من علماء الكاظمية، وكان رجلاً معروفاً وتتلمذ مدة عند السيد القاضي رضوان الله عليه، وفي ويوم من الأيام أعطاه السيد القاضي دستوراً وهو أنّه عليك أن تغتنم الفرصة في أمرين: أحدهما محراب النافلة لأمير المؤمنين عليه السلام في مسجد الكوفة، وأما المحراب الذي وضع الآن حوله قفص مثل الضريح هو المحراب الذي كان الإمام يقيم فيه صلاة الجماعة، وقبل إقامته لصلاة الجماعة كان الإمام يصلي نوافله في محراب آخر يقع تقريباً إلى اليسار من المحراب الأصلي على بعد عشرين متراً تقريباً، وهو معروف، فكان يصلّي فيه نوافل الصبح وصلاة الليل، ثم يأتي إلى المحراب الأصلي ويصلّي الصبح، وقد ضرب ابن ملجم الإمام عليه السلام على رأسه في ليلة التاسع عشر في هذا المحراب، أي محراب النافلة. حيث لم يكن الإمام عليه السلام قد صلّى الصبح، بل كان بعد انتهائه من صلاة الليل قد شرع بصلاة نافلة الصبح حينما ضُرب. قال له المرحوم السيد القاضي: اغتنم الفرصة في هذا المكان، وآثار هذا المكان مشهودة.
الوصية الثانية: زيارة القبور بين الطلوعين والسكوت
والآخر زيارة أهل القبور بين الطلوعين؛ بأن تقرأ الفاتحة وبعدها تأخذ زاوية وتجلس دون أن تقرأ القرآن أو أي شيء آخر، بل اجلس بسكوت، فهذا السكوت مفيد جداً، وتفكّر في أحوال القبر وأحوال القيامة وفي اعتبارية الدنيا وانقضائها، وذكر بأنّ الذهاب إلى القبور في الظهر وبعد الظهر وفي الليل ليس فيه كثير فائدة، بل ينبغي أن يكون ذلك صباحاً بين الطلوعين، وكان يهتم كثيراً بالسكوت، ويقول: الملائكة أقسام: منهم ركّع لا يسجدون، ومنهم ساجدون لا يركعون، ومنهم غير ذلك.
سكون الملائكة وإطاعتهم الكاملة لله
ولكن المسألة هي أنّ الملائكة تكون دائماً في حالة سكوت وهدوء دائماً، لا وجود عندهم للتشويش والاضطراب، وحين قيامهم بالدستورات والأوامر الإلهية {ويفعلون ما يؤمرون}۱، {بل عباد مكرمون}٢، يقومون بها بكامل السكون والهدوء، لا بالاضطراب! لماذا؟ لأنّهم يعتبرون أنفسهم عباداً في مقام إرادة الحق ومشيئته، لا يقومون بشيء من تلقاء أنفسهم، لا يتدخّلون في أعمال الله، فإذا أُمروا بإنزال العذاب على قوم، لا يقولون فلنُضف إليهم عذاباً من عندنا، كلا! فالله قال بأنّه ينبغي أن ينزل العذاب على ذاك المكان بدرجة كذا على مقياس ريختر مثلاً، كأن يحصل زلزال بدرجة ستة أو سبعة بمقياس ريختر فلا يجعلونه بدرجة ثمانية، بل يجعلون الزلزال بنفس الدرجة التي عُيّنت لهم، أو يقال لهم ينبغي أن تنزل صاعقة على المكان الفلاني، ولا ينبغي أن تصيب المكان الذي يليه، فلا تصيب غيره ولو مقدار ملم واحد، أو مثلاً ينبغي أن يحصل الآن هذا الأمر وبهذه المواصفات، بأن تقع هذه العارضة على رأس فلان الآن وتكسر رأسه، فلا يختلف الفعل عن المقرّر له ولو بمقدار ملم. هذا هو فعل الملائكة. أما نحن فإذا أردنا أن نفعل فعلاً فلا نبالي إذا تقدّم مترين إلى الأمام أو تأخّر مترين، أو أن يخرب هذا المكان أو ذاك فلا إشكال لدينا.. لكن الملائكة ليسوا كذلك بل هم {عباد مكرمون}، وعندما يكون عبداً فلا معنى للتدخّل والتصرّف ولا للزيادة والنقصان. وعليه فعندما نصير نحن كذلك، نكون قد صرنا مثل الملائكة، وعندها تصير نظرتنا إلى الحوادث نظرة عبودية. فإذا قيل لي اذهب واتني بقبعة ذلك الشخص، فلا يحق لي أن آتيه برأسه! وإذا قيل مثلاً قل هذا الكلام، فلا نذهب ونضيف من عندنا كلاماً أو ننقص كلاماً، بل علينا أن نتكلّم بما قيل لنا فقط! هذه هي العبودية، ولذا لديهم سكون.
فعندما يكون عبداً يكون ساكناً، عندما ينزلون العذاب ينزلونه بسكون، وعندما ينزلون النعمة ينزلونها بسكون. فالملائكة في حالة سكون دائم؛ سواء قال الله لهم اذهبوا! أو قال قفوا! فلن يختلف الأمر بالنسبة إليهم. مثل الشخص العادي الذي يقال له اذهب وانقل هذا الكلام بلا زيادة ولا نقصان، فلا داعي له ليزيد أو ينقص منه، لذا يذهب وينقل عين الكلام. هكذا هم الملائكة في تطبيقهم للتقدير الإلهي.
