المؤلّف العلامة آیة الله السيد محمد الحسين الحسيني الطهراني
القسم الاخلاق والحکمة والعرفان
التوضيح
جرى في هذه الرسالة إضافةً إلى شرح حال المرحوم بحر العلوم وصحة انتساب هذه الرسالة له، بيان حقيقة ومقصد السلوك إلى الله سبحانه، كيفيّة السلوك إلى الله وآثاره، وطريقة ذكر العلاّمة بحر العلوم، وذلك بشرح مفصّل من قبل العلاّمة آية الله مُدّ ظلّه.
مُقَدَّمَةُ الكِتَابِ بِقَلَمِ السَّيِّدِ مُحَمَّدِالحُسَيْنِ الحسيني الطِّهْرَانِي
بسم الله الرحمن الرحيم
و به نستعين
و الصلاة و السلام على سيّدنا محمّد و آله الطاهرين
و اللعنة على أعدائهم أجمعين
و بعد، فقد اتّفق في زمن اشتغال الحقير الفقير بالتحصيل في الحوزة العلميّة المقدّسة في قم، أن وقعت بيدي رسالة خطّيّة تحمل عنوان «تُحفة المُلوك في السير و السلوك، منسوبة إلى مولانا السيّد مهدي بحر العلوم»، و كانت النسخة عائدة إلى المرحوم حجّة الإسلام الحاجّ الشيخ عبّاس الطهراني. و قد استحوذت تلك النسخة على اهتمامي، فاستعرتُها من المُشار إليه لاستنساخها، فنسختُ منها نسخة لنفسي سنة ۱٣٦٦ ه، بَيدَ أنّها كانت نسخة مغلوطة إلى درجة كبيرة، بحيث تسرّب الإبهام إلى بعض مواضعها، و لذا فقد سعيتُ في الحصول على نسخة صحيحة من الرسالة المذكورة لأقوم بتصحيح النسخة الاولى على أساسها. فلمّا تشرّفت بالذهاب إلى النجف الأشرف للدرس و التحصيل، عثرتُ على نسخة اخرى منها
لدى حجّة الإسلام آية الله الحاجّ الشيخ عبّاس هاتف القوجانيّ دامت بركاته،۱ فاستعرتها منه، ثمّ اتّضح أنّها كانت لا تقلّ عن سابقتها في الأغلاط، فلم تنفع إلّا في تصحيح موارد معدودة.
ثمّ حصل بعد عودتي من النجف الأشرف سنة ۱٣۷٦ ه أن تشرّفت بالمثول في محضر الاستاذ المكرّم العلّامة الطباطبائيّ مُدّ ظلّه العالي، فأخبرني أنّ لديه نسخة من هذه الرسالة على درجة كبيرة من الصحّة استنسخها بيده. ثمّ أضاف: لقد عثرتُ زمن اشتغالي بالتحصيل في تبريز على نسخة من هذه الرسالة فاستنسختها، إلّا أنّها كانت مليئة بالأغلاط. فلمّا تشرّفت بالذهاب إلى النجف الأشرف وجدت نسخة مماثلة لدى أُستاذي المرحوم الحاجّ الميرزا على أقا القاضي رضوان الله عليه، و كانت كنسختي مغلوطة، ثمّ تبيّن أنّ أصل نسخته و نسختي كان واحداً. و كانت نسخة المرحوم القاضي مكتوبة بخطّ رديء، أشبه بخطّ طفل لم ينقضِ على ذهابه إلى المدرسة زمن طويل، و لذلك فقد كانت مليئة بالأغلاط. ثمّ أنّيّ عثرتُ لدى أُستاذي في علوم
الرياضيّات و الهيئة: المرحوم السيّد أبي القاسم الخونساريّ على نسخة على درجة كبيرة من الصحّة، مكتوبة بخطّ جميل على ورق جيّد، و كانت تضمّ جداول، فأخذتها منه لاستنساخها، فنسخت منها نسخة سنة ۱٣٥٤ ه، و كان تأريخ كتابة تلك النسخة يسبق زمن استنساخي بتسعين سنة انتهى كلام الاستاذ العلّامة الطباطبائيّ مُدّ ظلّه.
و هكذا فقد استعار الحقير منه هذه النسخة لاستنساخها، فتفضّل بها بجلال كما هي شيمته دوماً، فاستنسختُ على نسخته و بدقّة هذه النسخة التي بين أيديكم، و التي تعدّ على درجة كبيرة من الصحّة و الاعتبار، هذا من جهة تأريخ النسخة و صحّتها.
صحّة نسبة الرسالة للمرحوم بحر العلوم
أمّا عن انتسابها إلى المرحوم السيّد مهدي بحر العلوم رضوان الله عليه، فقد سمع الحقير مشافهة من المرحوم آية الله الميرزا السيّد عبد الهادي الشيرازيّ رضوان الله عليه أنّه قال: أظنّ ظنّاً قويّاً أنّ هذه الرسالة عدا فقراتها الأخيرة هي من تأليف و إنشاء بحر العلوم.
كما سمعتُ شفاهاً من المرحوم العلّامة الخبير آية الله الشيخ آغا بزرك الطهراني و هو من مشايخ الحقير في الإجازة أنّه قال: عندي أنّ هذه الرسالة عدا أواخرها هي بقلم المرحوم
بحر العلوم.
أمّا في كتاب «الذريعة» ج ۱٢، ص ٢۸٥ فقد جاء:
«رسالة في السير و السلوك تُنسب إلى سيّدنا بحر العلوم السيّد مهدي بن مرتضى الطباطبائيّ البروجرديّ النجفي، المتوفي ۱٢۱٢، فارسيّة في ألفي بيت، لكنّها مشكوكة فيها، و النسخة موجودة في النجف في بيت بحر العلوم» إلى أن يصل إلى قوله: «و رأيتُ نسخة أخرى فيها زيادات و بسط ألفاظ و عبارات سمّاه في أوّلها «تُحفة الملوك في السير و السلوك» و إنّه لبحر العلوم ... و مرّت رسالة السير و السلوك المعرّب لهذه الرسالة ص ٢۸٢» انتهى.
و جاء في ص ٢۸٢:
«رسالة في السير و السلوك هو تعريب السير و السلوك الفارسيّ المنسوب إلى سيّدنا بحر العلوم، عرّبه الشيخ أبو المجد محمد الرضا الإصفهانيّ بالتماس السيّد حسين بن معزّ الدين محمّد المهدي القزوينيّ الحلّيّ في داره بالنجف في «البرّانيّ» في عدّة ليال بعد الساعة الخامسة من الليل. و ذكر أبو المجد أنّه ألّفه بحر العلوم بـ «كرمانشاه». ثمّ يقول: «أقول: نسبة نصفه الأخير إليه مشكوكة، لأنّه على مذاق الصوفيّة، فلو أثبت أنّها له فإنّما هو النصف الأوّل فقط كما يأتي في ص ٢۸٤» انتهى. و هذا هو نظر
العلّامة الطهراني.
و يقول المرحوم العلّامة السيّد محسن الأمين من علماء جبل عامل في «أعيان الشيعة» ج ٤۸، ص ۱۷۰ (ضمن مؤلّفات بحر العلوم):
«رسالة في معرفة الباري تعالى فارسيّة، و في تتمّة «أمل الآمل» أنّها ليست له على التحقيق». ثمّ يقول المرحوم الأمين: «و الظاهر أنّها الرسالة التي في السير و السلوك، و هي مشتملة على أُمور تناسب التصوّف و لا توافق الشرع، فلذلك جزم في تتميم «أمل الآمل» بعدم صحّة نسبتها إليه».
ثمّ يقول: «و ممّا يوجد فيها أنّه عند قول «إيّاك نعبد و إيّاك نستعين» يلزم أن يستحضر صورة المرشد، و أنّ فيه الاستعانة بروحانيّة عطارد، و أنّه استشهد (في هذا الخصوص) بهذه الأبيات» إلى هنا ينتهي كلام المرحوم صاحب «أعيان الشيعة». بَيدَ أنّه أخطأ في هذا الأمر، و ذلك أوّلًا: لأنّه لم يرد في أيّ موضع من الرسالة استحضار وجه المرشد عند قراءة {إيّاك نعبدُ و إيّاك نستعين}.
و ثانياً أنّ الاستعانة بروحانيّة عطارد كما سيأتي لم يرد ضمن رسالة بحر العلوم، بل هو كلام الناسخ، أورده بعد إكمال
كتابة الرسالة ضمن ذكر أحواله، و لا ربط له بالرسالة أبداً.
و أمّا وجهة نظر أُستاذنا العلّامة الطباطبائيّ مُدّ ظلّه، فقد قال:
«قال البعض بأنّ هذه الرسالة متعلّقة بالسيّد مهدي بحر العلوم الخراسانيّ، إلّا أنّ ذلك بعيد جدّاً، و قد اعتبر الشيخ إسماعيل المحلّاتيّ و كان من أهل الدعوة أنّ الرسالة بأجمعها عدا الفقرات الثانية و العشرين و الثالثة و العشرين و الرابعة و العشرين التي وردت في نفي الخواطر و الأفكار هي للمرحوم السيّد مهدي بحر العلوم، و قد كان لدى الشيخ إسماعيل نسخة من الرسالة لم ترد فيها أساساً الفقرات المذكورة. و نسخة الشيخ نسخة كاملة لا تحتوي على أيّ من هذه الفقرات». و أضاف العلّامة الطباطبائيّ: «و يعتقد البعض أنّ هذه الرسالة هي ترجمة لرسالة المرحوم السيّد ابن طاووس، و يعتقدون أنّ في أصلها العربيّ و هو غير موجود فعلًا و في عنوان النسخة التي أخذتها من المرحوم السيّد أبي القاسم الخونساريّ مكتوب «رسالة في السير و السلوك لابن طاووس»، لكنّ أُستاذنا الأكبر آية الحقّ المرحوم الحاجّ الميرزا على آغا القاضي رضوان الله عليه يعتقد على وجه القطع و اليقين بأنّ هذه الرسالة بتمامها هي من تأليف المرحوم السيّد مهدي بحر العلوم» انتهى كلام أُستاذنا الجليل العلّامة الطباطبائيّ.
هذا، و قد قال الحقير يوماً للُاستاذ العلّامة الطباطبائيّ مُدّ ظلّه: لقد طالع الحقير الكثير من كتب الأخلاق و السير و السلوك و العرفان، إلّا أنّيّ لم أُطالع كتاباً يُماثل هذه الرسالة في شمولها و متانتها و أُصولها و فائدتها و سلاستها و في اختصارها و إيجازها، بحيث يمكن حملها في الجيب و الاستفادة منها في الحلّ و الترحال؛ فتعجّب العلّامة من كلامي و قال: لقد سمعت نظير هذه العبارة من المرحوم القاضي رضوان الله عليه، فقد قال: «لم يدوّن كتاب في العرفان بمثل هذه النزاهة و كثرة المطالب» انتهى.
و يقول آية الله الحاجّ الشيخ عبّاس القوجانيّ و هو وصيّ المرحوم القاضي: لقد كان للمرحوم القاضي اهتمام خاصّ بهذه الرسالة، لكنّه صرّح مراراً بأنّه لا يُجيز لأحد أن يستفيد من الأذكار و الأوراد المنقولة في هذه الرسالة. و على أيّة حال فيستنتج من القرائن التي نذكرها أنّ جميع هذه الرسالة من إنشاء بحر العلوم، للأسباب التالية:
أ وّلًا: إن العالم النقّاد الخبير الفقيه و المتكلّم الاصوليّ المرحوم الشيخ محمّد رضا الإصفهانيّ رحمة الله عليه صاحب كتابَي «وقاية الأذهان» و «نقد فلسفة داروين» يعدّ الرسالة من تأليف بحر العلوم كما مرّ في كلام صاحب «الذريعة» و قد ذكر أنّ
مكان تأليفها هو كرمانشاه.
ثانياً: إن المرحوم القاضي رضوان الله عليه و كان قِمّة الفنّ و الجامع بين الظاهر و الباطن و أُستاذ الأخلاق و المعارف قد عدّها للمرحوم بحر العلوم، و لا يمكن الإغضاء بسهولة عن شهادة مثل هذه الاسطوانة ذات الوزن العلميّ في عالم المعارف.
ثالثاً: إن الأفراد الذين نفوا كون القسم الأخير للرسالة من تأليف بحر العلوم لم يمتلكوا غير الاستبعاد دليلًا على نفيهم هذا، مع أنّ إخراج جزء من الكتاب بمجرّد الاستبعاد المحض أمر غير ممكن. و مع أنّ من الممكن أن تكون هذه الفقرات في نظر السيّد، و بطريق صحيح، مورد النظر و العمل.
رابعاً: إن مَن ينظر إلى الرسالة يجد أنّها مدوّنة بإنشاء واحد و سياق واحد، و مؤلّفة وفق نهج بديع و أُسلوب لطيف و عبارات سلسة، و إن القسم الأخير من الرسالة بل فقراتها الثانية و العشرين إلى الرابعة و العشرين لا تختلف أدنى اختلاف في أُسلوبها و منهج كتابتها مع سائر فقرات الكتاب، لكأنّ قلماً واحداً قد دوّنها في تنظيم و تسلسل و نهج خاصّ، و هذا المعنى لا يتنافي مع ما سنذكره في بعض تعليقات الكتاب من أنّ بعض مطالب الكتاب قد وردت بعينها في عبارات بعض الأعلام، حيث إن اقتباس و نقل المطالب
مورد النظر من الكتب السالفة و درجها في الكتب المؤلّفة يعدّ أمراً رائجاً و دارجاً بين الأعلام و أساتذة الفنون.
و أمّا نسبة الرسالة إلى المرحوم السيّد ابن طاووس رضوان الله عليه فأمر بعيد عن الحقيقة، ذلك أنّ ابن طاووس من علماء القرن السابع، و كان مقيماً في الحِلّة، و ينحدر من السادات العرب، و كان عربيّ اللسان و اللهجة، فلا يمكن أن يؤلّف كتاباً بالفارسيّة بمثل هذا المنهج و الاسلوب الخاصّ بالقرون المتأخّرة. كما يتّضح من أُسلوب الرسالة و تعابيرها أنّها ليست مترجمة، فالقلم فيها قلم إنشاء لا ترجمة. يضاف إلى ذلك أنّ الخبير بكتب ابن طاووس يعلم أنّ السلوك العمليّ لابن طاووس كان يستند إلى المراقبة و المحاسبة و الصيام و الدعاء، و أنّ كيفيّة السير و السلوك المذكور في هذه الرسالة لا ينسجم مع نهج ابن طاووس و مذاقه.
و خامساً: إن النسخة الأصليّة لهذه الرسالة إنّما وجدت في مكتبة بحر العلوم النجفي بعد ارتحاله، و هي نسخة موجودة و محفوظة فعلًا لدى عائلة بحر العلوم، كما أنّ اسم الرسالة المذكورة لم يرد في ترجمة أيّ عالم قبل بحر العلوم. كما أنّ من الجليّ أنّها لم تؤلّف بعد زمن بحر العلوم، فيتعيّن تسجيل زمن تأليفها في زمن ذلك المرحوم.
و نتساءل: أيّ فقيه من فقهاء ذلك العصر كان له مذاق العرفان و السير و السلوك ليكتب مثل هذه الرسالة؟ و أيّ واحد من العرفاء و أصحاب السلوك في ذلك العصر كان فقيهاً له مثل هذا التبحّر و التسلّط ليقتحم لُجج بحار أخبار أهل البيت عليهم السلام و الآيات القرآنيّة؟!
ذلك أنّ من الوضوح بمكان أنّ تدوين هذه الرسالة قد تحقّق على يد فقيه مقتدر ذي اطّلاع واسع في مجال الآيات و الأخبار، فينحصر الأمر بصورة طبيعيّة في بحر العلوم، و بخاصّة أنّ النسخة الأصليّة للرسالة إنّما وجدت في مكتبة بحر العلوم.
و لو قال أحد: من الممكن أن تكون الرسالة من تأليف بعض الفقهاء من ذوي السيرة العرفانيّة الذين عاصروا بحر العلوم، من أمثال المرحوم آية الله المولى محمّد مهدي النراقيّ تغمّده الله برحمته، و أن يكون قد أرسلها إلى بحر العلوم!
فنقول: إن أسماء و أعداد تصنيفات أُولئك الفقهاء و المرحوم النراقيّ بوجهٍ خاصّ معروفة و مدوّنة، كما أنّ نجله الجليل: آية الله الحاجّ المولى أحمد النراقيّ رضوان الله عليه لم يذكر في عداد مؤلّفات أبيه مثل هذه الرسالة.
و لقد شاهدنا في كلمات صاحب «أعيان الشيعة» من أنّ ذلك
العالِم المحقِّق يعترف بأنّ بحر العلوم قد كتب رسالة بالفارسيّة في معرفة الباري تعالى. و نتساءل: أيّة رسالة تلك التي كتبها؟ أفيمكن أن تكون هناك رسالة سوى هذه؟!
و يتبيّن ممّا مرّ أنّ نسبة هذه الرسالة لبحر العلوم أقرب و أقوى والله أعلم، و بخاصّة مع ملاحظة حالات ذلك المرحوم الذي كان يمتلك مقام صفاء الباطن و نورانيّة الضمير و الإلمام بالاسرار و المغيّبات.
يقول مؤلّف «أعيان الشيعة» في كتابه ج ٤۸، ص ۱٦٦: «و يعتقد السوادُ الأعظم إلى الآن أنّه من ذوي الأسرار الإلهيّة الخاصّة، و من أُولي الكرامات و العنايات و المكاشفات. و ممّا لا ريب فيه أنّه كان ذا نزعة من نزعات العرفاء و الصوفيّة، يظهر ذلك من زهده و ميله إلى العبادة و السياحة» انتهى.
و على أيّة حال، فقد استنسخ الحقير نسخة لنفسه من على نسخة آية الله الاستاذ العلّامة الطباطبائيّ مُدّ ظلّه العالي، و قد استفدتُ منها مدّة مديدة، حتّى عزمتُ على كتابة شرح مختصر لها أُبيّن فيه بعض معضلاتها، و استخرج مصادر الأحاديث و الأشعار الواردة فيها، و للّه تعالى المنّة في توفيقي للقيام بهذا الأمر الصعب على قدر الوسع، و أَمَلي من السادة أصحاب النظر و البصيرة أن
يُغِضُّوا بجلالهم و حسن كرمهم عمّا قد يعثروا عليه من أخطاء، و أن لا يبخلوا عليَّ بدعائهم حيّاً و ميّتاً.
ترجمة السيّد بحر العلوم
و أمّا ترجمة بحر العلوم و بيان أقصى مدارج و معارج السير الكمالى التي رقى إليها ذلك الشخص الذي كان فريد عصره و نادرة دهره فأمرٌ لا يرقى إليه فكر هذا الحقير في تحليقه، و خارج عن إمكان رشحات قلمه.
فما الذي أقوله عن شخص كان الشيخ الأكبر: شيخ الفقهاء و المجتهدين الشيخ جعفر كاشف الغطاء ينفض الغبار عن نعليه بحنك عمامته؟ و عن شخص سأله المحقّق الخبير و الفقيه البصير، مجمع الكمالات الصوريّة و المعنويّة: الميرزا أبو القاسم الجيلانيّ القمّيّ حين تشرّف بزيارة العتبات المقدّسة:
«فداك أبي و أُمّي، ماذا عملتَ حتّى نلتَ هذه المرتبة و المنزلة؟». و ماذا أقول عمّن لا يعتري الريب أمر تشرّفه كراراً بالمثول بين يدي صاحب العصر الحجّة ابن الحسن العسكريّ أرواحنا له الفداء، و هو أمر يعدّ لدى العلماء الأعلام، بل لدى جميع سكنة النجف الأشرف من المسلّمات، بل يُستفاد من بعض كلمات الأعلام أنّ باب إمكان التشرّف بالمثول لدى الوليّ الأكبر لعالَم الإمكان كان مشرعاً في وجهه على الدوام. بل ماذا أقول عمّن
احتضنه صاحب مقام الولاية الكبرى: إمام العصر عليهالسلام؟
بَيدَ أنّنا نذكر تيمّناً و تبرّكاً خلاصة ما جاء في ترجمته في كتاب «روضات الجنّات» للعلّامة السيّد محمّد باقر الخونساريّ (ج ٢، ص ۱٣۸) نقلًا عن كتاب «منتهى المقال» المعروف بـ «رجال أبي علي» و كان أبو على من معاصريه:
السيّد السند و الركن المعتمد مولانا السيّد محمّد مهدي بن السيّد المرتضى بن السيّد محمّد الحسنيّ الحسيني الطباطبائيّ النجفي أطال الله بقاه و أدام الله علوّه و نعماه، الإمام الذي لم تسمح بمثله الأيّام، و الهُمام الذي عقمت عن إنتاج شكله الأعوام؛ سيّد العلماء الأعلام، و مولى فضلاء الإسلام، علّامة دهره و زمانه، و وحيد عصره و أوانه، إن تكلّم في المعقول قلتَ: هذا الشيخ الرئيس، فمن بقراط و أفلاطون و أرسطاليس، و إن باحث في المنقول قلتَ: هذا علّامة المحقّق لفنون الفروع و الاصول. لم يُناظر في الكلام أحداً إلّا قلتَ: هذا عَلَمُ الهُدى، و إذا فسّر الكتابَ المجيد و أصغيتَ إليه ذُهلتَ و خلتَ كأنّه الذي أنزله الله عليه. كان ميلاده الشريف في كربلاء المشرّفة ليلة الجمعة في شهر شوّال المكرّم من سنة خمس و خمسين بعد المائة و الألف، تأريخ ولادته الميمون «لنُصرة الحقّ قد وُلد الهُدي»، و اشتغل بُرهة على
والده الماجد قُدّس سرّه، و كان عالماً و رعاً تقيّاً صالحاً بارّاً، و على جماعة من المشايخ، منهم: شيخنا يوسف (البحرانيّ)، وانتقل إلى الاستاذ العلّامة (آغا محمّد باقر الوحيد البهبهانيّ) أدام الله أيّامه، و رجع إلى النجف و أقام بها، و داره الميمونة محطّ رحال العلماء، و مفزع الجهابذة و الفضلاء، و هو بعد الاستاذ (العلّامة الوحيد) دام علاهما إمام أئمّة العراق و سيّد الفضلاء على الإطلاق، إليه يفزع علماؤها، و منه يأخذ عظماؤها، و هو كعبتها التي تطوى إليها المراحل، و بحرها الموّاج الذي لا يوجد له ساحل، مع كرامات باهرة و مآثر و آيات ظاهرة، و قد شاع و ذاع و ملأ الأسماع و الأصقاع تشييعه الجمّ الغفير و الجمع الكثير من اليهود لمّا رأوا منه البراهين و الإعجاز.
و ناهيك بما بان له من الآيات يوم كان بالحجاز، رأى والده الماجد رحمه الله ليلة ولادته أنّ مولانا الرضا عليه و على آبائه و أبنائه أفضل الصلاة و السلام أرسل شمعة مع محمّد بن إسماعيل ابن بزيع و أشعلها على سطح دارهم، فعلا سناها و لم يُدرك مداها. يتحيّر عند رؤيته النظر، و يقول بلسان حاله «ما هذا بشر»۱، كذا ذكره صاحب «منتهى المقال» في حقّ هذا العَلَم المفضال، والعالِم
المسلّم، أيّده الله في أنواع فنون الكمال، بل صاحب السِّحر الحلال، و السُّكر الخالص عن الضلال، في حلّ الإشكال، و رفع الإعضال، و قمع مفارق الأبطال في مضامير المناظرة و الجدال، و حسب الدلالة على تسلّم نبالته في جميع الأقطار و التخوم و تلقّبه من غير المشاركة مع غيره إلى الآن بلقب بحر العلوم».
هذا هو مختصر ما جاء في «روضات الجنّات» في ترجمة هذا العَلَم الذي كان أُسطوانة في العلم و المعرفة.
{رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَ لِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَ لا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ}.۱
و الحمد للّه أوّلًا و آخراً، و آخر دعوانا أن الحمد للّه ربّ العالمين. كتبه بيمناه الداثرة العبد الراجي السيّد محمّد الحسين الحسيني الطهراني في ليلة العشرين من شهر ربيع المولود سنة ألف و ثلاثمائة و ثلاث و تسعين بعد الهجرة النبويّةّ.
