حريم القدس

مقالة في السير و السلوك

حريم القدس 16184
مشاهدة المتن

المؤلّف آية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني

القسم الاخلاق والحکمة والعرفان


التوضيح

وهي مقالة جاد بها يراع سماحة آية الله الحاج السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ دامت بركاته، في تقديمه للترجمة الفرنسيّة للكتاب الشـريف «لبّ اللباب في سير وسلوك أولي الألباب» تأليف سماحة العلّامة الطهراني قدّس الله سـرّه.
/۱۲۵
حريم القدس - التمهيد حريم القدس - القسم الأول حريم القدس - القسم الثاني حريم القدس - القسم الثالث حريم القدس - القسم الرابع بي دي اف بي دي اف الجوال الوورد

حريم القدس - مقالة في السير و السلوك

1

حريم القدس - مقالة في السير و السلوك

2
  • [المدخل‌]

  • عن الإمام موسى بن جعفر عليهما السّلام، قال:

  • «إنّ اللَهَ تَبارَك و تَعالَى أكمَلَ لِلنّاسِ الحُجَجَ بِالعُقول»

  • الكافي، ج ۱، ص ۱٣

حريم القدس - مقالة في السير و السلوك

8
  • الفهرس

حريم القدس - مقالة في السير و السلوك

10
  • فهرس المواضيع

  • حريم القدس

  • مقالة في السير و السلوك الي الله

حريم القدس - مقالة في السير و السلوك

16
  • ‌‌ 

  • ‌ 

  • بسم الله الرحمن الرحيم

  •  

  •  

  • تمثّل هذه الرسالة القيّمة التي نضعها بين يدي القارئ العربيّ مقدّمةً للترجمة الفرنسيّة للكتاب الشريف «لبّ اللباب في سير وسلوك أولي الألباب» من تأليف سماحة العلّامة الطهراني قدّس الله سرّه،‌ وقد جاد بها يراع سماحة آية الله الحاج السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ دامت بركاته.

  • ولمّا كانت هذه المقالة تتضمّن مطالب راقية ومواضيع مهمّة للقارئ العربي، لذا بادرت لجنة ترجمة وتحقيق «دورة علوم ومباني الإسلام والتشيّع»‌ بتعريبها وتقديمها للقارئ العربي لتعمّ الفائدة منها. 

  • وهنا نودّ أن نلفت عناية القارئ الكريم إلى بعض الملاحظات والتنبيهات حول عمل اللجنة في هذه الرسالة: 

  • أوّلًا: إنّ أصل هذه الرسالة مع جميع هوامشها باللغة الفارسيّة، وقد قامت اللجنة بتعريبها. 

  • ثانيًا:‌ إنّ جميع العناوين الموجودة داخل الكتاب، والموجودة كذلك في فهرس المواضيع هي من وضع اللجنة، وليست من قبل المؤلّف المحترم.

  • ثالثًا: قامت اللجنة بمراجعة وتحقيق التخريجات التي كانت موجودة في النسخة الفارسيّة المطبوعة من الرسالة، كما وأضافت بعض التخريجات الضـرورية في الهامش، وأشرنا إلى ذلك بالرمز (م). 

  • رابعًا: عمدت اللجنة إلى إضافة بعض التوضيحات في الهامش في بعض المواطن التي تساعد القارئ الكريم على فهم المراد من النصّ، وهذه التوضيحات من قبل اللجنة وليست من قبل المؤلّف المحترم، وقد أشرنا إليها بالرمز (م). 

  • وآخر دعوانا أن الحمد للّه ربّ العالمين.

  • لجنة ترجمة وتحقيق‌

  • «دورة علوم ومبانى الإسلام والتشيع»

حريم القدس - مقالة في السير و السلوك

18
  • التمهيد

حريم القدس - مقالة في السير و السلوك

19
  •  

  •  

  • بِسْمِ اللَه الرَحْمَنِ الرَحِيمِ‌

  • الحَمْدُ للّه رَبِّ العَالَمِينَ‌

  • وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلى المَبْعُوثِ إِلَى الخَلائِقِأَجْمَعِينَ‌

  • وَآلِهِ الأوْصِياءِ المُنْتَجَبِينَ‌

  • وَلَعْنَةُ اللَهِ عَلَى أَعْدَائِهم مِنَ الأَوّلِينَ وَالآخِرينَ إِلى يوْمِ الدِّينِ‌

  •  

  •  

  • خطبة الكتاب‌

  • الحمدُ الأبدى والثناءُ الأزلى لذات واجب الوجود الذى أخرجَ بسيط الماهيات الإمكانية بِيمن صرافة الوجود إلى زينة التعين والتشخّص، ومنحَ مقام الإنسان الرفيع تاجَ‌ {لَقَدْ كَرَّمْنا} مِن بين جميع الكائنات، وجعله مُفتخرًا بكونه مَظهرًا لتجلّى الذات واستعداده لتلقّى التجلّى الأعظم.

  • والسلام اللامتناهى على النفوس المطهّرة لأرواح الأنبياء والرُسل الإلهيين، الذين يهدون التائهين في وادى الحيرة والضائعين في تيه الضلال، فيوصلونهم إلى المنزل المقصود ودائرة المقام المحمود، مستمدّين من المدد والنور السبحانى، خصوصًا سيد الكائنات ومحور حدوث وبقاء الموجودات، أبى الأكوان بفاعليته وأمّ الإمكان بقابليته‌۱ البشير النذير

    1. أبو العوالم من جهة وحيثيّة فاعليته، وأمّ جميع المخلوقات بلحاظ حيثيّة قبوله واستعداده (وذلك لتحقق حيثيّتين مختلفتين؛ الأولى: نزول حقيقة الوجود بالإضافة الإشراقيّة، والثانية: تشكّلها في القوالب والأوعية المختلفة وتعيّنها بالتعيّنات المختلفة. فهما جهتان وحيثيّتان وانتسابان في كيفية البدء والختم، ويعبّرون عن الحيثيّة الأولى: بالحيثيّة الفاعليّة، وعن الثانية: بالحيثيّة القابلة، وتنبع كلتا هاتين الحيثيّتين من وجوده المبارك، وتحققُهما حاصلٌ في نفسه الشريفة).

حريم القدس - مقالة في السير و السلوك

20
  • والسراج المنير، خاتم الأنبياء محمّد بن عبد الله وأهل بيته، الشموس الطالعة والنجوم الزاهرة في نشأتي التكوين والتشريع، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين. 

  • وإنِي وإنْ كنتُ ابنُ آدمَ صورةً***فَلي فِيهِ مَعنىً شاهِدٌ بِأبوّتي۱
  • سبب تأليف هذه المقالة

  • يقول كاتب هذه السطور، العبد الحقير السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ عفا الله عن جرائمه: 

  • بيانٌ إجمالي لما تمتاز به «رسالة لبّ اللباب»

  • لمّا كانت الرسالة الشـريفة والقيّمة «لبّ اللباب في سير وسلوك أولي الألباب» إحدى مؤلفات العارف الكامل والسالك الواصل، إنسان العين وعين الإنسان، العالم بالله وبأمر الله، سيّد الفقهاء الربانيّين، وسند الأولياء الإلهيّين، مولانا ومقتدانا آية الله العظمى السيّد محمّد الحسين الحسينيّ الطهرانيّ أفاض الله عليه شآبيب رحمته ورضوانه، تمثّل تقريرات البحوث السلوكيّة العِلميّة والعَمليّة لأستاذ الكلّ في الكلّ، فخر الحكماء المتألّهين، وأسوة العلماء السالكين، سيّدنا الأكرم، وعمادنا الأعظم، سماحة العلاّمة الطباطبائيّ قدس الله سرّه؛ فإنّها تتميّز بمزايا فريدةٍ، وخصائص وحيدةٍ، جعلَتها حقًّا عديمة النظير، سواءً في لغة العرب أم العجم. ووفقًا لشهادة أهل الخبرة والنظر، فلم يُدوّن حتّى الآن كتابٌ بهذه البلاغة والشموليّة، يُسلّط الضوء 

    1. ديوان ابن الفارض، ص ۱٢۰.

حريم القدس - مقالة في السير و السلوك

21
  • على مراتب النفس ومراحل الإيمان، ويبيّن كيفيّة السير والسلوك إلى الله، ورفض العوائق، والأهواء الصارفة، وكيفيّة العبور من عوالم الضلال والغواية والكثرات والتوهّمات، ولزوم الاستمداد بتربية الأستاذ الكامل وإرشاداته في جميع مراحل السير المختلفة، وهي تبتني على المبادئ والأصول المسلّمة للسير والسلوك إلى الله، من قبيل: مقام الإنسان ومنزلته في عالم الإمكان، وكيفيّة سيره نحو الكمال والتحقّق في مراتب الفعليّة، وكذلك ضرورة إرسال الأنبياء والرسل الإلهيّين لتربية النفوس المستعدّة، وكذلك عدم الاستغناء عن مساعدة الأستاذ الكامل والمهذِّب للنفوس، وضرورة السير والمضـي في طريق العرفان والتوحيد، والتولّي بولاية أهل بيت العصمة والكرامة سلام الله عليهم أجمعين، والتبرّؤ من أعدائهم ومخالفيهم باطنًا وظاهرًا. كما وتُبيّن هذه الرسالة امتياز مدرسة التوحيد عن سائر المدارس المنحرفة والبعيدة عن الواقع والحقيقة ـ وإن كانت تلك المدارس مصبوغةً بصبغة الدين والولاية والرسالة ـ وتتعرّض لأسباب معارضة ومواجهة الأشخاص السذّج وعديمي الاطّلاع على حقائق عالم الأُنس؛ وكما قيل:

  • چه داند آنکه نداند که چيست لذّت عشق *** از آنکه لذت عاشق ورای لذات است۱
  • [يقول: ماذا يعرف من جهل لذة العشق؟ لأن لذة العشق لذةٌ فوق اللذات].

  • هذا مضافًا إلى بعض المواضيع الأخرى التي يؤدّي الاطلاع عليها إلى زيادة وضوح مسير حركة السالك بشكلٍ أكبرَ، وتجعل استقامته في مواجهة 

    1. ديوان العطار، ص ٣٣.

حريم القدس - مقالة في السير و السلوك

22
  • العوائق والفتن أشدّ، وعزمَه وإرادته في الوصول إلى الهدف الأسمى أعلى وأرسخ، وتحفظه في مواجهته لوساوس الخنّاسين، وتلبيس أبالسة المسير، وقطاع الطريق ولصوصه؛ فلا يؤثّر فيه كيد الخائنين، ولا يُحرم من الحركة والصعود إلى عالم القدس؛ فيخترق بعزمٍ متينٍ حُجب عوالم الكثرة، الواحد تلو الآخر، مترنّمًـا بالآية الشـريفة: {قُلِ ٱللَّهُۖ ثُمَّ ذَرۡهُمۡ فِي خَوۡضِهِمۡ يَلۡعَبُونَ}۱ ويعبر مراحل الظلمات ومراتب الحجب النوريّة، ويضع قدمه في ساحة معدن عظمة كبرياء الحق. 

  • استقبال النخب لرسالة لبّ اللباب، وترجمتها إلى لغات متعدّدة

  • وقد تمّ إلى الآن ترجمة هذه الرسالة الشـريفة ـ التي كُتِب أصلها باللغة الفارسيّة ـ إلى العربيّة والإنكليزيّة، فأثارت إعجاب القرّاء وثنائهم، وأوجدت في ضمائرهم ونفوسهم المستعدّة أرضيّةً للتحوّل والتغيّر الجادّ، كما اعتُمِدت واشتُهِرت كمصدرٍ يُدرّس في بعض الجامعات الرائدة والمعروفة في العالم.

  • بعض الآثار الروحيّة لمطالعة رسالة لبّ اللباب

  • وقد قام الحقير بمطالعتها مرّاتٍ عديدةٍ، وفي كلّ مرّةٍ كنت أشعر بالإحساس نفسه من الرقة والنشاط الذي شعرت به أوّل مرّةٍ. وكأنّ عبارات هذا الكتاب تزيل الأغشية عن سويداء قلوب الحيارى وضمائر الساعين والمجدّين إلى حريم المعبود، وتبدي ما يحتاجه الوجدان الطاهر ـ الذي لم تنجّسه زخارف الدنيا ـ للوصول إلى عالم التوحيد، والكشف عن سلطان المعرفة ليصبح واضحًا وجليًّا.

  • سبب حصول تلك الآثار الروحيّة بقراءة كتب الأولياء

  • ويكمُن سِرّ ذلك في أنّ هذه المفاهيم والعبارات كانت قد ترشّحت من يراع وبنان أفرادٍ قد اتصلت أرواحهم بعالم التوحيد والتجرّد، بل اتحدت معه،

    1. سورة الأنعام ( ٦)، ذيل الآية ٩۱.

حريم القدس - مقالة في السير و السلوك

23
  • فكلّ ما يُفاض على قلوبهم ويَتنزّل على ضمائرهم الملكوتيّة المطهّرة من المعاني الرقيقة والمباني الدقيقة ولطائف عالم الأنوار، خالٍ من تصـرّف النفس الأمّارة، وتدخّل الأغراض الدنيئة والأهواء الرذيلة؛ ولذلك فإنّ هذه المعاني ستنسجم وتتوافق وتنطبق وتتماشى مع فطرة كلّ إنسانٍ صادقٍ باحثٍ عن الحقيقة وضميره، وسوف لن تفقد رونقها ونضارتها ورَوْحها، ومهما عمل الإنسان على التحقيق والمطالعة والتدبّر فيها، فسيُدرك أكثر وأكثر من تلك الحقائق الراقية، وأنوار معرفة الحقّ، كما هو الحال في الكتب المنتسبة إلى السماء، وخصوصًا «القرآن الكريم» و «نهج البلاغة» لمولى الموحّدين أمير المؤمنين عليه السلام، والروايات الواردة عن حضرات المعصومين عليهم السلام، وفي مرتبةٍ أدنى منها كلمات الأولياء الإلهيّين وعباراتهم؛ كشعر حافظ الشيرازيّ ومولانا جلال الدين البلخيّ وابن الفارض المصـريّ، والكتب التي ألّفها فخر العرفاء الشامخين محيي الدين بن عربيّ، وكتابات ورسائل سائر الأولياء والعرفاء الإلهيّين رضوان الله عليهم أجمعين.

  • يقول المرحوم القاضي قدّس الله سرّه: 

  • «لقد قرأتُ كتاب «مثنوي معنوي»۱ ثماني مرّاتٍ، وفي كلّ مرّةٍ كنتُ أستفيد مطلبًا جديدًا وإفاضةً مغايرةً للإفاضات والمدركات التي حصلت بالمطالعات السابقة»

    1.  كتاب «المثنوي المعنوي» هو ديوانٌ مشهورٌ باللغة الفارسيّة وله عدّة ترجمات بالعربيّة، وقد اعتنى به العلماء والأعاظم والعرفاء على الخصوص لما فيه من نكاتٍ سلوكيّةٍ دقيقةٍ تُساعد السالك على تجاوز العقبات في الطريق،‌ وصاحبه هو المولى جلال الدين محمّد المولويّ البلخيّ الروميّ، من أشهر مشايخ العُرفاء وقادتهم الأكابر، وُلِد سنة ٦۰٤ هـ، وتوفّي سنة ٦۷٢ هـ. (م)

حريم القدس - مقالة في السير و السلوك

24
  • وأمّا في الكتابات الأخرى فإنّنا لا نرى فيها ذلك، وسبب ذلك واضحٌ وجليٌّ؛ لأنّ كلّ ما يخرج عن بنان غير الأولياء وبيانهم فهو يصدر من منبعٍ ملوّثٍ بالأغراض وعينٍ مغمورةٍ بالشهوات والتخيّلات والحب والبغض، وللناس في ذلك مراتب مختلفةٍ. ومن جهة أخرى فإنّ علومهم حصوليّةٌ اكتسابيّةٌ ظاهريّةٌ، وسوف لن يكون لها من أثرٍ أو مردودٍ سوى ترسيخ ذخيرة المحفوظات، بل هم أنفسهم لا يمتلكون يقينًا جازمًا بها.

  • الترجمة الفرنسيّة لرسالة لبّ اللباب

  • وقد وُفِّق أخيرًا أحد الأخلاء الروحيّين والإخوة الإيمانيّين لترجمة الكتاب إلى اللغة الفرنسيّة، و طلب من الحقير أن يكتب مقدّمةً توضّح بعض المسائل الآنفة الذكر؛ لذلك وبسبب أهميّة الموضوع، وتضارب الآراء، واختلاف المسالك والمدارس والمناهج المتنوّعة والمنحرفة في كثيرٍ من الأحيان، ودخول الأوهام والتخيّلات المختلفة من قبل عدّةٍ ممّن لا تتوفّر لديهم المعلومات الكافية، ولا حظّ لهم من مواهب عالم القدس ومواعد حريم الأنس، قام هذا العبد بذكر بعضٍ من المسائل والمواضيع المشار إليها، بعنوانه مقدّمة لهذا الكتاب الشـريف، آملًا أن يكون زيادة في الاطّلاع للقرّاء الكرام، وذخرًا للكاتب الحقير يوم الجزاء، وما توفيقي إلّا بالله عليه توكّلتُ وإليه أنيب.

  • * * *

حريم القدس - مقالة في السير و السلوك

25
  • المقالة

حريم القدس - مقالة في السير و السلوك

27
  •  

  •  

  • بِسْمِ اللَه الرَحْمَنِ الرَحِيْمِ

  • الحَمْدُ للّه رَبِّ العَالَمِيْنَ

  • وَالصَّلَاةُ عَلى المَبْعُوثِ إِلَى الخَلائِقِ أَجْمَعِيْنَ 

  • وَآلِهِ الأوْصِيَاءِ المُنْتَجَبِيْنَ

  • وَلَعْنَةُ اللَهِ عَلَى أَعْدَائِهم مِنَ الأَوّلِينَ وَالآخِريْنَ إِلى يَوْمِ الدِّيْنِ

  •  

  •  

  • حقيقة العلاقة بين المخلوق والخالق

  • رجوع حقيقة الأشياء إلى حقيقتها الربطيّة

  • لا شكّ في أنّ الوجود حقيقةٌ شامخةٌ وراقيةٌ تُشكّل الأصل والأساس لجميع الحقائق المتأصّلة، كالأسماء والصفات الكليّة الإلهيّة، وكذلك كافة الحقائق الربطيّة من قبيل: الأسماء والصفات الجزئيّة، أو بعبارةٍ أوضح: الماهيات الموجودة في عالم الأعيان والخارج؛ ولذلك قالوا: إنّ حقيقة الأشياء ترجع إلى حيثيّتها الربطيّة، وليس لها من نفسها وجودًا في نفسها ولنفسها، وإنّما ترجع حيثيّتها وأصالتها فقط إلى الجنبة الربطيّة وصِرف التعلّق والفناء في ذات واجب الوجود وحسب.

  • وقد صرح الله تعالى في آيات القرآن الشـريفة بهذه المسألة تصـريحًا تامًا، قال تعالى:{خَلَقَ ٱللَّهُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ بِٱلۡحَقِّۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَةٗ لِّلۡمُؤۡمِنِينَ}۱ 

    1. سورة العنكبوت (٢٩)، الآية ٤٤.

حريم القدس - مقالة في السير و السلوك

28
  • يعني: إنّ الله خلق السماوات والأرض بالحقّ، ولم يخلقها صدفةً ولا عبثًا أو بلا غايةٍ ولا هدفٍ، ولم يخلقها على أساس التخيّلات والأوهام والاعتبارات كما يفعل عامّة الناس في مصنوعاتهم، وإنّ في ذلك دلائلَ للمؤمنين على حقيقة التوحيد في جميع مراتب الذات والاسم والفعل.

  • قانون العليّة: المعلول يتّصف بصفات العلّة ولكن بنحوٍ أضعف

  • إنّ ظهور وبروز حقيقة الوجود في الأسماء الكليّة، ثمّ منها في الجزئيّات والمصاديق الخارجيّة يُوجب اتّصافها بنفس هذا الوصف، ومقتضـى قانون العليّة هو تجلّي العلّة في ماهيّة المعلول، وبالنتيجة اتصاف المعلول بصفات العلّة في رتبة أدنى وبنحوٍ أضعف وأخفّ. 

  • ولمّا وصف الله سبحانه وتعالى ذاته بأنّه الحقّ كما صرّح به في العديد من الآيات وبعباراتٍ مختلفةٍ مثل قوله تعالى: {ذَٰلِكَ بِأَنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلۡحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدۡعُونَ مِن دُونِهِۦ هُوَ ٱلۡبَٰطِلُ}۱ فكذلك الموجودات المتدلّية منه والمرتبطة بذاته أيضًا، هي الأخرى تتّصف بأنّها حقٌّ وواقعيّةٌ؛ وهذه الواقعيّة والحقيقة ليست سوى واقعيّته وحقيقته التي تمثّل حقيقةً واحدةً مشككةً، لا مستقلةً في عرض حقيقةِ حضرة الحق. 

  • الطريق الأقرب إلى إرادة الله، أقرب وأسرع في الوصول

  • بناءً على ذلك، فإنّ حقيقة كلّ ظهورٍ وتجلٍّ ـ سواءً في وجوده أم في مسيرة رشده وتكامله ـ ترجع إلى استناد هذا الظهور والتجلّي إلى ذات الباري وإرادته ومشيئته سبحانه وتعالى؛ وكلّما اقتربنا من إرادة حضـرة الحقّ ومشيئته واختياره في كيفيّة السلوك العملي في طريق التكامل وإيصال الاستعدادات إلى فعليّتها، كان ذلك الطريق وذلك السلوك مقرّبًا أكثر، وأجدر بالوصول. 

    1. سورة الحج (٢٢)، الآية ٦٢.

حريم القدس - مقالة في السير و السلوك

29
  • الغاية من إرسال الأنبياء والرسل 

  • وقد ذكر الله تعالى في القرآن الكريم أنّ رسالة جميع الأنبياء الإلهييّن هي أن يبيّنوا مسير التجرّد والتوحيد، وأن يُخرجوا الناس من ظلمات الجهل، وهدايتهم إلى عالم النور والبهاء، قال تعالى: {وَلَقَدۡ أَرۡسَلۡنَا مُوسَىٰ بِ‍َٔايَٰتِنَآ أَنۡ أَخۡرِجۡ قَوۡمَكَ مِنَ ٱلظُّلُمَٰتِ إِلَى ٱلنُّورِ وَذَكِّرۡهُم بِأَيَّىٰمِ ٱللَّهِۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَٰتٖ لِّكُلِّ صَبَّارٖ شَكُورٖ}۱.

  • وقال عزّ وجلّ في آيةٍ أخرى: {لَقَدۡ أَرۡسَلۡنَا رُسُلَنَا بِٱلۡبَيِّنَٰتِ وَأَنزَلۡنَا مَعَهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡمِيزَانَ لِيَقُومَ ٱلنَّاسُ بِٱلۡقِسۡطِۖ}٢

  • والقيام بالقسط يعني: القيام بالحقّ في جميع مراحل الحياة وأطوارها، سواءً في الجوانب العباديّة أم في الجوانب الاجتماعيّة والسياسيّة والأسريّة والشخصيّة؛ وبذلك تصل جميع استعدادات الإنسان وقابليّاته إلى منصّة الظهور وتبلغ مرحلة الفعليّة والتحقّق، وتحصل له مراتب الكمال الواحدة تلو الأخرى. 

  • وإذا لم يراع الإنسان هذا الأمر في جميع المسائل، ولم يقف إلى جانب الحقّ بشكلٍ دائمٍ، واستجاب للإحساسات والميول الدنيويّة، فسوف يُحرم من الوصول إلى الحقّ وسيُمنع من طيّ مدارج الكمال بنفس هذا المقدار.

  • معيار القبول أو الرفض للشرائع

  • المعيار 

  • إنّ سبب قبول الأديان الإلهيّة إنّما هو لأجل نزولها من جانب الحقّ تعالى. والدين الذي تصنعه وتصوغه البشريّة ستكون قيمته مساويةً لنفس تلك 

    1. سورة إبراهيم (۱٤)، الآية ٥.
    2. سورة الحديد (٥۷)، صدر الآية ٢٥. 

حريم القدس - مقالة في السير و السلوك

30
  • الرتبة البشريّة، وسيكون ممزوجًا بالأهواء والتوهّمات والتخيّلات، ممّا سيجعله عرضةً للتغيير والإصلاح والتعديل دائمًا؛ ولذا يقول الله تعالى: {وَلَوۡ كَانَ مِنۡ عِندِ غَيۡرِ ٱللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ ٱخۡتِلَٰفٗا كَثِيرٗا}۱

  • فحقّانية أيّة شـريعة تُكتسب بواسطة انتسابها إلى عالم الغيب وحسب، وإذا انقطعت هذه النسبة يومًا ما، فإنّ حجيّتها وحقانيّتها ستزول أيضًا، وسوف تنحدر رتبتها من الرتبة الإلهية لتصير سُنّةً غابرةً وعادةً قديمةً، كالأنظمة الحاكمة في المؤسّسات والمنظّمات والأمور الدوليّة، التي يُختم عليها بختم البطلان وتودع في خزائن التاريخ بتغيّر بُنية الحكم.

  • سبب نسخ الأديان السابقة

  • ولذلك كانت مسألة النسخ من المسائل الحيويّة في الأديان الإلهيّة السابقة. فمع ارتباط الشـرائع الإلهيّة السابقة بعالم الغيب، وتمتّعها بالحجيّة والتنجُّز والإلزام في زمانها، إلّا أنّها بمجرّد نزول الشـريعة الجديدة تسقط عن رتبة الاعتبار، ويُصبح البقاء عليها مستوجبًا للسخط الإلهي وغضبه وعدم رضاه. 

  • يقول الله في هذه الآية الشريفة: {وَمَن يَبۡتَغِ غَيۡرَ ٱلۡإِسۡلَٰمِ دِينٗا فَلَن يُقۡبَلَ مِنۡهُ وَهُوَ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ مِنَ ٱلۡخَٰسِرِينَ}٢ مع أنّ الله عزّ وجلّ صرّح في العديد من الآيات بأنّ‌ الشـرائع الماضية والأنبياء السابقون مُنتسِبون إليه، وهذه الآيات تُمضي وتختم على سجّلاتهم بختم الصحّة والإتقان. 

  • كذلك يخاطب الله رسوله في آيةٍ أخرى فيقول: {وَلَن تَرۡضَىٰ عَنكَ ٱلۡيَهُودُ وَلَا ٱلنَّصَٰرَىٰ حَتَّىٰ تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمۡۗ قُلۡ إِنَّ هُدَى ٱللَّهِ هُوَ ٱلۡهُدَىٰۗ وَلَئِنِ ٱتَّبَعۡتَ أَهۡوَآءَهُم بَعۡدَ ٱلَّذِي جَآءَكَ مِنَ ٱلۡعِلۡمِ مَا لَكَ مِنَ ٱللَّهِ مِن وَلِيّٖ وَلَا نَصِيرٍ}٣.

    1. سورة النساء (٤)، ذيل الآية ۸٢.
    2. سورة آل عمران (٣)، الآية ۸٥.
    3. سورة البقرة (٢)، الآية ۱٢۰.

حريم القدس - مقالة في السير و السلوك

31
  • ففي هذه الآية نجد أنّ الله تعالى يُحذّر عباده بشكلٍ صريحٍ من اتّباع الأديان الإلهيّة الماضية والعمل وفق مذاهب الماضين وشرائعهم، ويُنبّه على خطورة الموضوع بعبارةٍ شديدة اللهجة؛ وذلك بالإخراج عن دائرة الولاية والنصرة الإلهيّة.

  • التحليل المقبول لمسألة وحدة الأديان

  • إنّ مسألة وحدة الأديان تعدّ مقبولةً وممضاةً ما دامت المسألة مرتبطةً بعالم الغيب، وهو المعنى الذي صرّحت به العديد من الآيات الشـريفة، وأمّا لو كان المقصود من طرح وحدة الأديان هو نفاذها والإلزام بها ومنحها الحجيّة وإعطائها الحقانيّة، وجعلها مُقرِّبةً وموصِلةً إلى مراتب كمال الإنسان، فهذا المعنى مردودٌ وباطلٌ قطعًا.

  • فكيف يمكن تصوّر أن تكون هناك شـريعة ممضاةٌ من قبل حضـرة الحقّ، مع أنّه هو الذي أقدم على نسخها وحذّر رسوله من التديّن بها؟! إنّ احترام الأديان الإلهيّة وتقديس الأنبياء الكرام محفوظٌ في مكانه، كما أنّ اتّباع الإسلام وعدم قبول الأحكام المخالفة له محفوظٌ في مكانه أيضًا، وهذا هو معنى التسليم والإسلام.

  • ولذلك نرى أنّ الله مدح وأثنى على الأفراد الذين تعبدوا بالأديان الإلهيّة الماضية [حتّى بعد مجيء الإسلام]، وجعلوا منهجهم وممشاهم الاعتقادي وأعمالهم طبقًا للشـرائع السابقة، لكنّ فِعلهم ذلك كان بسبب جهلهم بحقانيّة شـريعة الإسلام، فكان فعلهم ذلك نابعًا من الصدق وصفاء الضمير من دون عنادٍ أو إغراضٍ، فذَكرهم عزّ وجلّ بالخير ونظَر إليهم من جهة الاستضعاف، وعدّهم من المأجورين ومن جملة السعداء. 

حريم القدس - مقالة في السير و السلوك

32
  • قال الله تعالى في كتابه: {إِنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَٱلَّذِينَ هَادُواْ وَٱلنَّصَٰرَىٰ وَٱلصَّٰبِ‍ِٔينَ مَنۡ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ وَعَمِلَ صَٰلِحٗا فَلَهُمۡ أَجۡرُهُمۡ عِندَ رَبِّهِمۡ وَلَا خَوۡفٌ عَلَيۡهِمۡ وَلَا هُمۡ يَحۡزَنُونَ}۱.

  • ذلك لأنّ نظام عالم الغيب قائمٌ على أساس الحقّ، ومن كان مستضعفًا وعاجزًا عن إدراك الحقيقة وبلوغ الواقع دون أيِّ تقصيرٍ منه بل بسبب الأمور الدنيويّة والمنهج التربويِّ، فمثل هؤلاءِ لا يُعدّون مقصـّرين، بل يمنّ الله على هؤلاءِ بتلك الرتبة المقدّرة لهم من الكمال دون أن يُجحفهم شيئًا مِن حقّهم، وسيجعل الله تعالى لهم نفس ذلك المصير الذي يليق بالمؤمنين المتديّنين بمذهب الحقّ وشـريعة الإسلام. 