اضطراب الشياطين وتشويشهم
ثم قال: هذا السكون عند الملائكة بعكس حالة الشياطين؛ فهم دائماً في حال حركة وفي حال اضطراب، يقولون فلنذهب ونغوي فلاناً ونخرجه عن طريق الهداية! فلنذهب إلى ذاك ونقول له كلمة، أو نصرف فلاناً عن العبادة، أو فلنوقع فلاناً في المعصية.. إن شاء الله يفتح لنا عيوننا جميعاً ـ إن شاء الله عيون الإخوة مفتحة، لكن تنفتح أكثر ـ وعندما تفتح عيوننا سوف نرى ماذا هناك! سنرى أنّهم يقولون لنا اذهب إلى هنا واذهب إلى هناك، أقم جلسة هنا أو هناك (ضحك) كل هذا بسبب الاضطراب، جميع ذلك في حالة التشويش والاضطراب، وفي حالة من عدم الاستقرار! لذا ترون أنّ الناس أيضاً هكذا، حيث ترون أنّ نفوس بعض الناس ساكنة، وعندما يجلس الإنسان معهم ويتحدّث إليهم تسكن نفسه بهم. لكن عندما يجلس مع بعض آخر يجد في نفسه التشويش والاضطراب، حتى لو لم يتحدّث إليهم، بل نفس الجلوس معهم بمثابة خطر السمّ الهالك، بينما الجلوس مع أولئك الذين لديهم نفوس ساكنة أوجب من كل دواء، فليس لديهم اضطراب أبداً.
لقد كان المرحوم العلامة الطباطبائي هكذا، كان ساكناً، فحتى لو جلست إليه لساعة لا يتكلّم، ما لم تسأله لا يجيب! بل كان يجلس هكذا! هذا الرجل نفسه ساكنة. بينما نرى بعضاً آخر بمجرّد أن تجلس إليه يبدأ بالكلام والحديث من هنا وهناك، فهذا لديه اضطراب وتشويش، لا يمكنه الجلوس بهدوء، وكأنّه ينزعج من السكون، فهو في حالة اضطراب مستمر، يجب أن يتحدّث، عليه أن يطرح شيئاً؛ إذ يعتبر بأنّ المجلس لا فائدة فيه إذا لم يطرح شيئاً، وأنّه مجلس لغو لا طائل منه. ومن الطبيعي أنّ هذا الأمر خطأ، وعلاقة السالك بمثل هؤلاء الأشخاص مضرّة جداً لنفسه، بينما الارتباط بأولئك الأشخاص بحكم الدواء والعلاج لنفوسهم.
ثم يقول [السيد القاضي] للمرحوم الحاج السيد هادي التبريزي: نحن لسنا من طرف الملائكة الساكنين، ولا من طرف الشياطين الذين هم في حالة اضطراب وتشويش دائم، لكن يعجبنا عمل الملائكة ونكره عمل الشياطين، وإن شاء الله يأخذ بأيدينا لنحصل على ذلك، وهذا من أدبه وتواضعه.
على أي حال، ينبغي على الإنسان في حال الذكر أن يكون لديه حالة السكون لا حالة الاضطراب.
ما يذكر في هذه الجلسات هو من أنفاس الأولياء
بالنسبة إلى المجلس الذي نحن فيه بخدمة الإخوة، فأغلب المسائل التي نطرحها فيه أسعى دائماً أن تكون من الأمور التي سمعتها من المرحوم العلامة والعظماء، أو قرأتها من كتاباتهم، حتى يمكننا أن نستفيد أكثر من أنفاسهم، من دون أن أتدخّل فيما أنقله، وقد حافظت على ذلك بقدر الإمكان. وبناء عليه، فلكي نحصل على تحقيق هذا الأمر وأن تكون المطالب التي ننقلها أوقع في النفوس، لا بد من وجود استعداد خاص، لذا نطلب ـ والكثير من الأولياء كانوا يذكّرون بهذا الأمر ـ ونتجرّأ عليهم بالطلب منهم وإن شاء الله يكون ذلك مورد عفو منهم.. بأنّ الكلام الزائد، بل الكلام بشكل عام قبل الحضور يعارض ذاك الهدف المنشود، وعليه، من الأفضل عندما يأتي الرفقاء أن يحصلوا على ذاك الاستعداد الخاص حتى نتمكّن من الاستفادة من بركات أنفاسهم الشريفة؛ لأنّه كلّما كانت النفس أكثر استعداداً كلّما كان تأثيرها على المحيط بشكل أكبر.
تعامل الناس على أساس الظن لا اليقين
يقول الإمام الصادق عليه السلام لعنوان البصري: ليس العلم بالتعلّم، وقد ذكرنا في مسألة العلم بأنّ ما يقرب من تسعين أو خمسة وتسعين بالمائة من تعاملاتنا اليومية ليست قائمة على أساس العلم، بل هي من التخيّل والظن. والآيات في هذا الباب كثيرة جداً، هناك آية تتحدّث عن النصارى تقول: {ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِّ وَ ما قَتَلُوهُ يَقِيناً}۱، فهم لا علم لهم، بل كانوا يظنّون بأنّ النبي عيسى قد قتل، وكذا في الآيات الأخرى {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَ ما تَهْوَى الْأَنْفُسُ}٢، يعني أنّ حياة هؤلاء ومعاملاتهم على أساس الظن. فإذا دقّقنا النظر في هذه المسألة نرى أنّ حياة الناس قائمة أساساً على الظن والحدس والتخيّل والتوهّم؛ فاليوم ترى أنّ فلاناً قد صالح فلاناً وتقرّب منه على أساس الوهم، وغداً يفرّ منه على أساس الوهم أيضاً، وبعد غد كذلك وبعده أيضاً. فجميع وضع هؤلاء قائم على أساس التخيّل والوهم والحدس والشك والظن، ولا نصيب للعلم في تعاملهم أساساً.
