المؤلّف العلامة آیة الله السيد محمد الحسين الحسيني الطهراني
القسم القرآن والحديث والدعاء
المجموعة نور ملكوت القرآن
التوضيح
هذه المجموعة في القسم الأول من دورة أنوار الملكوت (الشاملة لنور ملكوت القرآن، نور ملكوت المسجد، نور ملكوت الصلاة، نور ملكوت الصيام، ونور ملكوت الدعاء).
وقد دونت مجموعة (نور ملكوت القرآن) في أربعة مجلدات، جرى البحث خلالها عن هداية القرآن إلى أفضل مناهج وسُبل السلام، خلود أحكام القرآن، عدم نسخ القرآن، التطبيق العملي لآحاد آيات القرآن في كل عصر، الرد على نظرية تحديد النسل، دور القرآن وموقعه بعنوان كتاب سماوي، نقد ومناقشة بعض الأفهام الخاطئة للآيات القرآنية الكريمة، والإشكالات الواردة على مقالة (بسط وقبض نظرية الشريعة) وكتاب (الفكر والقيم).
ومن العناوين الاُخرى لهذه المجموعة: منطق القرآن توحيديّ، بيان القرآن لأخطاء التوراة والإنجيل، أحكام القرآن في الجهاد، القتل، الاستعباد، والفدية، سير القرآن في آيات الأنفس والآفاق، بيان محكمات القرآن ومتشابهاته، كيفيّة قراءة القرآن في الصلاة وغيرها، تأثير القرآن في تربية الإنسان الكامل، عظمة أخلاق القرآن، بيان كيفية خلقة الإنسان والسيّارات في القرآن، دعوة الآيات الآفاقية إلى التوحيد ومكارم الأخلاق، العربية وإعجاز القرآن، لزوم التكلم بالعربية لجميع المسلمين والرد على مسألة إحياء اللغات الفارسية القديمة، عظمة القرآن الكريم وأصالته، تأثير القرآن في الحضارة العظيمة الإسلامية، تفوّق علوم الإسلام على اليونان، بيان كيفية كتابة القرآن وطباعته، تأريخ التوراة والإنجيل الحاليّين، قاطعية القرآن وشموله، عموميّة القرآن الكريم وامتناعه على التغيير، كيفية جمع القرآن وتدوينه.
البَحْثُ الثَّامِنُ: سَيْرُ القُرْآنِ في آيَاتِ الآفَاقِ، وَ عَظَمَةُ أخْلَاقِ القُرْآنِ و تفسير آية: ﴿وَ لَقَدْ صَرَّفْنَا في هَذَا الْقُرْءَانِ لِيَذَّكَّرُواْ وَ مَا يَزِيدُهُمْ إلَّا نُفُورًا﴾
أعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيطانِ الرَّجِيمِ
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
و صلَّى اللهُ على سَيِّدِنا مُحَمَّدٍ و آلِهِ الطَّيِّبِينَ الطَّاهِرِينَ
و لَعْنَةُ اللهِ على أعْدَائهِمْ أجْمَعِينَ مِنَ الآنَ إلى قِيامِ يَوْمِ الدِّينِ
و لَا حَولَ و لَا قُوَّةَ إلَّا بِاللهِ العَلِيِّ العَظِيمِ
قال الله الحكيم في كتابه الكريم:
وَ لَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَ ما يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُوراً۱
قال سماحة الاستاذ العلّامة قدّس الله سرّه في تفسيره لهذه الآية الكريمة المباركة:
«قال الراغب الإصفهانيّ في «المفردات»: الصَّرْف ردّ الشيء من حالةٍ إلى حالة، أو إبداله بغيره. قال: و التصريف كالصرف إلّا في التكثير، و أكثر ما يُقال في صرف الشيء من حالةٍ إلى حالة، و من أمرٍ إلى أمر. و تصريف الرياح هو صرفها من حالٍ إلى حال.
قال تعالى: «وَ صَرَّفْنَا الْآياتِ»٢، «وَ صَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ»٣، و منه تصريف الكلام و تصريف الدراهم - انتهى.
فقوله وَ لَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا معناه بشهادة السياق: و اقسم لقد رددنا الكلام معهم في أمر التوحيد و نفي الشريك من وجهٍ إلى وجه، و حوّلناه من لحنٍ إلى لحن في هذا القرآن، فأوردناه بمختلف العبارات و بيّناه بأقسام البيانات ليتذكّروا و يتبيّن لهم الحقّ.
و قوله وَ ما يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُوراً، أي: ما يزيدهم التصريف إلّا انزعاجاً، كلّما استؤنف جيء ببيان جديد أورثهم نفرة جديدة».۱
تفسير آية: سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَ فِي أَنْفُسِهِمْ
و قد استفاد الكتاب السماويّ الإلهيّ - القرآن الكريم - من نوعين من الآيات من أجل إجلاء الحقّ؛ أوّلهما الآيات الآفاقيّة، و ثانيهما الآيات الأنفسيّة:
سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَ فِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَ وَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ، أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ٢
و تلوح في هذه الآيات عدّة نكات مهمّة:
الاولى: إنّ الآيات الإلهيّة التي تمثّل سبيل الوصول إلى ذات الله القدسيّة لا تتعدّى هذين النوعين من الآيات، أي الآيات الآفاقيّة و الآيات الأنفسيّة.
الثانية: على الرغم من كون الضمير في أَنَّهُ الْحَقُ للمفرد المذكّر، إلّا أنّه يفتقد المرجع الذي يعود إليه؛ و ذلك لعدم ورود ألفاظ الله، الربّ و أمثالهما ممّا يمكن أن يعود إليه الضمير. و من الضروريّ في هذا المجال أن يكون الضمير عائداً إلى معنى تنطوي عليه كلمة آيات، و له عنوان
الوحدة. و ليس ذلك المعنى إلّا ذو الآية. (لأن شدّة ارتباط الآية بذي الآية من القوّة بحيث إنّ نفس الآيات تبدو في انطباقها على ذات الحقّ القدسيّة، كأنّها الحقّ بذاته). و الآيات الآفاقيّة و الأنفسيّة بكثرتها متّحدة في هذه الدلالة و الإظهار، و هي بأجمعها حقّ؛ و ليس الحقّ شيئاً سواها.
الثالثة: جاءت جملة: ألآ إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ لتأكيد المطلب الأوّل، و هو تجلّي الحقّ في جميع الموجودات الآفاقيّة و الأنفسيّة، و أنّ كلّ ظهور هو عين المُظْهِر.
و من هنا فإنّ الآية تبيّن أنّ أعين الناس الرمداء المريضة تشكّ في رؤية الحقّ و لقائه، مع أنّها تراه في جميع الموجودات بلا استثناء. و أنّ تلك الأعين أينما توجّهت و إلى أي شيء تطلّعت، لما رأت في البحر العظيم المترامي لعالَم الإمكان شيئاً متجلّياً غير الحقّ المحيط بكلّ شيء، و الحاضر الناظر الشهيد في كلّ مكان، إلّا أنّ هؤلاء الناس - و يا للأسف - مبتلون بالكثرة، و مجانين بالاعتباريّات و التقاليد، و مُمتحنون بالأوهام، فهم في شكٍّ و ريب من لقاء جمال الحقّ في كلّ آية من آيات الآفاق و الأنفس، و هم يرونه في كلّ لحظة و يُنكرونه، و يسمعون حديثه كلّ آن و يُنكرونه. فما شيءٌ أشدّ من أمرهم غرابةً و إثارةً للعجب!
يار نزديكتر از من به من است | *** | وين عجبتر كه من از وى دورم |
چكنم با كه توان گفت كه دوست | *** | در ميانِ من و من مهجورم۱ |
قال مولى الموحّدين أميرالمؤمنين عليه أفضل صلوات الله المَلِك المتعال:
الَعَارِفُ مَنْ عَرَفَ نَفْسَهُ فَأعْتَقَهَا وَ نَزَّهَهَا عَنْ كُلِّ مَا يُبَعِّدُهَا.۱
سعدى حجاب نيست، تو آئينه پاك دار | *** | زنگار خورده، چون بنمايد جمال دوست؟٢ |
و ما أبدع و أروع هذه الحقيقة التي نقلها القاضي نور الله الشوشتريّ عن بعض العرفاء و الموحّدين:
يَا جَلِيَّ الظُّهُورِ وَ الإشْرَاقْ | *** | كيست جز تو در أنفس و آفاق؟٣ |
لَيْسَ في الكَائِنَاتِ غَيْرَكَ شَيْءْ | *** | أنْتَ شَمْسُ الضُّحَى وَ غَيْرُكَ فَيْءْ |
دو جهان سايه است و نور توئى | *** | سايه را ماية ظهور توئي |
حرف ما و من از دلم بتراش | *** | محو كن غير را و جمله تو باش |
خود چه غير و كدام غير اينجا؟ | *** | هم ز تو سوى تست سير اينجا |
در بدايت ز تست سير رجال | *** | وز نهايت بو سوى تست آمال٤ |
جميع مراتب الحق لله تعالي
اللَهُمَّ أنْتَ السَّلَامُ وَ مِنْكَ السَّلَامُ وَ إلَيْكَ يَرْجِعُ السَّلَامُ.٥
و قد استنتج سماحة الاستاذ قدّس الله نفسه بإشارةٍ عابرة استنتاجاً عميقاً و دقيقاً من إحدى الآيات القرآنيّة، و ينبغي حقّاً الانحناء تبجيلًا لسعة
نفسه و إدراكه البديع و ذكائه العجيب في فهم دقائق الآيات القرآنية؛ فقد قال في شأن الآية المباركة: الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ.۱
«و هذا، أعني قوله: الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ من أبدع البيانات القرآنيّة، حيث قيّد الحقّ بـ «مِن» الدالّة على الابتداء دون غيره بأن يقال الْحَقُّ مَعَ رَبِّكَ، لما فيه من شائبة الشرك و نسبة العجز إليه تعالى بحسب الحقيقة.
و ذلك أنّ هذه الأقاويل الحقّة و القضايا النفس الأمريّة الثابتة كائنة ما كانت، و إن كانت ضروريّة غير ممكنة التغيّر عمّا هي عليه، كقولنا. الأربعة زوج، و الواحد نصف الاثنين، و نحو ذلك؛ إلّا أنّ الإنسان إنّما يقتنصها من الخارج الواقع في الوجود، و الوجود كلّه منه تعالى، فالحقّ كلّه منه تعالى كما أنّ الخير كلّه منه. و لذلك كان تعالى لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَ هُمْ يُسْئَلُونَ،٢ فإنّ فعل غيره إنّما يصاحب الحقّ إذا كان حقّاً، و أمّا فعله تعالى فهو الوجود الذي ليس الحقّ إلّا صورته العلميّة» - انتهى.٣
دعوة القرآن للتفكّر في الأشياء الخارجيّة و في صنع الله تعالي
أمّا و قد علمنا أنّ منطق القرآن الكريم هو حقّيّة الوجود الخارجيّ و واقعيّته، و أنّه بوحدته و بساطته و أبديّته و عدم تناهيه هو عين الحقّ، و أنّ جميع الآيات - الآفاقيّة أو الأنفسيّة - هي مظاهر للحقّ، و أنّ كلّا من تلك الآيات تظهر تلك الحقيقة في حدود سعتها؛ فقد حان الوقت كي نعلم أي الآيات القرآنيّة تتحدّث عن هذه الآيات الآفاقيّة و الأنفسيّة؟
و تعني الآيات الآفاقيّة الموجودات الخارجيّة و الأشياء الموجودة خارج ذات الإنسان؛ أمّا الآيات الأنفسيّة فتعني مظاهر النفس و ظهوراتها،
و الصفات و الملَكات و الأخلاق و الأعمال المتعلّقة بالنفس الإنسانيّة، و الواقعة في مقابل الآيات الآفاقيّة.
و التفكّر في الآيات الآفاقيّة يتمثّل في طريقة المشاهدة و التجربة و الالتفات إلى الطبيعة و إقامة الاستدلالات النظريّة و الفكريّة على المحسوسات و الأشياء الخارجيّة، الأمر الذي يُتعارف عليه في المناهج المعاصرة، و الذي يعدّ مؤسّسوه من أمثال بيكون و كانت و ديكارت هم الذين دفعوا عجلة التحقيق و العلوم البشريّة قُدماً في طريق التجربة و المشاهدة.
بَيدَ أنّ الحقيقة هي أنّ القرآن الكريم هو حامل لواء هذا الفتح و المتقدّم في هذا المجال حين دعا الإنسان قبل أربعة عشر قرناً من خلال الكثير من الآيات القرآنيّة إلى التفكّر في الامور الخارجيّة، كتعاقب الليل و النهار و اختلاف مقدارهما، و حركة الأرض و السماء، و نموّ الأشجار و الثمار و النباتات التي تُسقي بماءٍ واحد، و كون جميع الامور الطبيعيّة و المادّيّة مخلوقة من ذكرٍ و انثى، و حين دعاه إلى النظر في هبوب الرياح و حركة الغيوم، و هطول الأمطار و الثلوج، و نشوء الصاعقة و الرعد و البرق، و اختلاف شكل القمر في الليالي المختلفة، و تكوّن الجنين و تكامله إلى هيئة إنسان كامل ذي روح، و اختلاف الجبال، و سير السفن الشراعيّة في المياه، و طيران الطيور التي تخفق بأجنحتها أو تنشرها خلال طيرانها، و اختلاف المياه في الطَّعم، و خلقة النساء اللاتي يسكن إليهن الرجال، و ندب الإنسان إلى البحث في النوم و اليقظة، و في الموت و الحياة، و إلى كثير من المسائل الاخرى التي تشكّل القسم الأعظم من القرآن الكريم.
بيد أنّ العلماء المعاصرين يصرفون أنظارهم و اهتمامهم إلى الجوانب المادّيّة و الطبيعيّة و العلائق الحسّيّة لتلك الامور؛ أمّا القرآن فهو أسمى من
ذلك و أعلى، إذ يأمر بمشاهدة هذه الامور و ملاحظتها بلحاظ ارتباطها المحض بالخالق العليم الحكيم القادر المتعال، و يعرّف جميع الموجودات الكثيرة بأنّها مرايا مختلفة لجمال الواحد الحيّ الأزليّ الأبديّ، و يعتبر نور أحديّته تعالى شاملًا لجميع شبكات عالم الإمكان.
و لذلك فإنّنا نشاهد أنّ هذا الاسلوب من التفكير القرآنيّ قد ربّي علماء و مفكّرين موحّدين مؤمنين نبغوا في الامور التجريبيّة و الطبيعيّة، فحفظوا البشر طوال القرون المتمادية في ظلّ هدوء البال و سكون الخاطر و تأمين العدل الاجتماعيّ و التمتّع بجميع المواهب الإلهيّة.
أمّا الأجانب الذين ادّعوا أنّهم أرأف بالابن من امّه الحنون، فقد افتقدوا مثل هذه النظرة الإلهيّة، و قطعوا الارتباط بين الحقائق و العلوم مع خالقها، فأحالوا الدنيا جهنّماً لا تُطاق، و ساقوا البشريّة في خُطى حثيثة إلى هذه النار العاجلة.
نُقل عن غاندي أنّه قال ما مضمونه:
«لقد عرف الاوروبّيّون الدنيا، و لم يعرفوا أنفسهم، لذا فقد أفسدوا أنفسهم و أفسدوا الدنيا معها».۱
مضامين متباينة لآيات القرآن الكريم في أصل خلقة الإنسان
و قد وردت في القرآن الكريم آيات ذات مضامين مختلفة تحدّثت عن أصل خلقة الإنسان، منها:
۱ - هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضى أَجَلًا وَ أَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ.۱
٢ - وَ هُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَ صِهْراً.٢
٣ - وَ إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ.٣
٤ - خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ.٤
٥ - إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ.٥
٦ - إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ.٦
۷ - وَ اللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ.۷
۸ - فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ ، خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ.۸
٩ - أَ يَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً ، أَ لَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى.٩
۱۰ - الذي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَ بَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ ، ثُمَ
جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ.۱
۱۱ - خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ.٢
۱٢ - خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آياتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ.٣
۱٣ - اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً.٤
۱٤ - خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها وَ أَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ.٥
۱٥ - إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ.٦
۱٦ - وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ.۷
و تشكّل هذه التعبيرات ستّة عشر تعبيراً استنتجناه من القرآن الكريم فيما يتعلّق بأصل خلقة الإنسان، سواء من الجانب المادّيّ أو الأخلاقيّ، و هي عبارة عن.
ماء، ماء مهين، ماء دافق، تراب، طين، طين لازب، سلالة من طين، صلصال كالفخار، صلصال من حمإ مسنون، نطفة، مني يمنى، نطفة أمشاج، علق، عجل، ضعف، نفس واحدة.
و قد بحثنا في هذه الآيات في الجزء الثاني من هذا الكتاب «نور ملكوت القرآن» في القسم المتعلّق بعظمة القرآن، و سنبحث في الآيتين
الأخيرتين نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ و سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ إلى قوله: ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ، بحثاً إجمإلياً لإثبات إعجاز القرآن و نظرته في دعوة البشريّة إلى التفكّر في الخلقة و هيكل الوجود و الآيات الآفاقيّة.
أمّا فيما يتعلّق بالآية الاولى: إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً»؛۱ فقد قال سماحة استاذنا المكرّم في التفسير:
«النطفة في الأصل بمعنى الماء القليل، غلب استعماله في ماء الذكور من الحيوان الذي يتكوّن منه مثله.
و أمشاج جمع مشيج أو المَشَج بفتحتين أو بفتحٍ فكسر، بمعنى المختلط الممتزج. و وصفت بها النطفة باعتبار أجزائها المختلفة أو اختلاط ماء الذكور و الإناث.
و الابتلاء نقل الشيء من حالٍ إلى حال، و من طورٍ إلى طور، كابتلاء الذهب في البوتقة، و ابتلاؤه تعالى الإنسانَ في خلقه من النطفة هو ما ذكره في مواضع من كلامه أنّه يخلق النطفة فيجعلها عَلَقة، و العلقة مُضغة إلى آخر الأطوار التي تتعاقبها حتى ينشئه خلقاً آخر.
و قيل: المراد بابتلائه امتحانه بالتكليف، و يدفعه تفريع قوله: فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً على الابتلاء؛ و لو كان المراد به التكليف، كان من الواجب تفريعه على جعله سميعاً بصيراً لا بالعكس. و الجواب عنه بأنّ في الكلام تقديماً و تأخيراً، و التقدير: إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج فجعلناه سميعا بصيرا لنبتليه، لا يُصغى إليه».٢
و علينا أن نرى ممّ يحصل اختلاط النطفة؟ ذلك أنّنا نعلم أنّ نطفة الرجل تتكوّن من خلايا مجهريّة تدعى كلّ منها «اسبر ماتوزوئيد»، و هي من الصغر المتناهي بحيث إنّ قطرة واحدة من النطفة تحوي عدّة ملايين من تلك الخلايا الخالية من التركيب. كما نعلم بأن نطفة المرأة تضم خليّة مجهريّة تدعى «اوفل»، و أنّ الإنسان يوجد نتيجة لقاح حاصل بين «أسبرم» واحد مع بويضة «أوفل» واحدة.
كلام الطنطاويّ في تفسير الأمشاج
و قال الطنطاويّ في تفسيره بأنّ المراد بالأمشاج في هذه الآية الموادّ العشر المحسوبة من اصول التغذية.
و يقول: «فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً» ليتمكّن من مشاهدة الدلائل و استماع الآيات و التعقّل و التفكّر، ذلك أنّنا خلقناه من النطفة، و هي تكون في الرجل و تكون في المرأة، فهاتان النطفتان باتّحادهما يتكوّن الجنين. و من أين هاتان النطفتان؟ هاتان النطفتان مخلوقتان من عناصر مختلفة، و تلك العناصر آتية من النبات و الحيوان الداخلين في طعام الآباء و الامّهات، و من الماء الذي يشربونه، و الأملاح التي يتعاطونها، و جميع الموادّ التي دخلت في اصول التغذية من الطعام و الشراب عشرة، و هي.
الاوكسجين و الهيدروجين و الكربون و الأوزوت و الكبريت و الفسفور و البوتاسيوم و المغنيسيوم و الكالسيوم و الحديد. فهذه هي العشرة التي تدخل في كلّ نبات، و من بابٍ أولى في كلّ حيوان، لأنّها طعامه، و في كلّ إنسان. فالنطفة إذاً مكوّنة من هذه الأمشاج العشرة، فهي أخلاط كوّنت و مُزجت و صارت دماً فنطفة فعلقة ... إلى آخره.۱
و يقول: اللطيفة الاولى في قوله تعالى «إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ
أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً» يقول الله: إنّ الإنسان مخلوق من نطفة، و النطفة مكوّنة من أمشاج، و ما الأمشاج في الإنسان إلّا الاوكسجين و الهيدروجين و الكربون و الأوزوت و الكبريت و الفوسفور و البوتاسيوم و المغنيسيوم و الكالسيوم و الحديد.
فهذه هي الأمشاج و الأخلاط التي كُوِّن منها الإنسان، و الإنسان يتولّد فيه النطفة، و النطفة يتكوّن منها إنسان جديد، فهذا الإنسان مبدؤه من الحديد و الفسفور و الكبريت ... إلى آخره».۱
بَيدَ أنّ كلام الطنطاويّ لا يستند إلى دليل، مضافاً إلى أنّ لفظة أمشاج قد وردت في الآية المذكورة صفةً لـ «نطفة»، لا أن تكون الأمشاج هي أصل النطفة و منشأ تكوّنها.
و احتمل البعض أن يكون الكروموسوم هو عامل الوراثة و الشخصيّة،٢ أي أنّ مركز شخصيّة الإنسان و محلّ تجمّع صفاته هي هذه الألياف الخاصّة المعدودة التي يبلغ عددها في الإنسان ستّة و أربعين كروموسوماً، و هي موجودة بهذا العدد في كلّ خليّة من خلايا البدن، عدا البويضة و السبيرم، حيث يبلغ عددها فيهما ثلاثة و عشرين كروموسوماً،
منها اثنان و عشرون كروموسوماً اتوزوم (غير جنسيّ) و كروموسوماً واحداً جنسيّاً. و يمكن مشاهدة هذه الكروموسومات بعد التلقيح و بداية حركة النطفة.
و على كلّ حال، فإنّ هذا الأمر يعدّ من الأسرار العجيبة، بل من أعجب أسرار الخلقة، حيث تُوضع جميع شخصيّة الإنسان و صفاته الذاتيّة و زيادة أعضائه و أجزائه - مع حفظ وحدته - على عاتق خليّة واحدة فقط.
و إذا كانت هذه الخليّة بسيطة بتمام معنى الكلمة، فكيف رُكِّز هذا البحر الخضمّ من الصفات و الأخلاق و الملكات، بل من الأعضاء و الأجزاء المختلفة العمل و المتفاوتة الفعل في خليّة واحدة؟!
و تعدّ قوانين الوراثة و المشاهدات التي انجزت على النطفة و الخلايا الجنسيّة للرجل و المرأة (السبيرم و البويضة) شاهداً بيّناً و دليلًا بارزاً على تمركز الشخصيّة و تلخّصها في خليّة واحدة.
كما تُشير التجارب و المعلومات العامّة التي نمتكلها إلى حقيقة مُذهلة، و هي أنّ عدداً لا يُحصى من صفات و خصال الأب و الامّ تتكرر في أولادهما و أحفادهما، حتى الخطوط الدقيقة في الوجه، و كيفيّة تحريك اليدين، و الأعين، و دقائق عادات الأبوين، دون أن يكون للتأثيرات الخارجيّة كالتعليم و التربية - في كثير من الحالات - دخلًا في هذا الأمر.
و ليست الواسطة الفاعلة في هذا الفضاء الفسيح المترامي من الكثرات، و في هذا البحر الخضمّ الزاخر من الاختلافات المرئيّة، إلّا خليّة واحدة متناهية في الصغر.
و يعتقد أغلب علماء الوراثة أنّ عامل هذه الصفات الوراثيّة إنّما هي الكروموسومات الموجودة في الخلايا الجنسيّة، التي دخلت في النطفة بالمناصفة؛ و يعتقدون أنّ جميع الآثار الوراثيّة ناجمة من كيفية التقاء هذه
الكروموسومات و ازدواجها و انقسام أنصاف الكروموسومات مجدّداً، حيث إنّ كلّ نصف منها قابل للقسمة من جديد.
أمّا بعض محقّقي علوم الحياة من أمثال إيتين رابوك، فلا يعتبرون الكروموسوم عاملًا للوراثة، و يقولون. إنّ الشخصيّة و الوراثة ليسا معلولين لأثر خارجيّ خفيّ، أو لفعل داخليّ قائم على عوامل عائدة إلى الكروموسوم؛ بل إنّ العنصر المكوِّن للخليّة من ذكر و انثى - أي السايتوبلازم - و النواة التي يتكوَّن كلّ منهما من أخلاط رقيقة ممتزجة من التراكيب الشبيهة بالعجين، و التي تشكّل محيط الخليّة أو مادّتها الحيويّة، و تلك الأخلاط الممتزجة المبهمة غير المشخّصة هي التي تتدخّل في بروز الصفات و في تشكيل الشخصيّة الموجودة.
و ينبغي العلم طبعاً بأنّ الآثار الحيويّة و الفعّاليّة الخارجيّة لخليّة حيّة واحدة ليست آثاراً ناجمة من فعل بعض هذه العناصر بصورة مستقلّة، بحيث إنّ الوظائف قد قُسِّمت فيما بينها كلٌّ حسب نسبته، بل إنّ كلّ عنصر من هذه العناصر يؤثّر - في كلّ لحظة - على جميع العناصر الاخرى، و يتأثّر بدوره بسائر تلك العناصر، فتكون خلاصة فعل و انفعال كلّ عنصر من العناصر على بعضها الآخر و على المحيط الخارجيّ هي عمل الخليّة في الخارج.
كما أنّ وضع موجود متعدّد الخلايا، و وضع جميع النباتات و الحيوانات و أفراد البشر أشبه بوضع الخليّة الواحدة، حيث إنّ جميع العناصر الداخلة في تكوين الخليّة أو الموجود تشترك في الأفعال الحيويّة لتلك الخليّة أو الموجود، كما يوجد في بدن الموجود الحيّ تعاون منظّم و كامل بين جميع الأنسجة في ذلك الموجود، بحيث إنّ جميع الأجزاء تشترك و تتدخّل في كلّ عمل يبدر من ذلك الموجود. كما أنّ أي أثر و فعل
يُوجَّه إلى موجود حيّ سيؤثّر على جميع أعضاء و أجزاء ذلك الموجود.
و هذه الكيفيّة لاختلاط السايتوبلازم و النواة و امتزاجهما بحيث تكون منبعاً لمثل هذا التكاثر هي التي دُعيت في القرآن الكريم بالأمشاج، التي تُبيِّن حال النطفة و هيأتها.
الخلاصة: يبدو أنّ تحقيق هذه الطائفة القليلة من محقّقي علوم الحياة أقرب إلى النظر؛ و العلم عند الله.
تصريح الآية القرآنية بالحركة الجوهرية التي يقول بها صدر
أمّا في شأن الآية الثانية الدالّة بصراحة - على أساس الحركة في الجوهر - على كون النفس جسمانيّة الحدوث، و روحانيّة البقاء، فسنقوم ببحثها بصورة إجماليّة:
وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ، ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ ، ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ.۱
يقول الله تعالى في هذه الآيات. لقد خلقنا الإنسان من طين خالص. و من هنا فإنّ الطين هو أصل خلقة الإنسان، و معلوم أنّ الطين جسم، فحدوث الإنسان - إذاً - قد شرع من الطين و هو جسم.
ثمّ إنّنا بعد خلق الإنسان من طين، جعلنا ذلك الإنسان الطينى نُطفة. و يلاحظ هنا أنّه قد تحوّل إلى جسم أيضاً، إذ إنّ النطفة جسم. أي أنّ جسماً قد تبدّل في هذه المرحلة إلى جسم آخر.
ثمّ إنّنا جعلنا النطفة علقةً، و في هذه المرحلة أيضاً تبدَّل جسمٌ إلى جسمٍ آخر.
ثمّ إنّنا جعلنا العلقة مُضغة من اللحم. و هنا أيضاً حصل تبدّل جسم إلى
جسم آخر.
ثمّ جعلنا تلك المُضغة عظاماً. و تتكرّر هنا مقولة تبدّل جسم إلى جسم آخر.
ثمّ إنّ الله كسى العظام لحماً، فقال: ثمّ أنشأنا الإنسان خلقاً آخر. أي أنّنا جعلنا هذا الإنسان الجسميّ روحانيّاً، فتبدّلت حقيقة هذه الأجسام المادّيّة إلى نفس إنسانيّة ناطقة.
فالمادّة إذاً تُزاح جانباً في ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ، و تتبدّل تلك المادّة إلى نفس مجرّدة. و يحصل هذا التغيّر بواسطة الحركة الجوهريّة فقط، حيث تحرّك جوهر سلالة الطين فصار نطفةً، ثمّ تحرّكت النطفة في جوهرها فأضحت علقةً، ثمّ تحرّكت العلقة في جوهرها فغدت مُضغة، ثمّ تحرّكت المغضة في جوهرها فاستحالت عظاماً، ثمّ إنّ العظام المكسوّة باللحم تحرّكت في ذاتها و جوهرها فصارت نفساً ناطقة و روحاً آدميّة. و في جميع هذه المراحل كانت هناك حركة الجوهر في المادّة، و ها هي المادّة قد تحرّكت فبلغت مرحلة التجرّد و مرحلة الروح.
و لقد عمد صدر المتألّهين الشيرازيّ، الفيلسوف و النابغة الذي دافع عن حِمى القرآن و الفلسفة القرآنيّة منذ أربعمائة سنة و إلى يومنا هذا، و الذي تصاغر أمامه أساطين الفكر، إلى الاستعانة بهذا البحر القرآنيّ العميق نظير هذه الآية التي كانت مدار بحثنا الحالي، فدحض فلسفة اليونان و المشّائين، و أبدع من بنات أفكاره فلسفة قائمة على أساس التعقّل و الإشراق و الشرع الأنور المقدّس.
و لقد أثبت في كتابه الرفيع «الأسفار». النَّفْسُ جِسْمَانِيَّة الحُدُوثِ وَ رُوحَانِيَّةِ البَقَاءِ.
و سار الحكيم الجليل المفكّر، التلميذ المبرّز لمدرسة صدر المتألّهين
الحكيم السبزواريّ، على هذا النهج، فقال:
النَّفْسُ في الحُدُوثِ جِسْمَانِيَّة | *** | وَ في البَقَا تَكُونُ رُوحَانِيَّة |
و تبعاً لهذا الأساس، قال العطّار:
تن ز جان نبود جدا، عضوى از وست | *** | جان ز كُلّ نبود جدا، جزوى از وست۱ |
و من هنا فإنّ ما يُستنتج من هذه الآية الكريمة، أنّ ما قاله الحكماء القدماء من. إنّ الإنسان اذا وُجد، فإنّ وجوده الجنينيّ يتحقّق في الوهلة الاولى، إلى أن يصل إلى الحدّ الذي يصبح فيه مستعدّاً لولوج الروح، فيوجد الله تعالى النفس حينذاك بلا تأخير، فيجعلها تتعلّق بالمادّة من العالم العلويّ المجرّد؛ هو مقولة تخالف مضمون الآية المباركة السالفة الذكر.
لقد كان القدماء يقولون. إنّ الإنسان مركّب من روح و بدن؛ أمّا الآية المباركة فلا تدلّ على «التركيب»، بل تُصرِّح بـ «التبديل».
و يكفي في عظمة القرآن و جلاله أنّ فلاسفةً - من أمثال ابن سينا الذين حلّقوا في سماء الفكر - لم يُدركوا هذه النكتة، فكانوا يقتفون في مؤلّفاتهم إلى ما قبل ألف سنة أثر القدماء القائلين بتركيب الإنسان من روح و بدن، حتى أزاح هذا الفيلسوف الشيرازيّ الستار عن سرّ القرآن، و برهن على الحركة الجوهريّة بأدلّة جليّة متينة اعتماداً على هذه الآية الهادية البليغة.
يقول الشيخ الرئيس ابن سينا في مطلع قصيدته المشهورة بالقصيدة العينيّة الورقائيّة:
هَبَطَتْ إلَيْكَ مِنَ المَحَلِّ الأرْفَعِ | *** | وَرْقَاءُ ذَاتُ تَعَزُّزٍ وَ تَمَنُّعِ |
مَحْجُوبَةٌ عَنْ كُلِّ مُقْلَةِ عَارِفٍ | *** | وَ هْيَ التي سَفَرَتْ وَ لَمْ تَتَبَرْقَعِ۱ |
خلق الله تعالى جميع الموجودات أزواجاً
و من الآيات القرآنيّة الكريمة التي تدعو إلى الالتفات إلى الموجودات الآفاقيّة، و التي ينبغي - حقّاً أن تُعدّ من معجزات القرآن، الآية التالية: وَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ.٢
حيث إنّ هذه الآية صريحة في أنّ الله تعالى خلق من كلّ شيء زوجين اثنين، و أنّه تعالى لم يخلق شيئاً فرداً لا زوج له.
و يستنتج من عموميّة هذه الآية أنّ أمر خلق الزوجَين لا يختصّ بالإنسان و الحيوانات، بل يتعدّى ذلك إلى النباتات و الجمادات. و هو أمر يبدو مشكلًا في النظر العاديّ السطحيّ، إذ ليس هناك من معنى لوجود زوجين في المطر و الثلج و الغيوم و الصاعقة و الريح و الحجر و الطين اليابس و الجواهر المعدنيّة.
و لهذا فقد اكتفى بعض المفسّرين بالآية الواقعة في سورة يس التي تقول بأنّ الله تعالى خلق أزواجاً ممّا لا تعلمون:
سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَ مِمَّا لا يَعْلَمُونَ.٣
و باعتبار أنّ هؤلاء المفسّرين عدّوا معنى الزوجين الذَّكَر و الانثى، لذا فقد قالوا بوجود زوجين في الإنسان من ذكر و انثى «وَ مِن أنْفُسِهِمْ» و بوجود زوجين في الحيوانات، و في النباتات على أكثر تقدير، سواء في ذلك الأشجار أو الأعشاب؛ و استشهدوا على وجود ذكر و انثى في جميع النباتات بالآية المباركة: وَ أَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ؛۱ حيث تعمل الرياح على نقل غبار الطلع من أزهار الأشجار الذكور و نشره في الفضاء، و إيصاله إلى الأشجار الإناث، فيحصل بذلك تلقيح تلك الأشجار و إثمارها.
و أفضل مثال لذلك هو شجرة النخيل، التي ما لم تلقّح بطلع النخل «طَلْحٍ مَّنضُودٍ» فإنّها لن تُثمر.
أمّا معنى الزوج، فليس الذكر و الانثى؛ كما أنّ معنى الزوجين ليس مجموع الذكر و الانثى، بل الزوج بمعنى القرين المقابل. فكلّ ما يقع زوجاً لشيء، كالحصان المربوط إلى عربة النقل، و كفّة الميزان، و زجاجة النظّارات و أمثال ذلك يُدعى زوجاً، كما يُدعى كلاهما زوجين. و هذا هو المعنى الحقيقيّ للزوج؛ و إذا ما استُعمل أحياناً بمعنى الذكر و الانثى، فبملاحظة حقيقة كونهما زوجاً، لأنّ كلّا من الذكر و الانثى، أو الرجل و المرأة هو عِدْل للآخر.
تفسيرآية: وَ مِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ
أمّا و قد ثبت أمر وجود زوجين في جميع ذرّات عالم المادّة، فإنّ معنى الآية الكريمة الشريفة: وَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ، سيتّضح جليّاً.
و بيان ذلك أنّ هناك في كلّ ذرّة من الذرّات نواة مجهريّة ذات شحنة كهربائيّة موجبة و تدعى «بروتون»، و في أطرافها مجموعة من الإلكترونات
الدوّارة ذات شحنة كهربائيّة سالبة. و باعتبار تساوي شحنة جميع الإلكترونات مع شحنة النواة، فإنّ الذرّة ستبقى في موضعها، لأنّ الشحنتين الموجبتين و الشحنتين السالبتين التي تشترك في الجنس تتنافر مع بعضها و تبتعد عن بعضها بتعجيل معيّن. أمّا الشحنة الموجبة المختلفة في الجنس مع الشحنة السالبة فتقترب منها لحصول التجاذب بينهما. و هذا العمل مشهود في تجارب الكرات المعلّقة ذات الشحنات الموجبة و السالبة.
و بناءً على هذا فإنّ هناك قوى جذب و طرد في جميع الموجودات، حتى في الشمس و السيّارات، و هذه الحركات المنظّمة قائمة على أساس هذا الجذب و الطرد بين القوي اللذين أوجدا الزوجيّة فيها.
و أوّل مَن أزاح الستار عن هذا السّر القرآنيّ، و أسفر للبشريّة عن جماله الذي يشغف القلوب هو أميرالمؤمنين عليه السلام الذي أورد خطبة غرّاء بديعة في إثبات التوحيد، تحدّث فيها عن التجاذب و التنافر، و تآلف الأشياء و تفرّقها؛ و استند فيها على هذه الآية المباركة.
روى الشيخ الكلينيّ في كتاب «الكافي» عن محمّد بن أبي عبد الله مرفوعاً، عن أبي عبد الله عليه السلام خطبةً مفصّلة لأميرالمؤمنين عليه السلام يقول فيها:
ضَادَّ النُّورَ بِالظُّلْمَةِ، وَ اليَبَسَ بِالبَلَلِ، وَ الخَشِنَ بِاللِّينِ، وَ الصَّرْدَ بِالحَرُورِ؛ مُؤَلِّفٌ بَيْنَ مُتَعَادِيَاتِهَا، وَ مُفَرِّقٌ بَيْنَ مُتَدَانِيَاتِهَا؛ دَالَّةً بِتَفْرِيقِهَا على مُفَرِّقِهَا، وَ بِتَألِيفِهَا على مُؤَلِّفِهَا؛ وَ ذَلِكَ قَوْلُهُ تعالى: «وَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ».۱
و في هذه الخطبة الشريفة إشارة إلى أنّ جميع الموجودات لها حالتا
تضادّ.
فهي متآلفة حال افتراقها و تعاديها، و مفترقة حال اتّحادها و ائتلافها؛ و هذا هو المراد من الزوجيّة الواردة في الآية الكريمة. أي أنّ المراد و المقصود من كلمة زَوْجَيْن هو التعادي و التآلف الموجود في كلّ ذرّة، وصولًا إلى السماوات و المنظومة الشمسيّة و المجرّات.
تدور الإلكترونات حول النواة المركزيّة التي تضمّ البروتونات؛ فتكون النواة بمنزلة زوج، و الإلكترونات الدائرة الزوج الآخر؛ و تركيب الأجسام إنّما يحصل من هذه الأزواج. و نظم و ترتيب و حركة جميع المنظومة الشمسيّة قائم على هذا الأساس.
فهي في حال تآلفها، دالّة بالافتراق الحاصل بينها على الله المفرّق بينها، لأنّ التآلف إن كان طبيعةً لها، لما حصل بينها تنافر و افتراق، فـ الطَّبِيعَةُ لَا تَتَغَيَّرُ وَ لَا تَتَثَنَّي.
و هي حال افتراقها، دالّة بالتآلف بينها على الله تعالى المؤلّف بنفس الدليل، و لذلك فإنّ الله سبحانه هُوَ المُؤَلِّفُ وَ المُفَرِّقُ.
و لقد ترنّم ثامن الحجج عليّ بن موسى الرضا عليه السلام بهذه العبارات، و استشهد بهذه الآية في خطبة أنشأها في حضور المأمون.
يروي الشيخ الصدوق في كتابه «التوحيد» بسنده المتّصل عن محمّد ابن يحيي بن عمر بن عليّ بن أبي طالب عليه السلام، قال: سمعتُ أبا الحسن الرضا عليه السلام يتكلّم بهذا الكلام عند المأمون في التوحيد.
قال ابن أبي زياد. و رواه لي أيضاً أحمد بن عبد الله العلويّ مولى لهم و خالًا لبعضهم عن القاسم بن أيّوب العلويّ أنّ المأمون لمّا أراد أن يستعمل الرضا عليه السلام على هذا الأمر، جمع بني هاشم فقال: إنّي اريد أن
أستعمل الرضا على هذا الأمر من بعدي، فحسده بنو هاشم۱ و قالوا. أتولّى رجلًا جاهلًا ليس له بصر بتدبير الخلافة؟! فابعثْ إليه رجلًا يأتنا فنرى من جهله ما يُستدلّ به عليه، فبعث إليه فأتاه، فقال له بنو هاشم. يا أبا الحسن! اصعد المنبر و انصِبْ لنا عَلَماً نعبد الله عليه! فصعد عليه السلام المنبَر، فقعد مليّاً لا يتكلّم مُطرقاً، ثمّ انتفض انتفاضةً و استوى قائماً، و حمد الله و أثنى عليه و صلّى على نبيّه و أهل بيته.
[ثمّ أورد خطبة مفصّلة جمعت أسرار التوحيد و عجائب أدلّة الحضرة الأحديّة، غدت حقّاً جوهرة متلألئة في كتاب التوحيد، و كان أوّل كلامه، قوله:]
أوَّلُ عِبَادَةِ اللهِ مَعْرِفَتُهُ؛ وَ أصْلُ مَعْرِفَةِ اللهِ تَوْحِيدُهُ؛ وَ نِظَامُ تَوْحِيدِ اللهِ نَفْيُ الصِّفَاتِ عَنْهُ.
حتّى يصل إلى هذه الجملات: وَ بِمُقَارَنَتِهِ بَيْنَ الامُورِ عُرِفَ أنْ لَا قَرِينَ لَهُ. ضَادَّ النُّورَ بِالظُّلْمَةِ، وَ الجِلَايَةَ بِالبُهْمِ، وَ الجَسْوَ بِالبَلَلِ، وَ الصَّرْدَ بِالحَرُورِ.
مُؤَلِّفٌ بَيْنَ مُتَعَادِيَاتِهَا، مُفَرِّقٌ بَيْنَ مُتَدَانِيَاتِهَا، دَالَّةً بِتَفْرِيقِهَا على مُفَرِّقِهَا، وَ بِتَألِيفِهَا على مُؤَلِّفِهَا؛ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ:
«وَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ»٢ - (الخطبة).
معني «زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ» في «وَ مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ»
و ينبغي العلم أنّ «زوجين» الواردة في الآية مورد البحث، هي غير
«زوجين» الواردة في سورة الرعد:
وَ هُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَ جَعَلَ فِيها رَواسِيَ وَ أَنْهاراً وَ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ.۱
قال سماحة الاستاذ قدّس الله سرّه في تفسير زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ في هذه الآية:
أي: و من جميع الثمرات الممكنة الكينونة، جعل في الأرض أنواعاً متخالفة، نوعاً يُخالف آخر، كالصيفي و الشتوي، و الحلو و غيره، و الرطب و اليابس. هذا هو المعروف في تفسير «زوجين اثنين»؛ فالمراد بالزوجين. الصنف يخالفه صنفٌ آخر، سواء كانا صنفَين لا ثالث لهما أم لا، نظير ما تأتي فيه التثنية للتكرير، كقوله تعالى: ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ،٢ اريد به الرجوع كرّةً بعد كرّة و إن بلغ من الكثرة ما بلغ.
ثمّ قال: و قال في «تفسير الجواهر» في قوله زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ: جعل فيها من كلّ أصناف الثمرات زوجين اثنين ذكر و انثى في أزهارها عند تكوّنها، فقد أظهر الكشف الحديث أنّ كلّ شجر و زرع لا يتولّد ثمره و حبّه إلّا من بين اثنين ذكر و انثى. فعضو الذكر قد يكون مع عضو الانثى في شجرةٍ واحدة كأغلب الأشجار، و قد يكون عضو الذكر في شجرة و الآخر في شجرة اخرى كالنخل، و ما كان العضوان فيه في شجرة واحدة إمّا أن يكونا معاً في زهرةٍ واحدة، و إمّا أن يكون كلّ منهما في زهرة وحده، و الثاني كالقرع، و الأوّل كشجرة القطن، فإنّ عضو التذكير مع عضو التأنيث في
زهرة واحدة. ثمّ يردّ الاستاذ على هذا الكلام فيقول:
و ما ذكره و إن كان من الحقائق العلميّة التي لا غبار عليها، إلّا أنّ ظاهر الآية الكريمة لا يساعد عليه، فإنّ ظاهرها أنّ نفس الثمرات زوجان اثنان، لا أنّها مخلوقة من زوجين اثنين، و لو كان المراد ذلك لكان الأنسب به أن يقال: وَ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ
ثمّ قال: نعم، لا بأس أن يستفاد ذلك من مثل قوله تعالى:
سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ.۱
و قوله: وَ أَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ.٢
و قوله: وَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ.٣
يقول الحقير: استفادة معنى الذكر و الانثى من الآيتين الاولتين استفادة جيّدة، أمّا في الآية الأخيرة التي كانت مورد بحثنا، و التي شاهدنا عموميّتها من قوله تعالى وَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، فإنّ حصر ذلك في النباتات و الأشجار أمر غير مناسب، و على الأخصّ مع الروايتين الرفيعتي المضمون اللتين عمّمتا ذلك لكلّ شيء من الموجودات المادّيّة و الطبيعيّة، حيث انتفى معهما كلّ شبهة و إشكال.
إخبار القرآن باتّصال الكواكب السيّارة مع الكرة الأرضية قبل انفصالها
وإحدى الآيات القرآنيّة المعجزة هي الإخبار عن الاتّصال و الاتّحاد بين الكرات السماويّة في المنظومة الشمسيّة، و أنّها كانت قبل نشوء الشمس و السيّارات و الأرض بهذه الكيفيّة متّحدة بأجمعها، ثمّ إنّ الله تعالى
فتقها و فصل بينها على صورتها الفعليّة المشهودة. و هذه الآية الكريمة في سورة الأنبياء:
أَ وَ لَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما وَ جَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَ فَلا يُؤْمِنُونَ.۱
و لو ضممنا هذه الآية إلى آية سورة فصّلت: ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَ هِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَ لِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ.٢
و على الأخصّ إذا أضفنا إليهما الآية الكريمة في سورة الرعد: اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ وَ سَخَّرَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ.٣
فسيتّضح أمر اتّصال هذه الثوابت و السيّارات في منظومتنا الشمسيّة المشهودة مع الشمس و الأرض قبل زمن انفصالها، أي حين كانت في هيئة كرة ناريّة، ثمّ إنّ الله تعالى فتقها و جزّأها و جعلها في هيأتها الحاليّة في مدارات دقيقة قويمة بواسطة قوّة الجاذبيّة (التجاذب و التنافر) في حركة وضعيّة و انتقاليّة.
إخبار القرآن و «نهج البلاغة» عن فرضية لابلاس و نيوتن و كبلر
و جميع هذه الامور هي ممّا أخبر عنه القرآن الكريم إخباراً معجزاً، فقد أعلن بصراحة عن هذه الامور الحقيقيّة الغيبيّة في عصر لم يكن أحد فيه قد تحدّث عن كون الكرات السماويّة من دخان و نار، و عن اتّصالها جميعاً طبق فرضيّة لابلاس، و عن تجاذبها طبق كشف إسحاق نيوتن،
و عن حركتها الصحيحة دونما تخلّف على أساس قانون كِبْلِر.
قال الشيخ الطبرسيّ في «مجمع البيان» في ذيل آية ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَ هِيَ دُخانٌ «أي: ثمّ قصد إلى خلق السماء و كانت السماء دخاناً.»۱ و قال الفخر الرازيّ في «مفاتيح الغيب» في ذيل هذه الآية.
«ذكر صاحب «الأثر» أنّه كان عرش الله على الماء قبل خلق السماوات و الأرض، فأحدث الله في ذلك الماء سخونةً فارتفع زبد و دخان، أمّا الزبد فبقي على وجه الماء فخلق الله منه اليبوسة و أحدث منه الأرض؛ و أمّا الدخان فارتفع و علا، فخلق الله منه السماوات».٢
و يقول أميرالمؤمنين عليه السلام في «نهج البلاغة»:
وَ كَانَ مِن اقْتِدَارِ جَبَرُوتِهِ وَ بَدِيعِ لَطَائفِ صَنْعَتِهِ أنْ جَعَلَ مِنْ مَاءِ البَحْرِ الزَّاخِرِ المُتَرَاكِمِ المُتَقَاصِفِ يَبَساً جَامِداً، ثُمَّ فَطَرَ مِنْهُ أطْبَاقاً فَفَتَقَهَا سَبْعَ سَمَاوَاتٍ بَعْدَ ارْتِتَاقِهَا، فَاسْتَمْسَكَتْ بَأمْرِهِ وَ قَامَتْ على حَدِّهِ.٣
و نشاهد في هذه الجُمل المعدودة للإمام عليه السلام ثلاث فرضيّات إلى لابلاس و نيوتن و كبلر:
فرضيّة لابْلاس٤ في عبارة: فَفَتَقَهَا سَبْعَ سَمَاوَاتٍ بَعْدَ ارْتِتَاقِهَا.
فرضيّة نيوتن۱ في عبارة: فَاسْتَمْسَكَتْ بِأمْرِهِ.
و فرضيّة كبلر٢ في عبارة: وَ قَامَتْ على حَدِّهِ.
وتعرف فرضيّة لابلاس في علم التنجيم و الهيئة بـ فرض لابلاس.
يقول: «إنّ تشابه الحركة الوضعيّة و الانتقاليّة لأجزاء المنظومة الشمسيّة مع بعضها و خروجها من مركز السيّارات ليس قائماً على أساس الصدفة، بل ينبغي البحث عن العلّة الاولى لهذا التشابه و الاختلاف».
ثمّ إنّه يشرح فرضيّته على النحو التالي:
«لقد كانت المنظومة الشمسيّة في بداية أمرها كوكباً سحابيّاً كبيراً يمتدّ إلى مدار النبتون، ثمّ إنّه فقد حرارته الخارقة تدريجيّاً، فوُجِدَتْ كرات ذات أبعاد مختلفة إثر الضغط و التراكم، و بقيت الشمس - و هي المركز الحقيقيّ الذي كان جزءاً من المنظومة - على هيئة كرة منفصلة على حدة».٣
و ذكر أيضاً في بيان فرضيّته: «أنّ كرات المنظومة الشمسيّة هي قطع قد انفصلت عن الشمس إثر قربها و ارتطامها بنجم آخر».۱
و بطبيعة الحال، فإنّ جميع هذه الفرضيّات - في حال تحقّقها - عائدة إلى أمر الله العليم و إرادته و علمه و حُكمه، و ليس إلى الصدفة التي يظنّها الطبيعيّون، إذ قيل:
«يقول كورسي موريسون في ص ۱۰ من كتاب «راز آفرينش انسان» (= سرّ خلقة الإنسان) [ترجمة السيّد محمّد السعيديّ]: «يعتقد بعض المنجّمين أنّ احتمال تقارب نجمين إلى بعضهما إلى الحدود التي تجعل قوّة الجاذبيّة بينهما مؤثّرةً بحيث تجذبهما إلى بعضهما هو بنسبة واحد من عدّة ملايين.
أمّا احتمال اصطدام نجمَين مع بعضهما بحيث يتلاشيان فهو احتمال نادر إلى درجة يخرج معها من سعة قدرة المحاسبة».
فيتّضح إذاً - فيما لو قبلنا بهذه الفرضيّة-: أنّ الأرض هي قطعة قد انفصلت عن الشمس إثر الاصطدام، و علينا أن نفترض أنّ هناك تعمّداً في حصول ذلك الاصطدام، و أنّ هناك هدفاً خاصّاً من ذلك العمل، و هو نشوء الحياة، ثمّ الحيوان ثمّ الإنسان، بعنوان الهدف الأصليّ لمخلوقات الأرض».٢
كلام سماحة العلّامة في كيفيّة انفصال الأجرام بعد أن كانت متّصلة
قال سماحة الاستاذ قدّس الله نفسه في تفسير الآية السالفة الذكر أ و لم
ير الذين كفروا: «المراد بالرؤيةِ العِلمُ الفكريّ، و إنّما عبّر بالرؤية لظهوره من حيث إنّه نتيجة التفكير في أمرٍ محسوس.
و الرتق و الفتق معنيان متقابلان، قال الراغب في «المفردات»: الرَّتْق الضمّ و الالتحام خلقةً كان أم صنعة، قال تعالى: كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما. و قال: الفَتْق الفصل بين المتّصلَينِ، و هو ضدّ الرتق - انتهى.
و ضمير التثنية في كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما للسماوات و الأرض، بعدّ السماوات طائفة و الأرض طائفة، فهما طائفتان اثنتان، و مجيء الخبر - أعني رتقاً - مفرداً لكونه مصدراً و إن كان بمعنى المفعول؛ و المعنى: كانت هاتان الطائفتان منضمّتَينِ متّصلتَينِ ففصلناهما.
[و] المراد بـ الَّذِينَ كَفَرُوا - بمقتضى السياق ـ هـم الوثنيون، حيث يفرقون بين الخلق والتدبير بنسبة الخلق إلى الله سبحانه والتدبير إلى الآلهة من دونه؛ وقد بين خطأهم في هذه التفرقة بعطف نظرهم إلى ما لا يُرتاب فيه من فتق السماوات والأرض بعد رتقهما، فإن في ذلك خلقاً غير منفك عن التدبير، فكيف يمكن قيام خلقهما بواحد وقيام تدبيرهما بآخرین ؟!
لا نزال نشاهد انفصال المركبات الأرضيّة والجوية بعضهما من بعض، وانفصال أنواع النباتات من الأرض، والحـيـوان مــن الحـيـوان، والإنسان من الإنسان، وظهور المنفصل بالانفصال في صورة جديدة لها آثار وخواص جديدة، بعد ما كان متصلاً بأصله الذي انفصل منه غير متميز الوجود ولا ظاهر الأثر ولا بارز الحكم، فقد كانت هذه الفعليات محفوظة الوجود في القوة مودعة الذوات في المادة رتقاً من غير فتق، حتّى فتقت بعد الرتق وظهرت بفعليّة ذواتها و آثارها.
والسماوات والأرض بأجرامها حالها حال أفراد الأنواع التي ذكرناها، وهذه الأجرام العلوية والأرض التي نحن عليها، وإن لم تسمح لنا أعمارنا
على قصرها أن نشاهد منها ما نشاهده في الكينونات الجزئية التي ذكرناها، فنرى بدء كينونتها أو انهدام وجودها، لكن المادة هي المادة، وأحكامها هي أحكامها، والقوانين الجارية فيها لا تختلف ولا تتخلّف.
فتکرار انفصال جزئيات المركبات والمواليد من الأرض ونظير ذلك في الجو يدلنا على يوم كانت الجميع فيه رتقاً منضمة غير منفصلة مـن الأرض. وكذا يهدينا إلى مرحلة لم يكن فيها ميّز بين السماء والأرض: وكانت الجميع رتقاً ففتقها الله تحت تدبير منظم متقن ظهر به كل منها على ما له من فعلية الذات وآثارها.
فهذا ما يُعطيه النظر الساذج في كينونة هذا العالم المشهود بأجزائها العلوية والسفلية كينونة ممزوجة بالتدبير، مقارنة للنظام الجاري في الجميع، وقد قربت الأبحاث العلمية الحديثة هذه النظرة، حيث أوضحت أن الأجرام التي تحت الحش مؤلّفة من عناصر معدودة مشتركة، ولكـلّ منها بقاء محدود وعمر مؤجّل وإن اختلفت بالطول والقصر»۱.
وقال الشيخ الطنطاوي في تفسيره، في ذيل الآية المباركة: أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَهُمَا: ها أنت ذا قد اطلعت على ما أبرزه القرآن قبل مئات السنين من أن السماوات والأرض، أي الشمس والكواكب وما هي فيه من العوالم، كانت ملتحمة ففصلها الله تعالى. وقلنا إنّ هذه معجزة، لأن هذا العلم لم يعرفه الناس إلا في هذه العصور. ألا ترى أن كثيراً من المفسرين قالوا إن الكفار في ذلك الوقت ليس لديهم هذا العلم، فكان جوابهم على ذلك أنهم أخبروا.. به في نفس هذه الآية، فكأن الآية تستدلّ عليهم بنفس ما نزلت به، وذلك
أن هذه الأمور لم تخلق. وقد أخذ العلماء يؤلون تأويلات شتى لفرط ذكائهم وحرصهم رحمهم الله. وها نحن أولاء نجد هذه العلوم المكنونة.
المخزونة قد أبرزها الله على أيدي الفرنجة كما نطق القـرآن هنا، كأنـه يقول: سَيَرَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاواتِ وَالْأَرْضَ كَانَتْ مَرْتُوقَةٌ فَفَصَلْنَا بَيْنَهُما. فهو وإن ذكرها بلفظ الماضي، فقد قـصـد مـنـه المستقبل، كقوله تعالى: أَتَى أَمْرُ اللهِ.
وهذه معجزة تامة للقرآن، وعجيبة من أعجب ما يسمعه الناس في هذه الحياة الدنيا، ولذلك تجد نفس هذه المسألة أصبحت عقيدة في جميع المدارس شرقاً و غرباً، فإنّهم يقولون للتلميذ إنّ الأرض جزء من الشمس انفصلت منها، و هي تدور حولها.
هذه العلوم أصبحت عقائد للذين كفروا و الذين آمنوا. ها هو ذا ربّنا يقول لنا. لقد فهم الذين كفروا علوماً، فهلّا آمنوا بي، لأنّ هذه العلوم تدلّ على عظمتي و حكمتي و إبداعي و جمالي و إحكامي في العمل، لأنّي هكذا خلقتُ الكائنات و ربّيتها طبقاً عن طبق باعترافهم، و جعلتُ الماء لحياة الحيوان، و الجبال لحفظ الأرض من التموّج و الضياع في الخلاء الذي لا يتناهى.
أيُّهَا العُلَمَاءُ! لَا عِطْرَ بَعْدَ عَرُوسٍ، وَ لَا مَخْبَأ بَعْدَ بوسٍ. قَدْ اعْذِرَ مَنْ أنْذَرَ.۱
هل بعد ما تبيّن لكم الحقّ و رأيتم كيف رضي الله العلوم متى كانت موافقةً للعقل و حثَّ الناس عليها، هل بعد هذا تغضون أنظاركم عن عجائب ربّكم؟ كفى يا امّة الإسلام. أيها الذكيّ القارئ لهذا التفسير! اسمعْ منّي و تأمّل ما أقول.
قرأ رسول الله صلّى الله عليه [و آله] و سلّم قوله تعالى: وَ إِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَ لا تَكْتُمُونَهُ.۱
فقال صلّى الله عليه [و آله] و سلّم: مَا عَلَّمَ اللهُ عَالِماً عِلْماً إلَّا أخَذَ عَلَيْهِ مِنَ المِيثَاقِ مَا أخَذَ على الأنْبِيَاءِ. «لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَ لَا تَكْتُمُونَهُ».
هذا قوله صلّى الله عليه [و آله] و سلّم: «أخذ علينا العهد كما أخذ على الأنبياء».
إن الأنبياء اليوم عند ربّهم، و نحن سكّان الأرض الآن مأخوذةٌ علينا العهود، و العهد تابع لنفس العلم. فأنت أيها الذكيّ مسؤول عن هذه الامّة و عمّن حولك على مقدار طاقتك.
هل في شرعة الإنصاف أن تكون امّة هذا كتابها أجهل الامم به
و بالعلوم التي أنزلها الله؟!
هل من جادّة الحقّ و طريق الصواب أنّ الله يقول:
وَ لَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَ جَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ،۱ و يصبح المخاطبون بهذا القول أجهل الامم بهذه الأرض و بما فيها.
يقول الله: إنّ الأرض التي جعلتُ لكم فيها معايش محلّ شكركم و أنتم لا تشكرون إلّا قليلًا، و لا يكون الشكر إلّا بالتذكّر و التفكّر أوّلًا، و العمل باليد و اللسان ثانياً.
ها أنت ذا عرفتَ و أنت مسؤول بين يدي الله، فلتكن أنت العامل لُامّتك الإسلاميّة. إنّها في حاجةٍ إلى النصير و المعين، فأذع هذا القول و أمثاله ممّا يفتح به عليك ما دُمتَ من الصادقين الموقنين».٢
العلوم الماديّة و الطبيعيّة شريفة و ذات فضل ما أوجبت كمال الإنسان
و ينبغي هنا أن يُقال للطنطاويّ: إنّ أعلى العلوم وفقاً لمنطق العقل و لمضامين الآيات و لسُنّة رسول الله و سيرته و نهجه هو العلم بالنفس، لا العلوم المادّيّة الطبيعيّة. ذلك أنّ العلوم الطبيعيّة ذات قيمة و اعتبار ما دامت مقدّمة للكمال المعنويّ و الخصال الروحيّة الحسنة للإنسان، فإن تجاوزت هذا الحدّ كانت خطرة و مهلكة.
و عبارة قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ في هذه الآية بمعنى عدم الوصول إلى مقام الإنسانيّة كما هو حقّه، و لا تعني قلّة الإفادة من المعادن و الزخارف، أو قلّة الغور في علائق المادّة و آثارها و نتائجها.
أجل، لقد اكتسب الكفّار هذه العلوم الطبيعيّة، و استخدموها في غير رفاه البشريّة، و جعلوها وسيلة لإفساد النفوس و الأموال و الأعراض، و مدعاةً للتسلّط و الهجوم الوحشيّ على المسلمين، فقد صار لزاماً على المسلمين، بل صار من أهمّ واجباتهم، أن يكتسبوا تلك العلوم و يتفوّقوا فيها عليهم، لا لنفاسة تلك العلوم، بل لضرورة قطع أيدي الكفر الخائنة و قطع أيدي المعتدين المتجاوزين و إعلاء كلمة الإسلام و حطّ كلمة الكفر و الزندقة و الإلحاد، إذ الإسْلَامُ يَعْلُو وَ لَا يُعْلَى عَلَيْهِ.۱
لقد أصبح من الضروريّ على المسلمين في عصرنا الحاضر أن يستفيدوا من هذه العلوم بقدر حاجتهم و مقدّمةً لكمالهم و علوّهم و رفعتهم، ليس بحسب الواجب الأوّلى، بل بحسب اقتضاء الضرورة.