  • المعيار في تحديد صحّة المنهج

  • فعلى أساس ما سبق، فإنّ الحركة الغائيّة للإنسان في نظام عالمَي التكوين والتشـريع تتّجه نحو الكمال المطلق، ولمّا كانت ذات الحق المقدّسة هي مُنتهى جميع الكمالات، وأصل كلّ القِيم وترشّحات حقيقة الوجود؛ لذا فإنّ معرفة ذات الله عزّ وجلّ هي نهاية جميع مراتب الكمال والفعليّات الإنسانيّة. 

  • بناءً على ذلك، فإنّ كلّ مدرسةٍ ومنهجٍ يهديان الإنسان إلى هذه النقطة الغائيّة ويبلغان به هذا المقصد الأسنى فإنهما مدرسةٌ ومنهجٌ كاملان، وأمّا إذا كانت تلك المدرسة تقف بالإنسان في المراتب الأدنى وتكتفي بما هو أقل من مرتبة الذات، كمراتب الصفات والأسماء والآثار، فسوف تكون في حقيقة نفسها ناقصةً غير تامّةٍ. 

    1. سورة البقرة (٢)، الآية٦٢ .

حريم القدس - مقالة في السير و السلوك

33
  • لقد بُعث رسول الإسلام الأكرم محمّد بن عبد الله صلّى الله عليه و آله وسلّم، لإكمال بعثة الأنبياء السابقين ـ وذلك كما عبّر عن هذه الحقيقة بقوله: «إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الأَخْلَاقِ»۱ ـ وهو بذلك لم يعرّف عن نفسه أمام العالمِين على أنّه سائرٌ وماضٍ بنحوٍ عمليٍّ في نفس المنهج والمسير التوحيدي الذي ابتدأه الأنبياء وحسب، كما لم يكن ذلك مجرّد تأييدٍ للأديان الإلهيّة السابقة وإمضائها وفقط ـ وذلك كما تعبّر الآية الشريفة: {قُلۡ إِنَّنِي هَدَىٰنِي رَبِّيٓ إِلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسۡتَقِيمٖ دِينٗا قِيَمٗا مِّلَّةَ إِبۡرَٰهِيمَ حَنِيفٗاۚ وَمَا كَانَ مِنَ ٱلۡمُشۡـرِكِينَ}٢ ـ ولكنّه من خلال إظهاره وإبرازه لمبانيَ أعلى وأرقى بكثيرٍ في المراتب التوحيديّة وتربية النفوس على أساس تلك المباني الراقية فقد أوصل هويّة الأديان الإلهيّة المتكاملة ـ بالقول والفعل ـ إلى أعلى نقطة من القُلل الرفيعة من المعرفة ومن إدراك ذات حضـرة الحقّ.

  • المقارنة بين الإسلام والأديان السابقة في رتب الكمال

  • إنّ أعلى مرتبة تكامليّة للإنسان في الأديان السابقة كانت الوصول إلى حقيقة الكلمة المباركة «لا إله إلا الله»، وكان الوصول إلى هذه المرحلة متيسّرٌ أيضًا من خلال الفناء في الأسماء والصفات؛ وذلك لأنّ مفهوم هذه الكلمة المباركة هو نفي أيّ نوعٍ من التأثير والسببيّة في عالم الأسباب والمسبّبات، وحصـر الحقيقة الوحيدة المؤثّرة في عالم الوجود بالذات المقدّسة، وبالتالي نفي أيّ نوعٍ من أنواع العبوديّة في قبال عبوديّة الحضـرة الأحديّة.

    1. بحار الأنوار، ج ٦۸، ص ٣۷٢، باب ٥٩: الخوف والرجاء وحسن الظن بالله تعالى.
    2. سورة الأنعام (٦)، الآية ۱٦۱.

حريم القدس - مقالة في السير و السلوك

34
  • أمّا في مدرسة الإسلام فإنّ شعار مدرسة التوحيد قد خطا إلى مرتبة ومرحلة أبعد مِن مرتبة ومرحلة «لا إله إلا الله» ، فبإعلان الكلمة المباركة: «الله أكبر»، قد وصل إلى أعلى النقاط الرفيعة للمعرفة، والتي تتحقّق من خلال فناء ذات السالك في ذات حضـرة الحقّ.

  • لم يكن إدراك السالك الواصل في الأديان السابقة بمعنى «الفناء الذاتي»، بل كان السالك يرى من خلال وصوله إلى حقيقة ومفهوم «لا إله إلّا الله» أنّ الله عزّ وجلّ هو المُتّصف بالمُحوضة في العبوديّة له، وبأنّ التأثير والعِليّة منحصرتان بالذات القدسيّة للحقّ، وبأنّ جميع آثار الوجود ترجع إليها، وهذا ممّا يلازم التوحيد الصفاتي والأفعالي، أمّا في مرتبة «الله أكبر» فلم يعد يوجد أيّ تعيّنٍ حتّى يُدرِك هذه المعاني؛ فالتعيّن هناك هو تعيُّن ذات الحقّ المقدّسة، وسيكون إدراك السالك الواصل هو نفس الإدراك والعلم الحضوري لحضـرة الحقّ، وكلّ كلامٍ وفعلٍ يصدر من الشخص الكامل في هذه المرتبة هو نفس كلام الله سبحانه وتعالى وفعله وإرادته ومشيئته. وهذا المقام هو نفس مقام «الصالحين» الذي أُشير إليه في القرآن. 

  • ومن الجدير التنبيه على أنّ «الصلاح» في القرآن المجيد يُطلق على مرتبتين من مراتب الكمال والمعرفة: فالمقصود منه في المرتبة الأولى هو بلوغ مقام وحقيقة التوحيد في مرتبة «لا إله إلا الله»؛ كما مرّ فيما يتعلّق بالأنبياء والرسل الإلهيين، وكلّ الأنبياء الإلهيين قد وصلوا إلى هذه المرتبة. 

  • بينما في المرتبة الثانية فقد وُعدَ البعض منهم بها في الآخرة كالنبيّ إبراهيم عليه السلام: {وَإِنَّهُۥ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ لَمِنَ ٱلصَّٰلِحِينَ}۱. وهذا المقام مختصٌّ 

    1. سورة البقرة (٢)، ذيل الآية ۱٣۰.

حريم القدس - مقالة في السير و السلوك

35
  • برسول الإسلام الأكرم وأهل بيته المعصومين والأولياء الإلهيّين في الشـريعة المحمّدية، الذين ارتقوا قُلل عوالم المعنى الرفيعة الواحد تلو الآخر، وذلك باتّباع أوامر الإسلام الحقّة، والهمّة العالية، وإخلاص العمل، وصدق النية؛ حتّى عبروا في النهاية عن جميع شوائب الكثرة، واستقرّوا في مقام التوحيد الذاتي، وليس ذلك بمجرّد إدراك حقيقة التوحيد الأفعالي والصفاتي والأسمائي، وإنّما من خلال محو الذات والانمحاء في حقيقة الوجود بالصرافة المختصِّ بحضرة الحق، ولم يُبقوا لأنفسهم أثرًا من التعيّن والتشخّص.

  • وفي هذا المجال يقول أمير المؤمنين عليه السلام: 

  • «وَأَنِرْ أَبْصَارَ قُلُوبِنَا بِضِيَاءِ نَظَرِهَا إِلَيْكَ حَتَّى تَخْرِقَ أَبْصَارُ القُلُوْبِ حُجُبَ النُّوْرِ فَتَصِلَ إِلَى مَعْدِنِ العَظَمَةِ، وَتَصِيْرَ أَرْوَاحُنَا مُعَلَّقَةً بِعِزِّ قُدْسِكَ»۱ 

  • إنّ وصول السالك إلى هذه الدرجة من المعرفة، والتي هي شهود ذاته في شهود ذات الحق المقدّسة لا منفصلاً عنها، يطلقون عليه اسم «العرفان». 

  • العرفان ممتنع بدون اتباع الشريعة وطاعة النبي

  • ولمّا كان عرفان الحقّ في مدرسة الإسلام محالًا وممتنعًا بغير اتّباع تعاليم الشـريعة وطاعة أوامر النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلّم واجتناب نواهيه؛ لذا كان على السالك إلى الله أن يبذل ـ من أجل الوصول إلى تلك المرتبة ـ كامل سعيه وكلّ اهتمامه في رعاية موازين أحكام الشـرع المقدّس شعرةً بشعرةٍ، ولا يُقصّر مثقال ذرّةٍ عن أداء الفرائض والتكاليف المأثورة.

    1. بحار الأنوار، ج ٩۱، ص ٩۸، باب ٣٢: أدعية المناجاة، المناجاة الشعبانية. 

حريم القدس - مقالة في السير و السلوك

36
  • ومن البديهي حينئذٍ أنّ الإنسان سوف يَحرم نفسه من نيل مراتب الفعليّة ومن نتائج استعداداته الكماليّة بنفس المقدار الذي يُهمله ويتسامح فيه في أداء التكاليف.

  • دور الاتباع والطاعة في العرفان

  • وتوضيح ذلك: أنّه لا شك أنّ الله تعالى خلق الإنسان ـ بمقتضى حكمته البالغة ـ على أساس عِلّةٍ غائيّة وهدفٍ خاصٍّ، وهو نفس تبلور الحقيقة المخفيّة المشار إليها في قوله تعالى: {وَنَفَخۡتُ فِيهِ مِن رُّوحِي}۱ ظهورها، ولا يخفى أنّ الله قد عيّن من أجل الوصول إلى هذا الهدف طريقًا ومنهجًا خاصًّا، من شأنه إيصال القابليّات المنطوية في نفس الإنسان وجِبلّته إلى فعليّتها، ويُعبَّر عن هذا الطريق والمنهج بالدين والشـريعة، ولمّا كان لا معنى للأمر العبثي واللغوي في مقام إرادة حضـرة الحقّ ومشيئته؛ فلا ريب أنّه قد روعيت في كلّ واحدٍ واحدٍ من هذه من الأحكام والتكاليف التي جعلت لأجل تربية النفوس وإيصالها إلى الفعليّة حكمةٌ خاصّةٌ وضرورةٌ معيّنةٌ،‌ من أجلها شُرِّع هذا الحكم الشرعي؛ وبالتالي فإنّ أيّ إهمالٍ في تطبيق أيّ حكمٍ من هذه الأحكام سيؤدّي إلى حصول نقصٍ وخلأٍ في فعليّة هذا الإنسان وكماله؛ لأنّ الالتزام بهذه الأحكام له حكم العلّة والمقدّمة الموصلة إلى الكمال المطلوب.

  • ولذلك قال أعاظم العرفاء وأولياء الحقّ: إنّ الوصول إلى مرتبة العرفان وإدراك حقيقة التوحيد سيكون من المُحال من دون الرعاية الدقيقة لجميع موازين الشـرع وأداء التكاليف الواردة بنحوٍ أتم. وهذا الأمر يتطابق مع الشواهد والقرائن التاريخيّة تمام الانطباق.

    1. سورة الحجر (۱٥)، قسم من الآية ٢٩.

حريم القدس - مقالة في السير و السلوك

37
  • انحراف العديد من الفرق الإسلامية بسبب ترك الشريعة

  • من هنا، نرى أنّ العديد من الفرق الإسلاميّة المنحرفة، سواءً عند أهل السنّة والعامّة أم عند الشيعة ـ رغم الفارق في المراتب الاعتقاديّة ـ قد وقعت فريسةً لوسوسة الشيطان، ومع ادّعائهم الوصول إلى الحقيقة والباطن تركوا العمل بموازين الشـرع وأحكامه، وزعموا أنّهم في غنىً عن أداء التكاليف فهُم يعتبرون أنّ الالتزام بها ضروريٌّ للمبتدئين وعديمي الاطلاع على الأمور الباطنيّة؛ وذلك كما في الإسماعيليّة وأمثالها من الطوائف الصوفيّة المختلفة المنتحلة لمعرفة الحق. مع أنّ كلّ هذه المسائل عبارةٌ عن فرارٍ من التكليف وتحرّرٍ من القيود والمسؤوليّات ونمطٍ من اللامبالاة لا غير.

  • إنّ الاهتمام بعالم المعنى والالتفات إلى باطن عالم الخلق وحقيقته ـ وهو ما جذب إليه في هذا العصر أذهان جماعةٍ كثيرةٍ من أهل الدنيا ـ يختلف اختلافًا كليًّا وجوهريًّا عمّا تحاول إثباته سائر الفرق الضالة؛ من أجل التمويه ومن أجل إخفاء ضلالهم وأهوائهم وحبّهم للنزوات والملذّات. 

  • بزوغ النزعة نحو المعنويّات في العصر الحاضر

  • يأس العالم من المنهج المادي وفشله

  • لقد أدرك العالم المعاصر بعد تجربةٍ طويلةٍ للاتجاه المادّي والكثراتي تفاهة ووهميّة هذه المدرسة وهذا المنهج، فتفصّـى من اتّباع المدارس الإلحاديّة والمادّية، وصار يبحث عن حاجته الفطريّة والتكوينيّة للوصول إلى هدفٍ أرقى من عالم المادّة ومن التجربة الدنيويّة؛ وعن الحقيقة التي بإمكانها أن تروي وجدانَه العطِش الحيران، فتُخرجه من الحيرة والتيهان والاضطراب والتشتّت.

حريم القدس - مقالة في السير و السلوك

38
  • لقد أدركت البشريّة في عصرنا الحاضر هذه الحقيقة، وهي أنّه على الرغم من أنّ الإنسان استطاع أن يؤمّن لنفسه ـ إلى حدٍّ ما ـ الرفاهية الدنيويّة والملذّات النفسيّة من خلال تطوّر العلوم والفنون المادّية، بيد أنّه لم يستطع بأيّ نحوٍ من الأنحاء أنْ يُحقق لنفسه مقدار ذرةٍ من مرتبته وحقيقته العقلانيّة. فقدِ استُعمل الرقيّ العلمي والتقدّم التكنولوجي واكتشاف أسرار العناصر المادّية فقط وفقط من أجل ترقية الحياة الدنيويّة، فجعل حياته المادّية أكثر رفاهيّةً، وهيّأ لنفسه أسباب الوصول إلى الشهوات وإلى هوسه الحيواني حتّى لو بلغ ما بلغ من الوقاحة والقبح لا أكثر.

  • فبات الإنسان يتساءل في نفسه هذه الأيام، ويقول: ما الذي قدّمه هذا الرقيّ والتطور التكنولوجي من نتائج تنفع في عملية إصلاح النفس وتزكية الروح وتحقيق السكينة؟! وهل حقّقت الحضارة العصـريّة تحوّلًا في النظرة الإنسانيّة تجاه القِيم المعنويّة وضوابط العلاقات الاجتماعيّة؟! وهل أوجب ارتقاء الإنسان إلى ذروة العلوم الرفيعة والفنون الدنيويّة تكاملًا للقوى العاقلة؟! وهل أدّى ذلك إلى حاكميّة فطرته ووجدانه في أموره الشخصيّة والاجتماعيّة؟! 

  • وهل أنّ موقفه من الانحطاط الأخلاقي، وبربريّة القرون الوسطى، وقتل نفوس الأبرياء الذين لم يقترفوا ذنبًا، وهتك القوانين والنواميس تحت ظلّ القمع والتزوير... ، قد انتهى عند ذلك الزمان؟! أم أنّ عليه ـ مع كامل الخجل والتأسف ألف مرّةٍ ـ أن يُسـرّي حكمه في تلك الفجائع إلى فجائع عصر التكنولوجيا ومصائبه، وما فيه من توحّشٍ حيوانيٍّ، ومسخٍ للروح والنفس الإنسانيّة،‌وما فيه من الوصول إلى أقصـى درجات الشقاوة والقسوة. 

حريم القدس - مقالة في السير و السلوك

39
  • علّة فشل المنهج المادي

  • وهنا ينبغي أن نسأل: أين هو أساس المشكلة؟ ولماذا لم يداوي التطوّر الإنساني في هذه العلوم المشاكل الروحيّة والانحرافات النفسيّة والتعدّيات البشريّة؟ ولماذا لا يزال يسبح بيديه ورجليه في مستنقع الأنانيّة والاستبداد، ولا يزال يغوص في بؤرة الشهوات والانحرافات؟ ولماذا يقوم بتسخير ما يكتشفه ويخترعه لمصالحه الشخصيّة ومفاسده الأخلاقيّة وتعدّياته، بدلًا من رعاية الأُسس الإنسانيّة الرفيعة والاستفادة من هذا التطوّر في المنافع العقلائيّة؟

  • وجواب هذه المسألة ما يلي: 

  • إنّ وجود الإنسان مزيجٌ من الصفات والملكات والغرائز الفطريّة والروحيّة من جهةٍ، ومِن الغرائز الشهوانيّة والأهواء النفسيّة من جهةٍ أخرى، ومع الأخذ بعين الاعتبار أنّ الإنسان مختارٌ ويمتلك إرادةً في مقام العمل فإنّ هذا المزيج بمجموعه يلازمه ويساعده للوصول إلى مقام الفعليّة والكمال، خلافًا لخلقة الملائكة التي اقتُصـر فيها على جهة العقلانيّة والملكات الفاضلة وحسب؛ ‌ولهذا السبب لا يمكن أن يصدر منهم الفعل القبيح‌ {بَلۡ عِبَادٞ مُّكۡرَمُونَ ، لَا يَسۡبِقُونَهُۥ بِٱلۡقَوۡلِ وَهُم بِأَمۡرِهِۦ يَعۡمَلُونَ}۱.

  • إنّ انصراف الإنسان إلى الجوانب الشهوانيّة والغرائز النفسيّة سوف يؤدّي إلى غفلة الإنسان ونسيانه للبُعد المعنوي للصفات الملكوتيّة والفطريّة.

    1. سورة الأنبياء (٢۱)، الآيتان: ٢٦و ٢۷.

حريم القدس - مقالة في السير و السلوك

40
  • ومِن الضـروري أن لا تراعى الغرائز النفسيّة إلّا بالمقدار اللازم لتمضية وانقضاء الحياة الدنيويّة على أن يجعل ذلك أيضًا في إطار إكمال القوى العقليّة والروحيّة وحسب، ويجب أن يكون ذلك ضمن حدود الاعتدال وبنحوٍ منطقيٍّ وعقلانيٍّ، فالإفراط في هذا الجانب يُوجب قوّة هذه الغرائز وانفلات زمام الأمور عن السيطرة، وفي النتيجة ستتعطّل قوى الإنسان وغرائزه الروحيّة والفطريّة، ولا فرق في هذه المسألة بين العصور الماضية والعصر الحاضر؛ فإذا تهيّأت للإنسان الوسائل والأدوات التي تمكّنه من بلوغ أهدافه ومقاصده المشؤومة أيّاً كان الزمان والمكان، فسوف يُقدم عليها بمقدار ما لديه من شقاوةٍ وميلٍ نحو الانحراف، وبمستوى رسوخ الصفات الخبيثة في نفسه، وسوف لن يألوَ جهدًا في سبيل تحقيقها.

  • لذلك نرى أنّ التطوّر البشري في عصـر الصناعة والعلم، لم يقتصـر أثره على كونه لم يأخذ بيد الإنسان نحو المعنويّات واكتساب الفضائل وحسب، بل إنّه بالغ في تهيئة الأرضيّة المناسبة للفساد والانحراف؛ وما دام سيره على هذا المنوال فإنّه سيزداد أسرًا في هذه المهلكة يومًا بعد يومٍ. 

  • إنّ سبب اللجوء إلى المعنويات والرغبة في المسائل الروحيّة والباطنيّة التي ظهرت في هذا العصر بين مختلف الشعوب، إنّما يرجع إلى حالة اليأس مِن المدرسة الماديّة وفشلها في تحصيل الطمأنينة الروحيّة وسكون الخاطر وراحة الضمير البشري، فيا له مِن فشلٍ ذريعٍ ويا له مِن يأسٍ رهيبٍ ومهولٍ!

حريم القدس - مقالة في السير و السلوك

41
  • الأسس التي قامت عليها النزعة نحو المعنويّة والروحانيّة

  • إنّ النزعة المعنويّة والروحانيّة۱والتوجّه نحو الحقيقة والذات والملكات الروحيّة والفاضلة للإنسان بلا تقيّدٍ بقيود خاصّةٍ وحدودٍ معيّنةٍ، لهو ظاهرةٌ إنسانيّةٌ أفرزتها تجربةٌ طويلةٌ ومؤلمةٌ جدّاً مِن التوغل في الكثرات وعوالم المادة والأهواء؛ ظاهرةٌ بعيدةٌ عن التدخّلات والتصـرّفات البشـريّة وعن إعمال الأذواق النفسيّة وعن التلوّث بالخرافات والعقائد الجوفاء الواهية التي كانت قد أخذت طريقها إلى الأديان السابقة؛ ظاهرةٌ قائمةٌ على أساسٍ مِن حاجة وجدان الإنسان وضميره التوّاق إلى نبع الأمل والحياة والنجاة من مستنقع الجهل والشقاء والتشتت؛ ظاهرةٌ قائمةٌ على أساس المنطق والعقل والحقيقة اللامتناهية؛ ظاهرةٌ ترتكز على أساس الحريّة وامتلاك الإرادة والاختيار في تقرير المصير ونوعيّته؛ ظاهرةٌ قامت على أساس تجربةٍ مريرةٍ من الخداع والتزوير والاستبداد والشخصانيّة التي نَجّست ولَوّثت أثواب العديد من المذاهب الإلهيّة والأديان السابقة وأصحابها ومتوليها؛ ظاهرةٌ قائمةٌ على المقارنة بين المباني والقيم الملكوتيّة للأديان الإلهيّة الحقّة، وبين ما طرحه حتى الآن رجالات ودعاة هذه الأديان؛ ظاهرةٌ قائمةٌ على أساس الحرب والصـراع بين القوى الملكوتيّة والعاقلة وبين جنود الشيطان مهما كان لباسهم ومهما كان موقعهم ومقامهم؛ وفي النهاية، هي ظاهرةٌ قائمةٌ على أساس نور الباطن وصفاء الضمير الذي هو وديعةٌ إلهيّةٌ في نفوس البشـرية للسير نحو الكمال المطلق والبهاء الأتمّ.

    1. spirituality .

حريم القدس - مقالة في السير و السلوك

42
  • بروز النزعة للمعنويات بين المسلمين وبعض أسبابها

  • وهذه النزعة والميل نحو عالم المعنى لم يلقيا رواجًا فقط بين أتباع الأديان الماضية، مثل: اليهود والنصارى أو سائر الملل والنحل الأخرى، أو حتّى من غير المعتقدين بأيّ مذهبٍ أو عقيدةٍ [ممن كان يفتقد لنزعةٍ كهذه النزعة منذ القِدم]، بل إنّ هذه المسألة برزت أيضًا بنحوٍ مثيرٍ للعجب والدهشة بين المسلمين سواءً عند العامّة أم عند الشيعة؛ فقد برزت الحاجة الواقعيّة والفطريّة لدى المسلمين إلى إدراك الحقائق التوحيديّة والمعارف الربوبيّة ـ عن طريق حصول الشهود والعلم الحضوري والوجداني ـ وذلك كردّة فعلٍ للاهتمام التامّ من قبل المُتصدِّين وزعماء الشـرع وتوجّههم فقط نحو مراعاة الأحكام والتكاليف الظاهريّة، وعدم عنايتهم بحقيقة الشـريعة وأصلها ومحورها الذي هو العِرفان الإلهي وظهور تجلّي التوحيد في نفس السالك إلى الله؛ بل في المقابل ردّ الكثير من العلماء و الفقهاء في التاريخ هذه الحقائق المتعالية ورفضوها وأنكروها. 

  • ما هو المعنى الصحيح لعالم المعنى والباطن والحقيقة؟

  • إنّ الاهتمام بالروحانيّة والنزعة نحو حقائق عالم ما وراء المادّة والطبع، حتّى وإن كان مرغوبًا به بما يمثّله من حركةٍ نحو القيم والكمالات الروحيّة والمعنويّة، فهي تكتسب من هذا الجانب أهمّية وعناية خاصّة، لكن ينبغي التنبّه إلى أنّ الوجود الإنساني له مراتبٌ مختلفةٌ، من المادّة والصورة والمعنى وصولًا إلى التجرّد التام، فلا بدّ وأن يكون سيرُه الصعودي وارتقاؤه نحو عالم المعنى متطابقًا مع هذا النحو وهذا النمط من السير.

حريم القدس - مقالة في السير و السلوك

43
  • المعاني المختلفة المطروحة ومجانبتها للصواب

  • يُعبّر في هذه الأيام عن أيّ مرتبة من المراتب الروحيّة و النفسيّة للإنسان بعالم المعنى والباطن والحقيقة؛ فمثلاً نرى أنّ الأفراد الذين يُخبرون عن الحوادث والظواهر المستقبليّة ـ طبعًا الصحيح منها ـ يُوصفون بنظر الناس والعوام بالأوصاف الملكوتيّة والكمالات التجرديّة، فيَرون أنّ رُتبتهم تفوق المراتب البشريّة، وأنّهم متميِّزين عن الآخرين. وكذلك نراهم يصفِّقون للأشخاص الذين يقومون بأفعالٍ غير عاديّةٍ؛ فهؤلاء بنظر العوام يمتلكون قدراتٍ فوق القدرات البشريّة، وأنّهم حصَّلوا مرحلةً عاليةً من عوالم الوجود؛ ولكن في الوقت نفسه نرى أنّ كلّ تلك الأمور والأفعال الخارقة للعادة بنظر أهل الفنّ وأهل التوحيد وأصحاب الكمالات العالية لا تمثل أيّ شيءٍ ذو قيمةٍ، وليست أكثر من لعبةٍ طفوليّةٍ؛ لأنّ النفس تستطيع بواسطة الرياضات والمراقبات الخاصّة أن تصل بسهولة إلى مثل هذه الفِعليّات فتتّصل بمرتبة المثال، من قبيل: المَنام الذي يراه النائم فتنكشف له فيه حوادثٌ مستقبليّةٌ معيّنةٌ؛ وكم من الممكن في كثير من الأحيان بلوغ هذه المسائل وتحقّقها عن طريقٍ غير شرعيٍّ وخلافًا للرضا الإلهي. وكم هم الأفراد الكثيرون الذين لا يعتقدون بأيّة شـريعة من الشـرائع الإلهيّة، ومع ذلك فإنّهم استطاعوا أن يُكسِبوا نفوسهم مقدارًا معيّنًا من القوّة بواسطة القيام ببعض الرياضات والمجاهدات النفسانيّة، واستطاعوا بواسطة التسخير والسيطرة الإجماليّة على عالم المثال أنْ يجعلوا المادّة تحت تصرّفهم وانقيادهم. 

  • إنّ الاطّلاع على بعض المغيَّبات، وإحضار الأشياء المخفيّة، والحركة بطريقةٍ غير معروفةٍ، والتصـرّف في الأذهان ونفوس العوام من الناس، والقيام بالأعمال غير العاديّة، هي من الأمور التي يُمكن أن تصدر من

حريم القدس - مقالة في السير و السلوك

44
  • الملتزمين بالشرائع الإلهيّة، كما يمكن أن تصدر أيضًا من عُبّاد الأصنام وعُبّاد البقر وسائر الفِرق الضالّة، وممّن لديهم ارتباط مع الشياطين والجنّ والنفوس الخبيثة.

  • أهميّة تحديد المعنى الصحيح لعالم المعنى والباطن 

  • من هنا وبناءً على ذلك ينبغي التدقيق جيدًا لمعرفة مراد ومقصود المدارس والمناهج الفكريّة المختلفة في العالم من دعوتهم للآخرين وحثّهم للتوجّه نحو الأمور المعنويّة وإلى باطن الإنسان وإلى عالم ما وراء الطبيعة، فما هو المراد وما هو الهدف المنشود وراء هذا المفهوم الجميل والكلام الآسر للقلوب؟ وما الذي يرومونه من ذلك؟ فهل يُحسَب مجرّد الوصول اليسير للإنسان إلى هذه الأمور فضيلةً؟ تلك الفضيلة التي لا تستمر جاذبيّتها ورونقها إلّا إلى وقت ما قبل الموت، ولكنّها بعد أن تخرج الروح من البدن تصبح بأجمعها في يد الفناء والعدم، وتودع في بوتقة النسيان. 

  • هل تنتمي اللذات المعنويّة إلى عالم المعنى والباطن؟

  • والنقطة الدقيقة التي تستدعي الدقّة ها هنا؛ هي أنّ النفس البشـريّة بشكلٍ عامٍ، وبسبب تعلّقها بعالم الطبع وابتعادها عن عوالم المعنى، لا تترك أيّ جهدٍ أو سعي يُمكّنها من تحصيل اللذّات والمشتهيات النفسانيّة؛ سواءً في ذلك تمكّنت من تحصليها عبر الأمور المادّية والدنيويّة ـ والتي هي أعمّ من أن تكون من جنس المأكل أو المشـرب أو الملبس أو المسكن أو المركب أو الرئاسة أو سائر هذه الأشياء ـ أم أمكنها تحصيل مشتهياتها بواسطة التلذّذ بالأمور المعنوية المتّصلة بدائرة الحواس الصوريّة والكائنة في بعض الأمور الغير العاديّة. 

حريم القدس - مقالة في السير و السلوك

45
  • فمن باب المثال: إذا رَأى العوام فردًا يُمسك بأفعى بواسطة خُدعةٍ ما، فإنّك ترى الجميع يجتمعون حوله؛ ولكن إذا أراد هذا الشخص أن يُبيّن حقيقةً من حقائق عالم الوجود والتوحيد لمدّة عشر دقائق فقط، فإنّنا لن نرى إلّا عددًا ضئيلًا من الأفراد مهتمّين بذلك، وأمّا الباقون فسيتركونه ويتفرّقون من حوله. 

  • هذا المثال من أصغر وأدنى النماذج من الأمور الخارقة للعادة، فكيف إذا وصل المقام إلى المسائل والحوادث الأرقى والأخّاذة التي تخطف القلوب، من الإخبار بالأمور الخافية والتصـرّف في الأمور المادّية وطيّ الأرض. إنّ كلّ هذه الأمور ترجع إلى الحواس البرزخيّة والمثاليّة للإنسان، والحقيقة أنّ البون بينها وبين العرفان والتوحيد وكشف الحُجب النفسانيّة ما بين الأرض والسماء!

  • ولذا نرى أنّ هؤلاء الزُمرة من الأفراد يتمتّعون بوجاهةٍ وقيمةٍ خاصّةٍ بين الناس، وترى أوساطهم مُحتضنةً لعوام الناس على اختلافهم أكثر ممّا هو لدى أهل التوحيد والمعرفة؛ سواءً عند العوام أم عند المتعلّمين، كما أنّ حضور خطاباتهم تحوز على جاذبيّةٍ أكبر عند العوام. 