السيّد محمّد الحسين الحسيني الطهرانيّ
القِسْمُ الأوّلْ: التَّصَوُّر العَامّ لِحَقِيقَةِ وَ هَدَفِ السُّلُوكِ إلى اللهِ، وَ بَيَانُ مَنَازِل عَالَمِ الْخُلُوصِ وَ الْعوالم التي تَسْبِقُهُ وَ تَلِيهِ
الفَصْل الأوّل: خَاصِّيَّةُ عَدَدِ الأرْبَعِيَن في ظُهُورِ القَابِلِيَّاتِ
بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحَمْدُ وَ الثَّنَاءُ لِعَيْنِ الوُجُودِ، وَ الصَّلَاةُ عَلَى وَاقِفِ مَوَاقِفِ الشُّهُودِ،۱ وَ على آلِهِ امَنَاءِ المَعْبُودِ.٢
يا رفقاء سفر مُلك السعادة و الصفاء، و يا رفقاء طريق الخلوص و الوفاء، {امْكُثُوا أنِّي آنَسْتُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَاراً لَعلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ}.٣
روايات ظهور الحكمة من القلب على اللسان
و قد روي عن سيّد الرسل و هادي السُبل بطرق عديدة، قال:
مَنْ أخْلَصَ لِلَّهِ أرْبَعِينَ صَبَاحاً ظَهَرَتْ يَنَابِيعُ الحِكْمَةِ مِنْ قَلْبِهِ عَلَى لِسَانِهِ.۱
و قد ورد هذا الحديث بعبارات مختلفة و معانٍ متّحدة. و قد
شاهدنا عياناً و عَلِمنا بأنّ هذه المرحلة الشريفة من مراحل العدد لها خاصيّة و تأثير متفرّدَين في ظهور القابليّات و تتميم المَلَكات و في طيّ المنازل و قطع المراحل.۱
و مع كثرة منازل الطريق، إلّا أنّ في كلّ منزل منها مقصداً؛ و مع زيادة المراحل، فإنّك إذا دخلت في هذه المرحلة فقد أتممتَ عالَماً.
شواهد متنوّعة على خاصّيّة عدد الاربعين في فعليّة إيصال القوى و حصول المَلَكات
و لقد تمّ تخمير طينة آدم أبي البشر بِيَدِ القدرة الإلهيّة في أربعين صباحاً: وَ خَمَّرْتُ طِينَةَ آدَمَ بِيَدِي أرْبَعِينَ صَبَاحاً.٢
حيث
طوى في هذا العدد عالَماً من عوالم القابليّة. و جاء في رواية أنّ جسد آدم بقي ملقى بين مكّة و المدينة أربعين عاماً تهطل عليه أمطار الرحمة الإلهيّة، حتّى أضحى بهذا العدد قابلًا لتعلّق الروح القدسيّة.
و لقد تمّ ميقات موسى عليه السلام في أربعين ليلة، و نجى قومه من التيه بعد أربعين عاماً.۱
و قد خُلع على خاتم الأنبياء صلّى الله عليه و آله و سلّم خلعة النبوّة بعد أربعين سنة من خدمة الحقّ.
كما أنّ زمن طيّ عالم الدنيا و ظهور القابليّة و نهاية تكميل هذا العالَم في أربعين سنة. حيث ورد أنّ عقل الإنسان يكمل في
سنّ الأربعين حسب قابليّة ذلك الإنسان.۱ و الإنسان في نموّ منذ بدء دخوله في هذا العالَم حتّى يبلغ سنّ الثلاثين، ثمّ إن بدنه يقف في هذا العالَم عشر سنين، فإن هو أتمّ الأربعين٢ انتهى سفره في عالم الطبيعة؛٣ و بدأ سفره في عالم الآخرة. و كلّما شدّ الرحال
...۱
...۱
...۱
...۱
للسفر في أيّامه أو سنواته فارتحل عن هذا العالَم، تناقصت قوّتُه سنةً بعد اخرى، و ضعف نور سمعه و بصره، و انحطّت قواه المادّيّة، و ازداد ذبول بدنه، إذ انتهت مدّة سفره و إقامته في هذا العالَم في أربعين سنة.
و لذا فقد ورد:
مَنْ بَلَغَ الأرْبَعِينَ وَ لَمْ يَأخُذِ العَصَا فَقَدْ عَصَى.
ذلك أنّ العصا علامة السفر، و المسافرُ مندوب إلى حمل عصاه عند سفره. و تأويل العصا هو الاستعداد لسفر الآخرة و التهيّؤ للرحيل (فمن لم يحمل عصاه، كان غافلًا عن فكرة السفر).
و كما أنّ الجسم يبلغ كماله في هذه المدّة، فإنّ مرتبة السعادة أو الشقاء تكتمل خلالها. و لذا ورد في الحديث بأنّ الرجل إذا بلغ الأربعين فلم يُفلح بالتوبة، فإنّ الشيطان يمسح وجهه و يقول: بَأَبِي وَ أُمِّي وَجْهٌ لَا يُفْلِحْ أبَداً.۱ و يقول له: لقد سُجِّل اسمُك في جُندي. و أمّا ما ورد في الأخبار مِن أنّ مَن قادَ أعمى أربعينَ قَدَماً فدلّه على الطريق و جبتْ له الجنّةُ، فإنّ المراد بظاهره عمى البصر، و تأويله عمى البصيرة. ذلك أنّ أعمى البصيرة لم يخطُ تمام أربعين قدماً من مرحلة القابليّة ليدخل في مرحلة الفعليّة، حتّى لو كان قد اقترب منها، فإن تُرِك ذلك الأعمى و سبيله لعاد إلى حيث كان. و تمام الإحسان و حصول الهداية في إتمام الأربعين، و بهذه الحيثيّة تجب له الجنّة.
نسبة الإنسان مع القوى الاربع: العقليّة، الوهميّة، الغضبيّة، و الشهويّة
كما ورد في حديثٍ آخر أنّ حدّ الجوار أربعون بيتاً من الأطراف الأربعة۱، الشرح، لكأنّهم بعد هذا العدد قد انفصلوا عن عالَم بعضهم البعض. و تأويل ذلك في المناسبة و الجوار من جهات القوى الأربعة٢ العقليّة و الوهميّة و الشهويّة و الغضبيّة. و ما لم تبتعد
...۱
...۱
هذه المراحل عن بعضها بأربعين مرحلة، فإنّها لن تكون قد تخطّت عالَمها خارجاً، و ستكون مجاورة لبعضها البعض.
فإن كان هناك مجاورة و مناسبة بين مراحل القوّة العقليّة الملكوتيّة، فإنّها ستصف حالها معاً بهذه المقولة:
أجَارَتَنَا إنَّا غَرِيبَانِ هَا هُنَا | *** | وَ كُلُّ غَرِيبٍ لِلْغَرِيبِ نَسِيبُ |
و إذا كان هناك مجاورة بين القوى الشهويّة الشيطانيّة و السَّبُعيّة و البهيميّة، فإنها ستترنّم بهذه الانشودة:
أجَارَتَنَا إن الخُطُوبَ تَنُوبُ | *** | وَ أنِّي مُقِيمٌ مَا أقَامَ عَشِيبُ۱ |
أجَارَتَنَا إن الخُطُوبَ تَنُوبُ | *** | وَ أنِّي مُقِيمٌ مَا أقَامَ غَرِيبُ |
أجَارَتَنَا إنَّا غَرِيبَانِ هَا هُنَا | *** | وَ كُلُّ غَرِيبٍ لِلْغَرِيبِ نَسِيبُ |
فَإنْ تَصِلِينَا فَالقَرَابَةُ بَيْنَنَا | *** | وَ إن تَهْجُرِينَا فَالغَرِيبُ غَرِيبُ |
و على أيّة حال، فإنّ خاصّيّة الأربعين في ظهور الفعليّة و بروز القابليّة و القوّة و حصول المَلَكة أمرٌ مصرّح به في الآيات و الأخبار، و مجرّب لدى أهل الباطن و الأسرار، و هو ما أُخبر عنه في الحديث الشريف بأنّه حصول آثار الخلوص، أي نبوع عين المعرفة و الحكمة في هذه المرحلة. و لا ريب أنّ أيّ محظوظ طوى هذه المنازل الأربعين بأقدام الهمّة و بلغ بقابليّات الخلوص إلى فعليّتها، فإنّ نبع المعرفة ستبدأ بالفوران من أرض قلبه.
و تقع هذه المنازل الأربعين في عالم الخلوص و الإخلاص، أمّا منتهاها فعالَمٌ فوق عالَم المُخلَصين، و هو عالَمُ أبِيتُ عِنْدَ رَبِّي يُطْعِمُنِي وَ يَسْقِينِي،۱ حيث إن الطعام و الشراب الربّانيّين عبارة
...۱
عن المعارف والعلوم الحقيقيّة غير المتناهية.
و قد عُبِّر في حديث المعراج عن ضيافة خاتم الأنبياء و إطعامه اللَّبَن و الرزّ،۱، حيث إن اللبن في عالمنا هذا بمثابة العلوم الحقّة في عالَم المجرّدات، و لذا يُعبّر عن اللبن في الرؤيا بالعِلم.
و يصل المسافر في هذه المنازل إلى غايته حين يغدو سيره في عالَم الخلوص، و ليس حين يكتسب الإخلاص في هذه المنازل، فقد ورد: مَنْ أخْلَصَ لِلَّهِ أرْبَعِينَ صَبَاحاً،
و ينبغي إذاً أن يكون الخلوص قد اكتُسِب خلال سير هذه المنازل.
فيكون عالَم الخلوص بداية هذه المنازل، لا أن تُفتح باب
المعرفة في وجه كلّ مسافر في هذه المنازل الأربعين، أو مَن يريد تحصيل الخلوص في المراحل الأربعين.
مراحل السلوك
و لابدّ إذاً لمسافر عالَم هذا الحديث من جُملة أُمور:۱
الأوّل: المعرفة الإجماليّة بالمقصد، و هو عالَم ظهور ينابيع الحكمة. ذلك أنّ المرء ما لَم يتصوّر المقصد إجمالًا، فإنّه لن يسعى إليه.
الثاني: الدخول في عالَم الإخلاص و معرفته.
الثالث: السير في المنازل الأربعين لهذا العالَم.
الرابع: طيّ العوالم العديدة (و هي المنازل التي تسبق عالَم الخلوص) من أجل الدخول بعد طيّها في عالم الخلوص.
الفَصْل الثاني: المَعْرِفَةُ الإجْمَاليَّةُ لِلْمَقْصَدِ
أمّا معرفة المقصد التي أُشير إليها في قوله: ظَهَرَتْ يَنَابِيعُ الحِكْمَةِ مِنْ قَلْبِهِ، فنقول: إن المقصد هو عالَم الحياة الأبديّة الذي عُبِّر عنه بـ «البقاء بالمعبود». و ظهور عيون الحكمة (و هي العلوم الحقيقيّة) إشارة إلى ذلك، لأنّ العلوم الحقيقيّة و المعارف الحقّة هي رزق النفوس القدسيّة الذي يصلها من ربّها، و الرزق الإلهيّ إنّما هو للحياة الأبديّة.
مقصد السالك ومراتبه
{بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ}، و الوصول إلى هذا العالَم الجامع للمراتب الكماليّة التي لا حَصر لها، و من جُملتها حصول التجرّد الكامل على قدر القابليّة الإمكانيّة۱، إذ المادّيّة لا تنسجم
التجرّد من جميع الجهات و من ضمنها التجرّد من القابليّة الإمكانيّة لا يحصل إلّا بعد الموت(ت)
مع الحياة الجامعة الأبدية، و المادّة و الجسميّة من عالَم الكون،
و كلُّ كونٍ يتبعه الفساد: {كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ}، و وجه كلّ شيء هو الجهة التي يواجه بها الآخرين و يظهر بها و يتجلّى، فوجهُ كلّ أحد هو مظهره. و من جملة ما يلزم كلّ شيء عدا مظاهر الصفات و الأسماء الإلهيّة هلاكه و بواره. و قد تيسّر لكثير من النفوس الكاملة أمر الوصول إلى شمّة من العلوم و المعارف، بَيدَ أنّه لم يرشح لهم من عين الحكمة رشحة و لا قطرة. و ينبوع الحكمةإشارة إلى مبدأ جميع الفيوضات و منبع الكمالات.
مقام مظهريّة الانوار الإلهيّة
فمن جملة المراتب العليّة لهذا العالَم، مظهريّة الأنوار الإلهيّة التي لا يطرأ عليها الهلاك و البوار بنصّ القرآن الكريم.۱
الإحاطة الكلّيّة بالعوالم الإلهيّة
و من جملة المراتب: الإحاطة الكلّيّة بالعوالم الإلهيّة على
قدر القابليّات الإمكانيّة، لأنّ الحكمة علمٌ حقيقيّ عارٍ من الشوائب و الشكّ، و هو ممّا يتعذّر حصوله بدون الإحاطة الكلّيّة، تلك الإحاطة التي من شأنها الاطّلاع على الماضي و المستقبل و التصرّف في موادّ الكائنات، إذ المحيط يحصل على التسلّط الكامل على المُحاط و يحضر في كل مكان و يصاحب كلّ موجود، إلّا أن يمنعه الاشتغال بأُمور البدن.
و حصول جميع هذه المراتب منوط بترك تدبير البدن. و سائر درجات هذا العالَم و فيوضاته ممّا لا حدّ له و لا نهاية، و بيان ذلك غير ميسور. و أمّا عالَم الخلوص و الإخلاص:۱
الفَصْل الثّالِث: الدُّخُولُ في عَالَمِ الخُلُوصِ وَ المَعْرِفَةِ
أقسام الخلوص والإخلاص
فاعلمْ أنّ الخلوص و الإخلاص على نوعَين:
الأوّل: خلوص الدِّين و الطاعة للّه تعالى.
الثاني: خلوصه للّه تعالى.
و يشير إلى الأوّل الآية الكريمة: {لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ}، و هذا النوع يحصل في بدايات درجات الإيمان، و هو ممّا يلزم على كلّ أحد تحصيله، إذ العبادة فاسدةٌ بدونه، و هو أحد مقدّمات الوصول إلى النوع الثاني.
و يُشير إلى الثاني قوله تعالى: {إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ}، فقد جعل الخلوص لذات العبد، بينما جعلته الآية الاولى للدِّين، وعدّت العبد مُخلصاً له.
كما يُشير إلى النوع الثاني حديث: مَنْ أخْلَصَ لِلَّهِ، أي أخلص نفسَه. و أوّلهما بصيغة الفاعل و ثانيهما بصيغة المفعول.
و هذا النوع من الخلوص مرتبة وراء مرتبتَي الإسلام و الإيمان، و مرتبة لا تُدرَك إلّا يَنظُر الله إلى صاحبها بعين عنايته، و ليس الموحِّد الحقيقيّ إلّا صاحب هذه المرتبة. و ما لم يدخل
السالك في هذا العالَم، فإنّ أذياله لن تنقى من أشواك الشِّرك، {وَ ما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَ هُمْ مُشْرِكُونَ} [الآية ۱۰٦، من السورة ۱٢: يوسف]، و المناصب الثلاثة ثابتة معاً لصاحب هذه المرتبة بنصّ كتاب الله تعالى:۱
الاولى: أنّه يُعفي من حساب الحشر الآفاقيّ٢، و من الحضور في تلك العرصة: {فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ ، إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ} [الآيتان ۱٢۷ و ۱٢۸، من السورة ٣۷: الصافّات]، لأنّ هذه الطائفة بعبورها من القيامة العظمى الأنفسيّة قد أدّت حسابها، فلا حاجةَ لمحاسبتها من جديد.
الثانية: أنّ كلّ فردٍ إنّما ينال ما ينال من الثواب و السعادة على قدر عمله، إلّا هذا الصنف من العباد الذين ينالون من الإكرام و اللطف ما لا يُدركه العقل، و فوق جزاء أعمالهم: {وَ ما تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ، إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ} [الآيتان ٣٩ و ٤۰، من السورة ٣۷: الصافّات].
الثالثة: أنّ هذه مرتبة عظيمة و مقام كريم، و فيه إشارة إلى مقامات رفيعة و مناصب منيعة، و هي أنّه سيُثني على الله بما هو أهلُه من الثناء: {سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ ، إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ} [الآيتان ۱٥٩ و ۱٦۰، من السورة ٣۷: الصافّات]، أي أنّه يتمكّن من الثناء على الله تعالى بما يليق بساحته و يعرف صفات كبريائه، و هذه هي غاية مرتبة المخلوق، و نهاية منصب الممكن۱. و ما لم تظهر ينابيع الحكمة بأمر الله الكريم في
القلب، فإنّ العبد لن يتمكّن من تناول هذه الجرعة، و ما لم يطوِ مراتب عالَم الممكنات و يتطلّع ببصره إلى مملكة الوجوب و اللاهوت، فإنّه لن يتمكّن من بلوغ هذه المرتبة.
خصائص ومقامات الواصلين إلى الخلوص الذاتيّ
بلى، ما لم يطوِ مملكة الإمكان فإنّه لن يتمكّن من أن يطأ بأقدامه بساط «عِندَ ربِّهم»، و لا أن يرتدي لباس الحياة الأبديّة، أمّا العباد المُخلَصين فإنّهم نالوا عطاء الحياة الأبديّة، و هم حاضرون عند ربّهم: {وَ لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [الآية ۱٦٩، من السورة ٣: آل عمران]، و رزقهم هو الرزق المعلوم الذي ذكره تعالى في حقّ المُخلَصين: {أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ}۱ [الآية ٤۱، من السورة ٣۷: الصافّات]، و القتل في
سبيل الله إشارة إلى هذه المرتبة من الخلوص، و هذان الرزقان متّحدان۱ و مقارنان للكون عند الربّ، و هو تعبير آخر عن القُرب الذي هو حقيقة الولاية، و هي مصدر و أصل شجرة النبوّة: أنَا وَ عليّ مِنْ شَجَرَةٍ وَاحِدَةٍ٢، و النبوّة متفرّعة منها و مولودة منها. بل تلك نورٌ و هذه شُعاع، و تلك وَجهٌ و هذه صورة، و تلك عَيْنٌ و هذه أَثَر، إذ الوليّ مُخاطَب بخطاب: أقْبِلْ، و النبيّ مخاطب بخطاب: أدْبِرْ بَعْدَ أقْبِلْ. فالنبوّة لا تتحقّق بدون الولاية، أمّا الولاية فتتحقّق بدون النبوّة.٣
و جاء في حقّ المُخلَصين: لَيْسَ بَيْنَهُمْ وَ بَيْنَ أنْ يَنْظُرُوا إلى رَبِّهِمْ إلَّا رِدَاءُ الكِبْرِيَاءِ.۱
و في كلام خاتم الأنبياء صلّى الله عليه و آله:
رَأيْتُ رَبِّي لَيْسَ بَيْني وَ بَيْنَهُ حِجابٌ إلَّا حِجَابٌ مِنْ يَاقُوتَةٍ
بَيْضَاءَ في رَوْضَةٍ خَضْرَاءَ.
و في كليهما حجابٌ واحد لا غير، على الرغم من أنّ الحُجب تختلف فيما بينها.
و في هذا بشارةٌ عظيمة للمُخلَصين، فقد تشرّفوا بشرف جوار سيّد المُرسَلين، و هذا عالَمٌ يفوق عالَم الملائكة المقرّبين، فقد سأل الرسول صلّى الله عليه و آله جبرئيل: هَلْ رَأيْتَ الرَّبَّ؟
قَالَ: بَيْنِي وَ بَيْنَهُ سَبْعُونَ حِجَاباً مِنْ نُورٍ، لَوْ دَنَوْتُ وَاحِداً لَاحْتَرَقْتُ.۱ و لا يمكن أن يقال في حقّ المخلَصين أزيد من هذا، إذ تقصر العبارات عنه، و تعجز أفهام الخلق عن تحمّله.٢
قَالَ رَبُّ العِزَّةِ: أوْلِيَائِي تَحْتَ قُبَابِي لَا يَعْرِفُهُمْ غَيْرِي.٣
يعني: لَا يَعْرِفُ عَوَالِمَهُمْ وَ دَرَجَاتِهِمْ غَيْرِي.
نوعا القتل في سبيل الله
و كما عرفتَ فإنّ الوصول إلى هذا العالَم موقوفٌ على القَتْل في سَبيل الله تعالى.۱
و مادام العبدُ لم يُقتَل في هذا السبيل، فإنّه لن يدخل في عالم الخلوص للّه؛ و القتل عبارة عن قطع علاقة الروح بالبدن٢، ثمّ
دردم از يار و درمان نيز هم | *** | دل فداي او شد و جان نيز هم |
در خاكروبانِ ميخانه كوب | *** | رهِ ميفروشان ميخانه روب |
مكر آب و آتش خواصت دهند | *** | ز هستي به مستي خلاصت دهند |
كه حافظ چه بر عالَم جان رسيد | *** | چه از خود برون شد، به جانان رسيد |
قطع علاقة روح الروح بالروح، حيث إن الموت عبارة عن انقطاع تلك العلاقة.
أحكام ومراحل الجهاد
وقطع العلاقة على نوعين: الأوّل بالسيف الظاهر، و الآخر بالسيف الباطن. و المقتول واحد في كلا الحالَين، أمّا القاتل فهو
في النوع الأوّل جيش الكُفر و الشيطان، و في النوع الثاني جُند الرحمن و الإيمان. و مورد السيف في كلا القتلَين واحد (و هو أركان عالَم الطبيعة)، لكن أحد الضاربَين بالسيف مَلوم و مستحقّ للعقاب، و الآخر مرحوم و مُثاب: إنَّمَا الأعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ.۱
و لمّا كان القتل في سبيل الله بالسيف الظاهر مثالًا متنزّلًا من القتل بسيف باطن الباطن كما سيأتي ذِكره فيكون ظاهر المراد بالقتل في سبيل الله حيثما ورد في القرآن الكريم هو القتل بالسيف الظاهر، و باطنه القتل بسيف الباطن، و باطن باطنه القتل بسيف باطن الباطن، و تلك مرحلة أخرى اشير إليها: إن لِلْقُرْآنِ ظَهْراً وَ بَطْناً، وَ لِبَطْنِهِ بَطْناً إلى سَبْعَةِ أَبْطُنٍ.٢
و لهذا عُبِّر في القرآن الكريم عن كِلا القتلَين بالجهاد و المجاهدة، قال تعالى:
{انْفِرُوا خِفافاً وَ ثِقالًا وَ جاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَ أَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [الآية ٤۱، من السورة ٩: التوبة]، و قال تعالى: {وَ الَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا} [الآية ٦٩، من السورة ٢٩: العنكبوت]؛ و قال رسول الله صلّى الله عليه و آله: رَجَعْنَا مِنَ الجِهَادِ الأصْغَرِ إلى الجِهَادِ الأكْبَرِ.۱ و الأصغر هو مِثال و أُنموذج للأكبر، و جميع
...۱
الأحكام المذكورة في الجهاد المُشار إليه لا تختصّ بأحد هذين الجهادَين، بل تشملهما كلاهما.
يُضاف إلى ذلك أنّ القتل الظاهر يتوقّف على الجهاد الأصغر، و هو الهجرة إلى الرسول، ثمّ معه؛ و الهجرة متوقّفة على الإيمان، و الإيمان على الإسلام، و تحقّقه بدون هذا الترتيب متعذّر. و كذلك الأمر بالنسبة إلى القتل بالسيف الباطن، الذي يتوقّف على الجهاد الأكبر، و هذا متوقّف على الهجرة إلى الرسول، ثمّ معه، و هذا على الإيمان، و الإيمان على الإسلام.
فالفوز بالدرجات المنيعة، و بلوغ المراتب الرفيعة لا يمكن تصوّره بغير طيّ هذه المراحل العظيمة، قال تعالى في كتابه الكريم:
{الَّذِينَ آمَنُوا وَ هاجَرُوا وَ جاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَ أُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ ، يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَ رِضْوانٍ وَ جَنَّاتٍ لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ ، خالِدِينَ فِيها أَبَداً إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [الآيات ٢۰ إلى ٢٢، من السورة ٩: التوبة].
مراحل الجهاد الأصغر
المرحلة الاولى: الإسلام، و هو عبارة عن التفوّه بالشهادتَين، و هي الفاصل بين الكافر و المسلم.
المرحلة الثانية: الإيمان۱، و هو عبارة عن العِلم بمؤدّى الشهادتَين، الفاصل بين المؤمن و المنافق، إذ المنافق هو الذي تختلف سريرته عن علانيته.