تماماً كصاحب دارٍ و مزرعة عزف عن الاستراحة في الغرفة، و عن النوم في ركنٍ آمن منه، و التنفّس من هوائه المنعش اللطيف، و ألى على نفسه أن يقف على سطح الدار ليلًا ليحرسها ممسكاً بالبندقيّة و الرصاص، أو بالخنجر و السكّين، و يبقى خافراً على السطح إلى الصباح ليردّ عنها كيد اللصوص المعتدين، و يمنع عن حرمه أنظارهم الخائنة، و يحرس زوجته و أولاده و أمواله و ناموسه. فهذا العمل ضروريّ من هذا الرجل، إلّا أنّه ليس واجبه الأوّلي أو مطلوبه البدويّ، بل هو أمر اجبر عليه، إذ ليس من عاقل يعدّ الحرب و الدفاع أمراً فطريّاً بدويّاً و مصلحةً أوّليّة في حدّ نفسه.
و كلامنا هنا في منتهى الدقّة، و هو أنّ على المسلمين أن يسعوا على الدوام لتحصيل كمالهم المعنويّ، و ليس لتحصيل العلم الدنيويّ الذي هو
في الحقيقة علم الزريبة و الحظيرة و علم كيفيّة ملء بيت الخلاء و تفريغه؛ و عليهم في الوقت نفسه أن يستفيدوا من الدنيا بقدر ما يكون مقدّمة لهذا الأمر الخطير، و لردع يد التجاوز عن هذا الصراط المستقيم و النهج القويم.
مثلما قال المؤمنون و العلماء و العقلاء في عصر النبيّ موسى على نبيّنا و آله و عليه الصلاة و السلام لقارون المغرور المعتدي:
وَ ابْتَغِ فِيما آتاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَ لا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا وَ أَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَ لا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ.۱
و لا تغترّ بعلمك و لا بمالك الذي اكتسبته بعلمك و فكرك و لا تقلْ: إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي؛٢ فلا معنى إذاً لإحساني إلى الفقراء و لتعييني لهم في هذه الأموال حقّاً معلوماً مفروضاً.
إن القرآن الكريم يدعونا للنظر إلى جميع الموجودات بنظر الوحدة، و أن نعتبرها بأجمعها من أصل واحد، و أن نحصر هذا البحر العظيم الموّاج للكثرات في نفس الماء الصافي الذي لا لون له و لا طعم، و أن نعدّها ناشئةً بأجمعها من منشأ واحد، و أن نعتبر هذه الاختلافات و العجائب و الغرائب و الأشكال و الصور التي نشاهدها في هذا العالم كلّ يوم أمراً منحصراً في إرادة الحيّ القيّوم الذي خلع عليها هذه الأردية المختلفة و ألبسها هذه الخلع المتباينة.
لا حظوا كيف أنّ الله الحكيم يريد أن يهدينا إلى قدرة الواحد، و علم و حكمة الواحد، و إرادة و مشيئة الواحد عن طريق الآيات الآفاقيّة و العلوم
التجريبيّة و الطبيعيّة، و عن طريق مشاهدة كلّ هذه العجائب في عالم الخلقة الشامخ!
و كيف يُرجع جميع هذه الاختلافات و الكثرات إلى مبدأ واحد! و كيف ينبّهنا إلى هذا الأمر الخطير من خلال هذه الآية الكريمة الشريفة:
وَ فِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَ جَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَ زَرْعٌ وَ نَخِيلٌ صِنْوانٌ وَ غَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَ نُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ.۱
و حقّاً إنّه من أعظم عجائب الخلقة، إذ تُسقى الأرض الواحدة بماءٍ واحد، و على الرغم من عدم اختلاف ترابها و موادها المركّبة، لكنّها مع ذلك تنبت شجرة تفّاح، و شجرة كمثرى، و شجرة جوز، و شجرة يقطين، و شجرة عنب، و نخلة، و تنبت نبتة حنطة فتخضّر بسنابل الحنطة، و تنبت كذلك نبتة شعير، و نبتة رزّ، و نبتة عدس، و هذه النباتات المتعددة التي لا تعدّ و لا تُحصى، و أشجار الغابات هذه، و هذه الأزهار المختلفة الألوان ذوات الروائح العطرة المتفاوتة تجعل المزرعة بُستاناً للورد أشبه بجعبة العطّار.
تفسير العلّامة الطباطبائيّ لآية: وَ نُفَضِّلُ بَعْضَهَا على بَعْضٍ في الاكُلِ
يقول سماحة الاستاذ العلّامة في تفسير هذه الآية:
«قال الراغب: الصنو الغصن الخارج عن أصل الشجرة. يقال: هُما صِنْوا نَخْلَةٍ و فُلانٌ صِنْوُ أبِيهِ، و التثنية صِنْوَان، و جمعه صِنْوَان، قال تعالى: «صِنْوانٌ وَ غَيْرُ صِنْوانٍ» انتهى.
و قال: و الاكل لما يؤكل، بضمّ الكاف و سكونه؛ قال تعالى: أُكُلُها دائِمٌ؛ و الأكلة للمرّة، و الاكلة كاللقمة - انتهى.
و المعنى أن من الدليل على أنّ هذا النظام الجاري قائم بتدبير مدبّر وراءه يخضع له الأشياء بطبائعها، و يجريها على ما يشاء و كيف يشاء، أنّ في الأرض قطعاً متجاورات متقاربة بعضها من بعض متشابهة في طبع ترابها، و فيها جنّات من أعناب، و العنب من الثمرات التي تختلف اختلافاً عظيماً في الشكل و اللون و الطعم و المقدار و اللطافة و الجودة و غير ذلك. و فيها زرع مختلف في جنسه و صنفه من القمح و الشعير و غير ذلك، و فيها نخيل صنوان - أي: أمثال نابتة على أصل مشترك فيه - و غير صنوان - أي: متفرّقة - نسقي الجميع من ماء واحد و نفضّل بعضها على بعض بما فيه من المزيّة المطلوبة في شيء من صفاته.
فإن قيل: هذه الاختلافات راجعة إلى طبائعها الخاصّة بكلّ منها، أو العوامل الخارجيّة التي تعمل فيها فتتصرّف في أشكالها و ألوانها و سائر صفاتها على ما تفصّل الأبحاث العلميّة المتعرّضة لشؤونها الشارحة لتفاصيل طبائعها و خواصّها، و العوامل التي تؤثّر في كيفيّة تكوّنها و تتصرّف في صفاتها.
قيل: نعم، لكن ينتقل السؤال حينئذٍ إلى سبب اختلاف هذه الطبائع الداخليّة و العوامل، فما هي العلّة في اختلافها المؤدّية إلى اختلاف الآثار؟ و تنتهي بالأخير إلى المادّة المشتركة بين الكلّ المتشابهة الأجزاء، و مثلها لا يصلح لتعليل هذا الاختلاف المشهود، فليس إلّا أنّ هناك سبباً فوق هذه الأسباب أوجد هذه المادّة المشتركة، ثمّ أوجد فيها من الصور و الآثار ما شاء. و بعبارةٍ اخرى: هناك سبب واحد ذو شعور و إرادة تستند هذه الاختلافات إلى إراداته المختلفة، و لو لاه لم يتميّز شيء من شيء، و لا اختلف في شيء هذا.
و من الواجب على الباحث المتدبّر في هذه الآيات أن يتنبّه أنّ استناد
اختلاف الخلقة إلى اختلاف إرادة الله سبحانه ليس إبطالًا لقانون العلّة و المعلول كما ربّما يتوهّم، فإنّ إرادة الله سبحانه ليست صفة طارئة لذاته كإرادتنا، حتى تتغيّر ذاته بتغيّر الإرادات، بل هذه الإرادات المختلفة صفة فعله و منتزعة من العلل التامّة للأشياء، فليكن عندك إجمال هذا المطلب حتى يوافيك توضيحه في محلّ يناسبه إن شاء الله».
إلى أن يصل إلى قوله: «و قد ظهر ممّا تقدّم أنّ الآية إنّما سبقت حجّة لتوحيد الربوبيّة لا لإثبات الصانع أو توحيد الذات، و ملخّصها أنّ اختلاف الآثار في الأشياء مع وحدة الأصل يكشف عن استنادها إلى سبب وراء الطبيعة المشتركة المتّحدة و انتظامها عن مشيّته و تدبيره، فالمدبّر لها هو الله سبحانه، و هو ربّها لا ربّ غيره، فما يتراءى من المفسّرين أنّ الآية مسوقة لإثبات الصانع في غير محلّه.
على أنّ الآيات على ما يظهر من سياقها مسوقة للاحتجاج على الوثنيّين، و هم إنّما يُنكرون وحدة الربوبيّة، و يثبتون أرباباً شتّى، و يعترفون بوحدة ذات الواجب الحقّ عزّ اسمه، فلا معنى للاحتجاج عليهم بما ينتج أن للعالم صانعاً. و قد تنبّه به بعضُهم فذكر أنّ الآية احتجاج على دهريّة العرب المنكرين لوجود الصانع، و هو مردود بأنّه لا دليل من ناحية سياق الآيات يدلّ على ما ادّعاه».
إلى أن يقول: «في «تفسير العيّاشيّ» عن الخطّاب الأعور، رفعه إلى أهل العلم و الفقه من آل محمّد عليهم السلام، قال: وَ فِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ، يعنى هذه الأرض الطيّبة تجاور مجاورةً هذه الأرض المالحة و ليست منها، كما يجاور القومُ القومَ و ليسوا منهم.
الروايات الواردة في نص. أنا و أنت يا عليّ من شجرة واحدة
و في «تفسير البرهان» عن ابن شهر آشوب، عن الخركوشيّ في «شرف المصطفي»، و الثعلبيّ في «الكشف و البيان»، و الفضل بن شاذان في
«الأمالي» - و اللفظ له - بإسناده عن جابر بن عبد الله قال: سمعتُ رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم يقول لعليّ عليه السلام:
النَّاسُ مِنْ شَجَرٍ شَتَّى، وَ أنَا وَ أنْتَ مِنْ شَجَرَةٍ وَاحِدَةٍ. ثُمَّ قَرَأ: «جَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَ زَرْعٌ وَ نَخِيلٌ صِنْوانٌ وَ غَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ»: بِالنَّبِيِّ وَ بِكَ.
قال: و رواه النطنزيّ في «الخصائص» عن سلمان. و في روآية: أنَا وَ عليّ مِنْ شَجَرَةٍ؛ وَ النَّاسُ مِنْ أشْجَارٍ شَتَّى.
قال صاحب «البرهان»: و روى حديث جابر بن عبد الله الطبرسيّ [في «مجمع البيان»]، و عليّ بن عيسى في «كشف الغمّة».
ثمّ قال سماحة الاستاذ قدّس الله رَمْسَهُ بعد نقل هذه العبارات عن تفسير «البرهان».
«أقول: و رواه في «الدرّ المنثور» عن الحاكم و ابن مردويه عن جابر، قال: سمعتُ رسول الله صلّى الله عليه [و آله] و سلّم يقول:
يَا عليّ! النَّاسُ مِنْ شَجَرٍ شَتَّى؛ وَ أنَا وَ أنْتَ يَا على مِنْ شَجَرَةٍ وَاحِدَةٍ.
ثُمَّ قَرَأ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ [وَ آلِهِ] وَ سلّم: «وَ جَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَ زَرْعٌ وَ نَخِيلٌ صِنْوانٌ وَ غَيْرُ صِنْوانٍ».۱
و الخلاصة، فإنّ التأمّل في قوله تعالى في هذه الآية يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ يفتح لنا عالماً من أبواب المعرفة، و يوضّح لنا كيفيّة ربط القديم بالحادث، و يبيّن مسألة الكثرة في الوحدة و الوحدة في الكثرة، و يجعل ربوبيّة ذات الخالق الواحد الأقدس لجميع الممكنات بلا استثناء أمراً مشهوداً جليّاً،
و لو أراد امرؤ حقّاً أن يوفي تفسير هذه الآية الكريمة المباركة حقّه، فعليه أن يؤلّف كتاباً في ذلك.
كما أنّ عالماً من معرفة حقيقة الولاية و شهودها سيتّضح من خلال هذه الرواية التي نُقلت مؤخّراً، و التي فسّر فيها رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم عبارة: يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ بنفسه و بأميرالمؤمنين عليهما الصلاة و السلام، حيث سيتجلّى عياناً كيف أنّ جميع كثرات هذا العالم و جميع نفوس عباد الله، أخيارهم و أشرارهم، سعداؤهم و أشقياؤهم؛ من جنّ و إنس و ملائكة، و من أصناف الحيوانات و أنواع الجمادات، و من نور و برق و موج، و الروابط الدقيقة بين الذرّات و الأحكام العجيبة الجارية في ناموس المادّة و الحياة، متفرّعة بأسرها و بأجمعها من ولاية رسول الله و ولاية عليّ بن أبي طالب عليهما الصلاة و السلام، و ولايتهما ولاية واحدة.
آيات قرآنية اخرى تدعو إلى السير في الآيات الآفاقيّة
و أحد الموارد التي يدعونا فيها القرآن إلى السير و التجوال في الآيات الآفاقيّة و في عالم الطبيعة، ثمّ يتحوّل للدعوة إلى توحيد ذات الحقّ و إلى الخضوع و العبوديّة المطلقة أمام عظمة عرشه، هو الآيات التاليّة:
أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها وَ مِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَ حُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَ غَرابِيبُ سُودٌ ، وَ مِنَ النَّاسِ وَ الدَّوَابِّ وَ الْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ كَذلِكَ إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ ، إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللَّهِ وَ أَقامُوا الصَّلاةَ وَ أَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَ عَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ ، لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَ يَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ.۱ (أي يؤدّي حقّ
شكر العباد).
و تدعونا هذه الآيات أوّلًا إلى سرّ التوحيد في ربوبيّة الحقّ، من اختلاف أنواع الثمار و أصنافها، و اختلاف الخطوط و العروق البارزة في الجبال التي تميّز طبقاتها عن بعضها بألوان مختلفة، و اختلاف الناس و الحيوانات و أقسام الضأن و البقر و الإبل.
و تذكّرنا ثانياً أنّ العلماء من بين جميع الناس هم الذين يدركون هذا الارتباط المدهش، و يشاهدون نور وحدة الحقّ في مظاهر الكثرات.
و تبيّن ثالثاً أنّ المراد بالعلماء مَن يتلو القرآن و يقيم الصلاة و ينفق من أمواله سرّاً و علانية في سبيل المحبوب و المعشوق الأزليّ الأبديّ.
و من هنا يتّضح معنى العالِم، و يتّضح كذلك المراد بالعلم، و يتبيّن أنّه الارتباط الوثيق بكتاب الله تعالى و الخضوع لعبوديّته، من خلال الدعاء و التضرّع إلى ساحته عزّ و جلّ، و الإنفاق و الإيثار في سبيله، لا مجرّد الذهاب إلى الدرس و تعلّم الكتابة و القراءة و معرفة العلوم الفكريّة. فتلك الامور ليست علماً، و ليس أصحابها من العلماء. و لو شوهد أفراد من هذه الزمرة في عصر من العصور يُطلقون على أنفسهم هذه التسمية، فذلك من باب إلباس الباطل لباسَ الحقّ، و هو تصوّر إبليس في هيئة الآدميّين.
و ينبغي - بناء على منطق القرآن القويم - أن يقسّم الذين يحملون اسم العلماء إلى طائفتَينِ.
الاولى: طائفة العلماء الحقيقيّين الذين يتعاملون مع القرآن حسب مصداق هذه الآية، فيتلون آياته، فتستقرّ في نفوسهم و قلوبهم، و تزكّى تلك النفوس و تذكّيها۱ و توصلها إلى الخضوع و الخشوع الحقيقيَّين، و تجعلهم
يحسّون بالانكسار و الصَّغار في مقابل عظمة الحقّ و ابّهته و جلاله.
الثانية: العلماء الشكليّون الذين تنحصر معرفتهم بالقواعد و أحكام التفسير و الفقه و الاصول و الحِكَم، و الذين يُحكِمون الظواهر و الشكليّات، لكنّ هذه العلوم لم تستقرّ في أرواحهم، و لم تبلغ صُقع نفوسهم، فقد عدّوا العلم وسيلة للجاه و الرئاسة، فباعوا الحقيقة و الوجدان و العاطفة و الآخرة و رسول الله و القرآن و كلّ المقدّسات بثمن بخس من أجل التفوّق على الآخرين.
و أمثال هؤلاء هم الذين عبّر عنهم القرآن بأنّهم تنزّلوا و انحطّوا إلى ما دون البهائم، و قال عنهم أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُ۱ نَعُوذُ بِاللهِ مِنْ سَطْوَةِ جَلَالِهِ وَ عَظَمَةِ قَهْرِهِ.
إن تلاوة القرآن و التدبّر و التفكّر في آياته يجعلنا محمّديِّينَ، و يوصلنا إلى القرآن و يجعلنا فانين فيه و مندكّين، لأنّ القرآن هو انموذج و بيان و ممثّل للنفس المحمّديّة و الأخلاق المحمّديّة.
القرآن هو ممثّل و مُظهر ذلك الخُلق العظيم؛ و ذلك الخُلق العظيم منطبق على لطائف و ظرائف آيات القرآن. و لقد وصف الله نبيّه في قرآنه الكريم بالأخلاق العظيمة، فقال: وَ إِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ.٢
و مدح نبيّه بشرح الصدر، و هو كناية عن قابليّة تحمّل أصعب المشكلات، و قابلية أعلى درجة من الفيوضات، فقال تعالى:
أَ لَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (لتحمّل ثقل الوحي و عناء الرسالة العظيمة) وَ وَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ، (و هو الالتفات إلى الكثرات بواسطة سطوع نور التوحيد) الذي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ.۱
الآيات الواردة في كيفيّة الإنفاق، و ظرائف نكات الأخلاق
و لو تأمّلنا في تعاليم القرآن الأخلاقيّة، لوجدنا أنّه يهدي عالَم البشريّة إلى أعلى مرتبة من التوحيد بدقّة متناهية و مُراقبة عميقة، و لا كتشفنا أيةَ عقبات صعبة و مزالق خطرة يزيحها من طريق البشر!
و تكفينا نظرة واحدة إلى أحد التعاليم القرآنيّة - و هو في أمر الإنفاق و كيفيّته - لتقودنا إلى هذه النكتة.
فالقرآن الكريم أوّلًا لا يُمضي و لا يقرّ الإنفاق في جميع صوره و أشكاله، و يُعلن بصراحة أنّ الإنفاق ينبغي أن يكون في سبيل الله تعالى و بقصد إعلاء كلمة الدين و حفظ المؤمنين من تلاعب أيدي الشياطين. و بعبارة موجزة فإنّ الإنفاق ينبغي أن يكون في سبيل الله تعالى، لا في سبيل الطاغوت.
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَها ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ (فيخسرون دُنياهم) وَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ.٢
مَثَلُ ما يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ أَصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ (فلم ينتفعوا به) وَ ما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَ لكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ.٣
و بغضّ النظر عن ذلك، فإنّ القرآن يبيّن أنّ الإنفاق ينبغي أن يتوسّط حدّي الإسراف و التقتير، فيعدّ من صفات عباد الرحمن:
وَ الَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَ لَمْ يَقْتُرُوا وَ كانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً.۱
وَ لا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَ لا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً.٢
روى سماحة الاستاذ قدّس الله رَمْسَه في تفسيره عن «تفسير القمّيّ» عن الإمام الصادق عليه السلام، قال: المحسور العريان.
كان سخاء رسول الله صلّى الله عليه و اله يفوق الحدّ
و في «الكافي» بإسناده عن عجلان، قال: كنتُ عند أبي عبد الله عليه السلام فجاء سائل، فقام إلى مكتل فيه تمر فملأ يده فناوله، ثمّ جاء آخر فسأله فقام فأخذ بيده فناوله، ثمّ آخر، فقال: اللهُ رَازِقُنَا وَ إيَّاكَ!
ثمّ قال (الإمام): إنّ رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم كان لا يسأله أحد من الدنيا شيئاً إلّا أعطاه، فأرسَلَتْ إليه امرأة ابناً لها، فقالت: فاسأله فإن قال: ليس عندنا شيء، فقل: أعطني قميصك.
قال: فأخذ قميصه فرماه إليه - و في نسخة اخرى. و أعطاه - فأدّبه الله تبارك و تعالى على القصد فقال: «وَ لَا تَجْعَلْ يَدَكَ ... (الآية)». قال (الصادق عليه السلام): الإحسار الفاقة. يقول محمّد أحمد جاد المولى بيك في كتابه الممتع و النفيس «محمّد المثل الكامل»:
«جاء في «البخاري» أنّه صلّى الله عليه [و آله] و سلّم اتِي بمالٍ من البحرين، فقال: انثروه! - و كان أكثر مالٍ اتي به - فخرج صلّى الله عليه [و آله] و سلّم إلى المسجد و لم يلتفت إليه؛ فلمّا قضى الصلاة جاء فجلس
إليه، فما كان يرى أحداً إلّا أعطاه، و ما قام عليه الصلاة و السلام و ثَمَّ منها درهم.
و أتته امرأةٌ ببُردة، فقالت: يا رسول الله! أكسوك هذه. فأخذها صلّى الله عليه [و آله] و سلّم محتاجاً إليها فلبسها، فرآها عليه رجلٌ من أصحابه، فقال: يا رسول الله! ما أحسن هذه! فاكسنيها. فقال: نعم. فلمّا قام عليه الصلاة و السلام لام الصحابة هذا السائل قائلين له: إنّك تعرف أنّ النبيّ محتاج إليها، و أنّه لا يُسأل عن شيءٍ فيمنعه.
و قد شكت إليه ابنته فاطمة ما تلقى من خدمة البيت، و طلبتْ منه خادماً يكفيها مؤنة بيتها، فأمرها أن تستعين بالتسبيح و التكبير و التحميد، و قال: «لَا اعْطِيكِ وَ أدَعَ أهْلَ الصُّفَّةِ تُطْوَى بُطُونُهُمْ مِنْ الجُوعِ!».۱
و قد جاء في القرآن الكريم أنّ المرء إن لم يكن لديه ما يعطيه ذوي قرباه و المساكين و ابن السبيل، فعليه - على أقلّ تقدير - أن يكلّمهم بلطف و أن يعدهم خيراً على أمل رحمة الله تعالى و فضله و منّه، فيسرّ بذلك قلوبهم.
وَ آتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَ الْمِسْكِينَ وَ ابْنَ السَّبِيلِ وَ لا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً ، إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ وَ كانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً ، وَ إِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُوراً.٢
آيات الإنفاق الأربع عشرة في سورة البقرة
و قد وردت أربع عشرة آية متعاقبة في سورة البقرة المباركة في الآداب و الإخلاص في النيّة، و في الثواب و الأجر، و في ميزان الإنفاق في
سبيل الله تعالى؛ و هي آيات تشكّل عالَماً في الأخلاق، و تظهر سطوع القرآن الكريم إلى الأبد:
۱ - مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَ اللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ وَ اللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ.
٢ - الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ ما أَنْفَقُوا مَنًّا وَ لا أَذىً لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ.
٣ - قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَ مَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً وَ اللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ.
٤ - يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَ الْأَذى كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ وَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَ اللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ
٥ - وَ مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ وَ تَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصابَها وابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَها ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌّ وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ
٦ - أَ يَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَ أَعْنابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَ أَصابَهُ الْكِبَرُ وَ لَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ فَأَصابَها إِعْصارٌ فِيهِ نارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (و هو مثال كمن ينفق ماله رياءً و مَنّاً و أذيً) كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ.
۷ - يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ وَ مِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَ لا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَ لَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ
۸ - الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَ يَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ وَ اللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ
وَ فَضْلًا وَ اللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ.
٩ - يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ وَ مَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَ ما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ.
۱۰ - وَ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ (و إن لم تنفقوا على الفقراء و البائسين و تركتموهم مُعدمين، فاعلموا أنّ ذلك ظلم) وَ ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ.
۱۱ - إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَ إِنْ تُخْفُوها وَ تُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَ يُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ.
۱٢ - لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ (بل عليك الدعوة و البلاغ) وَ لكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَ ما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَ ما تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَ ما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَ أَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ
۱٣ - لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً وَ ما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ
۱٤ - الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَ النَّهارِ سِرًّا وَ عَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ.۱
و الإنفاق من الأعمال المعدودة من الأخلاق، إن كان للّه تعالى، و لم يكن رياءً و سُمعةً، و لم يستتبع منّاً من المنفِق و أذى للمنفق عليه، و كان الإنفاق من المال الحلال و ممّا يحبّه الفرد المنفِق، فقد ورد في القرآن الكريم.
لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَ ما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ
عَلِيمٌ.۱
و إذا كان الإنفاق سرّاً في الموضع المناسب، و كان جهراً في الموضع المناسب، و كان من أفضل كسب المنفِق الذي اكتسبه بالعمل و الجدّ، و بلغ مَن يستحقّه، و هو مَن يمنعه حياؤه و عفّته أن يُطلع أحداً على حاله؛ فإنّ الإنفاق سيُعدّ حينذاك من مكارم الأخلاق التي انتهجها الأنبياء، و التي بُعث الرسول الأكرم صلّى الله عليه و آله و سلّم لتكميلها.
يقول جاد المولى بيك: «و قد كان الأنبياء في مقدّمة المتّصفين بها (أي بمكارم الأخلاق)، و قد حثّ القرآن على ذلك في آيات كثيرة تتجاوز المئات. و قد صرّح النبي صلّى الله عليه و آله و سلّم بذلك في قوله بُعِثْتُ لُاتَمِّمَ مَكَارِمَ الأخْلَاقِ.
و قوله: إنَّ الْمُؤْمِنَ لَيُدْرِكُ بِحُسْنِ خُلُقِهِ دَرَجَةَ الصَّائِمِ القَائِمِ.
وقوله: إنَّ مِنْ خِيَارِكُمْ أحْسَنُكُمْ أخْلَاقاً.
و قوله: أكْمَلُ المُؤْمِنِينَ إيمَاناً أحْسَنُهُمْ أخْلَاقاً.
و قوله: مَكَارِمُ الأخْلَاقِ مِنْ أعْمَالِ أهْلِ الجَنَّةِ.
و كان من دعائه صلّى الله عليه و آله و سلّم إذا نظر في المرآة أن يقول:
اللَهُمَّ كَمَا حَسَّنْتَ خَلْقِي فَحَسِّنْ خُلُقِي!
و كان يستعيذ من سوء الأخلاق، فيقول: اللَهُمَّ إنِّي أعُوذُ بِكَ مِنَ الشِّقَاقِ وَ النِّفَاقِ وَ سُوءِ الأخْلَاقِ».٢
و يستنتج ممّا مرّ أنّ الأخلاق القرآنيّة قائمة على أساس التوحيد
و على بناء النفس البشريّة على أساس النظر إلى وحدة تجلّيات الحقّ في جميع مظاهر عالم الإمكان.
إن القرآن الكريم يعتبر الإنسان مخلوقاً مرتبطاً بجميع الموجودات الاخرى، كما يعتبر روح الإنسان مرتبطة بجميع الأشياء، بحيث يرى نور الحقّ المتعال سارياً في الإنسان و في جميع الأشياء بأسرها، و يسوق الإنسان إلى التوحيد في العقيدة و الأخلاق عن طريق النظر و التأمّل و التفكّر في مخلوقات عالم الخلقة التي لا تُحصى.
و الأخلاق القرآنيّة من أسمى و أرفع الأخلاق الكريمة، حيث تبنى الوجود الإنسانيّ على نور توحيد الحقّ، و بالنظر إلى وحدة ذاته القدسيّة، و وحدة صفاته و أسمائه، و وحدة أفعاله في كلّ شيء، و تُقيم لبنات هذا البناء الروحي الشامخ على هذا الأساس و الأصل.
و لذلك، فإنّ الأخلاق المكتسبة من القرآن ليست منفصلة عن عالم الخلقة و الامور الطبيعيّة و التجريبيّة و مشاهدات عالم الخلقة، كما أنّ عالم الخلقة و هذه السلسلة المتطاولة من الموجودات العجيبية المعقّدة ليست بدورها منعزلةً منفكّة عن روح الإنسان؛۱ فهي ممتَزجة مع بعضها امتزاج
السكّر و اللبن، و هي مرتضعةً من ثدي واحد.
آيات سورة النحل في نِعَمِ الله تعالي
و من خصائص القرآن العظيم أنّه يعتبر الدعوة إلى العلوم التجريبيّة و التفكّر في الامور المادّيّة و الطبيعيّة و الظواهر الآفاقيّة سبيلًا للتكامل المعنويّ و الارتقاء الشهوديّ و بلوغ مقام العرفان الإنسانيّ لظهور النور لمطلق و الوحدة الحقّة الحقيقيّة لذات الحقّ المتعال القدسيّة.
تأمّلوا في الآيات التالية في سورة النحل المباركة:
وَ اللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ ، وَ إِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَ دَمٍ لَبَناً خالِصاً سائِغاً لِلشَّارِبِينَ ، وَ مِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَ الْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَ رِزْقاً حَسَناً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ، وَ أَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَ مِنَ الشَّجَرِ وَ مِمَّا يَعْرِشُونَ ، ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ۱
إلى أن يصل إلى قوله تعالى:
وَ اللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَ جَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَ الْأَبْصارَ وَ الْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ أَ لَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ وَ اللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَها يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَ يَوْمَ إِقامَتِكُمْ وَ مِنْ أَصْوافِها وَ أَوْبارِها وَ أَشْعارِها أَثاثاً وَ مَتاعاً إِلى حِينٍ، وَ اللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالًا وَ جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً وَ جَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَ سَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ٢
فهو في جميع هذه الآيات يذكر آثاره و نعمه ثمّ يبيّن بأنّ كلّ ذلك من أجل التفكّر و التعقّل و الشكر و التسليم له سبحانه. أي أنّ جميع ذلك ينبغي أن يُعَدّ آيةً، فتشاهد في هذه الآية ذاته القدسيّة و ربوبيّته
الواحدة:
برگ درختان سبز در نظر هوشيار | *** | هر ورقش دفترى است معرفت كردگار۱ |
و لقد أبدع شيخ العرفاء. محيي الدين بن عربي حين قال:
فَانْظُرْهُ في شَجَرٍ وَ انْظُرْهُ في حَجَرٍ | *** | وَ انْظُرْهُ في كُلِّ شَيْءٍ ذَلِكَ اللهُ٢ |
أمّا الفيلسوف و الحكيم. الحاج الملّا هادي السبزواريّ، فما أجمل و ما أرقى ما أنشد حين قال:
اى به ره جستجوى، نعره زنان دوست دوست | *** | گر به حرم ور به دير، كيست جز او؟ اوست اوست |
پرده ندارد جمال، غير صفات جلال | *** | نيست بر اين رخ نقاب، نيست بر اين مغز پوست |
جامه دران گُل از آن، نعره زنان بلبلان | *** | غنچه بپيچد به خود، خون به دلش تُو به تُوست٣ |
دم چو فرو رفت هاست، هوست چو بيرون رود | *** | يعنى از او در همه، هر نفسى هاى و هوست |
يار به كوى دلست، كوى چو سر گشته گوى | *** | بحر به جوى است و جوى، اين همه در جستجوست |
با همه پنهانيش، هست در أعيان عيان | *** | با همه بى رنگيش، در همه زو رنگ و بوست |
يار در اين انجمن، يوسف سيمين بدن | *** | آينه خانه جهان، او بهمه رو به روست |
پرده حجازى بساز، يا به عراقى نواز | *** | غير يكى نيست راز؛ مختلف از گفتگوست |
مخزن اسرار اوست، سرّ سويداى دل | *** | در پِيَش أسرار باز، در بدر و كو به كوست ۱ |
وَ في كُلِّ شَيْءٍ لَهُ آيَةٌ | *** | تَدُلُّ على أنَّهُ وَاحِدُ۱ |
هذه هي حقيقة توحيد الحقّ تعالى، المتحقّق في أسمائه و صفاته و أفعاله.
دار البحث يوماً في أحد المجالس في طهران مع أحد العلماء، و كان شيخاً كبيراً يمتّ لي بصلة قرابة؛ فتباحثنا في أمر التوحيد الأفعاليّ للحقّ تعالى: و كان الرجل لم يسبق له دراسة الفلسفة و الحكمة، و كان يطعن في العرفاء أحياناً، و قد انتقل إلى رحمة الله تعالى:
و قد انجرّ بنا الكلام إلى أن خاطبني بعصبيّة شديدة. أتقول إنّ وضع الطفل من قِبَل امّه هو أيضاً من فِعل الله؟!
ثمّ مدّ يديه أمامه، كأنّه يمسك امرأةً، ثمّ قال: انظر! ها هي المرأة قد أفرجت بين رجليها فانساب الطفل ساقطاً، أفهذا أيضاً من فِعل الله؟!
قلتُ بلا مكث. أنا لا أقول ذلك، بل الله يقوله:
وَ اللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً.۱
فحين يصرّح بأنّ المُخرِج هو الله، و أنّ جميع سلسلة العلل الطبيعيّة و حالة انعطاف الرحم و عمل القابلة و سلسلة الأعمال الطويلة اللازمة لولادة الطفل هي معلولة و محكومة للّه تعالى و مسخّرة لأمره و إرادته، و أنّه هو الذي يقوم بهذا العمل في الحقيقة، فهل يمكنني أن انكر؟!
فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ، و لم يفه البائس بجواب أمام الدليل الفلسفيّ القرآنيّ.
مَا رَأيْتُ شَيْئَاً إلَّا وَ رَأيْتُ اللهَ مَعَهُ
كنتُ يوماً لدى أحد العلماء الآيات في قم، و كان ذلك العالم استاذاً للحقير في بعض الدروس، و كان قد درس - فيما درس - الفلسفة، إلّا أنّه
كان لديه إشكال في مسألة توحيد الأفعال و فناء السالك في مشيئة الله المتعال و إرادته، و في تجلّي الحقّ تعالى: فدار بنا الحديث في ذلك الموضوع، فالتفت إلى قائلًا: أنا لا أفهم كيف يكون الجِماع فعلًا للّه تعالى؟! لا أفهم كيف يُتصوَّر أنّ الشخص في تلك الحال يمكن أن يستغرق في الله تعالى بحيث لا يرى سواه، و لا يسمع سواه، و لا يفعل إلّا فعله؟
فأجبته: ماذا تقول في الأئمّة الطاهرين سلام الله عليهم أجمعين؟ ألم يكونوا يُجامعون؟ أكانوا في تلك الحال غافلين عن الله تعالى؟ أفكان همّهم في ذلك العمل هو الشهوة الحيوانيّة؟
قال: دَعْ عنك الأئمّة، و لا تقس عملهم بغيرهم!
فقلت: إنّ المسألة تكمن في هذا الأمر، إذ لا يمكننا أن نغضّ النظر عن ذلك. فلو كان ذلك ممكناً لهم و متحقّقاً، لوجب أن يُمكن في غيرهم. و لو بلغتْ بهم حالهم النورانيّة و سيرهم التكامليّ بحيث انطبقت عليهم مقولة. مَا رَأيْتُ شَيئَاً إلَّا وَ رَأيْتُ اللهَ مَعَهُ؛۱ فإنّ الفرق سيزول حينذاك بين الجِماع و بين العبادة و البكاء، و بين الكسب و التجارة و الزراعة، فتصبح تلك الامور من مقولة واحدة.
و لقد أجاد العارف. شمس الدين المغربيّ و أبدع حين صاغ هذا المطلب في غزليّاته، فقال:
اي جمله جهان در رخ جان بخش تو پيدا | *** | وى روى تو در آينة كون هويدا٢ |
تا شاهد حسن تو در آئينه نظر كرد | *** | عكس رخ خود ديد و بشد واله و شيدا |
هر لحظه رُخت داد جمالى رخ خود را | *** | بر ديدة خود جلوه به صد كسوت زيبا |
از ديدة عُشّاق برون كرد نگاهى | *** | تا حسن خود از روى بُتان كرد تماشا |
رويت ز پى جلوه گرى آينهاى ساخت | *** | وان آينه را نام نهاد آدم و حوّا |
حسن رخ خود را بهمه روى در او ديد | *** | زان روى شد او آينة جملة أسما |
أى حسن تو بر ديدة خود كرده تجلّى | *** | در ديدة خود ديده عيان چهرة خود را |
چون ناظر و منظور توئى، غير تو كس نيست | *** | پس از چه سبب گشت پديد اينهمه غوغا۱ |
اي مغربي آفاق پر از ولوله گردد | *** | سلطان جمالش چو زند خيمه به صحرا۱ |
لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ (العظيم الشأن، الرفيع المنزلة) عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَ تِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (و يُدركون عظمته و جلاله).٢
و لمّا كان كلّ شيءٍ صلب مستعصٍ على الكسر يُمثَّل بالحجر؛ فإنّ الله تعالى يقول: لقد أنزلنا هذا الكلام الإلهيّ بعظمته و ابّهته و جلاله على الإنسان، فعلى نفسه و روحه أن تتقبّله بأعلى درجةوأكملها، وأنتتلقّاهبذلّة و خشوع، لأنّنا لو أنزلناه على جبلٍ لتصدّع و تحطّم. ومن هنا يُلاحظبأنّ الذينلايقبلون القرآن و لا يتلقّونه بأرواحهم و قلوبهم، لهم نفوس و قلوب أقسى من الحجر و أشدّ صلابة.
مضامين دعاء سيّد الشهداء عليه السلام الرفيعة في يوم عرفة
يقول المعلّم الذي جسّد حقيقة القرآن: أبوعبد الله الحسين سيّد الشهداء عليه السلام في دعاء عرفة في أرض عرفات:
إلَهِي! عَلِمْتُ بِاخْتِلَافِ الآثَارِ وَ تَنَقُّلَاتِ الأطْوَارِ، أنّ مُرَادَكَ مِنِّي أنْ تَتَعَرَّفَ إلى في كُلِّ شَيْءٍ حتى لَا أجْهَلَكَ في شَيءٍ!
إلى أن يقول: إلَهِي! تَرَدُّدِي في الآثَارِ يُوجِبُ بُعْدَ المَزَارِ، فَاجْمَعْنِي عَلَيْكَ بِخِدْمَةٍ تُوصِلُنِي إلَيْكَ! كَيْفَ يُسْتَدَلُّ عَلَيْكَ بِمَا هُوَ في وُجُودِهِ مُفْتَقِرٌ إلَيْكَ؟ أيَكُونُ لِغَيْرِكَ مِنَ الظُّهُورِ مَا لَيْسَ لَكَ حتى يَكُونَ هُوَ المُظْهِرَ لَكَ؟ مَتَى غِبْتَ حتى تَحْتَاجَ إلى دَلِيلٍ يَدُلُّ عَلَيْكَ؟ وَ مَتَى بَعُدْتَ حتى تَكُونَ
الآثَارُ هِيَ التي تُوصِلُ إلَيْكَ؟
عَمِيَتْ عَيْنٌ لَا تَرَاكَ عَلَيْهَا رَقِيبًا! وَ خَسِرَتْ صَفْقَةُ عَبْدٍ لَمْ تَجْعَلْ لَهُ مِنْ حُبِّكَ نَصِيباً!
إلَهِي! أمَرْتَ بِالرُّجُوعِ إلى الآثَارِ؛ فَارْجِعْنِي إلَيْكَ بِكِسْوَةِ الأنْوَارِ وَ هِدَايَةِ الاسْتِبْصَارِ، حتى أرْجِعَ إلَيْكَ مِنْهَا كَمَا دَخَلْتُ إلَيْكَ مِنْهَا مَصُونَ السِّرِّ عَنِ النَّظَرِ إلَيْهَا، وَ مَرْفُوعَ الهِمَّةِ عَنِ الاعْتِمَادِ عَلَيْهَا؛ إنَّكَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
إلى أن يقول: أنْتَ الذي أشْرَقْتَ الأنْوَارَ في قُلُوبِ أوْلِيَائِكَ حتى عَرَفُوكَ وَ وَحَّدُوكَ. وَ أنْتَ الذي أزَلْتَ الأغْيَارَ عَنْ قُلُوبِ أحِبَّائِكَ حتى لَمْ يُحِبُّوا سِوَاكَ وَ لَمْ يَلْجَأوا إلى غَيْرِكَ. أنْتَ المُؤْنِسُ لَهُمْ حَيْثُ أوْ حَشَتْهُمُ العَوَالِمُ، وَ أنْتَ الذي هَدَيْتَهُمْ حَيْثُ اسْتَبَانَتْ لَهُمُ المَعَالِمُ.
مَاذَا وَجَدَ مَنْ فَقَدَكَ؟ وَ مَا الذي فَقَد مَنْ وَجَدَكَ؟
إلى أن يصل إلى قوله: أنْتَ الذَّاكِرُ قَبْلَ الذَّاكِرِينَ! وَ أنْتَ البَادِي بِالإحْسَانِ قَبْلَ تَوَجُّهِ العَابِدِينَ! وَ أنْتَ الْجَوَادُ بِالْعَطَاءِ قَبْلَ طَلَبِ الطَّالِبِينَ! وَ أنْتَ الْوَهَّابُ ثُمَّ لِمَا وَهَبْتَ لَنَا مِنَ الْمُسْتَقْرِضِينَ!
إلى أن يقول: أنْتَ الذي لَا إلَهَ غَيْرُكَ. تَعَرَّفْتَ لِكُلِّ شَيْءٍ فَمَا جَهِلَكَ شَيْءٌ. وَ أنْتَ الذي تَعَرَّفْتَ إلى في كُلِّ شَيءٍ فَرَأيْتُكَ ظَاهِراً في كُلِّ شَيءٍ. وَ أنْتَ الظَّاهِرُ لِكُلِّ شَيءٍ.۱
الملكات العرفانيّة لسيِّد الشهداء عليهالسلام في الزيارة المطلقة
و هذه هي حالات اندكاك الإمام و فنائه في ذات الحضرة الأحديّة، و هو أمر مشهود في هذه المناجاة. و بناءً على هذه الحالات و المَلَكات، فإنّنا نقرأ في زيارته المطلقة:
إرَادَةُ الرَّبِّ في مَقَادِيرِ امُورِهِ تَهْبِطُ إلَيْكُمْ وَ تَصْدُرُ مِنْ بُيُوتِكُمْ.۱
و نقرأ في الدعاء بعد زيارة عاشوراء: لَيْسَ لِي وَرَاءَ اللهِ وَ وَرَاءَكُمْ يَا سَادَتِي مُنْتَهَى.٢
و نقرأ في زيارته عليه السلام: بِأبِي أنْتَ وَ امِّي وَ نَفْسِي يَا أبَا عَبْدِاللهِ! أشْهَدُ لَقَدِ اقْشَعَرَّتْ لِدِمَائِكُمْ أظِلَّةُ العَرْشِ مَعَ أظِلَّةِ الخَلَائِقِ وَ بَكَتْكُمُ السَّمَاءُ وَ الأرْضُ وَ سُكَّانُ الجِنَانِ وَ البَرِّ وَ البَحْرِ.٣
و قد أنشد شاعر أهل البيت. فؤاد الكرمانيّ في هذا المضمون، فقال:
نور وجود از طلوع روى حسين است | *** | ظلمت إمكان، سواد موى حسين است٤ |
شاهد گيتى به خويش جلوه ندارد | *** | جلوة عالم فروغ روى حسين است |
مَشْى قَدَم را وصول ذات قِدَم نيست | *** | جنبش سالك به جستجوى حسين است |
ذات خدا لا يُرَى است روز قيامت | *** | ذكر لِقا بر رُخ نكوى حسين است |
جان ندهم جز به آرزوى جمالش | *** | جان مرا دل به آرزوى حسين است |
عاشِق او را چه اعتناست به جنّت | *** | جنّت عشّاق، خاك كوى حسين است |
عالم و آدم كه مست جام وجودند | *** | مستى اين دو از سبوى حسين است |
ذات خدا را مجو ولى به صفاتش | *** | نيك نظر كن كه خُلق و خوى حسين است۱ |
حضرت حقّ را به عشق خلق چه نسبت | *** | مسألة عشق گفتگوى حسين است |
عاشق او را چه غم ز مرگ طبيعت | *** | زندگى عارفان به بوى حسين است |
در غم او آب روى ما به حقيقت | *** | موجب غفران به آبروى حسين است |
عقل فؤاد از خود اين فروغ ندارد | *** | جلوة اين قطره هم ز جوى حسين است۱ |
البَحْثُ التَّاسِعُ: العَرَبِيَّةُ وَ إعْجَازُ القُرْآنِ و تفسير آية ﴿إنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْءَانَاًعَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْتَعْقِلُونَ وَ إنَّهُو في امِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ﴾
أعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيطانِ الرَّجِيمِ
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
و صلَّى اللهُ على سَيِّدِنا مُحَمَّدٍ و آلِهِ الطَّيِّبِينَ الطَّاهِرِينَ
و لَعْنَةُ اللهِ على أعْدَائهِمْ أجْمَعِينَ مِنَ الآنَ إلى قِيامِ يَوْمِ الدِّينِ
و لَا حَولَ و لَا قُوَّةَ إلَّا بِاللهِ العَلِيِّ العَظِيمِ
تفسير آية الله العلّامة لمعنى: إنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْءَانًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ
قال الله الحكيم في كتابه الكريم:
حم ، وَ الْكِتابِ الْمُبِينِ ، إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ، وَ إِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ.۱
...۱
قال سماحة استاذنا الأكرم آية الله العلّامة الطباطبائيّ قدّس الله نفسه الزكيّة في تفسير هذه الآية المباركة:
وَ الْكِتابِ الْمُبِينِ ظاهره أنّه قسم، و جوابه قوله إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا إلى آخر الآيَتين.
و كون القرآن مُبيناً هو إبانته و إظهاره طريق الهدي، كما قال تعالي: وَ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ؛۱ أو كونه ظاهراً في نفسه لا يرتاب فيه، كما قال: ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ.٢
قوله تعالي: إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ، الضمير للكتاب، و قُرْآناً عَرَبِيًّا، أي: مقروءاً باللغة العربيّة، و لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ غاية الجَعْل و غرضه.
و جعل رجاء تعقّله غاية للجعل المذكور يشهد بأنّ له مرحلة من الكينونة و الوجود لا ينالها عقول الناس، و من شأن العقل أن ينال كلّ أمر فكريّ و إن بلغ من اللطافة و الدقّة ما بلغ؛ فمفاد الآية أنّ الكتاب بحسب موطنه الذي له في نفسه أمر وراء الفكر أجنبيّ عن العقول البشريّة، و إنّما جعله الله قرآناً عربيّاً و ألبسه هذا اللباس رجاء أن يستأنس به عقول الناس فيعقلوه، و الرجاء في كلامه تعالي قائم بالمقام أو المخاطب دون المتكلّم كما تقدّم غير مرّة.
معني «ام الكتاب» و «عليّ» و «حكيم» من صفات القرآن
قوله تعالي: وَ إِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ تأكيد و تبيين لما تدلّ عليه الآية السابقة أنّ الكتاب في موطنه الأصليّ وراء تعقّل العقول.
و الضمير (في هذه الجملة) للكتاب؛ و المراد بـ «امُّ الْكِتَابِ» اللوح المحفوظ، كما قال تعالي: بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ ، فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ.۱
و تسميته بامّ الكتاب لكونه أصل الكتب السماويّة، يستنسخ منه غيره؛ و التقييد بامّ الكتاب و لَدَيْنَا للتوضيح لا للاحتراز. و المعني: أنّه حال كونه في امّ الكتاب لدينا - حالًا لازمةً - لعليّ حكيم.
و المراد بكونه عليّاً على ما يعطيه مفاد الآية السابقة، أنّه رفيع القدر و المنزلة من أن تناله العقول؛ و بكونه حكيماً أنّه هناك مُحكم غير مفصّل و لا مجزّأ إلى سور و آيات و جُمل و كلمات كما هو كذلك بعد جعله قرآناً عربيّاً كما استفدناه من قوله تعالي: كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ
لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ.۱
و هذان النعتان، أعني كونه عليّاً حكيماً، هما الموجبان لكونه وراء العقول البشريّة، فإنّ العقل في فكرته لا ينال إلّا ما كان من قبيل المفاهيم و الألفاظ أوّلًا، و كان مؤلّفاً من مقدّمات تصديقيّة يترتّب بعضها على بعض كما في الآيات و الجمل القرآنيّة. و أمّا إذا كان الأمر وراء المفاهيم و الألفاظ و كان غير مُتجزٍّ إلى أجزاء و فصول، فلا طريق للعقل إلى نيله.
فمحصّل معني الآيتَين: أنّ الكتاب عندنا في اللوح المحفوظ ذو مقام رفيع و إحكام لا تناله العقول لذينك الوصفَين، و إنّما أنزلناه بجعله مقروّاً عربيّاً رجاء أن يعقله الناس.
فإن قلت: ظاهر قوله لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ إمكان تعقّل الناس هذا القرآن العربيّ النازل تعقّلًا تامّاً، فهذا الذي نقرأه و نعقله إمّا أن يكون مطابقاً لما في امّ الكتاب كلّ المطابقة أو لا يكون، و الثاني باطل قطعاً، كيف و هو تعالى يقول: وَ إِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ،٢ و: بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ ، فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ،٣ و: إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ ، فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ٤
فتعيّن الأوّل، و مع مطابقته لُامّ الكتاب كلّ المطابقة، ما معني كون القرآن العربيّ الذي عندنا معقولًا لنا، و ما في امّ الكتاب عند الله غير معقول لنا؟
قلت: يمكن أن تكون النسبة بين ما عندنا و ما في امّ الكتاب نسبة
المَثَل و المُمَثَّل؛ فالمَثَل هو المُمَثَّل بعينه، لكنّ المُمَثَّل لَهُ لا يفقه إلّا المَثَل، فافهم ذلك».۱
كثرة الآيات القرآنيّة التي تتحدّث عن نزول القرآن بلسانٍ عربيّ
أجل، فقد ورد في القرآن الكريم آيات عديدة تتحدّث عن نزوله باللغة العربيّة، منها الآيات الواردة في سورة الشعراء:
وَ إِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ ، نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ ، عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ ، بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ ، وَ إِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ ، أَ وَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ ، وَ لَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ ، فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ.۱
تفسير آية الله العلّامة لـ: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأمينُ ، على قَلْبِكَ
قال سماحة استاذنا الأعظم آية الله العلّامة قدّس الله روحه الزكيّة في تفسير هذه الآيات:
«التنزيل و الإنزال بمعني واحد، غير أنّ الغالب على باب الإفعال الدفعة، و على باب التفعيل التدريج؛ و أصل النزول في الأجسام انتقال الجسم من مكانٍ عالٍ إلى ما هو دونه، و في غير الأجسام بما يُناسبه.
و تنزيله تعالي إخراجه الشيء من عنده إلى موطن الخلق و التقدير، و قد سمّي نفسه بالعَلِيِّ العَظِيمِ وَ الكَبِيرِ المُتَعَال وَ رَفِيعُ الدَّرَجاتِ وَ القَاهِرِ فَوْقَ عِبَادِهِ؛ فيكون خروج الشيء بإيجاده من عنده إلى عالم الخلق و التقدير - و إن شئتَ فقل. إخراجه من عالم الغيب إلى عالم الشهادة - تنزيلًا منه تعالي له.
و قد استعمل الإنزال و التنزيل في كلامه تعالي في أشياء بهذه العناية، كقوله تعالي: يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ؛٢ و قوله:
وَ أَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ؛۱ و قوله: وَ أَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ؛٢ و قوله: ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَ لَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ.٣
و قد أطلق القول في قوله: وَ إِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَ ما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ٤
و قد أضيف التنزيل إلى «رَبُّ الْعَالَمِينَ» للدلالة على توحيد الربّ تعالي، لما تكرّر مراراً أنّ المشركين إنّما كانوا يعترفون به تعالي بما أنّه رَبُّ الأرْبَابِ و لا يرون أنّه رَبُّ العَالَمِينَ.٥
قوله تعالي: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ ، عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ ، بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ؛ المراد بالروح الأمين هو جبريل مَلَك الوحي، بدليل قوله: مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ.٦
و قد سمّاه في موضعٍ آخر بروح القدس: قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ.۷
و قد وصف الروح بالأمين للدلالة على أنّه مأمون في رسالته منه تعالي إلى نبيّه صلّي الله عليه و آله و سلّم لا يغيّر شيئاً من كلامه تعالي بتبديل أو تحريف بعمدٍ أو سهو أو نسيان، كما أنّ توصيفه في آيةٍ اخري بالقدس يُشير إلى ذلك.
و قوله: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ، الباء للتعدية، أي نزّله الروح الأمين؛ و أمّا قول مَن قال: إنّ الباء للمصاحبة، و المعني. نزل معه الروح؛ فلا يُلتفت إليه، لأنّ العناية في المقام بنزول القرآن لا بنزول الروح مع القرآن.
و الضمير في نَزَلَ بِهِ للقرآن بما أنّه كلام مؤلّف من ألفاظٍ لها معانيها الحقّة، فإنّ ألفاظ القرآن نازلة من عنده تعالي، كما أنّ معانيها نازلة من عنده على ما هو ظاهر قوله: فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ،۱ و قوله: تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ،٢ إلى غير ذلك.
فلا يُعبأ بقول من قال: إنّ الذي نزل به الروح الأمين إنّما هو معاني القرآن الكريم، ثمّ النبيّ صلّي الله عليه و آله و سلّم كان يعبّر عنها بما يطابقها و يحكيها من الألفاظ بلسانٍ عربيّ.
و أسخف منه قولُ مَن قال: إنّ القرآن بلفظه و معناه من منشآت النبيّ صلّي الله عليه و آله و سلّم ألقته مرتبة من نفسه الشريفة تُسمّي الروح الأمين إلى مرتبة منها تُسمّي القلب.
و المراد بالقلب المنسوب إلى الإدراك و الشعور في كلامه تعالي هو النفس الإنسانيّة التي لها الإدراك، و إليها تنتهي أنواع الشعور و الإرادة، دون
اللحم الصنوبريّ المعلّق عن يسار الصدر، الذي هو أحد الأعضاء الرئيسيّة، كما يستفاد من مواضع في كلامه تعالي، كقوله: وَ بَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ،۱ أي: الأرواح. و قوله: فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ،٢ أي: نفسه، إذ لا معني لنسبة الإثم إلى العضو الخاصّ.
و لعلّ الوجه في قوله: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ دون أن يقول عَلَيْكَ، هو الإشارة إلى كيفيّة تلقّيه صلّي الله عليه و آله و سلّم القرآن النازل عليه، و أنّ الذي كان يتلقّاه من الروح هو نفسه الشريفة من غير مشاركة الحواسّ الظاهرة، التي هي الأدوات المستعملة في إدراك الامور الجزئيّة.
فكان صلّي الله عليه و آله و سلّم يَري و يسمع حينما كان يُوحي إليه من غير أن يستعمل حاسّتي البصر و السمع، كما روى أنّه كان يأخذه شبه إغماء يسمّى بُرَحَاء الوحي.٣ فكان صلّى الله عليه و آله و سلّم يرى الشخص و يسمع الصوت مثل ما نرى الشخص و نسمع الصوت، غير أنّه ما كان يستخدم حاسّتَي بصره و سمعه المادّيّتَين في ذلك كما نستخدمهما.
و لو كان رؤيته و سمعه بالبصر و السمع المادّيّين، لكان ما يجده مشتركاً بينه و بين غيره، فكان سائر الناس يرون ما يراه و يسمعون ما سمعه. و النقل القطعيّ يكذّب ذلك، فكثيراً ما كان يأخذه بُرحاء الوحي و هو بين الناس، فيُوحي إليه و مَن حوله لا يشعرون بشيء و لا يشاهدون شخصاً يكلّمه و لا كلاماً يُلقى إليه.
و القول بأنّ من الجائز أن يصرف الله تعالى حواسّ غيره صلّى الله
عليه و آله و سلّم من الناس عن بعض ما كانت تناله حواسّه - و هي الامور الغيبيّة المستورة عنّا - هدمٌ لبنيان التصديق العلميّ، إذ لو جاز مثل هذا الخطأ العظيم على الحواسّ - و هي مفتاح العلوم الضروريّة و التصديقات البديهيّة و غيرها - لم يبقَ وثوقٌ على شيء من العلوم و التصديقات.
على أنّ هذا الكلام مبنيّ على أصالة الحسّ، و أن لا وجود إلّا لمحسوس، و هو من أفحش الخطأ، و قد تقدّم في سورة مريم كلامٌ في معنى تمثّل المَلَك نافعٌ في المقام»۱.
و من جملة الآيات الدالّة على نزول القرآن باللغة العربيّة، الآية الواردة في سورة النحل:
قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ هُدىً وَ بُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ ، وَ لَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَ هذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ.٢
و جاء في التفاسير أنّ مشركي مكّة كانوا يقولون بأنّ محمّداً تعلّم القرآن من حدّاد روميّ نصرانيّ كان يسكن في مكّة، أو أنّه تعلّمه من غلام ابن الحضرميّ، و هو أيضاً من النصارى.
فكان القرآن يفنّد هذا الكلام الواهي متسَائلًا: كيف يُتصوّر أن يقوم هذان الأعجميّان اللذان قَدِمَا من خارج الجزيرة العربيّة، و اللذان يجهلان العربيّة، بتلقين هذه المطالب للنبيّ بلغة عربيّة فصيحة في القمّة من الإعجاز؟!٣
...۱
ترجمة أحوال ... (ت)
إنِّي لَمِن مَعْشَرٍ إن جُمِّعُوا لِعلي | *** | تَفَرَّقُوا عَنْ نَبِيٍّ أوْ وَصِيِّ نَبِي |
أجل، فهو دليل واضح و قاطع على أنّ كفّار مكّة و معاندي الإسلام لم يشاهدوا النبيّ - و لو لحظة واحدة - يتردّد مدّة عمره على أحد علماء اليهود أو النصارى، و إلّا لقالوا بسهولة إنّه تلقّى العلم عن ذلك العالم اليهوديّ أو النصرانيّ الذي كان يعاشره و يتردّد عليه؛ و لا نتفت الحاجة لديهم إلى التشبّث بغلام ابن الحضرميّ و الحدّاد الروميّ و هما من الأعاجم الذين يجهلون العربيّة، و من الذين وردوا على بلاد الحجاز من خارجها.
و من جملة الآيات، الآية الواقعة في سورة فصّلت:
وَ لَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا (سواء بلغة أعجميّة أم بلغة عربيّة غير فصيحة) وَ لَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْ لا فُصِّلَتْ آياتُهُ ءَ أَعْجَمِيٌّ وَ عَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَ شِفاءٌ وَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَ هُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ.۱ (فلا يسمعون منه إلّا رنين صوتٍ و همهمة،
و لا يدركون معارفه و حقائقه و أصالته، و لا يفهمون منه إلّا جماله الظاهريّ و تنسيق آياته).
كما أنّه ذكر في صدر نفس السورة - بعد بيان تفصيل القرآن و كونه عربيّاً - حقيقة عدم إدراكهم للقرآن على لسانهم و بإقرارهم و اعترافهم، فقال:
حم ، تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ، كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ، بَشِيراً وَ نَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ ، وَ قالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَ فِي آذانِنا وَقْرٌ (لا يدعنا نفهم أو ندرك أو نسمعِ) وَ مِنْ بَيْنِنا وَ بَيْنِكَ حِجابٌ (لا يدعنا نراك و نستمع كلامك لنؤمن بك) فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ.۱
الآيات الدالّة على نزول القرآن بلسان عربيّ في سور الشورى و الأحقاف و طه
و من جملة الآيات، الآية الواردة في سورة الشورى:
وَ كَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ (من العواقب الوخيمة لشرور النفس الأمّارة) أُمَّ الْقُرى وَ مَنْ حَوْلَها وَ تُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَ فَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ.٢
و منها، الآية الواردة في سورة الأحقاف:
وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ وَ إِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ ، وَ مِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَ رَحْمَةً وَ هذا كِتابٌ مُصَدِّقٌ لِساناً عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَ بُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ.٣
و منها الآية المباركة في سورة طه:
وَ كَذلِكَ أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا وَ صَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً.۱
و ثمّة آيات اخرى تدلّ على كون هذا الكتاب السماويّ عربيّاً، إلّا أنّنا اكتفينا من هذه الآيات بالقدر الذي رأيناه ضروريّاً.
و علينا أن نرى الآن ما هي مزيّة اللغة العربيّة؟ و لأيّ سبب اختار الله تعالى نبيّه خاتم النبيّين و القرآن كتابه الخالد إلى يوم القيامة و حكمه و قانونه الثابت من العرب؟ و لأيّ علّة أنزل قرآنه باللغة العربيّة؟ و ما هي الفوائد المترتّبة على ذلك؟ و ما هو السبب في سرعة انتشار الدين الإسلاميّ في العالم و إيمان الامم و الأقوام المختلفة به من أعماق قلوبها و أرواحها، و في بقاء إيمان المسلمين بالدين الإسلاميّ و بالقرآن إلى يومنا هذا، و في انكشاف عظمة جديدة له كلّ يوم، و في إبلاغ القرآن أصالته بهذا اللسان العربيّ المبيّن إلى جميع العلماء و دعاة الحقّ؟
مطالب عن غوستاف لوبون في عظمة الإسلام و العرب
نجد من المناسب في هذا المجال - تمهيداً للأذهان و دعماً لكلامنا - أن نورد مطالب عن المحقِّق الكبير و العالِم المنصف، و المفكّر الاجتماعيّ! المنفتح: الدكتور غوستاف لوبون الفرنسيّ في كتابه القيّم النفيس: «تمدّن اسلام و عرب» (=حضارة الإسلام و العرب) تنويراً لأذهان من أحسّوا بالضياع و الضَّعة بسبب انغمارهم في صخب عالَم الغرب.