  • تحريف مصطلح العرفان في ثقافة الناس في هذا العصر

  • وللأسف فإنّ اصطلاح العرفان والمعرفة يطلق في ثقافة العوام في هذا الزمان على هذه الزُمرة من الأفراد، فيُقال إنّ المعرفة والوصول إلى كُنه عالم الوجود مُنحصرٌ بهؤلاء الأشخاص فقط؛ وإنّ العارف إذا ما أراد أنْ يترك له اسماً ورسماً، وأنْ يجعل فَهم الأشخاص يميل نحو حقيقة الوجود؛ فليس له إلّا إبراز بعضٍ من هذه الأمور. 

حريم القدس - مقالة في السير و السلوك

46
  • كيفيّة تشويه البعض للوجه المشرق لعرفان العلامة الطهراني

  • إنّ والدنا المرحوم العارف الكامل و السالك الواصل، العلاّمة الطهرانيّ ـ رضوان الله عليه ـ كان من جملة العُرفاء المعدودين الذين لم يُرَ منه إظهارٌ وإبرازٌ لمثل خوارق العادات هذه إلّا بشكلٍ نادرٍ؛ وكان جُلُّ سعيه وهِمّته طِوال حياته أن يجعل توجّه تلامذته وعموم الأفراد مُنصبًّا على المعرفة الحقّة وبلوغ أسرار عالم التوحيد والتجرّد والولاية. ولكن مع هذا كلّه، نرى أنّ الأشخاص الذين يريدون التعريف عنه، أو تمجيد هذه الشخصيّة الاستثنائيّة، أو يريدون إظهار عظمة هذا الرجل، لا يزالون مستمرّين بالثرثرة عن أمورٍ غير عاديّة صدرت في زمن حياته، ويقولون لولا صدور هذه الحوادث منه، لبقيت منزلتُه ومقامُه مخفيًّا حتّى الآن!

  • إنّ هذه الثقافة الخاطئة كانت وما زالت شائعةً في المجتمعات العِلميّة منها والعامّية منذ القِدم وإلى يومنا هذا. بلى نحن نجد في بعض الموارد وبناءً للمصالح والمقتضيات أنّ نفس العارف الإلهي يرَى أنّ الصلاح يقتضـي إبراز مقدارٍ ضئيلٍ من خوارق العادات، تمامًا كما هو بالنسبة لمعجزات الأنبياء الإلهيّين، حيث كانت مبنيّةً على هذا المبنى، إلّا أنّه لم يكن مقصد رسالة الرُسل والحُجج الإلهيين وغاياتهم بلوغ هذه النقطة وهذا الهدف.

  • ومن هنا فإنّ معيار التكامل ـ عند هؤلاء ـ وفعليّة المراتب الوجوديّة للعرفاء الإلهيّين، سيكون مِن هذا المنطلق مرتبطًا بمقدار ظهور خوارق العادات وصدورها من الفرد. 

  • قيمة خوراق العادات عند العلامة الطهراني

  • لقد كان المرحوم العلاّمة الطهرانيّ ـ قدّس سرّه ـ يقول مرارًا:

  • «إنّ حظّ الفرد ونصيبه في المعرفة وإدراك عوالم التوحيد سيكون أقلّ؛ كلّما ظهرت منه هذه الأمور بشكلٍ أكبرٍ. وكلّما كانت السِعة الوجوديّة للإنسان أكبر، وكان مقدار تحقّق مراتب الأسماء الإلهيّة 

حريم القدس - مقالة في السير و السلوك

47
  • في وجوده أكثر، فإنّ ظهور وبروز هذه الأمور منه سيكون أقل؛ ذلك لأنّ غاية أهل المعرفة والتوحيد هي عرفان حضـرة الحق، وهذا الأمر المهم لن يحصل بهذه الأمور». 

  • لذا فإنّ الأعاظم ولأجل سَوْق الناس نحو هذا الهدف العالي قلّما يُظهرون لهم هذه الأمور، حتّى لا تَأنس النفس ويَألف الذهن هذه المسائل، فتصبح أسيرةً لفخّ الحواسّ الباطنيّة والصور البرزخيّة. 

  • سبب إبراز البعض للأمور الجاذبة للناس!

  • أمّا الذين بقوا عاجزين عن معرفة الحقّ وإدراك توحيد الخالق تعالى وكانت أرجلهم مشلولةً وأيديهم قاصرةً عن الوصول إلى تلك الذروة العليا، فإنّهم لن يجدوا مناصًا من إبراز مثل هذه الأمور لديهم؛ لكي يجلبوا انتباه العوام لناحيتهم. وهذا هو الفرق بين منهج العرفان وسائر المناهج الأخرى، حتّى مع كونهم جميعًا متّجهين نحو عوالم ما وراء المادّة والطبع. 

  • محوريّة العقل والفطرة في العرفان الصحيح 

  • إنّ الله المتعال من خلال إيداعه الصفات والغرائز القيّمة والمعنويّة في فطرة الإنسان، قد عبّد له طريقه نحو بلوغ الحقيقة وإتبّاع الحقّ، فيتّبع المنطق العقليّ في كلّ موطنٍ وحادثةٍ؛ فالتنقيب والبحث عن المعرفة والشعور بالانشداد نحو الكمال والعثور عليه والوصول إلى عالم القدس والسكينة والطمأنينة جُعل في جِبِّلَته وطبيعته؛ فليس هناك أيّ عاملٍ يقدر أن يمنع العقل والفطرة من الانتصار والفوز، سواءً الوساوس أو الوسائل المختلفة، بحيث يُمكنه أن يسدّ عليه مسيره نحو المعرفة والتكامل، ويحرمه من الفيوضات والألطاف الإلهيّة. 

  • وإذا ما ابتليت النفس ـ بواسطة إلقاء الشبهات عليها ـ بالوسوسة وصار سيرها منحرفًا لبعض الوقت، فسيأتي اليوم الذي تستيقظ فيه من رقدتها وتفيق من غفلتها، وذلك بواسطة النغمة الملكوتيّة للوجدان والفطرة؛ ليزيح 

حريم القدس - مقالة في السير و السلوك

48
  • عن وجهه الأستار الباعثة على الوسوسة، وليطوي طريقه نحو الحقيقة والعرفان الإلهي بعين مفتوحةٍ وهِمّةٍ عاليةٍ مع ثباتٍ متينٍ. 

  • برو به كار خود أي واعظ اين چه فرياد است***مرا فتاده دل از ره تو را چه افتاده است
  • به كام تا نرساند مرا لبش چون نای***نصيحت همه عالم به گوش من باد است۱
  • [يقول: اذهب بحال سبيلك أيها الواعظ فما هذا العويل؟ لقد حاد قلبي عن الطريق لكن ماذا أصابك أنت؟

  • وما لم توصلني إلى شفته الحلوة كقصب السكّر، فإنّ نصائح جميع الناس لن تجدي، بل هي كالهواء في أذني].

  • منهجان باطلان في الوصول إلى الله

  • المنهج الأوّل: التوجّه نحو الباطن دون ظاهر الأحكام

  • إنّ عدم الالتفات للتكاليف الإلهيَّة وطيّ المسير بطريقة لا أباليّة ـ بالشكل المذكور ـ هو مجرّد تبرير للهوس والشهوات النفسانيّة في هذه الدنيا الدنيِّة؛ وما نُشاهده عند بعض الفِرق الصوفيَّة وغيرها؛ ومثيل ذلك يُرى حتّى في غير هذه الفِرق بدون هذا التبرير والتأويل، وكم هم كثيرون أولئك الأفراد الذين هم من أهل العلم والدراية الذين لم يقتصـر عدم الاعتناء بالتكاليف والوظائف على أنفسهم، بل إنّ طريقة تصـرّفاتهم أدّت إلى انحراف أولئك العوام وأوجدوا لديهم اليأس والنظرة السلبيّة تجاه المسائل المعنويّة والقِيم المتعالية للشـريعة الإلهيّة. 

    1. ديوان حافظ الشيرازي، ص ٢۸. 

حريم القدس - مقالة في السير و السلوك

49
  • المنهج الثاني: التوجّه نحو ظاهر الأحكام دون باطنها

  • وفي مقابل هؤلاء، هناك أشخاصٌ وجّهوا كلّ همّتهم وهدفهم نحو ظاهر الأحكام والاهتمام بالقيام بالتكاليف من دون الالتفات إلى جنبتها الباطنيّة، وهؤلاء أنكروا كلّ حقيقةٍ وواقعيةٍ وراء هذه التكاليف والوظائف، ولذا فقد سقطوا أيضًا في الاشتباه والغفلة سقوطًا مريعًا؛ إنّ مَثل التوجُّه نحو ظاهر الأحكام من غير ملاحظة حقيقتها وواقعيّتها ـ والتي تمثّل الجنبة العِليّة بالنسبة لها ـ يشبه أكل قشـرة الفاكهة مع إلقاء نفس الفاكهة ولبّها بعيدًا ! فالأشخاص الذين يُنكرون أنّ الهدف الغائيّ والنتيجة المرجوّة من القيام بالأعمال والتكاليف الظاهريّة هي المعرفة الإلهيّة وعرفان الحقّ تعالى، وقنعوا أن تكون هذه الأعمال فقط وفقط لمجرّد إسقاط التكليف وبراءة الذمّة الظاهريّة، فسعوا وطلبوا المراتب الدنيّة من النِعم الإلهيّة في الجنّة، يجب عليهم أن يعلموا أنّهم خسـروا خسارةً فادحةً، واستعاضوا عن إكسير السعادة والفلاح الأبدي بزجاجاتٍ وبلّوراتٍ مقلّدةٍ غير أصليّةٍ ولا قيمة لها. 

  • زاهد از تو حور مى خواهد قصورش بين***به جنت می گريزد از درت يا رب شعورش بين۱
  • [يقول: الزاهد يريد منك الحور العين فانظر إلى قصوره! وهو يسـرع إلى الجنة تاركاً بابك يا رب فانظر كم هو شعوره!].

  • گدای كوى تو از هشت خلد مستغنيست *** اسير بند تو ازهر دو عالم آزاد است٢ 
    1. منتخب من إحدى غزليّات فروغي بسطامي. 
    2. ديوان حافظ الشيرازي، ص ٢۸. 

حريم القدس - مقالة في السير و السلوك

50
  • [يقول: المستعطي في حيّك يا رب مستغن عن جنان الخلد الثمانية، والمقيّد بغلال حبّك حرّ في كلا العالمين].

  • فكر بهشت و حورى و غلمان كجا كند***دلداده عاشقى كه نگارش برابر است‌
  • [يقول: ماذا يفعل العاشق بالجنة والحور والغلمان؟ فما يُعطى قلبه أعلى منها بدرجات].

  • فكما أنّ عدم الاعتناء بالتكاليف الإلهيّة موجبٌ لسخط الله عزّ وجلّ وغضبه وإبعاده، وموجب للحرمان من الفيوضات المعنويّة، كذلك عدم الاعتناء بالحيثيّة المعنويّة والتكامليّة لأحكام الشـريعة، والتي هي العِرفان الحقيقي لحضرة الحق المتعال، موجبٌ لإهدار الاستعدادات وإهراق رأس مال الوجود الإنساني لتحصيل ونيل مراتب الفعليّة والكمال، وسيكون صرف رأس مال العمر ونعمة الحياة حينئذٍ بدون فائدة. 

  • لذلك نرى أنّ الفطرة والوجدان يظلاّن في حالة من البحث والتحقيق عن عالم السكينة والاطمئنان والتكامل النفسي والعرفان الإلهي؛ فيشـرعان من خلال العقل الفطري والضمير المرتبط بعالم المعنى بالسير في مراتب المعرفة الشهوديّة والإحساس القلبي والوجداني لعالم الوجود، ويبدءان برفع كلّ ما يعيق سيرهما وتحييد جميع الموانع، وإبعاد كلّ الظواهر الصارفة عن التوجّه نحو المعنويّات وسحقها تحت الأقدام؛ سواءً الرفاهيّة الدنيويّة، أم التطوّر التكنولوجي، أم ترقّي العلوم الماديّة والاجتماعيّة، ويُعرض كذلك عمّا تلوثّت به الأديان جميعًا من الخرافات والوساوس النفسانيّة والشيطانيّة بواسطة المدارس الإلحاديّة، ومدارس الفكر الماديّ، عمّا طرأ على الأديان

حريم القدس - مقالة في السير و السلوك

51
  • الإلهيّة بشكلٍ أعمّ من اليهوديّة والنصـرانيّة والإسلام، وكذلك الأديان الغير الإلهيّة والتي أضاعت نفسها. 

  • دور العقل وحجيّته في تشخيص الحقّ

  • وفي هذا السياق فإنّ كلّ مسيرٍ وطريقٍ يُمكنه أن يوضّح للإنسان السبيل للوصول نحو هذا الهدف الغائي في إطار حدوده الوجوديّة، ويمكّنه من تحصيل وإدراك نصيبه من نبع المعرفة، فإنّه يتصف بالحجّية والكاشفيّة، والإنسان ملزمٌ باتّباعه والانقياد له، كما أنّ كلّ تكليفٍ يندرج في سياق هذا المقصد، يكون ممضىً في نظر الشارع، وكلّ عملٍ يوجب بُعد الإنسان عن الوصول إلى الغاية سيكون ممنوعًا. 

  • فحجيّة العقل القائمة على أساس البراهين المنطقيّة إنّما تعود إلى هذا الملاك. فالعقل وُضع في فطرة الإنسان وسجيّته بعنوانه الوديعة الإلهيّة التي تُوجب تشخيص الحقّ من الباطل وتميّز الواقع من المجاز، وتفرز الأصول والمباني من الاعتبارات. وهو بذلك يجعل مسير حركة الإنسان نحو عالم الحقائق والمعرفة والكمال واضحًا و بيّنًا؛ فالإنسان بدون القوّة العاقلة لا يتفاوت مع الحيوان أيّ تفاوت، ولازم الفصل الحقيقي للإنسان هو وجود مقولة العقل في ذاته وفطرته. 

  • بعض الشواهد الشرعيّة على حجيّة العقل 

  • إنّ الحركة في مسيرة الاعتدال في جميع الأبعاد، سواءً الشخصيّة منها أم الاجتماعيّة أم الإلهيّة، ستكون أمرًا ممتنعًا ومستحيلًا بدون الاستفادة من القوى العاقلة؛ فالمجتمع الذي لا يعتني بهذه الموهبة الإلهيّة ضمن تشـريعه للأنظمة وسنّ القوانين، سيكون مجتمعًا حيوانيّاً بعيدًا كلّ البعد عن الإنسانيّة.

حريم القدس - مقالة في السير و السلوك

52
  • لذلك نجد جميع الكتب السماويّة وبالخصوص القرآن الكريم تدفع المجتمع والأمّة مِن خلال التأكيد على هذه المسألة الحياتيّة نحو الاهتمام بالرقي والتعالي، وتُرغِّبهم باتّباع الأوامر الإلهيّة، حيث نرى أنّ القرآن يتحدّث عن أصل إثبات الصانع فيقول: 

  • {لَوۡ كَانَ فِيهِمَآ ءَالِهَةٌ إِلَّا ٱللَّهُ لَفَسَدَتَاۚ}۱؛

  • أو الآية الشريفة: {إِنَّ فِي خَلۡقِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَٱخۡتِلَٰفِ ٱلَّيۡلِ وَٱلنَّهَارِ لَأٓيَٰتٖ لِّأُوْلِي ٱلۡأَلۡبَٰبِ}٢؛

  • أو آية: {وَلَئِن سَأَلۡتَهُم مَّنۡ خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ لَيَقُولُنَّ ٱللَّهُۚ}٣؛

  • كما أنّه في موضوع حجيّة القرآن وانتسابه للّه عزّ وجلّ، يقول تعالى: {قُل لَّئِنِ ٱجۡتَمَعَتِ ٱلۡإِنسُ وَٱلۡجِنُّ عَلَىٰٓ أَن يَأۡتُواْ بِمِثۡلِ هَٰذَا ٱلۡقُرۡءَانِ لَا يَأۡتُونَ بِمِثۡلِهِۦ وَلَوۡ كَانَ بَعۡضُهُمۡ لِبَعۡضٖ ظَهِيرٗا}٤.

  • كذلك الآية الكريمة: {وَلَوۡ كَانَ مِنۡ عِندِ غَيۡرِ ٱللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ ٱخۡتِلَٰفٗا كَثِيرٗا}٥ ومثلها الآية: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ ٱلۡقُرۡءَانَ أَمۡ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقۡفَالُهَآ}٦.

  • هذا بالإضافة إلى الكثير من الآيات التي ورد فيها عبارة: {أَفَلَا يَعۡقِلُونَ}۷، أو قوله تعالى: {هَلۡ يَسۡتَوِي ٱلَّذِينَ يَعۡلَمُونَ وَٱلَّذِينَ لَا يَعۡلَمُونَۗ}۸، أو 

    1. سورة الأنبياء (٢٢)، صدر الآية ٢٢.
    2. سورة آل عمران (٣)، الآية ۱٩۰.
    3. سورة لقمان (٣۱)، الآية ٢٥.
    4. سورة الإسراء (۱۷)، الآية ۸۸.
    5. سورة النساء (٤)، مقطع من الآية ۸٢.
    6. سورة محمّد (٤۷)، الآية ٢٤.
    7. سورة يس (٣٦)، ذيل الآية ٦۸.
    8. سورة الزمر (٣٩)، مقطع من الآية ٩.

حريم القدس - مقالة في السير و السلوك

53
  • عبارة: {إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَٰتٖ لِّقَوۡمٖ يَتَفَكَّرُونَ}۱ وأمثالها، والتي تعتبر العقل مُشخِّصًا للحقّ ومعيِّناً لمسير الحركة ومحدِّدًا لاتجاه الإنسان نحو الرقي والتكامل. 

  • إنكار حجيّة العقل إنكارٌ لحجيّة كلام الأنبياء

  • وبشكلٍ عامٍّ، بدون هداية العقل سيكون من الممتنع السير والحركة بشكلٍ معتدلٍ. ولن يكون هناك أيّ مفهومٍ لحجيّة كلام الأنبياء الإلهيّين والرسل؛ لأنّ إثبات الحجيّة إنّما تمّ وثبتَ من خلال البرهان العقلي، ومع انهيار هذا الصرح فلن يكون هناك أيّة قيمةٍ لإرسال الرسل وإنزال الكتب. 

  • لقد بُعث الرسل الإلهيّين إلى الناس بوصفهم «العقل المنفصل» ؛ وذلك لكي يقوموا ـ بواسطة اتصالهم بعالم الغيب ـ باستكمال عقل الإنسان وترقيَته، ومن أجل تنمية براعم الفعليّة الكامنة في هذا العقل؛ والعقل ـ باستخدامه البراهين المنطقيّة المتولّدة من حقيقته الجوهريّة ـ يرى أنّ اتّباعهم والانقياد لهم واجبٌ، وأنّ مخالفتهم حرامٌ؛ وكلّما تحرّك الإنسان منقادًا لهذه العقول المنفصلة، فإنّ فعليّته ورقيّه العقلانيّ سيزيدان تبعًا لذلك، حتّى يبلغان الحدّ الذي يُصبح فيه مُلْحقًا ومتّحِدًا بعالم العقول، فيصبح مستَنيرًا وملهَماً بشكلٍ مباشرٍ من النفس الجوهريّة التي له، وذلك كما نُقل عن الإمام الصادق عليه السلام في روايةٍ عجيبةٍ جدّاً تتناول هذا الموضوع، حيث قال: «لَا تَحِلُّ الفُتْيا لِمَنْ لَا يَسْتَفتِي مِن الله عَزَّ وَجَلَّ بِصَفَاءِ سِرِّهِ وَإِخْلَاصِ عَمَلِهِ وَعَلَانِيَتِهِ وَبُرْهَانٍ مِنْ رَبِّهِ».٢

    1. سورة الروم (٣۰)، مقطع من الآية ٢۱.
    2. مستدرك الوسائل، ج ۱۷، باب ۱٥، باب نوادر ما يتعلّق بأبواب صفات القاضي وما يجوز أن يقضى به؛ بحار الأنوار، ج ٢، ص ۱٢۰، باب ۱٦: النهي عن القول بغير علمٍ والإفتاء بالرأي وبيان شرائطه، نقلًا عن مصباح الشـريعة.

حريم القدس - مقالة في السير و السلوك

54
  • فهذه المرحلة التي يشير إليها الإمام عليه السلام هي عبارةٌ عن اتصال «العقل الجزئي» والساذج بـ «العقل الكليّ» واتحاده به، والاستنارة من عالم القدس والمشيئة. 

  • يُعرِّف الإمام موسى بن جعفر عليهما السلام، وهو الإمام السابع للشيعة هذه الموهبة والوديعة الإلهية ويبيّن مقدار أهميّتها في تكامل الإنسان، فيقول:

  • «إنّ الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَكْمَلَ لِلنَّاسِ الحُجَجَ بِالعُقُوْلِ وَنَصَرَ النَّبِيِّينَ بِالبَيَانِ وَدَلَّهُم عَلَى رُبُوبِيَّتِهِ بِالأَدِلّةِ، فَقَالَ: {وَإِلَٰهُكُمۡ إِلَٰهٞ وَٰحِدٞۖ لَّآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ٱلرَّحۡمَٰنُ ٱلرَّحِيمُ ، إِنَّ فِي خَلۡقِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَٱخۡتِلَٰفِ ٱلَّيۡلِ وَٱلنَّهَارِ وَٱلۡفُلۡكِ ٱلَّتِي تَجۡرِي فِي ٱلۡبَحۡرِ بِمَا يَنفَعُ ٱلنَّاسَ وَمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مِن مَّآءٖ فَأَحۡيَا بِهِ ٱلۡأَرۡضَ بَعۡدَ مَوۡتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٖ وَتَصۡرِيفِ ٱلرِّيَٰحِ وَٱلسَّحَابِ ٱلۡمُسَخَّرِ بَيۡنَ ٱلسَّمَآءِ وَٱلۡأَرۡضِ لَأٓيَٰتٖ لِّقَوۡمٖ يَعۡقِلُونَ}»۱و٢ 

  • ثمّ يُكمل الإمام عليه السلام، فيقول: 

  • «مَا بَعَثَ الله أَنْبِيَاءَهُ وَرُسُلَهُ إِلَى عِبَادَهُ إلّا لَيَعْقِلُوا عَنِ اللهِ فَأَحْسَنُهُم استِجَابَةً أَحْسَنُهُم مَعْرِفةً، وَأَعْلَمُهُم بِأَمْرِ اللهِ أَحْسَنُهُم عَقْلاً، وَأَكْمَلُهُمْ عَقْلاً أَرْفَعُهُم دَرَجَةً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ».٣

  • يُوضّح الإمام في هذه الفقرات أنّ المِعيار في إحراز المرتبة التكامليّة والتقرّب إلى الله ومعاينة عالم الغيب، إنّما يُقاس بمقدار تكامل العقل، وأنّ 

    1. سورة البقرة (٢)، الآيتان: ۱٦٣ و ۱٦٤.
    2. الكافي، ج۱، ح ۱٢، كتاب العقل والجهل؛ بحار الأنوار، ج ۱ ص۱٣٢،٢٩، باب ٤، علامات العقل وجنوده.
    3. الكافي، ج ۱، ص ۱٦، كتاب العقل والجهل؛ بحار الأنوار، ج ۱، ص ۱٣٦و ۱٣۷، الباب ٤، علامات العقل وجنوده.

حريم القدس - مقالة في السير و السلوك

55
  • تعيين درجات الكمال الإنساني في عالم الآخرة سيكون تابعًا لتكامله العقلاني، وأنّ معرفة الله عزّ وجلّ إنّما تكمن في طيّ مدارج الفعليّة العَقلانيّة للإنسان.

  • مِن هنا نعرف مقدار الجهل والضلالة التي وقع فيها أولئك الذين عمدوا إلى تخطئة العقل وتنكّروا لنتائجه المنطقيّة وبراهينه الفلسفيّة، والحال أنّنا نرى أنّ عظماء الدين وحاملي لواء الشـرائع الإلهيّة يرون أنّ الحقيقة الوجوديّة للإنسان تكمن في تكامله العقلي، ويعتبرون أنّ القرب من الله عزّ وجلّ مرهونٌ بمقدار معرفته عن طريق ارتقاء الإنسان لمراحل العقلانيّة. 

  • أهميّة بحوث الفلسفة والعرفان النظري لطالبي الهداية

  • إنّ العظماء من الحكماء الإلهيّين والفلاسفة الإسلاميّين، قد تحمّلوا شتّى أنواع المشقّات والصعوبات بغية الوصول إلى هذه الدرجة والمرتبة من الفعليّة، وتحمّلوا السُبَاب والكلام القبيح غير المتزن من الجهّال والبُلهاء، وكان كلّ ذلك في سبيل نشر العلوم المتعالية الإلهيّة وكشف عوالم المعرفة المجهولة، لتصبح ميسّرةً لطلاب الهداية والباحثين عن عالم القُرب. 

  • إنّ معرفة حقيقة عالم الوجود وكشف الأسرار الكامنة فيه، وشهود مراتب الأسماء والصفات لحضـرة الحقّ، وكيفيّة ربط ذات الخالق بعوالم الإمكان، وفي آخر المطاف معرفة كيفيّة ارتباط الإنسان بمبدأ الوجود ومعرفة الجوهر الوجودي للإنسان، ومسانخته لمبدأ الخلقة، وإدراك حقيقة الخلافة الإلهيّة، وكيفيّة رجوع الإنسان إلى ذات الله عزّ وجلّ، وكشف أسرار عالم الوجود، وارتقاء الإنسان في المراتب المختلفة للسير والسلوك إلى الله والوصول إلى حقيقة ذات واجب الوجود والفناء في حقيقة وهويّة حضـرة الحق، والاندكاك في مرتبة الأحديّة، ثم البقاء بالله في السير في عوالم الأسماء 

حريم القدس - مقالة في السير و السلوك

56
  • والصفات، والتي هي أعلى وأرقى مراتب التكامل الوجودي الإنساني؛ كلّ ذلك مرهون بأكمله بإدراك العرفان النظري والقضايا الفلسفيّة والمباني الحِكميّة للفلسفة والعرفان الإسلامي. 

  • إنّ علماء الشيعة المعروفين ومفاخر العالم الإسلامي، أمثال: أبو علي ابن سينا والفارابي والملا صدرا الشيرازي، ومحيي الدين بن عربي، وصدر الدين القونوي، وشهاب الدين السهروردي ومولانا جلال الدين البلخي، وحافظ الشيرازي، وابن الفارض المصري، وسائر العظماء من العرفاء وفلاسفة الإسلام، بالأخصّ المتأخّرين منهم؛ مثل المرحوم الآخوند الملا حسين قلي الهمداني، والحاج الملا هادي السبزواري، والسيّد علي القاضي، والعلاّمة الطباطبائي، والعلاّمة الطهرانيّ وغيرهم، هؤلاء قضوا أعمارهم كاملةً لأجل الوصول إلى هذا الهدف العالي، وقد تمكّنوا من إزاحة ستائر الجهل والوهم ستاراً بعد ستار بواسطة بذل سنواتٍ متماديةٍ من الجهد العِلمي والسلوك العَملي، حتّى وصلوا إلى القُلل الرفيعة للمعرفة والشهود. 

  • لذلك فإنّ المنهج الفكري الذي يُبعد العقل والفلسفة وينحّيهما جانبًا، يكون قد حرم نفسه من أثْمَن موهبةٍ إلهيّةٍ، ومن أعظم ظاهرةٍ في عالم الوجود، و هيّأ لنفسه أسباب الدخول في الضلالة والباطل. 

  • بعض دعاوى مدرسة التفكيك حول العقل والفلسفة والردّ عليها

  • لقد ورد في هذه الأيام إلى السوق مذهبٌ فكريٌّ يُدعى بـ «التفكيك»، يَدّعي هذا المذهب قصور القوّة العاقلة البشريّة في تمييز الحقّ من الباطل، وعدم قدرتها على كشف حقائق عالم الوجود والوصول إلى معرفته، لذلك أنكر أصحاب هذه المدرسة حجيّة العقل ـ الذي هو أعجوبة عالم التكوين ـ 

حريم القدس - مقالة في السير و السلوك

57
  • وقلّلوا من فائدته، وأنكروا هذا الأصل المسلّم في نظام خِلقة الإنسان، وأودعوه في دائرة النسيان، وأخرجوه من حيّز الانتفاع. 

  • إنّ مدّعي هذا النهج المُنحرف، فضلًا عن كونهم لا يمتلكون حتّى طرفًا من المباني الفلسفيّة والقياسات البرهانيّة العقليّة ولم يشمّوا حتّى رائحتها، هم كذلك عاجزون حتّى في العلوم الإسلاميّة الأخرى عن الوصول إلى المعرفة الصحيحة وإدراك حقائق الشـرع المبين، فهم بعيدون كلّ البعد عن الفهم الصحيح. 

  • الدعوى الأولى: مجال العقل هو المعرفة السطحيّة في العقائد فقط

  • يَعتبر هؤلاء أنّ مجال العقل مختصٌّ بالأمور الجزئيّة، وأنّ العقل إذا وصل إلى معرفةٍ ابتدائيةٍ سطحيّةٍ للمبدأ الأعلى (الله تعالى) ، ولنبيّه الأكرم، فإنّ دوره قد انتهى، وينبغي أن يُترك نسيًا منسيًّا بعد ذلك، إذ لا أثر له بعد ذلك في تكامل البشـر والدرجات المعنويّة ولا في السلوك العلمي والاعتقادي للإنسان.

  • هذا المنهج هو مثل الأشاعرة الذين جعلوا معيار الحجيّة وملاكها مبنيّاً على أساس التعبّد فقط لا غير، دون أيّ نوعٍ من أنواع الفهم والإدراك والشعور نحو القضايا والمفاهيم الراقية للمعرفة وعالم الوحي والتشريع. 

  • الجواب الأوّل:‌ هذا المنهج يفقد العبادة روحها وباطنها.

  • ففي هذا المنهج يكون مقدار معرفة الإنسان للمعارف الإلهيّة وللذات المقدّسة للحقّ محدودًا فقط بإدراك التكليف العاميّ، والقيام بالأعمال الظاهريّة لا غير؛ وليس هناك أيّ التفاتٍ أو اهتمام بتوجّه الإنسان نحو الحقيقة وباطن العبادة، التي هي الرابط الذي يربط الإنسان بذات الله المتعال، تلك الحقيقة التي تتشكّل من واقعيّة العبوديّة وخضوع العبد في مقام الطاعة والانقياد للمولى ولربّ الأرباب، والتي لا تحصل بدون الإدراك الصحيح والمعرفة الواقعيّة للمولى،

حريم القدس - مقالة في السير و السلوك

58
  • فبدونها يكون أداء الأعمال والقيام بالتكاليف مثل القشـرة التي تفتقد للّب وحقيقة العمل.