فمادام القلب غير مستضيء بمشاهدة معنى ما يلفظه اللسان (أي فاقداً للإيمان)، كان المرء منافقاً. و أمّا تشخيص المنافقين من قِبل الآخرين، فيحصل بالآثار و العلامات الدالّة على عدم الاعتقاد بما يتلفظون به، لأنّ مقتضى الشهادتَين هو العِلم بوحدانيّة المعبود و صِدق كل ما جاء به الرسول، و أثر ذلك في الظاهر هو ترك عبادة غير الواحد و إطاعة كلّ ما جاء به الرسول. فمَن عبد سوى الله كان منافقاً. و قد يكون المعبود الهوى: {أَ فَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ} [الآية ٢٣، من السورة ٤٥: الجاثية]، و قد يكون إبليس: {أَ لَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ} [الآية ٦۰، من السورة ٣٦: يس]. و جليّ أنّ هذا الاستنكار ليس موجّهاً لمَن يعبد الشيطان، إذ لم يُعهَد مثل هذا المذهب لدى البشر، بل لمن يتبع الشيطان. فمَن تبع الشيطان، فإنّه سيكون قد عبده.
و قد يكون المعبود شخصاً آخر، يعبده طمعاً في ماله أو جاهه، و قد يكون الدرهم و الدينار و غير ذلك۱. الشرح فمَن تبعها في
غير رضا الله تعالى، فقد عبدها.
معيار معرفة المنافق من المؤمن
و من ترك ما جاء به الرسول بغير سهوٍ أو خطأ أو نسيان فقد انتمى إلى زمرة المنافقين، حيث جاء في الحديث الذي رفعه محمّد بن خالد إلى أمير المؤمنين عليه السلام قال: فَاعْتَبِرُواإنْكَارَ
الكَافِرِينَ وَ المُنَافِقِينَ بِأعْمَالِهِمُ الخَبِيثَةِ.۱
و لو هاجر مثل هذا الشخص و جاهد، فإنّ هجرته لن تكون هجرة إلى الرسول، و جهاده لن يكون جهاداً في سبيل الله، فقد قال صلّى الله عليه و آله و سلّم: من كانت هجرته إلى الله و رسوله، فهجرته إلى الله و رسوله، و من كانت هجرته إلى امرأة مصيبها أو غنيمة يأخذها، فهجرته إليها.٢
و حيث علمتَ أنّ الجهاد الأصغر مثال للجهاد الأكبر، علِمتَ
أنّ هذا الفصل و الانفصال موجودان في الجهاد الأكبر أيضاً، و أنّ المنافقين موجودون في هذه المراحل أيضاً.
و باعتبار اشتراك كلا الجهادَين في المرحلتَين الاولتَين: الإسلام و الإيمان، عدا بعض المراتب و الدرجات التي سيُشار إليها فيما بعد، فإنّ الفاصل بين المؤمن و المنافق من هؤلاء المجاهدين هو الإيمان أيضاً.
و باعتبار أنّ الإيمان الواقع في مراحل الجهاد الأكبر أشدّ من الإيمان الواقع في الجهاد الأصغر كما سيُعلَم فيما بعد فإنّ الملازمة بين مقتضى الشهادتَين لدى المجاهدين في هذا الطريق ستكون أكثر ضرورة و عمليّة، و أنّ الشخص لو تخلّف أدنى تخلّف عن مقتضى أحدهما، فإنّه سيدخل في مسلك المنافقين.
و لهذا السبب فإنّ سالكي طريق الله تعالى إذا شاهدوا لدى أحد تخطّياً لظاهر الشريعة و لو قَيْد شعرة، لم يعدّوه سالكاً، بل كاذباً مُنافقاً.
و إلى هذا يُشير ما رواه ثقة الإسلام بسنده المتّصل عن مِسمَع ابن عبد الملك، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: مَا زَادَ خُشُوعُ الجَسَدِ عَلَى خُشُوعِ القَلْبِ،
فَهُوَ عِنْدَنَا نِفَاقٌ.۱
و كما أنّ منافقي الجهاد الأصغر هم الذين هاجروا مَعَ الرَّسُولِ خوفاً من بأسه، أو طمعاً في غنيمة، أو رجاء الظفر بما يحبّون، و لم تكن هجرتهم للّه و في الله، و لا لمحاربة أعداء الله و استئصالهم. و أمثال هؤلاء ظواهرهم في ميدان الجهاد، أمّا بواطنهم ففي تحصيل المشتهيات أو دفع العقوبة و النقمة؛ فإنّ منافقي الجهاد الأكبر هم الذين ليست مجاهدتهم من أجل كسر سَورة القوى الطبيعيّة، و تسليط القوّة العاقلة عليها، و من أجل تخليص أنفسهم للّه تعالى في سبيله. ٢
...۱
و كما أنّ منافقي الصنف الأوّل في الظاهر ممّن يتفوّهون بالشهادتَين، و ممّن يسافرون بأبدانهم مع رسول الله صلّى الله عليه و آله و يقاتلون الكفّار، و أنّ نفاقهم يُعرف بالآثار و العلامات و الإتيان بالأعمال المنافية لحقيقة الإيمان، و أنّهم لو أظهروا كلم الكفر دخلوا في زمرة الكفّار.
فإنّ منافقي الصنف الثاني الذين يتلبّسون في الظاهر بلباس سالكي سبيل الله تعالى، و يتشبّثون بإطراق الرأس و تنفّس الصعداء، و يرتدون اللباس الخشن أحياناً، و الصوف أحياناً، و يزاولون ختم الأربعينات، و يتركون أكل اللحم الحيوانيّ، و يمارسون الرياضات، و يلتزمون بالأوراد و الأذكار الجليّة و الخفيّة، و يتحدّثون حديث السالكين، و ينسجون معسول الكلام: {وَ إِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ} [الآية ٤، من السورة ٦٣: المنافقون]، أمّا آثارهم و علاماتهم و أفعالهم و أعمالهم، فلا توافق
المخلصين، و لا تنطبق على المؤمنين. و علامتهم عدم ملازمة أحكام الإيمان، فهم في ذلك أكثر من نظرائهم من الصنف الأوّل.
فإن رأيتَ أحداً يدّعي السلوك، ثمّ لم تجده ملازماً للتقوى و الورع، متّبعاً لجميع أحكام الإيمان، و وجدته منحرفاً عن الصراط المستقيم للشريعة الحقّة و لو قيد شعرة، فاعلم أنّه منافق؛ إلّا أن يكون قد بدر منه ذلك بعذر أو خطأ أو نسيان.
و كما أنّ الجهاد الثاني هو الجهاد الأكبر بالنسبة إلى الجهاد الأوّل، فإنّ منافق هذا الصنف أشدّ نفاقاً من نظيره في الصنف الأوّل. و أنّ ما ورد في حقّ المنافقين في كتاب الله، فإنّ حقيقته ستكون لهؤلاء المنافقين بوجهٍ أشدّ.
{هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ} [الآية ۱٦۷، من السورة ٣: آل عمران]؛ {فَاحْذَرْهُمْ قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ}[الآية ٤، من السورة ٦٣: المنافقون]؛ {إن الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَ لَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً} [الآية ۱٤٥، من السورة ٤: النساء].
و من منافقي هذا الصنف فرقةٌ يسمّون أنفسهم مُجاهدين، و ينظرون إلى أحكام الشريعة نظر احتقار، و يعدّون الالتزام بها من شأن العوام، بل يعدّون علماء الشريعة أدنى منهم، و يخترعون من
عند أنفسهم أموراً، فيفضّلونها على ما سواها بوصفها سبيلًا إلى الله تعالى، و يظنّون أنّ الطريق إلى الله طريق وراء طريق الشريعة. و قد ورد في حقّهم:
{وَ يُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَ رُسُلِهِ وَ يَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَ نَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا ، أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا وَ أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً}[الآيتان ۱٥۰ و ۱٥۱، من السورة ٤: النساء.]
و في حقّهم:
{وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَ إِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً} [الآية ٦۱، من السورة ٤: النساء].
و ورد فيهم:
{فَقالُوا أَ بَشَرٌ يَهْدُونَنا فَكَفَرُوا} [الآية ٦، من السورة ٦٤: التغابن].
و هم يصلّون و يصومون، لكن عن غير رغبة أو شوق؛ و يعبدون، و لكن عن غير خلوص نيّة؛ و يذكرون الله، و لكن لا على الدوام و الاستمرار. و قد أخبر الله تعالى عنهم:
{إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللَّهَ وَ هُوَ خادِعُهُمْ وَ إِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى يُراؤُنَ النَّاسَ وَ لا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا،
مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لا إِلى هؤُلاءِ وَ لا إِلى هؤُلاءِ} [الآيتان ۱٤٢ و ۱٤٣، من السورة ٤: النساء].
فاحذر لا يغرّنّك العبادة و الذِّكر القاصر.
الفَصْلُ الرَّابِع: السَّيْرُ في الْمَنَازِلِ الأرْبَعِينَ لِعَالَمِ الخُلُوصِ
وأمّا المنازل الأربعون لعالَم الخُلوص
فالمراد بها طيّ منازل القابليّة و القوّة؛ و حصول هذه المرحلة إنّما يتمّ بحصول ملَكة الفعليّة التامّة، لأنّ مثل ظهور القوّة و بلوغها مرحلة الفعليّة كمثل الحطب و الفحم اللذان فيهما القوّة الناريّة، فإن قُرِّبا إلى النار زاد تأثير الحرارة فيهما، ثمّ يزداد التأثير آناً فآناً، حتّى تتحقّق الفعليّة فجأةً فيسودّ الحطب و الفحم، ثمّ يحمرّان فتلتهب فيهما النار. بَيدَ أنّ هذه هي بداية ظهور الفعليّة، حيث إنّها لم تتحقّق بعدُ بتمامها، بل لا تزال كامنة في باطن الفحم و الحطب. لذا فإنّ تلك الفعليّة الظاهرة قد تنتفي و تخمد بمجرّد هبوب ريح خفيفة، أو بالابتعاد عن النار، فتنطفئ تلك الناريّة العَرَضيّة مُنكفئة إلى حالتها الاولى.
فإن قربت النار من الفحم، و استمرّ قربها، زالت معه جميع آثار الفحميّة و الحطبيّة، و ظهرت معه جميع القوّة الناريّة، و تبدّلت القابليّة إلى الظهور و الفعليّة، و أضحى جميع باطن الحطب و الفحم ناراً، فإنّ الرجوع إلى الحطب و الفحم الاوليَين سيكون أمراً
ممتنعاً، و إن ناريّتها سوف لن تخمد بهبوب أيّة ريح، إلّا إذا فنيت النار و استحالت رماداً.
عدم كفاية مجرّد الدخول في عالم الإخلاص
و لذا فلا يكفي المجاهد السائر في طريق الدين، و السالك مراحل المخلصين، أن يدخل في عالمٍ ما و تظهر فعليّته فيه، إذ لا تزال بقايا العالَم السافل كامنة في زوايا ذاته، ممّا يجعله غير متجانس مع مطهّري العالَم الأعلى، و يجعل وصوله إلى فيوضاتهم و درجاتهم أمراً متعذّراً، بل يعرّضه في زمن قليل إلى العودة إلى العالَم السافل على إثر عقبة تعترضه أو زلّة بسيطة أو تكاهل يسير في الجهاد و السلوك:
{وَ نُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللَّهُ} [الآية ۷۱، من السورة ٦: الأنعام.]
و لقد كان أكثر صحابة سيّد المرسلين صلّى الله عليه و آله إذا حصل منهم مجاورة ظاهريّة و قُرب ظاهريّ منه صلّى الله عليه و آله، بدا في ظواهرهم نور الإيمان، لكنّ آثار الكفر و الجاهليّة كانت كامنة في بواطنهم، لم تُستأصَل بعدُ فيهم، فكانوا بمحض ابتعادهم عنه صلّى الله عليه و آله غلبت عليهم آثارهم الذاتيّة، وانطفأ في ظواهرهم نور الإيمان برياح حبّ الجاه و المال و الحسد و الحقد التي تعصف بهم:
{وَ ما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَ فَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ} [الآية ۱٤٤، من السورة ٣: آل عمران].
و لهذا فإنّ الترك الظاهريّ للمعصية لا ينفع شيئاً في النجاة، بل ينبغي أن يترك ظاهره و باطنه:
{وَ ذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَ باطِنَهُ} [الآية ۱٢۰، من السورة ٦: الأنعام.]
كما أنّ العوالم الواقعة في طريقَي الصعود و النزول أشبه بالليل و النهار و ساعات كلٍّ منهما، فما لم ينتهِ المتقدّم تماماً۱ و تبلغ
قابليّته مرحلة الفعليّة، فإنّ الوصول إلى العالَم المتأخّر سيتعذّر؛ و ما دامت ذرّة واحدة من المتقدّم موجودة، فإنّ الخطو في العالَم المتأخّر سيمتنع*۱
...۱
و يتّضح ممّا ذكرنا أنّ مجرّد الورود في عالَم الخلوص ليس كافياً في حصول الخلوص، بل ينبغي أن تصل جميع مراتبه إلى فعليّتها و ظهورها التامَّين، وصولًا إلى تخلّص صاحبها من شوائب العالَم الأسفل، و إلى إشراق نور الخلوص في زوايا قلبه، و حذف آثار الإنِّيَّة بِالمَرَّة، ليمكنه في هذا الصعود أن يخطو على بساط قُرب أبِيتُ عِنْدَ رَبِّي، الذي هو بداية منزل ينابيع الحكمة. و هو ممّا لا يحصل إلّا بحصول ملَكَة الخلوص و ظهور فعليّتها التامّة. و لمّا كان أقلّ ما يوصِل إلى تمام الفعليّة الملَكة في عالَم معيّن هو
الكون في ذلك العالَم مدّة أربعين يوماً، و هو ما سبقت الإشارة إليه، فإنّ السالك لهذا السبب ما لم يسير في عالَم الخلوص أربعين يوماً فيُتمّ منازله الأربعين (التي هي مراتب فعليّته التامّة)، فإنّه لن يتمكّن أن يخطو أبعد من ذلك.
و أمّا تفصيل العوالم المتقدّمة على عالَم الخلوص، فقد أشير إليها على نحوٍ مُجمل في كتاب الله، و هي بعد عالَم الإسلام ثلاثة عوالم۱:
...۱
...۱
{الَّذِينَ آمَنُوا وَ هاجَرُوا وَ جاهَدُوا} [الآية ٢۰، من السورة ٩: التوبة] ... إلى آخره.
شرحٌ إجمإلى للعوالم المتقدّمة على عالم الخلوص
شرح إجمالي للعوالم
المتقدّمة على عالم الخلوص:
الأوّل: الإسلام، فقد قال أبو عبد الله عليه السلام: الإسْلَامُ قَبْلَ الإيمَانِ.
..، و هو ما يميّز المسلم عن الكافر، و ممّا يشترك فيه المسلم و المنافق.
الثاني: الإيمان، و هو ما يميّز المؤمن عن المنافق، و ما يشترك فيه جميع أصحاب الإيمان، و هو مجتمع الشريعة
و الطريقة.
الثالث: الهجرة مع الرسول، و هي ما يمتاز بها السالك عن العابد، و المجاهد عن القاعد، و الطريقة عن الشريعة.۱
الرابع: الجهاد في سبيل الله، فكلّ مجاهد هو مهاجر و مؤمن و مسلم، و كلّ مهاجر مؤمن و مسلم، و كلّ مؤمن مسلم، و لا عكس.
و لذا فقد ورد في الروايات المتعدّدة: الإسْلَامُ لَا يُشَارِكُ الإيمَانَ، وَ الإيمَانُ يُشَارِكُ الإسْلَامَ.
و جاء في حديث سَماعة بن مِهران: ٢
...۱
الإيمَانُ مِنَ الإسْلَامِ مِثْلُ الكَعْبَةِ الحَرَامِ مِنَ الحَرَمِ، قَدْ يَكُونُ في الحَرَمِ وَ لَا يَكُونُ في الكَعْبَةِ، وَ لَا يَكُونُ في الكَعْبَةِ حتّى يَكُونَ في الحَرَمِ.
ولهذا قال تعالى:
{وَ ما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَ هُمْ مُشْرِكُونَ} [الآية ۱۰٦، من السورة ۱٢: يوسف].
و المراد بالهجرة مع الرسول و الجهاد في سبيل الله في هذه العوالم: الهجرة الباطنيّة و الجهاد الباطنيّ، و هما الهجرة الكبرى و الجهاد الأكبر.
أمّا الهجرة الصغرى و الجهاد الأصغر، فداخلان في وظائف العالَم الثاني (و هو عالم الإيمان)، و خليفتهما و القائم مقامهما في زمن عدم التمكّن من الهجرة الصغرى و الجهاد الأصغر هو الهجرة بالظاهر و الباطن من أرباب المعاصي و أبناء الدنيا، و الأمر
بالمعروف و النهي عن المنكر.۱
و كما أنّ الهجرة في هذا السفر هي الهجرة الكبرى، و أنّ جهاد هذا المسافر هو الجهاد الأكبر؛ فإنّ شرط هذا السفر (و هو إسلام المجاهد و إيمانه) هو الإسلام و الإيمان الأكبرين. فما لم يدخل في الإسلام الأكبر و الإيمان الأكبر و يطوي عالميهما، فإنّه لن يتمكّن من الجهاد في سبيل الله كما هو حقّه الذي أمِر به في آية: {جاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهادِهِ} [الآية ۷۸، من السورة ٢٢: الحجّ].
و بعد طيّ الإسلام الأكبر و الإيمان الأكبر، يصل الطالب إلى حيث يتفرّغ للطلب، فيُهاجر مع الرسول الباطنيّ بمعونة الرسول الظاهريّ أو خليفته و يضع أقدامه في ميدان المجاهدة، فيطوي هذين العالمين ليفوز بفوز «القتل في سبيل الله».
ولكن أيّها الرفيق إذا كنتَ قد واجهتَ حتّى الآن أخطاراً كثيرة و عقبات جمّة لا تُحصى، و اعترضك قطّاع طرق
و لصوص بلا حصر، فنجوتَ منها وتخلّصتَ من براثنها و تخطّيتَ صعابها، فإنّ بعد عبور هذه العوالم، و بعد القتل في سبيل الله بداية الخطر الأكبر و الداهية العظمى. لأنّ وادي الكفر الأعظم و النفاق الأعظم يقعان وراء هذا العالَم، و الشيطان الأعظم (و هو رئيس الأبالسة) يقطن في هذا الوادي، أمّا سائر شياطين العالم فجنوده و أعوانه و أذنابه.
فلا تظنّنَّ أنّك و قد عبرتَ هذه العوالم قد نجوتَ من الخطر، و حظيتَ بمرادك. و حَذارِ حذارِ من الغرور و الأوهام.
و بعد هذه العوالم عوالم اخرى لا يمكن بدون طيّها و عبورها بلوغ المنزل المقصود.
الأوّل: الإسلام الأعظم.
الثاني: الإيمان الأعظم.
الثالث: الهجرة العظمى.
الرابع: الجهاد الأعظم.
و بعد طيّ هذه العوالم يأتي عالم الخلوص رزقنا الله و إيّاكم.
شرح تفصيليّ للعوالم الاثني عشر المتقدّمة على عالم الخلوص
تبيّن ممّا قيل أنّ على المسافر أن يمرّ في سيره باثني عشر عالَماً بعدد بروج الفَلَك و شُهور السنة و ساعات الليل و النهار و نقباء بني إسرائيل و خلفاء آل محمّد صلّى الله عليه و آله و سلّم، و سرّ هذا العدد واضح لأصحاب البصيرة. و العوالم الاثني عشر بهذاالتفصيل:
الأوّل: الإسلام الأصغر
و هو إظهار الشهادتين و التصديق بهما باللسان، و الإتيان بالدعائم الخمس بالجوارح و الأعضاء.۱
...۱
...۱
...۱
...۱
و تُشير إليه الآية: قَالَتِ الأعْرَابُ ءَامَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَ لَكِن قُولُوا أسْلَمْنَا.۱
[الآية ۱٤، من السورة ٤٩: الحجرات].
و هذا الإسلام هو الذي أشير إليه في حديث قاسم الصيرفي،
حيث قال الإمام الصادق عليه السلام: الإسْلَامُ يُحْقَنُ بِهِ الدَّمُ، وَ يُؤَدَّى بِهِ الأمَانَةُ، وَ يُسْتَحَلُّ بِهِ الفُرُوجُ، وَ الثَّوَابُ عَلَى الإيمَانِ.۱
و في حديث سفيان بن سمط، عن الصادق عليهالسلام، قال:
الإسْلَامُ هُوَ الظَّاهِرُ الذي عَلَيْهِ النَّاسُ بِشَهَادَةِ أنْ لَا إلَهَ إلَّا اللهُ و أنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللهِ، وَ إقَامِ الصَّلَاةِ، وَ إيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَ حِجِّ البَيْتِ، وَ صِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ.
الثاني: الإيمان الأصغر
و هو عبارة عن التصديق القلبيّ و الإذعان الباطنيّ بالامور المذكورة.٢
و لازمها الاعتقاد بجميع ما جاء به الرسول من الصفات و الأعمال و مصالح الأفعال و مفاسدها و نصب الخلفاء و إرسال
النُّقباء. لأنّ الإذعان برسالة الرسول تستلزم أيضاً الإذعان بحقّيّة ما بجميع ما جاء به الرسول. و يشير إلى هذا الإيمان قول الصادق المُصدَّق عليهالسلام في حديث سماعة بعد أن سأله عن الإسلام و الإيمان أهما مختلفان؟ قال:
الإسْلَامُ شَهَادَةُ أنْ لَا إلَهَ إلَّا اللهُ وَ التَّصْدِيقُ بِرَسُولِ اللهِ. بِهِ حُقِنَتِ الدِّمَاءُ، وَ عَلَيْهِ جَرَتِ المَنَاكِحُ وَ المَوَارِيثُ، وَ عَلَى ظَاهِرِهِ جَمَاعَةُ النَّاسِ، وَ الإيمَانُ الهُدَى وَ مَا يَثْبُتُ في القُلُوبِ مِنْ صِفَةِ الإسْلَامِ.۱
الثالث: الإسلام الأكبر
و مرتبته بعد الإيمان الأصغر. و هو المراد في قول الحقّ عزّ اسمه: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} [الآية ٢۰۸، من السورة ٢: البقرة]، لأنّه أمر المؤمنين بالإسلام. و هذا الإسلام عبارة عن التسليم و الانقياد و الطاعة و ترك الاعتراض على الله تعالى و الإطاعة في جميع لوازم الإسلام الأصغر و الإيمان الأصغر، و الإذعان بكلّ ما جاء به نفياً أو إثباتاً.
و يشير إلى هذا الإسلام قول أمير المؤمنين عليهالسلام في
الحديث الذي رفعه البرقيّ: إن الإسْلَامَ هُوَ التَّسْلِيمُ، وَ التَّسْلِيمُ هُوَ اليَقِينُ.۱
و كما أنّ الإسلام الأصغر هو التصديق بالرسول، فإنّ الإسلام الأكبر هو التصديق بالمُرسِل.
و كما أنّ مقابلة الإسلام الأصغر في حدّ ذاتها كُفر أصغر، إذ هي كُفرٌ بالرسول، و تقديمٌ لعقل الإنسان أو لسائر الرسل على الرسول، و هو لا يتنافي مع الإسلام بالله، كما هو أمر اليهود و النصارى؛ فإنّ مقابلة الإسلام الأكبر كفرٌ أكبر، لأنّ العاري من هذا الإسلام إذا كان معتقداً برسالة الرسول و بصدقه، إلّا أنّه يعترض على الله تعالى و يناقش في أحكامه، و يقدّم رأيه على رأيه تعالى. و إلى هذا الكفر يشير الإمام الصادق عليهالسلام في حديث الكاهليّ قال:
لَوْ أنَّ قَوْماً عَبَدُوا اللهَ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَ أقَامُوا الصَّلَاةَ وَ آتَوُا الزَّكَاةَ وَ حَجُّوا البَيْتَ الحَرَامَ وَ صَامُوا شَهْرَ رَمَضَانَ، ثُمَّ قَالُوا لِشَيْءٍ صَنَعَهُ اللهُ أوْ صَنَعَهُ رَسُولُ اللهِ صلّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ: ألَا صَنَعَ بِخِلَافِ الذي صَنَعَ؟ أوْ وَجَدُوا ذَلِكَ في قُلُوبِهِمْ، لَكَانُوا بِذَلِكَ مُشْرِكِينَ ...إلى أن قال: فَعَلَيْكُمْ بِالتَّسْلِيمِ.۱
فإذا ترك المرء الاعتراض، و جعل عقلَه و رأيه و هواه مطيعة للشرع، أضحى مسلماً بالإسلام الأكبر، و دخل آنذاك في مرتبة العبوديّة. و هذه هي أدنى مراتب العبوديّة۱، أمّا ما سبق له فعله،
فهو العبادة.
و يشير إلى هذه المرتبة قوله تعالى:{إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ}[الآية ۱٩، من السورة ٣: آل عمران].