يقول غوستاف لوبون في مقدّمة كتابه:
«و كلّما أمعنّا في درس حضارة الإسلام و العرب و كتبهم العلميّة و اختراعاتهم و فنونهم، ظهرت لنا حقائق جديدة و آفاق واسعة، و لسرعان
ما رأينا أنّ المسلمين أصحاب الفضل في معرفة القرون الوسطى۱ لعلوم الأقدمين، و أنّ جامعات الغرب لم تعرف لها مدّة خمسة قرون مورداً علميّاً سوى مؤلّفاتهم، و أنّهم هم الذين مدّوا اوروبّا مادّةً و عقلًا و أخلاقاً، و أنّ التأريخ لم يعرف امّة أنتجت ما أنتجوه في وقتٍ قصير، و أنّه لم يَفُقْهم قومٌ في الإبداع الفنّيّ. و تأثير هذه الحضارة عظيم في الغرب، و هي في الشرق أشدّ و أقوى، و لم يتّفق لُامّة اخرى أن تخلِّف مثل هذه الآثار العظيمة الشأن؛ و الامم التي كانت لها سيادة العالم، كالآشوريّين٢ و الفرس و المصريّين و اليونان و الرومان توارت تحت أعفار الدهر و لم تترك لنا غير أطلال دارسة، و عادت أديانها و لغاتها و فنونها لا تكون سوى ذكريات؛ و العرب و إن تواروا أيضاً، لم تزل عناصر حضارتهم، و إن شئت فقُلْ ديانتهم و لغتهم و فنونهم حيّةً، و ينقاد أكثر من مائة مليون شخص مقيمين فيما بين مَرَّاكُش و الهند لشريعة الرسول.٣
و ثبتت اصول شريعة الرسول و فنون العرب و لغتهم أينما حلّت، و لم يدر في خَلَد أحد من الفاتحين الكثيرين الذين قهروا العرب إقامة حضارة مقام حضارة العرب، و انتحلوا كلّهم دين العرب و فنونهم، و اتّخذ أكثرهم العربيّة لغةً له، و تقهقرت أمام الإسلام في الهند دياناتٌ قديمة، و جعل الإسلام مصرَ الفراعنة القديمة، التي لم يكن للفرس و اليونان و الرومان فيها سوى نفوذ قليل، عربيّة تامّة العروبة، و عرفت أقوام الهند و الفرس و مصر و إفرِيقيَّة لهم سادةً غير أتباع محمّد فيما مضى، و لم يعرفوا لهم سادةً غيرَ مسلمين بعد أن رضوا بالإسلام ديناً.
حقّاً أنّ من أعاجيب التأريخ أن يُلبّي نداءَ ذلك الشهير المُلْهَم (يقصد النبيّ الأكرم) شعبٌ جامحٌ شديد الشكيمة لم يقدر على قهره فاتحٌ، و أن تنهار أمام اسمه أقوى الدول، و ألّا يزال يُمسك، و هو في جدثه، ملايينَ من الناس تحت شرعه».
و يستمرّ غوستاف لوبون في كلامه إلى أن يقول:
«و حقيقة الأمر هي أنّ الغرب وليد الشرق، و لا يزال مِفتاح ماضي الحوادث في الشرق، و تبدو الفنون و اللغات و أكثر الديانات العظمى بارزةً في الشرق، و يختلف سكّان الشرق الآن عن سكّان البلدان الاخرى في المبادئ و الآراء و المشاعر.۱
كلام غوستاف لوبون في عظمة القرآن و معنى التوحيد في الإسلام
و يقول غوستاف لوبون في الفصل الأوّل من الباب الثاني الخاصّ بالقرآن. «القرآن هو كتاب المسلمين المقدّس، و هو أيضاً دستورهم الدينيّ و المدنيّ و السياسيّ الناظم لسيرهم» ... إلى أن يصل إلى قوله:
«و لا يمكن تسمية محمّد فيلسوفاً كبيراً، أي من المفكّرين المتبحّرين الذين يُقاسون بمؤسّسي البرهميّة و البُدَّهيّة (أتباع بودا)، فهو لم ينكر سببَ الأسباب كما أنكره البُدّهيّون، و لم يقل مثلهم بأنّ الكون موجود بالضرورة ذو انحلالٍ و تركيبٍ دائميين، و لم يتّصف بنصف ما عند مؤلّفي كتب البراهمة المقدّسة من الشكّ، ۱ و لم يُدْخِل إلى القرآن مثلَ التأمّلات الآتية التي تجدها في كتب الويدا:۱ «من أين أتى هذا الكون؟ أهو من صنع خالق أم لا؟ يعلم ذلك من ينظر من فوق الفلك، و قد لا يعلم». ولكنّ أقوالًا مجرّدة مثل هذه لا تنفع غير الفلاسفة».
إلى أن يصل إلى قوله:
«و الدين الذي دعا النبيُّ إليه الناس سهلٌ جدّاً ... و يلخّص المسلمُ
الإسلامَ في هاتين الكلمتين اللتين لا يُنكر إيجازهما، و هما: لَا إلَهَ إلَّا اللهُ، مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ۱».
ثمّ يقول غوستاف لوبون في الفصل الثاني من هذا الباب «فلسفة القرآن و انتشاره في العالم»:
«إذا راجعنا الإسلام و عقائده الرئيسيّة، أمكننا عدّ الإسلام صورةً مبسّطة عن النصرانيّة، و مع ذلك فإنّ الإسلام يختلف عن النصرانيّة في كثيرٍ من الاصول، و لا سيّما في التوحيد المطلق الذي هو أصلٌ أساسيّ، و ذلك أنّ الإله الواحد الذي دعا إليه الإسلام مهمينٌ على كلّ شيء و لا تحفّ به الملائكة و القدّيسون و غيرهم ممّن يُفرَض تقديسهم. و للإسلام وحدَه أن يُباهي بأنّه أوّل دينٍ أدخل التوحيدَ إلى العالمَ.
و تشتقّ سهولة الإسلام العظيمة من التوحيد المحض، و في هذه السهولة قوّة الإسلام. و الإسلام و إدراكه سهلٌ خالٍ ممّا نراه في الأديان الاخرى و يأباه الذوق السليم غالباً من المتناقضات و الغوامض، و لا شيء أكثر وضوحاً و أقلّ غموضاً من اصول الإسلام القائلة بوجود إله واحد و بمساواة جميع الناس أمام الله و ببضعة فروض يَدخل الجنّة مَن يقوم بها، و يدخل النار مَن يعرض عنها. و أنّك إذا ما اجتمعتَ بأيّ مسلم من أيّة طبقة، رأيته يعرف ما يجب عليه أن يعتقد، و يسرد لك اصول الإسلام في بضع كلمات بسهولة.
و هو بذلك على عكس النصرانيّ الذي لا يستطيع حديثاً عن التثليث و الاستحالة و ما ماثلهما من الغوامض من غير أن يكون من علماء اللاهوت الواقفين على دقائق الجَدَل».
غوستاف لوبون. التقاء المسلمين في أمرين. اللغة العربيّة و الحجّ
و يستمرّ لوبون في كلامه إلى أن يقول:
«و لا ريب في أنّ نفوذ الإسلام السياسيّ و المدنيّ كان عظيماً إلى الغاية، فقد كانت بلاد العرب قبل محمّد مؤلّفة من إمارات مستقلّة و قبائل متقاتلة دائماً، فلمّا ظهر محمّد و مضى على ظهوره قرن واحد، كانت دولة العرب ممتدّة من بحر السند إلى إسبانيا، و كانت الحضارة تسطع بنورها الوهّاج في جميع المدن التي خفقت راية النبيّ فوقها.
و الإسلام من أكثر الديانات ملاءمة لاكتشافات العلم، و من أعظمها تهذيباً للنفوس، و حملًا على العدل و الإحسان و التسامح.
و البُدّهيّه و إن فاقت جميع الأديان الساميّة فلسفةً، تراها مضطرّة أن تتحوّل تحوّلًا تامّاً لتستمرئها الجموع، و هي لا شكَّ دون الإسلام في شكلها المعدّل هذا.
و جرت الحضارة التي أوجدها أتباع محمّد على سُنّة جميع الحضارات التي ظهرت في الدنيا، نشوءٌ فاعتلاءٌ فهبوطٌ فموت. و مع ما أصاب حضارة العرب من الدثور كالحضارات التي ظهرت قبلها، لم يمسّ الزمنُ دينَ النبيّ الذي له من النفوذ ما له في الماضي، و الذي لا يزال ذا سلطان كبير على النفوذ، مع أنّ الأديان التي هي أقدم منه تخسر كلّ يوم شيئاً من قوّتها.
و يدين بالإسلام في الوقت الحاضر أكثر من مائة مليون شخص، و اعتنقته جزيرة العرب و مصر و سورية و فلسطين و آسيا الصغرى و جزء كبير من الهند و روسية و الصين، ثمّ إفريقيّة إلى ما تحت خطّ الاستواء تقريباً.
و تجمع بين مختلف الشعوب التي اتّخذت القرآن دستوراً لها وحدة اللغة العربيّة و الصِّلات التي يُسفر عنها مجيء الحجّاج إلى مكّة من جميع
بلاد العالم الإسلاميّ لحجّ بيت الله الحرام.
و تجب على جميع أتباع محمّد تلاوة القرآن باللغة العربيّة بقدر الإمكان؛ و اللغة العربيّة هي لذلك أكثر لغات العالم انتشاراً على ما يُحتمل؛ و على ما بين الشعوب الإسلاميّة من الفروق العنصريّة، ترى بينها من التضامن الكبير ما يُمكن جمعها به تحت عَلَمٍ واحد في أحد الأيّام».
ثمّ يستمرّ لوبون في بيان هذا المطلب حتى يصل إلى حيث يقول:
«و حين نبحث في فتوحات المسلمين و أسباب انتصاراتهم، فإنّنا سنرى أنّ القوّة لم تكن عاملًا في انتشار القرآن، فقد ترك المسلمون المغلوبين أحراراً في أديانهم،۱ فإذا حدث أن اعتنق بعضُ الأقوام
النصرانيّة الإسلامَ و اتّخذوا العربيّةَ لُغةً لهم، فذلك لِما رأوا من عدل المسلمين الغالبين ما لم يروا مثله من سادتهم السابقين، و لما كان عليه الإسلام من السهولة التي لم يعرفوها من قبل.
و قد أثبت التأريخ أنّ الأديان لا تُفرض بالقوّة، فلمّا قهر النصارى عربَ الأندلس فضّل هؤلاء القتلَ و الطرد عن آخرهم على ترك الإسلام.
و لم ينتشر القرآن بالسيف إذاً، بل انتشر بالدعوة وحدَها، و بالدعوة وحدها اعتنقته الشعوبُ التي قهرت العرب مؤخّراً، كالترك و المغول؛ و بلغ القرآن من الانتشار في الهند التي لم يكن العربُ فيها غيرَ عابري سبيل، مازاد معه عدد المسلمين على خمسين مليون نفس فيها. و يزيد عدد مسلمي الهند يوماً فيوماً مع أنّ الإنجليز الذين هم سادة الهند في الوقت الحاضر، يجهّزون البعثات التبشيريّة و يرسلونها تِباعاً إلى الهند لتنصير مسلميها على غير جدوى.
و لم يكن القرآن أقلّ انتشاراً في الصين التي لم يفتح العرب أي جزء منها قطّ، و سنرى في فصلٍ آخر سرعةَ الدعوة الإسلاميّة فيها، و يزيد عدد مسلميها على عشرين مليوناً في الوقت الحاضر»۱.
و الخلاصة، فقد شاهدنا أنّ غوستاف لوبون يعتبر انتشار الإسلام عائداً إلى التوحيد المحض، خلافاً للنصارى القائلين بالتثليث، فقد تعذّر على الناس الإيمان بالمسيحيّة، لأنّ أي عقل لا يمكنه التصديق بأنّ ثلاثة
أشياء هى شيء واحد.
أمر المعصية و العقاب أحد أهم موارد الاختلاف بين المسلمين و المسيحيّين
على أنّ من موارد اختلاف المسلمين مع المسيحيين في اصول العقائد - و هو اختلاف مهم لا يمكن تجاهله، إلّا أنّ غوستاف لوبون لم يُشِرْ إليه - أمر الذنب و العقاب و الأجر و يوم القيامة، حيث تتقابل وجهة نظر الفلسفة الإسلاميّة مع الفلسفة المسيحيّة في قُطبين متقابلين، إذ إنّ منطق المسيحيّين في هذا الأمر لا ينسجم أبداً مع العقل السليم، و لا يمكن للمنصف أن يقبل به. و للمسلمين معهم جدل مستمرّ حول هذه القضيّة، و لهم كلام فيه لم يُقنع أحداً من المسلمين. و قد فرضوا هذه العقيدة على أنفسهم اتّباعاً لتعاليم الكنيسة.
إن أي مسلم يقول: إنّ إله العالم اصطفى أنبياءً ليُبَلِّغوا البشر أحكامه و أوامره، فأرسل أولئك الأنبياء و أجرى المعجزات على أيديهم من أجل أن يشخّص الناس سبيل الخير عن سبيل الشرّ و الغيّ. فمَن أطاع و أحسن و عمل صالحاً فاز و نجى، و من أساء و خالف الرُّسل تعس و عوقب.
عقيدة النصارى في معصية البشر و فداء المسيح مخالفة صريحة للعقل
أمّا المسيحيّون فلا يقولون بهذا القول، بل يعتقدون بأنّ آدم أبا البشر قد أذنب، و أنّ ذنبه و خطيئته قد انتقلا بالإرث إلى أولاده و ذرّيّته. و أنّ الله تعالى بعث الأنبياء بالشرائع ليأمروا الناس؛ و أنّ الناس يعصون ليعلموا أنّهم مذنبون. و أنّ أحداً لا يعمل بأحكام الشريعة، بل إنّ الأنبياء أنفسهم لم يعملوا بها فكانوا من المذنبين، و إنّهم زادوا على ذنبهم بمخالفتهم؛ ذلك أنّ المعصية و الخطيئة إرث و جبلّة، و الأمر الوراثيّ الجبلّيلا يمكن رفعه.
و يعتقدون بأن عمل جميع الناس بشريعة الأنبياء - على فرض إمكانه - لا يمحو الخطيئة الجبلّيّة عن الإنسان، لأنّ الخطيئة ممّا ورثه عن أبيه فصارت في ذاته و سرّه.
ثمّ إنّ الله تعالى يتجلّى في صورة المسيح لتطهير الناس من الخطيئة، فيقدّر إذلاله و قتله على أيدي اليهود، ثمّ يحيي من جديد ليرفع بقتله الخطيئة عن البشر.
هذه هي عقيدة النصارى التي يتمسّكون بها و المسطورة في كتبهم؛ و لو سألتم أي داعية مسيحيّ متنوّر عن اصول دينه، لذكر ما ذكرناه من الخرافات المخالفة لصريح العقل.
إن الله تعالى عادل رحيم، بل هو أرحم الراحمين، و لا يؤاخذ الأبناء أبداً بخطيئة أبيهم، و لا يعذّب مَن لم يعصه. و لو تاب مُذنبٌ إليه لعفا عنه، لأنّه أرحم من الأب و الامّ اللذين لو أبق ولدهما ثمّ ندم و عاد إليهما لاستقبلاه و ضمّاه في حنوٍّ و شفقة. فلا يستلزم الأمر من أجل غفران الخطيئة أن يذلّ نفسه و يقتلها بأيدي اليهود.
و ما الارتباط و العلاقة بين قتله و بين غفران خطيئة البشر؟! إنّ الله تبارك و تعالى منزّه مبرّأ من التجسّم و الحلول و لوازمهما؛ و لو اقتضت رحمته أن يعفو عن جميع الخاطئين، عفى عنهم؛ و لو اقتضى عدله أن يعذّب مستحقّي العذاب، عذّبهم.
هذه الاسس الواهية المتداعية لعقيدة النصارى، و الله سبحانه و عيسى ابن مريم منها برآء. و هذا الأمر يكفي لوحده في بطلان مذهبهم. و مَن تأمّل في ذلك تحيّر فيه، لأنّه مخالف للعقل. و مع أنّهم يعترفون بمخالفة ذلك للعقل، إلّا أنّهم يقولون: لا مفرّ من الاعتقاد بذلك، فقد ورد في الكتب المقدّسة بهذه الكيفيّة. و لو اعترضتم عليهم بالامور التالية و سألتموهم عنها، فماذا سيجيبون يا ترى؟
۱ - بأيّ دليل صار الكتاب المقدّس حجّة، و لِمَ تَقولون إنّ مطالبه من قبل الله، مع أنّكم تقولون بأنّ الأنبياء السابقين كانوا خاطئين؟ إنّ المذنب
الخاطئ قد يكذب فيمزج كذبه بالوحي و يتلوه على الناس.
٢ - كيف تبيّن بأنّ حواريي المسيح لم يكذبوا فيُدخلوا في الإنجيل ما ليس فيه ثمّ ينسبونه إلى المسيح؟ ذلك أنّ الله الذي يعذّب الابن - خلافاً للعدل - بذنب أبيه، دون أن يخشى قُبح عمله، قد يجري المعجزة على يد كذّاب يدّعي الربوبيّة. فكان عيسى - و العياذ بالله - كاذباً ادّعى الربوبيّة، فأحيا الله على يده الموتى و أجرى المعجزة على يده دون أن يخشى قبح هذا العمل. ذلك أنّ الله سبحانه ليس عادلًا حسب عقيدتكم.
٣ - إن قلتم بأنّ الله عادل لا يفعل القبيح؛ قُلنا. فهو - إذاً - لا يعذّب بني آدم بذنب أبيهم؛ و هو لذلك غير محتاج للهبوط إلى الأرض و للتعرّض للقتل و الصلب.
و قد ذكر العلماء المسلمون هذا الإشكال على النصارى، و ذكره آية الله الشعرانيّ في كتاب «راه سعادت».۱
أجل، فإنّ غوستاف لوبون يقول في الفصل الخامس من كتاب «تمدّن»، (=الحضارة)، الباب الأوّل الذي يدور عن المناهج العلميّة و اسلوب التعليم و التحقيق.
«و لم تقتصر خدمات المسلمين على ترقية العلوم بما اكتشفوه، بل
إنّهم نشروها كذلك بما أقاموا من الجامعات و ما ألّفوا من الكتب، فكان لهم الأثر البالغ في اوروبّا من هذه الناحية، و سترى في الفصل الذي ندرس فيه هذا التأثير أنّ المسلمين وحدهم كانوا أساتذة الامم النصرانيّة عدّة قرون، و أنّنا لم نطّلع على علوم قدماء اليونان و الرومان إلّا بفضل المسلمين، و أنّ التعليم في جامعاتنا لم يستغنِ عمّا نُقل إلى لغاتنا من مؤلّفات المسلمين إلّا في الأزمنة الحاضرة».۱
بحث غوستاف لوبون حول اللغة العربيّة
و يقول في الباب الثاني (اللغة، الفلسفة، الأدب، التأريخ)، في الفصل الأوّل منه الخاصّ باللغة العربيّة:
«تعدّ اللغة العربيّة من اللغات الساميّة، و تشبه اللغة العبريّة كثيراً، و تختلف في مخارجها عن أكثر اللغات الاوروبّيّة، فيجد الأجانب صعوبةً كبيرة في النطق بها.
و نجهل تأريخ نشوء اللغة العربيّة كما نعرفها الآن، ولكنّنا نعلم من الشعر العربيّ - الذي قيل قبل ظهور محمّد بقرنٍ واحد - أنّ اللغة العربيّة كانت قد وصلت إلى درجة كمالها الحاضر.
حقّاً، تشتمل اللغة العربيّة على لهجات كثيرة، ولكنّ كتّاب المسلمين أجمعوا على أنّ لهجة قبيلة محمّد تمتاز بأنّها أفصح لهجات العرب، و كان من تأثير القرآن أن جعل من اللهجة التي كُتِب بها لغةً عامّة.
و اللغة العربيّة من أكثر اللغات انسجاماً، و هي - لا ريبَ - مختلفة اللهجات في سوريّة و جزيرة العرب و مصر و الجزائر و غيرها. و لم يكن هذا الاختلاف في غير الأشكال، فترى المراكشيَّ يفهم بسهولة لَهجة المصريّين أو لهجةَ سكّان جزيرة العرب مثلًا، مع أنّ سكّان القرى
الشماليّة الفرنسيّة لا يفهمون كلمةً من لهجات سكّان القرى لجنوبيّة في فرنسا. و اسمع ما قاله الرحّالة بوركْهارْد۱ الذي يُعدّ حجّة في هذا الموضوع:
«تجد اختلافاً كبيراً، لا ريبَ، في لهجات اللغة العربيّة العامّيّة أكثر ممّا في أيّة لغة اخرى على ما يُحتمل، ولكنّه لا يَصْعُب عليك أن تفهمها جميعها إذا ما تعلّمتَ إحداها. و ذلك على الرغم من اتّساع البلدان التي يتكلّم أهلوها بها، و هي الواقعة بين مدينة مُغَادر٢ و مدينة مَسْقط، و قد يكون لاختلاف طبيعة البلدان تأثيرٌ في اختلاف تلك اللهجات التي هي عَذْبةٌ في أودية مصر و العراق الدنيا، و جافّةٌ في سوريّة و جبال بلاد البربر؛ و أعظمُ فَرْق - كما أعلم - هو ما بين لهجة المغاربة في مراكش و لهجة الأعراب بالقرب من مكّة في الحجاز، ولكنّ هذا الفرق بين تينك اللهجتَين لا يزيد على اختلاف لهجة فلّاحي سواب (جنوب ألمانيا) عن لهجة فلّاحي سكسونية (شمال ألمانيا) ...».
و ما قلناه عن نجاح المسلمين في نشر دينهم، نقول مثله عن اللغة العربيّة؛ فمع أنّ الفاتحين الذين ظهروا قبل العرب لم يستطيعوا أن يفرضوا على الامم المغلوبة لغاتهم، قَدَرَ المسلمون - بالعكس - على فرض لغتهم عليهم. و لمّا صارت اللغة العربيّة عامّة في جميع البلاد التي استولوا عليها، حلّت محلّ ما كان فيها من اللغات، كالسريانيّة، و اليونانيّة و القبطيّة و البربريّة إلى آخره.
و كان للّغة العربيّة مثل ذلك الحظّ زمناً طويلًا، حتى في بلاد فارس
على الرغم من يقظة الفرس، أي ظلّت اللغة العربيّة في بلاد فارس لغة أهل الأدب و العلم.
و انتحل الترك أنفسهم، و هم الذين احتلّوا البلاد الإسلاميّة، الخطّ العربيّ، و لا تجد في تركيا إنساناً على شيءٍ من التعليم لا يستطيع أن يفهم لغةَ القرآن بسهولة.
و لم يشذّ عن ذلك سوى الامم اللاتينيّة الاوروبّيّة التي لم تقم اللغةُ العربيّة مقامَ لغاتها القديمة، و مع ذلك فإنّ اللغة العربيّة ذاتُ أثر عميق في اللغات اللاتينيّة. و قد ألّف دوزي۱ و أنجلمن٢ معجماً في الكلمات الإسبانيّة و البرتغالية المشتقّة من اللغة العربيّة.
و تركت لغة العرب أثراً مهمّاً في فرنسا نفسها، و ذكر سِيديّو و الحقُّ ما ذكر «أنّ اللهجات السائدة لولاية أوفِرْن و ولاية ليموزان الفرنسيّتَين محشوّة بالكلمات العربيّة، و أنّ أسماء الأعلام فيهما ذات مسحة عربيّة».
قال هذا المؤلف. «و من الطبيعيّ أن تقتبس فرنسا و إيطاليا من العرب، الذين كانوا سادة البحر المتوسّط منذ القرن الثامن من الميلاد، أكثر الاصطلاحات البحريّة مثل: أميرال، اسكادر، فلوت، فرگات، كارافِل، شالوپ، سلوپ، بارك، شيورم، دارس، كالفات، استاكاد٣ و غيرها، و لا سيّما بوسول٤ (البوصلة) التي عُزي أمرها إلى أهل الصين على غير حقّ.
و أن تقتبس جيوشهما ألقاب ضبّاط جيوش المسلمين و تعابير وَغَي الحرب، و استعمالَ بارود المدافع، و القنابل، و الحرّاقات، و القذائف؛ و أن تأخذ عن حكومة بغداد و حكومة قرطبة التعابير الإداريّة مثل: معاون، گابل، تاي، تاريف، دوآن،۱ بازار و غيرها، و أن يقلّد ملوك الأسرة الثالثة الفرنسيّة المسلمين، فيأخذوا عنهم معظم اصطلاحات الصيد، حتى لفظ تورنامنت التي عدّها علماء اللغة المعاصرون خطأ مشتقّة من اللاتينيّة، و التي تعود إلى الكلمة العربيّة دَوَران التي تعنى الحركة الدائريّة. و أهمّ من ذلك كلّه اصطلاحات العلوم التي اقتبسناها من العرب، ففي علوم الرياضيّات، الكيمياء، علم الحيوان، الطبّ، أسماء الأدوية، هناك ألفاظ كثيرة ترجع إلى أصل عربيّ. و علم الفلك على الخصوص مملوء بالتعابير العربيّة، حتى أنّ أسماء أكثر النجوم مقتبسة من العربيّة، كما أنّ كلمة «أساسن»٢ التي تطلق في عصرنا على القاتل الذي يقتل الناس خُفية، مشتقّة من كلمة «الحشّاش» العربيّة».
و زعم مؤلّف أحد المعجمات الاشتقاقيّة الفرنسيّة الذي الِّف حديثاً أنّ إقامة العرب بجنوب فرنسا لم تُسفر عن شيء، لا في اللهجات، و لا في اللغة؛ فقلّة قيمة هذا الرأي تبدو ممّا قُلناه آنفاً. و من العجيب أن يكرّر
بعض المثقّفين مثلَ هذا الزعم.
و اللغة العربيّة غنيّة جدّاً، و زاد غِناها بما اضيف إليها دائماً من التعابير الجديدة التي تسرّبت فيها من اللهجات التي اتّصلت بها، و انظر إلى المعجم الذي ألّفه ابن سيده المتوفّى سنة ۱۰٦٥ م تجده مشتملًا على عشرين جزءاً».۱
لا توجد في جميع العالم لغة تماثل العربيّة جلالة و رفعة
و تعود لغات العالَم الحيّة إلى أصلَين. الأصل الساميّ، و الأصل الهنديّ و الاوروبّيّ؛ و أفضل اللغات الاوروبّيّة و أتقنها هي اللغة الفرنسيّة التي تمتلك قواعد و أدبيات متينة، أمّا اللغة الألمانيّة فهي على الرغم من صعوبة تعلّمها و امتلاكها قواعد لغويّة، لا تقف في مصاف اللغة الفرنسيّة. و الحال كذلك بالنسبة إلى اللغات الإيطاليّة و الإسبانيّة و الروسيّة. و قد تفوّقت اللغة الإنجليزيّة في عصرنا الحالي - مع الأسف - نتيجة غلبة الاستعمار في العالم، بَيدَ أنّها لغة ضحلة تفتقر إلى القواعد و النكات الأدبيّة؛ و تمتاز الإنجليزيّة بالبساطة، و قواعدها و قراءتها في منتهى السهولة، و هي دون الفرنسيّة في القياس، بل لا يمكن مقايستهما ببعضهما، و لذلك فإنّ تلاميذ المدارس كانوا يُخيّرون في بداية التجديد بين اللغة الفرنسيّة و اللغة الإنجليزيّة، فكان التلاميذ الأذكياء الذوّاقون يختارون الفرنسيّة لرغبتهم في دراسة العلوم الفرنسيّة و الأدب الفرنسيّ. ثمّ إنّ الإنجليزيّة تفوّقت تدريجيّاً نتيجة تسلّط إنجلترا و أمريكا، فتوقّف تدريس اللغة الفرنسيّة، و صارت الإنجليزيّة تُدرّس في جميع المدارس عدا الفروع الفنّيّة و الصناعيّة التي كانت مدارسها تدرّس الألمانيّة لتقدّم الألمان في هذا
الفنّ.
أمّا اللغات الساميّة، فإنّ اللغة العربيّة أفضلها دون مُنازع في الأدب و القواعد النحويّة و الصرف و المحسّنات البديعيّة و البيانيّة، و في كثرة المفردات و الاشتقاقات و الفصاحة و البلاغة، و في القدرة على الفهم و التفهيم و إيراد المطالب المهمّة و العلوم المعقّدة و المسائل المفصّلة بأوجز عبارة، مع بيان أصل المراد على أكمل نحوٍ و أتمّه، حتى أنّ اللغة العبريّة - التي هي من اللغات الساميّة أيضاً - لا تدانيها رفعةً و سموّاً. و تشهد على صدق دعوانا الأشعار و القصائد العربيّة من زمن الجاهليّة إلى عصرنا الحاضر، و الخُطب و الكتب المدوّنة في الأدب العربيّ الموجودة في أيدينا.
و لو شئنا مقارنة اللغة العربيّة في شرق الأرض مع اللغة الفرنسيّة في غربها، لشاهدنا أنّ العربيّة أوسع بمرّات و أفصح من الفرنسيّة و أكثر أصالةً، و أنّ القواعد و الصرف و النحو و الاشتقاق و المفردات و المعاني و البيان أدقّ في العربيّة و أعمق و أظرف.
و من هنا، فإنّ أيّة لغة في جميع العالم لا توازي اللغة العربيّة في علوّ مقامها و جلالها. و هناك جهة مهمّة تضاف إلى ذلك، و هي أنّ الله تعالى أنزل قرآنه الكريم باللغة العربيّة، و اختار نبيّه خاتم الأنبياء، الذي جعل دينه و حكمه في العالم قائماً إلى يوم القيامة، من العرب و من نسل إسماعيل ابن النبيّ إبراهيم عليهما سلام الله.
و لو لم تُعزل الحكومة و الولاية عن أهل بيت النبيّ. و كان زمام أمر الدعوة إلى الدين و ترويجه و نشره في اليد المباركة لأميرالمؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه أفضل صلوات المصلّين، لاعتنق العالَمُ الدينَ الإسلاميّ في سنوات صدر الإسلام، و لاختار بترحاب صدر اللغة العربيّة، لغة القرآن
المبين و النبيّ الخاتم. لكنّ انحراف التأريخ سبّب انحراف منهج التعليم و التربية، و أزال الرحى الدائرة عن قُطبها و محورها، فأوكل تلك الدعوة العامّة و الإسلام العالميّ و القرآن العالميّ و التحدّث بلغة رسول الله البيلغة الفُصحى إلى زمان ظهور قائم آل محمّد روحي و أرواح العالمين له الفِداء.
إن الأدب العربيّ و بلاغة اللغة العربيّة و أصالتها لها - دون ريب - تأثير عميق في أخلاقهم و صفاتهم الذاتيّة و مَلَكاتهم، أي أنّها تمتلك - بتعبيرٍ آخر - تأثيراً بالغاً في ثقافتهم و آرائهم و اسلوب تفكيرهم و أفكارهم الخاصّة.
و نحن نشاهد في العرب صفاتاً ليس لها شبيه و لا نظير في جميع امم العالم، منها الشجاعة، و السخاء و الإيثار، و الوفاء بالعهد و الميثاق، و الغيرة و الدفاع عن الشرف و العشيرة، و إيواء اللاجئ إليهم و الدفاع عنه إلى حدّ الاستماتة، و الضيافة و حبّ الضيف، و الصدق و عدم النفاق، و علوّ الهمّة و ثبات العزيمة، و غير ذلك من الصفات التي تشرّبت بها هذه الامّة، و تفرّعت من هذه الدوحة.۱
و هذه الصفات بأجمعها تدلّ على عظمة اصولهم، و أصالة بُنيتهم و كيانهم الروحيّ و البدنيّ. و القصص التأريخيّة التي تفوق الحصر في كلّ واحد من الموارد المذكورة خير دليلٍ على كلامنا.
و ستمكّن نظرة أجماليّة على دورات كتب «صبح الأعشي» تأليف الشيخ أبي العبّاس أحمد القلقشنديّ، و «نهاية الأرب في فنون الأدب» تأليف شهاب الدين أحمد بن عبدالوهّاب النويريّ، و «الأغاني» تأليف أبي الفرج الإصفهانيّ، من كتب المتقدّمين؛ و دورة كتاب «قصص العرب» تأليف محمّد أحمد جاد المولى، و علي محمد بَجاوي، و محمّد أبي الفضل إبراهيم الذي ألّف مؤخّراً؛ ستمكّن الشخص الخبير الباحث على التعرّف على كثير من حالات العرب الأصيلة و العريقة.
و هناك جدل دائر بين علماء الاجتماع حول الأمر التالي. هل نشأت هذه الصفات من اللغة و سعة الكلام و الأدب، أم أنّ هذه الصفات و الملكات هي التي سبّبت اتّساع الثقافة و اللغة و الأدب؟ و على أية حال، فإنّ التلازم و التقارن الوجوديّ بينهما ممّا لا يمكن إنكاره، و هو أمر كافٍ ليضع العنصر العربيّ، و هو عنصر رسول الله و هُداة الدين. الأئمّة الطاهرين، في الذروة من الرقيّ و الكمال.
السيّد جمال الدين يُهاجم رينان لادّعائه عجز العرب في العلم و الفلسفة
يقول السيّد حميد عنايت في كتابه «سيرى در انديشة سياسى عرب» (=جولة في الفكر السياسى العربيّ). «قال أرنست رينان في خطبة له تحت عنوان «الإسلام و العلم» ألقاها في جامعة السوربون، و نشرتها فيما بعد مجلّة دِدِبا (Journal des Debats):
«إنّ الإسلام يخالف الروح العلميّة و الفلسفيّة؛ و على الأخص أنّ العرب كانوا عاجزين تلقائيّاً عن تعلّم العلم و الفلسفة. و إنّما ظهر من العلم و الفلسفة ما ظهر في العالم الإسلاميّ بهمّة مَن انتمى إلى الإسلام مِن غير
العرب. و لذلك فإنّ ما اشتُهر بأنّه علم العرب و فلسفتهم هو في حقيقة الأمر العلم و الفلسفة اليونانيّين».
و في نظر رينان فإنّ فيلسوفاً واحداً من بين الفلاسفة المسلمين الكبار، قد كان من العرب، و هو يعقوب الكِنديّ. و قد لُقّب الآخرون بالعرب، نظراً لكونهم كانوا يؤلّفون بالعربيّة؛ لذلك فإنّ تسميتهم بالعرب أمرٌ غير منطقيّ، و أشبهُ شيء بتسمية الفلاسفة الاوروبيّيّن في القرون الوسطى بالفلاسفة اللاتينيّين.
و قد ردّ على هذه المقالة بعد نشرها عدّة من المثقّفين و المفكّرين المسلمين، منهم نامق كماك بك المفكّر التركيّ، و السيّد جمال.
و كان لردّ السيّد جمال الذي كتبه بالعربيّة على ما يبدو، ثمّ تُرجم إلى الفرنسيّة، انعكاساً أوسع ممّا سواه. و قد لخّص في إجابته مطالب خُطبة رينان في هاتين النكتتَين اللتين أوردناهما، أي القول بأنّ الإسلام مُعادٍ في جوهره للعلم و الفلسفة، و أنّ هذا العداء بلغ أوجه زمنَ حُكم العرب، ثمّ استمرّ على قوّته زمن الأتراك، ثمّ خفّت حدّة العداء قليلًا و بصورة مؤقّتة برواج الأفكار اليونانيّة و الإيرانيّة بين المسلمين، و ذلك لشدة مخالفة الإسلام للعلم و الفلسفة. و النكتة الثانية هي أنّ العرب كانوا في ذواتهم مخالفين للعلم و الفلسفة.
و كان البناء الاستدلالي للسيّد الذي كان قبل كلام رينان مخالفاً لُاسلوب الاوروبّيّين الفكريّ في عصره يتلخّص فيما يلي. أنّ تأريخ أي قوم ينبغي أن ينظر إليه على أساس النهضات الخالدة و التطوّر المستمرّ الذي يمتلك درجات و مراحل مختلفة. و ينبغي عند الحكم على خصوصيّةٍ من خصائص اولئك القوم، أن يؤخذ بنظر الاعتبار المرحلة التأريخيّة الخاصّة ببروز تلك الخصوصيّة، كما ينبغي عدم اعتبار أيّة سيرة و خصلة في
أ يّ قوم أمراً ذاتيّاً ملازماً لهم.
و قد ردّ السيّد على عقيدَتي رينان استناداً إلى هذا الأصل».
ثمّ إنّ السيّد عنايت يذكر بالتفصيل استدلال السيّد في ردّه على إشكال رينان الأوّل: و نظراً لأنّ جواب السيّد لا يخلو في نظرنا من الإشكال، و أنّ مواضع ضعف كثيرة مشهودة فيه، و أنّ نقله في هذا المجال سيستدعي بحثاً طويلًا وردّاً على تلك الإشكالات، فقد صرفنا النظر عنه.
ثمّ يصل إلى قوله: «و أمّا عن النكتة الثانية التي ذكرها رينان، و هي العداء الذاتيّ للعرب مع العلم و الفلسفة، يقول السيّد: «يعلم الجميع أنّ العرب قد اكتسبوا عند ظهور الإسلام، و بسرعةٍ تثير الإعجاب علوم الإيرانيّين و اليونانيّين التي استغرق تكاملها قروناً عديدة، و استفادوا منها في حضارتهم.
و لقد استمرّ تقدّم العلم و الفلسفة في ظلّ حكومة العرب؛ و بيُمن العرب انتقلت العلوم من الشرق إلى الغرب. و لقد كان أرسطو في اليونان، فلم يُلقِ الاوروبّيّون إليه بالًا، ثمّ هاجر و أضحى عربيّاً فأضحى الجميع يفخرون به. و من هنا، فإنّ العالم الإسلاميّ العربيّ قد سبق الغرب في الثقافة و الفكر خمسة قرون».
كما ردّ السيّد على مقولة رينان بأنّ أحداً من العرب سوى الكنديّ لم يبرز في الفلسفة، و أنّ أغلب الفلاسفة المسلمين كانوا من أهالي حرّان و الأندلس و فارس؛ بقوله:
«أوّلًا: إنّ الحرّانيّين أنفسهم هم من العرب، و كانوا يتكلّمون بالعربيّة قبل الإسلام بخمسة قرون.
و ثانياً: ليس من اللائق ألّا نعتبر فلاسفة الأندلس من أمثال ابن باجة، و ابن رشد، و ابن الطُّفَيل عرباً لمجرّد أنّهم لم يعيشوا في البلاد
العربيّة، لأنّ لغتهم كانت العربيّة، و اللغة من أهمّ أوجه امتياز الأقوام و الامم و خصائصها؛ و حيثما أضاع قوم هذا الامتياز، فإنّهم سيكونون قد أضاعوا في الحقيقة امتيازهم الأصليّ».۱
و يقول مؤلّف كتاب «شرح حال و آثار سيّد جمال الدين الأسد آباديّ»:
«و بعد نشر مقالة السيّد جمال الدين، ردّ عليه رينان الحكيم في اليوم اللاحق، أي في ۱٩ من شهر آيار ۱۸۸٣ م. بجواب في منتهى الأدب، نشره في نفس الجريدة.
و يقول رينان في مقالته الجوابيّة متحدّثاً عن السيّد جمال الدين - و لم يُسمع من أحدٍ وصفٌ و لا حُكمٌ ألطف منه و لا تعبيرٌ أصلح و أصوب منه في حقّ السيّد-:
«لقد قلّ أن يؤثّر في أحد مثل هذا التأثير؛ و لقد دفعني حديثي معه (أي مع السيّد جمال الدين) إلى اختيار عنوانٍ لموضوعي في مؤتمر السوربون هو: العلاقة بين الروح العلميّة و الإسلام»٢.
و نشاهد هنا أنّ إرنست رينان يحسّ بالعجز عن إجابة السيّد، و يعترف بعظمة الإسلام و العرب.
غوستاف لوبون يستجوب إرنست رينان في مسألة حضارة العرب
و لقد انتقد غوستاف لوبون في كتابه السابق الذكر إرنست رينان في هذا الموضوع في عدّة إشكالات متعاقبة ذكرها، حيث يقول في تعليقة بقلمه على بعض مباحث الكتاب الخامس في الحضارة:
«حيثما تلتقي الأوهام الموروثة و الثقافة في العالم الفاضل، و لا يدري على أيّهما يعتمد في وزن الامور، يتجلّى فيه ما يجتمع في شخصٍ واحد من الذاتيّة القديمة التي هي وليدة الماضي، و الذاتيّة العصريّة التي هي وليدة المشاهدة الشخصيّة، فيصدر عنه من الآراء المتناقضة ما يستوقف النظر. و من ذلك التناقض المثال البارز الذي يجده القارئ في الخطبة التي ألقاها الكاتب و العالم الفاضل المسيو رينان في السوربون عن الإسلام و التي أراد مسيو رينان أن يُثبت فيها عجز العرب، ولكن ترّهاته كانت تنقض بما كان يجيء في الصفحة التي تليها. فبعد أن قال مسيو رينان مثلًا. إنّ تقدّم العلوم مديون للعرب وحدهم مدّة ستمائة عام، و ذكر أنّ عدم التسامح ممّا لم يعرفه الإسلام إلّا بعد أن حلّت محلّ العرب شعوب متأخّرة كالبربر و الترك. و عاد فادّعى أنّ الإسلام اضطَهد العلم و الفلسفة و قضى على العقل في البلاد التي دانت له.
بَيدَ أنّ ناقداً بصيراً كمسيو رينان لا يستطيع أن ينام مدّة طويلة على مثل ذلك الزعم المناقض لأوضح ما رواه التأريخ، فذهبت عنه أوهامه و مبتسراته الموروثة ثانيةً، و رجع يعترف بتأثير العرب في القرون الوسطى، و يشهد بتقدّم العلوم في بلاد الأندلس أيّام سلطانهم.
و من دواعي الأسف أن تغلّبت على رينان مبتسراته غير الشاعرة بعد ذلك سريعاً، فصار يزعم أنّ علماء العرب ليسوا عرباً، بل من أبناء سمرقند و قرطبه و إشبيليّة و غيرها؛ مع أنّ الواقع أنّ تلك البلاد ممّا ملكه العرب، و أنّ الدم العربيّ ممّا جرى في عروق أبنائها، و أنّ علوم العرب ممّا كان لها نصيب منه زماناً طويلًا، و أنّه إذا ابيح لأحدٍ أن يُجادل في الآثار التي صدرت عن مدارس العرب، كان ذلك من قبيل إباحته لنفسه أن يجادل في مؤلّفات علماء فرنسا بحجّة أنّهم من الشعوب الكثيرة التي تألَّف من
مجموعها الشعبُ الفرنسيّ، كالنورمان و السلت و الأكيتان و غيرهم.
ثمّ يظهر الكاتب الفاضل مسيو رينان متأسفاً أحياناً على سوء رأيه في العرب، و يصل إلى النتيجة غير المنتظرة التي سبّبها ما أشرنا إليه سابقاً من التنازع ما بين ذاتيّة الإنسان القديمة و ذاتيّته العصريّة، فيأسف على أنّه ليس من أتباع النبيّ، و يقول: إنّني لم أدخل مسجداً من غير أن أهتزّ خاشعاً، أي مِن غير أن أشعر بشيء من الحسرة على أنّني لستُ مسلماً».۱
و يتّضح ممّا قيل أنّ العرب كانوا ذوي وزن و أصالة أكثر، و أنّ ذلك الوزن و تلك القابليّة الواسعة في نفوسهم قد تركّزت في قبيلة بني هاشم، فأنجبت ثمرةً يانعة ناضجة لعالم الخلق و قدّمتها لعالم البشريّة و هي رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم.
و لو لم تمتلك اسرة في ماهيّتها و قابليّتها الذاتيّة أصالة الذات و نزاهة الفطرة و سعة تحمّل هذه العلوم و المعارف، لما تحقّق فيها وجود مثل هذا النبيّ.
منتهى الأمر، أنّ هذه القابليّة قد انتقلت بالتوارث نسلًا بعد نسل، حتى أذِن الله لها فظهرت بأمره، و بلغت فعليّتها التامّة، و كشفت الأستار عن طلعتها.
لقد اتّبع العرب شريعة النبيّ إبراهيم عليه السلام، لكنّهم حرّفوا تلك الشريعة عن مسارها الأصيل لبُعد العهد، فادخل فيها من منكرات العقائد من قبيل عبادة الأصنام و اتّخاذ آلهة، كما أقحموا فيها من منكرات الأفعال كتقديم القرابين للأصنام، و وأد بناتهم بسبب الحميّة و العصبيّة، و كالطواف
عرايا بحجّة عدم استعدادهم للبس ملابس ملوّثة بالذنوب عند الطواف، و نظائر ذلك.
بَيدَ أنّ أصالة تلك القبيلة و علوّ صفاتها النفسانيّة و ملكاتها الفطريّة و المكتسبة كانت مختفية تحت ستار الجهل و ضعف البصيرة. و كانت الحاجة ماسّة في هذه العصر الذي كان يدعى بـ الفَتْرَة إلى معلّم و مربٍّ و طبيب حاذق و حكيم مدبّر، يضع العلاج الناجع لهذا المرض بنبوّته و رسالته من قبل الله المتعال، ليشفي هذا المريض و يعيده سليماً مُعافى. و من هنا، فقد كان للحن كلامه وَقْع في الأرواح الضمأي المهيّئة. فطرد من أعينها سكرات الكرى، و بلغ بقابليّاتها إلى فعليّتها، و سار بها في نهج التكامل و مسيرة العزّ و الطهارة.
إن العنصر العربيّ في حدّ ذاته عنصر رفيع غنيّ، و من هذا العنصر ارتفع صوت الرسول الأكرم صلّى الله عليه و آله و سلّم مذكّراً بأنّ علوّ العنصر لا يستدعي ارتفاع الدرجة و الثواب النفسانيّ، لأنّ الثواب و العقاب تابعان للنيّة و الأخلاق و التقوى و السعي. كما نزلت الآية القرآنيّة على هذا النبيّ في هذا الشأن؛ و بغير ذلك فإنّ كلّ نفس و كلّ قابليّة لن يمكنها تحمّل هذا القانون العظيم، و ستضيق عن استيعابه.
الافتخار بالعِرْق و القوميّة أمر مذموم، لأنّ العرق ليس أمراً اختياريّاً
إن المباهاة و الافتخار بالعرق و العنصر أمرٌ ذميم، لأنّ العرق و العنصر ليس أمراً اختياريّاً، و ينبغي على الإنسان ذي البصيرة أن يفتخر بالتقوي و العلم و الجهاد في طريق التكامل و نيل مصالحه الحقيقيّة و النفسانيّة.
لقد كان النبيّ الكريم يحذّر العرب بأن لا يفتخروا بقدرتهم التكوينيّة و قابليّة عنصرهم و عرقهم، و كان يُحذّر باللغة العربيّة ذاتها جميع أهل العالم بنفس التحذير حيثما اقتضي الأمر تحذيرهم.
و لقد وُجِدَتْ في أواخر القرن الأوّل و القرن الثاني الهجريّين
القمريّين جماعة في إيران حاربت العنصر العربيّ و الدم العربيّ منطلقة من انتمائها الإيرانيّ و أصالتها الإيرانيّة. و على الرغم من أنّ تلك الحركة و الانتفاضة حملت في بداية أمرها عنوان المطالبة بالعدالة و إزالة المظالم العنصريّة، و كانت حركة ممتدحة لهذا السبب، لكنّها تحوّلت تدريجيّاً إلى حركة شعوبيّة ترفع شعار أصالة العنصر الفارسيّ في مواجهة العنصر العربيّ، و هو أمر شديد القُبح، يشبه إلى حدٍّ بعيد الاتِّجاهات و النزعات القوميّة في عصرنا الحاضر التي تتشدّق بالمحافظة على الهويّة القوميّة الفارسيّة و العرق الفارسيّ و اللغة الفارسيّة و إحياء لغات زَند و أوِستا،۱ و بإحياء الأعياد القوميّة الإيرانيّة في مقابل اتّحاد الإسلام و حفظ حريم وحدته المقدّسة.
و هذه النظرة هي بالنتيجة خيانة للنفس و للمجتمع الإسلاميّ، و تمثّل استجابه لدسائس الاستعمار و تحريكاته. و هذه الخطط قد وُضعت من أجل سلب ثقة الناس بأصالة أخلاق الإسلام و طهارة روح النبوّة و الولاية، و تستهدف تفريقهم من تحت اللواء الواحد.
إحراق العرب لمكتبتَي الإسكندرية و إيران إشاعةٌ كاذبة
و يقول هؤلاء بأنّ العرب طوائف وحشيّة قامت بإحراق مكتبة الإسكندريّة و مكتبة إيران، و دمّرت الحضارات. و هو قول ليس له ما يدعمه من التأريخ، و ليس إلّا مجرّد إشاعة نشرها المسيحيّون الصليبيّون بعد الحروب الصليبيّة تفريغاً لأحقادهم على المسلمين المنتصرين، شأنها شأن سائر الافتراءات و الأكاذيب التي افتروها على النبيّ الأكرم و على المسلمين.
و هذه الافتراءات من الوقاحة و الشناعة إلى الحدّ الذي جعل أحد
محقّقيهم مُجبراً على تأليف كتابٍ سمّاه «عذر تقصير به پيشگاه محمّد و قرآن» (= اعتذار من التقصير إلى ساحة النبيّ و القرآن)۱، فيرّد فيه على تهمة إحراق الكتب.
و لقد صرّح كثير من محقّقي اوروبّاً المشهورين من أمثال هِكتور، جود فري، إرنست رينان، سيدلو، كارليل، غيبون و غيرهم بخطأ كثير من الروايات و الأخبار غير المُجدية التي انتشرت في اوروبّا عن الإسلام و المسلمين، وردّوا على ذلك في كتبهم، و من جملة تلك الأخبار، شائعة إحراق مكتبة الإسكندريّة.
يقول شِبلي نعمان في رسالة مكتبة الاسكندريّة حسب نقل المرحوم المطهّريّ. «و ينبغي العلم أنّ من بين الشائعات التي ذكرناها، شائعة إحراق مكتبة الإسكندريّة، فقد نشرت اوروبّا هذه القضيّة بصوت غريب و لهجة مُهيبة مُحيّرة، بحيث إنّ كتب التأريخ، القصص، المذهب، المنطق، الفلسفة و أمثالها لا تخلو من أثر منها. (فقد سعوا ترسيخاً لهذه القصّة في الأذهان، إلى ذِكرها في كلّ كتاب مهما كان نوعه، حتى أنّهم ذكروها في كتب الفلسفة و المنطق) حتى أنّهم جعلوها ضمن أسئلة الامتحان السنويّ لـ اونيورسيتي كلكتّا الهنديّة (و كانت تحت إشراف الإنجليز) الخاصّة بدرس المنطق، حيث طبعوا من تلك الأسئلة عدّة آلاف من النسخ. فطلبوا حلّ المغلطة التالية:
إن وافقت الكتبُ القرآنَ فلا ضرورةَ لها، و إن لم توافقه فَأحْرِقْهَا جميعاً!
ثمّ يتساءل شبلي نعمان. ما هي السياسة التي تقف خلف ذلك؟ أهي نوع من التعاطف و المشاركة القلبيّة في شأن الكتب المحترقة، أم إنّ وراء الأمر ما وراءه؟!
إن كان في الأمر تعاطفاً و إخلاصاً، فَلِمَ لا يكون هناك تعاطف في شأن إحراق الكتب المسلّم المهيب الذي حصل على أيدي المسيحيّين أنفسهم في فتح الأندلس و خلال الحروب الصليبيّة؟!
يجيب شبلي بنفسه بهذه العبارة: إنّ السبب الأصليّ هو أنّ تلك المكتبة (مكتبة الإسكندريّة) قد دمّرها المسيحيّون أنفسهم قبل الإسلام، ثمّ عادوا يُوحون إلى الأذهان من خلال إعلامهم المكثّف أنّ المسلمين هم الذين دمّروها. فهدفهم الأساس هو - إذاً - التغطية على جريمتهم).
و يستمرّ المرحوم الشهيد المطهّريّ في كلامه فيقول:
«إنّ السبب الذي ذكره شبلي هو أحد أسباب القضيّة، و يصدق على مورد مكتبة الإسكندريّة دون سواه من الموارد. و هناك سببٌ أو أسباب اخري في الأمر. إنّ المسألة الأساسيّة هي الاستعمار.
إن الاستعمار السياسيّ و الاقتصاديّ يُحرز نجاحاً حين يكون الاستعمار الثقافيّ قد أحرز نجاحاً في مضماره. و الشرط الأساس لهذا النجاح هو سلب اعتقاد الناس بثقافتهم و تأريخهم. و قد شخّص الاستعمار و جرّب أنّ الثقافة التي يستند إليها المسلمون، و النظريّة (الآيديولوجيّة) التي يفتخرون بها، هما الثقافة و النظريّة الإسلاميّتَيْن، و فيما عدا ذلك هراء لا يتخطّي أبداً الجدران الأربعة للمؤتمرات و الاحتفالات و المجالس و الندوات، و لا ينفذ إلى صميم الشعب. و ينبغي لذلك أن يتمّ إفراغ الناس من ذلك الاعتقاد و الإيمان، و من ذلك الاعتماد و حسن الظنّ، ليكونوا مهيّئين لصبّهم في قوالب النماذج الغربيّة.
و ليس أفضلَ، لخلق سوء ظنّ الناس بتلك الثقافة و تلك النظريّة و بمن جاء بهما، من أن يُوحي إلى الجيل الجديد بأنّ مَن تتصوّرونهم حملة رسالة نجاة البشريّة و حرّيّتها و هدايتها إلى سعادتها، و الذين كانوا - تحت هذا العنوان - يهاجمون الدول الاخري و يُسقطون أنظمتها، قد ارتكبوا بأنفسهم أشدّ الأعمال وحشيّةً، و هذا هو مثالٌ لما عملوه.
و لذلك، فإنّ القارئ المحترم لن يعجب إذا لم تجد لجنة الامتحان السنويّ في اونيورسيتي كلكتّا الهنديّة التي كانت تدار من قبل الإنجليز، سؤالًا لحلّ مغالطة المنطق إلّا الأمر المختلق بإحراق الكتب. و حين يكتب مؤلّف إيرانيّ ألّف كتاب «مباني الفلسفة» لطلبة الصف السادس الثانويّ، الذي يُطبع منه كلّ سنة عشرات الآلاف من النسخ، فيصل إلى مبحث القياس الاستثنائيّ في المنطق، لكنّه يعتصر ذهنه فلا يجد سؤالًا يورده في الشأن إلّا السؤال الذي طرحه المخطّطون الإنجليز في اونيورسيتي كلكتّا، فيُجبر على طرح المسألة على النحو التالي:
«يمكن للقياس الاستثنائيّ أن يكون منفصلًا و متّصلًا في نفس الوقت، أي أن يكون مركّباً. و المثال على هذا القياس هو القول المعروف المنسوب للقائد العربيّ الذي أراد تقديم تبرير استدلإلي لإحراق مكتبة الساسانيّين فقال:
هذه الكتب، إمّا أن تكون موافقة للقرآن أو مُخالفة له: فإن وافقت القرآن كان وجودها زائداً، و إن خالفته كان وجودها زائداً و مضرّاً. و كلّ زائد و مضرّ يجب أن يُتلَف. فهذه الكتب - في جميع الأحوال - ينبغي أن تُحرق. (الدكتور على أكبر سياسي «مباني فلسفه» ص ٢٥٤).
ثمّ يختم المرحوم المطهّريّ كلامه في هذا الموضوع بقوله:
«إنّ كلّ هذه الأبواق التي ملأت ما بين اوروبّا إلى الهند، و الكتب
التي تؤلّف في موضوعها، و القصص التي تُصاغ عنها، و إقحامها في كتب المنطق و الفلسفة و الأسئلة الامتحانيّة من أجل جعلها أمراً قطعيّاً مسلّماً، ليست من أجل أحساسات و عواطف ضدّ عُمَر أو ضدّ عمرو بن العاصّ، و ليست قُربةً إلى الله تعالى و خدمةً لعالم التشيّع و من أجل إسقاط اعتبار خصوم أميرالمؤمنين عليّ عليه السلام.
إن الإسلام - لا سواه - هو المسألة المطروحة في مثل هذا الجوّ الذي يجري فيه طرح هذه المسائل، و إنّ السلاح المؤثِّر ضدّ دين أو مذهب معيّن في عالمنا المعاصر ليس البحوث الكلاميّة و الاستدلالات المنطقيّة الذهنيّة، بل إنّ طرح اسلوب تعامل أتباع مذهبٍ معيَّن في مسيرة التأريخ مع مظاهر الثقافة و المدنيّة هو السلاح الأكثر تأثيراً في صالح ذلكما المذهب و الدين أو في غير صالحهما».۱
أجل، فإنّ هذا الصخب و الضجيج حول العرب و هجوم العرب على إيران، و هذه التهم التي اختُلقت و تُختلق، ليست موجّهة ضدّ العرب، بل ضدّ الإسلام. فهم أعجز عن أن يجسروا على ساحة الإسلام و القرآن و الرسول، و لذا فإنّهم يهاجمونها تحت ستار الهجوم على العرب.
إحياء اللغات الفارسية القديمة يمثَّل نكوصاً عن تعاليم القرآن
و قد اجتهد المجمع اللغويّ الإيرانيّ في زمن الاستعمار البهلويّ، تحت شعار المحافظة على الآثار القوميّة، إلى استبعاد الكلمات العربيّة باعتبارها لغة أجنبيّة دخيلة، سعياً مباشراً منه إلى القضاء على روح الإسلام. و ها هو اليوم أيضاً يتابع نفس النهج و المسار.
و كانوا يقتفون خُطى أحمد كسروي - و كان نفسه من أفراد هذه الزمرة - فيستخرجون المفردات البهلويّة الغريبة من طيّات الكتب
المتروكة و المعاجم اللغويّة، فيجعلونها مكان الألفاظ العربيّة المليحة السهلة المأنوسة التي دخلت في الفارسيّة فأضفت عليها ملاحةً عجيبة.
و كان هناك في زمن رضاخان و ابنه محمّد رضا البهلويّ مؤسّسة في البلاط ترتبط بوزارة المعارف و الثقافة بخصوص هذه الامور، و كانت تبذل قصارى وُسعها في محو الثقافة الإسلاميّة و المفردات العربيّة. و كانوا يهدرون أموال الشعب في إدارة المجمع اللغويّ الواقعة خلف مدرسة «سبهسالار» في هذا الأمر.
فقاموا بتغيير اسم «مسجد» إلى «دمرگاه»؛ و «قبرستان = المقبرة» إلى «گورستان»؛ و «اجتماع» إلى «گردهمائي»؛ و «خصوصاً» و «مخصوصاً» إلى «ويژه»؛ و «جمع و تفريق و ضرب و تقسيم» (العمليّات الرياضيّة الأربع) إلى «أفزايش و كاهش وزدن و بخش». و هكذا الأمر في سائر المصطلحات الرياضيّة، بحيث كان المعلّمون أنفسهم يصابون بالدوار أحياناً و يعجزون عن بيان ما يرمون إليه.
و هذه الامور تحصل من أجل إبعاد الناس عن لغة القرآن، و لقطع ارتباطهم بـ «نهج البلاغة»، و لتغريبهم عن الجمعة و الجماعة، و لسلب معرفتهم بهذه المعارف الأصيلة.۱
و من هذه المقولة حذف حرف الطاء من الكلمات و إبداله بحرف التاء، كتبديل كتابة لفظ طهران إلى تهران؛ والأمر كذلك بالنسبة إلى باقي الحروف العربيّة مثل ظ، ص، ض، ع، غ، ث، ذ.
و لو كان تدريس العربيّة يجري في يُسر و سهولة منذ زمن الطفولة، و كان ضمن برنامج الأطفال، ثمّ يتدرّج الأمر، لصار فتياننا و شبابنا قادرين
عند بلوغ المرحلة الجامعيّة على القراءة و الكتابة و التكلّم بالعربيّة، و لأضحوا قادرين على مراجعة الثقافة العظيمة للتأريخ و الحديث و الفقه و التفسير، و على الارتواء من مناهل العرفان.
لكنّهم - على العكس - وضعوا دراسة العربيّة في المراحل العالية، باسلوب غير صحيح يعسر فهمه على المعلِّم و التلميذ على حدٍّ سواء. فهم يتعمّدون إتعاب التلاميذ و سلب اشتياقهم للتعلُّم. ثمّ إنّهم يضعون درجة امتحانيّة للرياضيّات (من الجبر و الحساب الاستدلاليّ) و للفيزياء و الكيمياء، و لا يضعون درجةً للعربيّة، بل إنّهم يضعونها في درجة تافهة تساوى فيها وجودها و عدمها.
و في النتيجة فإنّ الشابّ الجامعيّ سيعجز عن الكتابة الصحيحة، فضلًا عن قراءة القرآن، فيكتب من أمريكا لوالده رسالةً يقول فيها: مَن طَبْ كردهام (تب).۱
لقد فصلوا العلاقة بين الشباب و بين القرآن، و صار بعضهم يرسل ولده في سنّ الطفولة للدراسة في الخارج، أي إلى دول الكفر، يرسل الطفل الذي ينبغي أن يتربّى في أحضان امّه، و الذي لم يعرف بعدُ التكلّم بالفارسيّة و أداء مخارج حروفها و لهجتها، فيُدَرَّس الإنجليزيّة هناك، و يتباهى الأب بهذا العمل الخاطئ.
جاءني يوماً شابّ وسيم في مسجد القائم، ليسألني عن مسائل الصلاة و الوضوء و الغُسل و التيمّم، لكنّه لم يكن يُحسن الكلام بالفارسيّة و لا أداء مخارج حروفها و لهجتها، و يتحدّث بكلمات ممطوطة تثير الاشمئزاز،
شأن الأجانب الذين يريدون التحدّث بالفارسيّة.
قال: لقد أصبحت دكتوراً، فقد ارسلتُ إلى الخارج منذ طفولتي، وعدتُ حديثاً. و قد أجريت تحقيقات حول الإسلام، فعرفتُ أنّه الدين الصحيح، و أريد أن أعرف الآن مسائلي!