  • قال تعالى: {إِلَيۡهِ يَصۡعَدُ ٱلۡكَلِمُ ٱلطَّيِّبُ وَٱلۡعَمَلُ ٱلصَّٰلِحُ يَرۡفَعُهُۥۚ}۱ وكذلك {لَن يَنَالَ ٱللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَآؤُهَا وَلَٰكِن يَنَالُهُ ٱلتَّقۡوَىٰ مِنكُمۡۚ}٢ فهل المعرفة التي يؤدّي بها الفرد العاديّ عبادةً من العبادات بحسب رتبته ونظرته وتحصيله ومعرفته مساويةٌ من حيث الإطاعة للكيفيّة والمعرفة والتحصيل الذي يتمتّع به نبيٌّ من الأنبياء أو الإمام المعصوم عليه السلام؟! هل يمكن عدّ الصلاة التي تُراعى في تأديتها مجرّد الأحكام الظاهريّة وصحّة القراءة والاعتناء بمخارج الحروف بقصد الامتثال للأمر وإسقاط التكليف، مساويةً للصلاة التي يتمّ خلال أدائها سحب السهم من قدم مولى المتقين، دون أن يشعر به؟! هل العبادة الحاصلة والمبنيّة على أساس المعرفة العاميّة، ومعرفة العوام للذّات الأحديّة وللأسماء والصفات، متساويةٌ مع عبادة من يقول فيها: «لمْ أَعْبُدْ رَبًا لَمْ أَرَهُ (أي: لم تره عينُ قلبي وضميري الواعي)»٣، وهل سيُعطى كلٌّ منهما نفسَ المنزلة والرتبة القيّمة عند الله عز وجل؟! 

    1. سورة فاطر (٣٥)، مقطع من الآية ۱۰.
    2. سورة الحج (٢٢)، صدر الآية ٣۷.
    3.  لقد استشهد المرحوم العلامة آية الله الوالد المعظّم رضوان الله تعالى عليه بهذا الحديث الشريف في كتابه الشريف «معرفة الله»، الجزء الثاني، الصفحة ٩٥، في ذيل الأبحاث ۱٦ إلى ۱۸، وذلك ضمن هذه العبارة: «لم أكُ بالذي أعبد ربّاً لم أره»، وقد ذكر في حاشية الموطن المذكور أنّه عن: «مستدرك نهج البلاغة»، ص ۱٥۷، الباب الثالث، منشورات مكتبة الأندلس ـ بيروت، واستند عبد العليّ كارنغ مستشهداً بذلك في كتاب «اثبات وجود خدا = إثبات وجود الله» في التعليقة في ص ٥، خلال ترجمة مقالة: «هل للعالم خالق؟» بقلم الدكتور دمرداش، عبد المجيد سرحان أخصّائي العلوم التربويّة.
      وذُكر الحديث أعلاه في «مفاتيح الإعجاز» شرح «گلشن راز» ص ٥۷، طبعة منشورات المحموديّ، على الصورة التالية: سأل ذِعلب اليمانيّ الإمام عليّ المرتضى عليه السلام: أفَرَأيْتَ رَبَّكَ؟! فأجاب: «أفَأعْبُدُ مَا لَا أرَى؟ ثمّ قال: رَأيْتُهُ فَعَرَفْتُهُ فَعَبَدْتُهُ؛ لَمْ أعْبُدْ رَبَّاً لَمْ أرَهُ! {فَمَن كَانَ يَرْجُوا لِقَآءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَ لَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أحَدًا}». (الآية الأخيرة، من السورة ۱۸: الكهف).

حريم القدس - مقالة في السير و السلوك

59
  • هل كلام رسول الله عندما يقول: إنّ معيار قرب كلّ إنسان إلى الله هو بمقدار مرتبة فهمه ومعرفته للّه عزّ وجلّ۱،‌ إشارةٌ إلى هذه العقول الناقصة؟! وإلى هذا الفهم القاصر والمعرفة العاميّة للأشخاص العاديّين؟!

  • الجواب الثاني: مخالفة هذه الدعوى لما وردنا عن الشارع المقدّس

    1. إشارة إلى ما ورد عن النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم حيث قال: «يَا عَلِيّ! إذا تَقَرَّبَ النَّاسُ إِلَى خَالِقِهِمْ بِأنْوَاعِ البِرِّ، فَتَقَرَّبْ أنْتَ إِلَيْهِ بِالعَقْلِ حتى تَسْبِقَهُمْ». (راجع:‌ الوافي، ج ۱، ص۱۰۱ و۱۰٢)؛ وقد أورد الغزّاليّ في «إحياء العلوم»، ج ٣، ص ۱٤ هذا الحديث: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ لِعَلِيّ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «إذَا تَقَرَّبَ النَّاسُ إلَى اللهِ تَعَالَى بِأَنْوَاعِ البِرِّ، فَتَقَرَّبْ أَنْتَ بِعَقْلِكَ». وُروي في «إحياء العلوم» ج ٣، ص ٣٥٣، عن أبي‌ الدرداء: «إنَّهُ قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ! أرَأَيْتَ الرَّجُلَ يَصُومُ النَّهَارَ وَيَقُومُ اللَّيْلَ وَيَحِجُّ وَيَعْتَمِرُ وَيَتَصَدَّقُ وَيَغْزُو في سَبِيلِ اللهِ وَيَعُودُ المَرِيضَ وَيُشَيِّعُ الجَنَائِزَ وَيُعِينُ الضَّعِيفَ، وَلَا يُعْلَمُ مَنْزِلَتُهُ عِنْدَ اللهِ يَوْمَ القِيَامَةِ! فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ: إنَّمَا يُجْزَى عَلَى قَدْرِ عَقْلِهِ.
      وَقَالَ أنَسٌ: أُثْنِيَ عَلَى رَجُلٍ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صلّى الله عَلَيْهِ [وَآلِهِ‌] وَ سَلَّمَ فَقَالُوا خَيْراً. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عَلَيْهِ [وآلِهِ‌] وَ سَلَّمَ: كَيْفَ عَقْلُهُ؟! قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ نَقُولُ مِنْ عِبَادَتِهِ وَفَضْلِهِ وخُلْقِهِ؟ فَقَالَ: كَيْفَ عَقْلُهُ؟؛ فَإنَّ الأحْمَقَ يُصِيبُ بِحُمْقِهِ أعْظَمَ مِنْ فُجُورِ الفَاجِرِ، وَإنَّمَا يُقَرَّبُ النَّاسُ يَوْمَ القِيَامَةِ عَلَى قَدْرِ عُقُولِهِمْ. 
      وينقل العلّامة الطهراني قدّس سرّه في كتابه «معرفة الإمام»، ج‌٥، ص: ۱۷۷ روايةً تناسب هذا المعنى عن العلامة الأميني في كتابه الشـريف «الغدير» : في كتاب زيد الزَرَّاد عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام قال: قال أبو جعفر عليه السلام: «يَا بُنَيّ اعرف مَنَازلَ شيعَة عَليّ على قَدر روَايَتهم وَ مَعرفَتهم، فَإنَّ المَعرفَةَ هيَ الدّرَايَةُ للرّوَايَة؛ وَ بالدّرَايَات للرّوَايَات يَعلُو المُؤمنُ إلى أقصَى دَرَجَة الإيمَان. إنّي نَظَرتُ في كتَاب عَليّ عليه السَّلَامُ فَوَجَدتُ فيه: إنّ زنَةَ كُلّ امرئٍ وَقَدرُهُ مَعرفَتُهُ؛ إنّ اللهَ يُحَاسبُ العبَادَ على قَدر مَا آتَاهُم منَ العُقُول». (م)

حريم القدس - مقالة في السير و السلوك

60
  • الجواب الثالث: أنّ فيه سدّاً لطريق التكامل وتعريضه لمستنقع الشبهات

  • ففي منهج «التفكيك»: بدلًا من الاستفادة من العقول للاستنارة من المبادئ المنفصلة والاتصال بعالم الأنوار، يُدعى إلى تعطيل العقل وإبطاله واضمحلاله وخموله؛ وبالتالي الاكتفاء بذلك الاعتقاد البسيط والابتدائي بالصانع الأوّل وبمبادئ عالم الخلق وبإرسال الرسل، فيسدّون بذلك طريق العروج إلى مدارج الكمال وارتقاء القُلل الرفيعة للمعرفة ومراتب الفعليّة بشكلٍ تامٍّ! ولكنْ لنا أن نسأل حينئذٍ: ما هي قيمة المعرفة الإنسانيّة والطاعة والانقياد العمليّين فيما لو كانت ستتزلزل أمام الشبهات أو تنهار عند طروّ اعتراضٍ أو إشكالٍ واحدٍ، فتمسي هباءً يذروه الرياح؟!

  • إنّ تعطيل العقل والبراهين الفلسفيّة على حقائق عالم الوجود، في مدرسة «التفكيك»، يعني عمليًّا الحكم بلغويّة هذه الظاهرة الإلهيّة العجيبة في ناموس عالم التكوين وعبثيّتها؛ تلك الظاهرة التي تستطيع أن توصل النفس الناقصة والروح الآدميّة المتحيّرة من حضيض الذلّة والجهالة والتوهُّم والتخيّل إلى أعلى مراتب اليقين والمعرفة والإدراك الواسع لأسرار عالم التكوين ونظام الخلق ومبادئه.

  • الدعوى الثانية:‌ رفض الفلسفة لنشأتها عند اليونان

  • إنّ تعطيل الفلسفة والحكمة المتعالية ـ تمسّكًا بتلك الحجّة الواهية وهي أن نشأتها كانت في أحضان مدرسة اليونان القديمة ـ كاد أن يكون وصمة عارٍ من شأنها أن تلوّث ثوب الطهر والعصمة للشـريعة الإسلاميّة.

حريم القدس - مقالة في السير و السلوك

61
  • الجواب الأوّل: أنّ الفلسفة عضدت تعاليم الشرع بالعقل ولم تعارضه

  • إنّ ظهور الفلسفة والحكماء ذوي المقام العالي في مدرسة الإسلام، وما قاموا به من إثبات الحجيّة والاستدلال على تعاليم الشـرع المطهر والوحي الإلهي بالبراهين الفلسفيّة والدلائل الكلاميّة، وكشف الستار عن سرّ عالم الوجود، وإثبات المبدأ الأعلى وصرافة وجود حضـرة الحقِّ وتوحيده، كلّ ذلك بأفضل برهانٍ وأكمل بيانٍ وأتقن دليلٍ، لم يترك مكانًا لشبهة خنّاسٍ أو لوسوسة أحمقٍ؛ ممّا جعل المدرسة الفلسفيّة اليونانية، والتي هي مهد الفلسفة الغربيّة في أيّامنا هذه، تمدُّ يَدَ العوز والحاجة إلى القبّة الشامخة والبناء المشيّد للحكمة المتعالية الإسلاميّة، ملتمسةً الاستفاضة من أنوارها الساطعة ومن بركاتها العظيمة وطالبةً الاكتساب من فيضها والاستنارة بها. 

  • الجواب الثاني: اختلاف الفلسفة الإسلاميّة عن الفلسفة اليونانيّة جذريًّا

  • كما أنّ الفلسفة اليونانيّة بعدما وردت إلى حوزة المعرفة الإسلاميّة، وإلى ساحة العلم بمباني الوحي، وإلى الكلمات الصادرة عن الأئمّة المعصومين عليهم السلام حملة لواء مدرسة التشيّع، حصل فيها تحوّلٌ جوهريّ، وتبدّلٌ ماهويٌّ، وتغييرٌ جذريٌّ وأساسيٌّ، بحيث أنّ هذا الأمر بات واضحًا لا يناقش فيه أحدٌ في حوزة العلم ودراسة الفلسفة وتدريسها. 

  • دور الملّا صدرا في تطوّر الفلسفة الإسلاميّة 

  • فمع ظهور الحكيم العظيم والفقيه صاحب الشأن الرفيع، فخر عالم التشيّع صدر المتألّهين الشيرازي، وطرحه المباحث العجيبة والدقيقة في الفلسفة الإسلاميّة، مثل مسألة «أصالة الوجود واعتباريّة الماهيّة»، و «وحدة الوجود وصرافته»، و «برهان الصدّيقين» على إثبات توحيد الصانع، و مسألة «التشخّص الذاتي للوجود» ، تسارعت حركة الحكمة الإسلاميّة المُتعالية بشكلٍ مدهشٍ عمّا كانت عليه. ثمّ عادت وبُنيت جميع القضايا والمسائل الفلسفيّة ارتكازًا على تلك الأمور الأصليّة المذكورة؛ وحتّى الآن وبعد أكثر من أربعمائة سنةٍ من حياة ذلك الرجل العظيم في عالم الإسلام، والفارس 

حريم القدس - مقالة في السير و السلوك

62
  • الأوحد في ركوب عرصة التحقيق، لم يكن لأيّ مدرسةٍ أخرى حتّى الآن القدرة على مواجهة أو معارضة أصوله ومبانيه، وكلّ مدارس الدنيا العلميّة والفلسفيّة والمعرفيّة يجب أن تُخضع رأسها مستسلمةً لساحة هذه العتبة المقدّسة، لتقطف من عناقيد علومه الإلهيّة وخصلها. 

  • استمداد الملّا صدرا فلسفته من الذوات المقدّسة لأهل البيت عليهم السلام

  • إنّ صدر المتألّهين الشيرازي من حيث كونه فقيهًا عالي المقام، ومفسّرًا عظيم الشأن، ومحدّثًا خبيرًا في تضاعيف الروايات، ومتبحرًا في متون الوحي في مدرسة أهل البيت عليهم السلام، والأهم من ذلك أنّه كان رجلًا نزيهًا ومسلّحًا بالتهذيب النفساني والأدب السلوكي والمراقبة والمكاشفات الروحانيّة، وحائزًا للحالات الروحيّة والمعنويّة، وعلى رأس كلّ تلك الأمور كان رجلاً متولّياً بكلّ وجوده لأهل بيت العصمة والطهارة، وفي نهاية الخلوص والصدق والتسليم لهم؛ وقد استطاع بعنايات الذوات المقدّسة للمعصومين عليهم السلام والتوسّل الدائم والمستمر بساحة القدس للأئمّة الأطهار، والسكن بجانب السيّدة المطهرة حضـرة فاطمة المعصومة سلام الله عليها، والاستمداد من الروح المقدّسة لسيدة كلا العالمَين، مادًّا يد الحاجة نحو عناياتها وبركات نفسها الملكوتيّة؛ واستطاع بذلك أن يجعل الفلسفة الإسلاميّة منطبقةً مع جميع موازين الوحي، ومنسجمةً مع الكلمات الواردة من أولياء الأمر، فاعتلت مباني الفلسفة لتتربّع على آخر قُلةٍ من القلل الرفيعة للمعرفة والفهم، فكانت ثمرة هذه الولاية والتوسّلات بهذه العتبة المقدّسة عبارةً عن النتائج الربانيّة والملكوتيّة لفكره الرشيق، والواردات الإلهية النازلة على قلبه المنوّر وضميره المضيء. 

  • حديث الملا صدرا الشيرازيّ عن كيفيّة هداية الله له وإرشاده إيّاه. 

  • وفي هذا المجال يُشير الملا صدر الدين الشيرازي بقلبٍ مطمئنٍّ ويقينٍ رفيعٍ وضميرٍ هادئٍ منوّرٍ بالأنوار الإلهيّة إلى هذه النعمة العظمى والفلاح 

حريم القدس - مقالة في السير و السلوك

63
  • الأبديّ والهداية والإرشاد الإلهيّين الواردين، فبعد أن بيّن المرحوم صدر المتألّهين شيئًا من الظلم والانتهاك الذي حلّ بالساحة المقدّسة للعلم والمعرفة والحكمة الإسلاميّة وبالعرفاء ذوي الشأن الرفيع، من قبل الكثير من الحمقى والجهلاء، ولم يكن هو أيضًا بمعزلٍ عن هذه الأحداث، وبعد استعراضه لمجريات ذلك، عكف على بيان كيفيّة سلوكه مع العوام والعلماء الجهلة، وثمرات الرياضات والتوسّلات والمراقبات العرفانيّة والاستفادة من المباني الفلسفيّة الرشيقة، فقال: 

  • «فكنتُ أوّلاً ـ كما قال سيدي ومولاي ومعتمدي أوّل الأئمّة والأوصياء وأبو الأئمّة الشهداء الأولياء، قسيم الجنّة والنّار ـ آخذًا بالتقيّة والمُداراة مع الأشرار، مخلًّا (أي متخليًّا) عن مورد الخلافة، قليل الأنصار مطلِّق الدنيا (إلى الأبد تاركًا إياها لأهلها)، مؤثرًا الآخرة على الأولى، مولى كلّ من كان له رسول الله مولى وأخوه وابن عمّه ومساهمه في طمّه ورمّه (أي شريكه في جميع المواهب الإلهيّة والفيوضات الربانيّة) :

  • «طَفِقْتُ أَرْتَأي (وبقيت مترددًا) بَيْنَ أَنْ أَصُوْلَ (وأحارب هؤلاء القوم الجاهلين والعلماء عديمي البصيرة وأهل الدنيا والأوهام والشهوات) بِيَدٍ جَذّاءَ (مكسورةٍ) أَوْ أَصْبِرَ عَلَى طِخْيَةٍ عَمْيَاءَ (وعلى هذا الزمن المظلم الكدر بالعصبيّة والجهالة)، يَهْرَمُ فِيْهَا الكَبِيْرُ (ويعيا فيه الرجل المجرّب الخبير) وَيَشِيْبُ فِيْهَا الصَغِيْرُ (فيبلغ به سن الشيخوخة والفناء) وَيَكْدَحُ فِيْهَا مُؤْمِنٌ (ويلقى المشقّة والتعب) حَتَّى يَلْقَى رَبَّهُ».

  • فصرتُ ثانيًا عنان الاقتداء بسيرته (فوجّهت زمام أموري نحوه وجعلته أسوةً لي ومقتدى) عاطفاً وجه الاهتداء بسنّته (فاخترت

حريم القدس - مقالة في السير و السلوك

64
  • سنته ومنهاجه) «فَرَأيْتُ أَنَّ الصَّبْرَ عَلَى هَاتِي (المصيبة والمشكلة) أَحْجَى (وأولى) ، فَصَبَرْتُ وَفِيْ العَيْنِ قَذَى وَفِي الحَلْقِ شَجَى»، فأمسكت عناني عن الاشتغال بالناس ومخالطتهم (وقطعت ارتباطي بهم وحرّمته على نفسي)، وأيست عن مرافقتهم ومؤانستهم، وسهّلت عليّ معاداة الدوران (والدهر) ومعاندة أبناء الزمان، وخلصت عن إنكارهم وإقرارهم (وتخلّيت عن محاربتهم) وتساوى عندي إعزازهم وإضرارهم، فتوجهت توجهًا غريزيًّا (من أعماق قلبي) نحو مسبّب الأسباب (ومبدأ الوجود) وتضرّعت تضرّعًا جبليًّا (من باطن القلب والفطرة) إلى مسهّل الأمور الصعاب، فلمّا بقيت على هذا الحال من الاستتار (عن أعين الأغيار والجهال) والانزواء والخمول والاعتزال (مشغولًا بتزكية النفس) زمانًا مديدًا وأمدًا بعيدًا، اشتعلت نفسي لطول المجاهدات اشتعالًا نوريّاً (وانبعثت أنوار عالم الغيب منها واشتعل صدري بنار طور سيناء ونار الشوق والوصال. وفي النهاية، أثّر استمرار المراقبات الشـرعيّة أثره وفعل فعله دفعةً واحدةً) والتهب قلبي (في عشق الحقّ) لكثرة الرياضات التهابًا قويًّا (وانتهى إلى حالٍ من التلاطم نفذت معها طاقتي في الصبر على الفراق).

  • (عندها تداركتْ نفسي عنايةُ حضرة الحقّ) ففاضت عليها أنوار الملكوت وحلّت بها خبايا (وأسرار) الجبروت ولحقتها الأضواء الأحديّة (القاهرة فأخذتني وجذبتني إليها)، وتداركتها الألطاف الإلهيّة (الخفيّة) فاطّلعت على أسرارٍ (من حقائق عالم الوجود) لم أكن أطّلع عليها إلى الآن ، وانكشفت لي رموزٌ (ومسائل من خفايا حقائق الوجود وذات الله) لم تكن منكشفةً هذا الانكشاف من البرهان،

حريم القدس - مقالة في السير و السلوك

65
  • بل كلّ ما علمته من قبل بالبرهان عاينته مع زوائدٍ (ولطائفٍ) بالشهود والعيان، من الأسرار الإلهيّة (التي لا يمكن التعبير عنها)، والحقائق الربانيّة (وواقعيّات نظام عالم الخلقة) والودائع اللاهوتيّة (التي لا توصف) والخبايا الصمدانيّة (من الآثار والأسماء والصفات، حينئذٍ وصل عقلي بواسطة أنوار الحقّ إلى مرتبة فعليّته وتكامله، وحلّ سكون الخاطر والاطمئنان الواقعيّ وانبساط النفس محلّ ذلك التشويش والاضطراب والتردّد) فاستروح العقل من أنوار الحقّ بكرةً وعشيًّا، وقرب بها منه وخلص إليه نجيًّا (وكانت تأخذ بي أنوار الحقّ نحو مقام الأحديّة، وتسوقني إلى جوار وقرب حريم أنس حضرة المعبود، وحرّرتني من ظلمات الجهل والنفاق والكثرات وجعلتني أستقرّ في حرم أمنه و أمانه) ... .۱

  • ومن هنا يتبيّن أنّ المدرسة التي تحرم الإنسان من حقّ المعرفة إنّما تحرمه ـ في الحقيقة ومن الناحيّة العمليّة ـ من نصيبه من الإنسانيّة، وتُخرجه من حيّزها. 

  • الجواب الثالث: كيف نتعامل مع اختلاف العمق في نصوص الشرع؟!

  • مضافاً إلى ذلك، إذا كنتم تعدّون كلّ نوعٍ من التفكير والتعقّل خارج النصوص الدينيّة لغوًا وعبثًا فهل المفاهيم والنصوص الدينية كلّها على نحوٍ واحدٍ وبمستوىً واحدٍ من حيث الحقيقة والجوهر؟! هل مباحث النصوص الدينيّة المتعلّقة بعالم الصورة والمادّة متساويةٌ مع المباحث المتعلّقة بالمجرّدات وما وراء المادّة؟! هل المسائل المتعلّقة بالتكاليف والأعمال الظاهريّة من قبيل الطهارة والنجاسة والمعاملات وأحكام الإرث

    1. الحكمة المتعالية في الأسفار العقليّة الأربعة، ج ۱، ص۷ و ۸. 

حريم القدس - مقالة في السير و السلوك

66
  • والقصاص وما شابهها متكافئةٌ رتبةً وصعوبةً مع الحقائق الواردة عن أهل بيت العصمة في معارف المبدأ والمعاد؟! بأيّ نوعٍ من المعرفة وبأيّة درجةٍ من الإدراك يمكن أن تُفهم الروايات والنصوص المأثورة عن مولى المتّقين وأمير المؤمنين عليه السلام في «نهج البلاغة» ، التي تتعرّض لأوصاف ونعوت حضـرة الحقّ وكيفية ارتباط الأشياء وتعلّقها به في عالم الوجود؟! وكذلك الأحاديث الواردة في هذا المجال عن أولاده الكرام أئمّة الهدى صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين؟! هل يمكن إدراكها بنفس هذا المستوى العرفيّ والعامّي من المعرفة؟! 

  • بأيّ معيارٍ وبأيّة مرتبةٍ علميّةٍ يمكن أن تُدرَك الآيات القرآنيّة التي تتناول توحيد ذات الله وصفاته؟ فإذا همّشنا واستبعدنا صناعة البرهان والمفاهيم الفلسفيّة عن دائرة إدراك الحقائق القرآنيّة، فبأيّ نوعٍ من أنواع المعارف الدينيّة ـ سواءً المعرفة الفقهيّة منها أم التاريخيّة أم التفسيريّة ـ يمكن الوصول إلى كنه حقائق هذه الآيات؟! وحينئذٍ هل يمكن للفقهاء الذين لم يطّلعوا على شيء من المفاهيم والدروس الفلسفية أن يوضّحوا ويشرحوا معنى قوله تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمۡ أَيۡنَ مَا كُنتُمۡۚ}۱ أو الآية: {هُوَ ٱلۡأَوَّلُ وَٱلۡأٓخِرُ وَٱلظَّٰهِرُ وَٱلۡبَاطِنُۖ}٢ أو الآية: {وَهُوَ ٱلَّذِي فِي ٱلسَّمَآءِ إِلَٰهٞ وَفِي ٱلۡأَرۡضِ إِلَٰهٞۚ}٣أو الآية الشريفة: {لَوۡ كَانَ فِيهِمَآ ءَالِهَةٌ إِلَّا ٱللَّهُ لَفَسَدَتَاۚ}٤؟ 

    1. سورة الحديد (٥۷)، مقطع من الآية ٤. 
    2. سورة الحديد (٥۷)، مقطع من الآية ٣. 
    3. سورة الزخرف (٤٣)، مقطع من الآية ۸٤.
    4. سورة الأنبياء (٢۱)، ‌‌صدر الآية ٢٢.

حريم القدس - مقالة في السير و السلوك

67
  • الجواب الرابع: كيف نجيب على الشبهات العقائديّة ؟

  • وهل يمكن للروايات الفقهيّة أن تُجيب على شبهات ابن كمّونة۱؟ هل يمكن ردّ الإشكال على وحدة الصانع إلّا من خلال «برهان الصدّيقين» الذي بيّنه صدر الدين الشيرازي ـ رضوان الله عليه ـ والمبتني على مسألة «أصالة الوجود» و «وحدة الوجود» ؟!

  • الجواب الخامس:‌ حجيّة القطع ذاتيّة فكيف احتاج إلى إجازة الشرع؟!

  • إنّ المدرسة التفكيكيّة لفي سباتٍ عميقٍ وغفلةٍ غريبةٍ، تدور في دائرة التوهّمات والتخيّلات بعيدًا عن إدراك الحقائق، ولا تدري إلى أين سينتهي بها المسير؟ فحتّى لو فرضنا أنّ الفلسفة الرائجة الآن في مجامعنا الدينيّة تحت عنوان «الفلسفة الإسلاميّة» هي نفس فلسفة اليونان القديمة دون أيّ تغيير ولا تحوّل، فهل يكون قبول القضايا المنطقيّة والنتائج العقليّة محتاجًا إلى أمرٍ وإجازةٍ من الشارع؟! فهل تتعلمون مسائل الرياضيّات والهندسة والبناء والطب والفيزياء والكيمياء بإذنٍ من الشـرع؟! هل أُثرت هذه العلوم عن الأئمّة المعصومين؟! 

  • إنّ أكثر مواقف الإنسان حماقةً هي حينما ينكر المسائل العقليّة المبتنية على البرهان والخالية من المغالطة والسفسطة والجدل والخيال، وذلك لأنّ ما 

    1. تعتبر «شبهة ابن كمّونة» من المعضلات العقائديّة التي حيّرت العلماء واستمرّ إعضالها عدّة قرون، حتّى صار يُعبّر عنها ـ كما في أوّل جزءٍ من الأسفار‌ـ بـ «افتخار الشياطين»، ويقول آية الله العظمى الشيخ محمّد الحسين الكاشف الغطاء قدّس سرّه: «سمعنا من أساتذتنا في الحكمة، أنّ المحقّق الخونساري صاحب (مشارق الشموس) الذي كان يلقّب بالعقل الحادي عشـر، قال: لو ظهر الحجّة عجّل الله فرجه لما طلبت معجزةً منه إلّا الجواب عن شبهة ابن كمونة».‌ (راجع:‌جنّة المأوى، ص٣۱٢ وما بعدها)، ولكن في القرن الحادي عشـر، قام الملّا صدر المتألهين الشيرازي بحلّ هذه الشبهة العويصة بعد أن أثبت في بحثه الفلسفي أصالة الوجود،‌ ووحدة الوجود.‌ (م)

حريم القدس - مقالة في السير و السلوك

68
  • يُشكِّل تمام حيثيّة الإنسان الوجوديّة والماهويّة هو القوّة العاقلة والعلم، وهذا الذي يميّزه عن سائر الحيوانات. 

  • الدعوى الثالثة: نقض التفكيكيين بعدم الإجماع على الفلسفة، والردّ عليه

  • الجواب الأوّل: العقل حجيّته ذاتيّة وليس الإجماع؟ 

  • يقولون: المسائل الرياضيّة عليها إجماع العقلاء ولم يخالف فيها أحدٌ من الناس. 

  • والجواب: هل منشأ حجيّة العقل بالإجماع عليه؟! 

  • الجواب الثاني: لماذا القبول بعدم الإجماع في الفقه ورفضه في الفلسفة؟!

  • وعلاوة على ذلك، ألستم تشاهدون الاختلاف في الآراء والتباين في الفتاوى في المسائل الفقهيّة؟! فهلّا أرشدتمونا إلى اثنين من الفقهاء ضمن هذه المدّة البالغة ألفًا وأربعمائة سنةٍ منذ ظهور الإسلام وحتى الآن قد اتّفقا اتفاقًا تامّاً واتحدا برأيٍ واحدٍ في المسائل الفقهيّة؟ والحال أنّ مستند جميع الآراء والفتاوى إنّما يبتني على قضايا الوحي من القرآن والأحاديث الواردة عن الحجج الإلهيّة من الأئمّة المعصومين عليهم الصلاة والسلام، ثمّ حتّى لو كان الراوي قد سمع بنفسه وبشكلٍ مباشرٍ من الإمام عليه السلام، فإنّنا نبقى نحتمل الاشتباه في النقل وتغيير العبارات أو بعض الكلمات الواردة في الخبر والحديث، إلّا أنّنا لا نرتّب على هذا الاحتمال أيّ أثرٍ، بل نعتبره حجّة ونتّبعه.۱

  • الدعوى الرابعة:‌ لا حجيّة إلّا للوحي، والجواب عليه

  • الشيء الوحيد الذي يحوز على الحجّية في المدرسة التفكيكيّة هو كلام الوحي لا غير، ولكن يجب أن يطرح عليهم هذا السؤال: هل أنّ «ثبوت الحجّية 

    1. راجع مبحث حجيّة خبر الواحد في كتب أصول الفقه عند الشيعة.‌ (م)

حريم القدس - مقالة في السير و السلوك

69
  • للمفاهيم المتّخذة من الوحي» يعني: «سلب الحجّية عن غيرها وبطلانها»؟ وأنتم إذا ما أُصِبتم بمرضٍ ما، فهل تقومون بإلقاء الوصفة الطبيّة وبيان كيفيّة استعمال الدواء جانبًا، وتمتنعون عن الالتزام بأوامر الطبيب لمجرد كونها لم تصدر عن الشـرع؟ أم أنّكم تعملون بأوامر الطبيب ـ سواءً كان مسلماً أم غير مسلمٍ ـ وذلك لمجرّد الوثوق والاطمئنان إلى صحّة عمله ومهارته، ملتزمين في هذه المسألة بحكم العقل؟!