ضرورة أن يبني الإنسان حياته على أساس العلم
لذا من الأمور المهمّة جداً للسالك هي أن يبني تمام أعماله وجميع معاملاته مع الآخرين ـ لا فقط مسائله السلوكية ـ على أساس العلم، غاية الأمر عليه أن يراعي العلم قدر المستطاع، إذ لا نقول بأنّه ينبغي أن يحصّل العلم في كل شيء بحيث لا يكون لديه أي احتمال مخالف في تمام المراحل، بل بالحد المقدور، بأن يجعل الأساس في حياته هو العلم، لا في الأمور السلوكية فقط. وكان الأولياء دائماً يعتبرون هذا الأمر دستوراً عاماً، وإذا أراد أحد أن يفعل شيئاً كانوا يوصونه بأنّه عليك أن تأخذ هذه المسألة بعين الاعتبار، وأنّه إذا عملت بالعلم ثم انكشف لك خلافه، فينبغي على الأقل أن تعتذر على ذلك، وأن تتدارك الأمر. فحتى لو كان لفعله عواقب ومسائل لا يمكن الرجوع عنها، فلا الأقل يمكن تداركها والاعتذار منها وغير ذلك، وهذه من المسائل الأولية. لذا عليك أن تحصّل اليقين قبل الإقدام على أي فعل، وأن تصل إلى نوايا الطرف المقابل واقعاً؛ حتى لا تقع بعد ذلك في الشك بأنّ من المحتمل أن تكون نيّته في المسألة هي كذا لا ما ظننته. كانوا يطرحون هذا الأمر كدستور عام، دون أن يكون له دخل بالمسائل السلوكية.
فكلامنا في أنّه هل ينبغي أن يكون عمل الإنسان في كل أمر قائماً على أساس الظن أم على أساس العلم واليقين؟ هذا هو المطلب الأول.
العلم النافع هو العلم الذي يفيدنا في آخرتنا
المطلب الآخر: هل أنّ أيّ علم نافع، أم لا؟ إذ الكثير من العلوم لا فائدة فيها، ولا طائل منها. فإذا فرضنا مثلاً، أنّك درست مدّة طويلة من الزمان وأضعت عمرك لتصل إلى معلومة مفادها أنّ تلك النجمة التي تبعد عنا بهذه المسافة يوجد فيها كائن حي؛ مثلاً نجمة تبعد عنا مسافة عشرة ملايين سنة ضوئية، لا يمكن أن ترى حتى بالتلسكوب المتطوّر، تبحث مدّة من الزمن لتثبت وجود هذه النجمة على هذا البعد الهائل، وتثبت وجود كائن حيّ عليها، فهل يفيدنا ذلك في حياتنا أو في آخرتنا؟
مع الالتفات إلى ما كنّا قد ذكرناه سابقاً للإخوة من أنّ هذا العمر الذي منحه الله لنا هو مقابل تحصيل السعادة الأبدية، ولن يتم تمديد هذا العمر بعد انقضائه! ويوجد مقابل ما منح لنا من المواهب تعهّدات فُرضت علينا، وكلّ ما نقوم به هنا سيؤثّر في مقدار القضية في ذاك العالم. حسناً مع التوجّه إلى هذه المسألة، عندما يأتي الإنسان وينفق رأسماله الذي لا يقبل التدارك والرجوع، في سبيل تحصيل أمر لا ينفعه ولو بمقدار شعرة في ذاك العالم، ماذا سيكون ذلك؟ سيكون هو الخسران! إذ ما الفائدة منه؟!
ما الفائدة في أن يأتي الإنسان ويتلف عمره في تحقيق بعض الأمور العجيبة؛ فمثلاً يبحث عن لغة الناس قبل خمسين ألف سنة أو مائة ألف سنة، وأن يثبت أنّهم كانوا يتكلّمون هكذا! يا عزيزي هكذا كانوا يتكلّمون فليكن، لكن ماذا عليّ أن أفعل أنا؟ أو أن يصرف الإنسان وقته في أمور لا تعود بأي نفع له أبداً سوى أنّها مجرّد اطلاع فقط.
هل شاهدتم بعض الأشخاص الذين يبذلون في التحقيق عمراً كاملاً لكي يثبتوا بأنّه يوجد لدينا في العالم مائة ألف نوع من الحشرات، ويؤلّفون في ذلك الكتب! حسناً لو فرضنا أنّه يوجد لدينا مائة وعشرة آلاف أو تسعين ألفاً فما الذي سيحصل؟! فأنت بذلت عمرك ومالك وطاقتك لقاء ماذا؟ لكي تثبت أنّه يوجد هذا النوع من الحشرات في المكان الفلاني!
كان النبي يعبر يوماً من مكان في المدينة، فشاهد جماعة من الناس جالسين حول رجل، فسألهم ما هذا؟ فقيل له هذا رجل علاّمة، فقال ما العلامة؟ فقالوا هو عالم بأنساب العرب؛ يعلم هذا الشخص إلى من ينتسب ومن جدّه، ومن أبو جدّه وهكذا، فقال النبي بماذا ينتفع هو؟ ثم قال: العلم إما علم معرفة الله أو معرفة الدين أو معرفة الأفعال والباقي فضل۱.