و من هذه المرتبة من الإسلام يتحقّق قولُه: {أَ فَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ} [الآية ٢٢، من السورة ٣٩: الزمر]. و يظهر في هذه المرتبة ما أشار إليه في قوله: {فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً}[الآية ۱٤، من السورة ۷٢: الجنّ]. لأنّ من الجليّ أنّ الإسلام الأصغر الذي يشترك فيه المنافقون بعيد عن هذه المرحلة بعدّة مراحل.
و هي المرتبة التي عناها الرسول الأكرم صلّى الله عليه و آله و سلّم في قوله: فَمَنْ أسْلَمَ فَهُوَ مِنّي.
لأنّ المنافقين على الرغم
من امتلاكهم للإسلام الأصغر في الدرك الأسفل من النار، و ليسوا في جوار الرسول المختار.
الرابع: الإيمان الأكبر
و يشير إليه قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ.}۱
الذي أمر المؤمنين بإيمانٍ آخر.
و كما أنّ الإيمان الأصغر هو روح الإسلام الأصغر و معناه، و أنّ الإسلام قالبه و لفظه، و أنّ حصوله مشروط بتخطّي الإسلام الأصغر اللسانَ و الجوارح إلى القلب.
فكذلك الإيمان الأكبر هو روح الإسلام الأكبر و معناه، و هو عبارة عن تجاوز الإسلام الأكبر لمرتبة التسليم و الانقياد و الطاعة إلى مرتبة الشوق و الرضا و الرغبة، و تعدّي الإسلامِ العقلَ إلى الروح. و الآية الكريمة: {أَ فَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ،} هي مصداق هذه الحال.٢
و كما أنّ في مقابل الإيمان الأصغر النفاق الأصغر المشتمل على التسليم و الانقياد و الإطاعة للرسول في الظاهر، و التكاسل و التثاقل في القلب، فإنّ في مقابل الإيمان الأكبر النفاق الأكبر، و هو التسليم و الانقياد و الطاعة القلبيّة المولودة عن العقل، و المسبّبة عن الخوف، و الخالية من الشوق و الرغبة و اللذّة و اليُسر على الروح و النفس.
و ما جاء في وصف المنافقين في قوله تعالى: {وَ إِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى،} إنّما جاء في حقّ هذه الفرقة.۱
فإذا سرى التسليم و الانقياد إلى الروح، و قويت معرفةُ الأفعال و الأوامر الإلهيّة، انتفي هذا النفاق لدى المرء.
و هذه المرتبة من الإيمان تستلزم السريان إلى جميع الأعضاء و الجوارح، لأنّ الروح إذا غدت منشأ الإيمان و هي سلطان البدن و المتسلّط على جميع الأعضاء و الجوارح سخّرت الجميع لها، و يسّرت الأمر للجميع، و جعلت الجميع مطيعين مُنقادين، و لم تقصّر في دقيقة من دقائق الطاعة و العبوديّة.
و قد ورد في حقّ أصحاب هذه المرتبة:
{قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ، الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ ، وَ الَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ ، وَ الَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ ، وَ الَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ} [الآيات ۱ إلى ٥، من السورة ٢٣: المؤمنون.]
لأنّ الإعراض عن اللغو لا يتحقّق إلّا باستعمال كلّ عضو من
الأعضاء فيما هو مخلوق له.
و قد ذكر أبوعبدالله عليهالسلام في حديث الزبيريّ و حمّاد هذه المرتبة من الإيمان، و خلاصة الحديث هي:
الإيمَانُ فَرْضٌ مَقْسُومٌ عَلَى الجَوَارِحِ كُلِّهَا، فَمِنْهَا قَلْبُهُ وَ هُوَ أمِيرُ بَدَنِهِ، وَ عَيْنَاهُ وَ أذُنَاهُ وَ لِسَانُهُ وَ رَأسُهُ وَ يَدَاهُ وَ رِجْلَاهُ وَ فَرْجُهُ.
ثمّ إنّه ذكر عمل كلّ واحد منها.۱ و كذلك أشار إلى هذه المرتبة حديثُ ابن رئاب:
إنَّا لَا نَعُدُّ الرَّجُلَ مُؤْمِناً حتّى يَكُونَ لِجَمِيعِ أمْرِنَا مُتَّبِعاً مُرِيداً. ألَا وَ إن مِنِ اتِّبَاعِ أمْرِنَا وَ إرَادَتِهِ الوَرَعَ.٢
و ما ورد في كتاب الله: {أَ لَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ} [الآية ۱٦، من السورة ٥۷: الحديد]، هو أمر بالسفر
من الإيمان الأصغر إلى الإيمان الأكبر.
و ينبغي ألّا نتصوّر أنّ ما قيل من تفاوت مراتب الإسلام و الإيمان يتنافي مع ما ورد في طائفة من الروايات و صرّح به طائفة من المحدِّثين من أنّ الإيمان غير قابل للزيادة و النقصان؛ لأنّ ما قيل هو تفاوت المراتب في الشدّة و الضعف (في الآثار)، و ليس تفاوتها في الزيادة و النقصان (في أصل الإيمان). بلى، من لوازم الشدّة و الضعف الزيادة و النقصان في الآثار و لوازمها.۱
فما جاء إذاً في نفي الزيادة و النقصان، ففي أصل الإيمان؛ و ما جاء في إثباتها، فإمّا مراده الشدّة و الضعف، أو الزيادة و النقصان في الآثار و اللوازم، مثل قوله تعالى:
{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَ إِذا تُلِيَتْ
عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً} [الآية ٢، من السورة ۸: الأنفال].
يعني أنّهم إذا سمعوا في الآيات أمراً أو نهياً، شمّروا هممهم و ظهر فيهم أثر من الإيمان يزيد على ما كان عليهم من قبل. و إذا تُلي عليهم بلسان الحال من الآيات الآفاقيّة و الأنفسيّة، اشتدّت (آثار) إيمانهم.
و هذا هو المراد ممّا ورد في الأحاديث التي عدّت مراتب كثيرة للإيمان، حيث ورد:
إن الإيمَانَ لَهُ سَبْعَةُ أسْهُمٍ، فَمِنْهُمْ مَنْ لَهُ سَهْمٌ، وَ مِنْهُمْ مَنْ لَهُ سَهْمَانِ، وَ لَا يُحْمَلُ السَّهْمَانِ عَلَى صَاحِبِ السَّهْمِ.۱
أي أنّ آثار و أعمال السهمَين يجب ألّا تُحمَل على صاحب السهم الواحد من المعرفة، إذ سيشقّ ذلك عليه. و ما لم تشتدّ المعرفة و تقوى، فإنّ العمل سيشقّ على الجوارح.
و روى عبد العزيز القراطيسيّ قال: قال لي أبوعبدالله عليه السلام:
يَا عَبْدَ العَزِيزِ! إن الإيمَانَ عَشْرُ دَرَجَاتٍ بِمَنْزِلَةِ السُلَّمِ يُصْعَدُ مِنْهُ مِرْقَاةً بَعْدَ مِرْقَاةٍ... إلى أن قال: وَ إذَا رَأيْتَ مَنْ هُوَ أسْفَلُ مِنْكَ بِدَرَجَةٍ، فَارْفَعْهُ إلَيْكَ بِرِفْقٍ، وَ لَا تَحْمِلَنَّ عَلَيْهِ مَا لَا يُطِيقُ فَتَكْسِرَهُ.۱
و درجات الإيمان في المعرفة و العمل كليهما. و من الظاهر أن الأعمال الواجبة ممّا يلزم كلّ شخص العمل بها. فتفاوت الدرجات في الآثار (المستفاد من الأخبار) إنّما يحصل باتّباع جميع الأوامر و السنن و الأفعال و الأخلاق.
الخامس: الهجرة الكبرى
و كما أنّ الهجرة الصغرى هي الهجرة بالبدن من دار الكفر إلى دار الإسلام؛ فإنّ الهجرة الكبرى هي الهجرة بالبدن عن مخالطة أهل العصيان و مجالسة أهل البغي و الطغيان و أبناء الزمان الخوّان.۱
و قد ورد في حديث مِهزَم الأسديّ في صفة الشيعة: وَ إن لَقِيَ جَاهِلًا هَجَرَهُ.٢
و الهجرة بالقلب من مودّتهم و الميل إليهم، فقد قال سيّد الأولياء عليهالسلام: وَ الجِهَادُ عَلَى أرْبَعِ شُعَبٍ،
حيث عدّ إحدى الشعب شنئان الفاسقين.۱ و الهجرة بكليهما (بالبدن و القلب) من العادات و الآداب، إذ العادات و الآداب من مهمّات بلاد الكفر.
فقد روى في جامع الكلينيّ، في رواية السكونيّ عن الصادق عليهالسلام، عن الرسول صلّى الله عليه و آله و سلّم قال: أرْكَانُ الكُفْرِ أرْبَعَةٌ: الرَّغْبَةُ، وَ الرَّهْبَةُ، وَ السَّخَطُ، وَ الغَضَبُ.٢
و فُسّرت «الرَّهبة» بالرهبة من الناس في مخالطتهم في عاداتهم و نواميسهم.
و بعد هذه الهجرة، الالتحاق بالرسول و قصد طاعته في جميع الامور، و خدمته بالمجادلة مع جنود الشيطان و قهرها.
السادس: الجهاد الأكبر
و هو عبارة عن محاربة جنود الشيطان بمعونة حزب الرحمن (و هم جُند العقل). حيث ورد في حديث سماعة بن مهران عن الصادق عليهالسلام:
ثُمَّ جَعَلَ لِلْعَقْلِ خَمْسَةً وَ سَبْعِينَ جُنْداً، فَلَمَّا رَأى الجَهْلُ مَا أكْرَمَ اللهُ بِهِ العَقْلَ وَ مَا أعْطَاهُ، أضْمَرَ لَهُ العَدَاوَةَ، فَقَالَ الجَهْلُ: يَا رَبِّ! هَذَا خَلْقٌ مِثْلِي خَلَقْتَهُ وَ كَرَّمْتَهُ وَ قَوَّيْتَهُ، وَ أنَا ضِدُّهُ وَ لَا قُوَّةَ لي بِهِ فَأعْطِنِي مِنَ الجُنْدِ مِثْلَ مَا أعْطَيْتَهُ. فَقَالَ: نَعَمْ إلى أن قال: فَعْطَاهُ خَمْسَةً وَ سَبْعِينَ جُنْداً ... إلى أن قال: فَإنَّ أحَدَهُمْ لَا يَخْلُو مِنْ أنْ يَكُونَ فِيهِ بَعْضُ هَذِهِ الجُنُودِ حتّى يَسْتَكْمِلَ وَ يُنْقَي مِنْ جُنُودِ الجَهْلِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ يَكُونُ في الدَّرَجَةِ العُلْيَا مَعَ الأنْبِيَاءِ وَ الأوْصِيَاءِ.۱
السابع: الفتح و الظفر بجنود الشيطان
و النجاة من تسلّطهم، و الخروج من عالَم الجهل و الطبيعة. و يشير إلى أصحاب هذه المرحلة (العرصة) الإمام الصادق عليه السلام في حديث اليمانيّ:
شِيعَتُنَا أهْلُ الهُدَى، وَ أهْلُ التقوى، وَ أهْلُ الخَيْرِ، وَ أهْلُ الإيمَانِ، وَ أهْلُ الفَتْحِ وَ الظَّفَرِ.۱
الثامن: الإسلامُ الأعظم
و بيان هذه المرحلة أنّ الإنسان قبل دخوله في عالَم الفتح و الظفر و الغلبة على جُند إبليس و الطبيعة مبتلى في عالَم الطبيعة، و أسير جنود الوَهم و الغضب و الشهوة، و مغلوبٌ للأهواء المتضادّة في لجّة الطبيعة. تحيط به الآمال و الأماني، و تستولي عليه الهموم و الغموم، يتناهبه تزاحم العادات و الآداب المتناقضة، و تؤلمه منافيات الطبع و منافرات الخواطر، يترقّب الامور المخوفة العديدة، و يتهيّأ للأحداث المهولة الجمّة، في كلّ زاوية من خاطره تشويش، و في كلّ ركن في صدره نارٌ متأجّجة، أنواع الفقر
و الاحتياج أمام ناظرَيه، و أصناف الآلام و الأسقام تمسك بتلابيبه، فهو تارةً مُبتلى بالأهل و العيال، و تارةً في الخوف من تلف التجارة و الأموال. يسعى إلى الجاه حيناً فلا يناله، و إلى المنصب حيناً فلا يُعطاه. قد أحاطت به أشواك الحسد و الغضب و الكبر و الأمل، و غدا في براثن حيّات و عقارب و سِباع عالم الجسمانيّة و المادّيّة ذليلًا حقيراً. قد ادلهمّ قلبُه بظلمات الوَهْم، و أوثقته في أسرها آلاف مؤلّفة من الهموم المتضادّة. أينما ولّى وجهه، صفعتْهُ يدُ الدهر، و حيثما وضع رِجلَهُ غرس فيها الدهر أشواكه.
و لمّا نال بتوفيقٍ غير مشروط الظفر و الانتصار في حربه و قتاله مع جنود الوهم و الغضب و الشهوة، و تخلّص من براثن العلائق و العوائق، و ودّع عالَم الطبيعة و المادّيّة، و وضع أقدامه خارج بحر الوهم و الأمل، فإنّه سيرى نفسه جوهرة فريدةً لا مثيل لها، و يضحى محيطاً بعالَم الطبيعة، مصوناً من الموت و الفناء، فارغاً من منازعة المتضادّات، مطمئنّاً من أذى المتناقضات، و سيرى في نفسه صفاءً و بهاء و نوراً و ضياء فوق إدراك عالَم الطبيعة؛ لأنّ الطالب في تلك الحال سيكون قد مات بمقتضى مُتْ عَنِ الطَّبِيعَةِ،۱ و وجد حياةً جديدة، و لأنّه سيكون بسبب
تخطّيه للقيامة الأنفسيّة الصغرى (و هي موت النفس الأمّارة) قد حظي بالمشاهدات المعنويّة الملكوتيّة. و ما أكثر ما سينكشف له من أمور مخفيّة و ما سيحصل له من أحوال عجيبة، و سيكون قد بلغ القيامة الوسطى.۱
فإن لم تدركه العناية الأزليّة في ذلك الوقت، اكتنفه العُجب و الغرور لما يشاهده في نفسه، فتتملّكه الأنانيّة، و يتصدّى لقطع الطريق عليه رئيس الأبالسة و العدوّ الكامن في نفسه بين جنبيه، بعد أن تصدّى له حتّى الآن الأعداء الخارجيّون و أذناب الشيطان. و قد ورد: أعدى عدوك نفسك التي بين جنبيك.۱
و هذا العُجب و هذه الأنانيّة هما اللذان صيّراه مبتلى بعالَم الطبيعة. و قد ورد أنّ الله تعالى لمّا خلق الروح المجرّد خاطبه فقال: مَنْ أنَا؟، فلم تخطُ الروح خارج البهاء الذي اكتنفها و أحاط بها، فقالت: مَنْ أنَا؟ فأخرجها الله تعالى من عالم النور و الابتهاج، و أرسلها إلى عالم الفقر و الفاقة لتعرف نفسها.٢
فإذا خرجت من عالم الطبيعة و عادت إلى حالتها الاولى، اكتنفها ذلك الكِبر و الأنانيّة، حيث حملت طائفة حديث مَا بَيْنَهُمْ وَ بَيْنَ أنْ يَنْظُرُوا إلى رَبِّهِمْ إلَّا رِدَاءُ الكِبْرِيَاءِ
على هذا. يعني أنّهم يصلون موضعاً إذا لم يرتدوا فيه رداء الكبرياء، و لا تملّكهم العُجب، لنظروا إلى أنوار عالم اللاهوت.
فإن لم تنقذ السالك في هذه الحال العناية الإلهيّة، ابتُلي بالكفر الأعظم، إذ الكفر في المراحل السالفة إمّا كفر بالرسول، و إمّا شرك سبّبته الامور الخارجيّة (كالشيطان و الهوى). أمّا كفر هذه المرحلة، فعبارة عن متابعة الشيطان و الهوى، و قد قال تعالى:
{أَ لَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [الآية ٦۰، من السورة ٣٦: يس].
و قال: {أَ فَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ} [الآية ٢٣، من السورة ٤٥: الجاثية].
و قال الرسول صلّى الله عليه و آله و سلّم: الهَوَى أنْقَصُ (أبْغَضُ ظ) إلَهٍ عُبِدَ مِنْ دُونِ اللهِ في الأرْضِ.۱
و تخصيص «في الأرض» عائد إلى أنّه بعد الخروج من أرض الطبيعة ليس من إله أنقص من النفس، لأنّها تُتّخذ إلهاً بعد الفراغ من عالم الطبيعة و البدن و الصعود إلى مدارج النفس و الذات.
و إلى هذا الكفر يشير قول: النَّفْسُ هي الصَّنَمُ الأكْبَرُ.
و عبادة هذه الأصنام هي التي عناها إبراهيم عليهالسلام حين دعا ربّه أن يجنّبه إيّاها: وَ اجْنُبْنِي وَ بَنِيّ أن نَّعْبُدَ الأصْنَامَ.٢
لأنّ
من أوضح الواضحات أنّ عبادة الأصنام المصنوعة من قِبل الخليل عليهالسلام و أبنائه (الذين كانوا من الأنبياء) ممّا لا يمكن تصوّره.
و هذا الشرك هو الذي كان خاتم الأنبياء صلّى الله عليه و آله و سلّم يستعيذ بالله تعالى منه، في قوله: أعُوذُ بِكَ مِنَ الشِّرْكِ الخفي،
و هو المُخاطَب بخطاب: [و] {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الآية ٦٥، من السورة ٣٩: الزمر].
و هذا الكفر هو الذي أشار إليه بعض أكابر أهل الله في قوله: إذا ارتحل العبد عن الكون و المكان، فإنّ أوّل مقام سيُعرَض عليه مقامٌ إذا بلغه تصوّر أنّه هو الصانع. و أيّ كفر أعلى من هذا!
إذَا قُلْتُ ما أذْنَبتُ قَالَتْ مُجِيبَةً | *** | وُجُودُكَ ذَنْبٌ لَا يُقَاسُ بِهِ ذَنْبُ۱ |
إذَا قُلتُ أهْدَي الهَجْرُ لي حُلَلَ البِلَى | *** | تَقُولِينَ لَوْلَا الهَجْرُ لَمْ يَطِبِ الحُبُ |
وَ إنْ قُلْتُ هَذَا القَلْبُ أحْرَقَهُ الهَوَى | *** | تقُولِي بِنِيرَانِ الهَوَى شَرُفَ القَلْبُ |
وَ إنْ قُلْتُ مَا أذْنَبْتُ؟ قَالَتْ مُجِيبَةً | *** | وُجُودُكَ ذَنْبٌ لَا يُقَاسُ بِهِ ذَنْبُ |
و يقابل هذا الكفر الإسلام الأعظم، و هو الإسلام الذي أمر الحقّ جلّ شأنه به إبراهيم عليهالسلام: {إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ.} و حقيقته عبارة عن التصديق بفناء النفس و الإذعان بالعجز و الذلّة و العبوديّة و الرقّ، بعد كشف الحقيقة و الاعتقاد بأنّ ما يشاهده في نفسه من إحاطة و نور هو عين الفقر و سواد الظلمة، بل بقطع النظر عنها و فنائه و اضمحلاله في جنب الوجود المطلق و النور المحض.
التاسع: الإيمان الأعظم
و هو عبارة عن مشاهدة و معاينة فنائه، بعد التصديق و الإذعان
بالإسلام الأعظم. و حقيقته شدّة ظهور و وضوح الإسلام الأعظم، و تجاوزه حدود العلم و الإذعان إلى مرتبة المشاهدة و العيان. و لذلك قال تعالى لخليله:{أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ}۱ [الآية ۱٣۱، من السورة ٢: البقرة]. و يشير إلى الدخول في هذا العالم قوله سبحانه و تعالى: {فَادْخُلِي فِي عِبادِي ، وَ ادْخُلِي جَنَّتِي}[الآيتان ٢٩ و ٣۰، من السورة ۸٩: الفجر]، لأنّ حقيقة العبوديّة قد تحقّقت حينذاك، و لانّ الدخول في هذا العالم كناية عن المشاهدة و العيان.
و يكون السالك في هذه الحال قد ارتحل عن عالم الملكوت، و قامت قيامته الكبرى الأنفسيّة، و ورد في عالم الجبروت، و فاز بالمشاهدات الملكوتيّة و المعاينات الجبروتيّة، و ورد من عالم
النفوس المعلّقة بالأفلاك إلى العالم المنزّه عن الأجسام. و في طلب هذه المنزلة قيل:
بَينِي وَ بَيْنَكَ أنّيّ يُنَازِعُنِي | *** | فَارْفَعْ بِلُطْفِكَ أنّيّ مِنَ البَيْنِ۱ |
العاشر: الهجرة العظمى
و هي عبارة عن هجرة السالك من وجوده و رفضه له، و سفره إلى عالم الوجود المطلق، و التفاته التامّ لذلك العالم. و قد أمِر بهذه الهجرة فقيل: دَعْ نَفْسَكَ وَ تَعَالَ.٢
و يشير إليه قوله تعالى: {وَ ادْخُلِي جَنَّتِي} بعد قوله: {فَادْخُلِي}
{فِي عِبادِي} لأن {يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ} خطابٌ إلى النفس التي فرغت من الجهاد الأكبر و وردت عالَم الفتح و الظفر، و هو مقرّ الاطمئنان.
و لمّا كان هذا القدْر من الوصول إلى المقصد غير كافٍ، فقد أمِر بالرجوع إلى ربّه. و قد ذكرنا تفصيل كيفيّة الرجوع.۱
فقد أمِر إذاً بالدخول ابتداءً في العِباد، و هو الإيمان الأعظم، ثمّ أمر بالترقّي و الدخول في جنّة الله بترك وجوده و بالدخول في عالم الخلوص و الرجوع إلى ربّه. أمّا ما عُبّر عنه بتعبير {مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ}، فليس إلّا هذه المرحلة: مرحلة الإيمان الأعظم. لأنّ صدق الأمر الذي هو فناؤه، و محلّ السكون الصادق الذي هو الوجود المحض إنّما يحصلان في هذه المرحلة.
و بالنظر إلى أنّ المجاهدة العظمى لم تتحقّق بعدُ، و أنّ آثار
وجود السالك لا تزال باقية حتّى الآن، و أنّ اضمحلال تلك الآثار في نظر السالك موقوف على المجاهدة، فإنّه لم يأمن تماماً من سطوات سياط القهر، و هو لذلك يقف في مضمار هذين الاسمَين الجليلَين.۱
الحادي عشر: عالم الجهاد الأعظم
و هو عبارة عن توسّله بعد هجرته من وجوده بالمليك المقتدر، ليجاهد آثار وجوده الضعيفة، من أجل أن ينفيها بالمرّة ليخطو و هو ممحيّ على بساط التوحيد المطلق.
الثاني عشر: عالم الخلوص
و قد سمعتَ شيئاً من تفصيله، و هو عالم الفتح و الظفر بعد الجهاد الأعظم. و إليه أشير في قوله تعالى: {أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ.}
أمّا و قد أمن الآن من سطوة القهر، و ترعرع في حِجر تربية مربّي الأزل، فسيدخل في مضمار هذا الاسم الذي أشير إليه في {يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ،} و في: {إِنَّا لِلَّهِ وَ إِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ}[الآية ۱٥٦، من السورة ٢: البقرة].
بِدَمِ المحِبِّ يُبَاعُ وَصْلُهُمُ | *** | فَاسْمَحْ بِنَفْسِكَ إنْ أرَدْتَ وِصَالًا |
و حينذاك تقوم قيامته العظمى الأنفسيّة، و يكون قد تخطّى الأجسام و الأرواح و التعيّنات و الأعيان بأسرها، و فَنى منها بأجمعها، و خطى في عالَم اللاهوت، و فاز بالحياة الحقيقيّة الأبديّة، و انتقل من المعاينات الجبروتيّة إلى التجلّيات اللاهوتيّة، و فاز {وَ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}۱، {لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ} [الآية ٦۱، من السورة ٣۷: الصافّات]، فيخرج آنذاك من تحت {كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ} [الآية ۱۸٥، من السورة ٣: آل عمران؛ و الآية ٣٥، من السورة ٢۱: الأنبياء؛ و الآية ٥۷، من السورة ٢٩: العنكبوت]، إذ ليس عندئذ مِن نفس، و يصبح مصداق {أَ وَ مَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ}
{وَ جَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ} [الآية ۱٢٢، من السورة ٦: الأنعام]، و مصداق {إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ} في الآية الكريمة {وَ نُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ} [الآية ٦۸، من السورة ٣٩: الزمر]. و هو آنذاك الميّت الحيّ. فهو ميّت بالموت الإراديّ من عالم الطبيعة و النفس، و حيّ بالحياة الحقيقيّة في عالَم اللاهوت و الخلوص. و من هنا قيل: مَنْ أرَادَ أنْ يَنْظُرَ إلى مَيِّتٍ يَمْشِي، فَلْيَنْظُرْ إلى عليّ بْنُ أبي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ.۱
القِسمُ الثاني: امّا و قد علمت تفصيل هذه العلوم الاثني عشر، فسأُبَّين لك طريق السلوك و السفر فيها على سبيل الإجمال أعَانَكَ اللهُ عَلَيْهِ. و سأذكره لك في بيانَين زيادة في البشيرة.