فتأمّلوا في المدى الذي وصل إليه الأمر!
الترويج للفردوسيّ و ديوانه «شاهنامه»، ترويج العداء للإسلام
ماذا وراء كلّ هذه الضجّة حول عظمة الفردوسيّ، و الاحتفال بتكريمه، و بمرور ألف سنة على وفاته، و بناء مقبرة له، و دعوة الأجانب من جميع الدول لإحياء أمر ال - «شاهنامه»،۱ و تجليل هذا الخاسر الفقير؟!
لأنّه صرف ثلاثين سنة من عمره فجمع ديواناً يشتمل على الأساطير، تحدّى به لغة القرآن (العربيّة) و لغة الإسلام و لغة رسول الله؛ كلّ ذلك عشقاً منه لدنانير السلطان محمود الغزنويّ.
لقد قضى القرآن على المباهاة بعظام السلف الصدئة و أي عاقلٍ يتمسّك بالأوهام و يُبهج نفسه بألقاب الأجداد الموتى و اعتباراتهم، و قد أضحت عظامهم في قبورهم رميماً، بعد نزول سورة أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ ، حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ! ٢
لقد أراد الفردوسيّ بديوانه الاسطوريّ «شاهنامه» و هو ديوان تخيّليّ أن يُقيم باطلًا في مقابل القرآن الكريم، و يقيم أوهاماً في مواجهة اليقين، فجازاه الله على فعله في الدنيا، و لا علم لنا بعاقبته في الآخرة:
بسى رنج بردم در اين سال سى | *** | عجم زنده كردم بدين پارسى |
چو از دست دادند گنج مرا | *** | نبد حاصلى دسترنج مرا۱ |
و لقد شاهدنا في عصرنا أنّ كلّ مَن أراد أن يرفع العجم في مقابل الإسلام، و أن يجعل الفارسيّة في مواجهة القرآن، قد توفّي في ذلّة و مسكنة عجيبَين، فَاعْتَبِرُوا يَا اولِي الأبْصَارِ!
أذكر جيّداً أنّي طالعت قبل ما يقرب من ثلاثين سنة مجلّة من مجلّات «راهنماي كتاب» (=دليل الكتاب)، فكان فيها مقالة لعلي دشتي حول الفردوسيّ و مقامه و منزلته، و قد أظهر هذا الرجل في تلك المقالة عداءه للإسلام في شيطنة خفيّة. و تحدّثت هذه المقالة عن الفردوسيّ و ديوانه «شاهنامه»، و نورد ملخّصاً لاستنتاجاته:
لقد تحدّث الكثير عن الفردوسيّ و تدوين الـ «شاهنامه»، لكنّي اريد هنا أن أكشف الستار عن هذا الأمر للطلبة الجامعيِّين و لأصحاب الاطّلاع. لقد اختلج في ذهني هذا الأمر سنواتٍ طوالًا دون أن أتمكّن من إظهاره
لموانع معيّنة، و ها قد حان الوقت لُاقدّمه للشباب و الطلّاب و أرباب الفضل.
و تلك النكتة هي أنّ دولة إيران قد تعرّضت خلال الأزمنة المتمادية إلى هجمات أقوام أجنبيّة، مما أدّى إلى ضياع ثروتها و عمرانها و مكتبتها و جميع آثارها القوميّة، كفتنة المغول و غيرهم. إلّا أنّ أيّةً من هذه الهجمات لم تماثل - في الإضرار بإيران - هجومَ العرب. لأنّ تلك الحملات و الهجمات كانت تتركّز في الامور العسكريّة و التخريب و الغارة و الفساد الذي كان يعقبها، و التي كانت ترمّم بعد مدّة وتُبدّل إلى صلاح و عُمران.
أمّا هجوم العرب فقد اقترن بخُلُق التفاخر، و بدينهم و تعليمهم و تربيتهم، و لذلك فقد ترسّخ في نفوس الناس و تأصّل فيها. و من الواضح أنّ النفوس و القلوب لا يمكن إصلاحها بالإصلاح و العمران الخارجيَين.
و قد دام هذا الأمر حتى قام الفردوسيّ بتدوين ديوانه «شاهنامه» في مقابل العرب، فأظهر أنّ الأصالة الإيرانيّة و القوميّة هي التي يمكنها مواجهتهم. و لقد أزاح الفردوسيّ، بإحيائه اللغة الفارسيّة و بكتابه النفيس هذا، الستارَ عن آثار الأجداد و قوميّتهم، و أحيى إيران و الإيرانيّين.
لذا، فإنّ الخدمة التي قدّمها الفردوسيّ لهذه الأرض تفوق خدمات غيره، و تستحقّ التقدير و المدح، إذ لم يبلغ أحد من شعرائنا مقامه و درجته. (هذا هو ملخّص كلامه في تلك المجلّة).۱
...۱
رسالة المطهّريّ إلي قائدالثورة الفقيد في تشخيص هويّة الدكتور شريعتي (ت)
...۱
...۱
به گردا گرد خود چندان كه بينم | *** | بَلا انگشتريّ و من نگينم |
الاستعمار يصوّر الجهاد الإسلاميّ أشبه بهجوم الإسكندر و المغول
و قد قرأ الحقير في بعض رسائل الدكتور على أكبر الشهابيّ قوله: إنّ كتاب «بيست و سه سال» (=السنوات الثلاث و العشرون) الذي الِّف و نُشر في زمان الطاغوت دون ذكر لاسم المؤلّف أو توقيعه، و ضمّ تُهماً و أكاذيب و مكراً وحيلًا و كتماناً للحقائق و افتراءات موجّهة ضدّ رسول الله و ضدّ الإسلام و القرآن، قد كان مؤلّفه علي دشتي بمعونة بعض الماركسيّين العالميّين.۱
و هؤلاء هم الأعداء الذين باعوا أنفسهم للاستعمار و وصمت جباههم منذ قديم الأيّام بوصم الرّق و العبوديّة للكفر، و الذين قضوا أعمارهم في محاربة الإسلام و القرآن و الشرف و القوميّة مقابل ثمن بخس من ورق دنيويّ. و هويّة هؤلاء و ملفّاتهم ممّا لا يعتري الناس اليقظين فيها أي شكّ.
إذ، أي عدوٍّ، بعيدٍ عن المروءة يضع النهضة الإسلاميّة في مصافّ هجمة الإسكندر و هجمة المغول؟!
لقد استقبل الإيرانيّون ذوو الفكر و الأصالة الإسلام بترحاب، حيث إنّهم أسلموا تدريجيّاً على مدى قرنين من الزمان بعد تفكّر و تدبّر، دون أن يُجبرهم على ذلك شيء. و لقد عاشوا في حمى الإسلام حين كانوا على دين زرادتشت، فكان الإسلام يُعاملهم معاملة أهل الكتاب، فيأخذ منهم الجزية بدلًا من الخُمس و الزكاة، و يدعهم أحراراً في امور عبادتهم. و كانت معابد النار لديهم موقدة إلى القرنين الثالث و الرابع: و كانوا يعيشون في حمى الإسلام و أمانه دون أيّة مضايقة - باعتبارهم من أهل الكتاب - و كانت أرواحهم و أموالهم و أعراضهم و نواميسهم محفوظة.
و قد أقرّ إدوارد براون في مواضع من كتابه بأنّ الإيرانيّين اعتنقوا الإسلام عن رغبة، فقال: «إنّ التحقيق في الغلبة التدريجيّة للدين الإسلاميّ على مذهب زرادشت أشدّ صعوبة من التحقيق في أمر استيلاء العرب على ممتلكات الساسانيّين من الأراضي. إذ يحصل كثيراً أن يتصوّر المرء أنّ
المقاتلين المسلمين كانوا يخيّرون الأقوام و الممالك المفتوحة بين أمرين. القرآن و السيف. إلّا أنّ هذا التصوّر بعيد عن الحقيقة، لأنّ اليهود و النصارى و الزرادشتية كانوا مُجازين في البقاء على أديانهم، و كانوا مُجبرين فقط على أداء الجزية.
و هذا الوضع عادلٌ تماماً، لأنّ أتباع الخلفاء من غير المسلمين، كانوا يُعْفَون من المشاركة في الغزوات و من دفع الخمس و الزكاة التي كانت مفترضةً على امّة النبيّ».۱
و كان الإيرانيون يشاهدون صدق الجنود المسلمين و أمانتهم، و قِتالهم في سبيل أهداف واضحة، و عن إيمان و اعتقاد كاملين برسالتهم التأريخيّة، و اطمئنان كامل بصحّة هدفهم و دَورهم، سواء عليهم في ذلك قَتلوا أم قُتلوا، و عن اعتقادٍ عميق بالله الواحد و يوم الجزاء.
و أنّ التضحيات و الاستماتة و المحاورات و الكلمات التي خلّفوها و التي سجّلها التأريخ، تُظهر أنّ إيمان الجنود المسلمين بالله و بالقيامة و بصدق رسالة الرسول الأكرم صلّى الله عليه و آله و سلّم و إيمانهم برسالتهم و دَورهم قد بلغت الذروة. فقد كانوا يعتقدون بعبادة الله الواحد دون سواه، و بوجوب نجاة كلّ امّة تعبد إلهاً غير الله الأحد بأيّ شكل و صورة كانت؛ فكان جهادهم هذا جهاداً من أجل تحرير الإيرانيّين الموثقين بأغلال الخرافات و الأباطيل. يُضاف إلى ذلك أنّهم كانوا يعتقدون بأنّ من رسالتهم إقرار العدل و تخليص الطبقات المظلومة من مخالب الظالمين.
و كانت خُطبهم التي يلقونها في المناسبات المختلفة لبيان أهدافهم تشير إلى أنّهم كانوا واعين مُدركين لما يفعلون، و أنّهم كانوا يسيرون
باتّجاه هدف مشخّص معيّن، و أنّهم كانوا يقودون نهضةً عظيمة و ثورة جليلة بتمام معنى الكلمة.
و لقد شاهد الإيرانيّون هذه الامور و سمعوها، فكانوا يُضَلّلون فيتولّهون و يؤمنون طوعاً و رغبة.
فانظروا كم ابتعد عن الإنصاف و الشرف هؤلاء الأفراد% ۰۱٣ - ۷% ذوي الهويّة المعلومة من أمثال دشتي و الدكاترة الذين يدرّسون في معاهد تربية المعلّمين، في نشرهم لهذه الإشاعة في الكتب الدراسيّة، فقد انبعثت أصواتهم من حنجرة الاستعمار، و قد سعوا بأجمعهم لجعل جهاد مقاتلي الإسلام المقدّس أشبه بحملة جنكيز و هولاكو و الأفاغنة و الإسكندر؟!
هدف الاستعمار من الثقافة ضعضعة المستوى العلميّ للقرآن في الأذهان
و على العموم، فمنذ مدّة و الروح المخالفة للعرب تُفرض على التلاميذ في مدارسنا (من حذف الكلمات العربيّة الجميلة المليحة و استبدالها بألفاظ غير مأنوسة، مثل كتابات كسري)، و هذا المسار يصبّ في صالح هدف الاستعمار و ينسجم معه. و لقد أثّر إبراهيم پور داود - و هو عدوّ للعرب و لكلّ ما ينتمي إلى العرب حسب قول المرحوم القزوينيّ۱ - على الدكتور محمّد معين ليكتب كتاباً لإحياء المذهب الزرادشتيّ و آدابه و سننه الجاهليّة، و يقوم بشرح مفردات مَزْديسْنا في الأدب الفارسيّ، و المقصود بذلك الفكر الزرادشتيّ في الأدب الفارسيّ.٢
و قد ذكر إبراهيم پور داود - و هو المشرف على تأليف الكتاب، و كان الدكتور معين حينذاك خاضعاً لتأثيره الشديد - في مقدّمة الكتاب
الهدف الرئيسيّ من تأليفه و هو. أنّ الروح الإيرانيّة على امتداد تأريخ إيران لعدّة آلاف من السنين، حتى في العصر الإسلاميّ، هي الروح الزرادشتيّة. و أنّ أي عامل لم يستطع إخضاع هذه الروح لتأثيره و نفوذه، بل على العكس، فإنّ هذه الروح قد أثّرت في ذلك العامل.
و على سبيل المثال ف - «إنّ الدين الذي جاء به الفاتحون العرب إلى الإيرانيّين قد اكتسب هنا صبغة و واجهة إيرانيّة فصار يُدعى تشيّعاً، و امتاز بذلك عن مذاهب أهل السنّة» (التي تمثّل الإسلام الصحيح حسب عقيدة پور داود).۱
و نشاهد هنا أنّ الحديث ليس عن الإسلام و عن محمّد و عن القرآن؛ بل هو حديث عن الفاتحين العرب. و الهدف من ذلك هو إلقاء الشبهة في أذهان الشباب البسطاء، و إفساد إيمانهم و ثباتهم.
و من الواضح أنّ أحداً منهم لن يصبح زرادشتيّاً، بَيدَ أنّ فتوراً و ضعفاً سيطرأ على إيمانهم و ثباتهم على الإسلام، و في جهادهم. و هذا هو هدف الكفر من تربية أمثال پور داود و الدكتور مُعين، حيث إنّهم يحطّون من المستوى العلميّ للقرآن في الأذهان عن طريق الثقافة و الأدبيّات. و يصرفون أذهان الشباب إليهم من خلال لفت أنظارهم إلى مفردات الزرادشتيّة القديمة الميّتة و أدبها، و يصدّونهم عن ماء القرآن المعين و كلماته و تفسيره، و عن السير العمليّ و الفعليّ في نهجه و طريقه في نهاية المطاف.٢
القرآن كتاب محبّب و مقبول حتى للكفّار
يقول إدوارد براون: «يتضمّن كتاب أوستا مبادئ عقائد شخص شهير هو زرادشت، و يحتوي على أحكام دين العالم القديم. و قد لعب هذا الدين دوراً هامّاً في تأريخ العالم؛ و مع أنّ عدد أتباعه الفعليّين في إيران لا يتجاوز عشرة آلاف نفر، و لا يتجاوز في الهند تسعين ألفاً، فقد كانت له آثار عميقة في الأديان الاخرى التي فاقته في أهمّيّتها. و مع ذلك، فلا يمكن وصف أوستا بأنّه كتاب مقبول أو محبوب.
صحيحٌ أنّ الشكّ يعترينا عند تفسير أكثر عباراته، و أنّ قيمة ذلك الكتاب ستتّضح بصورة أفضل إذا جرى الوصول إلى مفاهيمه. لكن، بإمكاني أن أقول عن نفسي هذه النكتة، و هي أنّني كلّما طالعتُ القرآن أكثر فأكثر، و كلّما سعيتُ لإدراك روح القرآن أكثر، زاد إدراكي لقدره
و منزلته. أمّا التحقيق في كتاب أوستا فمملٌّ و مُضجر و متعب، إلّا أن يكون ذلك بهدف إجراء دراسة في علم اللغة أو علم الأساطير و غيرها من الأهداف التطبيقيّة».۱
يقول المرحوم الشهيد المطهّريّ رحمة الله عليه: «و إذا ما لاحظتم، فقد حصلت بعد ذلك ثورات من قبل الإيرانيّين في مناطق الحكم الإسلاميّ، و كان السبب فيها عادةً أنّهم كانوا يريدون إنقاذ أنفسهم من براثن الذين كانوا لا يطبّقون العدالة الإسلاميّة. و بعبارة اخرى فإنّهم كانوا يقاتلون الحكومات التي كانت تنحرف عن القوانين الإسلاميّة. و بصورة عامّة، فكلّما كانت الأيّام تمضي، كانت محبّة الإيرانيّين للإسلام تزداد، و كانوا يتدفّقون على اعتناق الإسلام و يتركون أديانهم و مذاهبهم السابقة و سننهم و تقاليدهم القديمة بسرعة تتزايد بمرور الأيّام.
و خير مثال لهذا الأمر، هو الأدب الفارسيّ. فقد كان تأثير الإسلام و القرآن و الحديث في الأدب الفارسيّ يتزايد بمرور الوقت، بحيث إنّ نفوذ الإسلام في آثار الادباء و الشعراء، و حتى في آثار الحكماء، في القرنين السادس و السابع فصاعداً أكبر و أجلى منه على آثار شعراء و ادباء و حكماء القرنين الثالث و الرابع: و هذه الحقيقة مشهودة بصورة كاملة من مقارنة آثار رودكي و الفردوسيّ مع آثار المولويّ و سعديّ و النظاميّ و حافظ و جامي!
العصر السامانيّ هو عصر بداية دخول المفردات العربيّة في اللغة
و يقول مؤلّف كتاب «أحاديث مثنوي»٢ في مقدّمة كتابه: «إنّ تأثير مضامين الأحاديث في الشعر الفارسيّ أمرٌ ملموس منذ أقدم الأزمنة»، ثمّ
يستشهد بأشعَار رودكي، و يقول بعد ذلك:
«منذ أواخر القرن الرابع، حيث انتشرت الثقافة الإسلاميّة، و تأسّست المدارس في النقاط المختلفة، و غلب الدين الإسلاميّ على باقي الأديان، و واجهت مقاومة الزرادشتيّين هزيمة نهائيّة في جميع أرجاء إيران، و بدأت الثقافة الإيرانيّة تتجلّى بصبغة إسلاميّة، و وضعت اسس التعليم على أساس الأدب العربيّ و مباني الدين الإسلاميّ، فقد تزايد بطبيعة الحال نقل الشعراء و الكتّاب للألفاظ و المضامين العربيّة، بينما تناقص - في المقابل - في النظم و النثر كلمات القدماء (قبل الإسلام) و كلماتهم و أمثالهم، حيث يظهر من خلال المقارنة أنّ أسماء زرادشت و أوستا و بوذر جمهر و حِكمه قد تردّدت في شعر دقيقي و الفردوسيّ و شعراء العهد السامانيّ و أوائل العصر الغزنويّ أكثر منها في أشعار العنصريّ و الفرّخيّ و المنوجهريّ الذين عاشوا في أواخر القرن الرابع و أوائل القرن الخامس».۱
«... يقول المستر فراي بعد إشارته إلى نهضة فارسيّة ممزوجة بالعربيّة في زمن السامانيّين: إنّ الأدب الفارسيّ الحديث (الفارسيّة الممزوجة بكلمات عربيّة) ليس ناشئاً من تمرّد على الإسلام أو العربيّة. فالمضامين الزرادشتيّة التي وردت في الشعر ترتبط بالاسلوب السائد آنذاك، و ينبغي ألّا يعدّ علامةً على الإيمان بالمذهب الزرادشتيّ ... .
و لقد كانت اللغة الفارسيّة الحديثة قد أضحت في مصافّ العربيّة كإحدى اللغات الإسلاميّة. و ليس من ريب في أنّ الإسلام قد استغنى الآن عن الاعتماد على العربيّة، فقد دخلت في الإسلام امم كثيرة، و صار يمثّل
ثقافة عالميّة. و كان لإيران دور كبير في إدارة الثقافة الإسلاميّة».
و يقول المستر فراي في الصفحة (٤۰۰) من كتابه حول ورود مفردات عربيّة إلى الفارسيّة و تأثير ذلك، تحت عنوان «آغاز زندگي نوين ايران» (=بدء الحياة الحديثة في إيران):
«تمتلك اللغة أهمّيّة في استمرار و ثبات بعض الثقافات، تفوق أهمّيّة الدين أو المجتمع. و هذا الأصل صحيح بالنسبة إلى الثقافة الإيرانيّة، إذ لا يمكن التشكيك في ارتباط اللغة الفارسيّة الوسطى (في العهد الساسانيّ) مع الفارسيّة الحديثة (في العصر الإسلاميّ)، مع أنّ هاتين اللغتين ليستا شيئاً واحداً.
و الفارق الكبير بين هاتين اللغتين، هو ورود كثير من المفردات العربيّة في الفارسيّة الحديثة، الأمر الذي أضفى على هذه اللغة اقتداراً أدبيّاً، و جعلها لغةً عالميّة، بينما يُفتقد مثل ذلك في اللغة البهلويّة.
و حقّاً، لقد جعلت العربيّة من الفارسيّة الحديثة لغة مقتدرة، و منحتها القدرة على إنشاء أدب متفتّح و خاصّة في صناعة الشعر، حيث إنّ الشعر الفارسيّ قد بلغ في أواخر القرون الوسطى أوج جماله و لطفه.
و قد سلكت الفارسيّة الحديثة طريقاً كان قُوَّاده جماعة من المسلمين الإيرانيّين الذين امتلكوا مهارةً في الأدب العربيّ، و كانوا في نفس الوقت متعلّقين بلغتهم الامّ. و قد اكتسبت الفارسيّة الحديثة التي كانت تكتب بالحروف العربيّة في شرقي إيران رونقاً و جمالًا خلال القرن التاسع الميلاديّ، و تفتّحت في بُخارا عاصمة السلسلة السامانيّة».۱
...۱
كلام آية الله الشعراني في ضرورة حفظ الأدب القديم لقربه من اللغة العربيّة (ت)
...۱
...۱
...۱
ضرورة التكلّم باللغة العربيّة لجميع المسلمين
أجل، فقد أوردنا في هذه الأبحاث أنّ من الواجب على المسلمين أن يحافظوا على اللغة العربيّة حيّةً، فهي لغة القرآن الكريم؛ و حياتها بتوسعة استعمالها في المحاورات العامّة، و بالتكلّم بها، و من خلال تدوين الكتب و الرسائل بها، و تدريسها رسميّاً في المدارس، بل في دور حضانة الأطفال، بل في البيوت بين العوائل و عند التحدّث إلى الامّهات. فكلّما زادوا من إدخال الكلمات العربيّة في لغتهم، صارت تلك اللغة أقرب إلى القرآن الكريم، و كلّما زادوا من إقحام كلمات غير عربيّة فيها، سواء كانت الكلمات المقحمة كلمات قديمة من نفس اللغة أم من اللغات الأجنبيّة الاخرى، أضحت تلك اللغة بعيدة عن القرآن.
و محصّل المطالب أنّ على الفرد المسلم أن يتّجه إلى استعمال العربيّة في المحاورات، و إلى تعلّم قواعد العربيّة، و حفظ مفرداتها، بحيث يصل إلى درجةٍ يتمكّن معها من التحدّث بالعربيّة بطلاقة. سواء في ذلك أكانت لغته الامّ هي العربيّة أم غيرها. و على المسلم الذي يصلّي، و يقرأ القرآن و نهج البلاغة، و يتحتّم عليه اكتساب أحكامه الضروريّة في الفقه و الأخلاق
و العرفان من أولياء الدين، و المسلم الذي يشترك في مناسك الحجّ و يشترك مع المسلمين في مساعيهم و يطّلع على أحوالهم، و يشترك في المؤتمرات و الاجتماعات العامّة للمسلمين فيخطب أو يستمع لخطبة غيره، عليه أن يُتقن العربيّة بحيث يفهم معنى الصلاة التي يصلّيها، و القرآن الذي يتلوه، و يفهم معنى دعاء كميل الذي يدعو به و يبكي متفاعلًا معه، بحيث يفهم كلام الإمام الباقر و الإمام الصادق عليهما السلام. و بغير ذلك فإنّ عليه أن يدرك هذه المطالب عن طريق ترجمة الغير، و ذلك ممّا يبعد عليه الشقّة و يعسر عليه. إنّ اتّحاد لغة المسلمين من الأهمّيّة بمكان، شأنه في ذلك شأن اتّحاد تأريخهم.
و على المسلم - عند الإمكان - أن يجعل لغته الامّ هي العربيّة التي تعدّ أغنى اللغات، و التي تفوق الفارسيّة ملاحةً و اقتداراً. أمّا عند عدم الإمكان، فيجب عليه أن يجعل العربية لغته الثانية، ليمكنه الاستفادة من مزايا هذا الدين. أمّا بدون ذلك، فإنّ الدين سيلوح له كشبح بعيد و سرابٍ لا يمكنه بلوغه.۱
و لهذا السبب نفسه يسعى الاستعمار الكافر جاهداً في جعل الإنجليزيّة اللغة الاولى (الامّ) أو الثانية للمسلمين.٢
إنّنا لا نقول بأنّ من يجهل العربيّة لا دين له، و ليس مسلماً؛ بل نقول بأنّه لا يتمتّع بجميع مزايا الإسلام و فوائده و فضائله.
إن مقولة أعداء الإسلام بأنّ الإيرانيّين قد حافظوا على لغتهم على امتداد التأريخ، و صانوها عن الذوبان في اللغة العربيّة، فأظهروا بذلك ردّ فعلهم المخالف للإسلام، هي كلام أجوف لا نصيب له من الصحّة و الاعتبار.
يجيب المرحوم الشهيد المطهّريّ رحمة الله عليه على هذه المقولة بقوله:
«لو كان إحياء اللغة الفارسيّة من أجل مكافحة الإسلام أو العرب أو العربيّة، لكان الإيرانيّون قد ألّفوا في الفارسيّة و قواعدها النحويّة و قواعدها في الفصاحة و البلاغة بدلًا من تأليفهم هذا الحشد الكبير من الكتب في العربيّة و قواعدها النحويّة و قواعد الفصاحة و البلاغة العربيّة؛ أو كانوا - على أقلّ تقدير - يمتنعون عن ترويج العربيّة و نشرها و إشاعتها.
إن الإيرانيّين لم يعنوا بالفارسيّة عناداً منهم أوعداء للإسلام أو للعرب؛ كما أنّهم لم يعدّوا العربيّة لغةً أجنبيّة، بل اعتبروها لغة الإسلام لا لغة العرب وحدهم. و حيث إنّهم كانوا يرون في الإسلام ديناً يتعلّق بجميع المسلمين، فإنّهم اعتبروا أنّ العربيّة أيضاً ممّا يتعلّق بهم و بجميع المسلمين الآخرين.
و الحقيقة هي أنّ اللغات الاخرى من قبيل الفارسيّة، التركيّة، الإنجليزيّة، الفرنسيّة و الألمانيّة هي لغات تتعلّق بامم و أقوام خاصّة، فإنّ العربيّة تمثِّل لغة كتاب عالميّ هو القرآن. فالفارسيّة - على سبيل المثال - هي لغة تتعلّق بقوم معيَّن و امّة معيّنة. و قد اشترك أفراد كثيرون في إبقائها لغةً حيّة. بحيث لو لم يكن كلّ واحد من هؤلاء بمفرده موجوداً، لما أثّر ذلك في بقاء الفارسيّة في العالم. فالفارسيّة - إذاً - ليست لغةً مختصّة بفردٍ معيَّن و لا بكتابٍ معيَّن. فهي ليست لغة الفردوسيّ، و لا لغة الردوكيّ، و لا لغة النظاميّ، و لا لغة سعدي، و لا لغة حافظ و لا أي شخص آخر غيرهم، بل هي لغة الجميع. أمّا اللغة العربيّة فهي لغة كتاب واحد هو القرآن الكريم؛ و القرآن وحده هو عامل حياة و بقاء اللغة العربيّة و حفظها عن الاندثار.
و جميع الآثار التي الِّفت بعد نزول القرآن و دوّنت باللغة العربيّة، إنّما وجدت في ظلّ القرآن و لأجله. و علوم القواعد التي وجدت لهذه اللغة، إنّما وجدت من أجل القرآن. و الذين خدموا هذه اللغة و ألَّفوا الكتب فيها، فعلوا ذلك لأجل القرآن الكريم. حتى أنّ الكتب التي ألّفت بالعربيّة في حقول الفلسفة، العرفان، التأريخ، الطبّ، الرياضيّات، الحقوق و غيرها، كانت لأجل القرآن. فالحقّ أنّ العربيّة هي لغة كتاب، و ليست لغة قوم أو امّة.
و إذا ما كان أفراد كبار يكنّون احتراماً لهذه العربيّة يفوق ما يكنّونه للغتهم الامّ، فقد كان ذلك لأنّهم لم يعتقدوا بأنّ هذه اللغة متعلّقة بقومٍ معيَّن دون غيرهم، فكانوا - لذلك - لا يعدّون في عملهم حطّاً من شأن امّتهم أو قوميّتهم.
لقد كان أفراد الامم غير العربيّة يحسّون بأنّ العربيّة هي لغة الدين،
بينما لغتهم الامّ لغة قوم و امّة.
و قد أنشد المولويّ في ديوانه «مثنوي» أبياتاً معروفة بالعربيّة، قال فيها:
اقْتُلُونِي اقْتُلُونِي يَا ثِقَات | *** | إنَّ في قَتْلِي حَيَاةً في حَيَاة |
ثمّ قال:
پارسى گو گر چه تازى خوشتر است | *** | عشق را خود صد زبان ديگر است۱ |
و قد رجّح المولويّ في هذا الشعر العربيّة على الفارسيّة لغته الامّ، لأنّ العربيّة هي لغة الإسلام.
و قد دوّن سعدي في الباب الخامس من ديوانه «گلستان» حكايةً في هيئة محاورة مع شابّ من «كاشغر» كان يقرأ كتاب مقدّمة الزمخشريّ في النحو، يتحدّث فيها عن الفارسيّة و العربيّة، واصفاً الفارسيّةَ بأنّها لغة العوامّ، و العربيّةَ بأنّها لغة أهل العلم و الفضل.
و يقول حافظ في غزله المعروف:
اگر چه عرض هنر پيش يار بى ادبى است | *** | زبان خموش وليكن دهان پر از عربي است٢ |
و تبعاً لما ذكره المرحوم القزوينيّ في كتاب «بيست مقاله» (=عشرون مقالة)، فإنّ أحدَ مَن تخبّطوا في شباك الحماقة - و هم ليسوا
قليلين ببركة الخطط الاستعماريّة - كان يعتب دائماً على حافظ لقوله في هذا الشعر بأنّ العربيّة هي لغة الأدب و الفنّ».۱
إن كلّ ما ذكره المرحوم الشهيد المطهّريّ في هذه العبارات صحيح و صائب، كما أنّ قوله بأن العربيّة هي لغة القرآن مطابقٌ للصواب؛ لكنّه لم يوضِّح هذا المعنى كما هو أهل أن يُوضَّح. فاستنتج بأنّ التمسّك بالإسلام و التديّن بالقرآن يحصلان مع حصر لغة الفرد بلغته الامّ و عدم التكلّم بالعربيّة، أو عدم ضرورة التكلّم بالعربيّة.
و إشكالنا ينصبّ على هذه النكتة. فمن الصحيح أنّ العربيّة هي لغة القرآن، بَيدَ أنّ القرآن لمّا كان متعلّقاً بجميع المسلمين، فإنّ العربيّة أيضاً ستكون متعلّقة بجميع المسلمين. و لو وُجد شخص لا يستطيع التكلّم بالفارسيّة، فإنّه يجب ألّا يُعَدّ من امّة فارس؛ كما أنّ شخصاً لو عجز عن التكلّم بلغة القرآن، فإنّه يجب ألّا يعدّ من الامّة القرآنيّة، و لقد غالط في شرح هذه العبارة فقال: لو أنّ زيداً لم يتكلّم بالفارسيّة، فإنّ الفارسيّة لن تبرح موجودةً في العالم، إذ إنّها ليست خاصّة بشخصٍ معيّن.
و الكلام هو في هذ النقطة، إذ إنّ من الطبيعيّ أنّ الفارسيّة ستبقى، لكنّ الكلام في أنّ زيداً لو لم يتكلّم بالفارسيّة و عجز عن التحدّث بها، فهل سيعدّ من أهل فارس أم لا؟ و إذا عجز شخصٌ عن التحدّث بالعربيّة لغة القرآن، فهل سيعدّ من أهل القرآن أم لا؟ إنّ بين هذين المطلبين فرقاً شاسعاً.
من الواضح أنّ زيداً لو لم يتكلّم بلغة القرآن، فإنّ القرآن سيبقى موجوداً، لكنّ زيداً لن يكون حينذاك زيداً قرآنيّاً.
و كان من الأحرى أن يقول: إنّ الفارسيّة مختصّة بامّة و قوم فارس. أمّا القرآن فهو لجميع الامّة الإسلاميّة من الفرس و الترك و العرب و الهنود. و إنّ الرجل لَيُعَدُّ فارسيّاً حين يُتقن الفارسيّة؛ و إنّه ليعدّ من أهل القرآن حين يعرف العربيّة، إذ العربيّة لغة القرآن.
و بغضّ النظر عن ذلك؛ فما الذي تعنيه مقولة أنّ العربيّة هي لغة القرآن؟! أتعنى أنّها اللغة القرآنيّة المكتوبة على صفحات القرآن و المحفوظة بين الدفّتَين؟! أم القرآن الحيّ الموجود في الصدور، و الذي يواجهه الناس في محاوراتهم و معاملاتهم و عباداتهم و أحكامهم و اجتماعاتهم، فيتحدّث إليهم، و يشير لهم إلى الطريق السويّ؟
بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ.۱
ستتساوى حينئذٍ مقولة «العربيّة لغة القرآن» مع مقولة «العربيّة لغة المسلمين».
يجب أن تكون اللغة العربيّة اللغة الامّ لجميع المسلمين
و حقّ المطلب هو أنّنا قد اعتدنا على لغتنا الامّ و عرفنا حلاوتها و تكلّمنا بها، و أنّها لغتنا السهلة، لذا صرنا لا نرغب في استبدالها بغيرها، و لو كانت اللغة البديلة أفضل من لغتنا الامّ.
و حين نعلم بأنّ اللغة العربيّة أكثر اقتداراً و إحكاماً و ملاحظة و جاذبيّة من الفارسيّة، و أنّها لغة غنيّة بلحاظ سعة المصطلحات الأدبيّة و الطبّيّة و الجغرافيّة و الصيدلانيّة، و حتى في المصطلحات الفيزيائيّة و الكيميائيّة، و أنّها لا تضطرّنا - كما تفعل الفارسيّة - إلى الاستفادة من المصطلحات الأجنبيّة، و إلى إقحام أصل أو مشتقّ من اللغات اللاتينيّة في لغتنا في هيئة اسم. و حين نعلم أنّها لغة القرآن الكريم التي يعتمد عليها ديننا و مذهبنا،
فَلِمَ لا نجعل العربيّة لغتنا الامّ منذ البداية، فنعلّمها لأولادنا منذ طفولتهم؟!
إنّنا لو حافظنا على اللغة الفارسيّة، و تعلّمنا إلى جانبها اللغة العربيّة.
فإنّ سعة معلوماتنا ستكون بنفس القدر الذي امتلكناه سابقاً، و ينطوي هذا على عدّة عيوب.
الأوّل: أنّ جميع أفراد الشعب لن يكونوا قادرين على التكلّم بالعربيّة، و لا عُشر معشارهم، بل لن يتمكّن واحدٌ من كلٌ ألف منهم من التكلّم بها.
الثاني: أنّنا لو أردنا تعليم رجل فارسيّ حديثاً أو آيةً من آيات القرآن، فإنّ عليه أن يعبر بالمعنى في ذهنه من حجاب الترجمة ليدركه في نهاية المطاف. لذا فإنّه سيفهم ذلك المطلب فهماً مشوّهاً، أشبه بحبل تعترضه العُقد، أو قطعة قماش رُقّعت باخرى، بخلاف تعليمنا نفس الحديث أو الآية لشخص عربيّ، لأنّه سيفهم المطلب بسرعة، بل سيحفظ ذلك الحديث و تلك الآية في ذهنه.
إنّكم تشاهدون أنّ الأطفال الناطقين بالعربيّة يحفظون القرآن بسهولة و يُسر؛ و أنّ كثيراً منهم يُتمّون حفظ القرآن في سنيّ الرابعة عشر و الخامسة عشر، بينما يعسر ذلك على الأطفال الناطقين بالفارسيّة.
و الثالث: أنّ تعلّم اللغة ليس أمراً سهلًا، بل يستلزم قضاء العمر و صرف الوقت، و يتطلّب من المرء سلامةً و فراغاً. و ينبغي على الإنسان أن يصرف هذا الوقت و يغتنم هذه الفرصة في كسب علوم ذات موضوعيّة لا طريقيّة.
و ليس معرفة اللغة كمالًا في حدّ نفسها، و ليس علماً، بل تمثّل اللغة آية و طريقة لاكتساب العلوم الواقعيّة. و في هذه الحال فإنّ الاكتفاء بلغةٍ واحدة سيوصل الشخص إلى كماله المطلوب أسرع بكثير، بينما تعلّم لغتين
أو عدّة لغات سيجعل ذلك الشخص يملأ ذهنه بالكلمات و الاصطلاحات غير الأصيلة، لأنّه يصل إلى كماله بطريقين أو بعدّة طُرق.
و بالطبع، فإنّ الضرورة تستلزم أحياناً تعلّم لغة اخرى، إلّا أنّ ذلك ينطبق على البعض فقط، و يحصل ضمن إمكان و شرائط خاصّة. لماذا نجبر جميع الناس على تعلّم لغتَين: اللغة الامّ و اللغة العربيّة؟ إنّنا نستطيع اختصار الطريق منذ بدايته، فنجعل اللغة العربيّة هي اللغة الامّ، لنكون قد طوينا نصف المسافة مجّاناً و بلا عوض.
و السبيل لتنفيذ هذا الأمر يتلخّص فيما يلي. علينا أن نجعل العربيّة اللغة الثانية في المرحلة الاولى: أي أن نعوّد جميع الناس على التحدّث بالعربيّة بكثرة استعمال مفرداتها، و بإبعاد الكلمات و المفردات الفارسيّة و غير العربيّة، بحيث يتمكّن الرجال و النساء من التحاور بالعربيّة و المذاكرة بها.
ثمّ نقول للرجال و النساء في المرحلة الثانية: عليكم من الآن فصاعداً أن تتكلّموا بالعربيّة مع أطفالكم الصغار الذين يبدأون بنطق الكلمات. فبهذه الطريقة ستصبح اللغة - و بصورة سريعة مفاجئة - لغة القرآن العربيّة. و مضافاً إلى جميع مزايا العلم و المعرفة التي ستعود من ذلك، فإنّ الوحدة بين المسلمين - و إحدى جهاتها وحدة لغة القرآن - ستتفتّح بأفضل صورة و أتمّها.
على العلماء أن يدوِّنوا المطالب العلميّة باللغة العربيّة
لقد درس هذا الحقير سابقاً في الفرع الفنّيّ، فكان لي اطّلاع على اللغة الألمانيّة، و قمت بترجمة بعض الكتب الدراسيّة من الألمانيّة إلى الفرنسيّة. ثمّ إنّ مؤلّفاتي و كتاباتي في قم و النجف الأشرف كانت باللغة العربيّة فقط. فكانت الكتب المستقلّة و تقريرات دروس الأساتذة و الرسائل الفقهيّة مُدوّنه بأجمعها بالعربيّة.
ثمّ كتبت رسالتَين بالعربيّة عند عودتي من النجف، إحداهما عن رؤية الهلال ضمن مكاتباتي مع سماحة آية الله الخوئيّ قدّس سرّه؛ و الاخرى «رسالة بديعة في تفسير آية: الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ»، جرى فيها البحث عن عدم جواز تصدّى المرأة للحكومة و الجهاد و القضاء؛ كما ألَّفتُ كثيراً من المسائل الفقهيّة (التي لم تُطبع بعد) باللغة العربيّة.
أمّا و قد قامت الثورة الإيرانيّة العظيمة على أساس نهضة الإسلام و القرآن، و شاهدت تعطّش الناس للمعارف، فقد وجدت من اللازم على أن أشرع بتأليف دورة في العلوم و المعارف الإسلاميّة باللغة الفارسيّة، لتصل إلى أيدي مسلمي إيران بسرعة، و تروى أرواحهم بهذه العلوم الإسلاميّة الأصيلة. و لولا ذلك لكان لزاماً أن يكون تأليفي بالعربيّة أيضاً، حفظاً على جميع جوانبها الإسلاميّة، و تمكيناً لجميع الإخوة المسلمين من الناطقين بالعربيّة في داخل إيران و خارجها، من الاستفادة منها.
و آمل أن تُترجم جميع هذه الآثار إلى العربيّة، ليتلافى هذا القصور اللا اختياريّ. و اوصي جميع أبنائي و أصدقائي الطلبة أن يؤلّفوا جميع آثارهم بالعربيّة إلّا حيثما اقتضت الضرورة؛ ثمّ يقوموا بترجمة آثارهم إلى الفارسيّة عند الحاجة.
و لقد كان هذا هو دأب العلماء الأعلام و دأب ممسكي زمام العلم و المعرفة، و ديدن المتبصّرين الخبراء بالقرآن و بامور المسلمين، من قديم الأيّام حتى يومنا هذا. حتى أنّ كثيراً من الحكّام و الوزراء و أصحاب المناصب و الولاية خلال الألف سنة الأخيرة، من العلماء الكبار في الحديث و التفسير و الحديث و الفلسفة و الهيئة و الفقه و غيرها، قد كانت جميع مصنّفاتهم مدوّنة بالعربيّة. و كانوا يُعَدّون من رواة الحديث، و لهم
مجالس لبحث الحديث و سماعه.
«يقول (القزوينيّ) في مقدّمة كتاب «أحاديث مثنوي» [تأليف فروزانفر] ضمن بيانه التسرب التدريجيّ للأحاديث النبويّة في جميع شؤون الإسلام العلميّة و الأدبيّة؛ يقول نقلًا عن «الأنساب» للسمعانيّ:
و كان الكثير من الامراء و الوزارء ممّن شجّعوا الشعراء و حموا الكتّاب و المؤلّفين، يعدّون بأنفسهم من رواة الحديث. فمثلًا كان الأمير أحمد بن أسد بن سامان المتوفّي سنة ٢٥۰ هـ. ق) و بنوه: أبوإبراهيم إسماعيل بن أحمد (المتوفّي في شهر صفر لسنة ٢٩٥)؛ و أبوالحسن نصر بن أحمد (المتوفّي في جمادي الآخرة سنة ٢۷٩)، و أبويعقوب إسحاق بن أحمد (المتوفّي في ٢۱ صفر سنة ٣۰۱) و هم من الأمراء و الولاة السامانيّين،۱ مذكورين، في طبقات الرواة.
و كان الأمير إبراهيم بن أبي عمران سيمْجور و ابنه أبوالحسن ناصر الدولة محمّد بن إبراهيم من أكابر الامراء السامانيّين و قائد خراسان في عداد رواة الحديث.
و كان أبوعلي مظفّر (أو محمّد) بن أبي الحسن (المقتول في رجب سنة ٣۸۸) - و كان أمير خراسان، و من المطالبين بالاستقلال - راوياً للحديث، و كان له مجلس لإملاء الحديث. و كان أبوعبد الله الحاكم بن البيّع (صاحب كتاب «المستدرك» المعروف، و المتوفّى سنة ٤٥۰ هـ. ق) يسمع منه».٢
و إذا كان الإسلام قد زاد اقتداراً و قوّة إثر اعتناق علماء إيران للإسلام و التزامهم بنهجه؛ فإنّنا نتساءل: لو كانت العربيّةُ لغةَ الشعب الإيرانيّ، أفلم تكن هذه القوّة و الاقتدار الحاصلَين أكثر منهما في الحالة الاولى؟!
و على الرغم من أنّ أدوارد براون ينقل عن دوزي المستشرق الهولنديّ المعروف في كتاب «الإسلام» قوله: «إنّ الإيرانيّين كانوا أهمّ الأقوام الذين غيّروا دينهم. فقد كانوا هم - لا العرب - الذين جعلوا الإسلام ديناً راسخاً مقتدراً، و الذين ظهرت منهم أبرز الفرق الإسلاميّة».۱
فإنّنا نتساءل: ألم تكن هذه الآثار التي دوّنها العلماء الإيرانيّون بالعربيّة ستزيد في قوّة الإسلام و اقتداره، لو وُجدت في محيط إيران و كان جميع أفراده من الناطقين بالعربيّة؟!
إن ممّا يثير العجب أن يقول المرحوم الشهيد المطهّريّ رحمة الله عليه.
«لو كانت اللغة الفارسيّة قد تلاشت و اضمحلّت، لما كان لنا اليوم مثل هذه الآثار و الإبداعات الإسلاميّة الفريدة، ك «مثنوي» و «گلستان» و «ديوان حافظ» و «ديوان النظاميّ» و مئات الآثار الجميلة الاخرى.
و يا ليت - إذاً - لو كان بين المسلمين مئات اللغات الاخرى المماثلة للفارسيّة، ليمكن لكلٍّ منها أن تُسدي إلى الإسلام بخدماتها بما تمتلك من قابليّات خاصّة!».٢
و نردّ بقولنا: لو كان الملّا الروميّ و سعدي و حافظ و النظاميّ يضيعون بضياع الفارسيّة، لكان الأمر على ما تفضّل به؛ أمّا مع حياة هؤلاء العظماء
و تبحرهم في الأدب العربيّ و تأليفهم للـ «مثنوي» و «گلستان» و «ديوان حافظ» و «ديوان النظاميّ» باللغة العربيّة، فالله وحده يعلم أي تأثير كبير كانوا سيتركون! أوَ ليس في أيدينا الآثار العرفانيّة و الأدبيّة لابن الفارض المصريّ الذي عاش قبل حافظ بما يقرب من مائة سنة؟ أم أنّ دواوين السيّد المرتضى و السيّد الرضى و مَهْيار الديلمى و الصاحب بن عبّاد وصولًا إلى شعراء عصرنا الحاضر العرب من أمثال السيّد حيدر الحلّيّ و السيّد صالح الحلّيّ و السيّد إسماعيل الشيرازيّ هي أدنى في القدرة الشعريّة من ديوان النظاميّ و «بوستان» سعدي الشيرازيّ؟!
أ وَ ليست «مقامات» الحريريّ و بديع الزمان الهمدانيّ المؤلَّفة بالعربيّة في مصافّ ديوان «گلستان» سعدي الشيرازيّ؟
و افرضوا أنّ الملّا الروميّ و سعدي و حافظ و النظاميّ يفوقون ما ذكرناهم في القريحة و القابليّة، لكنّ هؤلاء الأعلام و العظماء المتفوّقين لو صرفوا قرائحهم و قابليّاتهم في اللغة العربيّة، فصاغوا دواوين من أمثال «مثنوي» و «گلستان» و أبدعوا مثل «ديوان حافظ» و «ديوان النظاميّ» بلغةٍ ألطف و تعابير أكثر اقتداراً و قوّة، أفلم يكونوا سيقدّمون أعمالًا أعظم، تستحوذ على القلوب و الأفئدة أكثر ممّا فعلت سابقاتها؟!
إنكم تقرّون بأنّ العربيّة لغة أوسع و أقوى، و أنّ قدرتها و شمولها هو الذي جعل من الفارسيّة لغة قويّة عالميّة. فإن كان الأمر كذلك، فأيّ تأثيرٍ كانت ستتركه آثار هؤلاء الأعلام لو كانت مدوّنة بالعربيّة، في محيط عربيّ لشعب ذي قريحة و قابليّة كالشعب الإيرانيّ؟
إن التأسّف على فقدان هذه الكتب، كتأسّف ذلك الشابّ الذي قيل له: تزوّج من الفتاة الفلانيّة الجميلة ذات الأصالة و الشرف، لتنجب أولاداً ذوي شرف و أصالة! فقصّر في هذا الأمر، و تزوّج من فتاة دونها في
الشرف و الأصالة و الجمال، فأنجبت له أولاداً. و حين عوتب على ذلك و قيل له: لِمَ لَم تتزوّج من تلك الفتاة؟!
ردّ يقول: لو تزوّجت منها لما كان لي هؤلاء الأبناء!
و يُقال في جوابه: أكانت تلك الفتاة عقيمة؟ أكان زواجك منها سيحرمك من الأولاد! أم أنّ تلك الفتاة كانت ستنجب أولاداً أفضل و أكثر أصالة!
إن أمثال هذا الاستدلال لا يعدّ برهاناً، بل مغالطةً لا يُنتظر أمثالها من أهل الفلسفة.۱
جنايات أتاتورك و البهلويّ على القرآن و اللغة العربيّة
لقد بذل الاستعمار قصارى جهده لإسقاط القرآن و اللغة العربيّة في الممالك الإسلاميّة، فجاءوا بأتاتورك - و اسمه مصطفى كمال باشا - في تركيا، و لقّبوه بهذا اللقب الذي يعني أبوالأتراك؛٢ فألغى حجاب النساء،
و استبدل الملابس التركيّة بالملابس الاوروبّيّة و القبّعة؛ و جعل المساجد القديمة - من أمثال مسجد «أيا صوفيّة» متاحفاً، بحيث إنّ مَن يردها للتفرّج لا حقّ له في أداء الصلاة داخلها؛ و منع قراءة القرآن في المدارس، و حرّم استعمال العربيّة، حتى وصل به الأمر إلى أن غيّر قراءة القرآن و الصلاة و الأذان و الإقامة إلى اللغة التركيّة الإسلامبوليّة.
و كان خالي المرحوم قد تشرّف بالذهاب إلى مكّة قبل خمسين سنة، فعاد عن طريق الشام و تركيا، و كان يقول: كان المؤذِّن في تركيا يرقى المنارة في وقت الأذان فينادي: اللهْ بُيُوكْ ديرْ؛ مُحَمَّدْ سَفيرِ ياخْچي ديرْ و هكذا إلى آخر الأذان، يعني: الله كبير، محمّد سفير جيّد.
و لقد غيّر أتاتورك الحروف أيضاً، و كانت الحروف التركيّة تماثل الحروف العربيّة فأبدلها إلى الحروف اللاتينيّة، و بذلك قطع ارتباط هذا الشعب ليس مع مسلمي العالم فحسب، بل و مع الثقافة الإسلاميّة العظيمة و ملايين الكتب المدوّنة في التأريخ و الحديث و التفسير و الطبّ و الهيئة و الفقه و المعارف و الفلسفة و العرفان و غيرها، بذريعة أنّ حروف الكتابة
ينبغي أن تكون عالميّة، و الخطّ اللاتينيّ هو الخطّ العالميّ في العصر الحاضر، و ينبغي كتابة هذه الكتب بهذا الخطّ للاستفادة منها.
و من الواضح أنّهم لو أرادوا كتابة تلك الكتب بهذا الخطّ اللاتينيّ، لاستغرق ذلك منهم أكثر من ألف سنة. و ها هي رابطة الجيل الحديث مع تلك الثقافة تنفصم بسرعة مُذهلة، و سوف لن يوجد - بعد انهماك الناس بالكتابة باللاتينيّة - شخص يعرف الكتابة بالخطّ العربيّ، ليعيد كتابة الكتب المؤلّفة إلى العربيّة. يضاف إلى ذلك عشرات و مئات المفاسد العظيمة الاخرى التي تنجم عن تغيير الخطّ.
و بالنتيجة فإنّ ملايين الكتب القديمة الخطّيّة و غير الخطّيّة ستبقى متروكة في رفوف مكتبات تركيا دون أن يستفيد منها أحد. و يوجد حاليّاً في مكتبات تركيا عدد لا يُحصى من الكتب الخطّيّة الفريدة بخطّ مؤلّفيها أو بخطّ يرجع تأريخ نسخه إلى زمن قريب من زمن تأليفها، و قد رُقّمت و نُظّمت لها فهارس، فهي تُعرض في المتاحف و المكتبات باعتبارها آثاراً قوميّة قديمة، من أجل أن يتفرّج عليها الواردون، و خصوصاً الأجانب منهم. و باعتبار أنّ تركيا كانت مركزاً للحكم الإسلاميّ لما يقرب من خمسة قرون فإنّ تلك الكتب المجموعة هناك تُعدّ من أفضل و أنفس الذخائر العلميّة.
لاحظوا كيف أنّ الاستعمار القبيح الوقح ذا المنظر الكريه المنفّر، قد دفن هذه الكتب هناك في حقيقة الأمر! تماماً أشبه بإحراق المكتبات من قبل الإسكندر و جنكيز خان، كلّ ما في الأمر أنّهم يفعلون ذلك بصورة حديثة، إذ يحفظون الكتب و يضعونها في مكتبات جميلة و رفوف جديدة، و ينظّمون لها فهارس و تقسيمات. أمّا الاستفادة منها فهي للمستشرقين الذين يطالعونها و يستخرجون علومها، ثمّ يفتخرون علينا - نحن
المسلمين - و يتبجّحون علينا بأنّهم أصحاب علم و فنّ جديدَين.
أمّا الشعب التركيّ، فليس فيهم - على امتدادهم و سابقتهم - شخص واحد يمكنه قراءة تلك الكتب، فضلًا عن فهم معانيها و محتوياتها!
كما أنّ هذا الاستعمار قد قام بتفريغ أذهان الناس، و غسل أدمغتهم، فجعلهم بلا أصالة، ضحلين فارغين فأعدّهم بذلك لاستقبال حضارته بألوانها الخادعة المزيّفة العارية من كلّ حقيقة و واقعيّة.
و لقد حُرِّم ارتداء لباس أهل العلم و العمامة في تركيا، حتى للأجانب، و صار على مَن يضع قدمه على أرض تركيا أن يكون بلا عمامة، و إلّا عُدّ مجرماً تعتقله الشرطة.
و صار الأتراك من أهالي تركيا عند ما يتشرّفون بالسفر إلى مكّة لأداء مناسك الحجّ، لا يتكلّمون مع غيرهم من المسلمين، لجهلهم بالعربيّة، و لا يستطيعون قراءة القرآن و سائر الكتب المدوّنة بالعربيّة. و في المسجد الحرام و مسجد المدينة المنوّرة، حيث يحمل جميع المسلمين - حتى الهنود و الباكستانيّين - نُسَخ القرآن و ينهمكون في تلاوته، لا يُشاهَد في أتراك تركيا مَن يُمكنه قراءة القرآن.
لقد ألغى أتاتورك الدين الرسميّ (الإسلام)، و قال: إنّ الدولة لا تحمل صبغة معيّنة! ثمّ إنّه أبدل العطلة الاسبوعيّة، فجعلها يوم الأحد بدلًا من يوم الجمعة.
خيانة محمّد على فروغي في عهدّي رضا خان و محمّد رضا البهلويّ
و في نفس عصر أتاتورك، جاء الإنجليز برضا خان إلى السلطة في إيران فاقتفى آثار أتاتورك في إلغاء الحجاب و العمامة، و منع التكلّم على المنابر، و حاصر المساجد، و تقرّر أن تُحوَّل أبواب المساجد من الشوارع الرئيسيّة إلى الأزقّة. و كان تدريس العربيّة يبدأ من الابتدائيّة، فجعله يبدأ من المرحلة المتوسّطة، في وضع سخيف و مُهين جدّاً.
و حذف قراءة القرآن في المدارس، و كانوا يدرّسون طلبة الصفوف الخامسة و السادسة فقط آيات مُنتخبة من القرآن الكريم ربّما لا تزيد في مجموعها عن الجزء الواحد.
و كانت تلك الآيات المنتخبة تعدّ زمنَ تصدّي على أصغر حكمت لمنصب وزارة التربية و التعليم، و كانت تُدعى حينذاك بوزارة المعارف، حسب نظر و إقرار محمّد علي فروغي (ذكاء الملك) و هو من الماسونيّين المعروفين، و من ذيول الغرب و خدمة البهلويّ المخلصين،۱ و كان له سمة الرئاسة على علي أصغر حكمت، و كان رئيساً للوزارء لعدّة دورات حكوميّة.
إن الآيات القرآنيّة ليست ممّا ينتخب و يُختار، فهي بأجمعها من قِبَل الله تعالى و ينبغي أن تُقرأ، سواء في ذلك آيات الصلاة و الصيام، و آيات العدل و الإحسان، و آيات الجهاد و القتال، و آيات القصص و الأمثال.
و لم يكن في الآيات المنتخبة التي كان فروغي يعدّها آية تتحدّث عن الجهاد و القتال و أمثال ذلك، بل كانت مجموعة من الآيات الأخلاقيّة
التي يتساوى في قبول مضمونها المسلم و الكافر.
و قد أمر فروغي بوضع كرسي و منضدة في مسجد مجد الدولة و بعض المساجد الاخرى في طهران، و كانوا يقيمون مجالس التأبين فيها، و كان المشاركون يجلسون على الكرسيّ مادّين أرجلهم فيتلون القرآن. و كان ذلك ممّا لم يسبق نظيره من مسلم، إذ لم يكن فيهم أحد يمدّ رجليه عند قراءة القرآن، و لم يكن فيهم أحد يضع منضدة و كرسيّاً في الجزء المسقّف من المسجد.
و كان في نيّة فروغي أن يقوم بتلخيص القرآن، فيحذف منه الآيات المكرّرة و شبه المكرّرة، إلّا أن الله سبحانه لم يمهله، و فاجأه سهم الغيب.
و مع دخول الجيشين الروسيّ و الإنجليزيّ إلى إيران، فقد حزم رضا خان حقائبه - حسب اقتراح فروغي الذي كان يشغل حينذاك منصب رئيس الوزراء - و فرّ إلى إصفهان، و منها إلى بندر عبّاس، حيث صعد على ظهر سفينة إنجليزيّة و اتّجه صوب جزيرة موريس بعد أن توقّف في بعض الأماكن. و لم يمهله الأجل هناك طويلًا. و قد تغيّرت الأوضاع الدينيّة في إيران عموماً، فلم يستطع أعداء الإسلام الألدّاء من أمثال فروغي تنفيذ مقاصدهم الخبيثة. و قد احتلّ فروغي زمن حكم الإنجليز في إيران إلى نهاية الحرب منصب رئيس الوزراء في حكومة محمّد رضا ابن الشاه الهارب، و قد أنعم على محمّد رضا أسياده بلقب «آريامهر».
و قد راج من جديد في المدارس تدريس القرآن، و عمرت المساجد، و عاد الوعّاظ و أصحاب المنابر إلى إلقاء الخطب و المواعظ. و عادت العمامة على الرؤوس و الغي أمر منعها. و بمواجهة آية الله العظمى المرحوم الحاج آقا حسين القمّيّ و حركته من النجف و كربلاء إلى طهران، و إعلانه الحرب على الشاه و دولته من أجل إعطاء الحرّيّة للشعب، و إعطاء
الحرّيّة للنساء في أمر الحجاب، و إلغاء المدارس المختلطة، و تدريس القرآن و الامور الشرعيّة، فقد تراجعت - و للّه الحمد و المنّة - الدولة و لم يمكنها المواجهة، فتعهّدت بقبول اقتراحاته الخمسة، فالغى أمر منع الحجاب، و عاد الدين و التديّن - إلى حدٍّ ما - إلى حالهما السابق في مستوى متوسط.۱
إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَ إِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ
و لقد شهدنا عياناً تحقّق وعد الله تعالى الذي ضمن حفظ القرآن، في قوله تعالى:
إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَ إِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ.۱
و شاهدنا تحقّقه مرّة اخرى في هذه الثورة العظيمة التي انتفض فيها الشعب الإيرانيّ المسلم بأسره، فانهارت تلك الأباطيل، و انفضّت تلك المجالس، فهرب محمّد رضا كأبيه، و انحشر داعية «بوّابة الحضارة الكبير» في ثقب من ثقوبها، فحمل الشاه حقيبته بيده فارّاً من مكان إلى آخر، حتى لفظ أنفاسه في مصر بعد مدّة قصيرة، و في قلبه جبال من الحسرة و الأمانيّ الخائبة، من نيابة كورش و سلطنة ألفي و خمسمائة عام. و تجلّت آيات الله المعجزة، الواحدة بعد الاخرى، أمام أعين هذا الشعب المظلوم النجيب.
وَ لا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ
دارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ.۱
و على عاتق أساتذة و معلّمي المدارس الملتزمين أن يبذلوا قصارى جهدهم في تعليم القرآن و الأدب العربيّ، و أن يحذفوا الكلمات الفارسيّة لـ «زند» و «أوستا» من الكتب، و يستعملون بدلًا منها الكلمات العربيّة الفصيحة المليحة. و إذا لوحظ في المراكز العليا أحداً ممّن يدافع بشدّة و استماتة عن الأدب الزرادشتيّ، فعليهم أن يقيلوه من منصبه على الفور، فهذا الأمر من مهام الثورة الإسلاميّة الأصيلة؛ و بغير ذلك فإنّ الثورة ستتحوّل إلى ثورة إقليميّة محدودة و تبتعد عن الإسلام و العربيّة.
إن هدف الاستعمار و امنيّته هي أن يسير العربيّ تبعاً لقوميّته و ينادي بعروبته؛ و أن يتابع الإيرانيّ مسيرة أجداده و أسلافه و إحياء سنّته القوميّة.
إنّنا لا نرتبط بالعرب لعروبتهم، و إنّما نرتبط بهم لأجل الإسلام و لأجل القرآن.
اين همه آوازهها از شه بود | *** | گر چه از حلقوم عبد الله بود٢ |
إن القرآن هو المعجزة، إذ لم يستطع و لا يستطيع أحد أن يأتي
بمثله.
لا ينحصر إعجاز القرآن في بلاغته، بل يعمّ جميع شؤونه
إن القرآن هو الذي يمتلك توحيداً و معارفَ و أخلاقاً و أحكاماً حيّة معجزة، ناهيك عن فصاحته و بلاغته.
يقول مؤلف كتاب «راه سعادت» (=طريق السعادة):
«يقول بعض الاوروبّيّين ممّن تعلّم العربيّة و طالع الكتب العربيّة. إنّ بعض الكتب العربيّة، مثل «مقامات» الحريريّ و بديع الزمان الهمدانيّ تماثل القرآن في عباراته، بل هي أفضل منه.
و نُجيب قائلين إنّ اولئك الاوروبّيّين لم يكونوا مطّلعين على العربيّة، و لم يكونوا يدركون معنى الفصاحة و البلاغة، لأنّ البلاغة لا تعني في لغتهم ما تعنيه في العربيّة و الفارسيّة. و كانوا لا يفهمون الخصائص الذوقيّة، حتى أنّهم لم يكونوا يميّزون الوزن و القافية، فينظمون شعراً غير موزون. ثمّ إنّ الحريريّ و بديع الزمان لم يدّعيا معارضة القرآن و مماثلته. بل إنّ كثيراً من فصحاء العرب الذين يقرّ الحريريّ بأفضليّتهم، من أمثال سَحْبان بن وائل، و ابن نُباتة، و الحجّاج بن يوسف، و أفضل منهم جميعاً:
أميرالمؤمنين عليه السلام صاحب «نهج البلاغة» لم يدّعِ أحد منهم مماثلة كلامه للقرآن.