حاجتنا في الحياة الدنيا إلى العلوم الدنيوية لا ينبغي أن تمنعنا من اختيار العلوم الإلهية
طبعاً نحن في هذه الدنيا بحاجة إلى هذا الفضل، لا أنّنا بغنى عنه، وإلا فلن تمشي الحياة ولن تترتّب الأوضاع، فهذه حاجة دنيوية، لكن الكلام في اختيار ذاك العلم المقرّب والعلم غير المقرّب، وأنّه ماذا علينا أن نختار ونعمل به؟
قال المرحوم العلامة رضوان الله عليه لي: "اعلم يا فلان بأنّه لو لم أصرف تلك العشر سنوات في دراسة الهندسة لكان علمي الآن ضعف ما هو عليه". وحقيقة المسألة برأيي هي هكذا، نعم من بعض الجهات لها فوائد، لكن كلامنا في التدقيق الزائد والتحقيق المطوّل في هذه الأمور والتي كانت تنال إعجاب وتشجيع في ذلك الزمان ـ مع غض النظر عن خصوصياتها ـ ليس فيه أي منفعة علمية أو دينية أو تربوية تعود عليه، وحقيقة الأمر كذلك. لذا فالعلم المفيد للإنسان هو العلم المقرِّب من الله، ذاك العلم من الناحية القيمية هو العلم المقدّم على سائر العلوم وهو العلم الإلهي؛ العلم بمبادئ المبدأ والمعاد، وهو العلم الذي يبيّن للإنسان حقيقة عالم الوجود. هذا من جهة قيمة العلم ومكانته. فنفس العلم ينبغي أن يكون مشتملاً على آثار وقيم.
كيفية الجمع بين الحاجة إلى العلوم الدنيوية واختيار العلوم الإلهية
ومن جهة أخرى نرى أنّ بعض هذه العلوم ضرورية؛ فعلم الطب أمر لازم، وعلم الهندسة أمر لازم، وكذا سائر العلوم الأخرى لازمة. فماذا نفعل بها؟ ففي الحقيقة الناس يمرضون.. ألم يكن هناك أطباء في عصر الأئمة عليهم السلام؟ ألم يكن هناك مهندس؟ ألم يعلّم نفس الإمام الصادق عليه السلام هذه العلوم لأصحابه؟ ألا يوجد لدينا أحاديث عن سائر الأئمة عليهم السلام في هذه المسائل؟ فهذه الأمور إذن صحيحة. لكن المراد من كلام النبي الأكرم هو أنّه لو كان للشخص قدرة واستعداد في اختيار الأفضل فعليه أن يختار هذا الطرف دون ذاك، أما إذا لم يكن الأمر كذلك، بأن كانت حاجة المجتمع مثلاً تقتضي التخصّص في بعض هذه العلوم، كما هو الحال في هذه الأيام حيث يحثّون بعض الأشخاص على اختيار بعض التخصّصات التي يحتاجها المجتمع! أليس لدينا في الدولة الإسلامية بأنّه ينبغي أن يكون المسلمون الأقوى في العدد والعدّة؟ فهذه العدّة والعدد لا تتحقّق من دون تجربة علمية، إذ كيف يمكن تحقيقها لولا ذلك؟ {وَ أَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ}۱، من دون القوّة لا يمكن للإنسان أن يحصل على التفوّق، فالقوّة والاستعداد في كل علم من لوازم تفوّق المجتمع الإسلامي، وينبغي على المسلمين أن يحصّلوا هذا التفوّق من جميع الجهات، ولا يتركوا مجالاً لنفوذ الآخرين في البلاد الإسلامية ـ وبالأخص البلاد الشيعية ـ في المسائل العلمية والمسائل العملية والإجرائية، وكون المسلمين بهذا الشكل هو الذي يقتضيه جامعية الإسلام. فكيف يمكن للمسلمين أن يتفوّقوا على سائر الملل والشعوب وهم محرومون من أبسط الوسائل والأمور، بحيث لا يقدرون أن يقفوا في وجههم بالشكل المقبول والمتعارف؟ لا يمكن ذلك أبداً! لذلك، من الجهة الاجتماعية ينبغي على المسلمين أن يحوزوا أعلى مرتبة من العلوم المعاصرة وينالوا التفوّق العلمي والعملي فيما يرتبط ببلاد المسلمين. ولا شك في ذلك. لكن كلامنا في قيمة نفس العلم، لا ما تقتضيه الضرورة الاجتماعية! فلدينا بحثان؛ أحدهما ما تقتضيه الضرورة، وهنا على الإنسان أن يلاحظ تلك الضرورة، فيقوم بهذا العمل أو هذه الدراسة، والثاني هو قيمة نفس العلم.
وسؤالنا في المقام هو: أنّ هذا العلم مثلاً أو هذه المهنة التي تعتبر أمراً ضرورياً هل يمكن أن نجعلها مساوية لقراءة القرآن مثلاً؟ قد يقال نعم لأنّ هذا العلم ضروري والقرآن ليس كذلك.. يا عزيزي لا ربط بينهما أساساً؛ فهل يمكننا أن نعتبر علم الطب مساوياً لعلم الحديث وعلم الأخلاق لمجرّد حاجتنا إليه؟ كلا! فهذا العلم صحيح أنّه ضروري وضرورته محفوظة في محلّها، ولا بد منه أيضاً، لكن بحثنا في قيمة هذا العلم في نفسه لا عند الاضطرار! وهنا لا ينبغي الخلط بين هذين الأمرين.