  • الدعوى الخامسة: إنكار المكاشفات وحجيّتها والجواب عليها

  • والمُدّعى الآخر من المدّعيات السخيفة والباطلة للمدرسة «التفكيكيّة» هو إنكار الواردات القلبيّة والمكاشفات الروحانيّة والنورانيّة لأصحاب المعرفة والشهود، وإخراجها عن دائرة الحجّية والدلالة. 

  • أوّلًا: رأي مدرسة العرفان في إمكانيّة حصول المكاشفات

  • مقدّمة في كيفية خروج الإنسان من عالم التخيّلات والاعتبارات

  • لا شك أنّ السالك حينما يتقدّم في سيره التكامليّ بشكلٍ واقعيٍّ، يخرج من الجزئيّة والكثرة نحو الكلّية والوحدة۱، وكلّما كانت حركته في هذا السير أقوى وتطوّره في بلوغ المعاني الكلّية أكمل، فإنّ قواه الفكريّة والعقليّة ستكونان أقرب إلى مراتب الفعليّة والإتقان، وسيؤديان إلى خروجه من عالم التخيّلات والتوهّمات والاعتبارات؛ وكما أنّ هذه الحقيقة تحقّقت في «مثاله 

    1. يطلق مصطلحي العلم الكلّي وفي قباله العلم الجزئي على عدّة معانٍ والمراد هنا بالعلم الكلّي: هو العلم الذي لا يتغيّر بتغيّر المعلوم بالعرض، والمراد بالعلم الجزئي هو الذي يتغيّر بتغيّر المعلوم.‌(م)

حريم القدس - مقالة في السير و السلوك

70
  • المتّصل» الذي هو عالم الذهن والتصوّر، فإنّها تترك أثرًا أيضًا على مثاله المنفصل وكذلك على المراتب الأعلى والأرقى كالملكوت وما فوقه؛ بل يُمكننا أن نقول بعبارةٍ أوضحٍ: إنّ تبدّل وتغيّر ذهنه إنّما ينشأ من نفس عالمَي مثاله وملكوته المشار إليهما. 

  • ومن هنا يمكن أن نفهم أنّ المرتبة التكامليّة والمرتبة الوجوديّة لأيّ فردٍ إنّما تتقوّم من طريقة تفكّره وتعقّله وتصوّراته وتصديقاته التي ينطوي عليها ذهنه ونفسه؛ وذلك لأنّ مرتبة الذهن والنفس لا تنفصلان ولا تستقلّان بأيّ وجهٍ من الوجوه عن عالمي مثال النفس وملكوتها، بل إنّ نفس المثال والملكوت الآنفي الذكر ينتقشان ويظهران في ذهنه ونفسه، ولا معنى ههنا للإثنينيّة والاختلاف. 

  • وبمقدار ما يكون الإنسان مكبّلًا بالتخيّلات والكثرات ومأسورًا للاعتبارات، فسوف يكون بعيدًا عن عالم القدس وغريبًا عن رحمة حضـرة الحقّ، كائنًا من كان هذا الإنسان. 

  • جان همه روز از لگدكوب خيال‌***وز زيان وسود وز خوف زوال‌
  • نى صفا مى ماندش نى لطف وفر***نى بسوى آسمان راه سفر۱
  • [يقول: لما كانت الروح في كلّ يومٍ تقع تحت ضغوط الخيال والتفكير في النفع والضـرر وخوف الزوال . 

  • لذا فلا صفاءَ يبقى لها ولا لطفَ ولا جلال، ولا طريقَ لها ترحل منه صوب السماء.]

    1. مثنوي معنوي (طبع كلاله خاور)، الدفتر الأول، ص ۱۱، تحت عنوان: سؤال الخليفة ليلى وجوابها إياه.

حريم القدس - مقالة في السير و السلوك

71
  • ما هي موانع حصول المكاشفات التوحيديّة والتجليّات الجماليّة؟

  • إنّ إدراك الحقائق الكلّية لعالم الوجود مشروطٌ بصفاء النفس وتزكية القلب، ومرهونٌ ببلوغ مراتب التجرّد، وبدون تحصيل هذه المراتب لن تستطيع النفس الرؤية والمشاهدة، بل ستعيش في عالم المثال الأسفل في دائرة الصور البرزخيّة سواءً في النوم أم في عالم المكاشفة الصوريّة في اليقظة. ولا تختصّ هذه الحالة ـ أي حالة العيش في عالم المكاشفات البرزخيّة ـ بالمؤمن المتديّن بالأديان الإلهيّة، بل من الممكن أن تحصل حتّى لغير المعتقدين بالأديان من المرتاضين وغيرهم، بل إنّ الـتأثير على النفوس والتصـرّف بالأرواح والإخبار عن المغيبات والقيام بخوارق العادات أيضاً إنّما تتحقّق بأجمعها في حدود دائرة عالم المادّة. 

  • وأمّا المكاشفات التوحيديّة والجذبات الجماليّة والبوارق الجلاليّة التي توجب انقطاع النفس عن التعلّق بالغير، وحتّى عن تعلّق السالك بنفسه وذاته، فهي إنّما تتجلّى بشكلٍ كاملٍ في عالم التوحيد والنور والتجرّد، وما لم تصل النفس إلى مرحلة التجرّد والانقطاع عن ذاتها من خلال التزكية والتهذيب والمراقبة، فسوف يكون من المحال إدراك هذه المعاني سواءً كان ذلك من خلال المكاشفات التوحيديّة أم بواسطة الرؤية الصادقة أو من خلال إعمال العقل الفعّال في النفس العاقلة للسالك. 

  • ولذلك نرى عظماء الطريق وكبار العرفاء ذوي الشأن الرفيع وفلاسفة الإسلام يعتبرون أنّ مجرّد الاشتغال بالعلوم العقليّة والفلسفيّة ـ دون رعاية جانب تهذيب النفس ومراقبتها وتهذيبها والرقّي بها في مراتب الفعليّة والتجرّد ـ غير كافٍ للتكامل ولا وافٍ بهذا الغرض، كذلك الأمر بالنسبة إلى 

حريم القدس - مقالة في السير و السلوك

72
  • أداء التكاليف الشـرعيّة والقيام بالواجبات دون الالتفات إلى جهتها المعنويّة والباطنيّة، فجميع ذلك لن يُقدّم للمكلّف شيئًا من الترقّي والقرب ولو بمقدار مثقال ذرّةٍ.

  • إنّ الاشتغال بالعلوم الإلهيّة إنّما يكون مستوجبًا للتكامل والرقيّ وفتح باب العوالم الربوبيّة والتوسّط في الإفاضة والإفادة، حينما تكون هذه العلوم توأمًا مع الاتّباع لمفاهيمها ومعانيها وتطبيق نتائجها البرهانيّة والنورانيّة، وفي غير هذه الصورة لن يستفيد الإنسان من هذه العلوم شيئًا ولن تعالج فيه وجعًا، بل سيستوجب ذلك ابتعاد النفس عن عالم التجرّد بشكل أكثر، وستحبس النفس في دائرة الأنانيّة وعبادة الذات، وتتحوّل بنفسها إلى حصارٍ وسجنٍ ذاتيٍّ تتلهّى فيه بمكتشفاتها العقليّة، وتأخذ بالتلذّذ بتلك المعاني والمفاهيم الكامنة فيها فتصير أسيرةً لها. وهذه القضيّة مشهودة بوضوح في طريقة تفكير هذا النوع مِن الأفراد وكيفيّة حركاتهم وسكناتهم وحياتهم وعلاقاتهم مع الآخرين.

  • فالأفراد الذين أصيبوا من خلال العلم والكشف، بهوس العلم وهوس الفلسفة والعرفان، قد أغلقوا في وجههم طريق الوصول إلى هذه الحقائق، ووقعوا في فخّ الانشغال بهذه المفاهيم وصرف العمر على بحثها ودرسها وإقامة الندوات والمؤتمرات حولها، والتأليف والكتابة عنها ونشـرها، وهؤلاء هم أكثر الناس خسـرانًا وأشدّهم عجزًا؛ وذلك لأن حصّتهم ونصيبهم الوحيد من الاشتغال بهذه العلوم هو تضييع العمر الثمين وتفويت فرص الأوقات الذهبيّة، وهدر الاستعدادات وإغلاق نوافذ القلب أمام أنوار جمال حضرة الحقّ وجلاله.

حريم القدس - مقالة في السير و السلوك

73
  • {قُلۡ هَلۡ نُنَبِّئُكُم بِٱلۡأَخۡسَرِينَ أَعۡمَٰلًا ، ٱلَّذِينَ ضَلَّ سَعۡيُهُمۡ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا وَهُمۡ يَحۡسَبُونَ أَنَّهُمۡ يُحۡسِنُونَ صُنۡعًا}۱

  • يقول المرحوم صدر المتألّهين في هذا المجال:

  • «وليُعلم أن معرفة الله وعلم المعاد وعلم طريق الآخرة ليس المراد بها الاعتقاد الذي تلقّاه العامّي أو الفقيه (الذي ليس له نصيب من المعارف الإلهية وحقائق عالم الوجود) وراثةً وتلقّفًا (وتقليدا أعمىً للماضين بدون أيّ تأمّلٍ وتدبرٍ) ، فإنّ المشغوف بالتقليد والمجمود على الصورة لم ينفتح له طريق الحقائق (حقائق عالم ما وراء الطبيعة ومراتب الأسماء والصفات) كما ينفتح للكرام الإلهيين (العظماء من أولياء الله). ولا يتمثّل له ما ينكشف للعارفين المستصغِرين لعالم الصورة واللّذات المحسوسة من معرفة خلّاق الخلائق وحقيقة الحقائق (أولئك العرفاء الذين لم تتعلّق قلوبهم بهذه الدنيا الدنيّة وغضوا طرفهم عن جميع اللذائذ والأهواء النفسانيّة، وما هو بالنسبة لأهل الدنيا عظيمٌ وذو شأنٍ، فهو حقيرٌ ولا قيمة له عندهم، واستعاضوا عن حطام الدنيا وزخارفها بمعرفة الذات المقدّسة للباري فاختاروا الحقّ والحقيقة وسرّ عالم الوجود) ولا ما هو طريق تحرير الكلام والمجادلة في تحسين المرام كما هو عادة المتكلّم (لأنّه يجعل كل همّته ودقّته في الاشتغال بهذه الأمور، وليس له في نفسه أي أثرٍ من معانيها ومفاهيمها، وكما مرّ سابقًا، بدلًا من الإدراك والتلقّي للمعاني ولحقائق العلوم، فإنّه يُتلف وقته في نفس العلم والتحقيق والتفحّص وما يرتبط بذلك من أمثال هذه الأمور) ، وليس أيضًا هو مجرّد البحث البحت كما هو دأب أهل النظر وغاية أصحاب 

    1. سورة الكهف (۱۸)، الآيتان: ۱۰٣ و ۱۰٤.

حريم القدس - مقالة في السير و السلوك

74
  • المباحثة والفكر، فإنّ جميعها {ظُلُمَٰتُۢ بَعۡضُهَا فَوۡقَ بَعۡضٍ إِذَآ أَخۡرَجَ يَدَهُۥ لَمۡ يَكَدۡ يَرَىٰهَاۗ وَمَن لَّمۡ يَجۡعَلِ ٱللَّهُ لَهُۥ نُورٗا فَمَا لَهُۥ مِن نُّورٍ}۱، (وسيبقى طريقه في الظلمات وستبقى أحواله وأقواله ورغبته في عالم الظلمة والأنانيّة).

  • بل ذلك نوع يقينٍ، هو ثمرة نورٍ يُقذف في قلب المؤمن (وبه يميّز الحقّ عن الباطل، والمجاز عن الواقع، والأصل عن الاعتبار، والنور عن الظلمة، والله من الشيطان) بسبب اتصاله بعالم القدس والطهارة وخلوصه بالمجاهدة عن الجهل والأخلاق الذميمة وحب الرئاسة والإخلاد إلى الأرض (و التوجّه إلى عالم المادّة) والركون إلى زخارف الأجساد.

  • وإنّي لأستغفر الله (الرؤوف الغفور) كثيرًا مما ضيّعت شطرًا من عمري في تتبّع آراء المتفلسفة والمجادلين من أهل الكلام وتدقيقاتهم وتعلّم جربزتهم في القول وتفنّنهم في البحث (والحال أنّ أفكارهم غير قائمةٍ على أساسٍ محكمٍ) ، حتّى تبيّن لي آخر الأمر بنورِ الإيمان وتأييدِ المنّان: أن قياسهم عقيمٌ وصراطهم غير مستقيمٍ، فألقينا زمام أمرنا إليه وإلى رسوله النذير المنذر، فكلّ ما بلغنا منه آمنّا به وصدّقناه ولم نحتل أن نخيّل له وجهًا عقليًّا ومسلكًا بحثيًّا،(ولم نسلك بذلك ما سلكه أهل الجدل من تغييرٍ وتوجيهٍ لكلماته عليه السلام) بل اقتدينا بهداه وانتهينا بنهيه امتثالًا لقوله تعالى{وَمَآ ءَاتَىٰكُمُ ٱلرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَىٰكُمۡ عَنۡهُ فَٱنتَهُواْۚ}٢، حتّى فتح الله على 

    1. سورة النور (٢٤)، ذيل الآية ٤۰.
    2. سورة الحشر (٥٩)، مقطع من الآية ۷.

حريم القدس - مقالة في السير و السلوك

75
  • قلبنا ما فتح، فأفلح ببركة متابعته (الله ورسوله) وأنجح (بنيل السعادة الأبديّة) ...»۱.

  • متى تحصل المراتب العرفانيّة؟

  • إنّ بُلوغ هذه المراتب ـ وحتّى ما هو أعلى منها ممّا حصل لصدر المتألهين وسائر العرفاء الإلهيّين ـ إنّما يتمّ على إثر تهذيب النفس وتجرّد الروح، والتربية السلوكيّة والرياضات الشـرعيّة، وبسبب المداومة على الأذكار والأوراد، والابتعاد عن الدنيا وعالم النفس والخيال والكثرة، بالإضافة إلى الانعزال عن عوام الناس والجهّال ممّن وُصِفوا بالعلماء، وعن عديمي العقول والمخالفين للسير والسلوك إلى الله، وبالاشتغال بالنفس وأعمالها وأقوالها وعقيدتها، فضلًا عن التوسّل بالولاية ووساطة أهل البيت سلام الله عليهم أجمعين. 

  • ثانيًا: الإشكال والنقض على إنكار المكاشفات

  • في المدرسة التفكيكيّة العابثة والتي تفتقد إلى الأساس، لا وجود لأيّ مرتبةٍ أو منزلةٍ لحركة السالك والمؤمن نحو العالم الربوبيّ وانكشاف حقائق عالم الوجود، وكأنّه لا قيمة للروايات التي تدلّ على اختلاف مراتب الصحابة وأصحاب النبي والأئمّة المعصومين عليهم السلام!

  • وحينئذٍ يُطرح هذا السؤال: ما معنى كلام رسول الله صلى الله عليه وآله حين يقول: «لَوْ عَلِمَ أَبُوْ ذَرٍّ بِمَا فِيْ قَلْبِ سَلْمَانَ (من الأسرار والمعاني) لَكَفَّرَهُ أَوْ 

    1. الحكمة المتعالية في الأسفار العقلية الأربعة، ج۱، ص ۱۱ و ۱٢.

حريم القدس - مقالة في السير و السلوك

76
  • قَتَلَهُ»۱ ؟ كيف لا يُطيق أبو ذرٍّ سماع المدركات والمشاهدات التي في قلب سلمانَ مع ما له من مقامٍ ومنزلةٍ رفيعةٍ في الإيمان والقرب؟

  • وكذا الحال في أصحاب الأئمّة؛ مثل: ميثم التمّار، ورشيد الهجري، وحبيب بن مظاهر الأسدي، وجابر بن يزيد الجعفي، ومعروف الكرخي وبشر الحافي، وسائر أصحاب سرّ أهل بيت العصمة ومحط أسرارهم، فلماذا امتاز هؤلاء عن سائر أصحاب الأئمّة؟ ولماذا لم تكن المشاهدات والمكاشفات والمعاني الواردة على قلوب هؤلاء قابلة للتحمل والقبول؟ فهل إدراك هذه المعاني واكتشاف هذه الأسرار كان منحصـرًا فيهم فقط وفقط؛ بحيث يمتنع حصوله للعظماء والأولياء الإلهيين في عصـر الغيبة؟! وهل يختلف عصـر الغيبة عن عصـر الحضور بالنسبة إلى الإمام عليه السلام؟!

  • ثالثًا: كيف نعرف أنّ مكاشفات العرفاء مطابقة لمدرسة أهل البيت؟

  • إن قيل: إنّ المشاهدات التي شاهدها هؤلاء الأصحاب أو أدركوها بالمكاشفات المعنويّة كانت متطابقةً مع مباني ومعتقدات مدرسة أهل البيت، وهذا الأمر ليس محرزًا بالنسبة إلى سائر الأفراد. 

  • فالجواب: كيف يُمكن لعالم عظيم الشأن كالسيّد ابن طاووس أو السيّد مهدي بحر العلوم أو السيّد علي الشوشتري الذي استلم مجلس درس الشيخ الأنصاري بعد وفاته لمدّة ستة أشهرٍ وكان درسه على أحسن وجهٍ وأفضل 

    1. الكافي، ج ۱، ص ٤۰۱، باب فيما جاء أن حديثهم صعبٌ مستصعبٌ.

حريم القدس - مقالة في السير و السلوك

77
  • نحوٍ وأكمله، أو المرحوم الأخوند ملا حسين قلي الهمداني أستاذ الشيخ الأنصاري في الأخلاق۱ والمرحوم السيّد أحمد الكربلائي، وأستاذ الكلّ في الكلّ آية الله السيّد علي القاضي، والعلاّمة الطباطبائيّ والعلاّمة الطهرانيّ، والذين كانوا جميعهم من الفُقهاء العظام وأصحاب المقام العالي وأبطال ميدان التحقيق والتدقيق والمشار إليهم بالبنان من حيث الغزارة العلميّة والنبوغ الفكري، كيف يُمكن أن يُتوقّع من هؤلاء أن تكون مشاهداتهم ومكاشفاتهم على خلاف موازين ومباني الشـريعة، و لا يحصل لهم إطلاع على صحّتها وسقمها؟!

  • وكيف يكون استنباط مجتهدٍ عاديٍّ موردًا للقبول وحائزًا على الحجيّة؟ أمّا العلم واليقين بصحّة المدركات والواردات القلبيّة والمكاشفات 

    1. كان الشيخ الأنصاري قدّس سرّه يتردّد زمن حياته على السيّد علي الشوشتري قدّس سرّه بنحوٍ منتظمٍ، وكان يأخذ منه الدستور السلوكي، و من ناحيةٍ أخرى كان السيّد علي الشوشتري يحضر درس المرحوم الشيخ مرتضـى الأنصاري من باب الأدب والاحترام لا من باب الدراسة، ولكنّه لم يكن ينبس ببنت شفة أثناء الدرس، وكان أغلب الحضور لا يعرفون من هو هذا السيّد، إلّا أنّهم كانوا يرون كيف كان الشيخ الأنصاري يقدّره ويحترمه، وبعد ارتحال الشيخ، جاء بعض الأفراد الذين كانوا مرتبطين بالشيخ الأنصاري قدّس سرّه، وكانوا يعرفون في الوقت ذاته مقام السيد علي الشوشتري إلى السيد، وطلبوا منه أن يحلّ مكان الشيخ ويكمل الدرس. 
      وكان من بين تلامذة الشيخ الأنصاري الذين يحضرون درسه الآخوند المولى حسين قلي الهمداني حيث كان يدرس عنده ويستفيد من درسه في الفقه والأصول، وكان الآخوند الهمداني من تلامذة السيّد علي الشوشتري السلوكيّين أيضًا، وقد أوصى السيّد علي الشوشتري الشيخَ الأنصاريَّ وأمره في ذلك الزمان ضمن توصياته له بأن يرجع إلى الشيخ حسين قلّي الهمداني ويراوده ويستفيد منه، ومن هنا يمكن القول: إنّ الشيخ حسين قلّي كان أستاذًا سلوكيًّا للشيح الأنصاري في نفس الوقت الذي كان تلميذًا له في الفقه والأصول، وكان الأستاذ السلوكي والواقعي لكليهما في نفس الوقت هو السيّد علي الشوشتري قدّس الله أسرارهم جميعًا. (م)

حريم القدس - مقالة في السير و السلوك

78
  • المعنويّة لهكذا مستوى من أعاظم الفقهاء وأكابر الحكماء؛ كصدر المتألهين الشيرازي وأستاذه الميرداماد والشيخ البهائي وغيرهم فيكون فاقدًا لأيّ نوعٍ من القيمة وملاك الحجيّة؟!

  • رابعًا: ملاك حجيّة الشهود والمكاشفة

  • إن قيل: إنّ ملاك حجيّة فتوى الفقيه هو استناده إلى كلام المعصوم عليه السلام، وأمّا في شهود أهل العرفان ومكاشفات الأولياء الإلهيين فلا يُوجد مثل هذا الاستناد، بل تقوم فقط على الواردات وإدراك الصور والمعاني المرتسمة في النفس، ولذلك من الممكن أن تكون مشوبةً بالاشتباه؛ لأن حضور الصور والمعاني في نفس الإنسان غالبًا ما يكون على أساسٍ من التخيّل والتوهّم وخلق النفس بدون استناد إلى أصلها أو اتكاء على مبدئها العِلِّي، ولذلك لم يقبل عظماء أهل المكاشفة والشهود بأيّ مكاشفةٍ، ولم يظن أحدٌ منهم أن أيّ إدراكٍ لصورةٍ أو معنىً هو منطبقٌ مع الحقيقة والواقع.

  • وجواب هذا الكلام: إنّه بالرغم من كون احتمال الاشتباه في الواردات القلبيّة واردًا بالنسبة إلى جميع الأفراد، إلّا أنّ تطبيقها على مصادر الوحي ومباني التشيّع وأحاديث أهل البيت عليهم السلام والأصول المسلّمة للحكمة المتعالية سينفي بنحوٍ قطعيٍّ احتمال الخطأ، وسيحصل السالك في هذه المرتبة على كشفٍ يقينيٍّ واعتقادٍ جازمٍ، وإذا كان هناك احتمالٌ للخطأ في بعض موارد الشهود، أو اشتباه في الكشف المعنوي، فلا ينبغي ترك الاحتياط فيها، كما هو الحال في السلوك الفقاهتي عند الشكّ والتردُّد؛ إذ لا بدّ من التوقّف حينئذٍ في الفتوى والاحتياط في العمل.

حريم القدس - مقالة في السير و السلوك

79
  • خلاصة الإشكالات على المدرسة التفكيكيّة

  • وحاصل الكلام: أنّ المدرسة التفكيكيّة بإقصائها للبراهين العقليّة وعدم استخدام القوة العاقلة في كشف المعضلات وإدراك الكلّيات، قد حكمت على هذه الموهبة الإلهيّة العظيمة بالبطلان وعدم الصواب في اكتشاف الحقيقة من الباطل، وألقت بها في بوتقة النسيان، كما أنها بإنكارها الواردات القلبيّة وشهود أهل المعرفة والعرفان الإلهي قد قطعت السبيل بنحوٍ كاملٍ أمام الوصول إلى عالم الحقائق والمجرّدات، وسدّت الطريق نهائيّاً في وجه أسرار عالم الوجود والإفاضات النوريّة والروحانيّة من جانب حضـرة الحق؛ مع أنّ النصوص الواردة عن أولياء الشـرع وحملة راية مدرسة الوحي في الميادين الاجتماعيّة والعِباديّة والاعتقاديّة المختلفة تمتلك ـ كما مرّ ـ مراتب مختلفةٍ من المعنى والفهم والإدراك والمعرفة، وسيكون الوصول إليها أمرًا محالًا وممتنعًا فيما لو لم يتمّ الاستعانة بالمباني القيِّمة للفلسفة والحكمة المتعالية ومفاهيم العرفان النظري والسلوك القلبي.

  • والنتيجة: أنّ المباني المختلقة لهذه المدرسة والأسس الموهومة التي تقوم عليها، مردودةٌ قطعًا من وجهة نظر الشـرع الإسلامي المقدّس ومدرسة أهل بيت العصمة الأصيلة، وسوف يَضِلّ أتباعها ويتيهون في وادي الضلالة والحيرة.

  • ترسم نرسى به كعبه اى اعرابى‌ *** كاين ره كه تو مى روى به تركستان است۱
  • [يقول: أخشى أن لا تصل إلى الكعبة أيها الأعرابى؛ فإنّ هذا الطريق الذى تسلكه يؤدّى إلى بلاد الترك‌].

    1. گلستان سعدى (فارسى)، باب دوم در اخلاق درويشان

حريم القدس - مقالة في السير و السلوك

80
  • أثر الإخلاص في السير والسلوك: تصحيح المسار الخاطئ

  • والمسألة المهمّة في المقام هي أنّه لما كان ظهور حقيقة التوحيد والذات بالصرافة لحضـرة الأحد جلّ وعلا سيتحقق في عالم الكثرة بواسطة مقام إرادته ومشيئته (والذي يسمّى في الاصطلاح بمرتبة الولاية والسيطرة على عوالم الوجود والتعيّنات الجزئية) ، فلن يكون طريق الوصول إلى المعارف الإلهية والمعرفة الحقيقيّة لذات الله ممكنًا إلّا بالاستمداد من أهل بيت الوحي والتوسّل بذيل ألطافهم وعناياتهم، وكذلك الحركة نحو الرشد والتجرّد والتكامل الإنسانيّ إنّما تتمّ برعاية تلك الذوات المقدّسة من خلال مجرى فيض نفوسهم القدسية.

  • وإذا ما سار السالك في طريق التجرّد وتهذيب النفس وكان غافلًا في البداية عن هذه الحقيقة، فحتّى لو كان متديِّناً بدينٍ ومذهبٍ مغايرٍ لمذهب أهل البيت عليهم السلام، فلا بدّ وأن يلتفت أثناء سيره وطيّه الطريق إلى هذه المسألة، وبمعونة الأئمة المعصومين عليهم السلام سيعتنق مذهب التشيّع.

  • وفي هذا المجال يقول الأستاذ الفريد في السير والسلوك العملي؛ العارف الكامل والفقيه العالي المقام حضرة آية الحقّ السيّد علي القاضي الطباطبائيّ:

  • «من المحال أن يصل السالك إلى أي مقام دون الاستمداد من الذوات المقدّسة للمعصومين عليهم السلام، وإذا ابتلي بخطأ في بداية المسير، فلا شكّ أنه سيهتدي إلى الطريق الصحيح والصراط المستقيم بمعونة أئمة الهدى وعنايتهم».

  • ولا شكّ أنّ هذا الأمر إنّما يحصل للسالك عندما يكون سيره وحركته على أساس الصدق وفي طريق الخلوص بنحوٍ دائمٍ، وكانت هذه المسألة الحيويّة والمُهمّة نصب عينيه في جميع مراحل السلوك والمعرفة.

حريم القدس - مقالة في السير و السلوك

81
  • من هنا يقول ابن الفارض العارف المصري الكبير:

  • ذهب العمر ضياعًاوانقضى ‌***باطلًاإذ لم أفز منكم بشى‌
  • غير ما أوتيت من عَقدِى وِلا***عترة المبعوث من آل قصى۱
  • هدف مدرسة العرفان هو التوجّه إلى حضرة الحقّ وحسب 

  • إنّ مدرسة العرفان التي بمعنى المعرفة الحقيقيّة لذات الحقّ لا تُعنى بسائر الأمور من الكرامات والأمور الخارقة للعادة والملفتة للانتباه، بل هي تبتني وترتكز على انكشاف أسرار حقيقة الوجود فقط، وذلك من خلال اتّباع شـريعة الإسلام والاقتداء بسنّة أهل بيت النبيّ صلّى الله عليه وآله ومنهجهم، أمّا المدارس والمناهج الأخرى فهي مشغولةٌ بخوارق العادات سواءً كانت من قبيل الإخبار بالغيب أم الاطلاع على النفوس أم كشف أسرار عالم المادّة والخواص المادّية للأشياء، أم تحصيل المال وحطام الدنيا والحصول على علم الكيمياء وأمثاله، أم حتّى المعرفة الظاهريّة بإمام العصـر ـ عجل الله تعالى فرجه ـ وتعيين زمان ظهوره وتوجيه الناس في هذا الاتجاه، أم القيام بطيّ الأرض وسائر الأعمال الخارقة.

  • إنّ كبار العُرفاء وأهل التوحيد يَعدّون توجّه السالك إلى غير الله المتعال سببًا لخسرانه وهدرًا لرأسمال عمره وتبديلًا لجوهر الوصل النادر الوجود بالأحجار الرخيصة الحقيرة.

  • واللافت للنظر في هذا الشأن، هو أنّ انتساب جماعةٍ من أهل الدنيا إلى مدرسة العرفان صار سببًا لسوء ظنّ الكثيرين بأهل التوحيد والمعرفة، فقد 

    1. ديوان ابن الفارض، ص ٣٦

حريم القدس - مقالة في السير و السلوك

82
  • صار هؤلاء سببًا لإساءة النظرة إلى مدرسة العرفاء وعقيدة الأولياء الإلهيين بسبب تغييرهم لملامحهم الظاهريّة مع تعلّمهم لبعض المصطلحات من أهل العرفان، والتظاهر بالزهد والانعزال عن الخلق، بل وبتركهم الآداب الشـرعيّة وعدم رعايتهم التكاليف والأحكام الظاهريّة غالبًا.

  • التصوّف أم العرفان؟

  • أوّلًا: علاقة التصوّف بالعرفان

  • لقد اختلف مصطلح «الصوفيّ» في الثقافة الشـرقية هذه الأيام عن مصطلح «العارف»، وخصوصًا عند الناطقين باللغة الفارسيّة.

  • لكنّ حقيقة «العِرفان» و «التصوُّف» واحدةٌ، وهي الإدراك الشهوديّ لذات الحقّ المقدّسة، وكشف خفِيّات عالم الوجود ببصيرةِ القلب والعلم الحضوريّ، وقد كان هذا النهج والمسلك شائعًا ومتحقّقًا ـ منذ زمن رسول الله وخلال مدّة ولاية أهل البيت عليهم السلام ـ بين مجموعةٍ من خواصّ أصحابهم؛ مثل: سلمان الفارسي، وأويس القرني، والمقداد بن الأسود، وميثم التمار، ورشيد الهجري، وحبيب بن مظاهر الأسدي، وجابر بن يزيد الجعفي، ومحمّد بن مسلم، وبِشـر الحافي، وأبو يزيد البسطامي، ومعروف الكرخي، وسريّ السقطي،‌ وأمّا بعد زمن الحضور ـ أي في عصـر الغيبة إلى زماننا هذا ـ‌ فقد تحقّقت في أمثال: الخواجة شمس الدين حافظ الشيرازي، وشمس المغربي، وشاه نعمة الله ولي، وأبو سعيد أبو الخير، والشيخ محمود الشبستري، ومولانا جلال الدين محمّد البلخي، والشيخ العطار النيشابوري، ومحيي الدين ابن عربي، وابن الفارض المصـري، والسيّد مهدي بحر العلوم، والسيّد علي الشوشتري، و[أستاذه] النسّاج، والآخوند ملا حسين قلي الهمداني، والشيخ 

حريم القدس - مقالة في السير و السلوك

83
  • محمّد البهاري، والسيّد أحمد الكربلائي، والسيّد جمال الدين الگلبايگاني، والسيّد علي القاضي، والعلّامة الطباطبائيّ، والسيّد حسن المسقطي، والسيّد هاشم الحدّاد، والعلّامة السيّد محمّد الحسين الحسيني الطهرانيّ.