و تحتوي «مقامات» الحريريّ و بديع الزمان عدّة قصص على لسان شحّاذ كان ينتزع أموال الناس بلطائف الحيل.
فقد جاء أبو زيد - شحّاذ قصّة الحريريّ - إلى طائفة من الناس فقال لهم:
إن هناك بطلًا صنديداً كان يفتح القلاع و يُريق الدماء و يشترك في الحروب قد توفّي، و لا كفن له، فأريد منكم مالًا لأجهّزه به. فأعطوه شيئاً من المال. ثمّ إنّ أحدهم تبعه ليطّلع على سرّه، ثمّ أمسك بتلابيبه بعد أن
سارا مسافة و قال له: أين الميّت الذي أخبرتنا عنه؟!
فكشف عن سراويله و أشار إلى غرمولاه.۱
و لبديع الزمان حكايات مخجلة أسوأ من هذه، نُعرض عن ذكرها.٢
به جهان خرّم از آنم كه جهان خرم از وست | *** | عاشقم بر همه عالم كه همه عالم از وست |
زخم خونينم اگر به نشود به باشد | *** | خنك آن زخم كه هر لحظه مرا مرهم از وست |
فكيف تقاس بقوله تعالى:
وَ النَّجْمِ إِذا هَوى ، ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَ ما غَوى ، وَ ما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى.۱
و ينبغي قياس كلامَين في بلاغتهما إذا تحدّثنا عن مرامٍ واحد، فكان أحدهما أفضل من الآخر، لا إذا تحدّثا عن مرامين مختلفين».٢
خطبة «نهج البلاغة» في عظمة القرآن
إن القرآن لا ينبغي تعلّمه من فلان الإفرنجيّ، و لا من گُورويج اليهوديّ و لا من ماسينيون. فذلك القرآن هو شيطان يقرأ على الإنسان و ينفث، فيُسقط الإنسان في هوّة عميقة سحيقة.
انصتوا إلى خطبة أميرالمؤمنين عليّ بن أبي طالب التي تبعث فيكم النشاط و البهجة، ليخطب بكم قائلًا:
وَ إنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ لَمْ يَعِظْ أحَداً بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ. فَإنَّهُ حَبْلُ اللهِ المَتِينُ وَ سَبَبُهُ الأمِينُ، وَ فِيهِ رَبِيعُ القُلُوبِ وَ يَنَابِيعُ العِلْمِ. وَ مَا لِلْقَلْبِ جَلَاءٌ غَيْرُهُ مَعَ أنَّهُ قَدْ ذَهَبَ المُتَذَكِّرُونَ وَ بَقِيَ النَّاسُونَ وَ المُتَنَاسُونَ.
فَإذَا رَأيْتُمْ خَيْراً فَأعِينُوا عَلَيْهِ؛ وَ إذَا رَأيْتُمْ شَرَّاً فَاذْهَبُوا عَنْهُ، فَإنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ كَانَ يقول: يَابْنَ آدَمَ! اعْمَلِ الخَيْرَ وَدَعِ الشَّرَّ؛ فَإذَا أنْتَ جَوَادٌ قَاصِدٌ.٣
قال لي المرحوم الشهيد المطهّريّ رضوان الله عليه يوماً: كان المرحوم راشد يقول: يكفي في مقام عظمة و إتقان كتاب «مثنوي» أنّه يعدّ رصيداً و دعامة للقرآن! (أي أنّ مطالب كتاب «مثنوي» أشبه ببحر عظيم من الحياة بحيث يحفظ حقائق القرآن و يصونها).
فقلت له: لقد أخطأ راشد في كلامه هذا. إنّ القرآن هو الرصيد لل - «مثنوي» و لأمثال المثنوي، و هو الذي يمنحها الحياة و القدرة و الخلود.
فقال على الفور: نعم، الأمر هكذا. إنّ القرآن هو مُحيي كتاب «المثنوي».
أفِيضُوا في ذِكْرِ اللهِ فَإنَّهُ أحْسَنُ الذِّكْرِ. وَ ارْغَبُوا فِيمَا وَعَدَ المُتَّقِينَ فَإنَّ وَعْدَهُ أصْدَقُ الوَعْدِ. وَ اقْتَدُوا بِهَدْى نَبِيِّكُمْ فَإنَّهُ أفْضَلُ الهَدْى. وَ اسْتَنُّوا بِسُنَّتِهِ فَإنَهَا أهْدَى السُّنَنِ.
وَ تَعَلَّمُوا القُرْآنَ فَإنَّهُ أحْسَنُ الحَدِيثِ. وَ تَفَقَّهُوا فِيهِ فَإنَّهُ رَبِيعُ القُلُوبِ. وَ اسْتَشْفُوا بِنُورِهِ فَإنَّهُ شِفَآءٌ لِلصُّدُورِ. وَ أحْسِنُوا تِلَاوَتَهُ فَإنَّهُ أحْسَنُ القَصَصِ.
فَإنَّ العَالِمَ العَامِلَ بِغَيْرِ عِلْمِهِ كَالجَاهِلِ الحَائرِ الذي لَا يَسْتَفِيقُ مِنْ جَهْلِهِ؛ بَلِ الحُجَّةُ عَلَيْهِ أعْظَمُ، وَ الحَسْرَةُ لَهُ ألْزَمُ، وَ هُوَ عِنْدَ اللهِ ألْوَمُ.۱
البَحْثُ العَّاشِرُ: عَظَمَةُ القُرْآنِ الكَرِيمِ و أصَالَتُهُ و تفسير آية ﴿وَ قالُوا لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ﴾
أعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيطانِ الرَّجِيمِ
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
و صلَّى اللهُ على سَيِّدِنا مُحَمَّدٍ و آلِهِ الطَّيِّبِينَ الطَّاهِرِينَ
و لَعْنَةُ اللهِ على أعْدَائهِمْ أجْمَعِينَ مِنَ الآنَ إلى قِيامِ يَوْمِ الدِّينِ
و لَا حَولَ و لَا قُوَّةَ إلَّا بِاللهِ العَلِيِّ العَظِيمِ
قال الله الحكيم في كتابه الكريم:
وَ قالُوا لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ.۱
من أجل التوصّل إلى معنى هذه الآية نجد أنفسنا مجبرين على ذكر جميع الآيات الحافّة بها:
وَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ وَ قَوْمِهِ إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ ، إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ ، وَ جَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ، بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ وَ آباءَهُمْ حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ وَ رَسُولٌ مُبِينٌ ، وَ لَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُ (أي القرآن الكريم) قالُوا هذا سِحْرٌ وَ إِنَّا بِهِ كافِرُونَ ، وَ قالُوا لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ، أَ هُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ رَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا وَ رَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ، وَ لَوْ لا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَ مَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ ، وَ لِبُيُوتِهِمْ
أَبْواباً وَ سُرُراً عَلَيْها يَتَّكِؤُنَ ، وَ زُخْرُفاً وَ إِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَ الْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ.۱
يذكر الله سبحانه و تعالى في هذه الآيات توحيد إبراهيم الخليل عليه السلام، و أنّه جعل ذلك التوحيد في ذرّيّته و عقبه، فلم يولوه احتراماً و دنّسوه بالشرك، حتى أنزل الله تعالى قرآنه على رسوله الكريم فعدّوه سحراً و كفروا به، و كانوا ينتظرون أن ينزل القرآن على رجل من ذوي الشوكة و المَنَعة و الجاه و الثروة، ممّن لهم الصدارة و العظمة في الامور الدنيويّة التي تستحوذ على الانتباه.
فيقول في الآية الاولى: و اذكر يا نبيّنا إبراهيمَ إذ تبرّأ من عبادة الآلهة المتعدّدة، و قال لأبيه و قومه بأنّه بريء ممّا يعبدون إلّا المعبود الذي أوجده و أنعم عليه بالوجود و الفطرة، لأنّ ممّا يجدر بالإنسان أن يوكل اموره إلى الربّ الذي خلقه و أوجده من كتم العدم، و أن يلقى برحال فاقته و حاجاته في فناء ذلك الخالق، و أن يخضع له و يتواضع أمام ساحته، إذ هناك تلازماً في العبادة بين خِلقة الخالق و المخلوق، حيث إنّ الارتباط بينهما يستدعي عبادة المخلوق للخالق و إيكاله اموره الولائيّة إلى خالقه.
و مثل هذا الخالق المالك لمقام الولاية و المعبوديّة إثر الخلقة، سيهدي هذا العبد إلى الكمال المطلق و إلى الذروة العليا من القابليّة، و هي مقام القُرب المطلق و الوحدة المطلقة. و ليس أمر الهداية منفصلًا عن الولاية و الخلقة، فالله فاطر الامور و خالقها سيرعى العبد و يرسّخ أقدامه في عبادته و تواضعه و خضوعه، و هو الذي - بتأثير هذا الأمر - سيهدى العبد إلى الكمال، و هو الذي كان أساس الخلقة بيده، و هو الهادى في التربية
و الحركة إلى الفعليّة التامّة. الله سبحانه هو الخالق، و هو المربّي في مسيرة التربية و ظهور القابليّات.
و لقد جعل الله تعالى هذه البراءة من الآلهة التي تُعْبَد دون الله تعالى، كلمةً باقيةً في ذرّيّة إبراهيم و عقبه إلى يوم القيامة، على أمل أن ينزعوا إلى التوحيد و إلى البراءة من غير الله المنّان.
كلمة «لااله إلّا الله» ليست مركّبة من النفي و الإثبات
بَيدَ أنّ هناك أفراداً معدودين في كلّ عصر و زمان استفادوا من كلمة التوحيد لَا إلَهَ إلَّا اللهُ، و رسّخوا هذه البراءة من الآلهة المعبودة دون الله، في صُقع نفوسهم و قلوبهم و أسرارهم؛ أمّا الآخرون فتخلّفوا عن هذه المسيرة.
و البراءة من الآلهة - سوى الله تعالى - هي بذاتها معنى و مفهوم كلمة التوحيد لَا إلَهَ إلَّا اللهُ، لأنّ معنى لَا إلَهَ إلَّا اللهُ هو نفي كلّ معبود سوى الله تعالى، و ليس نفياً لوجود الآلهة المعبودة، و إثباتاً لوجود الله تعالى، فذلك أشبه بقول بعض الدراويش الذين يقولون بأنّ هذه العبارة مؤلّفة من نفي و إثبات؛ ففقرة لَا إلَهَ هي إثبات لحقيقة وجود الله سبحانه؛ و هو استدلال غير تامّ، لأنّ لفظ الجلالة الله كان ينبغي حينئذٍ أن يكون منصوباً ليفيد الاستثناء.
بَيدَ أنّ لفظ الجلالة ورد مرفوعاً، و هو لذلك بدل من محلّ اسم لَا المرفوع. أي ليس من إله سوى الله تعالى: و ليس من آلهة و لا معبود سوى الله سبحانه.
و البدل من حالات المُبْدَل منه التي تطرأ عليه، أي ليس من إله له صفة كونه غير الله. حيث إنّ لفظ إلّا في العبارة بمعنى غَيْر، و علامة رفع محلّه قد ظهرت في نفس المُستثنى و هو الله.
و قد قال النحويّون. عند الاستثناء بـ «غير»، تكتسب لفظة «غير»
إعراب البدليّة، أمّا عند الاستثناء بـ «إلّا» فإنّ ما يلي «إلّا» سيكتسب ذلك الإعراب. فنقول: لَا إلَهَ غَيْرُ اللهِ و لَا إلَهَ إلَّا اللهُ، حيث رُفع لفظ «غير» في الجملة الاولى على البدليّة، و رُفع لفظ الجلالة الله في الجملة الثانية على البدليّة. و في كلتا الحالتين جرى حذف خبر لَا إلَهَ و هو «مَوجودٌ».
و تبعاً لذلك فإنّ عبارة لَا إلَهَ إلَّا اللهُ ليست لإثبات الله، بل هي لنفي الآلهة و الأرباب غيره، لذا صارت تُدعى كلمة التوحيد.
نزول القرآن من الله تعالى، و إنما يُنزَّله على نبيٍّ كمحمّد
أجل، فإنّ الله تعالى جعل هذه البراءة من الآلهة من غير الله تعالى في عقب إبراهيم من قريش و سكنة مكّة و الحجاز، عسى أن يلتفتوا إلى التوحيد، لكنّهم مع ذلك أعرضوا و لم يقبلوا بالتوحيد. و لقد متّع الله تعالى كفّار قريش و آباءهم بالنعم الدنيويّة حتى جاءهم رسولٌ مُبين منه - و كان أيضاً من ذرّيّة إبراهيم، و ممّن ترسّخت في نفسه المقدّسة كلمة التوحيد و البراءة السالفتا الذكر - فجاءهم بالحقّ و هو القرآن الكريم.
و لمّا واجه كفّار قريش القرآن، أنكروه و قالوا: إنّه سحر، و إنّا لا نؤمن به. و قالوا هازئين: ألم يكن في الحجاز و مكّة و الطائف أفقر من محمّد و أقلّ بضاعة و جاهاً و اعتباراً، ليجعله الله رسوله و يرسل قرآنه بواسطته؟!
لِمَ لم ينزل القرآن على أحد الرجلَين العظيمَين في مكّة و الطائف، اللذين يتمتعان بالجاه و الثروة و الاعتبار؟!
أورد الطبرسيّ في «مجمع البيان»: «و يعنون بالرجل العظيم من إحدى القريتَين الوليد بن المغيرة من مكّة، و أبا مسعود عروة بن مسعود الثقفيّ من الطائف، عن قتادة.
و قيل: عُتبة بن أبي ربيعة من مكّة، و ابن عبد ياليل من الطائف، عن مجاهد، و قيل: الوليد بن المغيرة من مكّة، و حبيب بن عمر الثقفيّ من
الطائف، عن ابن عبّاس» انتهى.
و قال سماحة الاستاذ العلّامة آية الله الطباطبائيّ قدّس الله سرّه. «و الحقّ أنّ ذلك من تطبيق المفسِّرين، و إنّما قالوا ما قالوا على الإبهام و أرادوا أحد هؤلاء من عظماء القريتَين على ما هو ظاهر الآية».۱
ثمّ إنّ الله تعالى يقول بعد البيان السابق بأنّ تقسيم الخير و الرحمة و نزول القرآن و اختيار النبيّ هي من قِبل الله تعالى، و ليس لغيره تصرّف في هذا الأمر أبداً. نحن قسّمنا بينهم معايشهم و حياتهم المؤقّتة في الحياة الدنيا، و نحن جعلنا الأفراد في درجات و مراتب مختلفة، ليخضع بعضهم لبعض، و ليسخّر بعضهم بعضاً، لتأمين احتياجات عامّة الناس.
فكيف يتدخّل هؤلاء الكفّار العاجزون عن تأمين معاشهم و مستلزمات حياتهم المؤقّتة في أمر النبوّة فيقسّمونها و يضعونها بين أيدي المستكبرين و الأنانيّين و الأثرياء في مكّة و الطائف؟
إن رحمة الله تعالى التي هي تقبّل نبوّة الرسول و ولايته الإلهيّة و القبول بالحقّ - و هو القرآن الكريم - هي أفضل و أجمل من هذه الأموال و الاعتبارات التي يجمعها هؤلاء في دنياهم.
فهذه الأموال و الزخارف، و هذه الاعتبارات و التعيّنات، لا قيمة لها عندنا، و إن علت أبواقها و أصواتها. فنحن لا نُلقي بالًا إلى هذه الضجّة الفارغة، و لهذه الأوامر و النواهي، و لهذه الثروات الطافحة و الحطام الزخّار.
إن المؤمنين لا يسعون إلى كسب المال؛ و هدفهم و مقصودهم يتلخّصان في المعنى و الامور المعنويّة و كسب الفضائل، لا اكتناز الذهب.
و لو طلبوا منّا شيئاً من هذا القبيل لأعطيناهم منه كما نعطي الكفّار و عبدة الدنيا الذين يطلبون الدنيا، فنحن نُغدق عليهم الأموال و الجاه.
و لو لا سُنّة الأسباب و العلل و المعلولات؛ و لو كان قَدَرُنا أنّ كسب المال و الاعتبار يحصل دون مشقّة وجُهد، لرأيتم كيف سنُغدق الأموال على الكافرين بالله تعالى، الذين يسعون إلى جمع الذهب و الفضّة و اكتساب الدنيا العريضة، بحيث يصنعون لبيوتهم سقوفاً من الفضّة، و سلالم من فضّة يرقون عليها فيعلون تلك السقوف، و لجعلنا لبيوتهم أبواباً من فضّة، و أسرّة من فضّة يتّكؤون عليها. و لزيّنّا بيوتهم بالذهب و الزخارف و المجوهرات. ولكن ما الفائدة؟ فهذه المتع و المنافع مؤقّتة، و هذه الحياة حياة وضيعة لا قيمة لها. أمّا فِناء الدار الآخرة فأبديٌّ خالد، إذ الأصالة و الحقيقة منحصرة فيه، و هي الدار التي يختارها المتّقون.
و لقد كتب غوستاف لوبون و جرجى زيدان المسيحيّ في تأريخ الحضارة الإسلاميّة، و امتدحا عظمتها بلحاظ الحضارة الظاهريّة و الفتوحات و الأبنية و العمارات العالية و القصور المشيّدة و الأسواق المرتفعة و أمثال ذلك، و كان ذلك هو منظار العظمة لديهما. أمّا الإسلام و حقائقه، و أصل العرفان و معارفه، و تربية النفوس الزكيّة و الارتقاء بمستوى الإيمان و الإيقان بالله الأحد لدى عامّة البشريّة، فهي امور تفوق سابقتها و تعلوها في الفضيلة.
فقد كانت تلك امور ذات أهمّيّة في نظر أهل الدنيا، كالكفّار الذين تصوّروا أنّ أهمّيّة النبيّ تكمن في ثروته و تعيّناته الدنيويّة، فكانوا يبحثون عن رسولٍ بهذه المواصفات. و لقد أفهمهم الله تعالى بأنّ الأصالة و الشرف ليست في المال و الجاه الخارجَين عن الإنسان، بل الفضيلة و الشرف ينبغي أن ينبعا من داخل الإنسان.
و لو اتّصفت النفس البشريّة بصفة الكمال، لفاقت الزبرجد و الألماس؛ و إلّا، فإنّه لو زُيّن بجميع ما في العالم من زينة، و حُلِّيَ بأنواع الجواهر المرصّعة، لما زاد ذلك في الإنسان شيئاً.
يقول المرحوم العارف الشهير المير فِندرسكيّ:
هر چه بيرون است از ذاتت نيايد سودمند | *** | خويش را كن ساز اگر امروز اگر فرداستى۱ |
ميزان الأعلميّة في الإسلام هم الأعلميّة في القرآن الكريم
إن شرف الإنسان هو علمُه. و لقد رفع القرآن مستوى علم البشر، فنشأت جميع العلوم و وسائل المدنيّة من علم القرآن. لذا يمكن القول حقّاً بأنّ القرآن الكريم هو الكتاب السماويّ الأوحد الذي أمكنه أن يستنقذ الإنسان من مهاوي الجهل العميقة، و يسمو بمقام الإنسان عن البهيميّة و السبُعيّة. أفوجد حتى الآن مُدّعٍ - حتى من مُنكري القرآن - يمكنه أن يعرّف لنا كتاباً آخر غير القرآن؟!
من هنا، يمكن أن يُستفاد بجلاء بأنّ ميزان الأعلميّة في الإسلام هو الأعلميّة بالقرآن الكريم. فمَن فاق الآخرين في العلم بالقرآن و علومه، من التوحيد و العرفان، و معارف المبدأ و المعاد، و التأريخ و القضايا الواردة في القرآن، و العقائد و الأحكام النازلة في القرآن، كان هو أعلم الامّة؛ لا مَن يفوقهم في علمَي الفقه و اصول الفقه، إن لم يكن في سائر علوم القرآن في حدّ أكمل و أتمّ، لأنّ علم الفقه هو فرع من الفروع الدُنيا لعلوم القرآن، ناهيك عن علم اصول الفقه. و نستدلّ على هذا الأمر - فضلًا عن سيرة رسول الله و الأئمّة الطاهرين صلوات الله عليهم أجمعين - من دليلَين نقليَّين:
الأوّل: أنّ رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم أمر بعد غزوة احد أن يُقدَّم إلى القِبلة الشهيد الذي كان يُتقن القرآن أفضل من غيره، فيُدفن قرب القِبلة. يقول ابن الأثير في «الكامل في التاريخ»:۱
أمَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ [وَ آلِهِ] وَ سَلَّمَ أنْ يُدْفَنَ الاثْنَانِ وَ الثَّلَاثَةُ في القَبْرِ الوَاحِدِ؛ وَ أنْ يُقَدَّمَ إلى القِبْلَةِ أكْثَرُهُمْ قُرْآنًا، وَ صَلَّى عَلَيْهِمْ.
و الثاني: أنّ أبا نعيم يروي في «حلية الأولياء»٢ بسنده المتّصل عن عاصم بن ضمرة، قال: قال عليّ [ابن أبي طالب عليه السلام]:
ألَا إنَّ الفَقِيهَ كُلَّ الفَقِيهِ. الذي لَا يُقَنِّطُ النَّاسَ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ، وَ لَا يُؤْمِنُهُمْ مِنْ عَذَابِ اللهِ، وَ لَا يُرَخِّصُ لَهُمْ في مَعَاصِي اللهِ، وَ لَا يَدَعُ القُرْآنَ رَغْبَةً عَنْهُ إلى غَيْرِهِ. وَ لَا خَيْرَ في عِبَادَةٍ لَا عِلْمَ فِيهَا، وَ لَا خَيْرَ في عِلْمٍ لَا فَهْمَ فِيهِ، وَ لَا خَيْرَ في قِرَاءَةٍ لَا تَدَبُّرَ فِيهَا.
و من طريق الخاصّة، روى محمّد بن يعقوب الكلينيّ في «اصول الكافي»٣ بسند صحيح عن عدّة من الأصحاب، عن أحمد بن محمّد البرقيّ، عن إسماعيل بن مهران، عن أبي سعيد القَمّاط، عن الحلبيّ، عن أبي عبد الله عليه السلام، قال:
قال أميرالمؤمنين عليه السلام:
ألَا اخْبِرُكُمْ بِالفَقِيهِ حَقِّ الفَقِيهِ؟ مَنْ لَمْ يُقَنِّطِ النَّاسَ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ، وَ لَمْ يُؤْمِنْهُمْ مِنْ عَذَابِ اللهِ، وَ لَمْ يُرَخِّصْ لَهُمْ في مَعَاصِي اللهِ، وَ لَمْ يَتْرُكِ
القُرْآنَ رَغْبَةً عَنْهُ إلى غَيْرِهِ. ألَا لَا خَيْرَ في عِلْمٍ لَيْسَ فِيهِ تَفَهُّمٌ؛ ألَا لَا خَيْرَ في قِرَاءَةٍ لَيْسَ فِيهَا تَدَبُّرٌ؛ ألَا لَا خَيْرَ في عِبَادَةٍ لَيْسَ فِيهَا تَفَكُّرٌ.
و في رواية: ألَا لَا خَيْرَ في عِلْمٍ لَيْسَ فِيهِ تَفَهُّمٌ؛ ألَا لَا خَيْرَ في قِرَاءَةٍ لَيْسَ فِيهَا تَدَبُّرٌ؛ ألَا لَا خَيْرَ في عِبَادَةٍ لَا فِقْهَ فِيهَا؛ ألَا لَا خَيْرَ في نُسْكٍ لَا وَرَعَ فِيهَ.
و يروي العلّامة الأمينيّ في كتاب «الغدير»۱ بسند صحيح من طريق العامّة عن مسلم و الترمذيّ و أبي داود، أنّ رسول الله صلّى الله عليه [و آله] و سلّم قال:
يَؤُمُّ القَوْمَ أقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللهِ؛ فَإنْ كَانُوا في القِرَاءَةِ سَوَاءً فَأعْلَمُهُمْ بِالسُّنَّةِ، فَإنْ كَانُوا في السُّنَّةِ سَوَاءً فَأقْدَمُهُمْ هِجْرَةً؛ فَإنْ كَانُوا في الهِجْرَةِ سَوَاءً فَأقْدَمُهُمْ سِلْماً.
تأثير القرآن في نشوء الحضارة الإسلاميّة العظيمة
يقول آية الله الشعرانيّ تغمّده الله برحمته في تأثير القرآن في نشوء الحضارة الإسلاميّة العظيمة. (ما ترجمته):
«إنّ مَن قرأ التأريخ و اطّلع على أحوال الامم السالفة، عَلِمَ أنّ اليونانيّين قد بلغوا في العلم و الحضارة ما لم تبلغه الأقوام التي سبقتهم أو عاصرتهم، و أنّ الامم التي عاشت قبل اليونانيّين قد كانت أدنى منهم في العلم و الحضارة و أنّ العلماء اليونانيّين قبل الإسكندر قد وجدوا بأعداد كبيرة، و كان فيهم أمثال سقراط و أفلاطون.
و حين سيطر الإسكندر على دول العالم، فإنّه نشر العلم و اللغة اليونانيّة في العالم، فنفع الناس بهما. و قد كانت اللغة اليونانيّة لغة العلم العالميّة لما يقرب من ألف سنة، و كان العلماء يدرّسون بتلك اللغة و يؤلّفون
الكتب بها، على الرغم من أنّ بعضهم لم يكن يونانيّاً. حتى أنّ أتباع السيّد المسيح عليه السلام كتبوا تأريخه - الذي يُدعى بالإنجيل - باللغة اليونانيّة، و لفظة الإنجيل هي كلمة يونانيّة بمعنى البشارة، على الرغم من أنّ عيسى عليه السلام و أتباعه كانوا يتكلّمون بالعبريّة.
تفوّق العلوم الإسلاميّه على علوم اليونان نابع من بركة القرآن
و بعد الإسكندر بألف سنة ظهر خاتم الأنبياء محمّد بن عبد الله صلّى الله عليه و آله و جاء بالقرآن باللغة العربيّة فأحدث انقلاباً في أوضاع العالم و احتلّت العربيّة مكانة اللغة اليونانيّة وفاقتها. و قد تعلّم المسلمون العلوم اليونانيّة و أضافوا عليها أضعافها، فبلغت العربيّة و العلوم المدوّنة بها مكانة عالميّة لم تبلغها لغة قبلها.
و قد جاء في التواريخ أنّ مكتبة الإسكندريّة في مصر كانت أكبر مكتبة في العالم القديم. و كانت تحتوي على العلوم اليونانيّة. و بلغ عدد كتبها خمسة و عشرين ألف كتاباً، أمّا مكتبة المسلمين فقد ضمّت في العصر الإسلاميّ مليون كتاب.
يقول جرجي زيدان في «تاريخ الحضارة الإسلاميّة» و «تاريخ آداب اللغة»:
أ نّ خليفتَي مصر الفاطميَّينِ: العزيز بالله (٣٦٥ - ٣۸٦ هـ. ق) و الحاكم بأمر الله (٣۸٦ - ٤۱۱ هـ. ق) قد أنشآ مكتبة في مصر اشتملت على ما يقرب من مليون كتاب، أي على أربعين ضعف من كتب مكتبة اليونان في الإسكندريّة.
و يقول: إنّ المكتبات الكبيرة كانت متواجدة بأعداد كبيرة في مصر و العراق و الأندلس و غيرها، و كانت المكتبة الواحدة تشتمل على مئات الآلاف من الكتب، و كانت أبواب تلك المكتبات مُشرعة في وجوه طلبة العلم و المطالعين.
فقد كانت الآثار العلميّة العربيّة تفوق نظيرتها اليونانيّة بأربعين ضِعفاً.
و مع أنّ اليونانيّين امتلكوا كتباً في علوم الأدب و الأخلاق و الموعظة و الفقه و سياسة المدن و الجغرافيا، إلّا أنّها لا تقارن بالكتب العربيّة في كثرتها و في تحقيقها. فلم يكن لدى اليونان كتاب في الأخلاق كـ «إحياء العلوم»، أو كتاب في الجغرافيا كـ «مُعجم البلدان».
و قد تفوّق المسلمون على اليونانيّين تفوّقاً عظيماً في الرياضيّات، و خاصّة في الحساب و الجبر و المقابلة و الهيئة و النجوم. و كان اليونانيّون يكادون لا يعرفون شيئاً عن علمَي الحساب و الجبر. و كان العلم الأرِيثماطيقيّ اليونانيّ علماً يختلف عن الحساب؛ و كانت أعداد ۱، ٢، ٣ غير متداولة بين اليونانيّين.
كما أنّ المسلمين لم يكونوا دون اليونانيّين في سائر علوم الحكمة و الطبّ، بل كانت كفّتهم راجحة فيها أيضاً.
و هذه الامور بأجمعها من بركة القرآن، و ليس قولنا هذا جزافاً، إذ التجربة و التأريخ يشهدان على صِدقه.
إن العرب و جميع سكان الشرق لم يمتلكوا هذا النبوغ و الرقيّ قبل الإسلام الذي جعلهم في مصافّ اليونانيّين، أمّا بعد الإسلام فقد بلغوا في الرقى مدى بعيداً جعلهم يتفوّقون على اليونانيّين و أتباعهم. فإن نحن نظرنا في أي واحدٍ من العلوم، شاهدنا أنّ القرآن هو السبب في رقيّه.
و لقد انحصر علم المسلمين في بداية الإسلام في تعلّم القرآن، فكانوا يتعلّمون ألفاظه و معانيه من الصحابة و التابعين. و لأنّ المسلمين كانوا يعلمون أنّ تلك الألفاظ هي كلام الله تعالى، فقد كانوا يجدّون في حفظها كلمةً كلمة، فظهر من ذلك علم القراءة. ثمّ جرى تدوين الصرف و النحو
لحفظ تلك الألفاظ من الخطأ في الإعراب و البناء و الصحّة و الاعتدال. و لم يكن تدوين هذين العلمَين ميسوراً بدون تتبّع اللغة و القواعد الأدبيّة.
ثمّ ظهر علم المعاني و البيان لفهم فصاحة القرآن و بلاغته. ثمّ احتاج المسلمون من أجل فهم تفسير كتاب الله الكريم و معانيه إلى أكثر العلوم، كالتأريخ و الهيئة و الكلام و أمثالها، ليمكنهم بذلك تفسير آيات القرآن.
و لأنّ القرآن أمر باتّباع الرسول و إطاعته، فقد احتاجوا إلى تدوين كلامه، فانهمكوا في تدوين أحاديث النبيّ و صاروا في صدد جمع كلامه. ثمّ إنّهم اضطرّوا - من أجل تشخيص الأحاديث الكاذبة عن الصحيحة - على التأمّل في علل النفوس، ليعلموا الصفات الموجودة في النفوس البشريّة التي تدفع البشر إلى الكذب أو تجبرهم على التزام الصدق، لأنّ اختلاق الكذب له علل و قواعد منظّمة في نفوس البشر؛ و التزام الصدق كذلك. فصاروا محتاجين إلى معرفة رواة الحديث و تمحيص أحوالهم و ملكاتهم، فنشأ من ذلك علم الحديث و الدراية و الرجال.
و نظراً لورود الأمر في القرآن بمعرفة الوقت و القِبلة للصلاة، فقد اضطرّ المسلمون على تعلّم الهيئة و النجوم لتعيين اتّجاه القبلة و أوقات الصلاة، فأحوجتهم الهيئة و النجوم إلى سائر فروع الرياضيّات.
و نظراً لامتلاك قوانين الميراث و الفرائض الإسلاميّة حساباً معقّداً، فقد دفعهم ذلك لتعلّم علم الحساب. ثمّ انصرفوا إلى تعلّم مساحة الأرض و علم الهندسة لحلّ امور الزكاة و الخراج.
و قد فتح الجهاد و الحجّ للمسلمين أبواب السفر و السياحة و الاطّلاع على أحوال الامم المختلفة و دول العالم الاخرى، فألّف هؤلاء المجاهدون و الحجّاج كتباً في الجغرافيا و أمثالها.
و لقد نهى القرآن عن تقليد الآباء و الأجداد، و أوجب الدعوة إلى
الدين الحقّ و إلى التحقيق في الأدلّة؛ و كان مخالفو الإسلام و منكر و الأديان يحاججون المسلمين على الدوام، فاجبر المسلمون على التباحث معهم عن طريق الاستدلال. فتعلّموا في هذه السبيل أقوال حكماء اليونان و غيرهم، و اكتسبوا طريقة الاستدلال و المنطق.
الأعداد الاوروبّيّة مأخوذة من العربيّه
و هكذا، إذا تأمّلت و نظرت بدقّة، وجدتَ أنّهم تعلّموا جميع العلوم ببركة القرآن.
أمّا بالنسبة إلى علمَي الفقه و الأخلاق، و طريق السير و السلوك و تهذيب النفس، التي هي غاية السير الإنسانيّ، فقد نشأت من القرآن بطبيعة الحال، و لا حاجة لذكرها. و قد استدلّ العلماء بالآيات القرآنيّة و استشهدوا بها على الخصوص في أكثر أبواب العلوم».۱
أجل، فإنّ اليونانيّين لم يجهلوا علم الحساب فحسب، بل كانوا كذلك يكتبون الأعداد بكيفيّةٍ لو أراد المسلمون استخدامها في بيان أعداد كبيرة، و على الأخصّ عند ضرب أعداد كبيرة، لامتنع ذلك عليهم و تعذّر؛ و لذلك فقد اخترع العرب الأعداد من الواحد إلى العشرة بهذه الكيفيّة.
(۱، ٢، ٣، ٤، ٥، ٦، ۷، ۸، ٩، ۱۰)
ثمّ قلّدهم الاوروبّيّون المتأخّرون في استعمال تلك الأعداد، فجعلوا أعدادهم على الهيئة التالية:
و يحتاج توضيح هذا المطلب إلى الإتيان بالأعداد اليونانيّة (و هي
الأرقام الروميّة) و بيان بحثٍ مختصر بشأنها، ثمّ ذكر اقتباس الاوروبّيّين و تقليدهم.
۱
و من ملاحظة هذا الجدول يُستنتج أنّ اصول الأعداد الروميّة هي عبارة عن:
فإذا وُضع عدد إلى يمين عددٍ من الأعداد، فإنّه يُضاف إلى ذلك
العدد، أمّا لو وُضع إلى يسار ذلك العدد فإنّه يجب انقاصه منه.
فـ «V» مثلًا يمثّل عدد خمسة «٥»؛ فإن وضعنا عدد «I» إلى يمينه فصار «VI» فإنّه يصبح عدد «٦». أمّا لو وضعناه إلى يساره «IV» لأصبح عدد «٤»، و هكذا ... .
و بهذه الطريقة فإنّ بعض الأعداد تصبح طويلة جدّاً، فالعدد «٣٣٣٣» مثلًا سيكتب بهذه الصورة. «MMMCCC XXXIII»؛ و العدد «٣۸٩۸» سيُكتب بهذه الصورة. «MMMCCCXXXIII». أمّا لو أردنا ضرب هذه الأعداد في بعضها، فما الذي سيحصل يا ترى؟!
و من أجل تلافي هذا النقص الذي يجعل الحساب بمثل هذه الأعداد صعباً أو مستحيلًا لعلماء الرياضيّات، فقد لجأ الاوروبّيّون المتأخّرون إلى الاستفادة من الأعداد العربيّة على النحو التالي:
الهيئة الجديدة للأعداد العربيّة:
الهيئة القديمة للأعداد العربيّة:
و يُلاحظ أنّ هذه الأعداد الجديدة هي بعينها الأعداد العربيّة. و يسمّي الاوروبّيّون هذه الأعداد بالأعداد العربيّة: ARABIC NUMBERS، كما يدعون الأعداد الروميّة باسم الأعداد الروميّة: (ROMAN NUMBERS) I -II -III -IV -V.
من ضرورات الإسلام أنّ ألفاظ القرآن هي - بعينها - الوحي الالهيّ
إن أهمّيّة اللغة العربيّة تكمن في أنّ نفس ألفاظ القرآن - و ليس معانيه - هي وحيٌ مُنزَل، خلافاً للتوراة و الإنجيل اللتين ألّفهما الناس فدوّنوا فيهما ألفاظ الأنبياء حسبما شاءوا، و دوّنوا فيهما سيرة موسى و عيسى على نبيّنا و آله و عليهما السلام. و كان يُوحي إلى الأنبياء السابقين على هيئة معانٍ - لا ألفاظ - تُلقى إليهم من قِبل الله عزّ و جلّ، فكانوا يبيّنونها بأيّ لفظ يشاءون. و ربّما كانت ألفاظ الأحكام العشرة التي كُتبت على الألواح التي نزلت على النبيّ موسى عليه السلام تمثّل عين الوحي. أمّا القرآن الكريم
فكلماته و ألفاظه هي عين الوحي، و قد نزلت ألفاظه بخصوصها من قِبل الله المتعال على قلب رسول الله، و لم تكن المعاني تنزل على قلبه فيقوم ببيانها بأيّ لفظٍ شاء، و هذا المطلب من ضروريّات الإسلام.۱
و قد تناولنا سابقاً هذا الموضوع بالبحث، و كما أورد آية الله الشعرانيّ في كتاب «راه سعادت» (=نهج السعادة)، فإنّ معنى الآيات الواقعة في سورة القيامة.
لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ، (و لا تقلق من سقوط كلمة أو حرف) إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَ قُرْآنَهُ ، فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ.٢
لا منافاة لـ «فَإنَّهُ نَزَّلَهُ على قَلْبِكَ» مع نزول ألفاظ القرآن
و أنّ الذين قالوا بأنّ المعاني كانت تُلقى على قلب رسول الله، فكان
يبيّنها قد تكلّموا خلاف ضروريّات الإسلام، فإنّ: قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ.۱
لا يتنافى مع نزول الألفاظ، لأنّ روح القدس أنزل عين الألفاظ و الكلمات. المتكلّم في القرآن الكريم هو الله تعالى، و المخاطَب هو رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم بعين الحروف و الألفاظ.
قيل. إنّ عثمان أراد بعد زمن رسول الله أن يجمع القرآن، فقال في الآية المباركة في سورة التوبة: وَ الَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَ الْفِضَّةَ وَ لا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ.٢ بأنّ الواو زائدة و ينبغي أن تُحذف، لأنّ معنى الَّذِينَ يَكْنِزُونَ تامّ، فالمجيء بالواو قبلها ليس عطفاً و لا استئنافاً و لا قَسَماً، و ينبغي أن تُسقَط هذه الواو الخالية من المعنى.
فقال ابَيّ بن كَعْب - و كان من القرّاء المشهورين، و له مكانة لدى رسول الله و عامّة المسلمين-: لقد أخذتُ الآية من رسول الله بالواو و يجب ألّا تُسقَط!
و دام الجدل بين عثمان و ابيّ حول هذا الموضوع لمدّة ستّة أشهر، حتى غلب رأي ابيّ، فدُوّنت الآية في نُسخ القرآن بالواو.
لقد نزل القرآن الكريم تدريجيّاً طوال ثلاث و عشرين سنة، و كان النبيّ كلّما نزل عليه القرآن، يتلوه على المؤمنين، و كانت تلك هي طريقة دعوة الناس إلى الإسلام.
إن دعوة الناس إلى الإسلام في الجزيرة العربيّة لم تكن بحاجة إلى تبليغ و إعداد مُسبق، فكانت قراءة آيات القرآن على الناس هي الدعوة إلى الإسلام. و كانت هذه الآيات العربيّة المعجزة ذات المعاني الطيفة و الألفاظ البديعة من علوّ القدر وغِنى المضمون بحيث كان المخالفون يدعونها سحراً و يلقّبون الرسول الأكرم بالساحر العظيم.
و لم يُخْفِ رسول الله و المسلمون القرآن عن أحد، و كان الناس يتعلّمون القرآن فيكتبونه و يحفظونه عن ظهر قلب. و كانوا إذا توجّهوا إلى مكانٍ يدعون فيه المشركين و عبدة الأصنام إلى الإسلام، يصطحبون معهم عدّة سور من القرآن.
و حين هاجر المسلمون إلى الحبشة، اصطحبوا معهم السور التي نزلت قبل ذلك التأريخ، ثمّ قرأ جعفر الطيّار على النجاشيّ - ملك الحبشة - سورة مريم، فأسلم النجاشيّ عند سماعها.
و بهذه الكيفيّة فقد انتشرت السور القرآنيّة في زمن رسول الله في جميع جزيرة العرب، و انتشر القرآن في كلّ مكان، و عمّ الإسلام كلّ أرجاء بلاد الجزيرة.
و توجّب على كلّ مسلم أن يقرأ في كلّ ركعة من صلاته سورة فاتحة الكتاب و قدراً من القرآن عن ظهر قلب، و كان يؤمّ المسلمين في جماعتهم أقرأهم للقرآن، طبقاً لأمر الرسول الأكرم لهم. لِيَؤُمَّكُمْ أقْرَؤُكُمْ؛ فكان ذلك باعثاً على ترغيب الناس في حفظ القرآن.
و بذلك فقد حفظ عدد كبير لا يُحصى من المسلمين في بلاد الحجاز كلٌّ واحدة من السور القرآنيّة أو قاموا بكتابتها. فقد حفظ سورة يس - مثلًا - عشرة آلاف نفر، و حفظ سورة الرحمن عشرون ألف نفر، و حفظ سورة الحمد عدّة ملايين منهم، كما حفظ السور الأطول، كسورة البقرة،
أعداد أقلّ من ذلك. فلم تبقَ سورة لم يحفظها الناس عن ظهر قلب.
و كان الناس مختلفين في حفظهم للقرآن، فكانوا يحملون من القرآن القدر الذي يستظهرونه منه عن ظهر قلب. فكان بعضهم يستظهر عشر سور، و بعضهم خمسين سورة، و كان عدد منهم قد حفظ جميع القرآن عن ظهر قلب أو كان قد استنسخ سورة كاملةً، و كانوا يمتلكون علماً و إحاطةً بجميع القرآن، مثل أميرالمؤمنين عليه السلام و ابيّ بن كعب و عبد الله بن مسعود.۱
كان جمع الآيات و السور و تسميتها في عهد رسول الله
ثمّ قال آية الله الشعرانيّ رضوان الله عليه:
«و كان تركيب السور القرآنيّة من آيات، و احتواء كلّ سورة على عدّة آيات، و تعيين موضوع كلّ آية في السورة التي ترجع إليها، اموراً يعيّنها النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم من قِبل الله تعالى: و كان لكلّ سورة اسماً خاصّاً اشتهر في زمن النبيّ. فكان النبيّ إذا قال: سورة طه أو سورة
مريم أو سورة هود، عرف الناس السورة التي يقصدها. فقد قال النبيّ مثلًا: شيبتني سورة هود، فعرف جميع الناس أي سورة يقصد، إذ كان الآلاف منهم قد كتبوا تلك السورة و استظهروها عن ظهر قلب. و هذه الامور معلومة بالتواتر و لا يطرأ إليها الشكّ.
دقّة المسلمين في ضبط آيات القرآن و كلماته
و كان المسلمون حين يحفظون القرآن و يستظهرونه في عصر النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم، يعدّون التسامح في ألفاظه أمراً غير جائز. و كما نحفظ نحن سورة الحمد و سورة اخرى عن ظهر قلب و نواظب على قراءتها دون خطأ في حرف منها، فقد كان الناس يحفظون آيات القرآن في ذلك العصر بهذه الدقّة، فكانوا مثلًا لا يجيزون استعمال لفظ دَنَتْ بدل لفظ اقْتَرَبَتْ، مع ترادف اللفظين.
ثم ظهر علم النحو في القرن الهجريّ القمريّ الأوّل لضبط حركات القرآن. فلم تكن الدقّة التي بذلها الصحابة و التابعون و القرّاء السبعة في أداء الكلمات القرآنيّة وليدة الساعة، بل كانت امتداداً للدقّة المبذولة في عصر النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم في ضبط الحروف.
و أكبر دليل على هذا المطلب هو الحروف المقطّعة في أوائل السور، فقد ورد في عدّة مواضع حروف الر، و ورد في أحد المواضع المر، و في أحدها طس، و في أحدها طسم، و في عدّة مواضع لَحْمَ و في موضع واحد حم ، عسق.
فقد بُذِل - إذاً - اهتمام تامّ بالحروف، و كان تغيير الحروف أو تقديمها و تأخيرها يعدّ أمراً غير جائز.
ثمّ إنّهم دوّنوا بسم الله في أوائل جميع السور عدا سورة براءة، و هذا أيضاً من أدلّة تعبّدهم. و لو كانوا مختارين في ترتيب السور و الآيات، أو كانوا يعدّون التصرّف فيها جائزاً، لدوّنوا بسم الله في مطلع سورة براءة
أيضاً.
أمّا قول البعض بأن بسم الله هي كلمة رحمة، و إنّ براءة كلمة عذاب، لذا فإنّهم لم يدوّنوا بسم الله في مطلع سورة براءة لهذا السبب، فهو غير صحيح، إذ هناك كثير من السور التي تبدأ بذكر العذاب، إلّا أنّها ابتُدِئت بأجمعها ب-. بسم الله. فكان عدم كتابة البسملة في بداية سورة براءة محض متابعة رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم؛ و لو لا ذلك، لكان ينبغي عدم كتابة بسم الله في بداية سورة هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ.
و بعد ارتحال خاتم الأنبياء صلّى الله عليه و آله و سلّم جرى تدوين نسخة من القرآن الكريم في عهد أبي بكر تطابق ما كان في أيدي الناس، فاودِعَتْ لدى حفصة، و عُدّت نسخة رسميّة، من أجل الرجوع إليها، إذا تصرّمت الأعوام و انقرضت الطبقة الاولى من حفّاظ القرآن، و تفرّق المسلمون في البلاد العريضة، فحصل في نقل سور القرآن التي تُنقل بين الصدور أو بالاستنساخ خطأ أو سهو.
ثمّ جرى في عهد خلافة عثمان استنساخ عدّة نسخ على ذلك المصحف القديم فارسلت كلّ نسخة إلى بلد من البلدان و وُضعت في المساجد الكبيرة ليرجع إليها النُّسَّاخ و القرّاء لإصلاح السهو و الخطأ الذي قد يحصل في نُسخهم، فحافظوا بذلك على القرآن الكريم كاملًا كلمةً فكلمة، و حرفاً فحرفاً، حتى عصرنا الحاضر.
وجوب طبع كتابة القرآن على ما كان عليه
و لقد وعد الله تعالى و حتّم على نفسه حفظ القرآن، في قوله تعالى: إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَ قُرْآنَهُ۱، و ها قد تحقّق هذا الوعد الإلهيّ.
و قد بذل المسلمون في ضبط القرآن دقّة كبيرة، بحيث إنّهم إذا
وجدوا في نسخ الصدر الأوّل المخطوطة بالخطّ القديم كلمةً تخالف قواعد الخطّ المعهودة، حفظوها في النسخ المتأخّرة في تلك الكيفيّة، و عدّوا تغييرها أمراً غير جائز.
و على سبيل المثال، فإنّ الألف ينبغي أن تُكتب بعد الواو في الفعل الوارد بصيغة الجمع، و قد رُوعيت هذه القاعدة في نسخ القرآن في عصر الصحابة إلّا في كلمات جاؤ، و فاؤ، و باؤ، و سعو في آياتنا في سورة سبأ؛ وَ عَتَوْا عُتُوًّا في سورة الفرقان، وَ الَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ في سورة الحشر، حيث إنّها دُوّنت في نسخهم بدون ألف، فترك المتأخّرون إيراد الألف و لم يُجيزوا كتابتها، من أجل أن نعلم الأمانة و الدقّة التي نقلوا بهما القرآن، و أنّه عارٍ عن التحريف.
كما أنّهم كتبوا الألف واواً في عدّة مواضع، كما في بَلؤُا مُبِينٌ في سورة الدخان.
كما أنّ التاء في آخر الكلمة تُكتب على هيئة هاء، كما في سُنَّة و رَحْمَة؛ أمّا في نسخ القرآن في عهد الصحابة فقد كُتبت بعضها في هيئة تاء طويلة، فلم تُغيّر كتابتها. مثل كلمة رحمت التي كتبت بتاء طويلة في سور البقرة، الأعراف، هود، مريم، الروم و الزخرف؛ و كلمة نعمت في سور البقرة، آل عمران، المائدة، إبراهيم، النحل، لقمان، فاطر، و الطور؛ و كلمة سُنّت في سور الأنفال، فاطر، و غافر، بينما كُتبت في سائر المواضع الاخرى هاءً.
كما أنّهم كتبوا بالتاء الطويلة.، كما كتبوا بالتاء الطويلة كلمة امْرَأَتُ حيثما
استُعملت مُضافةً، مثل: امرأت فرعون، و كلمة معصية في. قد سمع.۱
كما أنّهم كتبوا كلمة شَيْءٍ أينما وردت بالشين والياء، إلّا في سورة الكهف: و لا تقولن لشايء، فقد فصلوا بين الشين والياء بألف؛ فحفظت هذه الكتابة دونما تغيير.
و كذلك فقد أقحموا ألفاً بين لا في لآذبحنه، و لا و ضعوا، و لإالى الجحيم دون حاجة إليها، لمجرّد المتابعة.
كما أنّهم كتبوا ياءً زائدة في كلمة نبأ في نبإي المرسلين، و في آنآء الليل في سورة طه؛ و في تلقاء نفسي في سورة يونس؛ و في من و رآء حجاب في سورة الشورى؛ وَ إِيتاءِ ذِي الْقُرْبى في سورة النحل؛ و بلقاء ربهم و لقاء الآخرة في سورة الروم، بينما لم يكتبوها في نظائرها.
و ممّا يثير العجب أنّهم كتبوا يائين بدلًا من ياء واحدة في كلمة بأييكم المفتون، و بنيناها بأييد، فحُفظت تلك الكتابة. و نظير هذه الامور كثير في القرآن الكريم، و يحتاج إلى مجال خاصّ لبيانه.
و من المؤسف كثيراً أنّ هذه النكات لم تجرِ مراعاتها في نسخ القرآن المطبوعة في إيران جهلًا و تساهلًا، ممّا يعدّه مسلمو باقي الممالك تعمّداً و عناداً، نعوذُ بالله.
و قد شملت هذه الدقّة و الاهتمام في كتابة الكلمات القرآنيّة أمر أداء حروفها و حركاتها. فقد قرأ حفص - مثلًا - في أحد المواضع يخلد فيه مهانا في سورة الفرقان بإشباع فِيهِي، بينما قرأ نظائره بلا إشباع، أمّا ابن كثير فقد قرأها بأجمعها بالإشباع.
كما قرأ في موضعين هما. عليه الله، و أنسانيه في سورتَي الفتح
و الكهف، بضمّ هاء الضمير، بينما قرأ النظائر الاخرى بالكسر.
و أمثال ذلك كثير في علم القراءة، و له دلالة على اهتمام الناس منذ زمن النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم و حتى الآن؛ و من المحال أن يحتمل امرؤ أنّ تغييراً أو تحريفاً أو زيادة أو نقصاناً قد طرأ على القرآن، و قد طرأت في هذا الأمر خزعبلات و أباطيل في أذهان الناطقين بالفارسيّة، اتّخذ منها المعاندون ذريعة يتشبّثون بها في الفساد. و كيف يتصوّر عاقل أنّ تغييراً أو نقصاناً قد طرأ على القرآن، و يستبعد أن يطرأ التحريف على حديث نقله نفر واحد؟!
لقد قرأ ملايين الناس سورة الحمد على هذا النحو الموجود في المصاحف، فكيف يتصوّر أنّ هؤلاء قد سهوا و أخطأوا بأسرهم، أمّا ذلك النفر الواحد الذي نقل سورة الحمد على نحوٍ آخر لم يَسْهُ و لم يَنْسَ؟!»۱
قال آية الله العلّامة الطباطبائيّ قدّس الله تربته في كتابه النفيس «قرآن در اسلام» (= القرآن في الإسلام) متحدّثاً عن أسماء سور القرآن:
«إنّ انقسام القرآن الكريم إلى سور متعدّدة له أساس قرآنيّ، شأنه في ذلك شأن انقسامه إلى آيات. و قد ذكر الله تعالى اسم السورة في عدّة مواضع من كلامه، كما ذكر اسم الآية أيضاً:
سُورَةٌ أَنْزَلْناها (سورة النور، الآية ۱)؛ وَ إِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ (سورة التوبة، الآية ۸٦)؛ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ (سورة البقرة، الآية ٢٣)، و نظائر هذه الآيات.
و تُسمّى السورة أحياناً بالاسم الذي يرد فيها، أو الموضوع الذي تبحث عنه. فيُقال مثلًا: سورة البقرة، سورة آل عمران، سورة الإسراء
سورة التوحيد؛ و كثيراً ما شوهد في المصاحف القديمة أنّهم كانوا يكتبون في مطلع السورة: سورَةٌ تُذْكَرُ فِيهَا البقرة، و سُورَةٌ يُذْكَرُ فِيهَا آلُ عمرانَ.
و قد يحصل أحياناً أن تُجعل الجملة الاولى في السورة عنوانَ تلك السورة، كأن يقال: سورة اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ، و سورة إِنَّا أَنْزَلْناهُ، و سورة لَمْ يَكُنِ، و نظائرها.
كما يحصل أحياناً اخرى أن تُعرَّف السورة من خلال الصفة التي تحملها، فيُقال سورة فاتحة الكتاب، سورة امّ الكتاب، و السَّبْعُ المَثَانِي،۱ سورة الإخلاص، سورة نِسْبَةُ الرَّبِّ،٢ و نظائر ذلك.
و كانت هذه الأساليب مستعملة في صدر الإسلام، يشهد بذلك الآثار الموجودة؛ حتى أنّه شوهد كثيراً في الأخبار النبويّة في زمن النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم تسمية سور القرآن مثل سورة البقرة، و سورة آل عمران، و سورة هود، و سورة الواقعة. و من هنا يمكن القول بأنّ كثيراً من هذه الأسماء قد تعيّنت في عصر النبيّ الأكرم صلّى الله عليه و آله و سلّم على إثر كثرة الاستعمال، و إنّها لا تحمل أي جانب توقيفيّ شرعيّ».
وضع أميرالمؤمنين لعلم النحو، و تعليمه لأبي الأسود الدؤليّ
و قال عن خطّ القرآن الكريم و إعرابه:
«و كان القرآن الكريم يُستنْسَخ في زمن النبيّ الأكرم صلّى الله عليه و آله و سلّم و في القرنين الأوّل و الثاني للهجرة بالخطّ الكوفيّ. و كان الإبهام في الخطّ الكوفيّ - كما سبق ذكره - يستلزم ظهور نظام للحفظ و الرواية
و القراءة. و مع ذلك فلم يُحَلّ إشكال الإبهام بصورة كاملة، و كان الحفّاظ و الرواة وحدهم يتمكّنون من تلفّظ القرآن تلفّظاً صحيحاً، و لم يكن في ميسور كلّ أحد أن يفتح المصحف و يتلو منه بقراءة صحيحة.
و لهذا السبب فقد قام أبوالأسود الدؤليّ۱ و هو من أصحاب عليّ عليه السلام بإرشادٍ منه عليه السلام بتدوين قواعد اللغة العربيّة في أواخر القرن الأوّل الهجريّ.٢
ثمّ جرى تنقيط حروف القرآن بأمرٍ من عبدالملك الخليفة الأمويّ،۱ فزال بذلك إبهام الخطّ إلى حدٍّ ما.٢
إلّا أنّ مشكل الإبهام عموماً لم ينحلّ كلّيّاً حتى قام الخليل بن أحمد۱ النحويّ المعروف، و هو واضع علم العروض، بوضع أشكال لكيفيّات تلفّظ الحروف.
المدّ، التشديد، الفتحة، الكسرة، الضمّة، السكون، التنوين المنضمّ إلى أحد الحركات الثلاثة، الرَّوْم، الإشمام؛ و بهذا النحو ارتفع إبهام التلفّظ، و كان يُشار قبل ذلك بمدّة ٢ إلى حركات الحروف بوضع نقطة، فكانوا يضعون بدلًا من الفتحة نقطة على بداية الحرف؛ و بدلًا من الكسرة نقطة أسفل بداية الحرف؛ و بدلًا من الضمّة نقطة على آخر الحرف، و كان ذلك باعثاً على المزيد من الإبهام».٣
و قال عن جمع القرآن الكريم في مُصحَف (القرآن قبل ارتحال النبيّ).
«كان القرآن الكريم ينزل سورةً فسورة، و آيةً فآية، و كانت شهرته وصِيته يزدادان يوماً بعد يوم بين العرب بسبب بلاغته و فصاحته الخارقتين، فقد كان العرب حينذاك يُولون عناية فائقة ببلاغة الكلام و فصاحته، فاستهوتهم بلاغة القرآن و فصاحته حتى كانوا يأتون إلى النبيّ الأكرم صلّى الله عليه و آله و سلّم من المناطق النائية لسماع عدّة آيات قرآنيّة و تعلّمها.
و كان كبار مكّة و متنفّذوها من عبدة الأصنام و من الأعداء الألدّاء للدعوة الإسلاميّة، و كانوا يزجرون الناس ما استطاعوا عن الاقتراب من النبيّ الأكرم صلّى الله عليه و آله و سلّم و يخوّفونهم من الاستماع إلى القرآن بذريعة أنّ القرآن سحر يُؤثَر؛ إلّا أنّ البعض كانوا مع ذلك كلّه يتسلّلون في ظُلمة الليل متستّرين عن بعضهم و عن أقاربهم و مواليهم، فيجلسون قرب بيت النبيّ الأكرم صلّى الله عليه و آله و سلّم و يستمعون إلى القرآن الذي يتلوه النبيّ.۱
و كان المسلمون بطبيعة الحال يبذلون قصارى جُهدهم في تعلّم السور و الآيات القرآنيّة و حفظها في غاية الجدّ، فهم - من جهة - يعدّون القرآن كلام الله تعالى و المصدر الوحيد الذي يأخذون عنه عقائد دينهم، كما أنّ عليهم - من جهة اخرى - أن يقرأوا في فريضة الصلاة سورة الحمد و قدراً من سائر القرآن، و من جهة ثالثة فإنّ النبيّ الأكرم صلّى الله عليه و آله و سلّم كان مأموراً بتعليمهم القرآن و أحكام الإسلام.٢
و كان هذا النهج يزداد انتظاماً بعد هجرة النبيّ الأكرم إلى المدينة و تأسيسه مجتمعاً إسلاميّاً مستقلّا. فقد كُلّف عدد كبير من أصحاب النبيّ بأمرٍ منه بالإنصراف إلى قراءة القرآن و تعليمه، و إلى تعلّم و تعليم الأحكام الإسلاميّة التي كانت تتكامل في نزولها كلّ يوم، حتى بلغ الأمر حدّاً اعفي معه ذلك العدد من الاشتراك في الحرب و الجهاد.۱
جمع القرآن الكريم في مصحف واحد قبل ارتحال الرسول الأكرم
و لمّا كان أكثر أصحاب النبيّ الأكرم صلّى الله عليه و آله و سلّم، و على الأخصّ اولئك الذين هاجروا من مكّة إلى المدينة، امّيّين لا يعرفون القراءة و الكتابة، فقد أمر النبيّ الأكرم صلّى الله عليه و آله و سلّم بالاستفادة من الأسرى لتعلّم الكتابة، و كانت حينذاك بسيطة و سهلة، فوُجد بذلك جماعة تعرف القراءة و الكتابة.
و قد دُعي الذين اشتغلوا بقراءة القرآن و حفظ سوره و آياته بالقُرّاء؛ و قد استُشهد من القرّاء في وقعة بِئر مَعونة أربعون رجلًا أو سبعون رجلًا.٢
و كان ما نزل من القرآن الكريم و ما ينزل منه تدريجيّاً يُكتب على الألواح وسعف النخيل و عظام أكتاف الإبل و نظائر ذلك.
على أنّ ممّا لا يشوبه الشكّ و لا يمكن إنكاره، هو أنّ أكثر السور القرآنيّة كانت معروفة و متداولة بين المسلمين قبل ارتحال النبيّ الأكرم. و قد تردّدت أسماء هذه السور في عشرات و مئات الأحاديث عن طريق أهل السنّة و الشيعة في وصف دعوة النبيّ الأكرم صلّى الله عليه و آله و سلّم أو أصحاب النبيّ قبل ارتحال النبيّ، و في وصف الصلوات التي صلّاها
النبيّ و سيرته في تلاوة القرآن.
كما تردّدت بكثرة أسماء مجاميع من هذه السور التي كانت متداولة في صدر الإسلام، كالسور الطِّوال، و المئين، و المثاني، و المفصّلات، و ذلك في الأحاديث التي تحكي زمن حياة النبيّ الأكرم».۱
و قال أيضاً في موضوع جمع القرآن الكريم في مصحف واحد (بعد ارتحال النبيّ):
«و بعد ارتحال النبيّ الأكرم صلّى الله عليه و آله، فقد عمد عليّ عليه السلام إلى الانزواء في بيته، و كان أعرف الناس بالقرآن الكريم حسب النصّ القطعيّ و تصديق النبيّ الأكرم صلّى الله عليه و آله؛ فجمع القرآن في مصحف واحد حسب ترتيب النزول. و لم تنقضِ ستة أشهر على ارتحال النبيّ، حتى فرغ من عمله هذا، ثمّ حمل المصحف الذي دوّنه على بعير و جاء به إلى الناس فعرضه عليهم.۱
ثمّ وقعت حرب اليمامة بعد مرور سنة واحدة و عدّة أشهر۱ من ارتحال النبيّ، فقُتل فيها من القرّاء سبعون نفراً، فخشي الخليفة من إمكان نشوب حرب اخرى للمسلمين يُقتل فيها باقي القرّاء، فيضيع القرآن إثر ضياع حملته، ففكّر في جمع سور القرآن و آياته في مصحف واحد.