تأكيد الأولياء على ضرورة تحصيل أعلى المراحل في كل علم وتخصّص
لذا كان تأكيد الأولياء كثيراً على تلاميذهم يعتمد على أساس منطقي دائماً، فالمرحوم العلامة كان يطلب من تلاميذه المرتبة الأعلى دائماً؛ فإن كان تلميذه طالب علم يقول له: لا ينبغي لك أن تقنع بما دون الاجتهاد، وإن كان طبيباً يقول له: لا ينبغي أن تكتفي بما دون التخصّص الفرعي، وإن كان مهندساً يقول له ينبغي أن تصل في تخصّصك إلى أعلى مرتبة علمية، وهذا النمط نمط منطقي، وهذا هو الصحيح أيضاً. نعم كل شخص بحسب استطاعته.
وعليه، عندما تقتضي الحاجة أن يشتغل الإنسان في مسار معيّن، فأي قاعدة عقلية تفرض عليه الاكتفاء بالحدّ الأدنى من ذلك المسار؟ لا يوجد أيّ حكم عقلي أو منطقي يقتضي ذلك. نعم ممكن أن يكون ذلك خارجاً عن قدرته فهذا كلام آخر، أما أن يكون قادراً على تحصيل الحدّ الأعلى ومع ذلك يقتصر على الأدنى، فهذا حتماً سيكون مقصّراً. هذا هو منهج الأئمّة عليهم السلام، ويجب في منهجهم الوصول إلى الحد الأعلى.
وهذا ما نراه في المنهج التربوي للمرحوم العلامة حيث كان يقول ـ وقد ذكرت هذا الأمر للرفقاء ـ لن أكتفي بأن يصل رفقائي إلى أقل مما وصل إليه سلمان! يعني كان يلاحظ الأعلى دائماً في كل أمر، هذا هو المنطق.
السلوك عبارة عن تطبيق الأمور على أساس المنطق، من الناحية العلمية ينبغي الوصول إلى أعلى مرتبة علمية، ومن الناحية العملية ينبغي الوصول إلى أعلى مرتبة، ومن الناحية الأخلاقية ينبغي الوصول إلى أعلى مرتبة في المعاشرة والتعامل، هذا هو المنطق وهذا هو السلوك. ومن الناحية السلوكية ينبغي أن لا يكتفى بأقل من الوصول إلى الذات، فلا يكتفي حتى بمرتبة الأسماء والصفات، بل بالذات فقط.
فأوهمت صحبي أنّ شرب شرابهم | *** | به سر سري في انتشائي بنظرة۱ |
"عندما أكون مع أصحابي أوهمهم بأنّ سروري إنما هو بسبب ذاك الشراب المعنوي لتجلّي الأسماء والصفات، ولكن ذاك الانتشاء والسكر إنما هو بسبب تجلّي الذات لا تجلّي مقام الأسماء والصفات، فقد وصلت إلى الذات، بينما صحبي كانوا لا يزالون في مقام الأسماء والصفات". هذا هو منهجهم وهذا هو منهج العرفان.
كل علم يراد به الله فهو نور
حسناً، عندما ننظر إلى كلام الإمام الصادق عليه السلام نرى أنّه يطرح الأمر بطريقة مختلفة، فالإمام لا يقول علم الفقه علم أو الأصول علم أو علم الاعتقاد علم أو علم الكلام، بل يقول العلم عبارة عن نور، والعلم عبارة عن بهاء، وهو لا يحصل بالتعلّم، مهما كان هذا العلم. وكل ما لم يخرج عن دائرة النور هو دنيا. وهنا لا يفرق الأمر بين علم الطب والهندسة، وبين الحرف وعلم الفقه والفلسفة والحكمة والتفسير.. لا يختلف الأمر فيها أبداً، فعندما لا يكون العمل لله فهو دنيا. أما إذا كان لله فذاك الطب سيكون نوراً للطبيب، وإذا كان لله فعلم الهندسة سيكون نوراً للمهندس، وإذا كان الله موجوداً في التجارة فستكون تلك التجارة نوراً للتاجر، وإذا كان الله موجوداً في الفقه فذاك الفقه نور للفقيه والفلسفة نور للحكيم.
كل علم لا يراد به الله فهو ظلمة
لكن إذا لم يكن كذلك، فذاك الفقه سيكون ظلمة للفقيه، وستكون الحكمة ظلمة، صحيح أنّه سيكون لدينا حكيم لكنّه مظلم، وفي هذه الحالة لا فرق بين العلوم، بل ستصير المسألة مسألة نور وظلمة، يقول مولانا جلال الدين الرومي:
جامههای زركشی را بافتن | *** | دُرُّها از قعر دریا یافتن |
خردهكاریهای علم هَندَسه | *** | یا نجوم و علم طب و فلسفه |
كاين تعلّق با همین دُنییستَش | *** | ره به هفتمآسمان بر نیستش |
اینهمه، علمِ بنای آخور است | *** | كه عمادِ بودِ گاو و اشتر است |
بهر استبقای حیوان چند روز | *** | نام آن كردند این گیجان رُموز٢ |
[يقول. إنّ حياكة الملابس الموشّاة بخيوط الذهب، وصيد اللؤلؤ من أعماق البحار.
ودقائق علم الهندسة والنجوم والطبّ والفلسفة.
إن تعلّقت بهذه الدنيا لا بوجوده تعالى، فهي مهما علت إلى السماء السابعة
ستبقى جميعاً كالمعلف الذي تأكل فيه الأنعام وتستريح
المعلف الذي أعدّ للحيوانات أيّاماً، لكنّ هؤلاء الحيارى أطلقوا عليه هذه الأسماء والرموز.]