  • وهناك الكثير من نخب المعرفة والتوحيد حتماً؛ كالمرحوم الآخوند ملا محمّد جعفر كبوتر آهنگي، والسلطان محمّد الجنابذي، والمرحوم الأنصاري الهمداني، وآخرين ممن لا يسع المجال في هذه الرسالة لذكرهم جميعًا.

  • اتحاد حقيقة العرفان والتصّوف في كلمات السيّد القاضي

  • يقول المرحوم العلاّمة الطهرانيّ عن أستاذ الأخلاق الأوحد السيّد علي القاضي

  • «كان السيّد علي القاضي يتمتّع بالجهتين العِلميّة والعِرفانيّة، أي إنّه كان فقيهًا عظيماً وعالماً جليلًا في العلوم الفقهيّة الظاهريّة، كما كان عارفًا واصلًا وإنسانًا كاملًا، طوى الأسفار الأربعة في العلوم الباطنيّة، وقد قاده جمعه بين الظاهر والباطن، والشـريعة والطريقة بكلّ ما للقيادة من معنى إلى وادي الحقيقة واقعًا.

  • وكان ينتقد العلماء الذين يشتغلون على الدوام بكتابة المصنّفات الظاهريّة وأبحاث أصول الفقه المفصّلة والتي لا طائل منها، في حين كانت تبقى أيديهم خاليةً من المعرفة، وكان يُقبِّح هذه الطريقة في نظر تلاميذه.

  • وفي الوقت نفسه كان يعارض ويحارب بشدّة الدراويش والمتصوّفة الذين لا يُعيرون أهمّيةً لظاهر الشـريعة، ويقول: «إنّ سلوك طريق الله مع عدم الاعتناء بالشـريعة ـ التي هي نفس الطريق ـ هو جمع بين المتضادين أو المتناقضين».

حريم القدس - مقالة في السير و السلوك

84
  • وهو نفسه كان يهتم بإتيان المستحبّات وترك المكروهات إلى حدٍّ صار مَضربًا للمثل بهذا الأمر في النجف الأشرف، حتّى أنّ بعض المعاندين وعديمي البصيرة ، الذين لم يكن لديهم القدرة على تحمّل هذا النور وتلك الحقيقة، ممّن يجدهم الإنسان متمركزين في الحوزات العلميّة دائمًا وخصوصًا في النجف، والذين لا يألون جهدًا في تشويه الصورة الحقيقيّة للعارف الجليل والإنسان النزيه إلّا ويبذلونه من خلال إلقاء التهم، فكانوا يقولون: إنّ هذه الدرجة من الزهد والعبادة والالتزام بالمستحبّات وترك المكروهات هي لخداع الناس ووضع الشبهات في طريقهم، وإلّا فهو مجرّد رجلٍ صوفيٍّ لا يعتقد ولا يلتزم بشيء!!

  • وفي أحد الأيّام، وفي مجلسٍ عظيمٍ يضمّ العديد من المراجع وعلماء الفقه والحديث ـ وكان من جملتهم المرحوم آية الله السيّد أبو الحسن الأصفهاني والآغا ضياء الدين العراقي وآخرون ـ وقد دار بينهم أطراف الحديث وجرى أخذٌ وردٌّ، فقال المرحوم السيّد القاضي بصوت مرتفع بحيث يسمعه الجميع: «نِعمَ الرجل أن يكون فَقيهًا صُوفيًّا»، وقد بقيت هذه العبارة من كلمات السيّد القاضي كالأمثال التي تُضـرب؛ فالفقيه يعني: العالم بالشـريعة والأحكام، والصُوفيّ يعني: العالم بطرق النفس الأمّارة، وبطرق النجاة من شراك الشيطان، وكيفيّة محاربة المشتهيات النفسيّة ومواجهتها من أجل رضا الربّ المحمود والمنان ذي الطَوْل والإحسان»۱ـ انتهى كلام العلاّمة الطهرانيّ .

    1. مطلع أنوار (فارسي)، للعلاّمة الطهرانيّ رضوان الله عليه، ج٢، ص٥٤؛‌ و مهر تابناك (فارسي)، ج۱، ص ٢۸٣.

حريم القدس - مقالة في السير و السلوك

85
  • إنّ مذهب وطريقة هؤلاء العرفاء بالله والأولياء الإلهيّين ينحصر فقط في معرفة ذات الحقّ بالشهود والإدراك القلبيّ، حيث نالوا معرفة ذات الله واتّخذوا من حريم القدس مأوىً لهم، وذلك من خلال العبور من مراتب النفس والإعراض عن اعتبارات عالم الدنيا ورفض جميع الأنانيّات وشوائب النفس الأمّارة وطيّ مدارج الجمال والجلال والعبور من عوالم الظلمة والحجب النوريّة، وقد دعوا الآخرين إلى تلك المعرفة.

  • من كه ملول گشتمى از نفس فرشتگان‌ *** قال ومقال عالمى مى كشم از براى تو۱
  • [يقول: أنا الذى صرت ملولًا من أنفاس الملائكة والحديث معهم، تحمّلت لأجلك كلام الناس وأذاهم‌].‌

  • ذلك المقام الذي يقول عنه رسول الإسلام الأكرم: 

  • «لِيْ مَعَ اللهِ وَقْتٌ لَا يَسَعُنِيْ مَلَكٌ مُقَرَّبٌ وَلَا نَبِيٌّ مُرْسَلٌ»٢.

  • أو كما يقول المرحوم السيّد هاشم الحدّاد

  • «نحن في مقام لا يقدر جبرائيل على الدنو منه، وإنّه عاجز عن إدراك مرتبتنا الوجوديّة».

  • اگر ذره اى زين نمط بر پرم‌***فروغ تجلى بسوزد پرم‌٣
    1. ديوان حافظ الشيرازي، ص ٣۱۸
    2. بحار الأنوار، ج ۷٩، ص ٢٤٣، تفسير الصافي، ج ۱، ص ۱۱۸، كشف الخفاء، للعجلوني، ج ٢، ص ۱۷٣، فيض القدير شرح الجامع الصغير، للمناوي، ج ٤، ص ۸.
    3. بوستان سعدى (فارسي)، المقدّمة، ص ۱٦.
      اگر يك سر مو برتر پرم‌***فروغ تجلى بسوزد پرم‌
      يقول: لو اقتربت مقدار شعرةٍ إلى الأعلى لأحرقت ريشي أنوار التجلّي

حريم القدس - مقالة في السير و السلوك

86
  • [يقول: لو تقدّمْتُ أکثر من ذلک مقدار ذرةٍ، لأحَرَقتْ أنوارُ التجلّي رِيشي].

  • ولا يخفى أنّ هذا العبد قد قام إلى حدٍّ ما بتوضيح بعض الأمور المتعلّقة بمرتبة العرفاء الإلهيين وخصوصيّاتهم وآثارهم في المجلّد الثاني من كتاب «أسرار الملكوت». 

  • ثانيًا: الصوفيّ صِنفان:‌ مخلص أو محتال

  • ومع ذلك فقد ظهر في زمان الأئمّة عليهم السلام بعض المرائين والمخادعين والماكرين؛ أمثال سفيان الثوري، وجمعوا الناس حولهم، مقابل مدرسة أهل بيت الوحي والطهارة، وقد هيّؤوا لعوامّ الناس أرضيّة الانحراف والاعوجاج، من خلال التظاهر بالعزلة والزهد والإعراض عن الدنيا، وشوّهوا اسم الصوفي والأصحاب الواقعيين لهذه المدرسة من خلال إطلاق اسم «الصوفيّة» على أنفسهم، وقد استمرّت هذه الحالة على مرّ التاريخ؛ حيث لم يخل هذا المسـرح من كلا الصنفين: أهل التوحيد والشهود، وأهل الاحتيال والمكر وعبادة الدنيا.

  • ويطلق حافظ الشيرازي اسم الصوفيّ على السالك النزيه والسائر مسير الحرم الإلهي قائلاً:

  • صوفي ار باده به اندازه خورد نوشش باشد *** ورنه انديشه اين كار فراموشش باد ۱
    1. ديوان حافظ الشيرازي، ص ۸٢
      «الخمر» في اصطلاح العرفاء قد يُذكر كنايةً عن البارقات والنفحات القدسيّة التي تنزل على قلب الإنسان، والتي توجب السكر الروحاني والسكر المعنوي لا السكر المادي القبيح، وتقطع بالتالي ارتباطَ الإنسان وعلاقته بالدنيا، وتجعل الإنسان يخرج من عالم الكثرة، ويزداد تعلّقه بالله تعالى، وهذه هي حقيقة «الخمر» عندهم.
      ومراد «حافظ» هنا في هذا الشعر: أنّ الصوفي إذا عرّض نفسه للتجلّيات الجماليّة والنفحات القدسيّة بحدٍ ومقدارٍ معتدلٍ منها، بحيث لا يخرج عن الحالة العاديّة، فهنيئًا له، وهذا مُراده بقوله «بمقدار»، وأمّا لو أنّه لم يفعل ذلك بل أراد أن يعرّض نفسه لمقدارٍ أكثر من المقدار المتناسب مع سعته و تحمّله من التجلّيات والنفحات والبارقات الجماليّة، فإنّ ذلك يُسبّب له الخروج عن طوره وفقدان السيطرة على نفسه وتجاوز حدّ الاعتدال، وذلك يمكن أن يسوقه للقيام بأعمالٍ وتصرّفاتٍ غير طبيعيّةٍ، ولذا فإنّ حافظ يقول: إنّ هذا التصرّف غير صحيحٍ؛ لأنّه ينبغي على الإنسان أن يكون معتدلًا في مسائل الكمال والاستفاضة، وأن تكون مسألة التجلّيات موزونةً ومحسوبةً بالدقّة!

حريم القدس - مقالة في السير و السلوك

87
  • [يقول: فليهنأ الصوفيّ إذا شَرِب مقدارًا من «الخمر»، وإلّا فعليه أن يترك هذا العمل ولينسه].

  • أو كما يقول في موضعٍ آخر:

  • سحرگه رهروى در سرزمينى‌***همى گفت اين معما با قرينى‌
  • كه از صوفي شراب آنگه شود صاف‌***كه در شيشه برآرد اربعينى‌۱
  • [يقول: في وقت السحر؛ كان «سالكٌ» في بلدٍ من البلاد يحكي هذا اللغز لواحد من أقرانه!! 

  • قال: يا أيّها الصوفيّ، إنّما الشـراب يصبح صافيًا عندما يبقى «أربعینًا» في زجاجته!!]

  • لکنّه يحمل بشدّة على من يقف مقابل هؤلاء الأفراد من أهل النِفاق والمكر والخداع، الذين يَظهر عليهم الصلاح والسير والسلوك، فيقول:

  • نقد صوفي نه همه صافي بى غش باشد***اى بسا خرقه كه مستوجب آتش باشد
    1. نفس المصدر، ص ٣۷٦.

حريم القدس - مقالة في السير و السلوك

88
  • خوش بود گر محك تجربه آيد بميان‌***تا سيه روى شود هر كه در او غش باشد
  • [يقول: ليس «نقد» الصوفي جميعه صافيًا نقيًا وما أكثر «الخرق» التي تستحق أن تأكلها النيران!! 

  • وحبّذا لو يأتي محكّ التجربة، لكي يَسوَدَّ وجه كلّ كاذبٍ منافقٍ غشّاشٍ].

  • ويقول أيضًا:

  • صوفي نهاد دام وسر حقه باز كرد***بنياد مكر با فلك حقه باز كرد
  • بازى چرخ بشكندش بيضه در كلاه‌***زيرا كه عرض شعبده با اهل راز كرد
  • فردا كه پيشگاه حقيقت شود پديد***شرمنده رهروى كه عمل بر مجاز کرد
  • حافظ مكن ملامت رندان كه در ازل‌***مارا خدا ز زهد ريا بى نياز كرد
  • [يقول: لقد نصب الصوفيّ فخًا وأعدّ الأوعية؛ يُريد المكّار أن يُخادع الأفلاك.

  • إنّ مكر السماء سيغلبه، لأنّه يُمارس الشعوذة على أهل السرّ.

  • وغدًا عندما يظهر مقام الحقيقة، سيخجل الذي بنى عمله على المجاز.

  • لا تلم يا حافظ المحتالين؛ وذلك لأنّ الله جعلنا من الأزل أغنياء عن زهد الرياء والدجل].

  • ثالثًا: متى يكون العرفان والتصوّف شيئًا واحدًا؟

  • ولذا يرى العديد من أهل الفن أنّ مِصداق هذين العنوانين (العارف والصوفي) واحدٌ؛ وذلك بمعنى أنّ المراد من «العرفان» إن كان هو الإدراك الشهوديّ لذات الحقّ المُقدّسة والفناء بالله والبقاء بالله، فإنّ إطلاق لفظة 

حريم القدس - مقالة في السير و السلوك

89
  • «العارف» و«الصوفي» و «الدرويش» على الشخص الواجد لهذا المقام، هو إطلاقٌ حقيقيٌّ وواقعيٌّ، وإن كان المقصود: هو مجرّد حفظ أحد الأفراد لبعض المصطلحات وقيامه ببعض الأوراد والتظاهر بالزهد والاعتزال والاعتراض على العُلماء والكبار من صالحي الشـريعة، فإنّ العناوين الثلاثة تطلق أيضًا على المنحرف المتظاهر بهذه الأمور ولكن بنحوٍ مجازيٍّ أو من باب الخطأ والاشتباه.

  • إطلاق لقب «الصوفيّ» على بعض العرفاء توهينًا

  • يُحكى أنّ جماعةً من المعمّمين من أهل الظاهر كانوا ينسبون إلى المرحوم آية الله العارف الكامل ومُرّبي الأخلاق أستاذ الكل الآخوند الملّا حسين قُلّي الهمداني تُهماً مُشينةً، وكانوا يحاولون إيذاءه، حتّى سمّوه باسم «الصوفي» في رسالة كتبوها إلى المرحوم الشـربياني مرجع التقليد في ذلك الزمان، فقال المرحوم شـربياني في جوابهم: 

  • «إذا كان الصوفيّ هو ما يمثّل مصداقه شخصيّةٌ مثل الآخوند [الهمداني] ، فأسأل الله تعالى أن يجعلني من الصوفيّة أيضًا».

  • وكذلك بعد وفاة المرحوم آية الله العارف الواصل الشيخ محمّد جواد الأنصاري الهمداني، صار بعضهم يُسمّيه صوفيّاً، وقد سعوا إلى محق الشخصيّة العلميّة والروحيّة لذلك الوليّ الإلهيّ وتدميرها، عند ذلك قام المرحوم آية الله الآخوند الملّا علي الهمداني، والذي كانت له رتبة المرجعيّة في ذلك الوقت، وكتب في إعلانه عن مجلس الفاتحة الذي أقامه عن روحه: «إِذَا مَاتَ العَالِمُ ثُلِمَ فِيْ الإِسْلَامِ ثَلْمَةٌ لَا يَسدُّهَا شَيءٌ»۱.

    1. المحاسن للبرقي، ج۱، ص ٢٣٣؛ ‌الإرشاد للشيخ المفيد، ج۱، ٢٣۰؛ بحار الأنوار، ج٢، ص ٤٣، ح ٩، الباب ۱۰، حق العالم. 

حريم القدس - مقالة في السير و السلوك

90
  • أي: إذا مات عالمٌ من سالكي طريق الهداية ومذهب أهل بيت العصمة (أولئك الذين يقول الإمام الصادق عليه السلام في وصفهم: «أَنْتُمْ وَاللهِ نُوْرٌ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ»۱ ثُلم في الإسلام ثلمةٌ لا يسدّها شيءٌ.

  • وحيث أنّ محور هذه المقالة هو لزوم السير والسلوك إلى الله وضرورته، وكذلك بيان أنّه بدون توجّه النفس إلى حقائق الأفعال والعبادات فلن يحصّل الإنسان أيّ مرتبةٍ أو منزلةٍ من خلال أدائه لتلك العبادات، وكذلك التأكيد على أنّ متابعة الإنسان للأستاذ الكامل والعارف الواصل هو أصلٌ مسلّمٌ في الترقي والتكامل لا يتبدّل ولا يتغيّر؛ لذا فإنّ التحقيق في مسألة «العرفان» و «التصوّف» موجبٌ لتطويل البحث بلا طائلٍ، وسيؤدي إلى الخروج عن الهدف المرجوّ منه؛ ولذا نكتفي بهذا المقدار من التوضيح في هذا المجال، ولكن ما يراه الكاتب ـ وإن كانت كلمات الأعاظم مختلفةٌ في هذه المسألة ـ هو نفس ما تقدّم، وأنّه لا فرق بين مصداقي هذين العنوانين؛ سواءً مصداق الفرد الكامل والسالك الواصل منهما، أو مصداق الفرد المتظاهر المرائي.

  • بعض مميزات منهج العرفان 

  • أوّلًا:‌ ضرورة استثمار العمر بأفضل و‌جهٍ ممكنٍ

  • إنّ ما يُستفاد من مجموع الكتب السماويّة ـ وخصوصًا الآيات القرآنيّة الشريفة والأحاديث المنقولة عن أولياء الأمر المعصومين عليهم السلام، وكذلك البيانات الراقية للعرفاء والأولياء الإلهيّين، وأيضًا ما يَعترف به الوجدان والفطرة الإنسانية ـ هو أنّ وجود الإنسان النازل إلى عالم المادّة 

    1. الكافي، ج۸، ص ٢۷٥.

حريم القدس - مقالة في السير و السلوك

91
  • والدنيا من مقام ذاتِ حضـرة الحقّ بخطاب {وَنَفَخۡتُ فِيهِ مِن رُّوحِي}۱، يمتلك في مكامن ذاته قابليةَ مقام الخلافة الإلهيّة (والتي تعني: ظهور وبروز جميع صفات ونعوت حضرة الحقّ سبحانه وتعالى) كما يمتلك قابليةَ الوصولِ إلى مرتبة فعليّة تلك الخلافة؛ فإذا جعل همّه وغمّه في المراقبة وأداء التكاليف وتنفيذ البرنامج المرسوم من قبل أولياء الدين وحملة لواء الشـرع المبين، فسوف ينال تلك النعمة العظمى والفوز الأبديّ، وسيُعانق الحبيب ويُشاهد الوصال وينال الوفود إلى حريم قدس وأمان حضـرة الحقّ، وسيحظى ويفوز بسعادة كلا الدارين. 

  • أمّا إن أفنى عمره في هذه الدنيا بجمع الزخارف الدنيويّة، وبالوصول إلى الرئاسات، وبالاشتغال بأمور الدنيا؛ فإنّه سيُبتلى بالخسـران والخيبة الأبديّة. ولا فرق في ذلك بين أن يكون الاشتغال بالدنيا خارج دائرة الشؤون الإلهيّة والدينيّة، وبين أن تكون ضمن نطاق الأمور العباديّة، والعلوم الدينيّة، والتصدّي لشؤون الناس، وحلّ المشكلات الدينيّة والاجتماعيّة.

  • إنّ المهمّ هو ما تكون عليه نِيّته وغايته مِن الاشتغال بهذه الأمور: هل هدفه الوصول إلى معرفة الله ورفض عالم الأنانيّة والنفس والكثرات وانكشاف حقيقة التوحيد في القلب والضمير؟ أم أنّ الهدف هو نفس الاشتغال بهذه الأمور وتضييع الوقت وتحقيق رغبات النفس الأمّارة ومطالبها والرئاسات الدنيويّة واللّذات النفسيّة في قالب المظاهر العباديّة والمعنويّة والشـَرعيّة؟!

    1. سورة الحجر (۱٥)، قسم من الآية ٢٩.

حريم القدس - مقالة في السير و السلوك

92
  • لذلك، وكما تقدّم، فمجرّد الاشتغال بدراسة العلوم الإلهيّة وصَرف الأوقات في تحقيقاتها وتدقيقاتها، لن يُداوي من النفس الحيرى والتائهة أيّ داءٍ، بل سيشعر الإنسان بعد مرور مدّةٍ مديدةٍ من عمره وصرفه للوقت في تلك الأمور الدينيّة، سيشعـر أنّ نفسه لا تزال تائهةً متحيرةً، خاويةً من المعارف الشهوديّة لعالم الخِلقة وأسرار الوجود في المبدأ والمعاد، وحينئذٍ سيبدأ بالتفكير في التعويض عمّا فات، والاستعداد للانطلاق في مسير التكامل فيما تبقى من أيام عمره القليلة.

  • لقد أدرك المرحوم الآخوند الملا حسين قلي الهمداني بعد مرور مدّةٍ من الزمن التي صرف فيها عمره في التحقيق لمباني الدين المبين والاطلاع على الفقه والتفسير والحكمة والتاريخ، أنّ ما تعلّمه لا يكاد يُجديه، وأنّه لا بدّ أن يتّخذ لنفسه حركةً جديدةً ونظامًا مُغايرًا لما سبق، يعتمد به على إصلاح نفسه وتهذيب قلبه، وأن يبحث من أجل ذلك عن الأستاذ الكامل والسالك الواصل ليتمكّن من هداية نفسه الناقصة الحيرى إلى عالم الكمال والمعرفة. 

  • وكذلك السيّد علي الشوشتري، فبعد أن صرف عمره في العمل على إعلاء مذهب التشيّع والتصدّي لشؤون الناس، شمله التوفيق الإلهيّ وسار بمساعدةٍ من أستاذه العارف إلى المنزل المقصود وشاهد وصال المعرفة.

  • وكذا أبو علي الحسين بن عبد الله بن سينا، فبعد أن قضـى عمره في الانشغال بأمور الدنيا وتولّي المسؤوليّات الحكوميّة والمطالعة والبحث وتدريس العلوم الإلهيّة، تنبّه إلى أنّ منهجه وممشاه السابق لم يروِ وجدانه الظمآن ونفسه المتلهّفة إلى المعرفة وأنّه سيرحل الآن عن هذه الدار صفر اليدين، خاسرًا لرأسماله، بوجودٍ ناقصٍ غير مكتملٍ. لذا يُقال أنّه في أواخر عمره كان دائماً يعيش في حالٍ من الانزواء والابتهال والتضـرّع والتهجّد 

حريم القدس - مقالة في السير و السلوك

93
  • والمراقبة والرياضات الشـرعيّة؛ علّه بذلك يصير مشمولًا بنصيبٍ من ذلك العالم ويتدارك بعض الشيء ممّا انصرم من عمره.

  • إنّ ما يستفاد من تجارب الماضي وانقضاء العمر والتأمّل والتفكّر في مصير الإنسان، هو أن الإنسان بعد انقضاء عمره الثمين وخسـران نعمة الحياة ووصول سنوات العمر إلى نهايتها، بعد كلّ ذلك يضع الإنسان يد الحزن على رأسه، جالسًا مجلس العزاء في مأتمٍ وفاجعةٍ، لفقده جوهر الحياة والغاية النهائيّة منها.

  • إذن كم هو جميلٌ أن ينال الإنسانَ ـ قبل وصول هذه اللحظة ـ توفيقٌ إلهيٌّ لإزاحة ستار الجهل والغفلة عن الأعين، كي تُشـرق حقائق عالم الوجود على قلبه ونفسه؛ فيرتوي ضميره المتعطّش الواله من عين ماء الحياة، وتُوصِل أنوارُ عالم القدس النفسَ المنغمرة في الكثرات إلى حريم الوِحدة ومقام عظمة الحقّ.

  • ثانيًا:‌ أفضليّة علوم العرفاء وتوحيدهم على سائر علوم العلماء 

  • يقول المرحوم العلاّمة الطهرانيّ رضوان الله عليه: 

  • «لو أنّ ذرّةً من العِلم والتوحيد اللذين يحظى بهما العرفاء أُنزلت إلى هذا العالم، لعادلت جميع علوم عالم المادّة وعلوم الجامعات، بل زادت عليها؛ ومع ذلك نرى أنّ مجموعة من الجهلة، وبدون أدنى اطلاع على مدارج الكمال ومراتب العلوم الحقيقيّة الإلهيّة، يقفون منها موقف الإنكار ويعدّونها من جملة التخيّلات والأوهام».

  • وكثيرًا ما كان يتردّد على لسان العلاّمة الكبير المرحوم آية الله الشيخ حسين الحلّي رضوان الله عليه قوله: 

حريم القدس - مقالة في السير و السلوك

94
  • «إنّ هذه المسائل راقيةٌ ورفيعةٌ جدًا؛ بحيث لا يُمكن أن تكون من نصيب أيّ شخصٍ، وأين لي ولأمثالي الوصول إلى إدراك هذه الذروة من مراتب الشهود وانكشاف الحقيقة».

  • كذلك يبيّن العلاّمة الطهرانيّ في مقام تعريف مرتبة العُرفاء الإلهيّين ومنزلتهم، معتبرًا أنّهم الطائفة الوحيدة المطّلعة على الوحدة بالصـرافة والمُدركة بالسرّ والضمير لحقيقة التوحيد كما هي، حيث يقول:

  • «الآن يُمكنكم أن تُدركوا مدى عمق ودقّة وعظَمة كلام أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ‌ المتين، ومنطقه القويم، وبرهانه القويّ اللطيف والدقيق، الذي لم يصل إلى كافّة جوانبه حتّى صدر المتألّهين، ولم يتفوّه به على مرّ التاريخ غير العُرفاء بالله، وكان العرفاء لا يسلكون طريق الاستدلال والبرهان في كتاباتهم للوصول إلى النتائج؛ ولذلك بقيت هذه الدقائق مُبهمةً ومستورةً إلى أن استخدم العُرفاء بالله في الأزمنة المتأخّرة طريق الاستدلال والبرهان أيضًا؛ حيث كانوا من مُدرّسي الحكمة والفلسفة الإلهيّة إلى جانب كونهم عُرفاء.

  • وقد بيّن هؤلاء العُرفاء أمثال المرحوم السيّد علي الشوشتري (أستاذُ ووصيُّ الشيخ مرتضـى الأنصاري في الأخلاق والعرفان)؛ وأمثال أفضل تلامذته الناجحين الآخوند الملا حسين قلّي الهمداني؛ وأمثال أفاضل تلامذة الملّا الهمداني: كالشيخ محمّد البهاري والسيّد أحمد الكربلائي الطهرانيّ؛ وأمثال التلميذ الأفضل للأخير: المرحوم الميرزا علي القاضي التبريزي؛ ومِن أفضل تلامذته: العارف والحكيم والفقيه والمتكلم ومفسِّـر 

حريم القدس - مقالة في السير و السلوك

95
  • الزمان ونابغة العصر حضـرة الأستاذ العلاّمة المرحوم السيّد محمّد حسين الطباطبائيّ التبريزي قدّس الله أسرارهم الزكيّة.

  • شكر الله مساعيهم الجميلة، ورزقنا من علومهم، وجعلنا من تابعيهم في القول والعمل بمحمّد سيّد المرسلين وبوصيه أمير المؤمنين وبالأئمّة الأوصياء من ذريته سلام الله عليهم أجمعين».۱

  • لقد كان هؤلاء من العظماء الذين خطَوا في طريق السير والسلوك إلى الله بعد إحرازهم لأعلى وأرقى مراتب العلوم الظاهريّة، وغضّوا الطرف ـ بعزمٍ متينٍ وإرادةٍ ثابتةٍ ـ عن الملذّات الدنيويّة والأهواء النفسيّة، وحطّوا رحالهم ونصبوا خيامهم في حريم القدس وحرم حضـرة المحبوب.

  • كما أنّه قال عن آية الله العظمى السيّد أحمد الكربلائي رضوان الله عليه:

  • «وأما فيما يتعلّق بالعلم والفقاهة والتضلّع في العلوم الرسميّة، فيكفي ترشيحه للمرجعية العليا للشيعة حينما كان في الأربعين من عمره، وقد أقرّ الجميع بنبوغه العلمي وتقواه من الناحية الروحيّة، ولكنه لم يكن يقبل أن يُفتي، ولا أن يكتب رسالةً عمليّةً، بل امتنع حتّى عن إقامة صلاة الجماعة في الملأ العام، وهذا ما فعله أيضًا كلّ من الأستاذ القاضي والأستاذ العلاّمة الطباطبائيّ رضوان الله عليهم أجمعين»٢.

    1. توحيد علمي وعيني (فارسي)، ص ٢۱٣ و ٢۱٤، ونلفت عناية القارئ الكريم إلى أنّه تمّ تعريب الاقتباس السابق بأكمله، ما عدا الفقرة الأخيرة باللون الغامق، فهي عين عبارة العلّامة قدّس سرّه. (م)
    2. توحيد علمي وعيني (فارسي)، ص ٢٣.

حريم القدس - مقالة في السير و السلوك

96
  • ثالثًا:‌ غاية العرفان: مرتبة الذات الأحديّة

  • نعم، إنّ منهج هؤلاء العظام وطريقتهم هي السير والسلوك إلى الله حتّى الوصول إلى مرتبة الذات الأَحديّة، أي: مرتبة الإدراك الحقيقي لكافّة مراتب الأسماء والصفات الإلهيّة، وبعد ذلك الاندكاك والانمحاء والفناء في ذات حضـرة الحقّ المقدّسة؛ بحيث لا يبقى أي اسمٍ أو رسمٍ لذات السالك، ولا يبقى وجودٌ لأيّة حقيقةٍ سوى حقيقة الذات الأحديّة. 

  • وهذه المرتبة تُسمى: مرتبة «لا اسم ولا رسم»، وهي التي يُنكر الكثيرون إمكان الوصول إليها؛ لأنّهم يحسبون ذات الباري منفصلةً ومستقلةً عن أسمائه وصفاته، ويرون أنّ التعيّنات والتشخّصات في عوالم الوجود هي مراتب نازلة عن الأسماء والصفات، وأنّ ذات الباري تعالى فوق جميع الأسماء والصفات، ولا يرون أي ارتباط بين الذات وبين الأسماء والصفات.