و قد شرع جماعة من قرّاء الصحابة، حسب أمر الخليفة، يتصدّرهم الصحابيّ زيد بن ثابت، بجمع السور و الآيات القرآنيّة التي كانت مدوّنة على الألواح وسعف النخيل في بيت النبيّ الأكرم صلّى الله عليه و آله و سلّم بخطّ كتّاب الوحي، أو لدى قرّاء الصحابة، فوضعوها في مصحف واحد، و أرسلوا من ذلك المصحف نُسخاً إلى الأطراف و الأكناف.
ثمّ حصل بعد مدّة، زمن خلافة الخليفة الثالث،٢ أن اعلم الخليفة بوقوع اختلافات إثر تساهل الناس عند استنساخ القرآن و قراءته، و أنّ ذلك ممّا يهدّد بحصول تحريف و تغيير في كتاب الله تعالى:٣
مطالب الأضواء في كيفيّة جمع القرآن زمن أبي بكر و عثمان (ت)
...۱
...۱
فأصدر الخليفة أمراً - تلافياً لهذا الخطر - باستعارة المصحف الذي دوّن لأوّل مرّة بأمر الخليفة الأوّل، و أودع عند حفصة - زوجة النبيّ الأكرم صلّى الله عليه و آله و سلّم و ابنة الخليفة الثاني - و أمر خمسة نفر من قرّاء الصحابة و منهم زيد بن ثابت متصدّي لجمع المصحف الأوّل، بأن يستنسخوا منه عدّة نسخ تكون مرجعاً يُرجع إليه عند استنساخ سائر النسخ. ثمّ أمر بجمع المصاحف التي كانت في أيدي الناس في الولايات المختلفة، و إرسالها إلى المدينة. و كان ما يصل إلى المدينة من هذه المصاحف يُحرق بأمر الخليفة (أو يُغلي في الماء حسب نقل بعض المؤرّخين).
ثمّ إنّ النسخ التي استُنسخت جرى توزيعها، فجُعل أحدها في
المدينة، و أرسل بنسخة منها إلى مكّة، و نسخة إلى الشام، و نسخة إلى الكوفة، و نسخة إلى البصرة.
و قيل إنّ نسخة اخرى - عدا هذه النسخ الخمسة - قد ارسلت إلى اليمن، و إنّ نسخة اخرى ارسلت إلى البحرين.
و كانت هذه النسخ تُدعى بـ «المصحف الإمام» و تجعل أصلًا لسائر النُّسخ.
أمّا الاختلافات الموجودة بين هذه النُّسخ مع المصحف الأوّل في الترتيب، فتنحصر في أنّ سورة براءة كانت في المصحف الأوّل بين المئين، و أنّ سورة الأنفال كانت بين المثاني؛ أمّا في «المصحف الإمام» فقد وُضعت سورتَي الأنفال، و براءة في مكان واحد بين سورة الأعراف و سورة يونس».۱
اهتمام المسلمين بأمر القرآن الكريم
كما قال في موضوع اهتمام المسلمين بأمر القرآن الكريم:
«لقد سبقت الإشارة إلى أنّ السور و الآيات القرآنيّة كانت في أيدي عامّة المسلمين عند جمع القرآن للمرّة الاولى و المرّة الثانية، و أنّ المسلمين كانوا جادّين في صيانة و حفظ ما كان في أيديهم من القرآن.
مضافاً إلى أنّ طائفة كبيرة من الصحابة و التابعين من قارئي القرآن الذين لم يكن من عمل لهم سوى قراءة القرآن، لمّا جُمع القرآن في مصحف واحد تحت أنظار الجميع و وُضع بين أيديهم، قد قبلوا به بأجمعهم و استنسخوا منه لأنفسهم، و لم يصدر منهم اعتراض في شأنه.
و قد حصل في الجمع الثاني للمصحف زمن عثمان أنّهم أرادوا كتابة الآية الكريمة: وَ الَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَ الْفِضَّةَ،٢ فأرادوا إلقاء الواو،
فقال لهم الصحابيّ ابيّ بن كعب۱ مهدّداً. لتلحقنّها أو لأضعنَّ سيفي على عاتقي! فألحقوها.
و قرأ الخليفة الثاني٢ زمن خلافته يوماً آية: وَ السَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَ الْأَنْصارِ وَ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ،٣ فلم يُلحق الواو في وَ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ؛ فخاصموه حتى ألزموه بقراءتها مع الواو.
أمّا عليّ عليه السلام، فمع أنّه كان قد جمع القرآن الكريم حسب ترتيب النزول ثمّ عرضه على القوم فلم يقبلوا به، و مع أنّهم لم يُشرِكوه في جمع القرآن في كلا المرّتين، إلّا أنّه مع ذلك كلّه لم يُبدِ مخالفة أو اعتراضاً، و قَبِل بالمصحف الدائر، و لم يذكر اعتراضاً عليه طوال حياته، حتى في زمن خلافته. كما أنّ أئمّة أهل البيت، و هم أوصياء عليّ و بنوه، لم يذكروا شيئاً يقلِّل من اعتبار القرآن الكريم، حتى لخاصّة شيعتهم؛ و كانوا يستشهدون به باستمرار في كلامهم، و يأمرون شيعتهم باتّباع قراءة الناس.٤
و يمكن القول بجرأة بأنّ سكوت عليّ عليه السلام، على الرغم من أنّ المصحف المعهود يختلف عن مصحفه في الترتيب، كان منبعثاً عن أمر أنّ مذاق أهل البيت يتمثّل في تفسير القرآن بالقرآن، و هو منهج لا يؤثّر عليه كيفيّة ترتيب السور و الآيات المكّيّة و المدنيّة قياساً إلى المقاصد العالية للقرآن الكريم، حيث ينبغي خلال تفسير كلّ آية، أن يؤخذ بنظر
الاعتبار مجموع الآيات القرآنيّة، لأنّ الكلام العالميّ الخالد ينبغي ألّا يؤثِّر في عموم مقاصده و مطالبه خصائص الزمان و المكان و حوادث زمن النزول التي تدعى بأسباب النزول.
أجل، لمعرفة هذه الخصوصيّات فوائد عديدة من قبيل إيضاح تأريخ نشوء المعارف و الأحكام و القصص الجزئيّة المقارنة للنزول، و لكيفيّة تقدّم الدعوة الإسلاميّة خلال مدّة ثلاث و عشرين سنة تمثّل عصر البعثة، و نظائر ذلك، إلّا أنّ صيانة الوحدة الإسلاميّة (التي كانت هدفاً دائميّاً لأئمّة أهل البيت) هي أهمّ من هذه الفوائد الجزئيّة».۱
يجب أن تكون كتابة القرآن مطابقة لموازين المتقدّمين
و يستنتج من مجموع ما ذُكر، أنّ هذا القدر من الاهتمام الأكيد بحفظ القرآن و حفظ سوره و آياته، بل كلماته و حروفه، نابع من أمر أنّ القرآن الكريم بحروفه و كلماته كان معجزة و وحياً سماويّاً، و كان رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم بوجوده المقدّس و نفسه النفيسة مهتمّاً بهذا الأمر بدوره، و كان يعلِّم المسلمين ذلك.
و قد ضمن الله تعالى بنفسه - أوّلًا - صون القرآن الكريم، فوعد بجملة. إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَ إِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ٢ بأنّه سيحفظه إلى يوم القيامة من التغيير و التبديل و التحريف.
و صار من الواجب الحتميّ على المسلمين - ثانياً - أن يبذلوا اهتماماً كبيراً بأمر كتابته و استنساخه و طبعه، و أن يجتهدوا في أمر صحّته بحيث لا يطرأ في أمر كتابته أو طبعه خطأ أبداً؛ و أن يكون المتصدّون لكتابته و طبعه من المتبصّرين و الخبراء و العارفين بعلم القرآن و كتابته و قراءته،
ليهتمّوا باقتفاء النهج الذي سلكه أسلافنا في حفظ هذا الكتاب السماويّ و كتابته و تدوينه، و أن يراعوا التعبّد في الكتابة إلى الحدّ الذي راعاه الأسلاف، حيث كتبوا لفظ نعمة في إحدى السور، كالسورة ٢: البقرة، الآية ٢۱۱ بالتاء المدوّرة طبقاً للقواعد. نِعْمَةَ اللَّهِ، و كتبوا في موضع آخر من نفس السورة (الآية ٢٣۱) بالتاء الطويلة تعبّداً للسلف. نِعْمَتَ اللَّهِ، و كتبوه في السورة ٣: آل عمران، الآية ۱۰٣، بالتاء الطويلة. نِعْمَتَ اللَّهِ، بينما كتبوه في موضعَينِ آخرين من نفس السورة، و هما الآية ۱۷۱ و الآية ۱۷٤، بالتاء المدوّرة. بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ. و كتبوه في السورة ۱٤: إبراهيم، الآية ٦: نِعْمَةَ اللَّهِ، و كتبوه في الآيتين ٢۸ و ٣٤ من نفس السورة بلفظ نِعْمَتَ اللَّهِ.
و على من يتصدّى للكتابة و الطبع أن لا يتخطّى هذا النهج، و عليهم أن لا يكتبوا هذه الألفاظ وفقاً لذوقهم على كيفيّةٍ واحدة، إذ إنّ هذا الأمر يعدّ مهمّاً يبيّن أمانة المسلمين في كتابة ألفاظ القرآن و عدم تحريفها منذ زمن خاتم الأنبياء صلّى الله عليه و آله و سلّم و إلى زمننا هذا.
و مع الأسف فإنّ هذا المعنى لم تجرِ مراعاته في نسخ القرآن التي طُبعت في إيران قديماً، أمّا نسخ القرآن طبع السلطان عبدالحميد بخطّ الحافظ عثمان، و نسخ القرآن التي طبعتها وزارة أوقاف العراق على نسخة بخطّ الخطّاط الحاجّ الحافظ محمّد أمين رشدي، و أصلها نسخة أهدتها امّ السلطان عبدالعزيز إلى مقبرة الجنيد البغداديّ، و نسخة القرآن التي طبعتها وزارة الإرشاد الإسلاميّ في الجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانيّة وفق نسخة قرآن سوريّ موافق لطبعة مصحف المدينة المنوّرة، و التي اشترك في تصحيحها و طبعها لجنة كبيرة، فقد رُوعيت فيها هذه النكات، و على الأخصّ في القرآن الأخير الذي اشتمل على مزايا لم تتوفّر في النوعين
الأوّلين، فقد ورد في هذا القرآن آية و السماء بنيناها بأييد بهذه الكيفيّة، أمّا في نُسختَي القرآن السابقتَين فقد ورد بلفظ بِأيْدٍ بياء واحدة.
و قد ورد في النسخ الثلاث عبارة لا إلى الجحيم،۱ و عبارة لَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ٢ بدون ألف زائدة. أمّا لآذبحنه،٣ فقد وردت في النسخ الثلاث ألف زائدة. و يُحتمل أنّ المصحِّحين و المسؤولين شاهدوا العبارتَين السابقتَين في المصاحف القديمة بدون ألف زائدة، و شاهدوا لفظ لآذبحنه وحده بألف زائدة، فدوّنوه على نفس الكيفيّة.
و الخلاصة، فإنّ علينا - نحن الناطقون بالفارسيّة - ألّا ندوّن ألفاظ القرآن وفق التلفّظ الذي نستخدمه في لغتنا. فعلينا - مثلًا - ألّا نكتب ألفاظ إسحاق، إبراهيم، رحمن، إسماعيل، اولئك، ملائكة بألف ممدودة، لأنّ ذلك يمثل خطأ في رسم الحروف العربيّة، لأنّ الفتحة و إشباعها التي ينجم منها حرف الألف هما شيء واحد. لذا ينبغي عند رسم الحروف القرآنيّة أن تدوّن بتلفّظ الفتحة.
و من حسن الحظّ أنّ هذا المعنى قد لُوحظ في نُسخ القرآن الذي طبع في إيران مؤخّراً. و على المصنّفين أن يؤلّفوا كتبهم وفق طريقة كتابة هذا القرآن، و أن يجتنبوا كتابة ألفاظ رحمان و إسحاق و إسماعيل و غيرها.
كما ينبغي أن يكون القرآن المطبوع عارياً عن أي ملحق أو زينة، و أن لا يُكتب في حواشي صفحاته مطالباً من التفاسير و شأن نزول الآيات.
و نتساءل: ما معنى أن يكتب البعض في القسم العلوى من صفحات
القرآن ألفاظ «خوب» (=جيّد) و «بد» (=سيِّيء)؟!
إن ضمّ شجرة عائلة صاحب المكتبة، و رسالة في تعليم التجويد إلى المصحف هو خطأ ينبغي تركه. و ينبغي أن يدوّن كشف الآيات و كشف المطالب في ملحق منفصل، كما يجب أن تُطبع ترجمة القرآن في كرّاس منفصل أيضاً.
و خلاصة القول، أنّ القرآن هو الكتاب الوحيد القطعيّ الصدور، فينبغي ألّا تضمّ إليه مطالب غير قطعيّة. ينبغي أن يُدوّن القرآن دون أي مُلحق أو مطلب إضافيّ، و أن يُتلى على تلك الكيفيّة.
ولكن، و مع بالغ الأسف، فإنّ نسخ القرآن القديمة التي تُطبع في هذه الأنحاء قد الحق بها من الإضافات و الزيادات ما يمكن أن يبلغ في سُمكه بقدر سمك القرآن. و ما أشبه ذلك بقول السنائيّ الذي وصف دين رسول الله بقوله:
دين تو را از پى آرايشند | *** | وز پى آرايش و پيرايشند |
بسكه ببستند بر او برگ و ساز | *** | گر تو ببينى نشناسيش باز۱ |
فتوى العلّامة الطباطبائيّ في تحريم طبع ملحق مع القرآن الكريم
جاء في خاتمة كتاب «اسلام و احتياجات واقعي هر عصر» (= الإسلام و المتطلّبات الواقعيّة لكلّ عصر من العصور) تأليف سماحة الاستاذ آية الله العلّامة الطباطبائيّ قدّس الله سرّه العزيز مجموعة استفتاءات قدّمتها لسماحته مجلّة «مكتب اسلام» (=مدرسة الإسلام) حول هذه الامور، فأجاب سماحته عليها و ختم أسفلها بتوقيعه. و نورد تلك الأسئلة و الأجوبة حرفيّاً لجدارتهما بالتأمّل:
«سؤال: أقْدَم بعض الناشرين على ضمّ سلسلة من الأشكال باسم طِلسم مع كلام الله في بعض المصاحف التي طُبع أكثرها في إيران، و طبعوها سويّةً و عرضوها للبيع.
فهل يوجد سند صحيح لهذه الأشكال و الطلاسم أم لا؟
الجواب: ليس هناك أساساً سند صحيح لهذه الأشكال و الطلاسم، سواء ضُمّت إلى القرآن و طُبعت معه، أم لم تُضمّ. و ليس هناك أي دليل وفقاً للموازين الدينيّة على صحّة تلك الامور.
سؤال: يُذكر للنظر و التطلّع لكلّ واحد من هذه الأشكال و الطلاسم، سلسلة خواصّ عجيبة تُنسب بأجمعها إلى النبيّ الأكرم و أئمّة الهدى صلوات الله عليهم أجمعين، فما هو نظركم بشأن هذه الآثار و الفوائد؟!
الجواب: بعض المزايا التي نُقلت عن النبيّ الأكرم صلّى الله عليه و آله [و سلّم] و أئمّة الهدى عليهم السلام للنظر إلى هذه الأشكال مُختلقة و كاذبة، مثل ما ذكر بشأن النظر إلى ختم النبوّة و أمثال ذلك؛ و البعض الآخر ليس له سند.
سؤال: ما هو رأي الشرع الأنور في رسم صور النبيّ الأكرم صلّى الله عليه و آله و سلّم و أئمّة الهدى عليهم السلام بالكيفيّة المُشاهدة، و ضمّها إلى القرآن، و في ضمّ الأشكال و الطلاسم المذكورة أعلاه، و في ضمّ تقويم شهر محرّم و تقويم لل - «نوروز»؟
الجواب: إنّ رسم صور تخيّليّة للنبيّ الأكرم صلّى الله عليه و آله [و سلّم] و لأئمّة الهدى عليهم السلام وضمّها إلى القرآن، و كذلك إلحاق سلسلة روايات خرافيّة، مثل رواية «أنّ مَن ينظر إلى ختم النبوّة يُكتب له ثواب يعادل ثواب ألف ألف حِجّة من حجّات رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم»، أو أنّ شخصاً لو نظر إلى الشكل الفلانيّ، غُفر له جميع ذنوبه،
و اعطي الشفاعة لُامّة محمّد صلّى الله عليه و آله و سلّم؛ هو ممّا يؤدّي إلى هتك حرمة القرآن الكريم، و هو محرّم.
كما أنّ إلحاق سلسلة أشكال باسم طلاسم و غيرها بالقرآن الكريم - مع الالتفات إلى ما ذُكر أعلاه من فقدان هذه الامور لأدنى سند و دليل - لا يخلو من كونه هتكاً للحرمة.
و على الفرد المسلم - أساساً - أن لا ينسى هذه النكتة أو يغفل عنها، و هي أنّ هذا الكتاب السماويّ المطهّر الذي يدعى بكلام الله و بالقرآن الكريم، هو السند الوحيد لمعارف الإسلام الأصليّة و الفرعيّة، و هو السند الحيّ للنبوّة، و هو كرامة و اعتبار ستمائة مليون مسلم في أرجاء العالم.
و بلحاظ هذه النكتة، فإنّ وجدان الفرد المسلم لن يسمح له مُطلقاً بأن يُلحق بالقرآن كتاباً آخر - و لو اشتمل ذلك الكتاب على مطالب حقّة - فيجعله في عرض القرآن، و ينشره في المجتمع؛ ناهيك عن أمثال تقويم شهر محرّم و تقويم النوروز، و أحكام الكسوف و الخسوف، التي يُنظر إليها في عالمنا المعاصر نظر سخريّة و استهزاء. و أسوأ من ذلك ضمّ الأشكال و الرسوم الخرافيّة و الصور التخيّليّة إلى القرآن الكريم، حيث إنّ ذلك يمثّل إهانة إلى مكانة كلام الله و اعتباره.
أمّا الناشرون المحترمون الذين يرغبون في نشر بعض المطالب الحقّة، كتأريخ أولياء الدين، و كتب العقائد الدينيّة، و تجويد القرآن و قراءته، في ظلّ نشر القرآن الكريم، فيمكنهم أن يطبعوها و يجلّدوها بصورة منفصلة، و يقدّمونها إلى المراجعين مع القرآن الكريم.
محمّد حسين الطباطبائيّ
و يمكن العثور على مثل هذه التصرّفات في كتب الأخبار و التواريخ و التفاسير، حيث يجهل أولئك المتصرّفون بخطأ هذا العمل و مجانبته
للصواب.
حرمة التصرّف في كلام الآخرين و التلاعب في مؤلّفاتهم و تواقيعهم
و أساساً فإنّ التصرّف في خطّ الغير و كتابته و إنشائه، أو في كلامه أو إمضائه هو أمر محرّم. و ليس للمرء حقّ في فصل مطلب ما عن كتاب معيّن و طبعه مستقلّا، و لو طَبَعه باسم المؤلّف، لأنّ المؤلِّف قد ألَّف كتاباً كاملًا و نشره من حيث المجموع، فتكون تجزئة ذلك الكتاب دون موافقةالمؤلِّف محرّمةً.
كما أنّ حقّ التأليف أمر خاصّ بالمؤلّف، و ليس لأحدٍ - شرعاً - أي حقّ في أن يطبع و ينشر كتاب شخص آخر. و قد بحث الحقير الجوانب الشرعيّة لهذه المسألة في رسالة مختصرة.
و ينبغي أن يكون اسم الكتاب المطبوع، و كيفيّة الطبع و ترجمة الكتاب بإجازة المؤلِّف، و إلّا عُدّ ذلك سرقةً.
و ممّا يُثير العجب، أنّ كتاباً قد طُبع باسم «استراتژي زن در اسلام» (=استراتيجيّة المرأة في الإسلام) للعلّامة السيّد محمّد حسين الطباطبائيّ، و قد طُبعت على غلاف الكتاب صورة مرسومة باهتة لامرأة، من الرسوم المتداولة في هذه الأيّام!
و كان الكتاب بالفارسيّة، و قد اشتريتُه و طالعتُه، فوجدت أنّ الإنشاء هو نفس إنشاء سماحة الاستاذ العلّامة، لكنّني تعجّبت كثيراً من تسميته و من شكله الهيولائيّ التخيّليّ للمرأة على غلاف الكتاب الذي لا ينسجم أبداً مع مذاق الاستاذ. ثمّ حصل أن جاء الاستاذ إلى طهران في آخر سنة من حياته، فمكث فيها أربعة أشهر، فدار الحديث بيننا يوماً عن هذا الكتاب، فأظهر تعجّبه الزائد، و قال: إنّني لم أكتبُ هكذا كتاب!
قلت: إنّ الكتاب موجود في منزلي، و سآتي به. ثمّ جئتُ بالكتاب في اليوم التالي و سلّمته لسماحته، فاحمرّ وجهه من شكل الكتاب و اسمه و وضعه، و قال: دعه عندي لُاطالعه.
ثمّ اتّضح أنّ شخصاً يُدعي ... و حاله و اسمه معروفان، قد جزّأ مقالةً في الحقوق و الموازين كانت قد الِّفت مع مقالات اخرى في مكانٍ واحد، ثمّ طبع تلك المقالة بتلك الكيفيّة الرديئة و نشرها دون أن يُطلع العلّامة أبداً على عمله.
و قد ألّف الحقير كتاباً باسم «لَمعات الحسين عليه السلام»، و أوصيت فيه بأنّ من المناسب أن تدوّن خُطب الإمام و كلماته و مواعظه التي وردت في هذا الكتاب مع نفس ترجمتها على لافتات فتُنصب في المجالس الحسينيّة و التكايا و الجامعات و قاعات الاجتماعات و أمثالها، ليؤدّي ذلك إلى استفادة المستمعين - مضافاً إلى الاستفادة السمعيّة - من خلال مشاهدة هذه الآثار العجيبة، فتحلّق أرواحهم في الافق الرحيب لأفكار سيّد الشهداء عليه السلام الشاملة الباعثة على الحياة.
ثمّ شوهد بعد ذلك أنّ البعض قد قام بتقطيع بعض الكلمات، و تغيير ترجمتها، ثمّ طبعها على قطع قماشيّة جعلها في هيئة أعلام، و كتب في أسفلها. من كتاب «لمعات الحسين» القيّم!
أفليس من الخطأ نسبة هذه المطالب إلى هذا الكتاب، حين تختلف ترجمتها عن ترجمة كتاب «اللمعات» و حين تُجزّأ عبارات الخطب و تُورد منتخبات منها؟!
و حين يشاء هؤلاء أن يكتبوا ما يشاؤون، فعليهم أن لا يضعوا عليه اسم كتاب «اللمعات». أو عليهم أن يكتبوا - على أقلّ تقدير-: اقتباس من «لمعات الحسين عليه السلام». و إلّا عُدّ ذلك كذباً منهم، فالكذب له أقسام و أنواع.
و لقد ألّف المرحوم المحدِّث القمّيّ: الحاجّ الشيخ عبّاس، كتاباً باسم «مفاتيح الجنان»، و هو كتاب جامع و شامل في الأدعية و الزيارات. و بغضّ
النظر عن عدد من السور القرآنيّة التي انتخبها و وضعها في بداية الكتاب - و هو عمل غير صائب-۱ فإنّ الكتاب يُعدّ في مجموعه كتاباً نافعاً.
و قد جرى بعد وفاة ذلك المرحوم طبع هذا الكتاب و نشره في أكثر من خمسين شكلًا و هيئة، فقد طُبع في هيئة كتاب سميك مع الترجمة، و طبع بدون ترجمة، و باسم «كلّيّات مفاتيح الجنان»، و «منتخب المفاتيح»،
و «المفاتيح مع حديث الكساء»، و بضمّ بعض سور القرآن التي لم يضمّها المرحوم ... إلى آخره، حيث إنّ من المؤكّد أنّ روح ذلك المرحوم تلعن مثل هذه التصرّفات.
أفيمكن - بلحاظ الشرع - العثور على سبيلٍ صحيح لمثل هذه التصرّفات؟
كلام المرحوم المحدِّث القمّيّ في أضرار التصرف في عبارات الآخرين
يقول المحدِّث القمّيّ في «المفاتيح»۱ بعد شرح مبسوط في أضرار التصرّف في الأدعية و في عبارات الآخرين، و انتقاد دعاء حُبَّي المُختلق، و الزيارة المَفْجَعَة:
«فتجد - مثلًا - كتابي الفارسى المسمّى «منتهى الآمال» المطبوع حديثاً قد عبث فيه الكاتب بما يلائم ذوقه و فكره، و من نماذج ذلك أنّ الكاتب دسّ كلمة الحمد للّه في أربعة مواضع خلال سطرَين من الكتاب، فقد كتب في حال مالك بن يُسر اللعين أنّه قد شُلّت يداه بدعاء الحسين عليه السلام الحمد للّه، فكانتا في الصيف كخشبتَين يابستَين الحمد للّه، و في الشتاء يتقاطر منهما الدم الحمد للّه، فكان عاقبة أمره خُسراً الحمد للّه.
و دسّ أيضاً في بعض المواضع كلمة «خانم» (=السيّدة) عقيب اسم زينب و ام كلثوم تجليلًا لهما و احتراماً.
و كان الكاتب مُعادياً لحميد بن قَحْطَبة، فحرّف اسمه إلى حميد بن قَحْبَة، ثمّ احتاط احتياطاً فأشار في الهامش إلى أنّ في بعض النُّسخ حميد بن قحطبة. و استصوب أن يكتب الاسم عبد الله عوض عبد رَبِّه؛ و الاسم زَحْر بن قيس و بالحاء المهملة التزم أن يسجّله بالجيم أينما وجده؛
و خطّأ كلمة امّ سلمة، فسجّلها امّ السلمة؛ إلى غير ذلك».
ثمّ قال المرحوم المحدِّث القمّيّ. «و الغاية التي توخّيتُها بعرض هذه النماذج من التحريف، هي بيان أمَرين: أوّلًا: نلاحظ هذا الكاتب أنّه لم يُجرِ ما أجراه من الدسّ و التحريف، إلّا و هو يزعم بفكره و ذوقه أنّ في الكتاب نقصاً يجب أن يُزال، و ليس النقص و الوهن إلّا ما يُجريه من التحريف. فلنقسْ على ذلك الزيادات التي يبعثنا الجهل على إضافتها ...
و لنُلاحظ ثانياً الكتاب الذي تكلّمنا عنه، [ف] إنّه كتاب لمؤلّف حيّ يُراقب كتابه و يترصّد له، يجري فيه من التحريف و التشويه نظائر ما ذكرتُ، فكيف القياس في سائر الكتب و المؤلّفات، و كيف يجوز الاعتماد على الكتب المطبوعة إلّا إذا كانت من المؤلّفات المشهورة للعلماء المعروفين، و عُرضتْ على علماء الفنّ فصدّقوها و أمضوها».۱
كما أنّ المرحوم المحدِّث القمّيّ - الذي يُعدّ في ضبط و ثبت و نقل الحديث و التأريخ بدقّة متناهية خرّيت الفنّ و من نوادر مُعاصرينا الأجلّاء - يقول في مقدّمة كتابه الشريف «نفس المهموم في مُصيبة أبي عبد الله الحسين المظلوم عليه السلام».
«فلو شاء أحد نقل فائدة أو مطلب عن هذا الكتاب، فلا ينقلنّ عنه بلا واسطة و لا إشارة، و عليه أن يذكر اسم هذا الكتاب أوّلًا، فيذكر أنّه ينقل عن «نفس المهموم»؛ ذلك أنّي أحبّ أن يُعَدّ هذا الكتاب الشريف من كتب المقاتل، و أن يذكر أصحابُ المنابر هذا الداعي، و لا ينسونه في دعائهم».٢
ثمّ قال: على أنَّهُ قَدْ وَصَلَ عَنِ السَّلَفِ قَدِيماً. أنَّ اسْتِرَاقَ الفَوَائِدِ عِنْدَ اولِي الكَمَالِ أفْظَعُ مِنَ اسْتِرَاقِ ذَخَائِرِ المَالِ. وَ غَيْرَتِهِمْ على بَنَاتِ الأفْكَارِ كَغَيْرَتِهِمْ على البَنَاتِ الأبْكَارِ. وَ مَنْ كَذَبَ كُذِّبَ؛ وَ مَنْ سَرَقَ عُذِّبَ».۱
و قد كان استاذنا في النجف الأشرف في الفقه و الاصول - سماحة شيخ الفقهاء و المجتهدين، العلّامة الثاني: آية الله العظمى الشيخ حسين الحلّيّ أعلى الله تعالى درجته - يوصينا بقوله: لا تُلقوا بالًا إلى نقل الأقوال، حتى تعثروا بأنفسكم على المصدر الذي نُقل القول منه، فترونه عياناً!
و لقد شاهدنا بأنفسنا، حين كنّا نُراجع كتاباً ما لنتحقّق عمّا نُقل عنه من قول أو مطلب، أنّ حوالي سبعين في المائة من الأقوال المنقولة لا تطابق الواقع.
و على كلّ حال، فلنرجع إلى الحديث في إعجاز القرآن و كونه عربيّاً، فنذكر كلاماً لسماحة الاستاذ آية الله العلّامة الطباطبائيّ قدّس الله مضجعه المُنيف، فقد وُجِّه إليه السؤال التالي: «لماذا عُدّت اللغة العربيّة من لوازم الإيمان و الاعتقاد بالإسلام؟ و هل تجب قراءة القرآن و الصلاة و غيرها بالعربيّة أم بأيّ لغة اخرى؟».٢
فقال في الإجابة:
«نظراً لأنّ القرآن الكريم يمتلك إعجازاً من جهة ألفاظه (كما يمتلك إعجازاً من جهة معانيه)، فإنّ لفظه العربيّ يجب أن يُحفظ. و حفظ كون
الصلاة عربيّةً يتلخّص في وجوب القراءة فيها لقدرٍ من القرآن الكريم (سورة الحمد مع سورة اخري) في كلّ ركعة. و من جهة اخرى، فإنّ الآيات و الأخبار، التي هي السند الأساس للدين، قد جاءت بالعربيّة. و هذا هو السبب في اهتمام المسلمين باللغة العربيّة».۱
كلام حكيم للعلّامة في إعجاز القرآن الكريم
و قال العلّامة:
«و أمّا إعجاز القرآن الكريم في بيانه، فمع أنّ اسلوب القرآن الخارق للعادة كان من سنخ اللغة العربيّة في عصر فصاحة الامّة العربيّة و بلاغتها، حيث كان أشبه بشعلة ساطعة اختصّت بالعرب دون غيرهم؛ و أنّ هذه اللغة قد تعرّضت في عصر الفتوحات الإسلاميّة في القرن الأوّل الهجريّ إلى اختلاط باللغات الأجنبيّة، ممّا أدّى في نهاية الأمر إلى فقدان لغة المخاطبة العربيّة - شأنها شأن سائر اللغات - رونقها السابق، و إلى ابتعادها و تغرّبها عن إشراقها و روعتها. بَيدَ أنّ القرآن الكريم ليس مُعجزاً في اسلوبه اللفظيّ فحسب، بل إنّ جهاته المعنويّة - كجهاته اللفظيّة - معجزة، و هو
يتحدّى مَن لا يؤمن به بتلك الجهات جميعاً.
و بالنظر إلى هذه الامور، فإنّ من يمتلك إلماماً و معرفة باللغة العربيّة، و من يمتلك تتبّعاً في النظم و النثر العربيّين، لا يسعه أبداً أن يشكّ في أنّ لغة القرآن هي لغة فصيحة جميلة و محبّبة يقف إدراك الإنسان مبهوتاً أمام روعتها، و تتحيّر الألسن عن وصفها.
فلغة القرآن ليست شعراً و لا نثراً، بل هي اسلوب يفوق اسلوب الشعر و النثر، له جاذبيّة تفوق جاذبيّة الشعر، و سلاسة تفوق سلاسة النثر.
و حين توضع آية من القرآن أو جملة منه في خطبة من خطب البلغاء و الفصحاء السابقين أو المؤلّفين المعاصرين، لكانت كالمصباح المشرق في ديجور الظلام، و لبدا غيرها أمامها هزيلًا لا يرقى إلى مرتبتها».۱ و قال: القرآن معجزة.٢
من المسلّم أنّ العربيّة لغة مُقتدرة واسعة يمكنها بيان مقاصد الإنسان و التعبير عن إحساساته الداخليّة بأدقّ وجهٍ و أجلاه؛ و ليس هناك لغة اخرى تناظر العربيّة في هذا المجال.
و التأريخ شاهد على أنّ عرب الجاهليّة - قبل الإسلام، و كان أغلبهم يقيمون في الخيام محرومين من تقاليد المدنيّة و من معظم مزايا الحياة - كان
لهم مقام عظيم في قدرة البيان و بلاغة الكلام، بحيث لا يوجد في صفحات التأريخ من ينافسهم في هذا المجال أبداً.
و كان للكلام الفصيح البليغ منزلًا لا يدانيه منزل في المحافل الأدبيّة العربيّة، فكان العرب يجلّون الكلام الجميل الأدبيّ كثيراً، و كانوا يعلّقون الأشعار الرائعة التي تستحوذ على القلوب التي يُنشدها الشعراء المبرّزون على جدار الكعبة بنفس الاحترام الذي ينصبون فيه أصنامهم و آلهتهم في الكعبة.
و على الرغم من ذلك الشمول و السعة للّغة العربيّة؛ و على الرغم من تفوّق العرب في فصاحتهم و بلاغتهم بحيث كانوا يستعملون قوانينها الدقيقة و إشاراتها دون أدنى زلل، و بحيث كانوا يبدعون في استعمال الألفاظ الجزلة العذبة الجميلة، إلّا أنّ الآيات القرآنيّة الكريمة التي كانت تنزل على النبيّ الأكرم صلّى الله عليه و آله و سلّم فيتلوها بدوره على الناس، قد أحدثت، و منذ الأيام الأولى، ضجّة كبيرة في أوساط العرب و خطبائهم و متكلّميهم، و استحوذ بيان القرآن الجذّاب المحبّب ذي المحتوى الكبير على مجامع القلوب، و بهر أصحاب الألباب بحيث أنساهم كلّ كلامٍ سواه فأنزلوا - من ثمّ - الأشعار النضرة الرائعة لأساتذة الفصاحة (المعلّقات) من أستار الكعبة.
و حقّاً فإنّ هذا الكلام الإلهيّ يجتذب بروعته و جماله اللامتناهي كلّ قلب، و يختم باسلوبه المحبّب بختم الخرس و التلجلج على أفواه المتكلّمين ذوي الكلام الجميل.
بَيدَ أنّ القرآن كان - من جهة اخرى - علقماً، صَعُب على المشركين و عبدة الأصنام تجرّعه - لأنّه يستدلّ على دين التوحيد ببيان بليغ و منطق قويّ متين، و يذمّ نهج الشرك و عبادة الأصنام أشدّ الذمّ، و يحقّر الأصنام
التي كانت تُدعى بالآلهة و تُمَدّ إليها أيدي المحتاجين ضارعة، و تُقرّب إليها القرابين، و تُعبد في نهاية المطاف من دون الله تعالى؛ فكان القرآن يذكرها على أنّها تماثيل حجريّة و خشبيّة بلا روح و لا أثر و لا خاصيّة.
كما كان القرآن يدعو عرب الجاهليّة المتوحّشين الذين انغمروا في الكبر و العنجهيّة، و أرسوا حياتهم على أساس سفك الدماء و قطع الطريق؛ إلى دين عبادة الحقّ و احترام العدل و الإنسانيّة.
لذا، فقد هبّ العرب عبدة الأصنام لمحاربته و مقابلته، و توسّلوا بكلّ الطرق لإخماد مشعل هدايته المتّقد المتأجّج، إلّا أنّهم لم يحصدوا من كلّ جهودهم و مساعيهم الخاسرة إلّا اليأس.
و قد جمع المشركون في أوائل البعثة بين النبيّ الأكرم صلّى الله عليه و آله و سلّم و بين أحد الفصحاء و يدعى الوليد، و كان من المتبحّرين المشهورين في الفصاحة و البلاغة، فقرأ النبيّ آياتٍ من أوّل سورة حم السجدة. و كان الوليد يُنصت بدقّة، و الغرور و الكبر يملآن وجوده، حتى إذا بلغ النبيّ إلى الآية الشريفة: فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَ ثَمُودَ،۱ اقشعرّ جلد الوليد، و غمرته الرعدة، حتى لم يقوَ على تمالك نفسه، فانفضّ المجلس و تفرّق مَن كان فيه.
ثمّ ذهب إلى الوليد عدّةٌ من المشركين فعتبوا عليه أنّه فضحهم لدي محمّد، فقال: لا و الله، فأنتم تعلمون أنّي لا أخشى أحداً، و ليس لي طمع في شيء؛ و تعلمون أنّي أديب متبحّر في الفصاحة. ولكنّي سمعتُ من محمّد كلاماً لا يُشبه كلام الناس في شيء، فهو كلام جذّاب يأخذ بمجامع القلب، و ما هو بشعر و لا نثر، بل كلامٌ أصيلٌ كثير المعنى. و إن كنتُ قائلًا
في حقّه شيئاً، فإنّ عليكم أن تمهلوني ثلاثاً لأفكّر فيه. فتركوه، ثمّ جاءوا إليه بعد ثلاث، فقال: إنّ كلام محمّد سحرٌ، فإنّه أخذ بقلوب الناس! و اقتفى المشركون أثر الوليد، فدعوا القرآن سحراً و شعوذة، و اجتنبوا سماعه، و منعوا الناس من الإنصات إليه. و كان النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم يتلو القرآن في المسجد الحرام أحياناً، فكانوا يصفّقون و يرفعون أصواتهم بالغناء كي لا يسمع أحد تلاوته.
و مع ذلك كلّه، فقد استحوذ بيان القرآن الفصيح المحبّب على قلوبهم، فكانوا كثيراً ما يستغلّون ظلمة الليل، ليتجمّعوا خلف جدار بيت النبيّ و ينصتون لتلاوة القرآن، ثمّ يتهامسون بينهم. لا يمكن لبشرٍ مخلوق أن يقول مثل هذا الكلام.
و قد أشار الله تعالى إلى هذا المعنى في الآية المباركة:
نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَ إِذْ هُمْ نَجْوى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً.۱
أي: أنّنا نعلم خير العِلم أنّهم حين يستمعون إلى تلاوتك، بأيّ آذانٍ يسمعون القرآن. و نعلم أنّ هؤلاء الظالمين يقولون إنّ هذا الرجل مسحور، و يهمسون بذلك في آذان بعضهم إذا انصرفوا من عندك.
و كان النبيّ الأكرم يذهب في بعض الأحيان قرب الكعبة، فينشغل بتلاوة القرآن و دعوة الناس، و كان فصحاء العرب يمرّون أمام النبيّ، فينحنون لئلّا يراهم و يعرفهم. يقول تعالى: أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ.٢
القرآن الكريم - دون غيره - قطعيّ الصدور
و الخلاصة، فإنّ هذه العظمة مختصّة بالقرآن الكريم فقط، حيث أوّلًا: إنّ عين عباراته و كلماته - و ليس معانيه وحدها - و حيٌ. و ثانياً: إنّ تلك الكلمات قد بلغتنا دون أدنى تغيير أو تحريف. حيث جرى تناقلها في كلّ عصر بالكتابة و الحفظ، من جيلٍ إلى جيل، و من عصرٍ إلى العصر الذي يتلوه.
و ذلك أمر لم يتحقّق إلّا بواسطة جهاد المسلمين العظيم في حفظه و صيانته منذ زمن النبيّ الأكرم صلّى الله عليه و آله و سلّم إلى يومنا هذا، و بواسطة الوعد المعجز الإلهيّ بحفظ و صيانة هذا الكتاب الإلهيّ.
أمّا كتب اليهود و النصارى، كالتوراة و الإنجيل و سائر الكتب المرسلة و كتاب تلمود اليهود، فليس فيها ما يماثل القرآن أبداً.
أ وّلًا: كما ذكرنا سابقاً، فإنّ معاني و مفاهيم التوراة و الإنجيل - و ليس ألفاظها و معانيها - كانت وحياً سماويّاً على النبيّ موسى و النبيّ عيسى على نبيّنا و آله و عليهما الصلاة و السلام. و ألفاظ و عبارات التوراة و الإنجيل هي بأجمعها من إنشائهما، حيث كانا يصبّان تلك المعاني في قالب العبارات وفق ما يشاءان، باستثناء الألواح التي نزلت على النبيّ موسى.
و ثانياً: إنّ مطالب النبيّ موسى في التوراة و الإنجيل قد ضاعت. و هذه الكتب الفعليّة التي تُدعى باسم التوراة و الإنجيل قد دُوّنت فيما بعد معتمدةً على رواية شخص واحد، عديمة السند.
بَيدَ أنّ القرآن الكريم لمّا أقرّ أصل التوراة و الإنجيل، و نظراً للتذكير بأنّ مقاطع من التوراة و الإنجيل الأصليّين موجودة في الكتابَين الحاليّين؛
فينبغي أن تدعى كتباً مدسوسة، أي كتباً امتزج فيها الحقّ بالباطل.
أمّا الآية التي تدلّ على أنّ بعضاً من التوراة الحقّة موجود لدى اليهود، فهي قوله تعالى:
وَ كَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَ عِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَ ما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ.۱
و أمّا الآية الدالّة على أنّ بعضاً من الإنجيل الحقّ موجود في أيدي النصارى، فقوله تعالى:
وَ مِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَ الْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَ سَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ.٢
و دلالة هاتين الآيتين على اشتمال التوراة و الإنجيل الفعليّين على بعض الأحكام الحقّة ظاهرة.
كتب اليهود و النصارى نظير كتب الأخبار و التواريخ لدينا
إن كتب اليهود و النصارى هي كتب جمعها الناس و ألّفوها نظير كتب الأخبار و التواريخ الموجودة لدينا. فكتابَي التوراة و الإنجيل أشبه بكتب «روضة الصفاء» و «تاريخ الطبريّ» و «سيرة ابن هشام» التي تتحدّث عن أحوال موسى و عيسى و غيرهما. أمّا قولهم. كتاب موسى عليهالسلام،٣ فإنّهم يقصدون به الكتاب الذي يتحدّث عن أحواله و سيرته، و لا يقصدون كتاباً كتبه موسى بنفسه.
و كذلك قولهم: كتاب المسيح عليه السلام، أي ترجمة حياته و ليس كتاباً من تأليفه. و كتاب يوشع. أي الكتاب الذي يتحدّث عن ترجمة أحواله، و ليس كتاباً كتبه يوشع بنفسه. تماماً كقولنا: كتاب المختار، أي الكتاب الذي الّف في شرح أحوال المختار و قيامه.
و مع كلّ هذه الامور، فإنّ كتبنا الحديثيّة تفوق في اعتبارها كتابَي التوراة و الإنجيل اللذين يُعدّان لدى اليهود و النصارى كتابَين سماويّين، فقد وردت في أحاديثنا روايات متواترة و مستفيضة كثيرة، بينما التوراة و الإنجيل ليسا كذلك. كما أنّ أغلب سند رواياتنا متّصل، و حال الرواة و ترجمتهم معلوم و مدوّن، أمّا التوراة و الإنجيل فليسا قطعيَي الصدور، و ليس لها سند متّصل.
و لتفصيل حقيقة الأمر، فإنّنا مجبرون على خوض بحث مستقلّ حول كلّ من كتابَي التوراة و الإنجيل، و حول التغييرات و التحوّلات التي طرأت عليهما.
أمّا بالنسبة إلى التوراة، فقد قال سماحة آية الله العلّامة الطباطبائي قدّس الله تربته الشريفة تحت عنوان «ما هو الكتاب الذي ينتسب إليه أهل الكتاب و كيف هو؟»:
«الرواية و إن عدّت المجوس من أهل الكتاب، و لازم ذلك أن يكون لهم كتاب خاصّ أو ينتموا إلى واحد من الكتب التي يذكرها القرآن ككتاب نوح، و صحف إبراهيم، و توراة موسى، و إنجيل عيسى، و زبور داود؛ لكنّ القرآن لا يذكر شأنهم، و لا يذكر لهم كتاباً. و الذي عندهم من «أوِستا» لا ذكر منه فيه، و ليس عندهم من سائر الكتب اسم.
و إنّما يطلق القرآن أهل الكتاب فيما يُطلق، و يريد بهم اليهود و النصارى، لمكان الكتاب الذي أنزله الله عليهم.
و الذي عند اليهود من الكتب المقدّسة خمسة و ثلاثون كتاباً، منها توراة موسى، مشتملةً على خمسة أسفار،۱ و منها كتب المؤرّخين اثنا عشر كتاباً؛٢ و منها كتاب أيوب، و منها زبور داود، و منها ثلاثة كتب لسليمان،٣ و منها كتب النبوّات سبعة عشر كتاباً.٤
و لم يذكر القرآن من بينها إلّا توراة موسى و زبور داود عليهماالسلام».٥
قصة و تأريخ التوراة الفعليّة المتداولة
ثمّ قال في البحث التأريخيّ:
«قصّة التوراة الحاضرة: بنو إسرائيل هم الأسباط من آل يعقوب، كانوا يعيشون أوّلًا عيشة القبائل البدويّين، ثمّ أشخصهم الفراعنة إلى مصر، و كانوا يعاملونهم معاملة الاسراء المملوكين حتى نجّاهم الله بموسى من فرعون و عمله.
و كانوا في زمن موسى يسيرون مسير الحياة بالإمام، و هو موسى، و بعده يوشع عليهما السلام. ثمّ كانوا بُرهةً من الزمان يدبّر أمرهم القضاة مثل إيهود و جدعون و غيرهما. و بعد ذلك يشرع فيهم عصر الملك. و أوّل الملوك فيهم شاؤل، و هو الذي يسمّيه القرآن الشريف بطالوت، ثمّ داود، ثمّ سليمان.
ثمّ انقسمت المملكة و انشعبت القدرة، و مع ذلك ملك فيهم ملوك كثيرون ك-. رُحبُعام و إبيام و يِربُعُام و يهوشافاط و يهورام و غيرهم بضعة و ثلاثون ملكاً.
و لم تزل تضعف القدرة بعد الانقسام حتى تغلّبت عليهم ملوك بابل۱
فاحتلّوا اورشليم و هو بيت المقدس، و ذلك في حدود سنة ستمائة قبل المسيح، و ملك بابل يومئذٍ بُخت نَصَّر (نَبُوكد نصّر).
ضياع التوراة الأصليّة على يد بخت نصّر
ثمّ تمرّدت اليهود عن طاعته، فأرسل إليهم عساكره فحاصروهم، ثمّ فتحوا البلدة و نهبوا خزائن الملك و خزائن الهيكل (المسجد الأقصي)، و جمعوا من أغنيائهم و أقويائهم و صنّاعهم ما يقرب من عشرة آلاف نفساً و ساروا بهم إلى بابل، و ما أبقوا في المحلّ إلّا الضعفاء و الصعاليك. و نصب بخت نصّر صِدْقيا و هو آخر ملوك بني إسرائيل ملكاً عليهم، و عليه الطاعة لبخت نصّر.
و كان الأمر على ذلك قريباً من عشر سنين، حتى وجد صدقيا بعض القوّة و الشدّة، و اتّصل بعض الاتّصال بواحد من فراعنة مصر فاستكبر و تمرّد عن طاعة بخت نصّر.
فأغضب ذلك بخت نصّر غضباً شديداً، فساق إليهم الجيوش و حاصر
بلادهم، فتحصّنوا عنه بالحصون، و تمادى بهم التحصّن قريباً من سنة و نصف حتى ظهر فيهم القحط و الوباء.
و أصرّ بخت نصّر على المحاصرة حتى فتح الحصون، و ذلك في سنة خمسمائة و ستّ و ثمانين قبل المسيح، و قتل نفوسهم و خرّب ديارهم و خرّبوا بيت الله، و أفنوا كلّ آية و علامة دينيّة، و بدّلوا هيكلهم تلّا من تراب، و فُقدت عند ذلك التوراة و التابوت الذي كانت تُجعل فيه.
و بقي الأمر على هذا الحال خمسين سنة تقريباً و هم قاطنون ببابل، و ليس من كتابهم عينٌ و لا أثر، و لا من مسجدهم و ديارهم إلّا تلال و رياع.
ثمّ لمّا جلس كورش من ملوك فارس على سرير الملك، و كان من أمره مع البابليّين ما كان، و فتح بابل و دخله و أطلق اسراء بابل من بنيإسرائيل.
و كان عزرا المعروف من المقرّبين عنده فأمّره عليهم، و أجاز له أن يكتب لهم كتابهم التوراة و يبني لهم الهيكل، و يُعيدهم إلى سيرتهم الاولى: و كان رجوع عزرا بهم إلى بيت المقدس سنة أربعمائة و سبعة و خمسين قبل المسيح، و بعد ذلك جمع عزرا كتب العهد العتيق و صححها، و هي التوراة الدائرة اليوم.۱
الفاصلة الزمنيّة بين أسر اليهود و إعادة كتابة التوراة قرن و نصف القرن
و أنت ترى بعد التدبّر في القصّة أنّ سند التوراة الدائرة اليوم مقطوعة غير متّصلة بموسى عليه السلام إلّا بواحد (و هو عزرا)، لا نعرفه أوّلًا، و لا نعرف كيفيّة اطّلاعه و تعمّقه ثانياً، و لا نعرف مقدار أمانته ثالثاً، و لا نعرف من أين أخذ ما جمعه من أسفار التوراة رابعاً، و لا ندرى
بالاستناد إلى أي مستند صحّح الأغلاط الواقعة أو الدائرة خامساً: ۱
و قد أعقبت هذه الحادثة المشؤومة أثراً مشؤوماً آخر، و هو إنكار عدّة من باحثي المؤرّخين من الغربيّين وجود موسى و ما يتبعه، و قولهم: إنّه شخصٌ خياليّ؛ كما قيل نظيره في المسيح عيسى ابن مريم عليهما السلام؛ لكنّ ذلك لا يسع لمسلم، فإنّ القرآن الشريف يصرّح بوجوده عليه السلام و ينصّ عليه».۱
إن ما ذكره سماحة الاستاذ في هذا المجال صحيح و صائب، و قصّة كورش و فتح بابل و إطلاق اسرى اليهود و إرسالهم إلى بيت المقدس صحيح بأجمعه. أمّا جمع عزرا للتوراة و بناؤه للهيكل (المسجد الأقصي) و ذهابه إلى هناك، فلم يكن بأمر كورش، بل بعد وفاة كورش بمدّة طويلة تبلغ ثمان و ستّين سنة.
فقد جرى أسر بني إسرائيل على يد بخت نصّر في سنة ٦۰٦ قبل الميلاد، و فتح كورش بابل سنة ٥٣۸ قبل الميلاد، و كان اليهود خلال هذه المدّة التي تقرب من سبعين سنة في الأسر.
أمّا وفاة كورش فقد حصلت في سنة ٥٢٥ قبل الميلاد، و كانت حركة عزرا من بابل إلى بيت المقدس في سنة ٤٥۷ قبل الميلاد. و لذلك فإنّ ذهاب عزرا إلى اورشليم و جمع التوراة كانت أيضاً بعد موت كورش بثمان و ستّين سنة، أي ما يقرب من سبعين سنة.
و من هنا، فستكون مائة و تسعاً و أربعين سنة قد مرّت منذ زمن أسر اليهود على يد بخت نصّر الذي حصل في سنة ٦۰٦ قبل المسيح إلى مجيء عزرا و جمع التوراة و كتابتها و بناء المسجد الأقصى في سنة ٤٥۷ قبل المسيح، أي بفاصلة مائة و خمسين سنة، أي مدة قرن و نصف القرن.
و توضيح هذا المطلب. أنّ «قاموس الكتاب المقدّس» يقول في أحوال النبيّ دانيال. «دانيال (يعني الله حاكمي). لقّبه الكلدانيّون بـ بَلْطَشَصَّر. اقتيد إلى بابل أسيراً سنة ٦۰٦ قبل المسيح، و انتُخب مع رفقائه. حنينا و ميشائيل و عَزَريا۱ لمحض الإقامة في قصر نبوكد نصّر (بخت نصّر).
ثمّ إنّ بخت نصّر شاهد رؤيا عبّرها له دانيال تعبيراً أظهر امتلاكه لهبة النبوّة، فارتفع مقامه، و ارتقى إلى حكومة بابل و رئاسة سلسلة العلماء و الكهنة.
ثمّ إنّ الفرس و المِديّين فتحوا بابل، فتربّع داريوش الهخامنشيّ على العرش بعد بَلْشَصَّر، فأكرم دانيال، و عاش دانيال في كنف داريوش إلى أن حانت وفاته، و كان يقضي أوقاته جادّاً في الدعاء و الصيام، و كان يُشير على داريوش بإعادة اليهود إلى وطنهم، فقد حان الزمن الموعود. و انقضى عمره على هذا الأمل، بَيدَ أنّه ليس معلوماً أنّه عاد إلى اورشليم مرّة اخرى
أم لم يعد. فقد بلغ عمره حينذاك (أي في سنة ٥٣٦ قبل المسيح) ثمانين عاماً».۱
رؤيا لبخت نصّر، و تعبير النبيّ دانيال
أمّا رؤيا بخت نصّر و تعبير دانيال المعروف، فكانت وفقاً لقول آية الله الشعرانيّ على النحو التالي:
«حصل في زمن النبيّ دانيال من بني إسرائيل - و كان آنذاك أسيراً في بابل - أن شاهد ملك بابل بخت نصّر رؤيا أزعجته و أخافته، فأرسل إلى علماء بابل و طلب منهم تعبيراً لرؤياه، و قال لهم: لقد شاهدتُ رؤيا. و عليكم أن تقصّوا على رؤياي أوّلًا، ثمّ تعبّروها لي!
فقالوا: ليس بإمكان أحد أن يعرف الرؤيا و يعبّرها! أخبرنا برؤياك و سنعبّرها لك!
فغضب بخت نصرّ، و قال: إن لم تُخبروني برؤياي قتلتُكم جميعاً!
فعجزوا، و أمر بخت نصّر بقتلهم، فأخذهم السيّاف خارجاً ليقتلهم، و كان دانيال فيهم، فاستمهله لينفّذ أمر الملك، و تضرّع إلى الله تعالى ليكشف له سرّ الملك. ثمّ عاد إلى السيّاف و قال له: ساخبر الملك بما طلب، فاترك حكماء بابل و لا تقتلهم! ثمّ مثل بين يدي الملك، و قال:
لقد ذهبتَ إلى فراشك و أنت تفكّر فيما يقوم به أمر هذا العالم، ثمّ نمتَ فشاهدت في نومك تمثالًا كبيراً رأسه من الذهَب، و صدره و ذراعاه من الفضّة، و بطنه و فخذاه من النحاس الأصفر، أمّا ساقاه فكان بعضها من الطين و بعضهما الآخر من الحديد! و شاهدتَ أنّ حجراً قد رُمي دون أن يُعرف حجمه، فأصاب ساق التمثال فانكسر و تحطّم و تلاشى من رأسه إلى
قدميه، و أنّ ذلك الحجر الذي أصاب التمثال أضحى جبلًا كبيراً ملأ الأرض بأسرها! فأقّر بخت نصّر كلامه و صدّقه.
ثمّ قال دانيال: و أمّا تعبير رؤياك فهي أنّ كلّ قطعة من التمثال إشارة إلى دولةٍ تصل إلى الحكم. فرأس التمثال الذهبيّ فهو دولتك. ثمّ ستخلف دولتك دولةٌ أوطأ من الفضّة ثمّ مملكة أوطأ من النحاس، ثمّ سينقسم العالم إلى قسمَين، كساقَي ذلك التمثال. إحداهما قويّة كالحديد، و الاخرى ضعيفة كالطين. و سيرسل الله تعالى زمن اولئك الملوك حكومة لا تزول أبداً، ستغلب الدول الباقية و تبقى قائمة أبداً ... .
فقال الملك لدانيال. الحقّ أنّ إلهك إله الآلهة، و إله الملوك، و كاشف الأسرار، لأنّك قدرت على كشف هذا السرّ! ...».
ثمّ يقول آية الله الشعرانيّ. «و قد اختصرنا الرؤيا بعض الشيء، و كما هو معلوم فقد كانت الدولة الاولى هي دولة بخت نصّر و ملوك بابل، و الدولة الثانية هي دولة الهخامنشيّين، و الثالثة هي دولة الإسكندر، و الرابعة التي انقسمت إلى قسمين: القسم الأوّل إيران و كانت من الحديد، و القسم الثاني دولة الروم و كانت من الطين.
أمّا ذلك الحجر الذي حطّم ذلك التمثال ثمّ ملأ الأرض بأسرها فهو الإسلام.
و لقد كانت لكلّ واحدة من تلك الدول إله خاصّ، و كانت كلّ دولة تصل إلى دفّة الحكم تجعل ذلك الإله الخاصّ إلهاً يعبده الناس؛ أمّا دولة الإسلام فحطّمت كلّ الآلهة، و قدّمت إلهاً واحداً للجميع، و ديناً واحداً للجميع؛ و الأنبياء يرون ما يرون مصطبغاً بصبغة دينيّة».۱
كلام «قاموس الكتاب المقدّس» في كتابة عزرا للتوراة
جاء في «قاموس الكتاب المقدّس»:
«عَزرا - و يعني هذا اللفظ الإعانة و المساعدة - هو كاهن العبرانيّين و هاديهم المعروف، و كان كاتباً ماهراً للشريعة، و عالماً أميناً مقتدراً. و يبدو أنّه كان يحظى بمكانة و منزلة جليلة في بلاط سلطان إيران. و قد عاصر خلال مدّة عمره - البالغة ثمانين سنة - أغلب عصر سلطنة كورُس (كيخسرو)، و جميع زمن سلطنة كمبايسيس واسمرديس (أي لُهراسب)، و سلطنة داريوس هستاسپيس. (أي گشتاسب)، و سلطنة زُركْسيس (أي اسفنديار)، و ثمانية أعوام من سلطنة ارتَك زركسيس لانگي مينس (أي أردشير ذي اليد الطويلة).
و قد تسلّم عزرا من هذا الملك الأخير الكتب و الأوامر و النقود و ما يلزم من الإعانات و المساعدات، و توجّه عائداً إلى اورشليم في سنة ٤٥۷ قبل المسيح على رأس جماعة كبيرة من الأسرى. فقام هناك بإصلاح و تعديل كبير في اسلوب معاملة القوم، كما أصلح عبادة جماعةٍ منهم، و قام بتأسيس عدّة كنائس كانت مراسم تلاوة الكتب المقدّسة و الدعاء تُقام فيها باستمرار. و يُعتقد عموماً بأنّه قام بعد هذه الوقائع بتصنيف كتب التواريخ و كتاب عزرا و قسماً من كتاب نحميا.
كما قام بجمع و تصحيح جميع كتب العهد العتيق التي تشكّل قانوننا المعاصر. و استعان في هذا العمل بـ نَحميا و مَلاكي.
و قد كُتب قدرٌ من كتاب عزرا بالكلدانيّة، و يشتمل على تأريخ اليهود و تأريخ عودتهم منذ زمان كورش، و يذكر أعمالهم خلال فترة ستّين سنة التي تلت ذلك. و هو حكاية عن الوقائع التي وقعت لغاية سنة ٤٥٦ قبل المسيح».۱
و فيه أيضاً: «و كان كورس (الشمس) مؤسّس سلطنة فارس و فاتح الممالك الاخرى. و قد اختاره الله تعالى لتنفيذ المقاصد الخيّرة التي قدّرها لليهود حسبما أخبر النبيّ أشعيا.
و الخلاصة فإنّه كان نَجْل كَمْبُسيس و ابن أخ داريوش مِدى سباكْسَرِس؛ و قد جمع في شخصه قوّة و اقتدار ممالك فارس و مدى. أمّا أشهر المدن التي فتحها فكانت بابل التي فتحها سنة ٥٣۸ قبل المسيح. ثمّ إنّه أمر بعد ذلك بعودة اليهود بعد أن قضوا في الأسر في بابل مدّة سبعين سنة. و أنفق من خزانته الخاصّة أموالًا طائلة في أمر إعادتهم.
و كان دانيال حينذاك في بيت المجانين الذي بناه كورس، و كان كورس قد فارق الحياة متأثّراً بجرح أصابه سنة ٥٢٥ قبل المسيح».۱
أجل، فقد اتّضح من مجموع ما أوردنا في هذا المجال أنّ عودة اسرى بني إسرائيل إلى اورشليم قد حصلت مرّتين، الاولى في عصر كورش بعد سبعين سنة من أسرهم في بابل، حيث أعادهم كورش. و كان النبيّ دانيال في بابل حينذاك، و كان له من العمر آنذاك ثمانون سنة، و لم يرجع دانيال معهم. أمّا عزرا فأدرك قدراً من سلطنة كورس، و لم يرجع إلى اورشليم مع الأسرى المهاجرين.
و المرّة الثانية في زمن أردشير بعد الواقعة الاولى بثمانين سنة، و قد حصلت هذه الهجرة بقيادة عزرا لجماعة من بني إسرائيل بأمرٍ من أردشير ذي اليد الطويلة و بمعونة ماليّة و مساعدةٍ منه.
و قد أدرك عزرا المذكور قدراً من سلطنة كورس و جميع سلطنة لهراسب و گشتاسب و إسفنديار و أردشير. و قد حصلت هذه الهجرة بعد مائة
و خمسين سنة من حملة بخت نصّر على اورشليم و خراب بيت المقدس و الهيكل و فقدان التوراة و صندوقها.
و لو اعتبرنا - وفقاً لكلام هؤلاء المؤرّخين - أنّ فقدان التوراة و خراب الهيكل قد حصلت خلال الهجوم الثاني لبخت نصّر سنة ٥۸٦ قبل الميلاد، فيكون قد انقضى مائة و ثلاثون سنة إلى وقت عودة عزرا و كتابة التوراة سنة ٤٥۷ قبل الميلاد.