هذه الأمور كلّها دنيا؛ فإذا كان هدفه الوصول إلى الرئاسة والمسائل الدنيوية لا فرق بين هذه العلوم أبداً؛ فجميع هذه العلوم تصير شبكة وحبالاً وشَركاً في يد الشيطان. نفس هذا الفقه الذي هو كلام الإمام عليه السلام يصير شركاً في يد الشيطان، نفس هذه الفلسفة والحكمة التي ينبغي أن يصل الإنسان منها إلى الله ويترك التعلّقات ويفهم الحقائق ويطبّقها على وجوده، وهذه الفلسفة التي من خلالها نثبت اعتبارية الدنيا.. هذه الفلسفة تصير شركاً وتهوي بالإنسان إلى قعر جهنّم فلا يخرج منها أبداً.
عدم استعداد أهل الدنيا للتضحية بما اكتسبوه في سبيل الله
كان المرحوم العلامة رضوان الله عليه يتحدّث يوماً مع قائد الثورة السيد الخميني رحمة الله عليه حول أحداث الخامس عشر من خرداد ـ التي حصلت قبل خمس وثلاثين سنة تقريباً، وكان السيد الخميني يريد في الأعمال التي يقوم بها أن يعتمد على العلماء، وكان يتوقّع أن يقدّم له هؤلاء العلماء يد العون والمساعدة ـ فقال له: لا تتوقّع من الذين أفنوا حياتهم في سبيل تحصيل موقع ومكانة لهم أن يأتوا ويبذلوا أنفسهم ويتخلّوا عن تلك الأمور في مسير الله وفي سبيل إقامة حكومة إسلامية، وأن يساعدوك في ذلك، وقال: هل تتوقّع من ذاك الذي قضى أربعين سنة في سراديب النجف وتحمّل تلك المشاق لكي يصل إلى هذه المكانة التي لديه الآن، أن يأتي ويتخلّى عن جميع تلك الأمور وينضوي تحت هذه الراية كسائر الناس؟! وأن يتجاوز عن جميع تلك الرئاسات ويقف جنباً إلى جنب مع الآخرين؟ هيهات! لن يحصل ذلك أبداً! لذا إذا أردت أن تقوم بعمل ما فعليك أن تقوم به بنفسك، فهؤلاء لن يأتوا۱.
استعمال بعض العلماء علمه في خدمة الكفر والأعداء
كنا نسمع فيما سبق من الأولياء شيئاً من هنا وشيئاً من هناك، لكن حينما تقدّمنا رأينا ذلك حقيقة، ولو لم نر بأمّ أعيننا الأمور ـ لا بالحدس والظن بل بهاتين العينين ـ لما صدّقنا بذلك أبداً.. بأن تقع هذه الأمور وهذه الجهود ـ لا قدر الله ـ بيد أشخاص لديهم أهداف أخرى؛ ظاهرهم الهدوء والسكون والأبّهة والجلال، لكن الله تعالى وحده العالم ماذا هناك! فهؤلاء الأشخاص الذين كانوا هنا يدرّسون ويقومون بهذه الجهود وكانت أصواتهم ترتفع للمطالبة بالإسلام وأمثال ذلك.. أليسوا هم الذين ذهبوا إلى العراق بعد انتصار الثورة، وكانوا يتكلّمون من الراديو العراقي على الإسلام وعلى هذه الأمة وعلى قائد الثورة؟! وأي كلام كان يصدر منهم؟! هل نسينا ذلك؟ لم يصابوا بالجنون، لا بل عقولهم كانت جيدة! لكنهم وضعوا أيديهم بيد صدام نعوذ بالله! يا عزيزي لديك مشكلة مع فلان، فلماذا تذهب وتؤيّد صدام؟! وأمثال هذه الأمور كثير، وقد ذكرت لكم في الجلسة السابقة قصّة أحدهم، هل كان هؤلاء أمّيين؟ كلا، كانوا علماء.
أذكر قصّة عن أحد هؤلاء، حيث حصل زلزال في منطقة گناباد، وصار بسببه ابتلاء كبير بمسائل الإرث، يقولون بأنّه تمّ تشكيل مجلس استفتاء، وكانت عندما تطرح فيه قضية معيّنة كان يجيب عليها مباشرة، وهذا بحاجة إلى فضل كبير، لكن ما هذا؟ لقد صار هذا الفضل وهذا العلم في خدمة صدام. لقد ذكرت لكم نموذجاً حياً حتى لا يشك أحد بهذا الأمر. فقد صار هذا الفقه وهذه الفلسفة في خدمة الشيطان وفي خدمة الأعداء، فعندما يقول مولانا جلال الدين الرومي:
خردهكاریهای علم هَندَسه | *** | یا نجوم و علم طب و فلسفه |
كاين تعلّق با همین دُنییستَش | *** | ره به هفتم آسمان بر نيستش |
هذه الأمور فيها تعلّق بالدنيا لا بالآخرة، فهو يدرس الفقه ليسحق الفقه، ويدرس الفلسفة لينزل الله إلى الأرض، ويدرس روايات الإمام الصادق عليه السلام حتى يميته.. هذا هو التعلّق بالدنيا، ولن يكون موصلاً إلى السماء أبداً.