في طَرِيِق السُّلُوكِ إلى اللهِ وفّقَ بَيَانَينِ
الفَصل الأوّل: بَيَانٌ إجمَالِيّ في طَرِيقِ السُّلُوكِ إلى اللَهِ
عند غياب اليقين العلميّ ينبغي اللجوء إلى التضرّع
فأقول في البيان الأوّل
أوجّه كلامي إلى مَن فكّر بالطلب و لم يكن غافلًا و لا ذاهلًا بالمرّة. و مثل هذا الشخص عليه أوّلًا أن يسعى في الطلب، فيجتهد في تفحّص الأديان و المذاهب على قدر قابليّته، و ينظر في الشواهد و الآيات و البيّنات و القرائن و الأمارات الحسّيّة و الذوقيّة و العقليّة و الحدسيّة، و يبذل في ذلك قصارى جهده من أجل أن يُدرك توحيد الله و حقيقة هدايته و لو بأدنى مرتبة علم اليقين. بل ينفعه في هذا المقام مجرّد الظنّ و الرجحان. و بعد تحصيل هذا التصديق العِلميّ أو الرجحانيّ يخرج من عالم الكفر و يدخل مرحلتَي الإسلام و الإيمان الأصغرَين و يطويهما.
و الإجماع واقع في هاتين المرحلتَين على أنّ تحصيل الدليل واجب على كلّ مكلّف. فإن لم يحصل له أيّ رجحان بعد تفحّصه و جهده و تعقّله و نظره، فعليه أن يتعلّق بأذيال التضرّع و البكاء و التوسّل و الابتهال و التذلّل، و أن يصرّ في ذلك، فسيُفتح له حتماً،
كما هو المأثور عن النبيّ إدريس عليهالسلام و أتباعه.۱
و من الأفضل في هذه الأوقات أن ينشغل بعدّة أذكار مؤثّرة في حصول اليقين في هذه المرحلة. و سيُشار إلى بعض تلك الأذكار.
فإن هو تخطّى هذه المرحلة، فليسعَ جهده في تحصيل الإسلام و الإيمان الأكبرَين. و أوّل ما يلزمه في هذه المرحلة العِلم بأحكام و آداب و فرائض و شرائع الهادي الناجي الذي اعتقد بكونه ناجياً. سواء عن طريق سماعها من ذلك الهادي أم من خليفته أم نائبه، أو عن طريق فهمه لكلامه إن كان أهلًا للفهم أو باتّباع مَن هو أهلٌ للفهم، الذي يدعى في الشريعة بـ «الفقيه».
و بعد العِلم بها و تحصيلها و التسليم و الانقياد و ترك الاعتراض، عليه أن يواظب على العمل بها و المحافظة على أداء الفرائض و الآداب، ليزداد بهذا السبب وضوح المعرفة و اليقين بها درجةً فدرجةً، و ليشتدّ بسبب العمل و الآثار الإيمان في الجوارح، أنّ العمل موجب للعلم، و العلم مورث للعمل. و قد صرّح بهذه الطريقة في أخبار كثيرة، حيث ورد في حديث عبد العزيز المذكور: الإيمَانُ عَشْرُ دَرَجَاتٍ بِمَنْزِلَةِ السُّلَّمِ يُصْعَدُ مِنْهُ مَرْقَاةً بَعْدَ مَرْقَاةً.
و يشير إلى ذلك ما ورد في حديث الحسن الصيقل، أنّ أبا عبدالله عليهالسلام قال: الإيمَانُ بَعضُهُ مِنْ
بَعْضٍ.۱
العلم والعمل يورِثان بعضهما
و جاء في حديث إسماعيل بن جابر عنه عليهالسلام قال: العِلْمُ مَقْرُونٌ بِالعَمَلِ، فَمَنْ عَلِمَ عَمِلَ، وَ مَنْ عَمِلَ عَلِمَ.٢
و أصرحُ منها حديث محمّد بن مسلم، أنّه عليهالسلام قال: الإيمَانُ لَا يَكُونُ إلَّا بِالعَمَلِ وَ العَمَلُ مِنْهُ، وَ لَا يَثْبُتُ الإيمَانُ إلَّا
بِعَمَلٍ.۱
و جاء في حديث جميل بن درّاج٢ و عنه عليهالسلام قال:
وَ لَا يَثْبُتُ لَهُ الإيمَانُ إلَّا بِالعَمَلِ وَ العَمَلُ مِنْهُ.
و في تصريحات و تلويحات سيّد الأوصياء عليهالسلام أنّ الإيمان الكامل يولد من العمل. فمن طلب الإيمانَ الأكبر، فعليه أن يطلبه من العمل.
بَيدَ أنّ عليه في هذه المرحلة أن يكون شعاره الرفق و المداراة كما مرّ في حديث عبد العزيز، و أن يداوم على كلّ عمل يبادر إليه، فقد ورد في الأحاديث المتواترة أنّ العمل القليل المستمرّ أفضل عند الله من الكثير غير المستمرّ.
و عليه أن يرتفع درجةً فدرجةً، من أجل أن تحظى جميع أعضائه و جوارحه بنصيبها من الإيمان، و لئلّا يبقى عضوٌ لم ينل نصيبه.
ثمّ يصل به الأمر إلى حيث تنال جميع أعضائه الظاهرة و الباطنة حظّها الكامل من الإيمان، من الأوامر و النواهي الحتميّة و التنزيهيّة التي لو اهمل منها جزء، لنقص من الإيمان بذلك القدر. و مع وجود قصور الإيمان و لو قيدَ شعرة يتعذّر السير في العالم الذي يعلوه، و قد مرّ أنّ عوالم السلوك إلى الله تعالى شأنها شأن الساعات، فما لم ينطو المتقدّم تماماً، تعذّر الحصول على
المتأخّر.
و قد نُقل أنّ سالكاً أتى إلى شيخ طمعاً في نيل المراتب، فوجده في المسجد، ورآه و هو يبصق في المسجد، فعاد أدراجه و لم يعدّه مهتدياً.۱
و آخر سار ثوره مع المحراث في أرض موقوفة ثمّ عاد إلى أرضه، فشاهد أنّ شيئاً من تراب الأرض الموقوفة قد اختلط بأرضه، فلم يأكل من محصولات أرضه.٢
حَسَنَاتُ الأبْرَارِ سَيِّئَاتُ المُقَرَّبِينَ.۱
لزوم الحظّ الإيمانيّ لجميع الاعظاء والجوارح
ويكفي في بيان هذا المطلب قول الحقّ سبحانه و تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} إلى قوله {وَ الَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ،} لأنّ اللغو لا تخصيص له باللسان، و كلّ عملٍ يصدر من أي عضو بحيث لا يوافق الأمر الإلهيّ، و لا يستوجب الثواب و الأجر و النورانيّة، و لا يرضى به الله، فإنّه يعدّ لغواً.
و أهمّ الأعضاء التي يجب أن يوفي حظّه من الإيمان: القلب، لأنّه أمير البدن، و لأنّ إيمان القلب يتعدّاه إلى سائر الأعضاء و الجوارح كما في حديث الزبيريّ و حمّاد السابقَين. فيجب مراقبة القلب في جميع الأحوال. و أمّا إيمانه فبالذِّكر و التفكّر، و لذا فقد ورد في أحاديث عديدة أنّ أفضل العبادة هو التفكّر و الذِّكر. و لذلك جاء في كتاب الله: {وَ لَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} [الآية ٤٥، من السورة ٢٩: العنكبوت]، و به يحصل الإيمان التامّ {أَلا بِذِكْرِ
اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الآية ٢۸، من السورة ۱٣: الرعد]. فإن تخلّف القلب عن آثار إيمانه، تخلّفت معه سائر الأعضاء: {وَ مَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} [الآية ٣٦، من السورة ٤٣: الزخرف].
فإن حَظِيَت جميع الأعضاء و الجوارح بنصيبها من الإيمان و اعتادت عليه، و كانت مصونة عن الطغيان و التمرّد، شرع السالك في عالم المجاهدة، و هجر مرافقة أبناء الزمان و أولياء الشيطان، و ارتحل عن مقتضيات الوهم و الشهوة و الغضب و العادات و الآداب بمقتضى {لا يَخافُونَ} [في اللهِ] {لَوْمَةَ لائِمٍ} [الآية ٥٤، من السورة ٥: المائدة]، و انتمى إلى عالم العقل،۱ و استعان بعساكر العقل في محاربة حزب الهوى و جُند الأبالسة.
و ينبغي ألّا تؤخّر هذه المرحلة بكاملها عن جميع المراحل السابقة، إذ كثيراً ما تكون آثار الإيمان في الجوارح منوطة بصلاح الباطن، و كثيراً ما تكون لوازم و آثار إيمان النفس متعلّقة بأعمال الجوارح. بل هاتان المرحلتان متلازمتان في الحقيقة، بحيث إن النشاط التامّ لكلّ منهما يحصل في آن واحد.
ضرورة نيل أحكام الطبّ الروحانيّ لإصلاح الباطن
و بإجمال، فإنّ السالك إذا خطى في هذه المرحلة، فإنّ أوّل ما يلزمه العِلم بأحكام الطبّ الروحانيّ، من أجل أن يعرف المصالح و المفاسد، و الفضائل و الرذائل، و الدقائق و الخفايا، و حِيَل النفس و مكائدها، و يتعرّف على سائر جنود إبليس؛ و هذا هو فِقه النفس، مقابل فروع الأحكام التي هي فقه الجوارح. و العقل هو معلّم فقه النفس، كما أنّ الفقيه هو معلّم فقه الجوارح. و يدلّ عليه حديث: العَقْلُ دَلِيلُ المُؤْمِنِ.۱
و حديث: إن لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حُجَّتَيْنِ: حُجَّةٌ ظَاهِرَةٌ وَ حُجَّةٌ بَاطِنَةٌ. أمَّا الظَّاهِرَةُ فَالرُّسُلُ وَ الأنْبِيَاءُ وَ الأئِمَّةُ، وَ أمَّا البَاطِنَةُ فَالعُقُولُ.٢
لكنّ أكثر العقول قد تكدّرت بدخولها في عالم الطبيعة، و منازعتها جُنود الوهم و الغضب و الشهوة، فأضحت قاصرة عن إدراك دقائق مكائد جند الشيطان و سبيل التغلّب عليهم، لهذا لا مناص لها من الرجوع إلى الشرع و القواعد المقرّرة فيه، حيث قال صلّى الله عليه و آله و سلّم: بُعِثْتُ لُاتَمِّمَ مَكَارِمَ الأخْلاقِ.۱
...۱
...۱
ضرورة الاستاذ والشيخ
فلا مفرّ للطالب في هذه المرحلة أيضاً من الرجوع إلى الهادي، أو إلى خليفته، أو نائبه، أو فهم كلماته.
و نظراً لضرورة الاستنباط في هذه المرحلة و استخراج دقائقه، و معرفة الأمراض النفسانيّة و معالجاتها، و تشخيص المصالح و المفاسد، و معرفة مقدار دواء كلّ شخص و طريقة معالجته الخاصّة، فإنّ القائم بهذا الاستنباط باعتبار دقّته و خفائه يجب أن يكون تامّاً ذا نظر ثاقب و قوّة كبيرة و مَلَكة قدسيّة و علمٍ غزير و سعي كثير. و لهذا السبب فإنّ حصول هذا العلم قبل العمل به أمرٌ متعسّر، بل متعذّر. و لا مفرّ للطالب و الحال هذه من الرجوع إلى الهادي أو من يقوم مقامه، و يُعبَّر عنه بالشيخ أو الاستاذ.۱
...۱
...۱
...۱
...۱
شرائط أُستاذ فقه النفس وصعوبة التعرّف عليه
و كما أنّ هناك شروطاً مُفترَضة في أُستاذ فقه الجوارح، بحيث لا يجوز الرجوع إليه قبل معرفة تحقّقها فيه، و بحيث يبطل من دونها العمل؛ فإنّ الأمر كذلك في فقه النفس و الطبّ الروحانيّ، كما أنّ معرفة الاستاذ في هذا الفنّ أصعب، و شرائطهأكثر.
طيّ اين مرحله بي همرهي خضر مكن | *** | ظلماتست بترس از خطر گمراهي |
خَلِيلَيّ قُطَّاعُ الطَّرِيقِ إلى الحِمَى | *** | كَثِيرٌ وَ لَكِنْ وَاصِلُوهُ قَلِيلُ۱ |
و هناك فرق آخر بين أُستاذ الفقه الجسمانيّ (الذي يُدعى بالفقيه) و بين أستاذ الفقه الروحانيّ (الذي يُدعى بالشيخ)، و هو أنّ طريق فقه الجوارح جليّ و ظاهر، و أنّ قطّاع طريق الله فيه قليلون و ظاهرون؛ فيكفي أُستاذ هذا الفقه أن يشير إلى الطريق و أن يُشخّص المخادعين. خلافاً لطريق فقه النفس و الطبّ الروحانيّ، حيث يختلف طريق كلّ شخص، و يتفاوت مرضه، و حيث يتعذّر معرفة مقدار المرض و مقدار الدواء، و يعسر معرفة مرض كلّ شخص و معالجته، و حيث عقبات الطريق بلا حصر، و امتداد ارتفاعاته بلا انتهاء، و قطّاعه بلا عدد، و معرفة لصوصه مستصعب مُشكل٢. إذ يحصل كثيراً أن يتلبّسون بلباس الدراويش.
خَلِيلَيّ قُطَّاعُ الفَيَافي إلى الحِمَى | *** | كَثِيرٌ وَ أَمَّا الوَاصِلُونَ قَليلُ |
لزوم ملازمة ومراقبة الشيخ الروحانيّ لمعرفته
فلا مناص إذن من مرافقة الاستاذ و الشيخ و مراقبته في جميع الأحوال، و من عرض الحال عليه في كلّ عقبة.
و من هنا نجد السالكين يلازمون الاستاذ مدّة متمادية، و لا يفارقونه دقيقة واحدة.
واعلم أنّ حال فقه النفس كحال فقه الجوارح في أنّ تمام إيمان النفس موقوف على تمام ظهور آثارها، و أنّ أثراً من آثارها لو أُهمل، فإنّ إيمان النفس سينقص بنفس القدر، فيعجز السالك من ثمّ عن السير في العالم الذي يعلو عالمه.
فإن طوى السالك بالعناية و التوفيق الربّانيّين، و بتعليم الشيخ الروحانيّ و جاهد كما ينبغي له المجاهدة، فإنّ النقصان الذي كان موجوداً في إسلامه و إيمانه الأصغرَين سيرتفع. فإن أخطأ آنذاك، بدا له خطأه بوضوح، و تجلّى أمامه الصراط المستقيم، و انتقل من الظنّ و التخمين إلى المشاهدة و اليقين:
{وَ اعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الآية ٩٩، من السورة ۱٥: الحجر]، {وَ إِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [الآية ٥٤، من السورة ٢٤: النور]،
{وَ الَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا}[الآية ٦٩، من السورة ٢٩: العنكبوت]، {وَ إِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى}۱. [الآية ۸٢، من السورة ٢۰: طه].
مرا به رندي و عشق آن فضول عيب كند | *** | كه اعتراض بر اسرار علم غيب كند |
كمال صدق و محبّت ببين نه نقص گناه | *** | كه هر كه بي هنر افتد نظر به عيب كند |
ز عطر حور بهشت آن زمان بر آيد بوي | *** | كه خاك ميكدة ما عبير جيب كند |
چنان بزد ره اسلام غمزة ساقي | *** | كه اجتناب ز صهبا مگر صهيب كند |
كليد گنج سعادت قبول اهل دلست | *** | مباد آنكه در اين نكته شكّ و ريب كند |
شبان وادي ايمن گهي رسد به مراد | *** | كه چند سال به جان خدمت شعيب كند |
ز ديده خون بچكاند فسانة حافظ | *** | چو ياد عهد شباب و زمان شيب كند |
قال أمير المؤمنين عليهالسلام في وصف المجاهدين و غاية أحوالهم:
فَخَرَجَ مِنْ صِفَةِ العَمَى وَ مُشَارَكَةِ أهْلِ الهوى، وَ صارَ مِنْ مَفَاتِيحِ أبْوَابِ الهُدَى، وَ مَغَالِيقِ أبْوَابِ الرَّدَى، وَ أبْصَرَ طَرِيقَهُ وَ سَلَكَ سَبِيلَهُ، وَ عَرَفَ مَنَارَهُ وَ قَطَعَ غِمَارَهُ. فَهُوَ مِنَ اليَقِينِ عَلَى مِثْلِ ضَوْءِ الشَّمْسِ.۱
و قال أيضاً في وصفهم:
هَجَمَ بِهِمُ العِلْمُ عَلَى حَقِيقَةِ البَصِيرَةِ، وَ بَاشَرُوا رُوحَ اليَقِينِ، وَ اسْتَلَانُوا مَا اسْتَوْعَرَهُ المُتْرَفُونَ، وَ أنِسُوا بِمَا اسْتَوْحَشَ مِنْهُ الجَاهِلُونَ، وَ صَحِبُوا الدُّنْيَا بِأبْدَانٍ أرْوَاحُهَا مُعَلَّقَةٌ بِالمَحَلِّ الأعْلَى ....
اللهمّ إلّا مَن قصّر في طريق الطلب، و تسامح في مرحلة من مراحله؛ كمن قصّر في بذل الجهد خلال الفحص الأوّل الضروريّ في الإسلام و الإيمان الأصغرَين فاختار دليلًا ضالّا، أو انحرف عن متابعة فقيهه و شيخه، أو قصّر في سعيه في معرفتهما، أو قصّر في إعطاء حظّ الجوارح أو النفس من الإيمان، أو أخطأ في ترتيب المعالجة، و سنذكر لك أنموذجاً من ذلك.
فإذا فرغ الطالب السالك من هذه المراحل، و تغلّب على حزب الشيطان و الجهل، و ورد عالَم الفتح و الظفر، فسيحين زمن
طيّه للمراحل اللاحقة، إذ إنّه طوى عالم الجسم و دخل في مُلك الروح. و حان زمن السفر الأعظم و السفر من عالم النفس و الروح، و الانتقال من دولة الملكوت إلى مملكة الجبروت و اللاهوت و غيرها.
الذِّكر و التفكّر و التضرّع أساس طريق السير، بعد الانتقال من عالم إلى ملك الجبروت
و أساس طريق السير في هذه المرحلة يتمثّل بعد مبايعة الشيخ البصير في الذِّكر و التفكّر و التضرّع و الابتهال و التبتّلو البكاء: {وَ اذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَ تَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا} [الآية ۸، من السورة ۷٣: المزّمل]، {وَ اذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَ خِيفَةً} [الآية ٢۰٥، من السورة ۷: الأعراف].
و من هنا فقد قال ربّ العالمين بأنّ ذِكره أكبر من الصلاةِ التي هي عمود الدِّين، و قال الصادق عليهالسلام بأنّ التفكّر أفضل العبادة، و أنّ تفكّر ساعة واحدة أفضل من عبادة سبعين سنة.۱
فإن انتهت هذه المرحلة بدورها، فقد تمّ الكلام و التفكّر
و العزلة و السير و السلوك و الطلب و الطالب و المطلوب و النقصان و الكمال إذَا بَلَغَ الكَلَامُ إلى اللهِ فَأمْسِكُوا.۱
و هذا هو البيان الإجمإليّ الأوّل لطريق سلوك سبيل عالم الخُلوص.
الفَصل الثاني: بَيَانٌ تَفصِيليّ لِطَريقَةِ السُّلُوكِ إلى اللهِ
و أمّا البيان الثاني
فاعلم أنّ علماء الطريقة ذكروا منازل و عقبات للسالك، و بيّنوا طريق السير فيها. و أنّهم اختلفوا في عدد المنازل و ترتيبها، حتّى تفاوتت ما بين سبعة منازل على أقلّ الأقوال و سبعمائة شرح المولى جعفر كبوتر آهنكي للحُجب الخمسة في الدعاء لاميرالمؤمنين عليه السلام
و هو قول الأكثريّة و صرّح بعضهم بأنّها تبلغ سبعين ألفاً.۱
بَيْنِي وَ بَيْنَكَ أنّيّ يُنَازِعُنِي | *** | فَارْفَعْ بِلُطْفِكَ أنّيّ مِنَ البَيْنِ |
...۱
از تو تا مقصود چندان منزلي در پيش نيست | *** | يكقدم بر هر دو عالم نِه كه گامي بيش نيست |
...۱
...۱
...۱
لوازم السلوك إلى الله
وأكثر هذه المنازل واقعة في عالَم النفس، و من جملة مراحل و منازل الجهاد الأكبر. و يختلف ترتيبها باختلاف الأشخاص.
و طيّ جميع مراحل النفس من الضروريّات، لأنّ إيمان النفس سينقص بقدر النقصان الحاصل في تلك المراحل. فلا يليق و الحال هذه أن نذكر بعضها، بل يكفي في هذا المجال أمر السالك بالجهاد الأكبر عند ذكر هذه العقبات و المنازل.
و حقيقة السلوك و مفتاحه هو تسخير البدن و النفس تحت راية الإيمان الذي يبيّن أحكامه فقه الجوارح و فقه النفس. ثمّ يأتي دور إفناء النفس و الروح تحت راية الكبرياء الإلهيّ؛ و جميع العقبات و المنازل مندرجة في هذه المراحل.
بَيدَ أنّ سلوك هذه المراحل، و طيّ هذا الطريق، و السفر في هذه العوالم موقوف على امور يتعذّر من دونها بلوغ المنزل المقصود، بل يتعذّر مجرّد السير في هذا الطريق. و لذلك فإنّ الوصول إلى المقصد و حصول المطلب منوط بهذه الامور المذكورة، و بلوغ المنزل مشروط بملازمتها.
و ليس من مجال في هذا المقام لذكر عدد منازل الطريق، و لا لعقبات النفس و أخطار هذا السفر؛ فإن اقتضى الأمر التعرّض لذكرها، فإنّ ذِكر أحوال الجوارح و الأعضاء و هو فقه البدن سيكون ضروريّاً بدوره، لأنّها أيضاً من منازل السفر.
فالمهمّ إذاً أن نذكر الامور التي يمكن بواسطتها طيّ هذا
الطريق الخطر، و البلوغ بالطالب إلى مقصده.
و تفصيل هذه الامور: أنّ الطالب إذا وصل بعد الفحص و النظر إلى الإسلام و الإيمان الأصغرَين، فإنّ أوّل ما يلزمه هو تحصيل العِلم بأحكام الإيمان بالطريق الذي مرّ ذِكره. و يدلّ عليه قول: طَلَبُ العِلْمِ فَرِيضَةٌ على كُلِّ مُسْلِمٍ وَ مُسْلِمَةٍ.۱
...۱
فمَن لم يكن له هذا العِلم، لم يزده جهادُه إلّا هزيمة و خُسراً. كما قال أبو عبدالله عليهالسلام: العَامِلُ عَلَى غَيْرِ بَصِيرَةٍ، كَالسَّائِرِ عَلَى غَيْرِ الطَّرِيقِ، وَ لَمْ يَزْدَدْهُ السَّيْرُ إلَّا بُعْداً.۱
و كلّما كان هذا العِلم أوضح، كان أثره أكبر و أسرع. فيكون أخذ تلك الأحكام عن النبيّ أو الوصيّ عند الإمكان أشرف. كما أنّ استخراجها من كلامهما أفضل من التقليد. و يندرج في هذا العِلم العلم المجمل بالضروريّات، الذي هو من علوم أهل السلوك. أمّا ما خرج منه فيُعلِم في عِلم النفس. و يلزمه تحصيل مأخذ العِلم. و لا يلزم في بداية الأمر فاعليّة جميعها، بل يجب أن تُظهر تدريجيّاً عند الضرورة. و هذه هي مقدّمات السلوك، و الطالب حتّى الآن ليس في مقام السير و الحركة.