و كان هذا تحقيقاً تفضّل به سماحة الاستاذ حول عدم حجّيّة التوراة و اعتبارها، و قد أوردناه مع قدرٍ من التفصيل.
أمّا المادّة التي كانت عليها تلك التوراة التي كانت في صندوقٍ ثمّ فُقدت، أكانت هي الألواح الزمرّديّة التي أنزلها الله تعالى على النبيّ موسى في جبل الطور بعد ميعاد أربعين ليلة؟ أم أنّها استُنسخت على تلك التوراة ثمّ جُعلت في صندوق؟ فإنّ هذا ليس موضع تفصيل ذلك و بيانه.
كان هذا بياناً في عدم كون التوراة قطعيّة الصدور، حيث تبيّن بحمد الله بجلاء أنّ التوراة الفعليّة ليست إلّا خبراً واحداً غير مسند، يفتقر إلى الاعتبار و القيمة العلميّة.
ليس هناك سبيل غير القرآن لإثبات وجود المسيح و إنجيله الحقيقيّ
أمّا في شأن الإنجيل، فقد ذُكر أنّه كالتوراة غير قطعيّ الصدور، و لسماحة الاستاذ كلام في تفسيره تحت عنوان «قصّة المسيح و الإنجيل»، نورده هنا:
«اليهود مهتمّون بتأريخ قوميّتهم و ضبط الحوادث الظاهرة في الأعصار التي مرّت بهم، و مع ذلك فإنّك لو تتبّعتَ كتبهم و أسفارهم لم تعثر فيها على ذكر المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام، لا على كيفيّة ولادته، و لا على ظهوره و دعوته، و لا على سيرته و الآيات التي أظهرها الله على يديه، و لا على خاتمة حياته من موتٍ أو قتلٍ أو صلب أو
غير ذلك.
فما هو السبب في ذلك؟ و ما هو الذي أوجب خفاء أمره عليهم أو إخفائهم أمره؟
و القرآن يذكر عنهم أنّهم قذفوا مريم و رموها بالبُهتان في ولادة عيسى، و أنّهم ادّعوا قتل عيسى؛ قال تعالى:
وَ بِكُفْرِهِمْ وَ قَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً ، وَ قَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَ ما قَتَلُوهُ وَ ما صَلَبُوهُ وَ لكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَ إِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِّ وَ ما قَتَلُوهُ يَقِيناً.۱
فهل كانت دعواهم تلك مستندة إلى حديثٍ دائر بينهم كانوا يذكرونه بين قصصهم القوميّة من غير أن يكون مودعاً في كتاب؟ و عند كلّ امّةٍ أحاديث دائرة من واقعيّات و أساطير لا اعتبار بها ما لم تنتهِ إلى مآخذ صحيحة قويمة.
أو أنّهم سمعوا من النصارى الذِّكر المكرّر من المسيح و ولادته و ظهوره و دعوته، أخذوا ذلك من أفواههم و باهتوا مريم، و ادّعوا قتل المسيح؟
لا طريقَ إلى استبانة شيءٍ من ذلك؛ غير أنّ القرآن - كما يظهر بالتدبّر في الآية السابقة - لا ينسب إليهم صريحاً إلّا دعوى القتل دون الصلب، و يذكر أنّهم على ريب من الأمر، و أنّ هناك اختلافاً! (هذه هي نظريّة اليهود حول المسيح).
الإنجيل الأصليّ غير موجود، و الأناجيل الأربعة من تأليف أفراد
و أمّا حقيقة ما عند النصارى من قصّة المسيح و أمر الإنجيل
و البشارة، فهي أنّ قصّته عليه السلام و ما يتعلّق بها تنتهى عندهم إلى الكتب المقدّسة عندهم، و هي الأناجيل الأربعة، التي هي أناجيل مَتَّى و مُرقُس و لوقا و يوحَنّا، و كتاب أعمال الرسل للوقا، و عدّة رسائل لبولس و بطرس و يعقوب و يوحنّا و يهوذا، و اعتبار الجميع ينتهي إلى اعتبار الأناجيل، فلنشتغل بها:
أمّا إنجيل متّى: فهو أقدم الأناجيل في تصنيفه و انتشاره؛ و ذكر بعضهم أنّه صُنّف سنة ٣۸ الميلاديّة؛ و ذكر آخرون أنّه كُتب ما بين سنة ٥۰ إلى سنة ٦۰؛۱ فهو مؤلَّف بعد المسيح.
و المحقّقون من قدمائهم و متأخّريهم على أنّه كان أصله مكتوباً بالعبرانيّة، ثمّ تُرجم إلى اليونانيّة و غيرها، أمّا النسخة الأصليّة العبرانيّة فمفقودة، و أمّا الترجمة فلا يُدرى حالها، و لا يُعرَف مترجمها.٢
و أمّا إنجيل مرقس: فمرقس هذا كان تلميذاً لبطرس، و لم يكن من الحواريّين؛ و ربّما ذكروا أنّه إنّما كتب إنجيله بإشارة بطرس و أمره، و كان لا يرى إلهيّة المسيح.٣
و لذلك، ذكر بعضهم أنّه إنّما كتب إنجيله للعشائر و أهل القرى فعرّفَ المسيح تعريف رسولٍ إلهيّ مبلّغٍ لشرائع الله؛٤ و كيف كان فقد كتب إنجيله
سنة ٦۱ ميلاديّة.
و أمّا إنجيل لوقا: فلوقا هذا لم يكن حواريّاً و لا رأي المسيح، و إنّما تلقّن النصرانيّة من بولس؛ و بولس كان يهوديّاً متعصّباً على النصرانيّة يؤذي المؤمنين بالمسيح و يقلّب الامور عليهم، ثمّ اتّفق فجأة أن ادّعى أنّه صرع، و في حال الصرع لمسه المسيح و لامه و زجره عن الإساءة إلى متّبعيه، و أنّه آمن بالمسيح و أرسله المسيح ليبشّر بإنجيله.
و بولس هذا هو الذي شيّد أركان النصرانيّة الحاضرة على ما هي عليها؛۱ فبنى التعليم على أنّ الإيمان بالمسيح كافٍ في النجاة من دون عمل، و أباح لهم أكل الميتة و لحم الخنزير، و نهى عن الختنة و كثير ممّا في التوراة،٢ مع أنّ الإنجيل لم يأتِ إلّا مصدّقاً لما بين يديه من التوراة، و لم يُحلِّل إلّا أشياء معدودة.
و بالجملة، إنّماجاء عيسى ليقوّم شريعة التوراة و يردّ إليها المنحرفين و الفاسقين لا ليُبطل العمل و يقصر السعادة على الإيمان الخالي.
و قد كتب لوقا إنجيله بعد إنجيل مرقس، و ذلك بعد موت بطرس و بولس، و قد صرّح بأنّ إنجيله ليس كتاباً إلهاميّاً كسائر الأناجيل٣ كما
يدلّ عليه ما وقع في مبتدأ إنجيله.
و أمّا إنجيل يوحنّا: فقد ذكر كثير من النصارى أنّ يوحنّا هذا هو يوحنّا بن زبدي الصيّاد، أحد التلاميذ الاثني عشر (الحواريّين)، الذي كان يحبّه المسيح حبّاً شديداً.۱
و ذكروا أنّ شيرينطوس و أبيسون و جماعتهما لمّا كانوا يرون أنّ المسيح ليس إلّا إنساناً مخلوقاً لا يسبق وجوده امّه، اجتمعت أساقفة آسيا و غيرهم في سنة ٩٦ ميلاديّة عند يوحنّا و التمسوا منه أن يكتب ما لم يكتبه الآخرون في أناجيلهم، و يبيّن بنوع خصوصيّ لاهوت المسيح، فلم يسعه أن يُنكر إجابة طلبهم.٢
و قد اختلفت كلماتهم في السنة التي ألّف فيها هذا الإنجيل، فمن قائلٍ إنّها سنة ٦٥، وقائلٍ إنّها سنة ٩٦، و قائلٍ إنّها سنة ٩۸.
و قال جمعٌ منهم إنّه ليس تأليف يوحنّا التلميذ،٣ فبعضهم على أنّه
تأليف طالب من طلبة المدرسة الإسكندريّة؛۱ و بعضهم على أنّ هذا الإنجيل كلّه و كذا رسائل يوحنّا ليست من تصنيفه، و إنّما صنّفه بعضهم في ابتداء القرن الثاني و نسبه إلى يوحنّا ليعتبره الناس؛٢ و بعضهم على أنّ إنجيل يوحنّا كان في الأصل عشرين باباً، فألحقت كنيسة أفاس الباب الحادي و العشرين بعد موت يوحنّا.٣
فهذه حال هذه الأناجيل الأربعة. و إذا أخذنا بالقدر المتيقّن من هذه الطرق انتهت إلى سبعة رجال هم. متّى، مرقس، لوقا، يوحنّا، بطرس، بولس، يهوذا، ينتهى ركونهم كلّه إلى هذه الأناجيل الأربعة، و ينتهى الأربعة إلى واحد هو أقدمها و أسبقها و هو إنجيل متّى، و قد مرّ أنّه ترجمة مفقود الأصل لا يُدرى مَن الذي ترجمه، و كيف كان أصله، و على ماذا كان يبنى تعليمه، أبرسالة المسيح أم بالوهيّته؟
ضعف الأناجيل الأربعة، مع انتشار المسيحيّة في العالم يثير العجب
و يبيّن هذا الإنجيل الموجود. أنّه ظهر في بني إسرائيل رجل يُدعى عيسى بن يوسف النجّار و أقام الدعوة إلى الله، و كان يدّعي أنّه ابن الله مولود من غير أبٍ بشريّ، و أنّ أباه أرسله ليفدي به الناس عن ذونوبهم بالصلب و القتل، و أنّه أحيي الميّت، و أبرأ الأكمه و الأبرص و شفي المجانين بإخراج الجنّ من أبدانهم، و أنّه كان له اثنا عشر تلميذاً. أحدهم
متّى صاحب الإنجيل بارك لهم و أرسلهم للدعوة و تبليغ الدين المسيحيّ ... إلى آخره».
فهذا ملخّص ما تنتهي إليه الدعوة المسيحيّة على انبساطها على شرق الأرض و غربها، و هو لا يزيد على خبر واحد مجهول الاسم و الرسم، مُبهم العين و الوصف. و هذا الوهن العجيب في مبدأ القصّة هو الذي أوجب لبعض أحرار الباحثين عن اوروبّا أن يدّعي أنّ المسيح ابن مريم شخص خياليّ صوّرته بعض النزعات الدينيّة على حكومات الوقت أوّلها، و تأيّد ذلك بموضوع خرافيّ آخر يشبهه كلّ الشبه في جميع شؤون القصّة، و هو موضوع كرشنا الذي تدّعي و ثنيّة الهند القديمة أنّه. ابن الله نزل عن لاهوته و فدي الناس بنفسه صلباً ليخلّصهم من الأوزار و الخطايا. كما يُدعى في عيسى المسيح حذو النعل بالنعل، (كما سيجيء ذكره).
و أوجب لآخرين من منتقدي الباحثين أن يذهبوا إلى أنّ هناك شخصَين مُسمَّيَّين بالمسيح. المسيح غير المصلوب، و المسيح المصلوب، و بينهما من الزمان ما يزيد على خمسة قرون.
و أنّ التأريخ الميلاديّ الذي سنتنا هذه سنة ألف و تسعمائة و ستّة و خمسين منه لا ينطبق على واحد منهما، بل المسيح الأوّل غير المصلوب يتقدّم عليه بما يزيد على مائتين و خمسين سنة، و قد عاش نحواً من ستّين سنة؛ و المسيح الثاني المصلوب يتأخّر عنه بما يزيد على مائتين و تسعين سنة، و قد عاش نحواً من ثلاث و ثلاثين سنة.۱
على أنّ عدم انطباق التأريخ الميلاديّ على ميلاد المسيح في الجملة ممّا لم يسع النصارى إنكاره۱، و هو سكتة تأريخيّة.
على أنّ ها هنا أموراً مُريبة موهمة اخرى، فقد ذكروا أنّه كتب في القرنَين الأوّلين من الميلاد أناجيل كثيرة اخرى، ربّما أنهوها إلى نيّف و مائة من الأناجيل، و الأناجيل الأربعة منها، ثمّ حرّمت الكنيسة جميع تلك الأناجيل إلّا الأناجيل الأربعة التي عُرفت قانونيّة لموافقة متونها تعاليم الكنيسة.٢
و من جملة الأناجيل المتروكة إنجيل برنابا۱ الذي ظهرت نسخة منه منذ سنين، فتُرجمتْ إلى العربيّة و الفارسيّة، و هو يوافق في عامّة قصصه ماقَصَّه القرآن في المسيح عيسى ابن مريم».٢
كيفيّة اتّضاح أمر إنجيل برنابا (ت)
...۱
الدكتور سعادة: مؤلِّف إنجيل برنابا عالم يهوديّ أندلسيّ قد أسلم حديثاً (ت)
...۱
...۱
...۱
...۱
...۱
...۱
...۱
...۱
...۱
...۱
...۱
أدلّة الدكتور سعادة تخيّلات واهية، لا تستند إلى شواهد تأريخيّة قطعيّة
إشكالات صاحب تفسير «المنار» على الدكتور سعادة بخصوص إنجيل
كلام الكابليّ في صحّة إنجيل برنابا و كونه متداولًا قبل الإسلام
كلام آية الله الشعرانيّ في عدم قطعيّة صدور الإنجيل
ولآية الله الشعرانيّ كلامٌ في عدم قطعيّة صدور الإنجيل، تحت عنوان. عدم تواتر الإنجيل، نورده هنا لأهمّيّته:
«لقد كان النبيّ عيسى على نبيّنا و آله و عليه السلام من بني إسرائيل، و كان يتكلّم العبريّة، و بدأت نبوّته في بيت المقدس حيث أهلها يتكلّمون العبريّة، فلم يؤمنوا به إلّا قليلًا منهم ليس لدينا اطّلاع على حالهم. بَيدَ أنّه كان هناك أفراد من أهل بيت المقدس ممّن يعرفون اليونانيّة، و قد تفرّق هؤلاء الأفراد في مُدن آسيا الصغرى و دعوا الناس إلى المسيحيّة، و دوّنوا كتباً باللغة اليونانيّة أو دعوها بعض المطالب. و كانوا يقولون لليونانيّين و الروميّين لقد قال عيسى كذا و كذا، و فعل كذا و كذا.
و كان الذين شاهدوا عيسى و شهدوا أعماله و أقواله و عرفوا لغته يسكنون في فلسطين، و كانوا لم يؤمنوا به، فكانوا - من ثمّ - يعدّون تلك الحكايات المكتوبة باليونانيّة حكايات مختلقة. أمّا الذين كانوا يقبلون بهذه الكتب و الحكايات، فكانوا من القوم الأباعد الذين لم يروا بيت المقدس و لم يشاهدوا المسيح، و لم يعرفوا لغته.
و لو كانت القصص المدوّنة في الإنجيل مكذوبة، لما كان هناك من رادع يردع مؤلّفيها عن كتابتها، و لما كان هناك سبيل لسامعيها إلى تكذيبها.
و لو فرضنا أنّ رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم كان قد رُفض من قِبل العرب، و أنّهم لم يؤمنوا به حتى فارق الحياة؛ و لو فرضنا أنّ القرآن
أيضاً - نعوذ بالله - قد ضاع نتيجة عدم إيمان العرب، ثمّ إنّ عدّة أفراد من العرب هاجروا بعد خمسين سنة إلى بلاد الروم فدوّنوا باللغة الروميّة حكايات عن النبيّ بخمسين وجهاً يخالف بعضها البعض الآخر، فإنّ العرب كانوا سينكرونها و الرومانيّين كانوا سيقبلون بها؛ فإنّ الاطمئنان لن يحصل بأقوال اولئك الأفراد قطّ.
نقول: إنّ الإنجيل كان له هذه الحال، و هو ليس بمتواتر.
كثرة المطالب الباطلة في الإنجيل
و لقد كتب مؤلّفو الإنجيل ما يقرب من مائة إنجيل مخالفة لبعضها، و نشروا قصص السيّد المسيح عليه السلام بين قومٍ لا يميّزون بين الصدق و الكذب في أقوال هؤلاء المؤلّفين. خلافاً لأحاديث الإسلام، حيث آمن العرب أنفسهم بالنبيّ، و نقلوا كلامه بلغتهم في حضور جماعة رأوا النبيّ بأجمعهم و سمعوا كلامه و فهموه، فلم يكن بإمكان أحد أن يكذب في حضور اولئك العرب، و لو كذب لأنكروا عليه.
فمثلًا جاء في إنجيل متّي أنّ السيّد المسيح لمّا ولد جاء عدّة من المجوس من الشرق فسألوا: أين ملك اليهود الذي وُلد حديثاً، فقد رأينا نجمه في المشرق؟ فلم يدلّوهم عليه. ثمّ إنّهم - فجأةً - رأوا ذلك النجم يتحرّك في السماء فيقف فوق سطح البيت الذي كان عيسى عليه السلام فيه، فعرفوا بيته.
و لقد دوّنوا هذه الحكاية القطعيّة الاختلاف دون خوف من الفضيحة، إذ إنّهم لم يكتبوها بالعبريّة لسكنة بيت المقدس، بل كتبوها للغرباء الأجانب، فكان يمكن - و الحال هذه - أن يلفّقوا و يكذبوا كثيراً.
و نحن موقنون بأنّه ليس هناك منجّم يعتقد بظهور نجم مع ولادة أي شخص، و بحركة ذلك النجم فوق رأس ذلك الشخص. فلا المجوس يعتقدون بذلك و لا غير المجوس.
و نقول أيضاً بأنّ قدماء المسيحيّين مُختلفون في مقتل السيّد المسيح، و قد جاء في بعض الأناجيل أنّه لم يُقتل أصلًا؛ مع أنّه لو قُتل شخص في مدينةٍ ما، لما خفي ذلك على سكنة تلك المدينة، لكثرة التفات الناس إلى هذه الامور، و خاصّة إذا صُلب ذلك الشخص.
أمّا لأنّ مؤلّفي الإنجيل قد ألّفوه للغرباء، و بلغة أجنبيّة غريبة؛ و لأنّ هؤلاء الأجانب لم يكونوا في بيت المقدس ليمكنهم الاطّلاع على حقيقة قتل أو عدم قتل ذلك النبيّ، فقد كتب مؤلّفو الإنجيل كلّ ما اعتبروا كتابته من المصلحة دون أن يخشوا شيئاً. ثمّ إنّهم شكّلوا مجلساً بعد السيّد المسيح بثلاثمائة سنة، فتشاور علماء النصارى في كيفيّة القضاء على الاختلاف في هذه الامور، فارتأوا انتخاب أربعة أناجيل من بين الأناجيل و اعتبار مطالبها صحيحة، و اعتبروا سواها - ممّا لا حدّ له و لا حصر - باطلًا. فصار أمر عدم قتل المسيح المذكور في الأناجيل المرفوضة أمراً غير رسميّ».۱
ضياع التوراة و الإنجيل إثر غضب الله على اليهود
إن ضياع التوراة و الإنجيل هو أثر غضب الله تعالى على اليهود المعتدين الظالمين و سخطه عليهم، فقد رفع كتابه من بينهم. و لقد عاش اليهود الفلسطينيّون في ظلّ نبوّة عيسى على نبيّنا و آله و عليه السلام في أفضل النعم الدنيويّة و الأخرويّة، فقد نجوا من ذُلّ أسر الفراعنة و صار لهم استقلال و عزّة عظيمين، و سكنوا في أفضل الأماكن التي سكنها أسلافهم. و لقد كانت قوانين التوراة - الكتاب السماويّ - و تعاليمها دليلًا عجيباً يضمن لهم سعادة الدارَين، لكنّهم عصوا و اكتنفهم الغرور و الاستكبار و التعالي، ففقدوا جميع تلك النِّعم، و سلّط الله عليهم الظالمين في مرحلتين متفاوتتَين، فمزّقوهم شرّ تمزيق.
قال رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم: [قال تعالي]: الظَّالِمُ سَيْفِي؛ أنْتَقِمُ بِهِ وَ أنْتَقِمُ مِنْهُ.۱
و قد تعرّض اليهود إلى هجمات شديدة و تخريب شديد إثر اعتداءاتهم، إلّا أنّ القرآن الكريم قد عدّ لهم اعتداءَين مهمّين سمّاهما فساداً في الأرض، و قد سلّط الله على اليهود إثر ذلك بخت نصّر ملك بابل و تيطوس الروميّ، فأفقدهم جميع مزايا الحياة، و أضاع التوراة و الإنجيل منهم.
و بنو إسرائيل هم بنو يعقوب، و هو ابن إسحاق. و يسمّى اليهود يعقوب إسرائيل، و يعني «مَن تفوّق على الله» فبناءً على عبارة التوراة، أنّ يعقوب تصارع مع مَلَك الله في فنيئيل، فغلبه، فلقّب بهذا اللقب.۱
و قد توجّه بنو إسرائيل بعد قضاء أربعين سنة في صحراء التيه و بعد ارتحال النبيّ موسى على نبيّنا و آله و عليه السلام إلى فلسطين، فتولّي ولاية أمرهم يوشع بن نون وصيّ موسى.
و لم يكن لهم مسجد، فكانوا يقيمون عباداتهم في الخيام. و كانت أكثر أحكامهم تقديم القرابين، فكان عليهم أن يقدّموا حيواناً قرباناً لكلّ شيء، و كان عليهم أن يذبحوا بقرة أو شاةً أو طيراً للطهارة من الحيض و النفاس و الجنابة.
و كانت القرابين مختلفة، و كان ينبغي القيام بها في حضور كاهن من ولد هارون و في مذبح خاصّ في الأرض المقدّسة. أمّا بدون تقديم القرابين، فإنّهم لم يكونوا يطهروا من الحيض و الجنابة، و كان أولادهم حينذاك أولاداً ولدوا على غير طُهر.
آية: لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَ لَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً
و لم يكن لبني إسرائيل ملك إلى زمن طالوت، و كان الفقهاء يحكمون فيهم، و كان معبدهم خيمة، و كانوا يقدّمون الذبائح و القرابين في الخيمة. حتى تغلّب طالوت على جالوت في الحرب و قتله، فاختاره بنو إسرائيل حينذاك ليحكم فيهم، فأعقبه في المُلك النبيّ داود و النبيّ سليمان.
و قد بنى بنو إسرائيل في ذلك العصر بيت المقدس، و توارث أولاد داود المُلك، و أصبحت التجمّلات الملكيّة و التشريفات أمراً معهوداً رائجاً، فترك أولاد سليمان أحكام التوراة، و صاروا يقتلون أنبياء الله، و لا يتّعظون بمواعظ الأبرار و الصالحين،۱ وراج بينهم عبادة الأصنام؛
فغضب عليهم الله آنذاك و هو أشد المعاقبين في موضع النكال و النقمة، فسلّط عليهم بخت نصّر، فجعل بيت المقدس قاعاً صفصفاً، و تسبّب في ضياع التوراة، و ساق بني إسرائيل اسرى إلى بابل.
ثمّ تاب بنو إسرائيل، فسلّط الله كورش الهخامنشيّ فانتزع بابل من يد أولاد بخت نصّر، و أعاد بني إسرائيل إلى بيت المقدس، فقاموا في زمن عزرا الكاهن بإعادة بناء بيت المقدس، و عملوا بأحكام التوراة و لم يعبدوا أصناماً، و ملكهم أحد أولاد داود عليه السلام و اسمه زُروبابِل، و دامت حكومته إلى زمان عيسى المسيح على نبيّنا و آله و عليه السلام، و كان هذا هو البناء و العمران الثاني لبيت المقدس. (حيث كان الأوّل من قِبل النبيّ سليمان، و الثاني من قِبل عزرا).
بَيدَ أنّ اليهود لمّا لم يؤمنوا بروح الله، و اتّهموه و امّه و لم يتورّعوا عن إلحاق صنوف الأذى بهما، فإنّهم استحقّوا غضب الله مرّة اخرى، فسخط عليهم و قام باسم أعظم المتجبرين في موضع الكبرياء و العظمة بتسليط تيطوس الروميّ عليهم، فخرّب بيت المقدس و فرّق اليهود من جديد، فهم حتى زماننا الحاضر متفرّقون في بلاد العالم. و قد أشار تعالى إلى هذا التخريب المجدّد إلى بيت المقدس و إلى فتنة اليهود و إفسادهم
مرّتين، فقال في سورة الإسراء:
وَ قَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَ لَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً ، فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ وَ كانَ وَعْداً مَفْعُولًا ، ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَ أَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَ بَنِينَ وَ جَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً ، إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَ إِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ وَ لِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَ لِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً ، عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَ إِنْ عُدْتُمْ عُدْنا وَ جَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً.۱
و يظهر من هذه الآيات بجلاء أنّ عزّة بني إسرائيل و شوكتهم بعد الواقعة الاولى كانتا بسبب توبتهم و إنابتهم و إحسانهم؛ بَيدَ أنّهم لمّا ابتلوا من جديد بالعصيان و التمرّد، فقد تحقّقت الواقعة الثانية جزاءً لأعمالهم و أمّا الضمير في عليهم في الكرة عليهم و في لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ وَ لِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ، فمع أنّه يعود ظاهراً إلى نفس القوم السابقين الذين حاربوا بني إسرائيل و دمّروا بيت المقدس، بقرينة أنّ بخت نصّر أو البابليّين لم يشنّوا حملة جديدة مدمّرة، فإنّه يستفاد بأنّ الضمير يعود إلى مطلق الأعداء، سواءً كانوا بابليّين أم روميّين. و قد استفاد سماحة الاستاذ قدّس الله نفسه ذلك أيضاً، و لم يعتبر له منافاة مع تحقّق المرحلة الثانية من قبل الروم، فقال:
«و المبعوث ثانياً هو قيصر الروم إسبيانوس، سيّر إليهم وزيره طوطوز فخرّب البيت و أذلّ القوم قبل الميلاد بقرن تقريباً».٢
و قد اشير إلى هذه الواقعة في التوراة أيضاً، في سِفر التثنية، الآية الثامنة عشرة، الباب التاسع و الثلاثين، لكنّ اليهود ينتظرون المرّة الثالثة لتعمير بيت المقدس ليحكم هناك ملك من نسل داود على نبيّنا و آله و عليه السلام، و يُعيد اليهود إليها.
و يسمّى اليهود هذا الملك باسم ماشيح بمعنى المسيح. فالمسيح في العبريّة يلفظ بالشين المعجمة و الياء المفتوحة. و هو استعارة و كناية عن الملك. بَيدَ أنّ كتب اليهود لم تعدهم بعمران بيت المقدس مرّة ثالثة. و قد ورد في سِفر لَوِيان فقط، الآية السادسة و العشرين من الباب الرابع و الأربعين الوعد باحترام الأنبياء و الصالحين القدماء، و أن لا يقتلوهم، و أن يوفوا بعهودهم لهم مع وجودهم في أرض أعدائهم.
و نرى أنّ هذا الوعد الإلهيّ قد تحقّق، فقد تلاشى الأقوام السابقون كالآشوريّين و البابليّين و العمالقة و الفينيقيّين و ضاعت تقاليدهم و عاداتهم، أمّا اليهود فقد بقوا مع كتابهم و دينهم و هذا من معجزات أنبياء بنى إسرائيل و إخبارهم بالغيب. فقد ورد في سفر المُثَنَّي، الآية الثامنة و العشرين من الفصل السادس و الأربعين قوله: و سيكون لك و لأولادك بدلًا من ذلك آية و معجزة. بيد أنّ هذا ليس وعداً بحكم ملك و تأسيس دولة مستقلّة، فاليهود إنّما يرعون هذا الوهم الساذج في رؤوسهم عبثاً. و قد بيّنت الآية الهادية الوافية:
ضُرِبَت عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَ الْمَسْكَنَةُ وَ باؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَ يَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَ كانُوا يَعْتَدُونَ،۱ حال اليهود و أمرهم إلى يوم القيامة.
و ليس أمام اليهود من مفرّ غير قبول الإسلام، و الدخول في الدين المحمّديّ الحنيف، و الولاية العلويّة، و تقبّل القرآن العظيم، كما أخبر النبيّ موسى على نبيّنا و آله و عليه السلام، و كما بُشِّر بقدومه المبارك في كتب العهدين التوراة و الإنجيل.
كتاب «منقول رضائي» تأليفٌ نفيس لعالم يهوديّ قد أسلم حديثاً
و قد تشرّف العالم الكامل و الخبير البصير الذي كان من أعاظم علماء اليهود في طهران، بالانتماء إلى الإسلام في سنة ۱٢٣۸ هجريّة قمريّة، و كان معاصراً لسماحة آية الله العظمى الحاجّ المولى أحمد النراقيّ و معاصراً لفتح على شاه القاجاريّ، و سمّي نفسه ميرزا محمّد رضا. و أنشد هذه الأبيات الثلاثة:
از منزل عدم به وجود آشنا شدم | *** | بر امّت كليم خدا پيشوا شدم |
در مُصحف كليم و در أحكام أنبياء | *** | ديدم محمّد است محمّد رضا شدم |
رفتم از اين جهان به در دوست شادمان | *** | از بهر آنكه طالب دين خدا شدم۱ |
و قد امتلك هذا العالم الخبير، كما هو واضح من كتابه الذي ألّفه، مهارةً عظيمة و اطّلاعاً واسعاً على كتب العهد القديم، فقد قام بإثبات نبوّة خاتم الأنبياء بأدلّة و شواهد و براهين قاطعة انتزعها من كتبهم.
و قد ألّف هذا الرجل الجليل كتابه باللغة العبريّة و الخطّ العبريّ؛ و ارتحل إلى عالم الأبديّة سنة ۱٢٦٦ هجريّة قمريّة و دُفن في طهران، شارع المولويّ، محلّة باغ فردوس (=روضة الفردوس) بجوار المستشفى، في زاوية مسجدٍ هناك، و لمقبرته شبّاك إلى الخارج، و صار الناس يذهبون لزيارة قبره الشريف، و قد زار الحقير قبره.
و قد قام العالم الربّانيّ: المرحوم السيّد علي بن حسين الحسينيّ، بمساعي الآخوند الملّا محمّد علي الكاشانيّ الملقّب بـ «آقا جاني»، و آقا محمّد جعفر ابن أخ المؤلّف، بترجمة كتاب ذلك الفقيد من العبريّة إلى الفارسيّة و أعادوا تأليفه و ذلك سنة ۱٢٩٢ هجريّة قمريّة في عصر ناصر الدين شاه. و يدعى أصل الكتاب بـ «منقول رضائي» حسب تسمية المؤلِّف له، أمّا المؤلَّف الثاني (و ترجمة) الكتاب الأوّل فيسمّى «إقامة الشهود في ردّ اليهود في منقول رضائي».
و الحقّ أنّه كتاب نفيس ذو منهج تحقيقيّ، و قد استفاد الحقير منه كثيراً. و قد قام مؤلّفه بالردّ بمنهج تحقيقيّ مستعيناً بالأدلّة العقليّة على الأدلّة التي كتبها أعلام اليهود من أمثال هارم بام وربي إسحاق و ابرنبال و غيرهم حول أبديّة التوراة.
و إذ آمن هذا الرجل الجليل، فقد تشرّف جميع أولاده و أقاربه و جمع كثير من اليهود الذين كانوا يثقون به بالانتماء إلى الدين الإسلاميّ المقدّس؛ اللَهُمَّ احْشُرْهُ مَعَ مُحَمَّدٍ وَ آلِهِ الطَّاهِرِينَ.
البَحْثُ الحَادِيعَشَر: في قَاطِعِيَّةِ القُرْآنِ الكَرِيمِ وَ شُمُولِهِ و تفسير آية ﴿المص ، كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَ ذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ﴾
أعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيطانِ الرَّجِيمِ
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
و صلَّى اللهُ على سَيِّدِنا مُحَمَّدٍ و آلِهِ الطَّيِّبِينَ الطَّاهِرِينَ
و لَعْنَةُ اللهِ على أعْدَائهِمْ أجْمَعِينَ مِنَ الآنَ إلى قِيامِ يَوْمِ الدِّينِ
و لَا حَولَ و لَا قُوَّةَ إلَّا بِاللهِ العَلِيِّ العَظِيمِ
القرآن الكريم يذكر مطالبه بقاطعيّة و حزم
قال الله الحكيم في كتابه الكريم:
المص ، كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَ ذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ.۱
و يقول تعالى بعد هذه الآية:
اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَ لا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ ، وَ كَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ ، فَما كانَ دَعْواهُمْ إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا إِلَّا أَنْ قالُوا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (و إنّ هذا العذاب و البؤس و النكال، كان جزاءً على أعمالنا و لَحِق بنا بسببها. فقد سبّبنا في الحقيقة هذا الجزاء و الانتقام الذي لحقنا، و هو حصاد ما عملته أيدينا).
و تبيّن هذه الآيات التي أعقبت آية كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ أنّ القرآن مدعاة لطمأنينة القلب، و أنّه يؤدّي إلى طى السبيل المستقيم بلا حرج و لا اعوجاج، و أنّ الحرج و اضطراب الخاطر
و تشويش الحواسّ و القلق و الانهيار العصبيّ و الأفكار الشيطانيّة المضطربة ناشئة بأجمعها من عدم اتّباع هُدى القرآن الذي يقود الإنسان إلى الاتّباع المحض لربّه الكريم، و يحذّره من أيّة متابعة لغيره تعالى:
ثمّ يقول تعالى: فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَ لَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ ، فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَ ما كُنَّا غائِبِينَ.
لا حظوا كيف تؤدّي هذه الآيات المطلب بقاطعيّة تامّة: إنّ هذا القرآن كتاب انزل إليك من ربّك، فينبغي ألّا يكون في قلبك أي حرج أو اضطراب أو شدّة أو قلق! و هذا الكتاب هو كتاب إنذار و إعلام، لتنذر به الناس، و ليكون ذكرى يذكّر المؤمنين بربّهم الجليل.
فيا أيّها المخاطبون بهذا الخطاب، اعلموا أنّ هذا الكتاب قد نزل على النبيّ، إلّا أنّكم جميعاً المخاطبون به فرداً فرداً، و عليكم أن تتّبعوا ما انزل إليكم من ربّكم، و أن لا تتّخذوا من دونه وليّاً و لا نصيراً و لا موضع سرّ! لماذا لا يذكر الله منكم إلّا القليل النادر؟ إنّ عذابنا سيحلّ بالمتمرّدين، و إنّ بأسنا سيصيبهم في حال تنعّمهم و غفلتهم، فلا يجدون مفرّاً إلّا الإقرار بمظالمهم و الاعتراف بتجاوزاتهم.
إن جميع أفراد المخلوقات سواء في نظرنا في هذه الجهة، الأنبياء المرسلون المنذِرون، و المنذَرون الذين ارسِلُوا إليهم. فهم بأسرهم في مرأى منّا و مسمع، و هم جميعاً عبادنا المملوكون مطلق العبوديّة و الملكيّة؛ و هم جميعاً تحت أمرنا و خاضعون لتكليفنا، فلا عيسى يمكنه أن يدّعي الالوهيّة، و لا امّه مريم. و سنسألهم جميعاً، سنسأل الأنبياء عمّا واجهتهم به اممهم. و سنسأل الامم عن أعمالهم مع المُرسَلين و عن مدى إطاعتهم لأوامرهم و إرشاداتهم. و سنقصّ عليهم عن علم و معاينة تامّة، بأنّنا كنّا دوماً حاضرين و ناظرين غير غائبين، و أنّ لنا المعيّة مع جميع الموجودات.
كما نلاحظ أنّ جميع هذه الجمل و العبارات قد صِيغت في قالب الألفاظ بحيث جاءت مع تأكيد لام القسم و نون التأكيد الثقيلة، و أنّها أدّت خطاباتها و مضامينها بقاطعيّة ليس فوقها قاطعيّة.
إن أيّاً من الكتب السماويّة لم يحتوِ على التأكيد بقدر ما احتوى عليه القرآن. و كم بدأت الآيات القرآنيّة بيانها بـ «إنَّ» و «أنَّ» و لام القسم و الجملة الاسميّة! و كم تمتلك آيات القرآن من القاطعيّة! إنّها حيث تتحدّث عن مطلب معيّن، فإنّها تتحدّث عنه بقاطعيّة؛ لكأنّ القاطعيّة كانت هي المادّة الأوّليّة التي صُبّ القرآن في قالبها.
لا حظوا الآيات التالية:
إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ، وَ إِنَّهُ لَهُدىً وَ رَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ، إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ ، فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ ، إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَ لا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ ، وَ ما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ.۱
حيث نرى في هذه الآيات أنّها تعتبر النبيّ - بتأكيدٍ و إبرامٍ كاملين - سائراً على طريق الحقّ المبين، لذا فإنّها تأمره بالتوكّل على ربّه، و أن يقيم أمره على أساس الجدّ. فالكفّار و اليهود لن يقبلوا بكلامه و لن يحكّموا آيات القرآن لتهديهم في رفع اختلافاتهم في التوراة، و هم موتى. أفيمكن إسماع الميّت؟! إنّ من مات قلبه هو ميّت حقّاً. فالميّت الحقيقيّ ليس أحداً إلّاه. فكيف تنتظر من هؤلاء الموتى أن يؤمنوا بك! أو أن يسمعوا لقولك؟ إنّ الميّت ليس له من مُخّ، و لا قلب، و لا مركز إدراك و تفكير.
و هؤلاء صمُّ لا يسمعون؛ و مهما كان الصوت عالياً، و مهما كانت الضجّة و الصخب عاليَين، فإنّ الأصمّ لا يسمع ذلك أبداً، إذ ليس له مركز للسمع.
و هؤلاء عُمي فقدوا مركز الإبصار. أفأنت تريد هدي العُمي على منهاج قويم؟ إنّ هؤلاء عُمي ليس لهم من أعين حقيقةً. فالعُمي الحقيقيّون هم كهذا. و أساساً فينبغي ألّا يُدعي الأعمى جسميّاً بالأعمى، لأنّ الأعمى هو الذي حُجبت أعين بصيرته، فلم يبق له بصيص من نور يهتدى به. و هؤلاء عُميان بتمام معنى الكلمة.
المُبصر هو المؤمن بالله، و السميع هو الذي له آذان قلب صاغية لاستماع آيات الله. و هو الذي يسمع فيخضع في مسيرة العبوديّة و التسليم للحقّ تعالى:
يس ، وَ الْقُرْآنِ الْحَكِيمِ ، إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ، عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ.۱
حيث تعتبر الآيات بقاطعيّة أنّ النبيّ سائر على نهجٍ صائب مستقيم، و أنّه من المرتبطين بعالم الغيب و المتّصلين بالعالم الأعلى و من مرسلي الحقّ جلّ و علا.
قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَ مَنِ اتَّبَعَنِي وَ سُبْحانَ اللَّهِ وَ ما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ.٢
قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ.٣
ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَ يَتَمَتَّعُوا وَ يُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ.۱
فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَ يَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ.٢
فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ.٣
إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَ لكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ.٤
وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَ إِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيا وَ الْآخِرَةَ ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ.٥
يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَ لَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَ إِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَ الْمَطْلُوبُ.٦
لقد ضَعُفَ العابد و المعبود؛ و ضعفتم أنتم الذين تسعون إلى قضاء حوائجكم، و ضعف كذلك الذين تربّعوا على أريكة التصنّع و هم يحسبون أنّهم هم الذين يقضون لكم حاجاتكم.
من معجزات القرآن الكريم إخباره القاطع بالحوادث الآتية
و إحدى قاطعيّات القرآن العظيم تتمثل في إخباره عن الحوادث و الوقائع الآتية، فهو يُخبر عن تلك الوقائع باسلوب حتميّ مسلّم لا يعتريه أدنى ريب، في حالٍ تخلو من أي أثر و أرضيّة لتحقّق تلك الوقائع، بل على
العكس فإنّ إخباره عنها يجري في ظروف و شرائط لها دلالة على خلاف إخبار القرآن.
فحين تجاوز مشركو مكّة الحدّ في إلحاق الأذى برسول الله، فهاجر إلى المدينة وحيداً فريداً غريباً، و ترك مكّة وطنه الذي ألفه بسبب امتناع أقاربه من قريش عن نُصرته، فإنّ الله تعالى يُخبره في تلك الحال:
إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ.۱
و قد نزلت هذه الآية على النبيّ في منطقة الجحفة وسط الطريق بين مكّة و المدينة، و كانت عودة النبيّ إلى مكّة تبدو حينذاك أمراً عسيراً، و لم تتحقّق تلك العودة إلّا بالجهاد و الحرب و فتح مكّة بعد أن بقي في المدينة ثمان سنين. و كان من الممكن أن يُقتَل النبيّ خلال هذه المدّة الطويلة في غزوات بدر و احد و الأحزاب و غيرها، أو أن يموت، أو أن يُهزَم في معركة فتح مكّة. و على أي تقدير، فقد كانت عودة النبيّ إلى مكّة تبدو بعيدة في النظر، و على أقلّ تقدير فقد كان أمر عدم عودته يبدو محتملًا؛ بَيدَ أنّ هذه الآية الكريمة تقول بضرسٍ قاطع. إنّ الله سيُعيدك إلى مكّة حتماً!
كما أنّ القرآن الكريم أخبر عن فتح مكّة في سورة الفتح قبل أن تُفتح فعلًا: إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً ، لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَ ما تَأَخَّرَ.٢
و يقول أيضاً في نفس السورة:
لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ
شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَ مُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً.۱
و قد تحقّق فتحُ مكّة بعد نزول هذه الآيات بسنتين؛ أمّا الفتح الذي سبقه فكان فتح خيبر الذي تحقّق أوائل السنة التي أعقبت نزول هذه الآيات.
و يقول القرآن أيضاً في نفس السورة:
وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ وَ كَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَ لِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَ يَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً ، وَ أُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها قَدْ أَحاطَ اللَّهُ بِها وَ كانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً.٢
و نرى هنا أنّ الله تعالى يعد المسلمين بغنائم كثيرة، الاولى: غنائم معجَّلة ينالونها، و كانت هي غنائم مكّة و حُنين و قبائل أرض الجزيرة العربيّة.
و الثانية: غنائم مملكة إيران و مملكة الروم، التي لم يكن العرب قبل الإسلام قادرين على مجرّد تصوّر الحصول عليها، كما أنّهم كانوا عاجزين عن التفكير في القُدرة على نيلها. لكنّ تلك الغنائم قد صارت في أيديهم ببركة الإسلام و اقتدار الدين المحمّديّ.
تفسير آية: الم ، غُلِبَتِ الرُّومُ ، في أدْنَى الأرْضِ
و إحدى الامور التي أخبر عنها القرآن بقاطعيّة، بحيثّ عُدّ ذلك إخباراً عن الغيب، و اعتبر إحدى معجزات القرآن الظاهرة، هي إخباره عن غلبة الروم على الجيش الإيرانيّ، حيث جاء في سورة الروم:
الم ، غُلِبَتِ الرُّومُ ، فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَ هُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ
سَيَغْلِبُونَ ، فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَ مِنْ بَعْدُ وَ يَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ ، بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ، وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ، يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَ هُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ.۱
و تذكر هذه الآيات قصّة الحرب بين إيران و الروم، و كيف أنّ الإيرانيّين الوثنيّين عبدة النار لمّا كانوا يهزمون الروم المسيحيّين أهل الكتاب، فقد كان مشركو العرب يفرحون و يبتهجون بتفوّق دولة مقتدرة تشترك معهم في دينهم، بينما كان المسلمون - في الجانب المقابل - يغتمّون و يحزنون لأنّ دولة مسيحيّة تشترك معهم في الإيمان بالتوحيد و العمل بكتاب سماويّ قد هُزمت و دُحرت من قِبَل دولة و ثنيّة تدين بعبادة النار.
و على العكس، فحين كانت دولة الروم تتفوّق في الحرب، فإنّ المسلمين كانوا يفرحون و يبتهجون، بينما يحزن - في المقابل - مشركو العرب، لأنّ المسلمين كانوا يرون دولة الروم القويّة التي تُسايرهم في أصل الكتاب و التوحيد ظافرةً منصورة، بينما يرون دولة إيران القويّة التي تدين بعبادة النار مدحورة منكوبة.
حروب كسرى أبرويز مع هرقل إمبراطور الروم
و إجمال القصّة هو أنّ بهرام چوبين تغلّب على كسرى أبرويز سنة ٥٩۰ ميلاديّة، و تمرّد على أمره و ادّعى المُلك لنفسه، فجهّز كسرى و أخواه بَندويه و بَسطام جيشاً جرّاراً مجهّزاً لمحاربته، بَيدَ أنّهم انهزموا أمامه، ففرّ كسرى إلى بلاد الروم، و التجأ لدى قيصر الروم و كان يُدعى موريق (موريسMaurice) ، فرحّب به قيصر كثيراً، و أسبغ عليه أنواع الهدايا
و المجوهرات، و زوّجه ابنته مريم، فعاش إلى كنف قيصر منعّماً مدّة سنة و نصف السنة.
ثمّ إنّ موريق بعث ابنه الأكبر بناطوس على رأس جيش من سبعين ألف أو مائة ألف جنديّ إلى إيران يصحبهم كسرى، فحاربوا بهرام و انتصروا عليه، ففرّ بهرام إلى الصين و التحق بالخاقان، حتى قُتل على يد زوجة الخاقان.
و قد أحسن كسرى ضيافة بناطوس و جنوده الروميّين بعد استقرار سلطانه، و سيّرهم إلى بلاد الروم مع هدايا و تحف كثيرة.
و بعد هذه القضيّة بأربع عشرة سنة، قتل الروم موريق و ابنه بناطوس و ادّعى المُلك شخص يُدعى فُكاس (قوفا)، فجاء ابن موريق الآخر إلى إيران و طلب من خسرو برويز أن يُعينه على استرجاع المُلك، فأرسل كسرى برويز ثلاثة من قادة جيشه المعروفين لاسترجاع تاج و عرش موريق، و جهّزهم بالعُدّة و العدد.
و قد تحرّك أوّل القادة الثلاثة، و اسمه رميوزان إلى الشام و فلسطين، فأغارعلي تلك الديار و دمّرها و سيطر على جميع نواحيها، ثمّ استعان بستّة و عشرين ألف يهوديّ على محاصرة بيت المقدس و فتحها، و أرسل الصليب الأكبر إلى إيران، أي الصليب الحقيقيّ الذي يقولون إنّهم صلبوا عليه عيسى، و كانوا قد وضعوه في صندوق ذهبيّ و دفنوه تحت الأرض للمحافظة عليه.
كما تحرّك القائد الثاني شاهين إلى مصر و الإسكندريّة، فاحتلّها، و فتح النوبة بكاملها، و أرسل مفتاح الإسكندريّة إلى إيران.
أمّا القائد الثالث شهر بَراز فتحرّك إلى الروم و قسطنطينيّة،۱ ففتح بلاد الروم بأسرها و حاصر القسطنطينيّة و وصل إلى الخليج. و ألحق بالروم هزيمة ساحقة في كالسِدون قرب القسطنطينيّة في سنة ٦۱۷ ميلاديّة.
و قد قتل الروم في تلك الفترة قوفا، و كان رجلًا عابثاً فاسداً، و عاد هِرْقِل (هراكليوس) إلى بلاد الروم من إفريقيا عن طريق البحر، فاستقبله الناس و جعلوه ملكاً عليهم، و كان هرقل مؤمناً بالمسيح، و كان في انزعاج من دمار البلاد و وقوعها بيد الإيرانيّين المجوس.
و قد أرسل هرقل سفيراً إلى كسرى أبرويز و أعلمه برغبته في الصلح، إلّا أنّ مباحثاتهما لم تسفر عن شيء، فقد جعلت الفتوحات الكبيرة كسرى مغروراً متكبّراً، فلم يكن حاضراً للبحث في أمر الصلح، بل إنّه هدّد السفير بالقتل و ألقاه في السجن لأنّه لم يأته بهرقل مكبّلًا بالأغلال أمام عرشه.٢
ثمّ إنّ كسرى أبرويز فتح كالسدون، فبلغت حدود إيران الحدود التي كانت عليها في زمن الهخامنشيّين.
و قد تردّد في أرجاء العالم صدى غلبة الفرس للروم، و كان لها ضجّة كبيرة، فقد كان العالم قد سقط بيد رجل قويّ ليس له مَن ينافسه، و كان مشركو مكّة يشمتون بالمسلمين و يؤمّلون أنفسهم بهزيمة محمّد صلّى الله عليه و آله و أتباعه، فقد كان جنوب بلاد الحجاز خاضعاً للإيرانيّين، و كان جمع كثير من الإيرانيّين يقيمون في اليمن منذ أن أخرج أنوشيروان الحبشةَ منها. و كانت تلك الناحية تُدار من قبل عامل أنوشيروان و يُدعى باذان، و كانت بلاد الحجاز - بما فيها مكّة و المدينة - خاضعة لحكومتهم.
و قد أحزنت هزيمة الروم رسول الله و المؤمنين، و أفرحت المشركين، و كان ذلك في السنة الثامنة لبعثة رسول الله، قبل الهجرة بخمس سنين، سنة ثمانية و أربعين من عام الفيل، أي سنة ٦۱۷ و ٦۱۸ الميلاديّة؛ فنزلت على النبيّ الآيات. الم ، غُلِبَتِ الرُّومُ ، فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَ هُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ ، فِي بِضْعِ سِنِينَ.
و حين نزلت الآيات و قرأها المؤمنون، فإنّها لم تكن قابلة للتصديق من قِبل المشركين، فقد كانت إيران بقدرتها و عظمتها و جيوشها قرينة الظفر و الغلبة و النصر مدّة خمس عشرة سنة متوالية، أي منذ سنة ٦۰٣ الميلاديّة.۱ حتى ذلك الحين، و كان الأمر قد استتبّ لها بهذه الهزيمة
النهائيّة للروم. و كانت خزائن إيران و ثروتها في ذلك الوقت قد فاقت الحصر و الإحصاء، فقد كان لكسرى أبرويز مائة كنز أحدها كنز جاءت به الريح،۱ و كان فيها كنز اخذ كغنيمة من خاقان تركستان، و كان عبارة عن ٢٥٦ حمل بعير من الذهب و المجوهرات النفيسة. و كان أحد كنوزه عبارة عن ٣٤۸ مليون مثقال من الذهب. و كان رصيده من المال في السنة الثلاثين من حكمه - على الرغم من الحروب الطويلة ذات النفقات الكبيرة التي خاضها - يبلغ ۱٦۰۰ مليون مثقال من الذهب. و كانت مصر قد سقطت بيده بعد تسعمائة سنة فكان سلطانه يمتدّ من حدود الصين إلى نهاية أرض مصر. و كان قد حارب الروم أربع عشرة سنة دون أن يُهزم أبداً.٢
و كان الروم - في المقابل - في غاية الضعف و الوهن، فقد خسروا جميع البلاد التي حكموها و لم يبقَ في أيديهم سوى شبه جزيرة القسطنطينيّة. و كان البلغاريّون يهاجمونها من الشمال، و لم يكن لها من ثروة و لا خزينة.
تكذيب المشركين لخبر غلبة الروم على إيران
و كان خبر تغلّب الروم على الإيرانيّين ممتنعاً بلحاظ الأسباب الظاهريّة، و كان ذلك الخبر أمراً لا يُصدّق من جميع الجهات بالنسبة إلى الكفّار و المشركين، لذا فقد كذّبوا هذا الخبر القرآنيّ أيضاً، و حملوه على سائر ادّعاءات محمّد صلّى الله عليه و آله.۱
و جاء في الأثر أنّ هذه الآية لمّا نزلت و فيها وعد بغلبة الروم في بضع سنين، قام امَيّة بن خَلف - و كان من أعداء رسول الله و من المشركين المعاندين - فقال لأبي بكر مستهيناً: إنّه لوعدٌ مكذوب، و سترى أنّه لن يكون.
فقال أبوبكر: اراهنك على ذلك على عشر قلائص، فإن ظهرت الروم على فارس غرمتَ، و إن ظهرت فارس غرمتُ، إلى ثلاث سنين! فلمّا بلغ رسولَ الله صلّى الله عليه و آله الخبر، قال: زايده في الخطر و مادّه في الأجل، لأنّ البِضْع من الثلاث إلى التسع.
فزاد أبوبكر مقدار الرهان إلى مائة قلوص، و زاد في الأجل.
و قد اعتبر العلّامة الطباطبائيّ قدّس الله سرّه و محمّد حسنين هيكل أدْنَى الأرْضِ أقرب مناطق الروم إلى أرض الحجاز، و هي أذرِعات و بُصرَى؛ أمّا مشير الدولة حسن بيرنيا فاعتبر أنّ ذلك في كالسدون قرب القسطنطينيّة.
و يظنّ الحقير أنّ كلام بيرنيا أقرب إلى الصواب؛ أوّلًا: لأنّ فتح أذرعات و بصرى (و هي من مناطق الشام الجنوبيّة) حدث قبل ذلك بكثير، و ربّما حصل في سنوات ٦۱٢ و ٦۱٣ ميلاديّة، فيكون الفاصل بين ذلك و بين غلبة الروم و خاتمة الحرب التي حصلت في سنة ٦٢٥ اثنتي عشرة أو ثلاث عشرة سنة، بينما تنصّ الآية المباركة أنّ المدّة بين هذين الانتصارين أقلّ من عشر سنين.
و ثانياً: أنّ هزيمة الروم في أذرعات الواقعة بين المدينة و بلاد
الشام، و البعيدة جدّاً عن روما و القسطنطينيّة ينبغي ألّا تُعدّ هزيمةً للروم، خلافاً لـ «كالسدون» الواقعة قرب العاصمة، حيث إنّ الهزيمة هناك تعتبر هزيمة حقيقيّة.
أجل، فقد كان المؤمنون يترقّبون انتصار الروم وفقاً للوعد القرآنيّ، فلننظر ما الذي حلّ بالروم.
إنجاز الوعد الالهيّ بغلبة الروم في بضع سنين
بعد سقوط أرض الروم بيد حكومة إيران، عانى الروم المسيحيّون الأمرّين، حتى أنّ النجاشيّ - و كان مسيحيّاً - نذر إن حرّر الله أرضه من أيدي الفُرس، لَيَذهبنَّ من إفريقيا لزيارة بيت المقدس ماشياً. و قد وفى بنذره بعد انتصار الروم، فكانت البُسط تُفرش أمامه على الأرض، فتُنثر عليها الورود و الرياحين، فيسير النجاشيّ عليها.
أمّا هرقل فقد وجد نفسه محاصراً بين الفرس و البلغار، فأراد في بداية الأمر أن يفرّ من العاصمة إلى قَرطاجنة - و هي إحدى مدن إفريقيا، و تقع قرب الجزائر - فحمل خزانة الروم من القسطنطينيّة بهذا القصد. بَيدَ أنّ الخزانة سقطت بيد الملك خسرو برويز، فُدعيت بـ «الكنز الذي جاءت به الريح».
ثمّ إنّ رجال الدين المسيحيّين و باقي الناس ضجّوا إلى هرقل، و تقرّر أن يجري إنفاق نفائس الكنائس في إعداد معسكرات الجيش و تغطية نفقات الحرب، على أن تُعاد تلك الأموال بعد الحرب مع فوائدها.
و لم يكن قد بقي من إمبراطوريّة الروم غير مدينة القسطنطينيّة و جزءاً من اليونان و إيطاليا و عدّة مدن إفريقيّة.
و رفع هرقل يده بالدعاء و التضرّع إلى الله تعالى، ثمّ تحرّك بجيشه فعبر مضيق الدردنيل في سنة ٦٢٢، فدارت بينه و بين شهر براز حربٌ قرب إرمينية انتهت بنصر هرقل.
ثمّ إنّ هرقل اتّحد في السنة التالية مع سكّان المناطق الشماليّة للخزر، وعبّأ جيشاً من لازيكا متّجهاً إلى إيران، فَخفّ خسرو برويز للقائه في جيش من أربعين ألف نفر، فالتقيا في آذربايجان، فانتصر هرقل.
ثمّ إنّه توجّه إلى المدن الإيرانيّة، فخرّب معابد النيران، و كان ذلك سنة ٦٢٣، فدمّر أكبر معبد للنار يُدعى آذر گُشنَسب، و أعاد صليب عيسى إلى بيت المقدس. و قد استعاد الروميّون خلال هذا التقدّم منطقةَ كالسدون.
ثمّ جهّز هرقل في السنة التالية جيشاً قوامه سبعون ألف جندي، فعبر نهر دجلة، فقتل راهزاد القائد الإيرانيّ مع ستّة آلاف جندي، و انهزم ستّة آلاف آخرون.
و كان راهزاد قد كتب إلى كسرى أبرويز يقول: إنّ عدد الجيش الروميّ سبعون ألف جندي، و ليس بإمكاني مواجهتهم! فكتب كسرى في جوابه. لكنّ بإمكانك أن تقاتلهم و تسفك دمك في طاعتي!
و الخلاصة، فقد حلّت الهزيمة النهائيّة بالجيش الإيرانيّ سنة ٦٢٥، ففرّ كسرى من محلّ سلطنته إلى المدائن فتحصّن فيها من ضعفه. و كان يريد إعداد جيش لمهاجمة هرقل حين عاد هرقل مظفّراً إلى روما.
و قد حصلت هذه الهزيمة العظيمة و غير المترقّبة للفُرس في السنة الثانية للهجرة في يوم غزوة بدر، فكان للمسلمين في ذلك اليوم فرحتان. الاولى ظفرهم بأعدائهم من قريش و انتصار الإسلام على الكفر؛ و الثانية انتصار الروم على فارس و انتصار المسيحيّين على عبدة النار الذي وصلهم نبأه فيما بعد.
و كانت الفترة الزمنيّة بين غلبة إيران للروم في كالسدون في ٦۱۷ ميلاديّة، و غلبة الروم للإيرانيّين في ٦٢٥، هي ثمان سنوات، و هي أقلّ من
عشر سنوات.۱
و قد أخذ أبوبكر القلائص المائة التي راهن عليها امّية بن خلف من ورثته، فقد كان اميّة متوفّى آنذاك. و قيل: إنّ الرهان لم يكن محرّماً في الإسلام حتى ذلك الوقت، فقد أقرّ النبيّ رهان أبي بكر في مكّة المكرّمة، ثمّ حُرّم الرهان بعد ذلك بكلّ أنواعه.
فقد نقل أعاظم المفسّرين و المؤرّخين قصّة الآية المباركة، و حكم القرآن القاطع بغلبة الروم، و قد نقلنا في هذا المجال مقتطفات من أقوال استاذنا الفقيد سماحة العلّامة آية الله الطباطبائيّ،٢ و محمّد حسنين هيكل،٣ و ابن الأثير الجزريّ،٤ و الطبري،٥ و المير خواند،٦
و خواند أمير،۱ و بيرنيا،٢ و لم يخرج مجموع المطالب التي ذكرناها عن كلماتهم.
و قد ذكر سماحة العلّامة الطباطبائيّ قدّس الله رمسه عدّة مطالب، ذيل آية وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ، يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَ هُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ، التي نزلت بعد البشارة بغلبة الروم، يمكن أن تُستنتج منها ثلاث نكاتٍ دقيقة و بديعة.
الاولى: أنّ هذه الغلبة قد تحقّقت على أساس الوعد الإلهيّ المستند إلى مشيئة الله و إرادته. أمّا أكثر الناس فلا يُدركون الارتباط بين الباطن و الظاهر، و يجهلون حقائق الباطن و وعد الحقّ المتعالي و إيعاده.
الثانية: أنّ الناس يعلمون ظاهراً من الأسباب و المسببات و علل العالم و معلولاته، أمّا عن الآخرة التي هي باطن الدنيا و حقيقتها فليس لهم علم بذلك.
و الثالثة: أنّ علم الناس للُامور الظاهريّة و لعلوم الحياة الدنيويّة هو بعينه عدم العلم. فلا يمكن في الحقيقة إطلاق لفظ العلم على معارفهم، إذ العلم منحصر بالعلوم الاخرويّة و بالمعارف التي تربط بين الدنيا و الآخرة، و بين الظاهر و الباطن. فلهذا أعقبت جملةُ يَعْلَمُونَ جملةَ لَا يَعْلَمُونَ و كانت بدلًا منها.
و الخلاصة، فقد تكلّمنا بتفصيلٍ ما في هذا الإخبار القرآنيّ القاطع في الآية المباركة المذكورة، لأنّ إخبار القرآن عن الغيب هو أمر لم يرد الشكّ
فيه، و لم يحتمل أحد خلافه، و قد أقرّ جميع المفسّرين و المؤرّخين، و حتى أعداء القرآن بأمر قاطعيّة القرآن في هذه الآية الكريمة المباركة.
آيات القرآن الكريم القاطعة في الإخبار بالغيب
و انظروا أيضاً إلى الآيات التالية كيف تحكم بالأمر على نحو القطع و اليقين:
أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ ، سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَ يُوَلُّونَ الدُّبُرَ.۱
وَ لَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى (عذاب الدنيا) دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ.٢
حيث إنّ المراد بالعذاب الأدنى هنا، هو العذاب في الدنيا من حرب و جرح و قتل و أسر، مقابل عذاب البرزخ، لأنّ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ قرينة لهذا المعنى. و لو كان العذاب الأدنى أحد أنواع العذاب البرزخيّ أو حين الاحتضار، لما كان من أمل بالرجوع عن الذنب، لأنّ الأمر سيكون ممّا لا رجعة فيه.
وَ لَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ ، إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ ، وَ إِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ، (بما أنّه لم يَحِنْ ذلك الزمن بعدُ) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ ، وَ أَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (ماذا سيحلّ بهم).٣
وَ إِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذاباً دُونَ ذلِكَ وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ.٤
إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ ، سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ٥ (فيبقى أثره واضحاً على الدوام).
و هذه الآيات عائدة إلى الوليد بن المُغيرة، و كان من المشركين و من أعداء رسول الله، و قد نزلت هذه الآيات في مكّة، و كان إذا تُليَت عليه آياتُ القرآن قال: ليس في الأمر من جديد، فهذا كلّه من أساطير الأوّلين. و يقول الله تعالى: إنّنا سنسمه على خُرطومه أي على أنفه، وسماً يبقى و لا يزول.