قال المرحوم العلامة رضوان الله عليه: بعد وفاة أحد المراجع دُعيت إلى مجلس لتعيين مرجع بعده، وكان المرسوم بعد وفاة المرجع أن يأتي العلماء والمجتهدون ويتشاورون فيما بينهم لتحديد الأعلم والأتقى والأفضل، حتى يتم إعلان الأمر للناس فيرجعون إليه، وكان الناس يتّبعون العلماء في ذلك؛ فعندما يجمع أهل الخبرة وأهل الحل والعقد على أمر كان الناس يلتزمون به. قال: دعوني إلى ذاك المجلس، لكن شعرت أنّ قلبي قد اضطرب وحصل لي تشويش، فقرّرت أن أستخير بالقرآن لأحسم الأمر بالحضور وعدمه، فأتت هذه الآية: {أَ لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَه يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَ نَجْواهُمْ وَ أَنَّ اللَه عَلَّامُ الْغُيُوبِ}۱. ألا يعلم هؤلاء أنّ الله يعلم باطنهم وعلانيتهم، ويعلم نجواهم وما يمكرون؟! والآية التي قبلها هي {فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِما أَخْلَفُوا اللَه ما وَعَدُوهُ وَ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ}٢. يعني بما أنّهم خالفوا الميثاق الذي قطعوه والعهد الذي أبرموه مع الله، هذه المخالفة وهذا النقض للعهد جعل في قلوبهم نفاقاً. والحاصل أنّه لم يذهب ولم يشارك في ذلك المجلس. وكنت قد حضرت في ذاك الوقت أحد تلك المجالس ـ حيث كان هناك مجالس متعدّدة ـ فسمعت بأذني هذه من بعضهم كلام فحش وسبّ من أحدهم لكي يتغلّب على الطرف الآخر.. ما أقوله لكم سمعته بأذني ورأيته بعيني. هل هكذا يتم تعيين المرجع؟ هل هذا هو طريق الله؟ حتماً لا!
تقوى العالم تجعله يفرّ من المرجعية ومسؤولياتها، قصة الميرزا الشيرازي نموذجاً
المرجع هو الذي إذا قيل له لقد صرت مرجعاً يأخذ بالبكاء كالمرأة الثكلى [خوفاً من مسؤولية هذا المقام]! هذا هو المرجع، كما حصل مع الميرزا الشيرازي، لماذا؟ لأنّه كان هناك إخلاص في النية، وإذا كان هناك إخلاص في النية فالله هو الذي يسدّد رأيهم، ويلقي المصلحة في قلوبهم. فقد حصل بعد وفاة الشيخ الأنصاري أن اجتمع تلاميذه وقالوا من نختار لهذه المسؤولية منّا؟ وكان في الحضور الميرزا حبيب الله الرشتي والحاج الميرزا حسن نجم الدين الطهراني والميرزا محمد حسن الشيرازي والميرزا حسن الأشتياني وعدد آخر من كبار تلاميذ الشيخ الأنصاري.. وكان كل منهم يلقي الأمر على الآخر، وبعد مدّة من الكلام من دون التوصّل إلى نتيجة أوكلوا الجلسة إلى الغد، وفي المساء اجتمعوا دون الميرزا حسن الشيرازي وقالوا مسألة المرجعية ليست سهلة، فلا نخادع أنفسنا، بل علينا أن نرى هل نحن مؤهّلون لهذه المسؤولية أم لا؟ هل يمكن لأحد منا أن يضع في جيبه مفتاح جهنم؟ فقال كل منهم أنا لا أستطيع ذلك، ثم قالوا الوحيد المؤهّل لهذه المسؤولية هو الميرزا الشيرازي، وكان رأيهم فيه متفقاً، ولذا لم يدعوه إلى الجلسة، بل أرادوا أن يحمّلوه هذا الأمر ويضعوه تحت الأمر الواقع. فاتفقوا على أنّه عند تشكيل الجلسة في الغد أن يحكموا جميعاً بأنّ المرجع هو فلان! هذا هو الإخلاص، وهكذا ينبغي تعيين المرجع، لا أن يتعيّن بالفحش والسباب.. وفي اليوم التالي عندما اجتمعوا في المجلس، وحضر الميرزا الشيرازي، قالوا بأجمعهم دفعة واحدة حكمنا بأن تكون أنت المرجع ـ وحكم المجتهد نافذ لا يرد ـ يقال بأنّ الميرزا الشيرازي صار يبكي كالثكلى لنصف ساعة، لم يكن بكاؤه تصنّعاً، كان يبكي على هذه المصيبة التي حلّت به والمسؤولية الكبرى التي سيتحمّلها. أما الآن فنرى خمسين رسالة عملية في السوق! تلك المرجعية هي التي تكون مورد رضا الله تعالى. وبما أنّ هؤلاء العلماء كان لديهم إخلاص، فقد ألقى الله في قلوبهم اختيار الميرزا الشيرازي الذي كان من أهل الحال والباطن والمشاهدات، وكان كيّساً وفطناً جداً.
لا قيمة لأي علم وعمل من دون ربطه بالله
إذا أردنا أن نتحرّك ونعمل مع غضّ النظر مسألة القرب لله ومسألة البهاء والوصول إلى الموازين والوصول إلى رضا الله تعالى.. فجميع ما قمنا به ونقوم به سيكون في مسير الظلمة والكدورة! فإن كان لدينا علم فسيكون في ذاك الموضع، وإن كان لدينا مال فسيكون في ذاك المسير، وإذا كان لدينا مهنة وصنعة فستكون كذلك، لماذا؟ لأنّ العمل ليس لله.