فإن أتمّ الطالب هذه المرحلة، فعليه أن يبدأ سفره مستعيناً بالعناية الربّانيّة.۱
نگويمت كه همه ساله مي پرستي كن | *** | سه ماه مي خور و نه ماه پارسا ميباش |
...۱
...۱
هفت شهر عشق را عطّار گشت | *** | ما هنوز اندر خم يك كوچه ايم |
...۱
...۱
...۱
...۱
شورش عشق تو در هيچ سري نيست كه نيست | *** | منظر روي تو زيب نظري نيست كه نيست |
ز فغانم ز فراق رخ و زلفت به فغان | *** | سگ كويت همه شب تا سحري نيست كه نيست |
نه همين از غم او سينة ما صد چاك است | *** | داغ او لاله صفت بر جگري نيست كه نيست |
موسئي نيست كه دعويّ انَا الْحقّ شنود | *** | ور نه اين زمزمه اندر شجري نيست كه نيست |
چشم ما ديدة خفّاش بود ور نه ترا | *** | پرتو حسن به ديوار و دري نيست كه نيست |
و يناط القيام بهذا السفر بأُمور كثيرة، و أهمّها عدّة أُمور:
الأوّل: ترك العادات والمجاملات
وترك الآداب و الامور المتعارفة التي تعرقل السفر، و تصبح عائقاً في الطريق إلى الله تعالى.
بِالقَادِسِيَّةِ فِتْيَةٌ لَا يَحْسَبُونَ العَارَ عَاراً | *** | لَا مُسْلِمُونَ وَ لَا يَهُودَ وَ لَا مَجُوسَ وَ لَا نَصَارَي |
حيث تصرّح بذلك الآية الكريمة {وَ لا يَخافُونَ} [في اللهِ] {لَوْمَةَ لائِمٍ} [الآية ٥٤، من السورة ٥: المائدة].
فعلى الطالب أن يكفّ عن تقليد العادات و ينظر إلى ما فيه صلاح نفسه، و أن يعدّ اجتناب ملامة أهل عالَم القدس أولى من
اجتناب ملامة أبناء الدهر. و يمثّل هذا التوبة التي هي بداية مرحلة الجهاد الأكبر. أمّا التوبة عن المعاصي و الذنوب، فهي من فرائض فقه إيمان الجوارح، و هي ممّا يلزم السالك و المجاهد و غير المجاهد.
الثاني: العزم
و ينبغي أن يكون راسخاً في عزمه، بحيث لا يحتمل رجوعه من مقارعة السيف و السِّنان و مقاتلة الأبطال و الشجعان، و تحمّل الشدائد، و احتمال المخاوف.
الثالث: الرفق و المداراة
لأنّ النفس تنكسر إذا حُمِّلت فوق طاقتها و تنزجر عن السفر، كما ورد في رواية عبد العزيز المتقدّمة، و جاء في رواية عبد الملك ابن غالب، عن أبي عبدالله عليهالسلام قال: العِلْمُ خَلِيلُ المُؤْمِنِ، وَ الحِلْمُ وَزِيرُهُ، وَ الرِّفْقُ أخُوهُ.۱
و قال أبو جعفر عليهالسلام: إن هَذَا الدِّينَ مَتِينٌ فَأوْغِلْ فِيهِ بِرِفْقٍ.۱
و جاء في حديث حَفص بن البَختري: لَا تُكَرِّهُوا إلى أنْفُسِكُمُ العِبَادَةَ.۱
الرابع: الوفاء
الخامس: الثبات و المداومة
إذ إن العمل القليل المستمرّ في كلّ مقام حاصل أفضل من العمل الكثير غير المستمرّ؛ حيث جاء في حديث أبي جعفر عليهالسلام في رواية زرارة: أحَبُّ الأعْمَالِ إلى اللهِ مَا دَاوَمَ عَلَيْهِ العَبْدُ وَ إن قَلَّ.٢
و المراد من الثبات هو أن يثبت على كلّ ما عقد عليه العزم و وفي به، ففي نكوصه عنه خوف الخطر، لأنّ حقيقة العمل تتصدّى للمخاصمة بعد ترك ذلك العمل.
فإذا لم يجزم على الوفاء و الثبات على عملٍ ما، فعليه أن لا يعزم على القيام به.
و من هنا فقد أمِر بالرفق، من أجل أن يطوّع بدنه و نفسه تدريجيّاً، ليمكنها الثبات على الأمر إذا كان فوق ما تزاوله فعلًا. و مادام السالك لم يجزم بعدُ على الثبات في مرحلةٍ ما، فلا يعزم على السير فيها، و ليتوقّف في المرحلة التي تسبقها. و هذا التوقّف لتحصيل المقام في الحال الأوّل ممّا يعتبره أصحاب السلوك بمثابة قصد الإقامة في ذلك المنزل، كما أنّ الثبات المذكور يُعدّ من درجات الصبر.
السادس: المراقبة
و هو عبارة عن تحصيل الالتفات و التوجّه في جميع الأحوال، لكي لا يتخلّف عمّا عزم عليه و عاهد على القيام به.
و هناك مراقبتان أخريان سيُشار إليهما.
السابع: المحاسبة
فقد امِر بها في حديث: حَاسِبُوا أنْفُسَكُمْ قَبْلَ أنْ تُحَاسَبُوا.۱
و قال الإمام موسى بن جعفر عليهالسلام: لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يُحَاسِبْ نَفْسَهُ كُلَّ يَوْمٍ.٢
و هي عبارة عن تخصيص وقتٍ معيّن من يومه لمحاسبة نفسه، فينظر إلى ما عزم على فعله مع سائر الأحكام اللازمة، أخانه عامله (أي بدنه أو نفسه) في تنفيذه أم لا؟
الثامن: المؤاخذة
و هي عبارة عن التزامه بالتأديب و العقوبة عند ظهور الخيانة، سواء بالعتاب و الخطاب، بل بالزجر و الضرب و التعذيب. و قد أثر عن أحد الأكابر أنّه كان يضع عند مصلّاه سوطاً، فإن تبيّن له بعد محاسبة نفسه أنّها خانته، فإنّه كان يؤدّب نفسه بذلك السوط. و نقل عن آخر أنّه مرّ يوماً فرأى عمارة جديدة في الطريق، فسأل: متى بُنِيت؟ ثمّ عاد إلى نفسه فعاقبها على هذا اللغو بأن حرمها من الارتواء من الماء سنة. و اعتذر شخص في زمن عيسى عليهالسلام لأنّ نفسه شكت الحرّ يوماً، فعاقبها بالعبادة أربعين عاماً.
فإن كانت الخيانة الصادرة ذات عقوبة مقرّرة في الشريعة، فإنّ على السالك أن يُهرع لإيقاع تلك العقوبة بنفسه.
التاسع: المسارعة
و تعني الإسراع إلى تنفيذ ما عقد عليه العزم بمقتضى وَ سَارِعُوا، قبل أن يجد الشيطان مجالًا للوسوسة و المماطلة.
العاشر: الإرادة
و هي عبارة عن إخلاصه باطنَه عن تعلّق الخاطر، و أن يكون له تجاه مقنّن قوانين الأعمال و صاحب الشريعة (التي ينتهجها) و خلفائه، بحيث يكون له تجاههم كمال الإخلاص و المحبّة، بعيداً عن أيّة شائبة أو غشّ. و ينبغي أن يصل ذلك عنده إلى حدّ الكمال، لأنّ لهذه المرحلة دخلًا كبيراً في تأثير الأعمال، و يدلّ على هذا المطلب ما ورد من ردّ الأعمال بدون ولاية الرسول صلّى الله عليه و آله و سلّم، بل هو من أعظم الدلالات. و تحصيل هذه المحبّة هي أحد المنازل، و يحتاج طيّها إلى حركة سنتطرّق إلى ذكرها لاحقاً.
و من كمال هذه الإرادة الإخلاص و المحبّة لذرّيّة الرسولصلّى الله عليه و آله و سلّم و من ينتسب إليهم، و تعظيم شعائرهم، و هي مشاهدهم و قبورهم و الكتب الجامعة لكلامهم الشريف. أجل:
أذِلُّ لآلِ لَيْلَي في هَوَاهَا | *** | وَ أحْتَمِلُ الأصَاغِرَ وَ الكِبَارَا |
و نظراً لأنّ أساس هذه القوانين و القواعد إنّما هي من قِبل الله تعالى، توجّب ملازمة آثار المحبّة و الشفقة و العطف على جميع المنسوبين إلى الله تعالى (أي على جميع المخلوقات)، من الحيوان و غيره، كلٌّ بحسبه، تبعاً للحديث الدالّ على أنّ أعظم شعب الإيمان هُوَ الشَّفَقَةُ عَلَى خَلْقِ اللهِ الذي يشير إليه.
أحِبُّ بِحُبِّهَا تَلَعَاتِ نَجْدٍ | *** | وَ مَا شَغَفي بِهَا لَوْلَا هَوَاهَا |
و ينبغي إظهار لوازم الخلوص و الشفقة على هؤلاء، لأنّ لذلك التأثير الكبير في حصول الخلوص الباطنيّ، و كذلك الأمر تجاه الاستاذ و الشيخ و المفتيّين الذين يفتون السالك.۱
أمُرُّ عَلَى الدِّيَارِ دِيَارِ سَلْمَى | *** | أقَبِّلُ ذَا الجِدَارِ وَ ذَا الجِدَارَا |
وَ مَا حُبُّ الدِّيَارِ شَغَفْنَ قَلْبِي | *** | وَ لَكِنْ حُبُّ مَنْ سَكَنَ الدِّيَارَا۱ |
أقَبِّلُ أرْضاً سَارَ فِيهَا جِمَالُهَا | *** | فَكَيْفَ بِدَارٍ حَلَّ فيهَا جَمَالُهَا |
وَ قَدْ كُنْتُ لَا أرْضَى بِوَصْلٍ مُقَطَّع | *** | فَهَا أنَا رَاضٍ لَوْ أتَاني خَيَالُهَا |
الحادي عشر: المحافظة على الأدب تجاه الباري تعالى و رسوله و خلفائه
و هذه المرحلة تغاير مرحلة الإرادة، على الرغم من أنّهما يجتمعان أحياناً؛ و هذا الشرط من أهمّ الشرائط.
و قد تكلّم أحد الأشخاص يوماً، فكان في كلامه شائبة من إثبات قدرة للإمام عليهالسلام، فهوى عليهالسلام ساجداً فعفّر جبينه المقدّس بالتراب.
و خطر على لسان بعضهم كلامٌ فيه اعتراض، فعمد إلى فمه فحشاه بالرماد.
و طائفة من أرباب القلوب لم يتلوا القرآن جلوساً، بل كانوا يمسكونه بكلتا يديهم و هم مواجهو القبلة، فيتلونه في منتهى المسكنة و العجز. و كانوا إذا تُلي القرآن إمّا أن ينهضوا وقوفاً، و إمّا أن يتمسّكوا بمنتهى الأدب، شأن مَن يقف أمام السلاطين.
و كان البعض ينهضون وقوفاً تعظيماً لأسماء الله تعالى و الأسماء الشريفة للرسول و الأئمّة عليهم السلام.
و كان البعض يُراعي في جلوسه و سيره و تناول طعامه و سائر أحواله شؤون الأدب كما لو كان يرى الله تعالى حاضراً.
و من جملة اللوازم مراعاة الأدب حين عرض الحاجات،
و الاحتراز عن ألفاظ الأمر و النهي.
الثاني عشر: النيّة
و هي عبارة عن إخلاص القصد للّه تعالى في السير و الحركة و سائر الأعمال، و قطع الطمع في الأغراض الدنيويّة، بل و الاخرويّة، بل في جميع ما يعود إلى السالك، بل ينتهي الأمر في أواخر الحال إلى انتفاء النيّة، حيث سُئل من أحد الأعلام: مَا تُرِيدُ؟ قَالَ: أرِيدُ أنْ لَا أرِيدَ.
و على السالك بعد هذه المرحلة أن يغضّ بصيرته عن المشاهدة و عدم المشاهدة، و عن الوصول و عدم الوصول، و عن العِلم و عدم العِلم، و عن الردّ و القبول. بل شرط السلوك في المحبّة الكاملة أن ينسى المحبوب أيضاً۱. إذ لا يزال حتّى الآن يتعامل
...۱
بالمحبّة. و تمثّل هذه المرحلة لدى السالكين قطع الطمع.۱
الثالث عشر: الصمت
و هو على نوعَين: عامّ و مضاف، و خاصّ و مُطلق.
و الأوّل: عبارة عن حفظ اللسان عن مكالمة الناس بمّا يزيد على الضرورة، و الاكتفاء في الضروريّ بِأقَلِّ مَا يُمْكِن. و هذا النوع مما يجب على السالك الالتزام به في جميع أوقات السلوك، بل مطلقاً.
و ما جاء في الأخبار إشارة إلى هذا النوع من الصمت. حيث قال الإمام الباقر عليهالسلام في حديث أبي حمزة: إنَّمَا شِيعَتُنَا الخُرْسُ٢
. و قد قال أبوعبدالله عليهالسلام: الصَّمْتُ شِعَارُ
المُحِبِّينَ۱. وَ فِيهِ رِضَا الرَّبِّ، وَ هُوَ مِنْ أخْلَاقِ الأنْبِيَاءِ وَ شِعَارِ الأصْفِيَاءِ.
و في حديث البزنطيّ عن أبي الحسن الرضا عليهالسلام قال:
الصَّمْتُ بَابٌ مِنْ أبْوَابِ الحِكْمَةِ، وَ إنَّهُ دَلِيلُ كُلِّ خَيْرٍ ....۱
. و لهذا السبب، فقد كان بعض الصحابة يضع في فمه حصاةً، ليعوّد نفسه على ملازمة الصمت.،
أمّا الثاني: فعبارة عن حفظ اللسان عن الكلام مع الناس، بل في الخارج مطلقاً، و هو من الشرائط اللازمة في الأذكار الحصريّة الكلاميّة.٢
و أمّا في الإطلاقيّات فليس ذلك ضروريّاً، و لو كان أفضل. و عند التعسّر أو التعذّر في الضروريّات، فعليه توزيع الذِّكر على
أوقات متقاربة، و اجتناب أربعة أشياء: مخالطة العوام، و كثرة الكلام، و كثرة المنام، و كثرة الطعام.۱
الرابع عشر: الجوع و قلّة الأكل
و أفضله ما لم يستتبع الضعف عن السلوك، و لم يشوّش الأحوال. و هو أيضاً من الشروط المهمّة. و قول الصادق عليه السلام: الجُوعُ إدَامُ المُؤْمِنِ وَ غِذَاءُ الرُّوحِ وَ طَعَامُ القَلْبِ.٢
بيانٌ
صَمْت و جوع و سَهَر وعُزلت وذِكرى به دوام | *** | نا تمامان جهان را كند اين پنج تمام |
لهذه المرحلة.
و أفضل أصنافه الصوم، و قد يلزم أحياناً كما سيأتي في شرائط بعض الأذكار الكلاميّة.
الخامس عشر: الخلوة
و هي على قسمَين: خلوة عامّة، و خلوة خاصّة.
الخلوة العامّة (و تُدعى بالعُزلة)، و هي عبارة عن اعتزال غير أهل الله من الناس، سيّما النسوان و الأطفال و العوامّ و أرباب العقول الضعيفة و أهل العصيان و طالبي الدنيا، إلّا بقدر الحاجة و الضرورة، أمّا مجالسة أهل الطاعة فلا تتنافى مع هذه الخلوة، و لا يشترط فيها مكان خاصّ.
و ما ورد في أخبار المعصومين عليهم السلام، فالمراد به هذا النوع. حيث قال أبوعبدالله عليهالسلام: صَاحِبُ العُزْلَةِ مُتَحَصِّنٌ بِحِصْنِ اللهِ مُتَحَرِّسٌ بِحَرَاسَتِهِ. فَيَا طُوبَى لِمَنْ تَفَرَّدَ بِهِ سِرّاً وَ عَلَانِيَةً.۱
و قال: فِرَّ مِنَ النَّاسِ فِرَارَكَ مِنَ الأسَدِ وَ الأفْعَى، فَإنَّهُمْ كَانُوا دَوَاءً فَصَارُوا دَاءً ...
و قال: مَا مِنْ نَبِيّ وَ لَا وَصِيّ إلَّا وَ اخْتَارَ العُزْلَةَ في زَمَانِهِ، إمَّا في ابْتِدَائِهِ، أوِ انْتِهَائِهِ.
و قال: كُفُّوا ألْسِنَتِكُمْ وَ الزَمُوا بُيُوتِكُمْ.۱
و قضيّة غار حراء دالّة على هذا المطلب، و الآية الكريمة: {وَ ذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَ لَهْواً وَ غَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا} [الآية ۷۰، من السورة ٦: الأنعام] ناطقة له. و هذه الخلوة راجحة في كلّ الأحوال.
و أمّا الخلوة الخاصّة، فإنّها و لو كانت لا تخلو من فضل في جميع العبادات و الأذكار شرط لدى مشايخ الطريقة في طائفة من الأذكار الكلاميّة، بل في جميعها. و مراد أهل الأوراد من الخلوة: هذا النوع منها.
و يشترط فيها الوحدة و الابتعاد عن محلّ الزحام و الضوضاء و الأصوات التي تشوّش البال، و حِلّيّة المكان و طهارته حتّى السقف و الجدران و أن تكون على قدر سعة الذاكِر و عبادته فحسب. و قول عيسى عليهالسلام: وَلْيَسَعْكَ بَيْتُكَ۱ إشارةٌ إليها.
و أفضل البيوت ما كان له باب واحد و لم يكن فيه نافذة أو كوّة. و الذاكرُ مندوب أن يقول إذا دخل في البيت:
{رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَ أَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَ اجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً}.۱
ثمّ يقول: بِسْمِ اللهِ وَ بِاللهِ وَ صَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَ آلِهِ.
ثمّ يصلّي ركعتَين، يقرأ في الاولى بعد الحمد هذه الآية:
{وَ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً}.٢
و في الثانية:
{رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وَ إِلَيْكَ أَنَبْنا وَ إِلَيْكَ الْمَصِيرُ.}٣
و عليه خلال الذِّكر أن يفترش الأرض أو ما ينبت منها، كالحصير و ما شابهه، و أن يجلس تجاه القِبلة متورِّكاً أو مربّعاً. و أن يهتمّ بالتعطّر في تلك الحال، سيّما بالبخورات اللائقة.
السادس عشر: السَّهَر
بالقدر الذي تطيقه طبيعة البدن؛ قوله تعالى: {قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ}
{ما يَهْجَعُونَ.}۱
السابع عشر: دوام الطهارة
الثامن عشر: المبالغة في التضرّع و الذلّة و المسكنة و التذلّل في فِناء ربّ العِزّة
التاسع عشر: الاحتراز عن المشتهيات بقدر الاستطاعة
العشرون: كتمان السِّرِّ
و هو من أهمّ الشروط، و قد بالغ مشايخ الطريقة و أساتذة الأذكار في الوصيّة بهذا الشرط، سواء في العمل و الأوراد، أو في الحالات و الواردات الحاليّة و المقاميّة، و كانوا يعدّون أبسط تخلّفأو تخطٍّ لهذا الشرط ممّا يُخلّ بالقصد و يمنع بلوغ المطلوب. كما كانوا يعدّون التورية في الكلام و مخالفة العزم عند الإشراف على الإفشاء من لوازم السلوك. و مقولة وَاسْتَعِينُوا عَلَى حَوَائِجِكُمْ بِالكِتْمَانِ
دالّة على هذا المطلب.٢
و من هنا قال سيّد الأولياء عليّ عليهالسلام إلى ميثم التمّار:
وَ في الصَّدْرِ لُبَانَاتٌ | *** | إذَا ضَاقَ لَهَا صَدْرِي |
نَكَتُّ الأرْضَ بِالكَفِ | *** | وَ أبْدَيْتُ لَهَا سِرِّي |
فَمَهْمَا تَنْبُتُ الأرْضُ | *** | فَذَاكَ النَّبْتُ مِنْ بَذْرِي۱ |
و قال أبو عبدالله عليهالسلام:
مَا عُبِدَ اللهُ بِشَيْءٍ أحَبَّ إلَيْهِ مِنَ الحَيَاءِ.
و قال: أمْرُنَا مَسْتُورٌ مُقَنَّعٌ بِالمِيثَاقِ، فَمَنْ هَتَكَ عَلَيْنَا أذَلَّهُ
اللهُ.۱
و جاء في حديث الثمالى: وَدِدْتُ وَ اللهِ أنِّي افْتَدَيْتُ خَصْلَتَيْنِ في الشِّيعَةِ لَنَا بِبَعْضِ لَحْمِ سَاعِدِي: النَّزَقُ وَ قِلَّةِ الكِتْمَانِ.٢
و في حديث سليمان بن خالد، عن الصادق عليهالسلام، قال: إنَّكُمْ عَلَى دِينٍ، مَنْ كَتَمَهُ أعَزَّهُ اللهُ، وَ مَنْ أذَاعَهُ أذَلَّهُ اللهُ.٣
يقول جابر بن يزيد: حدّثني أبو جعفر عليهالسلام بسبعين ألف حديث لم أحدّث بها أحداً قطّ، و لا أحدِّث بها أحداً أبداً. فلمّا ارتحل عليهالسلام ضاق صدري و بهظني حَملُ تلك
الأحاديث، قصدتُ أبا عبدالله عليهالسلام فأخبرتُه بحالتي. فقال: أخرُج إلى الجَبّانِ فاحفِر حَفيرةً و دَلِّ رأسَكَ فيها، ثُمّ قُل: حدّثني محمّد بنُ عليّ بكذا و كذا، ثمّ أهِل التراب عليها.۱
الحادي و العشرون: الشيخ و الاستاذ
و هو على نوعَين: أستاذ خاصّ و أستاذ عامّ.
فالاستاذ الخاصّ هو الذي نُصّ عليه و خُصّ بالدلالة و الهداية، و هو النبيّ و خلفاؤه الخاصّون.
و أمّا الاستاذ العامّ، فهو الذي لم يُنصّ عليه بالهداية، بل هو داخل في عُموم: {فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [الآية ٤٣، من السورة ۱٦: النحل]. وَ لَا مَفَرَّ للسالك في كلّ حال من الاستاذ الخاصّ، حتّى لو كان بلغ هدفه المقصود۱، لأنّ ذلك الاستاذ
يعلّمه آداب الوطن أيضاً، و لأنّه الوالى في تلك المملكة أيضاً.
و مرافقته من الضرورة العامّة في حال السلوك، بل في أواخر السلوك (عند حصول التجلّيات الذاتيّة و الصفاتيّة). و ما ورد عن أرباب السلوك في باب آداب خدمة الشيخ و تعاهده، فقد أرادوا به الاستاذ الخاصّ، و لو كان ملاحظة الأدب و الاحترام لازمَين للُاستاذ العامّ أيضاً لقيامه في الهداية مقام الاستاذ الخاصّ.
و ما يفهمه الأكثريّة من توقّف السلوك على الشيخ، أنّ طلب السلوك بدون إرشاد الشيخ و الاستاذ و متابعتهما غير ممكن. و مع أنّ الأمر كذلك، إلّا أنّ هناك مرحلة اخرى أعلى من هذه المرحلة، إذ إن مرافقة الاستاذ الخاصّ في جميع الأحوال في ترتيب المظاهر و هو ما سيُشار إليه من أهمّ الشرائط و أعظم اللوازم. كما أنّ مرافقة الاستاذ العامّ أولي و أنسب، سيّما للمبتدئ.
و تحصل معرفة الاستاذ الخاصّ في بداية الأمر حسب الطريقة التي مرّت في تحصيل الإيمان الأصغر، كما أنّه سيعرّف نفسه في نهاية المطاف.
أمّا الاستاذ العامّ فلا يعرف إلّا بمصاحبته في الخلاء و الملاء، و بالمعاشرة الباطنيّة و ملاحظة تماميّة إيمان جوارحه و نفسه. و حَذارِ من متابعته بالانخداع بظهور خوارق العادات، و بيان دقائق النكات، و إظهار الخفايا الآفاقيّة و الحبايا الأنفسيّة، و تبدّل بعض
حالاته، لأنّ الإشراف على الخواطر و الاطّلاع على الدقائق، و العبور على الماء و النار، و طيّ الأرض و الهواء، و الإحضار من المستقبل و أمثال ذلك يحصل في مرتبة المكاشفة الروحيّة، و هي مرحلة يفصل بينها و بين المنزل المقصود طريق بلا انتهاء.۱
و ما أكثر المنازل و المراحل! و ما أكثر السائرين الذين طووا هذه المرحلة، ثمّ انحرفوا بعدها عن الجادّة و دخلوا في وادي اللصوص و الأبالسة! و ما أكثر الكفّار الذين حصلوا بهذا السبيل على اقتدار على فِعل أشياء كثيرة! بل لا يمكن أيضاً الاستدلال بالتجلّيات الصفاتيّة على وصول صاحبها، لأنّ ما يختصّ بالواصلين إنّما هو التجلّيات الذاتيّة، بنوعها الربّانيّ لا الروحانيّ.۱
...۱
و هناك طريقة اخرى لمعرفة الاستاذ و شيخ الطريقة سنشير إليها إن شاء الله تعالى.