  • وحيث إنّهم يعتقدون أنّ حقيقة الولاية هي الظهور الخارجي لأسماء وصفات حضـرة الحقّ، فإنّ منتهى حركة السالك وسيره إلى الله ـ بحسب ما يعتقدونه ـ‌ هو الانمحاء والفناء في الولاية، التي هي نفس تلك الأسماء والصفات الكليّة الإلهيّة في نظرهم، دون أن يجدوا طريقًا إلى ذات الحقّ المقدّسة.

  • انحرافات الشيخ الأحسائي في التوحيد

  • ينقل العلّامة الطهرانيّ رضوان الله عليه: 

  • «يقول وصيّ المرحوم القاضي المرحوم حضـرة آية الله الحاجّ الشيخ عبّاس القوجاني أعلى الله درجته: قلتُ يومًا لحضـرة الأستاذ السيّد القاضي: ما هو الإشكال في عقيدة الشيخيّة؟! فهؤلاءِ أيضًا أهل عبادةٍ وأهل ولايةٍ، وخصوصًا فيما يتعلّق بالأئمّة عليهم السلام، فإنّهم مثلنا يُظهرون المحبّة الشديدة 

حريم القدس - مقالة في السير و السلوك

97
  • والإخلاص، وفِقههم هو فقه الشيعة أيضًا، ويرون أنّ كتب الأخبار معتبرةٌ ويعملون برواياتنا؛ والخلاصة: أنّا مهما بحثنا لنجد في أخلاقهم وسلوكهم موردًا للإشكال، فلا نجد! 

  • فقال السيّد القاضي: جئني غدًا بـ «شرح الزيارة» للشيخ أحمد الأحسائي. 

  • وفي اليوم التالي جئته بـ«شرح الزيارة» ، فقال لي: اقرأ! فقرأت منها قرابة الساعة.‌

  • فقال: يكفي! هل اتّضح لك الآن أين هو موضع إشكالهم؟ إنّ إشكالهم في عقيدتهم!

  • إنّ هذا الشيخ يُريد أن يُثبت أنْه لا اسم ولا رسم لذات الله، وأنّ ذاته هي فوق أسمائه وصفاته، وأنّ ما يتحقّق في هذا العالم إنّما يتحقّق بواسطة الأسماء والصفات، وهي المبدأ لخلقة العالم والإنسان، وهي المؤثّرة في تدبير شؤون هذا العالم في البقاء واستمرار الحياة. 

  • ذلك الإله ليس متّحدًا مع الأسماء والصفات، والأسماء والصفات تعمل بنحوٍ مستقلٍ، وعبادة الإنسان تتوجّه إلى الأسماء والصفات الإلهيّة، لا إلى ذاته التي لا تقبلُ الوصف ولا تخطر في الوهم.

  • بناءً على ذلك فإنّ الشيخ أحمد الأحسائي يُعرِّف الله على أنّه مفهومٌ خاوٍ وبلا أثرٍ، خارجٌ عن الأسماء والصفات! وهذا عين الشِرك! 

  • أمّا العارف فيقول: إنّ ذات الله فوقُ الوصف وأعلى من التخيّل والتوهّم، ولها هيمنةٌ وسيطرةٌ على الأسماء والصفات، وجميع 

حريم القدس - مقالة في السير و السلوك

98
  • الأسماء والصفات موجودةٌ في ذاته المقدّسة بدون حدودها الوجوديّة وتعيّناتها وتقيّداتها، وجميع الأسماء والصفات ترجع إلى الذات، والذات هي المقصد والمبدأ والمنتهى، غاية الأمر أنّ الأسماء والصفات هي الطريق، ونحن نشير في قولنا {وَجَّهۡتُ وَجۡهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ}۱ إلى نفس تلك الذات، حتّى وإن كانت غير معلومةٍ لنا"ـ انتهى كلام السيّد القاضي. 

  • ولهذا يقف الشيخيّة بزعامة الشيخ أحمد الأحسائي في القطب المخالف للعرفاء، وهذا سبب كلّ تلك العَداوة والقسوة اللتين تمارسان عليهم؛ وما ذلك إلّا لكونهما ذا ممشيين متباينين مائة بالمائة٢

  • رابعًا:‌ لا يمكن الوصول إلى مرتبة الكمال بدون الولاية

  • لقد كانت عقيدة المرحوم القاضي ـ رضوان الله عليه ـ فيما يرتبط ببعض العرفاء الإلهيين، بناءً لما ورد على لسان المرحوم العلّامة الطهراني كما يلي: 

  • «لم يكن المرحوم القاضي رضوان الله عليه يعدّ سعدي الشيرازي من أهل الحال والسلوك، بل كان يراه عالماً حكيماً، وكان يقول: إنّ شعره ممّا لم يذكر اسم الله عليه.

  • نعم، له غزلٌ جيّدٌ قد أحسن نظمه وهو:

  • بجهان خرم از آنم كه جهان از اوست‌***عاشقم بر همه عالم كه همه عالم از اوست - الخ.
    1. سورة الأنعام (٦)، قسم من الآية ۷٩.
    2. روح مجرد (فارسي)، ص ٤٢٦ إلى ٤٢۸.

حريم القدس - مقالة في السير و السلوك

99
  • [يقول: أشرقت الدنيا لأنّ الدنيا مِنه، وأنا عاشقٌ لجميع العالم لأنّ العالم منه ـ إلخ]. 

  • أمّا الملّا الرومي فكان يعدّه عارفًا رفيع الشأن، ويستشهد بأشعاره، ويعدّه من خُلّص شيعة أمير المؤمنين عليه السلام، وكان يعتقد بأنّه من المحال أنْ يصل شخصٌ إلى مرتبة الكمال الإنساني دون أنْ تنكشف له حقيقة الولاية، وكان يرى أنّ الوصول إلى التوحيد إنّما يتمّ فقط عن طريق الولاية، وأنّ الولاية والتوحيد هما حقيقةٌ واحدةٌ.

  • وبناءً على ذلك فإنّ العظماء من العرفاء المشهورين والمعروفين والذين كانوا من أهل السنّة إمّا أنّهم كانوا يُمارسون التقيّة وهم في الباطن من الشيعة، وإمّا أنّهم غير واصلين إلى الكمال.۱

  • لقد كان شديد الاهتمام بمحيي الدين بن عربي وكتابه «الفتوحات المكيّة» وكان يقول: «محيي الدين من العرفاء الكاملين، وتحتوي فتوحاته على الكثير من الشواهد الدالة على أنّه كان شيعيًّا، وفي كتبه الكثير من المطالب المناقضة للأصول المسلّمة عند أهل السُنّة»

  • ويرى المرحوم القاضي قدّس سره أنّ حافظ الشيرازي عارفٌ كاملٌ، وكان يفسـّر أشعاره المختلفة على أنّها عبارةٌ عن شرحٍ لمنازل ومراحل السلوك، غير أنّه كان يرى أنّ ابن الفارض المصـري كان أكمل منه؛ وكان يذكر شواهدًا على ذلك من ديوان حافظ ومن أشعار ابن الفارض في نظم السلوك (التائيّة الكبرى) وغيرها من الشواهد». 

    1. لقد صرح المرحوم الحدّاد أيضًا مراتٍ عديدةٍ قائلًا: إنّ من المحال الوصول إلى مقام التوحيد والسير الصحيح إلى الله وعرفان الذات الأحديّة بدون وِلاية أئمّة الشيعة والخلفاء بالحقّ: علي بن أبي طالب وأبنائه من البتول العذراء صلوات الله عليهم. 

حريم القدس - مقالة في السير و السلوك

100
  • خامسًا: أهميّة الدستور السلو‌كي في طريق العرفان 

  • نعم، إنّ مسألة السير والسلوك إلى الله حقيقةٌ لا تقبل الإنكار، وهي توفيقٌ من جانب حضرة الحقّ، وهي إنّما تكون من نصيب بعض العقلاء والصادقين من الناس، أمّا سائر الناس فمهما كان لهم نصيبٌ من العلم والتديّن والمعرفة فليس لهم طريقٌ إليه؛ وكما يخبر كبار أهل الشهود والواصلين إلى حريم المعبود، وكما تشهد به التجربة والتأمّل في مطالب العظام وحياتهم أيضًا، فإنّ طريق الوصول إلى التكامل البشـري وتحقيق الفعليّة التامّة والإدراك الشهودي والحضوري لحقيقة التوحيد لا يمكن أن يتحقّق إلّا عن طريق العرفان واتباع أوامر مدرسة أهل البيت عليهم السلام ودستوراتهم العِلميّة منها والعمليّة، والتمسّك والتوسّل بعناياتهم وألطافهم، وكلّ من كان لديه ادّعاءٌ مغايرٌ أو شاهدٌ مخالفٌ لهذا المطلب؛ فليتفضّل وليُبيّنه فهذا الفرس وهذا الميدان.‌

  • نموذج من دساتير العرفاء: دستور الآخوند الهمداني

  • لذلك فإنّ العظماء من أهل المعنى ذكروا عدّة برامج عمليّة في سبيل حركة السالك إلى الله، ومِن جملتها البرنامج الذي أوصى به أستاذ العرفان، ووحيد عصره في مسألة التوحيد، المرحوم الآخوند الملا حسين قلّي الهمداني، جميعَ التائقين لمشاهدة الجمال الإلهي والطالبين للوُفود إلى حريم القدس، حيث يقول:

حريم القدس - مقالة في السير و السلوك

101
  •  

  •  

  • بسم الله الرحمن الرحيم

  • الحمد للّه رب العالمين

  • والصلاة والسلام على محمّد وآله الطاهرين

  • ولعنة الله على أعدائهم أجمعين

  •  

  •  

  • لا يخفى على إخوة الدين أنّه لا سبيل للقُرب من حضـرة ملك الملوك جلّ جلاله إلّا بالالتزام بالشـرع الشـريف في جميع الحركات والسكنات والأقوال واللحظات وغيرها، وأنّ السير بالخرافات الذوقيّة كما دأَبَ الجُهّالُ وَالصُّوفيّةُ ‌ـ‌خذلهم الله جلّ جلاله‌ ـ لا يوجب إلّا بُعدًا، هذا مع أنّ الذوق في غير هذا المقام جيّدٌ، فلو كان الإنسان مواظبًا على تسبيل الشارب وعدم أكل اللحم۱، فإنْ كان مؤمنًا ومعتقدًا بعِصمة الأئمّة الأطهار صلوات الله عليهم، فعليه أنْ يعلم أنّ ذلك لن يزيده إلّا بعدًا عن مقام الأحدية، وكذا الأمر في الاتيان بالذكر بكيفيّةٍ مغايرةٍ لما ورد عن السادات المعصومين عليهم السلام.

  • بناءً على ذلك، ينبغي له أن يُقدِّم الشـرع الشريف، وأن يهتمّ بكلّ ما اهتمّ به الشرع الشريف.

  • وإنّ ما استفاده هذا الضعيف٢ من العقل والنقل، أنّ أهمّ الأشياء لطالبي مقام القرب، هو الجدُّ والسعيُ الحثيث في ترك المعصية.

    1. فقد ورد النهي من الأئمّة الأطهار عن تسبيل الشارب وكذا ورد النهي عن ترك أكل اللحم أربعين يومًا. (م)
    2. يقصد بذلك نفسه الشريفة، قدّس الله رمسه.‌(م)

حريم القدس - مقالة في السير و السلوك

102
  • وما لم تؤدّ هذه الخِدمة فلن يمنح ذكرُك ولا فِكرُك بأيّ حال من الأحوال أيّما فائدةٍ لقلبِك؛ ذلك لأنّه لن يكون للسعي وخدمة السلطان أية فائدةٍ مِن قبل مَن هو في مقام العصيان والإنكار، وليت شعري أيّ سلطانٍ أعظم من هذا السلطان العظيم الشأن؟! وأيّ نزاعٍ أقبح من النزاع معه؟!

  • فافهم ممّا ذكرتُ، أنّ طلبك المحبّة الإلهيّة مع كونك مرتكبًا للمعصية أمرٌ فاسدٌ جدّاً، وكيف يخفى عليك كون المعصية سببًا للنفرة، وكون النفرة مانعةَ الجمع مع المحبّة؟!

  • وإذا تحقّق عندك أنّ ترك المعصية أوّل الدين وآخره، ظاهره وباطنه فبادر إلى المجاهدة، واشتغل بتمام الجدّ إلى المراقبة من أوّل قيامك من نومك في جميع آناتك إلى نومك، والزم الأدب في مقدس حضـرته، واعلم أنّك بجميع أجزاء وجودك ذرّةً ذرّةً أسيرُ قدرته، وراعِ حرمة شريف حضوره. 

  • واعبدهُ كأنّك تراه، فإنْ لم تكن تراه فإنّه يراك، والتفت دائماً إلى عظمته وحقارتك، ورفعتِه ودناءتكَ، وعزّته وذلّتكَ، وغناه وحاجتكَ، ولا تُغفل شناعة غفلتك عنه جلّ جلاله مع التفاته إليك دائماً، وقُم بين يديه مقامَ العبد الذليل الضعيف، وتبصبص۱ تحت قدميه بصبصة الكلب النحيف، أوَلا يكفيك شرفًا وفخرًا أنّه أذِن لك في ذِكر اسمه العظيم بلسانك الكثيف٢ الذي نجّسَته قاذورات المعاصي؟

    1. بصبص الكلب: حرك ذنبه خوفًا أو طمعًا أو ملقًا، والتبصبص: التملّق، وبصبص في دعائه: رفع سبابتيه إلى السماء وحرّكهما. (م)
    2. كثيف:‌ كلمة فارسيّة تعني: القذر.‌(م)

حريم القدس - مقالة في السير و السلوك

103
  • فإذن أيّها العزيز! بعد أنْ جعل الكريم الرحيم لسانك مخزَنًا لجبل النور، يعني: ذكر اسمه الشـريف، فإنّه لَمِن الوقاحة أن تلوّث مخزن السلطان بنجاساتٍ وقاذوراتٍ الغِيبة والكذب والفحش والأذيّة وغيرها من المعاصي، فما يليق بمخزن السلطان هو أن يكون ممتلئًا بالعطر وماء الورد، لا محبسًا طافحًا بالقاذورات. 

  • ولا شكّ أنّك لمّا لم تكنْ دقيقًا في المراقبة، لذا فأنت لا تدري ما ترتكب من المعاصي بجوارحك السبعة، أعني: الأذن واللسان والعين واليد والرجل والبطن والفرج؟ ولا ما تُشعل من النيران؟ ولا ما تُفسد من دينك؟ ولا ما تُحدث في قلبك من الجراحات المنكرة بسِنان لسانك وسيف كلامك، فإنْ لم تكن قد قُتلت بعد فمن حسن حظك! ولو أردت أن أبيّن هذه المفاسد لما وسعها كتابٌ! فماذا بوسعي أنْ أكتب لك في ورقةٍ واحدةٍ؟! وأنتَ الذي لم تُطهِّر جوارحَك من المعاصي حتّى الآن، كيف تتوقّع أن أكتبَ لك شيئًا في شرح أحوال القلب؟ 

  • إذن: فالبدار البدار إلى التوبة الصادقة، ثمّ العجل العجل في الجدّ والمراقبة

  • والخلاصة: إنّه بعد بذل الوسع في المراقبة، فبالطبع على طالب القُرب أن لا يضيّع من يده اليقظة وقيام السحر على الأقل ساعةً أو ساعتين قبل الفجر إلى طلوع الشمس، وأن يؤدّي صلاة الليل مع مراعاة الآداب وحضور القلب، وإن كان لديه متّسع من الوقت فينشغل بالذكر أو الفكر أو المناجاة؛ لكن ينبغي له أن يشتغل مقدارًا معيّنًا من الليل بالذكر مع حضور القلب، وينبغي أن لا يخلو من الحزن في جميع حالاته، فإنْ لم يكنْ لديه، يُحصّله بأسبابه، وبعد الفراغ يسبح تسبيح سيّدة النساء، ويقرأ سورة 

حريم القدس - مقالة في السير و السلوك

104
  • التوحيد اثنا عشـر مرّةٍ، و عشـر مرّاتٍ «لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك ...» إلى آخره، ومائة مرّة «لا إله إلا الله»، ويستغفر الله سبعين مرّةٍ، ومقدارًا مِن القرآن الكريم، ولا بدّ أن يقرأ «دعاء الصباح» المعروف أعني: «يا من دلع لسان الصباح..» إلى آخره، ولا بدّ أن يكون على وضوءٍ دائمًا، وإذا صلّى بعد كلّ وضوءٍ ركعتين فذلك في غاية الحسن.

  • وينبغي له أن يكون شديد الانتباه لئلا تصدر منه أذيّة تجاه الآخرين بأيِّ وجهٍ من الوجوه، وأنْ يسعى سعيًا بالغًا في قضاء حوائج المسلمين لا سيّما العلماء ولا سيّما أتقياءهم، وأن يتجنّب كلّ مجلسٍ فيه مظنّة الوقوع في المعصية البتّة البتّة البتّة، بل إنّ نفس الجلوس مع أهل الغفلة لغير ضرورةٍ مضرٌّ حتّى لو خلا من المعصية، كما أنّ كثرة الاشتغال بالمُباحات والمِزاح الزائد واللغو في القوّل والاستماع إلى الأراجيف، جميعها تميت القلب.

  • وإذا اشتغل بالذكر والفكر دون المراقبة فلا فائدة فيه حتّى لو حصل له حالٌ !! لأنّ ذلك الحال لن يكون مستمرًا، ولا ينبغي له أن يُخدع بالحال الذي يحدثه ذكرٌ لا مراقبة معه !! 

  • ليس لدي الكثير من الطاقة، التمس الدعاء من الجميع التماسًا حثيثًا، ولا تنسوا هذا الحقير كثير التقصير والمعاصي، واقرؤوا سورة القدر مائة مرّة في ليلة الجمعة و مائة مرّة في عصـر يوم الجمعة.

  • ومن جملة الأبواب العظيمة للإيمان: الحبّ في الله جلّ جلاله والبغض في الله جلّ جلاله، وقد عقد له في «الوسائل» وغيرها من كتب الأخبار بابًا مستقلّا؛ فارجع إليها لعلّك تعرف عظمته وتأخذ لنفسك نصيبًا منه؛ فإنّ ممّا لا شكّ فيه أنّ المحبوب الأوّل 

حريم القدس - مقالة في السير و السلوك

105
  • هو الذات الأقدس للكبرياء جلّ جلاله، بل وكلّ محبّةٍ لا ترجع إلى محبّته فليست بشيءٍ.

  • ثمّ بعده، ينبغي لكلّ فردٍ أن يضاعف حبّه لهذا السلطان عظيم الشأن، ثمّ أوّل محبوبٍ بعد واجب الوجود: هو الوجود المقدّس للنبيّ الخاتم صلوات الله عليه وآله، ثمّ بعده أمير المؤمنين عليه السلام، ثمّ الأئمّة المعصومين عليهم السلام، ثمّ الأنبياء والملائكة، ثمّ الأوصياء، ثمّ العلماء والأولياء. 

  • ويرجّح في زمانه محبّة أتقياء ذلك الزمان ـ لا سيما إن كان عالماً ـ على الذين يلونهم في الدرجة، وهكذا يتنزّل، ولكن عليه أنْ يسعى لأنْ يكون صادقًا في هذه المحبّة، وهي ليست بالمرتبة السهلة؛ فإذا تفكّرتم في ذلك ستفهمون أنّه إذا ظهرت آثار هذه المحبّة في حركات وسكنات الشخص المُدّعي لهذه المحبّة، فهو صادقٌ وإلّا فلا. غير أنّي لا أظنّك تصل إلى حقيقة الأمر ولوازمه، وليس في وسع الحقير أيضًا أكثر من ذلك. 

  • والحاصل، لا طريق إلى القرب إلّا بشـرعٍ شـريفٍ في كلّ كليٍّ وجزئيٍّ ـ انتهى.۱ 

  • إنّ هذه الرسالة التي هي في الواقع دستورٌ سلوكيٌّ لجميع سالكي حريم الحقّ، وإنْ كانت طويلةً إلى حدٍّ ما وليس لها تلك المناسبة مع غرض وظرفيّة هذه المقدّمة أو المقالة، غير أنّها أُوردت هنا لكون كاتبها وهو المرحوم الآخوند المولى حسين قلي الهمداني من أكابر علماء وفقهاء الشيعة الإماميّة، ومن جهةٍ أخرى هو رأس سلسلة العرفاء بالله وبداية حلقة الأولياء الإلهيّين؛ 

    1. تذكرة المتقين، ص ۱٩۰ إلى ۱٩٦.

حريم القدس - مقالة في السير و السلوك

106
  • بحيث أنّ انتساب التلاميذ والمريدين إليه يُعد مفخرةً عظيمةً وموهبةً إلهيّةً، وكلّ من ظهر بعده من العرفاء الشامخين استمدّوا جميعهم من البركات الوجوديّة والفيوضات الربّانية النازلة بواسطة نفسه القدسية؛ أمثال: المرحوم الحاج الشيخ محمّد البهاري، والحاج الميرزا جواد الملكي التبريزي، والسيّد أحمد الكربلائي، والمرحوم السيّد علي القاضي والعلاّمة الطباطبائي وأخيه المعظم، والعارف الكامل المرحوم السيّد هاشم الحدّاد، والعلاّمة الطهرانيّ وغيرهم. 

  • وكان العلاّمة الطهرانيّ كلّما ذكر اسم الآخوند الملا حسين قلي تغيّر لون وجهه، وكان يذكره بعباراتٍ خاصّةٍ ويُفضّله على سائر عظماء أهل المعرفة؛ لذا كان من المناسب أن نذكر رسالته في هذه المقالة بعنوان كونها دستورٍ سلوكيٍّ.

  • وتتمحور دستوراته في هذه الرسالة حول ترك المعاصي والمراقبة؛ فبدون المراقبة التامّة وإطاعة برامج السلوك لن يؤدّي الطريق بالسالك إلى أيّ مكان، حتّى وإنْ نالت النفس تلذّذاتٍ شكليّةٍ ومؤقّتةٍ من خلال الأوراد والأذكار والقيام بالعبادة والنوافل.

  • سادسًا: ضرورة الأستاذ الخبير المتخلّص من الهوى 

  • وممّا ينبغي ذكره في هذا المقام أنّ العمل بالبرنامج السلوكيّ يجب أن يكون تحت إشراف ونظر إنسانٍ سالكٍ مجتازٍ للطريق، واصلٍ إلى المقصد؛ وذلك لأنّ العبور من الشهوات النفسيّة والأهواء الدنيويّة سيكون محالًا بغير هداية أستاذٍ كاملٍ مشرفٍ على نفوس السالكين وضمائرهم وإرشاده، وهذا ما يُصرّح به جميع أساتذة العرفان ومَهرة الفن؛ فالمرحوم القاضي يقول:

حريم القدس - مقالة في السير و السلوك

107
  • «أهمّ ما يلزم في هذا الطريق هو الأستاذ الخبير والبصير المتخلّص من هواه والواصل إلى المعرفة الإلهيّة، والإنسان الكامل الذي طوى ـ فضلًا عن السير إلى الله ـ أسفاره الثلاثة الأخرى، فصار سيره في عالم الخلق ومشاهدته له سيرًا ومشاهدةً بالحقّ».۱ 

  • ويقول أيضاً: 

  • «لو أنّ امرءًا أفنى في طلب الأستاذ ثلثي عمره، ما كان بذلك عن الصراط خارجًا».

  • وقد ورد أيضًا في ضرورة الأستاذ في السير والسلوك:

  • بى پير مرو تو در خرابات‌ *** هر چند سكندر زمانى٢
  • [يقول: لا تسلك طريق الخرابات بغير الشيخ المجرّب، ولو كنت الاسكندر في زمانك‌].

  • إنّ إطاعة دستور الأستاذ الكامل هو الشـرط الأساس للسير في الطريق وبقدر ما يستخفّ السالك بهذه المسألة سيصاب بالضـرر والخسارة.

  • وعلى هذا الأساس، على السالك أن يُقدّم دستور الأستاذ على إرادته وميوله الشخصيّة، بل عليه أنْ لا يكون لديه أيّ مطلوبٍ سوى إطاعة مرشده، عادّاً إياه الوليّ وصاحب الاختيار في جميع أمور حياته: بإذنه يقوم، وبإذنه يقعد، ولا يعمل في العلاقات الاجتماعيّة إلّا بإذنه وتحت إشرافه بنحوٍ كامل.

    1. رسالة السير والسلوك المنسوبة إلى بحر العلوم، ص ۱۸٦.
    2. امثال وحكم دهخدا (فارسي)، ج ۱، ص ٤۸٤.

حريم القدس - مقالة في السير و السلوك

108
  • ولا بدّ من الالتفات إلى أنّ طاعة الأستاذ والانقياد له يكونان في كثيرٍ من الموارد على خلاف ميول النفس ومشتهياتها، لكن يجب عليه أن يسعى بعزمٍ متينٍ وإرادةٍ لا وهن فيها أن لا يُخلي الساحة للنفس وميولها الدنيويّة الشهوانيّة. 

  • هذا، وقد كان عدم تسليم السالك لجميع وجوده قبال الأستاذ سببًا في عدم وصول العديد من ذوي الشأن إلى مراتب الكمال النهائي وتوقّفهم في وسط الطريق، أو ـ والعياذ بالله ـ تقهقرهم إلى الوراء رغم سلوكهم في الطريق إلى الله، فاحتفظوا بنصيبٍ من وجودهم في مقام الاختيار والعمل، والأستاذ لا يمكنه في الواقع القيام بعملٍ خارجٍ عن رغبة المريد واختياره.

  • هل يكفي العمل بأوامر العظماء دون التتٝٔلمذ على يد أستاذ؟

  • المسألة الأخرى التي ينبغي تذكّرها في هذا المقام، هي أنّ البعض يتصوّرون أنّ العمل بأوامر العظماء بدون التسليم والانقياد لأستاذ الطريق ومربّي النفوس هو بنفسه كافٍ في إيصال الإنسان إلى الفعليّة والكمال؛ ولذلك لا يسعون ولا يبذلون أيّ جهدٍ في سبيل تحقيق هذه الغاية، وينصـرفون إلى أداء الأوراد والأذكار وترتيب أمورهم الاجتماعيّة والشخصيّة مرتكزين في ذلك على رغبتهم وذوقهم الخاصّ.

  • فهذه الجماعة أيضًا في غاية الاشتباه والغفلة والضلال؛ وذلك لما تقدّم سابقًا من أنّ المخاطر والموانع الموبقة والمُهلكة تكثر في الطريق إلى درجة أنّها تسلب السالك فرصة الحركة والسير والتكامل، ولا فرق في ذلك بين العامّي والعالِم، بل إنّ المخاطر والبلايا التي تحلّ بالعالِم تفوق تلك التي تعرض على غيره كثرةً وصعوبةً وإهلاكًا؛ ولذلك فإنّ كثيرًا من أساتذة العرفان يدعون السالك إلى التأمّل والتدبّر فيما يستقبله من الوقائع والأحداث قبل القيام بإرشاده ومساعدته، ويختبرون عزمه وإرادته في مواجهة هذه المسائل، ويلفتون نظره منذ 

حريم القدس - مقالة في السير و السلوك

109
  • البداية إلى بعض موانع وصوارف الطريق، وإذا ما وجدوا فيه ضعفًا وقصورًا يقومون بصرفه.

  • أهميّة الأستاذ في كلمات الأعاظم

  • يقول الشيخ العطّار في هذا المجال: 

  • در چنين راه حاكمى بايد شگرف‌***بو كه بتوان رست از اين درياى جرف‌
  • حاكم خود را بجان فرمان كنم‌***نيك وبد هر چه او بگويد آن كنم‌۱
  • [يقول: يلزم لهکذا طريقٍ حاکمٌ موفّقٌ، علّنا نستطيع اجتياز ذلك البحر العميق.

  • وبأرواحنا سنُنفّذ أوامر حاكمنا، وسنطيع كلّ ما يأمر به من خيرٍ وشرٍّ ].

  • وسئل الجنيد عن المُريد والمُرَاد: 

  • «قال: المُريد الذي يتولّاه سياسة العلم (أي: إنّ تدبير أموره هو من خلال العلم الحصوليّ والاكتسابي)، والمُراد الذي يتولاّه رعاية الحقّ (فتنظيم أموره هو بواسطة مشيئة الحقّ وإرادته)، والمُريد صاحب السير (فهو يطوي الطريق سيراً)، والمُراد صاحب الطير (فهو المحلّق في السماوات) ولا يُدرِك الساير(حال) الطاير»٢

  • ومن كلمات أبي سعيد: 

  • «مدارُ الطريقة على الشيخ؛ الشيخ في قومه كالنبيّ في أمّته».

  • ومن المُحقَّق المبَرهن عليه أنّه لا يمكن للإنسان أن يصل بنفسه إلى أيّة نتيجة، ولذلك يقول العارف الكبير الشيخ محمود الشبستري:

    1. منطق الطير (فارسي)، المقالة الخامسة عشر ص ۱٢٦.
    2. تذكرة الأولياء (فارسي)، ص ٤٤٤؛ وأورد في شرح ابن أبي الحديد، ج ۱۱، ص ٢۱٢ : «فقال: المُريد سايرٌ والمُرَاد طائرٌ، ومتى يلحق السائرُ الطائرَ؟!» 

حريم القدس - مقالة في السير و السلوك

110
  • دل عارف شناساى شهود است‌ *** وجود مطلق او را در شهود است۱
  • [يقول: إنّ قلب العارف عالم بالشهود فوجوده المطلق في الشهود]

  • السيرة العمليّة للعلامة الطهراني مع أساتذته السلوكيّين

  • كان العلاّمة الطهرانيّ يُعبّر عن أساتذته بأنّهم في منزلة الأنبياء الإلهيّين، ويرى أنّ شخصيّتهم هي الشخصيّة التي تتمتّع بالوصول إلى مقام الإشراف والإحاطة على النفوس والضمائر، دون أن تكون لهم جنبة تشـريعٍ أو ارتباطٍ بالوحي، وأمْرُ أحدِهم هو أمرُ الله تعالى، ودستوره واجبُ الاتّباع كدستور النبيّ الإلهيّ.

  • أذكرُ أنّه في أحد الأيّام دار حديثٌ بين العلاّمة الطباطبائيّ والعلاّمة الطهرانيّ ـ رضوان الله عليهما ـ في مجلسٍ من مجالسهما حول مدى طاعة المُريد لأستاذه ومعيارها في المسائل السلوكيّة والتقليد الشـرعيّ، فكان من ضمن ما تفضّل به العلاّمة الطهرانيّ: وهل يمكن للمريد أن يجد حقيقةً غير أفعال أستاذه وأقواله، فيتّخذ منها مِلاكًا للتأسّي والطاعة والتقليد؟!