هلاك البشرية من خلال العلوم التجريبية البعيدة عن الله
يقال بأنّه في الذكرى السنوية السبعين أو الثمانين لولادة أنشتاين أقيم له في أمريكا مجلس تكريم وكان هو حاضراً فيه، فقال: ينبغي أن أرحل عنكم وكلّي حسرة وندامة؛ فإنّ ما قدّمته من اختراع كان سبباً لحرق مئات الآلاف من البشر وقتلهم. لماذا تلك الحسرة؟ لأن هذا العلم كان دنيا، فهناك علم، ولا إشكال في ذلك، لكن هذا العلم كان في خدمة الشيطان، لا في خدمة الرحمان. فكانوا يستخدمون هذا العلم لصنع قنبلة وقتل الناس الأبرياء والأطفال. فهذا علم، ولكنه ليس علماً صحيحاً.
حسناً، فلو لم يُقدم أنشتاين على هذا العمل، فأي خلل كان سيحصل في الدنيا؟ ألم يكن الإمام الصادق عليه السلام يعلم بتمام هذه العلوم؟ فلماذا لم يبيّنها إذاً؟ لم يبيّنها لأجل هذه الأمور! فهو محيط بجميع تفاصيل عالم الوجود.
هذا كلّه بالنسبة إلى جعل العلوم في خدمة الشيطان، وسوف نذكر في الجلسة القادمة أنّه كيف يمكن أن يُجعل نفس السلوك في خدمة الشيطان؛ أن يجعل العرفان في خدمة الشيطان! هذه العلوم التي تحدّثنا عنها هي علوم؛ فقه وفلسفة وطب وهندسة، وهذا أمر عادي، لكن كيف يمكن للشيطان أن يأتي من باب تزكية النفس والتربية ويتغلّب على الإنسان، يأتيه من باب السلوك! وهنا ماذا ينبغي أن نفعل؟
لذا أول مطلب تفضّل به الإمام الصادق عليه السلام هو أنّه فرّق بين جميع المسائل التي لا يراد بها الله وبين الحركة والمسير الإلهي. فقال العلم ليس علماً أصلاً، ومهما يخطر في بالك من أمور وتطلق عليها اسم العلم فهي ليست علماً، بل هي معلومات! أما العلم فهو نور! فمن يكون فيه هذا النور يكون عالماً، وإذا لم يكن فيه نور، فهو جاهل مهما ادعى العلم؛ فلو ادعى العرفان أو ادعى الفلسفة فهو جاهل، وإذا ادعى الفقه فهو جاهل.
نظر الأولياء إلى نور الأشخاص لا إلى علمهم ومكانتهم
والسبب في أنّ الأولياء ومن لديه بصيرة لم يكونوا يقعون ضحيّة الأشخاص المغرضين هو امتلاكهم هذا النور. فكانوا حينما يرون الشخص ـ قبل أن ينظروا هل لديه علم وفنّ أم لا ـ ينظرون هل لديه نور أم لا، هذا أول ما كان يلفتهم، لذا لم يكونوا يقعون ضحيّة خداع أحد أبداً. أما الآخرون فليسوا كذلك، بل بمجرّد أن يروا عالماً، يقولون كنا نبحث عن هذا الرجل منذ عشر سنين، والآن وفّقنا للقاء به! فهؤلاء إنما نظروا إلى علمه لا إلى النور الذي لديه. كل ذلك إنما هو بسبب أنّه ليس هناك نور، وبما أنّه ليس لديهم نور، فليس لديهم ما يشخّصون به.
ينقل المرحوم العلامة في كتاب نور ملكوت القرآن بأنّه ذهب إلى مكتبة ليشتري كتباً فرأى بائع كتب متجوّل هناك، وعندما رآه فهم أنّه يختلف عن الآخرين. فقال له: "أيها الدرويش! لا تأكل وحدك، فهذا ليس من رسوم الرفاقة"۱. لقد عرف أمره بمجرّد رؤيته.
نوريان مر نوريان را جاذبند | *** | ناريان مر ناريان را طالبند |
[أهل النور يسعون إلى أمثالهم، وأهل النار يجذبون أشباههم]
سنذكر إن شاء الله بأنّه إذا لم يكن لدى الإنسان نور، فمهما تبذل له لن تنفعه، وسيأتي الكلام في ذلك. إذا أردت أن تتحدّث إلى شخص فانظر أولاً هل لديه نور أم لا، فلا تضيع وقتك معه، سيأتي يوم وتعرف حقيقته. لقد جرّبنا هذا الأمر، فلا تُعدْ التجربة يا عزيزي (ضحك).
إذا كان لديه نور فسوف يعرف وضع الطرف المقابل، فلا يكون حاله حال من يذهب اليوم إلى هنا، وغداً يذهب إلى هناك وبعده إلى مكان ثالث! أو اليوم ينقاد لشخص بسبب منام، وغداً يتركه بسبب منام آخر. كلا! بل طريقه مستقيم؛ يقول ويعمل بقوله مهما حصل.
إن شاء الله يوفّقنا الله تعالى لتحصيل اليقين والتوفيق للعلم والعمل به والشكر على اليقين. وأن يكون تعالى هو المباشر لقلوبنا في كل حال، ولا يجعلنا مقصّرين بحق الأولياء، ونسأل الله أن لا يحرفنا لحظة واحدة عن مسار أولياء دينه.
رحم الله من قرأ الفاتحة مع الصلوات لأرواح موتى شيعة أمير المؤمنين عليه السلام، وبالأخص موتى الحاضرين، وخصوصاً المرحوم العلامة، حيث مرّ منذ يومين الذكرى السنوية لارتحاله.
اللهم صل على محمد وآل محمد