الثاني و العشرون: الوِرد
و هو عبارة عن عدّة أذكار و أوراد كلاميّة لسانيّة تفتح أبواب الطريق و تُعين السالك في العقبات و العوائق و المهمّات. و من شروطها أن تكون بإذن من الاستاذ، إذ لا يُسمح الشروع بها بدون إذن منه، إنّها في حُكم الدواء الذي منه ما ينفع و منه ما يضرّ، بل هو دواء حيناً و سُمّ حيناً آخر. و بعضه شفاء، و بعضه الآخر داء. يُضاف إلى ذلك أنّ بعض الأوراد قد ينفع بفرده، فإذا ضُمّ إلى وِرد آخر أضحى ضارّاً. و قد يتعرّض السالك للخطر إذا زاد في الوِرد على عدد معيّن، أو أنقصه عن ذلك العدد.
أجل، هناك رخصة عامّة فيما رخّص الأساتذة الحاذقون فيه بإذن عامّ.
و الوِرد على أربعة أقسام: القالبيّ و النفسيّ، و كلّ منهما ينقسم إلى إطلاقيّ و حَصريّ. و أصحاب السلوك لا يُعيرون اهتماماً للورد القالبيّ.۱
الثالث و العشرون إلى الخامس و العشرين: نفي الخواطر، نفي الفكر، و نفي الذكر
و هذه المراحل الثلاث من مهمّات وسائل الوصول إلى المقصد، بل هو ممتنع بدونها. كما أنّ الإتيان بها من أصعب الامور و أشقّها.
و لا أقصد أنّ أصل العمل بها شاقّ و عسير مع أنّ الأمر كذلك حقّاً بل أرمي إلى أنّ هذه الأودية الثلاثة أودية على درجة كبيرة من الخطورة، و أنّها مراحل مخوفة يُخشى فيها من الهلاك الأبديّ و الشقاء السرمديّ.
و أكثر الذين انحرفوا عن الجادّة و هلكوا، إنّما هلكوا بسبب هذه المراحل و المرحلتين السابقتَين عليها، بَيدَ أنّ خطورة هذه المراحل الأخيرة أشدّ و أكبر و أعظم!
ذلك أنّ خطر المرحلة السابقة أكثره فساد البدن و تعويق المهمّات، و خطر المرحلة التي تسبقها و كذلك خطر التقصير في مرحلة فِقه الجوارح و النفس هو عدم الوصول إلى المطلوب، إلّا أن يسبّب الخطأُ فيها الخطأ في المراحل الثلاث الأخيرة.
و خطر هذه المراحل الثلاث هو الهلاك الأبديّ و الشقاء السرمديّ؛ و كلّ ما طرق سمعك من عبادة الأصنام و الأوثان و البقر و الكواكب و النار و الحيوانات و مراتب الغلوّ و الإلحاد و الزندقة و الإباحة و ادّعاء الحلول و الاتّحاد و غيرها، ناشئٌ بأجمعه عن هذه المراحل، و عائد إلى إحداها، كما سيُشار إليه إن شاء الله تعالى. و سيَفهم الذكيّ الفَطِن ما نُشير إليه خلال هذه المراحل.
نفي الخواطر
فنقول: أمّا نفي الخواطر، فعبارة عن صمت القلب
و تسخيره، كي لا يتكلّم إلّا بمشيئة صاحبه، و هو من أعظم مطهّرات السرّ و مُنتج أكثر المعارف الحقّة و التجلّيات الحقيقيّة؛ و هو عقبة كؤود وقِمّة عسيرة. فإن أراد الطالب ارتقاءها، هاجمته الخواطر من كلّ صوب وحدب، و شوّشت عليه. و على السالك أن يكون في هذا المقام كالجبال الرواسي، و أن يهوى على كلّ خاطر يتحرّك و يظهر بسيف الذِّكر، و أن لا يتسامح في المحقَّرات، لأنّها و لو كانت حقيرة تافهة كالشوكة في قدم السالك، تجعلة يعرج في مسيره. و كثير من المتشيّخين يوصون تلامذتهم بطيّ هذه المرحلة بالذِّكر۱، و يحاولون نفي الخواطر بالذِّكر، و هذا أوّل
...۱
خَبطهم، لأنّ نفي الخواطر أمر عسير ينبغي أن لا يستسهله المجاهد، و أن يستمرّ في المجاهدة مدّة ليصل إلى هذه المرحلة، و هي مرحلة يسمّيها أرباب السلوك بالداء العضال.
في الذِّكر
و الذِّكر بمثابة ملاحظة المحبوب و قصر النظر على جماله من بعيد. و حين يكون النظر إلى المحبوب، فإنّ من اللائق أن يُغضّ النظر عمّن سواه، إذ المحبوب غيور، و مِن غيرته أن لا يُجيز للعين التي تنظر إليه أن تنظر إلى سواه، و من غيرته أن يُعمي العين التي تُعرض عنه لتنظر إلى غيره. فإن تكرّرت الإعراض و التوجّه في هذه الحال، غدا بمثابة الاستهزاء، و أعقب صفعة يصفعها المطلوب على قفا الطالب، لا يبحث بعدها عن رأسه و لا عن عمامته.
ألم تسمع قوله: أنَا جَلِيسُ مَنْ ذَكَرَنِي.
و قوله: {وَ مَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} [الآية ٣٦، من السورة ٤٣: الزخرف].
أفتظنّ أنّ المحبوب يُدني إليه مَن ينهض مِن مُجالسته فيكون
قريناً للشيطان؟ أو تخال أنّ الرحمن يجلس في موضع تنجّس بالشيطان الرجس النجس؟
أتَلْتَذُّ مِنْهَا بِالحدِيثِ وَ قَدْ جَرَي | *** | حَدِيثُ سِوَاهَا فِيخُرُوقِ المَسَامِعِ۱ |
بل إن محض نفي الخواطر غير كافٍ في تجويز الشروع بالذكر، لأنّ نفي الخواطر بمثابة تطهير المنزل من الغبار و الأشواك، و هذا القدر لا يكفي لمنزل المحبوب، بل يلزم كذلك تزيينه بالفرش و تطييبه.٢
تَمَنَّيْتُ مِنْ لَيْلَى عَلَى البُعْدِ نَظْرَةً | *** | لِيُطْفي جَوَيً بَيْنَ الحَشَا وَ الأضَالِع |
فَقَالَتْ نِسَاءُ الحَيّ تَطْمَعُ أنْ تَرَى | *** | بِعَيْنَيْكَ لَيْلَى مُتْ بِدَاءِ المَطَامِعِ |
وَكَيْفَ تَرَى لَيْلَى بِعَيْنٍ تَرَى بِهَا | *** | سِوَاهَا وَ مَا طَهَّرْتَهَا بِالمَدَامِعِ |
وَ تَلْتَذُّ مِنْهَا بِالحَدِيثِ وَ قَدْ جَرَى | *** | حَدِيثُ سِوَاهَا في خُرُوقِ المَسَامِع |
وَ كَيْفَ تَرَى لَيْلَى بِعَيْنٍ تَرَى بِهَا | *** | سِوَاهَا وَ مَا طَهَّرْتَهَا بِالمَدَامِعِ۱ |
أجل، هناك نوع واحد من الذكر مُرخّص فيه لنفي الخواطر، و هو الذي يكون بقصد ردع الشيطان و ليس بقصد الذِّكر.٢
وَ إ ذْ رُمْتُ مِنْ لَيْلَى عَلَى البُعْدِ نَظْرَةً | *** | لُاطْفي بِهَا نَارَ الحَشا وَ الأضالِع |
تَقُولُ نِسَاءُ الحيّ تَطْمَعُ أنْ تَرَى | *** | مَحَاسِنَ لَيْلَى مُتْ بِدَاءِ المطَامِعِ |
وَ كَيْفَ تَرَى | *** | ... |
كمثل مَن يريد طرد الغير من المجلس ليدعو إليه المحبوب؛ فلا تكون غايته ملاحظة المحبوب و لا الالتذاذ بوصاله، بل قصده تخويف الغير و تهديده. و كيفيّة ذلك أنّ السالك إذا اشتغل بنفي الخواطر، فهاجمه في تلك الحال خاطر تعسّر عليه طرده، فعليه أن يلجأ إلى الذكر لطرده، و هو المراد من قوله تعالى:
{إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ} [الآية ٢۰۱، من السورة ۷: الأعراف].
و طريقة المحقّقين في هذا السبيل و الواصلين الواعين في تعليم المبتدئين و إرشادهم، أن يأمروهم ابتداءً بنفي الخواطر، ثمّ بممارسة الذِّكر.۱
أمّا نفي الخواطر، فيتمّ بأن يتوجّه السالك ابتداءً إلى أحد المحسوسات، كقطعة من الحجر أو جسم آخر سواه، و قد رُخّص
في التوجّه إلى الصور الرقميّة للأسماء الحُسني۱، بل هو مُستحسَن. بحيث يركّز العين الظاهرة على ذلك الشيء، و أن لا يُغمض عينيه مهما أمكن إلّا قليلًا.٢
و أن يتوجّه إلى ذلك الشيء بجميع قواه الظاهريّة و الباطنيّة، و يداوم على ذلك مدّة من الزمن، و الأفضل أن يداوم عليها مدّة أربعين أو أكثر.
أمّا الوِرد الذي يكرّره خلال هذه المدّة، فثلاثة أوراد: الاستعاذة و الاستغفار الإطلاقيّ و تعيين عدده و وقته منوط إلى الذاكر٣، و ذِكر «يا فعّال»، و هو ذِكر حصريّ بعدد مُجمَل أو
مفصّل؛۱ فالمفصّل بعد فريضة الغداة، و المُجمل بعد فريضة
...۱
العشاء، مع ملاحظة الخلوة.
و بعد المداومة على ذلك مدّة و حصول حال معيّنة للسالك، فإنّ عليه من ثمّ أن يتوجّه إلى القلب الصنوبريّ (الجسميّ الواقع إلى يسار الصدر)، و الالتفات إليه بالكامل، و عدم الغفلة عنه في أيّة حال من الأحوال، و عدم السماح لأيّ خيال غيره. فإن هاجمته خاطرة۱ و أحدثت له تشويشاً، فعليه استحضار خيال صورة الاستاذ
العامّ، فهو مصدر الذكر و مناسبٌ لحال الذاكر، بعيداً عن بعض المخاطر۱، فذلك أتمّ للفائدة.
و إلّا توجّب عليه أن يتنفّس بقوّة ثلاث مرّات كمن يُخرج شيئاً من أنفه، فيُخلي نفسه من ذلك و يعود إلى توجّهه و التفاته.
فإن عاد الخاطر من جديد خلال توجّه السالك بالرغم من قيامه بتلك التخلية بالطريقة المذكورة، فعليه الاستغفار ثلاث مرّات ثمّ يقول ثلاثاً:
أستَغْفِرُ اللهَ مِنْ جَمِيعِ مَا كَرِهَ اللهُ قَوْلًا وَ فِعْلًا وَ خاطِراً
وَ سَامِعاً وَ نَاظِراً وَ لَا حَوْلَ وَ لَا قُوَّةَ إلَّا بِاللهِ.
و يكون قلبُه موافقاً للسانه في هذا الاستغفار.
ثمّ ينشغل في قلبه باسم «يا فعّال» بحسب المعنى، ثمّ يضع يده على قلبه و يقول سبعاً:
سبحان الله الملك القدوس الخلاق الفعال {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَ يَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ ، وَ ما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ}.۱
فإن لم يندفع بذلك، فليتأمّل في كلمة لَا مَوجُودَ إلَّا اللهُ.
فإن عاد إلى التشويش عليه، فليقُل بجهد (جهراً خ ص) «الله» فيمدّ الألف فيها، و يستمرّ في ذلك ما لم يُصبه الملل، فإن هو شاهد آثار الملل تركه. و ليستمرّ على ذلك أيضاً مدّة حتّى تتملّكه حالة يخرج فيها عن طوره. و وِرد هذه المرحلة هو الاستغفار و ذِكر «يا فعّال»، و كلاهما حَصريّ، فالأوّل في الأسحار بالعدد الكبير، و الثاني بعد فريضة الغداة بنفس العدد، و بعد فريضة العشاء بالعدد المفصّل. و عليه أن يكثر من قول «يا باسط» في هاتَين المرحلتين. و الأولى أن يكرّره كلّ ليلة بالعدد المفصّل.٢
فإن هو داوم على هذه الطريقة، و أضحت لديه قوّة على الذِّكر و على طرد الخواطر، رُخّص له في التوسّل بمبادئ الذكر في طرد باقي الخواطر، من خلال استحضار خيال الاستاذ الخاصّ، أو استحضار الصور الخياليّة الكتبيّة القالبيّة لأسماء الله المناسبة لهذه الأحوال الثلاث، من دون الالتفات إلى المعنى.۱
و بعد الترقّي الذي يحصل له عموماً، يُرخّص في التوجّه إلى نورانيّة الاستاذ الخاصّ و الذِّكر النفسيّ الخيالى لطرد الخواطر بالكامل.۱
و لو خطر على قلب السالك شيء على سبيل الاختلاس، فإنّه سيندفع و ينطرد حين يدخل في مراتب الذِّكر و التفكّر إن شاء الله تعالى.
أمّا خطر هذه المرحلة، فهو السقوط في ورطة عبادة الأصنام و الكواكب و الأجسام. لأنّ التوجّه و الالتفات إلى شيء ما يورث الانس به و يستتبع حبّه. فإن خطى السالك المتوجّه خارجاً، ابتُليَ بعبادة ما كان متوجّهاً إليه.
فإن سخّر السالكُ قلبَه و طهّره من نجاسات الخواطر، وضع قدمه في دائرة الذِّكر. و أهمّ الامور في هذه المرحلة، مراعاة الترتيب، لأنّ الطالب سيتخلّف بدونه في الطريق، بل سيبتلى بأخطار عظيمة. و مبادئ الذكر٢ هي حقيقة الذكر، لأنّ المطلوب
مختفٍ في المذكور.
فالغرض الكلّيّ منها هو التهيّؤ للذكر و تزيين المنزل. و على الاستاذ أن يرشد الطالب إلى الترتيب، و على الطالب أن يلتزم به لأنّه من أوجب الواجبات.
و هناك جماعة طريقتهم في الترتيب أن يستحضروا في البداية الشخص النورانيّ للُاستاذ الخاصّ (و هو الوليّ)، ثمّ يتعلّمون الذكر الخياليّ القالبيّ، لكنّي لا أرخّص في ذلك.۱
لأنّ الغرض الكلّيّ من هذا الترتيب هو الصعود بالرفق، و الاحتراز عن غيرة المطلوب بسبب احتمال غفلة القلب عنه و ميله إلى المبادئ.
فينبغي إذاً الابتداء بما فيه النورانيّة الذاتيّة أخفى، و ظهور الغيوريّة فيه أقلّ. و نورانيّة الوليّ أعلى بكثير من الذِّكر الخياليّ القالبيّ.
فالمبدأ إذاً هو ذِكر الصور الخياليّة القالبيّة لأسماء الله تعالى.۱
و الاستاذ الحاذق ضروريّ في هذه المرحلة، لأنّ روحانيّة المعاني و نورانيّة المسمّى مخفيّة في هذه الأسماء، و هذان الاثنان مؤثّران تامّان في مظهريّة الروحانيّة، حيث تظهر الروحانيّة و النورانيّة في الذاكر بواسطة التوجّه و الالتفات إليهما باستمرار، و تؤثّر في أحواله.
و ما أكثر ما حصل بواسطة قصور المبتدئ أو تقصيره في بعض المراحل اللاحقة أن اغترّ بهما، فلم تظهر فيه آثارهما ظهوراً تامّاً، و بقي غافلًا عن سائر المظاهر، فسقط لهذا السبب في وادي الهلاك، كالإباحة و التعطيل و إليأس و الجنون و الفِرعونيّة و الإذاعة و أمثال ذلك.٢
...۱
ذلك أنّ القاصر إذا توجّه إلى الأسماء المؤثّرة في الحبّ و الرجاء، ظهرت فيه آثار الانس و الرجاء و رفع التكاليف؛ و إذا توجّه إلى أسماء مظاهر الكبرياء، ظهر فيه الغلوّ و الفرعونيّة و خوف اليأس و التعطيل إلى غير ذلك.۱
و هناك كثير لا طاقة لهم بتحمّل المظاهر، فإمّا أن لا تظهر فيهم نورانيّة تلك المظاهر، أو تظهر فتسبِّب جنونهم أو ابتلائهم بأمراض عسيرة، مثل الذِّكر الكبير و الأكبر و الأعظم.۱
فإذا عزم السالك على الذكر، فعليه أن يفعل ذلك بعد طيّ المراحل التي تسبقه، و التي أرشده إليها مظهر الذكر.
و يجب بطبيعة الحال أن يبدأ بالأذكار الصغيرة، كما يجب في مراتب الذكر الصغير أن يرقاها السالك بالترتيب.٢
في أقسام الذِّكر
وبيان ذلك، أنّ الذكر أقسام:
الخياليّ و النفسيّ و السرّيّ و الذاتيّ.
و الخيالى ينقسم إلى القالبيّ و الخفي.
و كلّ منها ينقسم إلى إثباتيّ و ثبتيّ.۱
و ينقسم كلّ منها إلى جمعيّ و بسطيّ.
كما ينقسم الخفي إلى القالبيّ و النفسيّ، و لهذا السبب فقد حصلت للذكر درجات. و كيفيّة صعود هذه الدرجات على هذاالنحو:٢
...۱
الأوّل: الخياليّ القالبيّ الجمعيّ الإثباتيّ؛ لأنّ القالبيّ أبعد عن محلّ الغيرة، و له ربّانيّة و نورانيّة أقلّ. و الجمعيّ أقرب إلى اجتماع الخاطر و حصول ملَكة اجتماع الحواسّ؛ و الإثبات مقدّم على الثبت.۱
الثاني: الخياليّ القالبيّ الجمعيّ الإثباتيّ.
الثالث: الخياليّ القالبيّ البسطيّ الإثباتيّ.
الرابع: الخياليّ القالبيّ البسطيّ الثبتيّ.
الخامس: الخياليّ النفسيّ الجمعيّ الإثباتيّ.
السادس: الخياليّ النفسيّ الجمعيّ الثبتيّ.
السابع: الخياليّ النفسيّ البسطيّ الإثباتيّ.
الثامن: الخياليّ النفسيّ البسطيّ الثبتيّ.
التاسع: الخفي النفسيّ. و أمّا الخفي القالبيّ فلا يُعتنى به بعد
ارتقاء الدرجات السابقة.
العاشر: السِّرِّيّ
و يجب أن يكون انتهاء البسط في البسطيّ في القلب، فإن كان ابتداؤه من القلب أيضاً، كان أنسب و أولى.۱
وهاتان المرتبتان من الذكر بمنزلة السُّلّم الذي يجب أن يِرقى درجةً فدرجة.
و لكن كثيراً ما يكون السالك قويّاً، قد نشر جناحَي العِلم
و العمل، فلم يمكنه إلّا ارتقاء بعض هذه الدرجات. و التدريج في جميع الأحوال أسلم. و ما لم يتمّ السالك هذه المراحل، فيجب ألّا يشرع في الذكر الكبير أو الأكبر أو الأعظم، لأنّها موضع خطورة، و قد يتعرقل سير السالك بسببها. اللهمّ إلّا أن يكون في تلك الأثناء على درجة كبيرة من القوّة، و أن يُجيز له الاستاذ ذلك. بل ما أكثر بعد طيّ هذه الدرجات أن يأمر الاستاذ السالك بارتقاء بعض هذه الدرجات من جديد، ويرى أنّ صلاحه في أن يسير في الذكر من جديد.
الذِّكر الذاتيّ
فإن أتمّ السالك الدرجات، شرع آنذاك في الذكر الذاتيّ، و هو على هذا النحو: أن يتوجّه إلى ملاحظة حضرة العزّة، مجرّداً عن لباس الحرف و الصوت، و من دون تقييد بصفة مخصوصة عربيّة أو فارسيّة، و لا يدع ملابسات الحوادث من الجسم و العرض و الجوهر تسبِّب له إزعاجاً.۱
از درون سر آشنا و از برون بيگانه وش | *** | اين چنين زيبا روش كم مي بود اندر جهان |
فإن لم يستطع ذلك لقصوره، فليضع نَصب بصيرته صفةً نوريّة غير متناهية تبعاً لحديث: رَأيْتُ رَبِّي نُورَانِيّاً۱، فإن
لم يستطع تصوّره بصفة غير متناهية فيتصوّر ما أمكنه تصوّره، و آناً فآناً يرتفع بتصوير نفيه، و يرتفع بإحاطته و نورانيّته.
الذِّكر الكبير
و هذه المرحلة من النفاسة بمكان. فإن تخطّى المسافر هذه الدرجات، انشغل بالذِّكر الكبير، و هو ذِكر النفي و الإثبات المركّب.۱
ذِكر النفي والإثبات (ت)
و ذكر النفي و الإثبات المركّب هو كلمة لَا إلَهَ إلَّا اللهُ، و البسيط يَا هُو و الأكبر الله.
و بعد طيّ المراحل السابقة۱، فإنّ الذكر القالبيّ في هذه المرحلة و المراحل التي تليها سيكون عبثاً لا فائدة منه، بل ينشغل السالك بالطريق النفسيّ. و هو ذكر في منتهى العظمة، و لأهل الطريق فيه إشارات و رموز كثيرة، و له طرق متعدّدة.
الذِّكر بطريق مجمع البحرين
و أفضلها أن يبدأ الذاكر بطريق الجزر و المدّ، ثمّ بطريق التربّع، ثمّ بالطريق الذي يسمّيه المتأخّرون بـ «مجمع البحرَين».٢
...۱
هكذا ذكروا، أمّا أنا فأرجّح تقديم مجمع البحرين على التربّع. أمّا حَبس النفَس، و التوجّه إلى القلب الصنوبريّ، و تصوّر خروج جميع الحروف من اللسان و القلب۱، و خلوّ المعدة، و زيادة العدد بالرفق، و الابتداء بالبسملة، و الاستقبال و التربّع في الجلوس و إغماض العينَين، فهي أمور ضروريّة، إلّا في غير حال الخلوة. و من الامور اللازمة: الجلوس في مجمع البحرَين مربّعاً
مُجَنّحاً، و الخلوة مع غير المحارم، و مع النساء و العوامّ و أرباب العقول الناقصة. و من المستحسن إلصاق اللسان بسقف الفم، و جعل وقت الذكر في الليالى و الأسحار و عقيب الفرائض.
و يجب لحاظ هويّة الذات في جميع الأحوال، و أن يقول بعد إرادة قطع الذكر بلسانه و قلبه مخاطباً الله تعالى: أنْتَ مَقْصَدِي وَ رِضاكَ مَطْلَبِي وَ بِرَحْمَتِكَ اسْتِغَاثَتِي.
الذِّكران الاكبر والاعظم
ثمّ ينشغل بعد ذلك بالذكر الأكبر۱، فيبدأ بالخفي ثمّ بالسرّيّ. و الأولى أن يبدأ بحرف النداء و ينتهي بدونه. و يستحسن مدّ الله. ثمّ يشرع بالذكر الأعظم٢ و هو النفي و الإثبات البسيط، و هو آخر درجات الذكر.
و يجب ألّا يخلو في جميع هذه الدرجات من الذكر الذاتيّ، وَلَكِنَّ اللهَ المَذْكُورَ غَرِيمٌ لَا يُقْضَي دَيْنُهُ، رَزَقَنَا اللهُ الوُصُولَ إلى المَقْصَدِ.