  • * * *

  • خصائص «رسالة لبّ اللباب» وقيمتها السلوكيّة

  • تُعدّ «رسالة لبّ اللباب في سير وسلوك أولي الألباب» التي ألّفها المرحوم العلاّمة الطهرانيّ، واحدةً من أهمّ وأثمن الرسائل التي أُلّفت في هذا الموضوع منذ بزوغ فجر الإسلام وحتّى يومنا هذا؛ فقد قام كلٌّ من العرفاء 

    1. ديوان گلشن راز (فارسي)، ص ٤٤.

حريم القدس - مقالة في السير و السلوك

111
  • الإلهيّين بدوره في تقديم بياناتٍ عن السير و السلوك العمليّ إلى الله لكلّ من كان مستعدّاً، وذلك من خلال رسائلَ أو مقالاتٍ أو كتبٍ، وبأساليب متفاوتةٍ، ولكنّنا لا نجد بين ما كتبوه رسالةً تبيّن باختصار كيفيّة التحوّلات والتغيّرات التي تطرأ على نفوس البشر، وتوضّح منازل الطريق ومراحله، كما هو الحال في هذه الرسالة الشـريفة، وقد ترشّحت هذه الرسالة عن يراع العلاّمة الطهراني تقريرًا وتحريرًا للدروس الأخلاقيّة التي كان العلاّمة الطباطبائي ـ رضوان الله عليه ـ يلقيها على بعض تلامذته ومريديه؛ وتستحقّ مزايا هذه الرسالة الشـريفة وخصوصيّاتها أن تدرس من جهتين:

  • أوّلاً: إلقاؤها من قبل رجلٍ قدسيٍ كالعلامة الطباطبائي

  • الأولى: وتتمثّل بأنّ مُلقي هذه الدروس هو شخصٌ عظيمٌ كالعلاّمة الطباطبائيّ رضوان الله تعالى عليه، ذلك الرجل الذي يعجز البيان عن وصفه وتصوير فضائله، ويكلّ اللسان عن مدحه وتمجيده.

  • نبذة عن أحوال العلامة الطباطبائي ومقاماته المعنويّة

  • لقد كان ذلك الرجل الإلهيّ قدوةَ أهل زمانه في العلوم النقليّة من فقهٍ وأصولٍ وتفسيرٍ وغيرها؛ بحيث يمكننا أن نجعل اسمه في هذا القرن الأخير ضمن من عمل على إحياء الشـريعة المحمّدية وازدهار العلوم الدينيّة، كما أنّه على صعيد الفلسفة الإسلاميّة والحكمة المتعالية كان الحكيم الذي بعث الحياة في الفلسفة الراقية لحِكمة صدر المتألّهين المتعالية الرفيعة. 

  • إنّ رشحات أفكاره الرقيقة وفيوضات بحار حكمته وعرفانه جعلت منه شخصيّةً استثنائيّةً لم تر القرون الأخيرة نظيرًا لها أبدًا. لقد كان رضوان الله عليه رجلًا لمس بكامل أنحاء وجوده الشـريف حقيقة وعمق التعاليم 

حريم القدس - مقالة في السير و السلوك

112
  • والمباني الأصيلة للشـريعة الإسلاميّة ومدرسة التشيّع ، مازجًا بين المُدركات العقليّة وعلوم الوحي وحقيقة الشهود معًا.

  • و بعبارةٍ جامعةٍ: كان العلامة الطباطبائي ـ رضوان الله عليه ـ أحد مفاخر الإسلام الذين يعزّ نظيرهم منذ صدر الإسلام و حتّى عصـرنا الحاضر، في علوّ درجاتهم الروحيّة، وإتقان مُدركاتهم العقليّة، وكشفهم لحجب عوالم المعنى. 

  • العلامة الطباطبائي في كلمات العلامة الطهراني

  • كان المرحوم العلاّمة الطهراني كثيرًا ما يقول:

  • «إنّ العلاّمة الطباطبائي هو إنسانٌ لا تأتي الملائكة على اسمه بغير طهارةٍ ووضوءٍ، وهو شخصيّةٌ فذّةٌ يخفى قدرها وتُجهل منزلتها حتّى عن الأعاظم العلماء والفقهاء».

  • أذكر أنّني ذهبتُ يومًا برفقة المرحوم العلاّمة الطهراني، إلى منزل أحد أبرز طلاّب العلامة الطباطبائي، و كان هذا الشخص من الحكماء المعروفين والمشهورين، وعندما دار الحديث حول العلاّمة الطباطبائي، قال ذلك الرجل الحكيم في وصفه:

  • «لقد كان سماحته شخصيّةً لم يصدر عنها تركٌ للأولى ولو لمرّةٍ واحدةٍ، لا في السرّ ولا في العلن».

  • وعندما خرجنا من المنزل، التفت إليّ العلاّمة الطهرانيّ وقال:

  • «ما هذا التعبير الذي ذُكر في مدح العلاّمة الطباطبائي؟! أين العلاّمة الطباطبائي من أمثال هذه التعابير؟! إنّه لفي منزلةٍ قد خرج فيها عن حدّ الوصف والنعت والمدح والتمجيد ، وأفعاله غير قابلةٍ للوصف أصلًا؛ فكيف يُمكننا أن نقول في حقّه مثل هذه النعوت والأوصاف؟!».

حريم القدس - مقالة في السير و السلوك

113
  • وعندما قال أحدهم ذات يوم عن العلاّمة الطباطبائي:

  • «لقد رأيت سماحته في مقام التكليم تمامًا كما قال الله سبحانه بحقّ النبيّ موسى عليه السلام : {وَكَلَّمَ ٱللَّهُ مُوسَىٰ تَكۡلِيمٗا}۱».

  • فقال العلاّمة الطهراني:

  • «لا يُعدّ هذا مقامًا رفيعًا بالنسبة للعلاّمة الطباطبائيّ».

  • ومن المناسب هنا أن نوكل قلم البيان، ووصف هذه الشخصيّة الاستثنائية، إلى تلك اليد الماهرة، يدِ أفضل طلاّب مدرسة العلاّمة الطباطبائيّ، عملاق ميدان التوحيد والمعرفة؛ سماحة العلاّمة الطهرانيّ رضوان الله عليه، فنستفيد من قلمه الرشيق فيما كتبه عن أستاذه العظيم، حيث يقول سماحته في مقدّمة كتاب «توحيد علمي وعيني»:

  • «و أما بيان أحوال و ترجمة ... أستاذنا الأكرم ، ومولانا الأعظم: سماحة آية الله العظمى الحاج السيّد محمّد حسين الطباطبائي التبريزي ـ أفاض الله علينا من بركات نفسه ـ فهو أمرٌ عسيرٌ على قلم البيان، خارج عن قدرة الوصف، إذ لا يمتلك الفكرُ السعةَ والمقدرةَ على فهم أطراف مقاماته العلميّة والفقهيّة والحِكَميّة والعرفانية وجوانبها، ولا على دراسة روحه الرفيعة وخلقه العظيم؛ ولا يمكن للمنطق والكلام أن يحصـر تلك النفس القدسيّة وذلك الإنسان الملكوتيّ والروح المجرّد داخل سياجه.

  • هر چه گويم عشق را شرح وبيان‌***چون به عشق آيم خجل گردم از آن‌
    1. سورة النساء (٤)، ذيل الآية ۱٦٤.

حريم القدس - مقالة في السير و السلوك

114
  • گر چه تفسير زبان روشنگر است‌***ليك عشق بى زبان روشنتر است‌
  • چون قلم اندر نوشتن مى شتافت‌***چون به عشق آمد، قلم بر خود شكافت‌
  • چون سخن در وصف اين حالت رسيد***هم قلم بشكست وهم كاغذ دريد
  • دل در شرحش چو خر در گل بخفت‌***شرح عشق وعاشقى هم عشق گفت‌
  • آفتاب آمد دليل آفتاب‌***گر دليلت بايد از وى رو متاب‌
  • ز وى ار سايه نشانى مى دهد***شمس هر دم نور جانى مى دهد
  • واجب آمد چون كه بردم نام او***شرح كردن رمزى از انعام او
  • اين نفس جان دامنم برتافته است‌***بوى پيراهان يوسف يافته است‌
  • كز براى حق صحبت سالها***باز گو رمزى از آن خوش حالها
  • تا زمين وآسمان خندان شود***عقل وروح وديده صد چندان شود
  • گفتم اى دور افتاده از حبيب‌***همچو بيمارى كه دور است از طبيب‌

حريم القدس - مقالة في السير و السلوك

115
  • لا تكلفنى فإنى في الفناء***كلّت أفهامى فلا أحصى ثناء
  • كلّ شى‌ء قاله غير المفيق‌***إن تكلّف أو تصلّف لا يليق‌
  • هر چه مى گويد موافق چون نبود***چون تكلف نيك نالايق نمود
  • خود ثنا گفتن زمن ترك ثنا است‌***كان دليل هستى وهستى خطاست‌
  • شرح اين هجران واين خون جگر***اين زمان بگذار تا وقت دگر۱ 
    1. مختارات من شعر مولانا الرومي في: المجلّد الأول، ص ٤، عن «مثنوي» الميرزا محمود وزيري. (تعليقة).
      يقول:
      وكلّ ما أقوله شرحًا وبيانًا للعشق، أخجل منه عندما أصل إلى العشق نفسه.
      وبالرغم من أنّ تفسير اللسان موضّحٌ ومبيّنٌ، لكنّ العشق أكثر وضوحًا حينما يكون بغير كلامٍ.
      ومهما كان القلم مسرعًا في الكتابة، فإنّه عندما وصل إلى العشق تحطّم وصار بددًا.
      وعندما وصل الحديث إلى وصف هذا الحال (العشق) تحطّم القلم كما تمزّقت الأوراق.
      والعقل في شرحه عاجزٌ عجزَ حمارٍ غارقٍ في الوحل؛ فشرح العشق إحساسٌ يتحدّث به العشق نفسه.
      والشمس دليلٌ على الشمس، فإن أعوزك الدليل فلا تشح بوجهك عنها.
      والظلّ وإن كان دليلًا عليها، غير أنّها في كلّ لحظةٍ تنشر نورًا من أنوار الروح.
      ومن الواجب ما دام قد ذُكر اسمه، أن نقدّم رمزًا من رموز إنعامه.
      إنّ هذا النفَس قد أخذ بتلابيب روحي، فقد وجدت فيه رائحة قميص يوسف.
      قائلًا: بحقّ صحبة السنين هلّا أعدت على مسامعنا رمزًا من رموز السعادة.
      حتّى تُصبح السماء ضاحكةً والأرض، وحتّى تكون قوّة العقل أضعافًا.
      قلتُ: يا نائيًا عن الحبيب! أنت كمريضٍ ناءٍ عن الطبيب.
      لا تكلّفني فإنّي في الفناء كلّت أفهامي فلا أبغي ثناء.
      كلّ شي‌ء قاله غير المُفيق إن تكلّف أوتصلّف لا يليق.
      وكلّ ما يقوله لمّا لم يكن موافقًا وكان تكلّفًا فهو لا يليق.
      إنّ الثناء منّي هو ترك الثناء، فهو دليلٌ على وجودي، ووجودي ذنب.
      فاترك تفسير هذا الهجران وهذه المشقّة إلى وقتٍ آخر.

حريم القدس - مقالة في السير و السلوك

116
  • وحيث أنّ سماحة الأستاذ قد ارتحل من هذا العالم إلى عالم الخلود، وقام الحقير بتأليف رسالةٍ في ذكراه بعنوان «الشمس الساطعة» ؛ فقد كنت أمنّي نفسي بأنّني ربما استطعت أن أقوم بتعريفه إلى حدٍّ ما، وبيان طريقه لعشّاق الحبيب والمشتاقين للقاء جماله السـرمديّ؛ ولكنّني عندما أطالع هذه الكتابات من حينٍ لآخرٍ، لا أملك إلاّ أن أقول: هيهات، هيهات أن أظنّ أنْ أصلَ إلى فهم مغزى معنويّتك، أو أقدر على أن أتفوّه بكمال روحانيّتك؛ فيرجع فهمي كليلًا، وعيني خائبةً وحسيرةً، ولساني خارسًا وثقيلًا!۱

  • عنقا شكار كس نشود دام بازگير *** كانجا هميشه باد به دست است دام را٢
  • * * *

  • سينه ام ز آتش دل در غم جانانه بسوخت‌***آتشى بود در اين خانه كه كاشانه بسوخت‌
  • تنم از واسطه دورى دلبر بگداخت‌***جانم از آتش مهر رخ جانانه بسوخت‌
    1. إنّ العبارات التي باللون الأسود الغامق من تأليف العلامة الطهراني، وهي ليست معرّبة، فاقتضى التنبيه.(م)
    2. ديوان حافظ الشيرازي، طبع پژمان، ص ۷. (تعليقة).
      يقول: ليس لأحدٍ أن يصطاد العنقاء فاجمع شراكك وارحل؛ فلا شي‌ء هناك سوى الريح.

حريم القدس - مقالة في السير و السلوك

117
  • سوز دل بين كه زبس آتش واشكم دل شمع‌***دوش بر من ز سر مهر چو پروانه بسوخت‌
  • ماجرا كم كن وبازآ كه مرا مردم چشم‌***خرقه از سر بدر آورد بشكرانه بسوخت‌
  • هركه زنجير سر زلف گره گير تو ديد***دل سودازده اش بر من ديوانه بسوخت‌
  • آشنائى نه غريب است كه دلسوز من است‌***چون من از خويش دل بيگانه بسوخت‌
  • خرقه زهد مرا آب خرابات ببرد***خانه عقل مرا آتش خمخانه بسوخت‌
  • چون پياله دلم او توبه كه كردم بشكست‌***همچو لاله جگرم بى مى وپيمانه بسوخت‌
  • ترك افسانه بگو حافظ ومى نوش دمى‌***كه نخفتم به شب وشمع به افسانه بسوخت‌۱
    1. ديوان حافظالشيرازي، طبع پژمان، ص ۱٥.
      يقول: لقد احترق صدري بنار القلب المؤجّجة حزنًا لفراق الحبيب، فأحرقت ألسنة النار عُشي الآمن.
      وذاب جسدي وانصهر كياني لبعد الحبيب، واكتوت روحي واحترقت نفسي بنار خدّه.
      فانظر إلى احتراق قلبي ونار دموعي المنهمرة كدموع الشمع، وحينما أشفق الحبيب بحالي وزارني ليلة الأمس احترق بناري كالفراشة.
      فأقلّ الحديث عمّا جرى، وارجع إليَّ، فإنسان عيني قد طوّح بالخرقة عن رأسي، وشكراً للّه أنها احترقت. كلّ من شاهد سلسلة شَعرك الجذاب، سوف يحترق قلبه عليّ أنا المجنون بحبك، حرقة قلبي أمرٌ معروفٌ ليس منكرًا، وعندما أحرقني وغبت أحرق قلب الغريب.
      ولقد جرف ماء الخرابات خرقة الزهادة بطوفانه، وأحرقت نار الحانة مستقر عقلي.
      وانكسر قلبي انكسار الكأس بسبب التوبة التي تبتها، واحترق كبدي احتراق الشقائق بغير الخمرة والحانة.
      استغل وقتك يا حافظ بشرب الخمر، فقد احترق الشمع ونحن نقص مثل هذه الحكايات، فكذلك احترق شمع حياتي في حكاية هذه الأباطيل.

حريم القدس - مقالة في السير و السلوك

118
  • انتهى كلام العلامة الطهرانيّ۱.

  • سلسلة الانتساب العرفانيّة للعلاّمة الطباطبائيّ

  • أضف إلى ذلك كلّه أنّ المرحوم العلاّمة الطباطبائيّ يعدّ نفسه ـ في المعارف الإلهيّة وكشف حقائق عالم الوجود ـ في عِداد تلامذة العلاّمة آية الله العظمى وحجّته الكبرى العارف الكامل المرحوم الحاج الميرزا عليّ القاضي الطباطبائيّ، وكان يبيّن سلسلة انتسابه العرفانيّ إلى العرفاء الإلهيّين على النحو التالي:

    1.  توحيد علمي وعيني (فارسي)، ص ٣٥ إلى ٣۷.

حريم القدس - مقالة في السير و السلوك

119
  • فالمرحوم العلاّمة الطباطبائيّ ينتسب إذن إلى مسلك أهل العرفان والسلوك من طريقين اثنين؛ وبناءً على ذلك يمكن القطع بصحّة مضامين ومحتويات هذه الرسالة الشريفة؛ فقد كان صاحبها ومُلقيها أحد علماء الدرجة الأولى عند الشيعة، وكان خبيرًا بكافّة المباني والمدارس المختلفة والفِرَق المتنوّعة، كما كان على قسطٍ وافرٍ من موهبة الكشف والشهود.

  • ثانيًا:‌ ‌تحريرها من قبل عارفٍ عظيم كالعلامة الطهراني

  • وأمّا من الجهة الثانية، فهي انتساب هذا الكتاب الشـريف إلى مؤّلفه ومقرّره المرحوم العلاّمة آية الله العظمى وحجّته الأكبر السيّد محمّد حسين الحسينيّ الطهرانيّ، فإنّه شخصيّة لا يطيق توصيفها وتعريفها كاتب هذه السطور؛ فهو يفوق أفق عقلي وإدراكي، وما الكتابة في هذا المجال إلّا بمثابة بيانٍ للأوهام والتخيّلات.

  • منزلة العلامة الطهراني عند العلامة الطباطبائي

  • لقد كان العلامة الطهرانيّ التلميذ الأوّل والمُميّز للمرحوم العلاّمة الطباطبائيّ في العلوم الرسميّة من الفلسفة والفقه والتفسير وفقه الحديث. وإضافةً إلى ذلك، فقد كان طيلة السنوات السبع التي أقام خلالها في مدينة قم المقدّسة يستفيد منه يوميّاً مدّة ساعتين على الأقلّ وبنحوٍ خصوصيٍّ، وكان يغترف من فيوضات علم هذا النبع وحكمته فينهل من معين بيانات عرفانه وتوحيده، وقد كانت تلك العلاقة بين الأستاذ وتلميذه على درجة من الصميميّة بحيث جعلت المرحوم العلاّمة الطباطبائيّ لا يحتمل فراقه؛ فهو يكتب في إحدى رسائله إليه بعد هجرته إلى النجف:

  • «... ولكن ومع كلّ ذلك ـ وكما يشهد قلبكم كذلك طبقًا للقاعدة ـ فإنّ الملامح الرقيقة لوجه جنابكم العالي لا تغيب عن ذاكرتي، ولولا أنّ المسألة كانت هي السفر إلى أعتاب عرش 

حريم القدس - مقالة في السير و السلوك

120
  • حضـرة أمير المؤمنين عليه السلام، ما كان الحقير ليقبل بسفر حضرتكم لا في مقام العمل ولا التصوّر.

  • وعلى كلّ حالٍ وبكلامٍ مختصرٍ فإنّ قلب هذا العبد عندكم...».

  • أساتذة العلاّمة الطهراني في العرفان

  • لم يكن العلامة الطهرانيّ في هذه المدّة بمثابة التلميذ الأبرز عند العلاّمة الطباطبائيّ وحسب، بل تربّى عنده كتلميذٍ سلوكيٍّ أيضًا، وعمل على تهذيب نفسه، والتزم بالقيام بالدستورات وبرامج المراقبة العمليّة، والأذكار والأوراد في الليل والنهار، وكان مسلّماً قلبه بكامل الجدّ والاهتمام لأوامر أستاذه ودستوراته ، ذلك الأستاذ الذي كان يرى أنّ السلوك العمليّ والارتقاء إلى مرتبة العرفان والتجرّد هو السبيل الأوحد للوصول إلى إدراك ولاية الإمام عليه السلام والإحاطة الحقيقيّة بمسألة الولاية، وعلى هذا الأساس قام بتربية تلميذه هذا صاحب الاستعداد العظيم.

  • لقد وصل العلاّمة الطهرانيّ بعد هجرته إلى النجف الأشرف، واستفادته من دروس أساتذة العلوم الرسميّة، إلى مرتبة من العِلم جذبت إليه الأنظار، حتى صار مشارًا إليه بالبنان، وقد كان شائعًا في الحوزة آنذاك أنّه لو دامت إقامته في النجف لآلت إليه مرجعيّة الشيعة. 

  • في الوقت نفسه، وطبقًا لوصيّة أستاذه العلاّمة الطباطبائيّ فقد أقام صداقاتٍ سلوكيّةٍ مع تلامذة المرحوم القاضي، وخصوصًا الحاج الشيخ عبّاس القوچاني، والسيّد جمال الدين الگلبايگانيّ.

حريم القدس - مقالة في السير و السلوك

121
  • تعرّض العلامة الطهراني للأذيّة لثباته في السير والسلوك

  • لم يكن منهجه في الحياة وفي طلب العلم ليرضيَ علماء أهل الدنيا، الجاهلين بعوالم المعنى، والمغمورين في بوادي النفس الأمّارة؛ لذا فقد تعرّضوا له بالإهانة والإيذاء، غير أنّه لم يكن ليتنازل عن معتقداته ولو بمثقال ذرّةٍ، ولأنّه تفوّق في قدراته العلميّة ـ والتي فاق بها حتّى أساتذته ـ لم يترك أيّ مجالٍ للجرأة عليه، ولأنّ منطقه القاطع القويم لم يدع فرصةً للتجاسر عليه من قبل أهل الجهل وتجّار الدين المتظاهرين بلباس أهل العلم، فقد عمل هؤلاء سرًّا على بثّ الأكاذيب والتهم لتشويه صورته؛ فاتّهموه بالتصوّف المُنكر.

  • ويَنقل هو نفسه أنّ أحد أساتذته (المرحوم آية الله الخوئيّ رحمة الله عليه) استوقفه يومًا وقال له: 

  • «آغا سيّد محمّد حسين ! إنّها لخسارة أن يصرف مثلكم أوقاته في الأمور السلوكيّة، والالتزام بالبرامج الخاصّة بهذا الطريق، مع كلّ ما أنتم عليه من الاستعداد والنبوغ العلميّ، فهذه مسائل تحصل للإنسان من تلقاء نفسها، ووقت الطلاّب أثمن من أن يُصرف في سبيل هذه الأمور!!»

  • فأجابه العلاّمة:

  • «أنتم تعلمون بأنّي أقوى تلامذة دروسكم، وأنا مستعدّ للمباحثة معكم في أي مسألةٍ فرعيّةٍ تختارونها؛ كي يتّضح أيّنا أشدّ تضلعًا وأقوى استدلالًا وأوفر علماً!؟ فهل تراني أترك أيّامي تنقضي عبثًا كأولئك الذين ليس لهم من عمل سوى إتلاف أوقات العمر والسهرات اللاهية والخوض في الغيبة والتهمة والدخول في خصوصيّات الصالحين؟!

حريم القدس - مقالة في السير و السلوك

122
  • ولو أنّ هذه المسائل المعنويّة ودرجات العوالم الربوبيّة كانت تتيسّر للإنسان من تلقاء نفسها، لكنا شاهدناها منكم ومن أمثالكم! أين تحصل هذه المسائل من تلقاء نفسها؟! 

  • هيهات هيهات أن يستطيع الإنسان الوصول إلى ذرّةٍ من هذه المعارف، وهو على هذا النحو من التفكير وعلى مثل هذه الرؤى والأنظار! 

  • إنّهم يقضون كامل أعمارهم في الشك والحيرة والتردّد والجهل، ويُهاجرون من هذا العالم إلى عالم الآخرة صفر اليدين بغير مستمسكٍ أو دليلٍ، ليحين هناك موعد الحساب».

  • ارتباط العلّامة الطهراني بالعارف الكامل السيّد هاشم الحدّاد 

  • وبعد مضـيّ سبع سنواتٍ من إقامة العلاّمة الطهرانيّ في النجف، والاستفاضة من بركات العتبة المقدّسة لصاحب الولاية الكبرى حضـرة مولى الموحّدين أمير المؤمنين عليه السلام، وبواسطة العنايات التي خصّه بها حضـرة بقيّة الله الحجّة بن الحسن المهديّ أرواحنا لتراب مقدمه الفداء، فقد التقى بأبرز تلامذة المرحوم القاضي في الأخلاق والعرفان، الحاج السيّد هاشم الموسويّ الحدّاد، تلك الشخصيّة التي استطاعت أن تجتذب كامل شراشر وجوده وتُخضعها لسيطرتها الولائيّة، فلم تعد لتبقى في زوايا وجوده أيّة نقطةٍ من نقاط الإبهام والغموض.

  • إنّ العبارات التي كان يتحدّث بها المرحوم العلاّمة الطهرانيّ عن هذا العارف الفريد تختلف عن العبارات التي يُشير بها إلى سائر العرفاء والأولياء الإلهييّن، سواءً الماضين منهم أم المعاصرين له، ولمزيد من التوضيح في هذا 

حريم القدس - مقالة في السير و السلوك

123
  • المجال نحيل القرّاء إلى كتابَي «أسرار الملكوت» الجزء الثاني، و«الشمس المنيرة».

  • وما امتاز به المرحوم الحدّاد من سيرٍ روحيٍّ، وقدرةٍ عرفانيّةٍ، وسعةٍ في الآفاق الفكريّة، وعلوٍّ في الفكر كان قد بلغ حدًّا لم يدع مجالًا لحضور غيره في ذهن العلامة الطهرانيّ، وعقله وقلبه وضميره، وقد نزع منه كلّ إحساسٍ بالتفوّق، وسدّ الطريق أمام أيّ منقصةٍ أو ثغرةٍ؛ فدخل تحت تربية هذا الرجل الكبير وتهذيبه بكلّ وجوده وبكامل اختياره، وبدّل اختياره باختياره، وأحلّ إرادته مكان إرادته، وكان بين يديه سمعًا كلّه وبصـرًا؛ كان بين يديه صفرًا، بل كان عبدًا ومريدًا، وكان يرى كلامه عين الوحي، وإشارته عين مشيئة الحقّ، تنتزع الحقيقة والواقع من حركاته وسكناته، لا أنّ فعله وقوله مطابقان للمصلحة والواقع.

  • مِن هنا كان من الطبيعيّ أن يتغيّر مستوى التكامل المعنويّ وأفق كشف الحقائق التوحيديّة عند العلاّمة الطهرانيّ، وأن يختلف فهمه وإدراكه لمسائل التوحيد والعرفان عمّا أخذه سابقًا من سائر الأساتذة، وكان حقًا أن يصل إشراق بوارق الجلال والجمال على قلبه إلى تحوّلٍ جوهريٍّ في وجدانه وضميره، فينال أعلى موهبةٍ إلهيّةٍ متمثّلةٍ بالوصول إلى مقام تجرّد الذات والفناء في ذات الله، ويحوز بتأييدٍ من الله على مرتبة البقاء بالله؛ لمساعدة النفوس المستعدّة وهدايتها وإرشادها، فيلقّبه أستاذه السيّد هاشم الحدّاد بـ «سيّد الطائفتين».

  • ولقد خاطبني السيّد الحدّاد يومًا: 

  • «اعلم يا فلان أنّه لن يُعثر على نظير لأبيك على وجه الكرة الأرضيّة، وإنّي سلّمته كلّ ما أملك مائة في المائة».

حريم القدس - مقالة في السير و السلوك

124
  • العلاّمة الطهراني و‌صيّ ظاهر وباطن للسيّد الحدّاد 

  • لقد كان المرحوم العلاّمة الطهرانيّ الوصيّ الظاهر والباطن للمرحوم الحدّاد وفق وصيّته المكتوبة، وقد فُوِّضت إليه كافّة مهامّ المرحوم الحدّاد۱، والمُلفِت أنّ مدّة صحبته للمرحوم الحداد التي كانت ثمانية وعشـرين سنةً، مطابقةً تمامًا لمدّة صحبة المرحوم الحدّاد لأستاذه في العرفان: المرحوم السيّد علي القاضي رضوان الله عليهم أجمعين.

  • لقد وصل العلاّمة الطهرانيّ في المعارف التوحيديّة والمقاصد العرفانيّة إلى أفقٍ لا يتصوّر ما هو أرفع منه، وحيث كان من شيَمه وخصائصه في علاقته بأساتذته وأولياء نعمته رعاية الأدب والاحترام واللطف، فقد فتح باب البحث والمذاكرة حول المسائل التوحيديّة والعرفانيّة مع المرحوم العلاّمة الطباطبائيّ في أواخر حياته، فتباحثا في ست جلساتٍ انعقدت في مدينة طهران، عن حقيقة فناء العبد فناءً ذاتيًّا في ذات الله، وانمحاء جميع التعيّنات والآثار، حتى العين الثابتة للعبد انمحاءً كليّاً، وقد وردت هذه المطالب مفصّلة في كتابه «الشمس الساطعة»٢. وكان المرحوم العلاّمة الطباطبائيّ في هذه المباحثات يُؤكِّد على عدم الفناء الذاتيّ وعلى بقاء العين الثابتة، وكان يستدلّ على ذلك بأدلّةٍ خاصّةٍ؛ غير أنّه في النهاية، وبعد الأخذ والردّ والمناقشة للأدلّة، اقتنع بحصول الفناء الذاتيّ، وقد أدّى اقتناعه بذلك إلى أن تسيطر عليه حالاتٍ من البهجة والنشاط والتعمّق والتفكّر.

    1. أسرار الملكوت (فارسي)، ج٢، ص ٥۱٢.
    2. الشمس الساطعة، ص٢٢٣ إلى ص٢۷٩.

حريم القدس - مقالة في السير و السلوك

125
  • وبعد انتهاء هذه الجلسات، والتي كان كاتب هذه السطور قد تشـرّف بخدمة الوالد المعظّم بحضورها، سمعتُ العلاّمة الطباطبائيّ يقول: «لقد جعلكم الله وسيلةً لهدايتي وإرشادي»، وإنّها لكلمةٌ تحمل بين ثناياها عالَماً من العظمة والتواضع والخلوص والصدق والبهاء.

  • والملفت في المسألة أنّ هذه المباحثات نفسها كانت قد حصلت بين المرحوم العلاّمة الطباطبائيّ وأستاذه المرحوم القاضي أثناء إقامته في النجف، لكنّ المرحوم القاضي لم يتمكّن من إقناعه بهذه المسألة، وقد تحقّقت هذه المهمّة بتوفيق الله على يد العلاّمة الطهرانيّ. وله الحمد وله الشكر وهو الموفّق والمعين.

  • كان ذلك خلاصة عن شخصيّة مقرّر وجامع هذه الرسالة الشـريفة، ورغم أنّ المطالب التي لم تُذكر في هذه المقالة تفوق بكثيرٍ ما ذكر فيها، لكن لن يصعب على أرباب البصيرة والدراية إدراك الحقائق وكشف الرموز مِن بين ما كُتب في هذه السطور.

  •  

  •  اللهمّ ألحقنا بعبادك الذين هم بالبدار إليك يسارعون 

  • وبابك على الدوام يطرقون، وإيّاك في الليل والنهار يعبدون

  • بمحمّد وآله الطاهرين.

  • قم المقدّسة، الاثنين ۱٤ شوّال ۱٤٢۷ هـ

  • السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