قال أحد الأعلام:
إذَا أرَادَ اللهُ أنْ يُوَلِّيَ عَبْداً فَتَحَ عَلَيْهِ بَابَ الذِّكْرِ، ثُمَّ فَتَحَ عَلَيْهِ بابَ القُرْبِ، ثُمَّ أجْلَسَهُ عَلَى كُرْسِيّ التَّوْحِيدِ، ثُمَّ رَفَعَ
الحُجُبَ، ثُمَّ أدْخَلَهُ دَارَ الفَرْدَانِيَّةِ، ثُمَّ كَشَفَ عَنْهُ الكِبْرِيَاءَ، ثُمَّ صَارَ العَبْدُ فَانِياً وَ بَرَاءً مِنْ دَعَاوَى نَفْسِهِ.۱
في شرائط الذِّكر
أمّا و قد علمتَ مراتب الذكر، فاعلَم أنّ خمسة أشياء تلزم السالك في أوقات الذكر و أزمنته:
الاوّل: أن يتصوّر في حال الذكر خيال اسم الاستاذ الخاصّ، الذي هو وليّ الولاية الكبرى بطريق الذكر.٢
و ليجعل مقامه في (الذكر) الجمعيّ في القلب أدنى من مقام الذكر، أو في أسافل الصدر أدنى من محاذاة الذكر، استشفاعاً
إذَا تَجَلَّى حَبِيبِي في حَبِيبِي | *** | فَبِعَيْنِهِ أنْظُرْ إلَيْهِ لَا بِعَيْنِي |
للذاكر.۱
فإن هو جعل اسم الرسول في المقام الأوّل، و الخليفة في المقام الثاني، كان أفضل و أولى.٢
و ليجعل مقام الاستاذ في (الذكر) البسطيّ على يمين الصدر بين الثدي الأيمن و العضد، فإن هو تخطّي الذكر القالبيّ٣، فإنّه
سيداوم على جعل الشبح النورانيّ للرسول و الوليّ في المقام المذكور، (متواضعاً للمذكور مُستشفعاً للذاكر).۱
و لو تصوّر في هذه الحالات الاستاذ العامّ أيضاً خارج الجسم على جهة اليسار بفاصلة قليلة، مواجهاً إلى صورة الذكر ملتفتاً إليها متواضعاً مستشفعاً للذاكر، كان أولى و أنسب.٢
و قد ذُكر هذان التصويران۱ بصورة مُجملة.٢
فإن قصدوا التوجّه إلى هذين التصويرَين حال الذكر على جهة اللزوم أو الأولويّة، بحيث يقترن ذلك بالذكر على الدوام، تنافى مع جمع الخاطر و حفظه عن التفرقة، و مع السعي في التوجّه إلى الواحد، بل يمنع الذاكر عن الذكر البتّة. و لهذا السبب فقد كان أُستاذي ينهاني عن هذا الطريق أشدّ المنع، و يقول: على الذاكر أن يتصوّر هذا التصوير في أوائل الليل و النهار و في بداية الذكر و نهايته فقط. أجل، لو اشتغل قبل الشروع في طيّ درجات الذكر ببعض درجات الذكر٣ و اشتغل في اسم الولي و مسمّاه، كان ذلك حسناً،
و سبب سريان المحبّة.
و ستتّضح في هذه الأحوال حالة هي حقيقة الرسول و الخليفة۱، و يمكن اختبار الاستاذ العامّ بمثلها، بيدَ أنّ بيانها
متعذّر، إذ ما أكثر أن سبّبت حرف غير صاحب المرتبة العظيمة في الذكر عن الجادّة، و أظهرت الحقّ في هيئة الباطل و العكس صحيح.
الثاني: الذكر الكلاميّ أو الوِرد
و أهل الفنّ لا يطلقون عليه اسم الذكر، بل يسمّونه الوِرد، و هم لا يعيرون للذكر القالبيّ أهمّيّة، بل حيثما ذكروا الوِرد، قصدوا به نوعه النفسيّ.
و الأوراد في أوقات الذكر كثيرة، و يكفي الطالب ما سأذكره بطريقي. و أفضل أوقاته عند السَّحَر، و بعد الفريضتَين: الصبح و العشاء، و في جميع أوقات الذكر. و ليكرّر وِرد كلمة النفي و الإثبات المركّب و البسيط و اسم «محيط» و «يا نور» و «يا قدّوس» بعد الفريضتَين، ألف مرّة لكلّ وِرد. و كذلك وِرد «محمّد رسول الله» و «يا عليّ» مع حرف النداء، و يجوز ذكره في الليالى بدون حرف النداء۱. و وِرد ألف مرّة «التوحيد» في الليالى نفيس؛
و لا يغفلنّ عن المداومة على هذا الوِرد:
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، اللَهُمَّ أنِّي أسْأَلُكَ بِاسْمِكَ المَكْنُونِ، المَخْزُونِ، السَّلَامِ، المُنْزِلِ، المُقَدَّسِ، الطَّاهِرِ المُطَهَّرِ، يَا دَهْرُ، يَا دَيْهُورُ، يَا دَيْهَارُ۱، يَا أزَلُ، يَا هُو، يَا هُو، يَا هُو، يَا لَا إلَهَ إلَّا هُو، يَا مَنْ لَا هُوَ إلَّا هُو، يا مَنْ لا يَعْلَمُ ما هُوَ إلّا هُو، يا مَنْ لا يَعْلَمُ أيْنَ هُوَ إلَّا هُو، يَا كَائِنُ يَا كَيْنَانُ، يَا رُوحُ، يَا كَائِناً قَبْلَ كُلِّ كَوْنٍ، يَا كَائِناً بَعْدَ كُلِّ كَوْنٍ، يَا مُكَوِّناً لِكُلِّ كَوْنٍ، آهياً شراهيّاً٢، يا مُجَلِّيَ عَظَائِمِ الامُورِ، سُبْحَانَكَ عَلَى حِلْمِكَ بَعْدَ عِلْمِكَ، سُبْحَانَكَ عَلَى عَفْوِكَ بَعْدَ قُدْرَتِكَ، {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [الآية
۱٢٩، من السورة ٩: التوبة]، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الآية ۱۱، من السورة ٤٢: الشوري].
اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَ آلِ مُحَمَّدٍ بِعَدَدِ كُلِّ شَيْءٍ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إبْرَاهِيمَ وَ آ لِ إبْرَاهِيمَ إنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ.
الثالث: المناجاة: و أفضلها العلويّة و السجّاديّة.
الرابع: التفكّر
و هو من الشرائط العظيمة. و على السالك في أوان الخلوّ من الذكر أن لا يُخلي نفسه منه.
و عليه في ابتداء الأمر أن يتفكّر في آثار القدرة الإلهيّة، و رأفة الله، و عظمته، و في خاتمة أمره، و أعماله، و فيما بعد الموت و أمثال ذلك ممّا ورد في كتب الأخلاق، و ليتفكّر في دقائق أحكام الرسول، و رأفته، و رحمته، و خلفائه، و سعيهم في إصلاح معاد الرعيّة و أُمور معاشهم.
ثمّ يجعل تفكّره في أواسط الأمر في ارتباطه بالخالق، و في ملاحظة أمر مخلوقيّته و عبوديّته و ذلّه أمام خالقه، و في انتسابه إلى الرسول و خلفائه، و في ارتباط كلّ مخلوق بالخالق الواحد، و انتهاء جميع النسب إلى منسوب إليه واحد، ليبعث ذلك على حصول الشفقة و العطف على جميع الأشياء. و يمكن للبصير العالِم تعيين مجاري فكره في جميع الأحوال، و المقصود هو عدم الخلوّ من
التفكّر، وَ أفْضَلُ العِبَادَةِ إدْمَانُ الفِكْرِ في اللهِ وَ في قُدْرَتِهِ،
و قد أشار أبو عبدالله عليهالسلام إلى ذلك.۱
الخامس: المداومة على جميع الأذكار و الأوراد
من أجل أن تظهر فعليّتها بأسرها. و أثرها في أقلّ من الأربعين ضعيف جدّاً، إلّا الأوراد التي وردت بقدر معيّن.٢
و ما أكثر ما يبقي مشتغلًا في مرتبة الأربعينيّات، و هو ما يُصطلح عليه بـ «الإقامة».
و من الامور المؤكّدة في جميع الأحوال: تقليل اللذائذ و الأطعمة الدسمة، سيّما اللحوم و الأغذية اللذيذة.
و هذا هو طريق السلوك و آدابه.
الفَصل الثّالث: آثَارُ السُّلُوكِ
و أمّا آثار السلوك و فيوضاته، فممّا يراه السالك عياناً، و من جملة آثاره حصول الأنوار في القلب. و تبدأ في هيئة مصباح، ثمّ تستحيل شعلة، فكوكباً، فقمراً، فشمساً، ثمّ تأفل و تتجرّد عن اللون و الشكل. و كثيراً ما تكون في هيئة برق يومض، و تكون أحياناً في هيئة مشكاة و قنديل، و هذان الاثنان يحصلان أكثر ما يحصلان على إثر الفعل۱ و المعرفة و سوابق الذكر. و يشير إلى المرتبة الاولى قول الباقر عليهالسلام الذي رواه ثقة الإسلام في «الكافي»، حيث قال عليهالسلام في بيان أنواع القلوب:
وَ قَلْبٌ أزْهَرُ أجْرَدُ، فَقُلْتُ: وَ مَا الازْهَرُ؟ فَقَالَ: فِيهِ كَهَيْئَةِ السِّرِاجِ ...
إلى أن قال: وَ أمَّا القَلْبُ الازْهَرُ فَقَلْبُ المُؤْمِنِ.٢
...۱
و أشار أمير المؤمنين عليهالسلام إلى بعض هذه المراتب في قوله:
قَدْ أحْيَى قَلْبَهُ وَ أمَاتَ نَفْسَهُ، حتّى دَقَّ جَلِيلُهُ، وَ لَطُفَ غَلِيظُهُ، وَ بَرَقَ لَهُ لَامِعٌ كَثِيرُ البَرْقِ.۱
و أحد بطون الآية الكريمة {اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ} شرح هذه المراحل، إذ إن الشخص الإنسانيّ يؤول في هذه الأحوال إلى مشكاة فيها «زجاجة»، و هي القلب؛ و في الزجاجة «مصباح»، و هو النور المذكور؛ يصبح القلب بعد انتشاره كأنّه «كوكب درّيّ»؛ يُوقَدُ نور الشجرة المباركة ذات النفع الكثير، و هي نورانيّة و روحانيّة ذِكر الله، لم يحصل من شرق و لا غرب، بل ظهر من طريق الباطن الذي لا شرق فيه و لا غرب، {وَ لَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ}٢،
يعني: إذا لم يغفل عن ذِكر الله، إذ الغفلة توجب مقارنة الشيطان بنصّ: {وَ مَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ}۱، و الشيطان مخلوق من نار؛ نورٌ على نورٍ، يزداد نورها حتّى تغدو بأجمعها نوراً.٢
وَ هَذِهِ الزُّجَاجَةُ {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ}.٣
و يقول تعالى في بيان مَثَل نوره: {يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَ الْآصالِ ، رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَ لا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ.}۱
و من جملة الآثار، ظهور صوت في القلب. و هو نشيد يشبه في بداية الأمر صدح طائر أو شدو قمريّة. ثمّ يكون أشبه برنّة إلقاء اسطوانة صغيرة في طاس نحاسيّ، ثمّ تكون همهمة في الباطن تُدرك أشبه بصوت ذبابة تحطّ على خيط من الحرير.
ثمّ يخمد لسان القلب، و يوكل القلبُ الذِّكرَ إلى الروح.
الفَصل الرَّابع: طَرِيقُ ذِكرِ المُؤلِّفِ رَحمَةُ اللهِ عَلَيهِ
و أختم هذه التُّحفة بطريق ذكرى على نحو الإجمال:
اعلم أنّيّ لمّا أردتُ السلوك عازماً على المجاهدة الكبرى و العظمى، و قصدت السير في وادي الذِّكر، فقد شمّرت عن همّتي في التوبة ممّا كنت أفعل، و هجرت العادات و التقاليد، ثمّ انهمكت في أربعينيّات الأذكار، و جعلتُ في الأربعين أربعيناً.۱
و قد علّمني أُستاذي في الذكر الخياليّ اسم «الحيّ» الذي تعلّمه من الآية الكريمة: {هُوَ الْحَيُّ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ.}٢
لأنّ الله جعله مقدّمة الإخلاص و منهجاً لحمده.٣
و هو - مع وجود كلّ هذه النورانيّة و الروحانيّة يلائم جميع الأمزجة، و يبعث القلوب الميّتة، بعيداً عن سائر الأخطار المختلفة. و أكثر الروايات الواردة في الاسم الأعظم لا تخلو من هذا الاسم المكرّم، كما ورد في كتاب «مُهج الدعوات».۱ فالظاهر
أنّه هو الاسم الأعظم.
و هو مع ذلك مكوّن من «حاء» و «ياء»؛ فالحرف الأوّل يبعث على الانس و المواصلة، و الثاني على الصبر و الاحتمال و الفتح و النصرة.
و وقوع الأوّل في اسم من الأسماء الحسنى يدفع تأثير ناريّة الشيطان، لأنّ ذلك الحرف دافع للحرارة. و اشتماله على الثاني سبب للهداية و كشف الأسرار، كما هو مبيّن في فنّ الأعداد.۱
و زيادة الألف و اللام من أجل تأثّر القلب في التأسّي بخصلة الأنبياء و الاتّصاف بصفة الأصفياء، و التأنّيّ في الثبوت في العمل؛ و ذلك الحرف هو ذات القلم الرسّام للأسرار.٢
فقد قضيتُ مدّة في الأربعينيّات المتعدّدة بطرق متعددّة.
ثمّ انشغلتُ بسائر الأذكار، و اغتسلتُ في كلّ أربعين غُسل التوبة، و تركتُ حظّاً و لذّة من حظوظ النفس، و ودّعتها الوداع الأخير.
و توجّهتُ في كلّ يوم إلى سيّد من ساداتي، فزرتُه بالزيارة التي اخترتُها بنفسي. و شرعتُ في ذلك يوم السبت، لحديث شاهدته في هذا الباب.۱ و كنت أُصلّي ركعتَين أهديهما لروحه
المقدّسة و أتوسّل به.
و تعلّقت في كلّ جمعة بأذيال وليّ العصر متوسّلًا به، و قرأت الزيارة و الأدعية التي وردت في التوسّل به في ذلك اليوم.
و كنت أُصلّي على النبيّ و آله كلّ جمعة ألف مرّة كما هو المأثور.
و كانت أورادي في هذه الأيّام على نوعَين:
الأوّل: ما كان علىَّ القيام به كلّ يوم، و هو على النحو التالى: الحَقّ، في الأسحار مائة مرتبة بعد صلاة ركعتَين، مع رفع الأيدي إلى السماء؛ يَا حَيّ يَا قَيُّومُ يَا مَنْ لَا إلَهَ إلَّا أنْتَ بِرَحْمَتِكَ أسْتَغِيثُ ما بين السُّنّة و الفرض أربعين مرّة۱؛ يَا أحَدُ يَا صَمَدُ بعد الفرائض الخمسة بالعدد المجمل ۱٦٩ مرّة أو المفصّل ٦۱٩ مرّة؛ «يا عليّ» بقصد الوليّ في الأسحار و بعد فريضة الصبح٢ بالعدد المجمل ۱٢۱ مرّة؛ «يا قريب» كلّ يوم بالعدد المجمل ٣٢٣ مرّة؛ آية «المُلك» بعد فريضة الصبح ٢٢ مرّة٣؛ «الله» في الأسحار بالعدد الكبير مع
الإمكان؛ «يا نور يا قدّوس» في الأسحار بالعدد المجمل ٤٤۸ مرّة.
الثاني: ما أتممته خلال هذه المدّة، ابتداء من ذكر {رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَ أَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}۱ أربعيناً بالعدد المجمل ٢٥۰۰ مرّة يا {لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ}٢ أربعيناً بالعدد المجمل ٢٣۸٦ مرّة؛ «يا هادي» أربعيناً في كلّ يوم ٥۰۰۰ مرّة؛ و في اليوم الأخير «يَا هَادِيَ المُضِلِّينَ» مائة مرّة؛ «يَا فَتَّاحُ» ثمانية عشرة يوماً، في كلّ يوم ۸۷٩٩ مرّة؛ «يا بَصير» أربعيناً، في كلّ يوم بعد كلّ فريضة ۱٣٣۰ مرّة؛ و الغُسل كلّ يوم مع الإمكان؛ آية الكرسي بعد كلّ فريضة؛ النفي و الإثبات المركّب و البسيط و «الله» و «هو» و سورة التوحيد و الأعلى، كلّ واحد منها
ألف مرّة، و أربعينَين اثنين في الأسحار۱؛ يَا سُبُّوحُ يَا قُدُّوسُ ستّة أربعينات، في كلّ يوم ٢٦۷۰ مرّة (الشرائط: الغُسل كلّ يوم مع الإمكان و الصَّمْت و الجوع)؛ يَا حَنَّانُ يَا مَنَّانُ لمدّة مائة و ثمانية أيّام، في كلّ يوم ۱٢۰۰ مرّة (الشرط: ترك الطعام الحيوانيّ، بل تركه قبل ذلك بأربعين يوماً)؛ يَا دَيَّانُ لمدّة سبعين يوماً، في كلّ يوم ٥۰۰۰ مرّة؛ يَا كَبِيرُ ثلاثة أربعينات، في كلّ يوم و ليلة ۱٤٦٦ مرّة؛ و في الأربعين الأخيرة ترك الطعام الحيوانيّ، و تكراره كلّ يوم ما أمكن٢؛ و لو أمكن تكراره ۷۰۰۰۰ مرّة كان أفضل؛ يَا نُورُ
بالعدد الكبير۱، و في الليالى أيضاً بهذا العدد من دون سورة، ابتداء من يوم السبت؛ يَا حَيّ يَا قَيُّومُ لمدّة مائة و ثمانين يوماً من السحر إلى الطلوع، أو من الطلوع إلى الاستواء، في كلّ يوم ٣۷۱٦ مرّة؛ يَا مُهَيْمِنُ لمدّة أربعين واحدة أو أربعينَين اثنين، في كلّ يوم ۱۰٤۰ مرّة على غُسل و قبل التكلّم؛ الله أربعيناً واحدة، في كلّ يوم بقدر الإمكان٢ مع السعة (بشرط الصوم و ترك النوم إلّا مع عدم الاختيار) و يجب إظهار الهمزة و إسكان الهاء٣ ثمّ يداوم بعد ذلك على هذا
الذكر.
و لقد أتممت العمل على هذه الكيفيّة. أمّا جمع بعض الأوراد مع بعضها الآخر في أيّام الأربعين فجائز، و أمّا مضاعفة المدّة في أحدها فمرخّص فيها. و يلزم في جميع هذه الأوراد الأربعينيّة الخلوة و التعطير و اجتناب البُقول ذات الرائحة الكريهة، و الافتتاح و الاختتام بهذه الصلوات:
اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى المُصْطَفى مُحَمَّدٍ وَ المرتضى عليّ وَ البَتُولِ فَاطِمَةَ وَ السِّبْطَيْنِ الحَسَنِ وَ الحُسَيْنِ وَ صَلِّ عَلَى زَيْنِ العِبَادِ عليّ وَ الباقِرِ مُحَمَّدٍ وَ الصَّادِقِ جَعْفَرٍ وَ الكَاظِمِ مُوسَى وَ الرِّضَا عليّ وَ التَّقِيّ مُحَمَّدٍ وَ النَّقِيّ على وَ الزَّكِيّ العَسْكَرِيّ الحَسَنِ وَ صَلِّ عَلَى المَهْدِيّ الهَادِي صَاحِبِ العَصْرِ وَ الزَّمَانِ وَ خَلِيفَةِ الرَّحْمَنِ وَ قَاطِعِ البُرْهَانِ وَ سَيِّدِ الإنْسِ وَ الجَانِ صَلَواتُ اللهِ وَ سَلَامُهُ عَلَيْهِ وَ عَلَيْهِمْ أجْمَعِينَ.
و اعلم أنّ أصل عمل المراتب هي الأذكار، و أنّ الأوراد من أعوانها و متمّماتها، فيحظر ترك بعض منها.
و قد اشتغلتُ في هذه الأيّام عند الفراغ بالمناجاة العلويّة
و السجّاديّة، و تبرّكتُ بالأسماء المباركة للآل الأطهار و الصحابة الكبار للرسول المختار و الأركان الأربعة للملائكة الكرام و الأنبياء العظام و مشايخ الشريعة و أساتذة الطريقة، و سلّمت و ترحّمت عليهم مفصّلًا في أكثر الأيّام، و سألتُ من بواطنهم الهمّة.
إدامة الرسالة من قبل الناسخ
يقول الناسخ۱: لقد أنهيت مرّة الأربعينات بالطريق المذكور بقدر الإمكان، و شرعت في المرّة الثانية، و جعلتُ أوراد الأربعينات كلمات إدريس عليهالسلام٢ حسب الترتيب و الشرائط
و مقدار الأوقات الواردة في رسالة السيّد ابن طاووس رحمه الله۱ التي ألّفها في هذا الخصوص.
و اشتغلت في مبادئ الأربعينيّات أوّلًا بذكر {وَ إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ} [الآية ۱٦٣، من السورة ٢: البقرة] ۱۰۸۰ مرّة في مجلس واحد، و فعلت ذلك عدّة مرّات.
و قرأتُ في مدّة ثلاثة أربعينات سورة «و العاديات» المباركة ٤۰۰۰۰ مرّة.
و قرأتُ في هذه الأربعينات الثلاث عقب كلّ فريضة سورة
«الفاتحة» عشر مرّات. و جميع هذه الأذكار الثلاثة تنفع لدفع العوائق الدنيويّة.
و كنت أتوسّل أحياناً بروحانيّة عطارد، و استعين بها للهمّة.۱
ذلك أنّ أصحاب الأسرار يستعينون بروحانيّته. فإذا نظر إليه
إذَا تجَلَّى حَبِيبِي في حَبِيبِي | *** | فَبِعَيْنِهِ أنْظُرْ إلَيْهِ لَا بِعَيْنِي |
المرء بعد غروب الشمس أو قبل طلوعها حينما يمكن رؤيته فليسلّم عليه، و ليخطُ تجاهه و ليقل:
عَطَارُدُ أيْمُ اللهِ طَالَ تَرَقُّبِيّ | *** | صَبَاحاً مَسَاءً كَي أرَاكَ فَأَغْنَمَا |
ثمّ يخطو خطوة اخرى ويقول:
وَهَا أنَا فَامْنَحْنِي قُوَى أُدْرِكُ المُنَى | *** | بِهَا وَ العُلُومَ الغَامِضَاتِ تَكَرُّمَا |
ثمّ يخطو اخرى ويقول:
وَهَا أَنَا جُدْ لي الخَيْرَ وَالسَّعْدَ كُلَّهُ | *** | بِأَمْرِ مَلِيكٍ خَالِقِ الأرْضِ وَ السَّمَا |
و تكرار هذا العمل في المبادئ أمر مطلوب.۱
عَطَارُدُ أيْمُ اللهِ طَالَ تَرَقّبِي | *** | صَباحاً مَسَاءً كَي أرَاكَ فَأغْنَمَا |
فَهَا أَنَا فَامْنَحْنِي قُوَى أَبْلُغَ المُنَى | *** | وَ دَرْكَ العُلُومِ الغَامِضَاتِ تَكَرُّمَا |
...۱ و للأمكنة الشريفة و المساجد الكريمة و المشاهد المشرّفة في القابليّة للفيوضات الدخل الكبير، و أكثر أصحاب الحال قد فُتح لهم باب الفيض في أحد هذه الأماكن المكرّمة.
و يقول السيّد الجليل: «لقد انتابتني حال تفوق الوصف في «سُرَّ مَنْ رَأَى» من فيض ذلك المكان». و كان أكثر استقراره في أيوان يحاذي السرداب المقدّس. و قد قام السيّد بنفسه ببناء معبد
وَ إن تَكْفِنِي المَحْذُورَ وَ الشَّرَّ كُلَّهُ | *** | بِأمْرِ مَلِيكٍ خَالِقِ الأرْضِ وَ السَّمَا |
خَوَّفَنِي مُنَجِّمٌ أخُو خَبلْ | *** | تَرَاجُعَ المرِّيخِ في بَيْتِ الحَمَلْ |
... | *** | عطارد أيم الله طال ترقّبي، |
...۱ عظيم في ذلك الموضع يُعرف بمسجد السيّد ابن طاووس، بَيدَ أنّ آثاره انطمست، فلم يبق له في زمننا هذا من أثر.
تمّت هذه الرسالة الشريفة المنسوبة إلى بحر العلوم، بِيَدِ العبد محمّد حسين الطباطبائيّ ليلة الأحد، العاشر من شوّال، سنة ألف و ثلاثمائة و أربع و خمسين للهجرة.
تمّ استنساخ هذه النسخة، على نسخة الاستاذ الوحيد: سيّدنا الأعظم الحاجّ السيّد محمد حسين الطباطبائيّ أدام الله ظلّه
الوارف، بِيَدِ هذا الحقير الفقير محمّد الحسين الحسيني الطهراني في يوم الأربعين: العشرين من شهر صفر الخير، سنة ألف و ثلاثمائة و سبع و سبعين للهجرة، و الحمد للّه ربّ العالمين.