و قد جاء هذا الرجل في وقعة بدر التي وقعت قرب المدينة في السنة الثانية للهجرة، ليحارب النبيّ مع المشركين، فهوى سيفٌ من سيوف المسلمين على أنفه، فبقي وسمه و أثره إلى آخره عمره. ۱
و هذه الآية من آيات سورة ن وَ الْقَلَمِ التي نزلت في بداية البعثة، و بينها و بين غزوة بدر أربع عشرة أو خمس عشرة سنة. و كان الوليد بن المُغيرة أحد الرجلين العظيمين اللذين كان المشركون يقولون. لِمَ لَم ينزل القرآن على أحد هذين الرجلين العظيمين (الوليد بن المغيرة و عُروة بن مسعود الثقفيّ)، و أوّلهما في مكّة و الثاني في الطائف؟
و هو الذي جاء وصفه في سورة المُدَّثِّر التي نزلت أيضاً أوائل بعثة رسول الله في مكّة، حيث استمع الوليد إلى رسول الله و هو يتلو آيات القرآن، فاستمهل قومه ثلاثة أيّام ليفكّر، ثمّ جاءوه بعد ثلاث فقال: إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ۱ (بحيث يؤثّر في النفوس هذا التأثير القويّ).
عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى وَ آخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَ آخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ.۱
و قد نزلت هذه الآية في مكّة المكرّمة في بداية البعثة؛ و لم تحصل أيّة حرب خلال مدّة ثلاث عشرة سنة التي عاش فيها رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم في مكّة، بل وقعت الحروب و الغزوات بعد الهجرة إلى المدينة.
فكيف يخبر القرآن عن الغيب بمثل هذه القاطعيّة التامّة، فيُخبر عمّا سيؤول إليه حال المسلمين بعد هذه السنوات المتمادية؟
لقد افتقد رسول الله الناصر و المعين في بداية البعثة في مكّة، و كان المؤمنون في منتهى الضعف. لذا فقد صدر هذا الإخبار القرآنيّ دون أيّة أرضيّة و مقدّمة أوّلًا؛ و كان يمكن أن يُقتَل النبيّ قبل أن تقوى شوكة المسلمين أو يحلّ أجلُه فلا ينال الجهاد ثانياً. بَيدَ أنّ القرآن يُخبر بقاطعيّة و ثبات أشبه بثبات الجبل الراسخ عن حياة النبيّ و جهاد المسلمين بعد الهجرة.
لَهُمْ عَذابٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ لَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَ ما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ واقٍ.٢
و هذه الآية مكّيّة أيضاً، لأنّها من آيات سورة الرعد، و هي من السور المكّيّة؛ و الله تعالى يوعد المستهزئين برسول الله في هذه الآية بالحرب و القتل و الإصابة بالجراح و بالنكبة التي ستحلّ بهم.
أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَ يَكْشِفُ السُّوءَ وَ يَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ
الْأَرْضِ.۱ (هو اللائق بالعبادة، أم من تشركون به).
و هذه الآية الكريمة المباركة من آيات سورة النمل، و هي من السور التي نزلت في مكّة، و هي تعد المسلمين بالحكومة و الخلاص من ذلّ مكّة و أذى أهلها.
وَ قُلْ جاءَ الْحَقُّ وَ زَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً.٢
و هذه الآية الشريفة في سورة الإسراء، و هي أيضاً من السور المكّيّة. وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَ لَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَ لَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً.٣
و هذه الآية صريحة في أنّ الله تعالى سيمنّ على المؤمنين بقدرة و حكومة في الأرض، ليشكّلوا دولة كدولة الساسانيّين و الهخامنشيّين و الروم و أهل بابل و كلدة، بل أعلى و أهمّ. و قد تحقّق هذا الوعد، و صارت حكومة المسلمين و اقتدارهم لا مثيل لهما في العالم، و نحن في انتظار الدولة الحقّة لقائم آل محمّد عليهم السلام التي ستتحقّق في المستقبل إن شاء الله تعالى، و هي دولة أعلى و أكثر نزاهة.
هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَ دِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَ لَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ.٤
و الآيات من هذا القبيل كثيرة في القرآن الكريم. و لو اطّلع المرء
على تأريخ الإسلام، و خاصّة على فترة بعثة رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم في مكّة، لعلم جيّداً أنّ قاطعيّة آيات القرآن الكريم ليست قابلة للوصف بأيّ وجه من الوجوه مع الظواهر التي تتمثل بغلبة الكفّار و المشركين و أذاهم لرسول الله و للذين آمنوا. و قد اشتهرت طائفة من المؤمنين برسول الله من أمثال خَبّاب بن أرَتّ و بَلال بن رِباح و أب عمّار ابن ياسر بالمعذَّبين، حيث ذاقوا صنوف العذاب في مكّة على أيدي الكفّار بجرم إسلامهم.
و يذكر التأريخ فصلًا خاصّاً للمحاصرة الاقتصاديّة و السياسيّة و الاجتماعيّة التي طبّقها المشركون في حقّ رسول الله و المسلمين حين حاصروهم في شِعب أبي طالب ثلاث سنين. كما أنّ هجرة المسلمين إلى الحبشة و إقامتهم المديدة فيها تحتلّ فصلًا آخر في تأريخ الإسلام.
كلام المؤرّخين الأجانب في إيمان نبيّ الإسلام بما كان يقوله
و يعتقد أغلب المستشرقين الذين بحثوا و تعمّقوا في أحوال نبيّ الإسلام و تأريخ دعوته و تأريخه - حيث ألّفوا كتباً و رسائل في هذا المجال - أنّ النبيّ الأكرم كان يؤمن بما يقول إيماناً راسخاً، و أنّه كان يعتقد حقّاً بأنّه صاحب وحي و ارتباط بالملائكة، و أنّه كان يتحرّك حسب ما يُمليه عليه إيمانه بوظيفته و واجبه.
صبر رسول الله على الأذى و احتماله لتكذيب الكفّار و استهزائهم
يقول الشيخ محمّد عبده ذيل الآية المباركة:
آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَ الْمُؤْمِنُونَ.۱
«أي صدّق الرسول بما انزل إليه في هذه السورة و غيرها من العقائد و الأحكام و السنن و البيّنات و الهدى تصديقَ إذعانٍ و اطمئنان، و كذلك المؤمنون من أصحابه عليهم الرضوان. و قد شهد لهم بهذا الإيمان أثره في
نفوسهم الزكيّة وهممهم العالية و أعمالهم المرضيّة، و الله أكبر شهادةً».
ثمّ يقول: «و قد اعترف كثيرٌ من علماء الإفرنج الباحثين في شؤون المسلمين و علومهم و سائر شؤون امم الشرق بأنّ النبيّ صلّى الله عليه [و آله] و سلّم كان على اعتقادٍ جازم بأنّه مُرسَل من الله و مُوحي إليه، و كانوا من قبل متّفقين على أنّه ادّعى الوحي لأنّه رآه أقرب الطرق لنشر حكمته و الإقناع بفلسفته، أو لنيل السلطة و هو غير معتقدٍ به».۱
و يؤيّد جُرجي زيدان المسيحيّ هذا القول، فيقول:
«زعم بعض الكتّاب من غير المسلمين أنّ صاحب الشريعة الإسلاميّة إنّما قام بهذه الدعوة طمعاً بالسيادة و رغبةً في ملاذ الدنيا.
و أمّا نحن فلا نرى مسوّغاً لهذا القول: و تأريخ الدعوة يدلّ دلالة صريحة على أنّه إنّما قام بها عن صدق و إخلاص، فلم يدعُ الناس إلى الإسلام إلّا و هو يعتقد اعتقاداً متيناً بصحّة رسالته، و أنّ الله أرسله لبثّ تلك الدعوة. و لولا هذا الاعتقاد، لم يصبر على ما ناله من الاضطهاد و ضروب العذاب».
إلى أن يصل إلى قوله بعد بيان المحن التي واجهها النبيّ:
«فتتابعت بموتهما (يقصد موت خديجة و أبي طالب» المصائب عليه، و استبدّت به قريش، و لا سيّما عمّه أبولهب و الحكم بن العاص، و عُقبة بن أبي مُعَيط لأنّهم كانوا جيرانه بمنزله، فكانوا يُلقون الأقذار في طعامه، و يرمونه بها وقت صلاته. حتى إذا لم يعد يستطيع صبراً على هذا الضيم، فرّ إلى الطائف لعلّه يلقى بها مَن ينصره و يؤمن بدعوته، فلم يلقَ إلّا
الإعراض و الإهانة، فعاد و قد يئس منهم، لكنّه لم يرجع عن حرفٍ من دعوته. و لم يكتفِ أهلُ الطائف بإعراضهم عنه، بل أغروا بعض سفهائهم و عبيدهم أن يسبّوه و يصيحوا به ففعلوا، حتى اجتمع عليه الناس و ألجأوه إلى الحائط و ردّوا السفهاء عنه فرجعوا، فأحسّ عندئذٍ بما هو فيه من الضيق، فشكا أمره إلى الله و عاد إلى مكّة و لم يغيّر ذلك شيئاً من عزيمته، فلقيه قومُه هناك و هم أشدّ وطأةً عليه ممّا كانوا من قبل.
فاعتبر حاله بعد ذلك الرجوع و قد نبذه الناس قريبهم و بعيدهم، مع علمه أنّه إذا رجع عن عودته لقي منهم ترحاباً و إكراماً كما صرّحوا له جهاراً، لكنّه لم يكترث بشيءٍ من ذلك و لا همّه أمر الدنيا.
فلولا اعتقاده المتين بصدق الدعوة التي قام بها، و أنّه مُنتدب لهذه الرسالة من قِبل الله سبحانه و تعالى، لما صبر على كلّ ذلك».۱
أذى أهل الطائف لرسول الله
و قصّة ذهاب رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم إلى الطائف و المرارات و المحن التي عادت عليه من سفر ممّا يهزّ الإنسان و يزلزله.
نقل الطبريّ في تاريخه. «و كان رسول الله صلّى الله عليه [و آله] و سلّم يدعو الناس إلى الله في مكّة جهراً و علانية، و كان يصبر على أذاهم و تكذيبهم و استهزائهم، حتى أنّ أحد الكفّار طرح عليه صلّى الله عليه [و آله] و سلّم رَحِم شاة و هو يصلّى، و كان أحدهم يطرحها في بُرْمته٢ إذا نُصبت له: فكان رسول الله صلّى الله عليه [و آله] و سلّم إذا طرحوا عليه ذلك الأذى، يخرج به على العود، فيقف به على بابه (أي باب الذي ألقاه عليه، و كانوا من جيرانه أو أقاربه) ثمّ يقول:
يَا بَنِي عَبْدِ مُنَافٍ!۱ أي جِوَارٍ هَذَا؟!
ثمّ إنّ خديجة و أبا طالب هلكا في عامٍ واحد، و كان ذلك قبل الهجرة بثلاث سنوات. و كان في موتهما مصيبة عظمى لرسول الله، إذ إنّ قريشاً وصلوا من أذاه بعد موت أبي طالب إلى ما لم يكونوا يصلون إليه في حياته منه؛ حتى نثر بعضُهم على رأسه التراب ....
[و] لمّا نثر ذلك السفيه الترابَ على رأس رسول الله صلّى الله عليه [و آله] و سلّم، دخل رسولُ الله صلّى الله عليه [و آله] و سلّم بيته و التراب على رأسه، فقامت إليه إحدى بناته تغسل عنه التراب و هي تبكي، و رسول الله صلّى الله عليه [و آله] و سلّم يقول لها: يَا بُنَيَّةُ لَا تَبْكِي؛ فَإنَّ اللهَ مَانِعٌ أبَاكِ!
و يقول رسول الله صلّى الله عليه [و آله] و سلّم: مَا نَالَتْ مِنِّي قُرَيْشٌ شَيْئاً أكْرَهُهُ حتى مَاتَ أبُوطَالِبٍ.٢
و لما هلك أبو طالب خرج رسول الله صلّى الله عليه [و آله] و سلّم إلى الطائف يلتمس من ثقيف النصر و المنَعة له من قومه؛ و ذُكِر أنّه خرج إليهم وحده؛ فحدثّنا ابن حميد، قال: حدّثنا سلمَة، قال: حدّثنا ابن إسحاق قال: حدّثني يزيد بن زياد، عن محمّد بن كعب القرظيّ، قال: لما انتهى رسول الله صلّى الله عليه [و آله] و سلّم إلى الطائف عَمَد إلى نفرٍ من ثَقيف - هم يومئذٍ سادة ثقيف و أشرافهم، و هم إخوة ثلاثة. عبد ياليل بن عمرو ابن عمير، و مسعود ابن عمرو بن عمير، و حبيب بن عمرو بن عمير؛ و عندهم امرأة من قريش من بني جُمَح. فجلس إليهم - فدعاهم إلى الله و كلَّمهم بما جاء لهم من نصرته على الإسلام، و القيام معه على مَن خالفه من قومه، فقال أحدهم. هو يمرُط۱ ثياب الكعبة إن كان الله أرسلَك! و قال الآخر. ما وجد الله أحداً يرسله غيرك! و قال الثالث: و الله لا أكلّمك كلمةً أبداً؛ لئن كنتَ رسولًا من الله كما تقول؛ لأنتَ أعظمُ خطراً من أن أردّ عليك الكلام؛ و لئن كنتَ تكذب على الله ما ينبغي لي أن أكلّمك!
فقام رسول الله صلّى الله عليه [و آله] و سلّم من عندهم، و قد يئس من خيرِ ثقيف؛ و قد قال لهم - فيما ذكر لي-: إذْ فَعَلْتُم مَا فَعَلْتُمْ فَاكْتِمُوا عليّ. و كره رسول الله صلّى الله عليه [و آله] و سلّم أن يبلُغَ قومه عنه، فيُذئرهم٢
ذلك عليه، فلم يفعلوا و أغروا به سفهاءهم و عبيدهم، يسبّونه و يصيحون به؛ حتى اجتمع عليه الناس و الجأوه إلى حائط۱ لعتْبة بن ربيعة و شيبة بن ربيعة، و هما فيه، و رجع عنه من سفهاء ثَقيفٍ مَن كان يتّبعه، فعمد إلى ظلَّ حَبَلةٍ٢ من عنب، فجلس فيه، و ابنا ربيعة ينظران إليه، و يريَان ما لقي من سفهاء ثقيف. و قد لقي رسول الله صلّى الله عليه [و آله] و سلّم - فيما ذكر لي - تلك المرأة من بني جُمح، فقال لها: مَاذَا لَقِينا مِنْ أحْمَائِكِ! فلمّا اطمأنّ رسول الله صلّى الله عليه [و آله] و سلّم، قال - فيما ذكر لي-: اللَهُمَّ إلَيْكَ أشْكُو ضَعْفَ قُوَّتِي، وَ قِلَّةَ حِيلَتِي، وَ هَوَانِي على النَّاسِ؛ يَا أرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، أنتَ رَبُّ المُسْتَضْعَفِينَ، وَ أنْتَ رَبِّي، إلى مَن تَكِلُنِي! إلى بَعِيدٍ يَتَجَهَّمُنِي، أوْ إلى عَدُوٍّ مَلَّكْتَهُ أمْرِي؛ إنْ لَمْ يَكُنْ بِكَ عليّ غَضَبٌ فَلَا ابَالِي! وَلَكِنَّ عَافِيَتَكَ٣ هِيَ أوْسَعُ لِي. أعُوذُ بِنُورِ وَجْهِكَ الذي أشْرَقَتْ لَهُ الظُّلُمَاتُ، وَ صَلَحَ عَلَيْهِ أمْرُ الدُّنْيَا وَ الآخِرَةِ، مِنْ أنْ يَنْزِلَ بِي غَضَبُكَ، أوْ يَحِلَّ عليّ سَخَطُكَ، لَكَ العُتْبَي حتى تَرْضَى، لَا حَوْلَ وَ لَا قُوَّةَ إلَّا بِكَ.
فلما رأي ابنا ربيعة: عُتبة و شَيْبة ما لقي، تحرّكت له رحِمهما، فدعوا له غلاماً لهما نصرانيّاً؛ يقال له عدّاس، فقالا له: خذ قِطفاً٤ من هذا العنب
وضعه في ذلك الطَّبَق، ثمّ اذهب به إلى ذلك الرجل، فقل له يأكل منه؛ ففعل عدّاس، ثمّ أقبل به حتى وضعه بين يدي رسول الله صلّى الله عليه [و آله] و سلّم، فلمّا وضع رسول الله صلّى الله عليه [و آله] و سلّم يده، قال: بسم الله، ثمّ أكل.
فنظَر عدّاس إلى وجهه، ثمّ قال: و الله إنّ هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلدة.
قال له رسول الله صلّى الله عليه [و آله] و سلّم: و مِن أهل أي البلاد أنت يا عدّاس؟ و ما دينك؟ قال: أنا نصرانيّ، و أنا رجلٌ من أهل نينوى.
فقال له رسول الله صلّى الله عليه [و آله] و سلّم: أمِن قرية الرجل الصالح يونس بن مَتّى؟
قال له: و ما يدريك ما يونس بن متّى؟
قال رسول الله صلّى الله عليه [و آله] و سلّم: ذاك أخِي، كان نبيّاً و أنا نبيّ، فأكبّ عدّاس على رسول الله صلّى الله عليه [و آله] و سلّم يقبّل رأسه و يديه و رجليه، قال: يقول ابنا ربيعة أحدهما لصاحبه: أمّا غلامك فقد أفسده عليك.
فلما جاءهما عدّاس قالا له: ويلك يا عدّاس! مالك تقبِّل رأس هذا الرجل و يديه و قدميه!
قال: يا سيِّدَي ما في [هذه] الأرض خيرٌ من هذا الرجل! لقد خبّرني بأمر لا يعلمه إلّا نبيُّ.
فقالا: ويحك يا عدّاس! لا يصرفنّك عن دينك، فإنّ دينَك خيرٌ من دينه.
استماع الجنّ لآيات القرآن عند عودة رسول الله من الطائف
ثمّ إنّ رسول الله صلّى الله عليه [و آله] و سلّم انصرف من الطائف
راجعاً إلى مكّة حين يئس من خبرِ ثقيف، حتى إذا كان بنخلة،۱ قام من جَوْف الليل يصلّي، فمرّ به نفرٌ من الجنّ الذين ذكر الله عزّ و جلّ و هم سبعة نفر من جنّ أهل نَصيبين اليمن. فاستمعوا له، فلمّا فرغ من صلاته ولَّوا إلى قومهم مُنذرين، قد آمنوا و أجابوا إلى ما سمعوا، فقصّ الله عزّ و جلّ خَبَرهم عليه: وَ إِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ، إلى قوله: وَ يُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ.٢ و قال: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ ...٣ إلى آخر القصّة من خبرهم في هذه السورة.
و تسمية النفر من الجنّ الذين استمعوا الوحي: حسّا، و مسّا، و شاصر، و ناصر، و اينا الأرد، و أينين، و الأحقم.
ثمّ قدمِ رسول الله صلّى الله عليه [و آله] و سلّم مكّة، و قومُه أشدّ ما كانوا عليه من خلافه و فراق دينه، إلّا قليلًا مستضعفين ممّن آمن به.
و ذكر بعضُهم أنّ رسولَ الله صلّى الله عليه [و آله] و سلّم لمّا انصرف من الطائف مريداً مكّة مرّ به بعض أهل مكّة، فقال له رسول الله صلّى الله عليه [و آله] و سلّم: هل أنت مبلّغ عنّي رسالة ارسِلك بها؟ قال: نعم.
قال: ائت الأخْنَس بن شَريق، فقل له: يقول لك محمّد: هل أنت مجيري حتى أبلِّغَ رسالة ربّي؟
قال: فأتاه، فقال له ذلك فقال الأخْنَس: إنَّ الحَلِيفَ لَا يُجِيرُ على الصَّرِيحِ.
قال: فأتى النبيّ صلّى الله عليه [و آله] و سلّم: فأخبره.
قال: تعود؟ قال: نعم.
قال: ائت سُهَيْل بن عمرو، فقل له: إنّ محمّداً يقول لك: هل أنت مجيري حتى أبلِّغ رسالات ربّي؟
فأتاه فقال له ذلك، قال: فقال: إنَّ بَني عَامِر بْنِ لُؤَيٍّ لَا تُجِيرُ على بَنِي كَعْبٍ.
قال: فرجع إلى النبيّ صلّى الله عليه [و آله] و سلّم، فأخبره. قال: تعود؟ قال: نعم. قال: ائت المطعِم بن عدّي، فقل له: إنّ محمّداً يقول لك: هل أنت مجيري حتى أبلِّغ رسالات ربّي؟
قال: نعم، فليدخل، قال: فرجع الرجل إليه، فأخبره، و أصبح المطعِم ابن عديّ قد لبس سلاحه هو و بنوه و بنو أخيه، فدخلوا المسجد، فلمّا رآه أبوجهل، قال: أمُجِيرٌ أمْ مُتَابِعٌ؟ قال: بل مجير.
قال: فقال: قد أجرْنا مَن أجرتَ.
فدخل النبيّ صلّى الله عليه [و آله] و سلّم مكّة؛ و أقام بها، فدخل يوماً المسجد الحرام و المشركون عند الكعبة، فلما رآه أبوجهل، قال: هذا نبيّكم يا بني عبدمناف.
قال عُتبة بن ربيعة. و ما تنكِرُ أن يكون منّا نبيّ أو ملك!
فأخبر بذلك النبيّ صلّى الله عليه [و آله] و سلّم - أو سمعه - فأتاهم، فقال:
أمّا أنتَ يا عُتبة بن ربيعة فوالله ما حميتَ للّه و لا لرسوله؛ ولكن حميتَ لأنفِك.
و أمّا أنت يا أبا جهل بن هشام؛ فوالله لا يأتي عليك غير كبير من الدهر حتى تضحك قليلًا و تبكي كثيراً.
و أمّا أنتم يا معشر الملأ من قريش؛ فوالله لا يأتي عليكم غير كبير من الدهر حتى تدخلوا فيما تنكرون، و أنتم كارهون».۱
و الخلاصة، فقد كانت قصّة سفر رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم إلى الطائف و الأحداث التي ذكرناها ممّا تثير العجب.
فهي، أوّلًا: تبيّن أنّ رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم كان يتعرّض في مكّة إلى الأذى بحيث إنّه لم يكن يأمن على نفسه، و كان دمه غير ذي قيمة، و إنّ قومه و عشيرته كانوا أكثر أذى له من سواهم، حتى بلغ به الأمر إلى استنصار أهل ثقيف ليدفعوا عنه قومه و عشيرته. و الدليل على المطلب طلبه مُجيراً يُجيره، فقد كان في خطر جدّي و حتمي بغير مُجير. لذا نراه يستجير بالكافر، ليمكنه في جواره أن يبلّغ رسالات الله. و لم يكن في مكّة مسلمٌ مُقتدر واحد يمكنه إجارته.
و لو قال قائل: و ما الأهمّيّة في ذلك لديه؟ فليُقتل! فإنّ جوابه: أنّ الواجب عليه هو إبلاغ رسالات الله إلى الناس. فإن قُتل أو عرّض نفسه للقتل أو تسامح أدنى مسامحة في حفظ حياته، لما تمكّن من إنجاز ما عُهد إليه، و لعاتبه الله على ذلك. إنّ الأمر المهمّ كان تنفيذ المهمّة على أحسن وجهٍ و أكمله.
النبيّ يبلّغ دعوته في الطائف بقاطعيّة و حزم مع كونه وحيداً فريداً
و ثانياً: كيف سار هذا النبيّ الرحيم الرؤوف العطوف، و هو في سنّ الخمسين،٢ على قدميه من مكّة إلى الطائف؟ و كيف طوى ذلك الطريق
الجبليّ الوعر الذي يعدّ في العصر الحاضر من الطرق الشاقّة، فضلًا عن ذلك الزمان. و كان في سفره هذا وحيداً فريداً لا يتحرّك إلّا حبّاً للّه، و حبّاً لتنفيذ ما امر به، و دعوة المشركين للإسلام. و كان خلال حركته مهدّداً بالموت في كلّ لحظة، لكن بأيّة قاطعيّة و حزم كان يتحرّك؟!
الخلُق العظيم للنبيّ الأكرم صلّى الله عليه و اله و سلّم
ثالثاً: الضجّة و الصخب الذي افتعلوه أمامه، فقد كانوا أشبه باناسٍ يُلاحقون مجنوناً، و كانوا يصرخون خلفه حتى ألجأوه إلى باب البستان. ثمّ إنّ رؤساءهم و أشرافهم ردّوا عليه أقبح ردّ، ثمّ لم يكتموا سرّه، فأثاروا ذلك الصخب و الضجيج، و أوقعوا به ما أوقعوا من البلاء و الأذى.
رابعاً: لكنّه إذ يجلس تحت كرمة العنب و يستظلّ بظلّها، نراه يُناجي ربّه بجملات تنبع من حاقّ العبوديّة، و تحكي عن عالمٍ من التواضع و الخشوع لديه أمام ربّه. إلهي و ربّي و خالقي! أعوذ بك من أن تكون غاضباً عليّ، و من أن تُجازني بأعمالي أو قلّة حزمي في تنفيذ ما أمرتني به، فتكلني إلى عدوّي، و تجعلني مورد سخرية الجهّال و السفهاء. إلهي! لا أخشى إلّا سخطك، و لا أخاف إلّا أن يكون قد حلّ بي ما حلّ عن غضبٍ منك. و لو علمتُ أنّك عنّي راضٍ، فلست أخشى شيئاً. سأضرع إليك باكياً، و امرّغ جبيني في فِنائك فقيراً، حتى ترضى عنّي، لأنّك أملي و مُرادي. و لأنّ دأبي و سُنّتي تحصيل رضاك.
إلهي! بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، و أضاءت له السماوات و الأرض، و انتظمت به امور الدنيا و الآخرة ظاهرها و باطنها، أسألك عاجزاً فقيراً مملوكاً أن ترضى عنّي، و لا تؤاخذني بقصوري
و تقصيري! فلا حول و لا قوّة إلّا بك!
و لقد كان الحقير يفكّر كثيراً منذ قديم الأيّام في سفر رسول الله إلى الطائف، و كيف أنّه سار الليل و النهار راجلًا عبر الجبال المخوفة ثمّ عاد بتلك الكيفيّة، و كيف أنّه كان يخشى العودة إلى وطنه و مدينته و مسقط رأسه مكّة، و يخاف أن يُقتل قبل أن ينفِّذ ما أمره الربّ ذو الجلال، و بذهاب الرجل الذي أرسله إلى مكّة و عودته ثلاث مرّات، حيث ينبغي أن يكون قد تأخّر في ذلك مدّةً ما؛ و لقد كانت عظمة رسول الله مشهودة في هذه الامور بحيث إنّها أثّرت عليّ ربّما أكثر من هجرته إلى المدينة و اختفائه في غار ثور و المصائب التي واجهها عند خروجه من مكّة و خلال الطريق إلى المدينة التي تبعد ما يقرب من تسعين فرسخاً.
أجل، إنّ هذا النبيّ الذي تحمّل هذه الامور بمثل هذا الحزم إثر نزول الآية القرآنيّة القاطعة: فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَ مَنْ تابَ مَعَكَ وَ لا تَطْغَوْا،۱ و الذي له مِثل هذه السعة و القابليّة، هو خاتم النبيّين و الحلقة الأخيرة في سلسلة المُرسلين.
خامساً: أنّه لم يفه بكلمة واحدة خشنة في مقابل الإهانات و الصرخات و السباب و الشتائم، طوال هذا السفر، في ذهابه و إيابه و خلال وجوده في الطائف، بل كان يتحمّل بصبر و حلم كلّ ما يبدر عنهم من تصرّفات.
ثمّ إنّه يجلس تحت كرمة العنب على التراب، فيوضع عنقود العنب
أمامه فيأكل بكلّ تواضع، حتى أنّه لا يردّ هذا الإحسان البسيط، و يقول: بِسم الله، فيربط في هذه الفرصة القصيرة قلب شابٍّ مسيحيّ بالله تعالى: فمرحى لهذا الخُلُق الكريم، و مرحباً بهذه الشيمة العظيمة!
ثمّ إنّه يصل إلى مكّة، فيأتي إلى المسجد الحرام، و يواجه إهانة أبي جهل و استخفافه، فيردّ أوّلًا على عتبة بأنّ ما قاله لم يكن للّه، بل كان منبعثاً عن غرور النفس و الحميّة، و ذلك ممّا لا قيمة له.
ثمّ إنّه ثانياً يُخبر أبا جهل بقاطعيّة و إعجاز: سينقضى عليك أيّام قلائل تضحك فيها، ثمّ إنّ المسلمين سيقتلونك في غزوة بدر بعد خمس سنوات. و إنّ هؤلاء المؤمنين و المستضعفين الذين تستخفّ بهم من أمثال عبد الله بن مسعود سيقطعون رأسك. ثمّ إنّك ستبكي طويلًا ابتداءً من عالم البرزخ و سكرات الموت، و عالم القيامة و الوقوف، و الحساب و صحائف الأعمال، و الميزان و الصراط، و العرض و تطاير الكتب، و الجحيم!
يا أبا جهل! إنّ بكاءك الأبديّ ذلك هو عاقبة سوء نيّتك و اعتداءاتك! و نتيجة خياناتك و جناياتك! و ثمرة تربيتك السيّئة لنفسك و تحصيلك لمَلَكة الشقاوة! فلا قيمة لضحك أيام قلائل اخترته بإرادتك و اختيارك يَعقبه بكاء دهور متمادية!
و ثالثاً، يا رجال قريش الكبار! و يا قومي و عشيرتي اعلموا تحقيقاً أنّ مكّة ستُفتح، و أنّكم ستدخلون طوعاً أو كرهاً في الإسلام الذي أنكرتموه، و تصدّقون بنبوّتي!
و هي بأجمعها أخبار قاطعة تعدّ من معجزات رسول الله، كأنّ القرآن عُجن به، و كأنّه عُجن بالقرآن، فأضحت إخباراته القاطعة بالغيب عين إخبار القرآن القاطع.
أبيات البوصيريّ في عظمة الرسول الأكرم صلّى الله عليه و اله
محَمَّدٌ سَيِّدُ الكَوْنَيْنِ وَ الثَّقَلَيْنِ | *** | وَ الفَريقَيْنِ مِنْ عَرَبٍ وَ مِنْ عَجَمٍ |
دَعا إلى اللهِ فَالْمُسْتَمْسِكُونَ بِه | *** | مُسْتَمْسِكُونَ بِحَبْلِ غَيْرِ مُنْفَصِمِ |
فَاقَ النَّبِيّينَ في خَلْقٍ وَ في خُلُقٍ | *** | وَ لَمْ يُدانوهُ في عِلْمٍ وَ لَا كَرَمِ |
وَ كُلُّهُمْ مِنْ رَسولِ اللهِ مُلْتَمِسٌ | *** | غَرْفاً مِنَ البَحْرِ أوْ رَشْفاً مِنَ الدّيَمِ |
وَ واقِفونَ لَدَيْهِ عِنْدَ حَدِّهِمِ | *** | مِنْ نُقْطَةِ العِلْمِ أوْ مِنْ شَكْلَةِ الحِكَمِ |
فَهْوَ الذي تَمَّ مَعْناهُ وَ صورَتُهُ | *** | ثُمَّ اصْطَفاهُ حَبِيباً بارِئُ النَّسَمِ |
مُنَزَّهٌ عَنْ شَرِيكٍ في مَحاسِنِهِ | *** | فَجَوْهَرُ الحُسْنِ فيهِ غَيْرُ مُنْقَسِمِ |
دَعْ ما ادَّعَتْهُ النَّصارَى في نَبِيِّهِمِ | *** | وَ احْكُمْ بِمَا شِئْتَ مَدْحاً فيهِ وَ احْتَكِمِ |
فَانْسِبْ إلى ذاتِهِ ما شِئْتَ مِنْ شَرَف | *** | وَ انْسِبْ إلى قَدْرِهِ ما شِئْتِ مِنْ عِظَمِ |
فَإنَّ فَضْلَ رَسولِ اللهِ لَيْسَ لَهُ | *** | حَدٌّ فَيُعْرِبَ عَنْهُ ناطِقٌ بِفَمِ |
لَوْ ناسَبَتْ قَدْرَهُ آيَاتُهُ عِظَماً | *** | أحْيَا اسْمُهُ حينَ يُدْعَى دارِسَ الرَّمَم |
لَمْ يَمْتَحِنّا بِما تَعيا العُقُولُ بِهِ | *** | حِرْصاً عَلَيْنَا وَ لَمْ نَرْتَبْ وَ لَمْ نَهِمِ |
أعْمَى الوَرَى فَهْمُ مَعْناهُ فَلَيْسَ يُرَى | *** | في القُرْبِ وَ البُعْدِ مِنْهُمْ غَيْرُ مُنفَحِمِ |
كَالشَّمْسِ تَظْهَرُ لِلْعَيْنَيْنِ مِنْ بُعْدٍ | *** | صَغِيرَةً وَ تَكِلُّ الطَّرْفُ مِنْ امَمِ |
وَ كَيْفَ يُدْرِكُ في الدُّنْيَا حَقيقَتَهُ | *** | قَوْمٌ نيامٌ تَسَلُّوا عَنْهُ بِالحُلُمِ |
فَمَبْلَغُ العِلْمِ فيهِ أنَّهُ بَشَرٌ | *** | وَ أنَّهُ خَيْرُ خَلْقِ اللهِ كُلِّهِمِ |
دَعْنِي وَ وَصْفِيَ آياتٍ لَهُ ظَهَرَتْ | *** | ظُهورَ نَارِ القِرَي لَيْلًا على عَلَمِ |
لَمْ تَقْتَرِنْ بِزَمانٍ وَهْيَ تُخْبِرُنا | *** | عَنِ المَعَادِ وَ عَنْ عادٍ وَ عَن إرَمِ |
دامَتْ لَدَيْنا فَفاقَتْ كُلَّ مُعْجِزَةٍ | *** | مِنَ النَّبِيِّينَ إذْ جاءَتْ وَ لَمْ تَدُمِ |
لَا تَعْجَبَنْ لِحَسُودٍ رَاحَ يُنكِرُها | *** | تَجاهُلًا وَ هُوَ عَيْنُ الحاذِقِ الفَهِمِ |
قَدْ يُنْكِرُ العَيْنُ ضَوْءَ الشَّمْسِ مِنْ رَمَدٍ | *** | وَ يُنكِرُ الفَمُّ طَعْمَ المَاءِ مِنْ سَقَمِ۱ |
معنى الحقّ و مشتقّاته في القرآن الكريم
و هناك في القرآن الكريم كلمات و اصطلاحات بديعة لم يسبق لها نظير في الكتب السماويّة الاخرى و لا في اللغة العربيّة و أشعارها و آدابها.
فكلمة الحقّ مثلًا التي استعملها القرآن الكريم للتعبير عن الباري تعالى شأنه و على الموجودات و الامور الواقعيّة من الاعتقادات و الأفعال و الأقوال، بهذا التعبير عن لطافة المعنى و ظرافته في جميع الموارد، و ذلك من مختصّات القرآن.
و نذكر هنا موارد استعمال كلمة الحقّ من كتاب الراغب الإصفهانيّ القيّم «المفردات في غريب القرآن»، يقول:
حقّ: أصْلُ الحَقِّ المُطَابَقَةُ و المُوَافَقَةُ كَمُطَابَقَةِ رِجْلِ البَابِ في حَقِّهِ لِدَوَرَانِهِ على اسْتِقَامَةٍ.
و الحقّ يقال على أوجه:
الأوّل: يقال للموجِد الشيء بسبب ما تقتضيه الحكمة، و لهذا قيل في الله تعالى: هو الحقّ.
قال الله تعالى: وَ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِ. و قيل بُعَيدَ ذلك. فَذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ.۱
الثاني: يقال للموجِد بحسب مقتضى الحكمة، و لهذا يقال: فِعْلُ الله تعالى كلُّه حقٌّ. و قال تعالى: هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَ الْقَمَرَ نُوراً، إلى قوله تعالى: ما خَلَقَ اللَّهُ ذلِكَ إِلَّا بِالْحَقِ.٢
و قال في القيامة. وَ يَسْتَنْبِئُونَكَ أَ حَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَ رَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌ٣
- لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ.۱ و قوله عزّ و جلّ: الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ٢ - وَ إِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ.٣
و الثالث: في الاعتقاد للشيء المطابق لما عليه ذلك الشيء في نفسه، كقولنا: اعتقاد فلان في البعث و الثواب و العقاب و الجنّة و النار حقّ.
قال الله تعالى: فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِ.٤
و الرابع: للفعل و القول الواقع بحسب ما يجب، و بقدر ما يجب، و في الوقت الذي يجب، كقولنا: فِعْلُكَ حَقٌّ وَ قَوْلُكَ حَقٌّ.
قال الله تعالى: كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ؛٥ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ.٦
و قوله تعالى: وَ لَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ۷ يصحّ أن يكون المراد به الله تعالى، و يصحّ أن يُراد به الحُكم الذي هو بحسب مُقتضى الحكمة.
و يقال: أحْقَقْتُ كَذَا، أي أثْبَتُّهُ حَقّاً أو حكمتُ بِكَوْنه حقّاً. و قوله تعالى: لِيُحِقَّ الْحَقَّ،۸ فإحقاقُ الحقّ على ضَربيْن: أحدهما: بإظهار الأدلّة و الآيات، كما قال تعالى: وَ أُولئِكُمْ جَعَلْنا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطاناً مُبِيناً،٩ أي.
حُجّةً قويّة.
و الثاني: بإكمال الشريعة و بثّها في الكافّة، كقوله تعالى: وَ اللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَ لَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ؛۱ - هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَ دِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ.٢
و قد جاء لفظ مِن في الآية المباركة الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ التي وردت في موضعين من القرآن الكريم، و في الآية: وَ إِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ بمعنى ابتداء الغاية، الذي ينطبق في هذه العبارات و أمثالها على معنى النشويّه، حيث يدلّ على حقيقة مهمّة جدّاً و هي أنّ الخالق العظيم هو مركز الحقّ و منبعه، و أنّ ما في عالم الوجود من مطابقة للأصالة و الواقعيّة إنّما هو من الله تعالى: و باعتبار أنّ اللفظ محلّي بالألف و اللام، فإنّه يدلّ على حصر الحقّ من قِبل الله تعالى: أي أنّ الحقّ أينما وُجد، فهو من الربّ جلّ و علا. و أنّ جميع الحقائق و الامور الخارجيّة و آثارها و شؤونها مستمدّة و ناشئة من الربّ العظيم.
و قد جاء في سورة الإسراء المباركة:
وَ إِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً.٣
ذلك أنّ الله سبحانه لا يُجبر الإنسان على المعصية، بل إنّ اختيار الإنسان دخيلٌ بصورة حتميّة في المعصية و عنوانها. و بهذه القرينة فإنّ المراد من قوله أمَرْنَا ليس الأمر بالفسق و المعصية، لأنّه تعالى وَ لا يَرْضى
لِعِبادِهِ الْكُفْرَ؛۱ بل المراد بذلك؛ أنّنا نأمرهم بالطاعات، فيخالفون أمرنا و يفسقون، فيُعذَّبون.
و المراد بعبارة حق عليها القول هو أنّ كلمة العذاب و الانتقام تحقّ و تُثبَّت عليهم بواسطة انطباق عملهم على العصيان و التجرّي.
تفسير آيه: اولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ
و نظير هذه الآية، الآية الواردة في سورة الأحقاف:
وَ الَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما أَ تَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَ قَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَ هُما يَسْتَغِيثانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ ما هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ ، أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ.٢
قال سماحة العلّامة آية الله الطباطبائيّ رضوان الله عليه: وَ الَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ، الظاهر أنّه مبتدأ في معنى الجمع، و خبره قوله بعد أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ.٣
و قال أيضاً: بأنّ الآية نزلت في عبدالرحمن بن أبي بكر، قال: و في «الدرّ المنثور» بسنده عن عبد الله قال: إنّي لفي المسجد حين خطب مروان فقال: إنّ الله قد أرى أميرالمؤمنين (معاوية) في يزيد رأياً حسناً، و إن يستخلفه فقد استخلف أبوبكر و عمر.
فقال عبدالرحمن بن أبي بكر. أهِرْقِليَّةٌ؟!
إن أبا بكر - و الله - ما جعلها في أحدٍ من ولده و لا أحد من أهل بيته، و لا جعلها معاوية إلّا رحمةً و كرامةً لولده.
فقال مروان: ألستَ الذي قال لوالديه: أُفٍّ لَكُما؟
فقال عبدالرحمن: ألستَ ابنَ اللعين الذي لعن أباك رسول الله صلّى الله عليه [و آله] و سلّم؟
قال: و سمعتها عائشة فقالت: يا مروان! أنت القائل لعبدالرحمن كذا و كذا؟!۱
كذبتَ و الله ما فيه نزلتْ. نزلتْ في فلان بن فلان.
و فيه (أي في «الدر المنثور»): أخرج ابن جرير عن ابن عبّاس في «الذي قال لوالديه أفّ لكما» الآية، قال: هذا ابنٌ لأبي بكر».
ثمّ قال سماحة الاستاذ العلّامة قدّس الله نفسه: «أقول: و روى ذلك أيضاً عن قتادة و السدّيّ. و قصّة رواية مروان و تكذيب عائشة له مشهورة».
ثمّ قال: قال (الآلوسي) في «روح المعاني» بعد ردّ رواية مروان: و وافق بعضهم كالسهيليّ في «الأعلام» مروان في زعم نزولها في عبدالرحمن. ثمّ قال (الآلوسي): و على تسليم ذلك لا معنى للتعيير لاسيّما
من مروان، فإنّ الرجل أسلم و كان من أفاضل الصحابة و أبطالهم، و كان له في الإسلام عناء يوم اليمامة و غيره، و الإسلَامُ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ، فالكافر إذا أسلم لا ينبغي أن يُعيَّر بما كان يقول: انتهى.
ثمّ إنّ العلّامة يعترض هنا على كلام الآلوسي فيقول: «و فيه أنّ الروايات لو صحّت لم يكن مَناص عن صريح شهادة الآية عليه بقوله: أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ، إلى قوله: إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ؛ و لم ينفع شيء ممّا دافع عنه به».۱
و كان محور إشكال سماحة العلّامة علي الآلوسيّ هو عبارة حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ، لأنّها تبيّن تثبيت و مطابقة كلمة عذاب الله له في جملة مَن جاء قبله من الجنّ و الإنس، الذين كانوا من الخاسرين ممّا يوجب بقاءه على الكفر و كون إيمانه إيماناً صوريّاً، أمّا إسلامه و دخوله في معركة اليمامة و غيرها فلا يصحّ شاهداً على خلاف ذلك، لأن كثيراً من المسلمين غير الواقعيّين كانوا يشتركون في هذه المعارك بسبب غلبة الإسلام و موقعه و صدارته.
فلا يمكن - مع نزول هذه الآية في حقّه - الدفاع عنه بإسلامه و أفعال الخير الصادرة عنه.٢
و حُزناً عتيقاً و هو غاية فخركم | *** | بمولد بنتِ القاسمِ بن محمّد |
معنى الضلال في القرآن الكريم
و كلمة ضَلال ككلمة حقّ قد استعملها القرآن في آياته حين تحدّث عن الكفّار و المشركين و المتمرّدين و المعتدين و الفاسقين، فصرنا نرى في هذا الكتاب السماويّ كثيراً من كلمات المصدر. الضلال و مشتقّاته.
و الضَّلال بمعنى الضياع، و يعني عدم الوجود في المكان اللازم المترقّب، و الاضمحلال و الهلاك قبل بلوغ المقام و المرتبة اللازمة.
و المشركون و الكفّار يضيعون، أي أنّ سعة قدرتهم و نور ذواتهم و هويّتهم الأصليّة لا تبلغ مرحلة الفعليّة التامّة، فهم يضيعون و يُعدمون قبل الوصول إلى كمالهم، و تضيع قابليّاتهم، و يتيهون في مسير حركتهم و سيرهم إلى الهدف الأعلى من الخلقة.
أمّا المؤمنون فإنّهم يربّون أنفسهم و يزيدون في قوّتها باستمرار من خلال مجاهدتهم أنفسهم في سبيل الله، و من خلال الإيمان و العمل الصالح الذي يزيد الثبات لديهم، فيجعلون أنفسهم بالرياضات المشروعة مقتدرةً ليمكنها تحمّل لقاء جمال الربّ الودود، أو المقاومة أمام تجلّيات الجلال في مرحلة الأسماء و الصفات، و ليمكنها العبور من عوالم المادّة و الشهوة و الحجب الظلمانيّة، و العبور في مرحلةٍ لاحقة من الحجب النورانيّة و سطوع الأنوار الملكوتيّة، ثمّ الاستفادة من تجلّي الأسماء و الصفات الكلّيّة و نيل مقام الفناء في الذات.
و تعبير الضلال يبيّن أنّ الضالّين يضيعون قبل بلوغهم المقصد بسبب ضعف قابليّاتهم الوجوديّة، فلا يمتلكون اسماً و لا أثراً في العوالم العُليا، و من المعلوم بطبيعة الحال أنّ هذا الضلال و الضياع إنّما يحصل في نفوسهم و ليس في طبائعهم و لا أبدانهم المادّيّة، إذ إنّ كثيراً منهم عاشوا بتلك الأبدان و امتلكوا قوّة و شوكة، لكنّهم - بلحاظ النفس - ساروا إلى مرحلة معيّنة ثمّ توقّفوا فضاعوا في المراحل التي تعلوها.
يقول القرآن الكريم: إنّنا نُضلّ أمثال هؤلاء المتمرّدين بحيث يعجز الباحث عنهم عن العثور على أدنى أثر.
و قد ورد في القرآن الكريم تعبيران مختلفان مهمّان عن نزول العذاب؛ أحدهما: أنّنا ننزل عليهم العذاب بحيث إنّهم ينعدمون و يفنون حتى كأنّهم لم يوجدوا أصلًا. و يقول التعبير الثاني: إنّنا نمحو آثارهم و نجعلها أخباراً و حكايات.
و قد جاء التعبير الأوّل في موضعَين من سورة هود:
الأوّل: في شأن قوم ثمود الذين عقروا ناقة صالح على نبيّنا و آله و عليه السلام:
فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا صالِحاً وَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَ مِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ ، وَ أَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ ، كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِثَمُودَ.۱
و الثاني: في شأن أصحاب مَدْيَن الذين كانوا يؤذون نبيّهم شُعيب على نبيّنا و آله و عليه السلام و يهدّدونه برجمه إن لم يكفّ عن دعوته؛ و هي الآية التالية:
وَ لَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا شُعَيْباً وَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَ أَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ ، كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ.٢
غَنَى يَغْنَي بِالمَكَانِ وَ في المَكَانِ بمعنى أقام فيه. و جَاثِمِينَ بمعنى مُتَلَبِّدِينَ. أي أنّ ظلم أصحاب مدين لنبيّهم شعيب، و ظلم قوم ثمود لنبيّهم صالح، على نبيّنا و آله و عليهما السلام، و تمرّدهم على ذينك النبيَّين، قد سبّب أخذهم بالصيحة السماويّة بحيث أضحوا تراباً، كأنّهم لم يسكنوا تلك الديار أبدا، و بحيث لم يبق منهم اسم و لا أثر و لا أزواج و لا أولاد و لا بساتين و لا تجارة.
أمّا التعبير الثاني فقد ورد في سورة المؤمنون، و هو تعبير أعجب و أغرب، لأنّه يقول: و جعلناهم «أحاديث»، أي أنّنا أهلكناهم حتى لم يبق من حقيقتهم في هذا العالم إلّا الأحاديث و الأخبار و القصص و الحكايات، أشبه بقولنا. زَيْدٌ عَدْلٌ. و الآية لا تقول: إنّنا أضعنا آثارهم و أبقينا
أخبارهم؛ بل تقول: إنّنا أخذناهم بالعذاب بحيث جعلنا آثارهم و حقائقهم الوجوديّة «أخباراً»؛ و كأنّ حقائق ماهيّاتهم ليست إلّا مقولة الحديث و الخبر و الحكاية.
و قد جاءت هذه القصّة في القرآن الكريم بعد بيان قصّة قوم نوح الذين اغرقوا، ثمّ إنّ الله خلق مِن بعدهم قوماً آخرين فأرسل إليهم نبيّاً فكذّبوه؛ قال:
فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْناهُمْ غُثاءً فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ، ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِينَ ، ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَ ما يَسْتَأْخِرُونَ ، ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا كُلَّ ما جاءَ أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنا بَعْضَهُمْ بَعْضاً وَ جَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ.۱
الأدب الخاصّ في تعبيرات الآيات القرآنيّة
و من الامور المختصّة بالقرآن الكريم، أمر عدم التصريح بالألفاظ القبيحة، إذ للقرآن أدب خاصّ يتفرّد به. و قد صرّح سماحة استاذنا آية الله العلّامة قدّس الله سرّه تكراراً في مواضع مختلفة من تفسيره، و نوّه بأنّ القرآن يمتلك أدباً خاصّاً متميّزاً. حيث يلاحظ أنّه لا يستعمل ألفاظاً صريحة قطّ في المواضع التي ينبغي أن يذكر فيها أحكاماً بخصوص موضوعات معيّنة، كالتبوّل و التغوّط و مجامعة النساء و أمثال ذلك؛ و نرى أنّه - على الدوام - قد ذكر تلك المطالب على نحو الكناية و الاستعارة و التلميح.
فهو مثلًا يعبّر عن مجامعة النساء بـ الملامسة و المباشرة و الغِشيان و الرَفَث (و هو الكلام الذي يعدّ قبيحاً في غير ذلك الموضع)، و المقاربة و الإتيان و غير ذلك.
كما أنّه عبّر عن البراز بالغائط (و هو الموضع المنخفض)، لأنّ الأفراد الذين يتبرّزون في الصحراء، يلجأون عادةً إلى موضع منخفض يسترهم عن الأنظار، لذا فقد جعل العودة من ذلك الموضع كنايةً عن التبرّز: أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ.۱
و من مختصّات القرآن، تعبيره عن بعض الأفراد و المعاني بكلمات تبيّن حقيقة اولئك الأفراد و تلك المعاني و قيمتهم في النظر القرآنيّ. فهو - مثلًا - يعبّر بكلمة الملأ عن الأغنياء و الأثرياء الذين حصلوا على اعتبار من خلال كونهم أغنياء لا غير؛ فصاروا يعدّون أنفسهم حكّاماً، و يعتبرون الآخرين رعايا و عبيد لهم. و تعني كلمة الملأ. الأفراد المملوئين بالغرور و الاستكبار: قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ.٢
كما عبّر القرآن عن الأفكار التي تفتقد في نظره للقيمة الحقيقيّة بـ الهوى و الأهواء أي الامور الجوفاء؛ مهما تسنّمت تلك الأفكار الذروة و الرقيّ في المجتمع و بين علماء الاجتماع و المدنيّة؛ إذ إنّ تلك الأفكار لم تتشبّع بالأصالة و الواقعيّة، فعبّر عنها القرآن بالامور الجوفاء.
وَ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ.٣
أَ فَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَ أَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ.٤
وَ لا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ.٥
...۱
القرآن يعدّ السبّ و الشتم عير جائزّين إلّا للظالمين
و القرآن كتاب تربية و أدب، لذا فقد ردع عن السبّ و الشتم، حتى أنّه يقول: لا تسبّوا آلهة المشركين و أصنامهم، لأنّهم سيردّون عليكم فيسبّون الله المتعال جهلًا.
وَ لا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ.۱
و لهذا فإنّ المؤمنين يتورّعون عن سبّ طائفة اليهود و النصارى و المجوس، و حتى عن سبّ المشركين و التحدّث عنهم بما لا يليق، لأنّ كثيراً منهم قد اعتقدوا بما اعتقدوا عن جهل، و لو تبيّن لهم الحقّ لقبلوا به. و يُدعى أمثال هؤلاء بالمستضعفين. و قد بُشّر المستضعفون في القرآن بالرحمة.
كما أنّ المؤمنين ليس لهم الحقّ في لعن أبناء السنّة و التحدّث عنهم بما لا يليق، لأنّ كثيراً منهم قد اعتنقوا ذلك المذهب نتيجة علل و أسباب خارجة عن إرادتهم و اختيارهم حجبتْ الحقّ عنهم. أمّا لعن أعداء آل محمّد صلّى الله عليه و آله و سلّم فمن مستلزمات الإيمان.
و نعنى بالأعداء: المعاندين و المتجاسرين و المتجاوزين، و هم طائفة خاصّة قد تحدّث التأريخ عن نهجها و اسلوب عملها بالقدر الكافي، و هم الذين ضيّعوا حقوق آل محمّد عن علم و بصيرة؛ و ليس لعن أمثال اولئك
الأعداء جائزاً فحسب، بل إنّ لعن كلّ ظالم يعدّ أمراً جائزاً أيضاً:
أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ.۱
و بغضّ النظر عن ذلك، فقد ورد في القرآن الكريم التصريح بلعن الله تعالى للذين يؤذون الله و رسوله:
إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ وَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً.٢
و قد ورد في صحاح السنّة و كتب الشيعة المعتبرة بأسانيد مستفيضة أنّ مَن آذى ذرّيّة رسول الله و أهل بيته كمن آذى رسول الله.
حُجِّيَّة و السُّنَّة في قوّة حُجِّيَّة القرآن
و نحن نعلم أنّ حُجّيّة السُّنّة معتبرة، و أنّها في حكم حجّيّة القرآن و نظيرتها في القوّة، فلو ضُمّت الآية السابقة التي تنصّ على جواز لعن مَن يؤذي الله و رسوله إلى السُّنّة المعتبرة التي تَعُدّ أهل بيت النبيّ و ذرّيّته (كأصحاب الكساء) كنفس النبيّ، و تعتبر أذاهم كأذى رسول الله، فإنّ النتيجة تكون جواز لعن من يؤذي آل محمّد عليهم السلام.
فتكون الآية القرآنيّة هي كُبرى المسألة، و السُّنّة المعتبرة صُغراها، و جواز لعن الأعداء هو النتيجة من هذا القياس.
إن القرآن الكريم يتعامل بروح محبّة و وداد و إخلاص و مداراة مع جميع خلق الله تعالى، حتى أنّه يقول في شأن المشركين:
وَ إِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ.٣
أي حتى تدلّه على الله و تبيّن له أمر المعاد و الولاية و العقائد الحقّة لتسكن فيه نفسه و يطمئنّ قلبه، فذلك هو مأمنه و محلّ سكون خاطره و اطمئنان قلبه.
و هذه الآية من بدائع آيات القرآن الكريم، و قد استُعملت فيها كلمات قليلة دلّت على الذروة من الثبات و المتانة و الأخلاق و الدلالة على غاية الرسالة و الإيصال إلى مقصدها. و يحوي كلّ واحد من ألفاظ أجِرْهُ، يَسْمَعَ كَلَامَ اللهِ، أبْلِغْهُ و مَأمَنَهُ بمفرده مطالب عميقة و دروساً رشيقة من الحكمة.
أجل، فلمّا كان القرآن الكريم هو المبيّن لُاصول المطالب و العقائد و الأحكام، فإنّه أوكل أمر توضيحها و تفصيلها و تفسيرها إلى السُّنّة.
أي أنّ القرآن الكريم قد جعل قول رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم، و أمره و نهيه و بيانه و عمله حجّةً .. تأمّل هذه الآيات الكريمة:
ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ ما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا.۱
إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَ رَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَ أَطَعْنا.٢
وَ إِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَ رَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً.٣
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ.٤
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ لا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ.۱
قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ.٢
الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَ ... أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ.٣
و بناءً على هذه الآيات و نظائرها، فإنّ العمل بأوامر النبيّ و اولي الأمر - و هم الأئمّة الطاهرين سلام الله عليهم أجمعين - فرضٌ حتميّ لازم، و أنّ السُّنّة (و هي قول المعصوم و فعله) قد جُعلت في مصافّ الآيات الإلهيّة، و عُدّت حُجّةً. و نحن إنّما نحصل على النتيجة المتوخّاة في كثير من مسائل الاصول و الفروع من خلال ضمّ الكتاب و السُّنّة إلى بعضهما. أمّا اللجوء إلى أحدهما و الإعراض عن الآخر، فيجعل الإجابة على المسائل الاعتقاديّة أو العلميّة أمراً عقيماً.
القرآن و السُّنَّة يعتبران الله العلّة الفاعلة
أمّا في المسائل الاعتقاديّة، فكالعلّة الفاعلة التي ينسبها القرآن الكريم إلى الله تعالى في خصوص الحياة و الصحّة، في خطاب النبيّ إبراهيم عليه السلام لعمّه آزر و قومه و عشيرته:
فَإِنَّهُمْ (و الضمير عائد للأصنام) عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ ، الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ ، وَ الَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَ يَسْقِينِ ، وَ إِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ ، وَ الَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ ، وَ الَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ.٤
حيث نُسبت الصحّة و الشفاء في هذه الآية المباركة، و بصراحة، إلى الخالق عزّ و جلّ.
أمّا في السُّنّة فقد جاء بأنّ الله تعالى قد جعل لكلّ داءٍ دواء، و أنّ على الإنسان أن يرجع إلى الطبيب إذا مرض.
أمّا بالنسبة إلى هبوب الرياح و تفرّق السحاب، فإنّ الأمر على العكس من ذلك، فقد عزا القرآن أمر تفرّق السحاب إلى الرياح، بينما عزته السُّنّة إلى الملائكة السماويّين. و لدينا آيتان في هذا الخصوص.
الاولى: اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ وَ يَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذا أَصابَ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ.۱
و الثانية: وَ اللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها كَذلِكَ النُّشُورُ.٢
و نلاحظ في هاتين الآيتين أنّ الله سبحانه قد عزا تفرّق السحاب في السماء إلى الرياح، بينها نرى في السنّة أنّ الملائكة هم الذين يسوقون السحاب؛ فقد جاء في دعاء الإمام زين العابدين عليه السلام:
وَ قَبَائِلِ المَلَائكَةِ الَّذِينَ اخْتَصَصْتَهُمْ لِنَفْسِكَ، وَ أغْنَيْتَهُمْ عَنِ الطَّعَامِ وَ الشَّرَابِ بَتَقْدِيسِكَ، وَ أسْكَنْتَهُمْ بُطُونَ أطْبَاقِ سَمَاوَاتِكَ، وَ الَّذِينَ على أرْجَائِهَا إذَا نَزَلَ الأمْرُ بِتَمَامِ وَعْدِكَ، وَ خُزَّانِ المَطَرِ وَ زَوَاجِرِ السَحَابِ، وَ الذي بِصَوْتِ زَجْرِهِ يُسْمَعُ زَجَلُ الرُّعُودِ، وَ إذَا سَبَّحَتْ بِهِ حَفِيفَةُ السَحَابِ التَمَعَتْ صَوَاعِقُ البُرُوقِ؛ وَ مُشَيِّعِي الثَّلْجِ وَ البَرَدِ، وَ الْهَابِطِينَ مَعَ قَطْرِ المَطَرِ إذَا نَزَلَ، وَ القُوَّامِ على خَزَائِنِ الرِّيَاحِ، وَ المُوَكَّلِينَ بِالجِبِالِ فَلَا تَزُولُ، وَ الَّذِينَ عَرَّفْتَهُمْ مَثَاقِيلَ المِيَاهِ، وَ كَيْلَ مَا تَحْوِيهِ لَوَاعِجُ الأمْطَارِ وَ عَوَالِجُهَا.۱
إن المَلَك هو أمر ملكوتيّ و قوّة إلهيّة عارية عن لباس المادّة، و هو الذي يسوق السحاب، أمّا سوطه فقدرته و وسيلته للقيام بذلك الفعل.
و لذلك فإنّ ما جاء في هذا الدعاء المبارك من أنّ هناك ملائكة مأمورة بالسحاب و الثلج و البَرَد و المطر هو أمر صحيح لا يتنافى مع الأسباب المادّيّة من بُخار الماء و اختلاف درجات الجوّ و سائر الامور الطبيعيّة التي تُذكر باعتبارها دخيلة في حصول هذا النوع من الحوادث.
و لقد أثبتنا في أبحاثنا في كتاب «معرفة المعاد»، و في الجزء الثاني من هذا الكتاب «نور ملكوت القرآن» أنّ الامور الملكوتيّة هي العلل العُليا،
و أنّ الامور المُلكيّة هي العلل السفلي، و أنّ هناك، ضمن العلل و الأسباب، عللًا طوليّة يعلو بعضها بعضاً، من المادّة و الصورة و العقل، وصولًا إلى الأسماء و الصفات الكلّيّة، و في ذروتها و قمّتها الذات القدسيّة للحقّ تعالى، الذي هو علّة العلل.
و في حقيقة الأمر، فإنّ العلّة الحقيقيّة الفاعلة هي الله تعالى؛ أمّا الباقي فهي أسباب و معدّات تهيّئ - بإرادة الله تعالى - الإمكانات و الامور اللازمة لحصول شيءٍ ما في العالم الخارجيّ.
و ينبغي العلم بأنّ كثيراً من الناس لم يخطوا في مسيرة الامور المتعقَّلة و الحكمة المتعالية، و أنّ هؤلاء، بأذهانهم الساذجة التي لم تتجاوز إطار الحسّ و المادّة، لا يفرّقون بين العلّة الموجدة الفاعلة و بين المعدّات، فصاروا يعدّون أمثال المطر و الثلج و أشعّة الشمس و نور القمر و حرارة الأرض و الفصول الأربعة و غيرها مؤثّرات حقيقيّة في نشوء الأشياء، و هو تصوّر خاطئ قاصر، لأنّ جميع تلك الامور هي علل مُعِدّة و ليست عللًا موجدة. فالعلّة هي التي يبقى المعلول ببقائها و يفنى بفنائها و ذهابها؛ كالمصباح الذي هو علّة الإنارة، فإن نحنُ جئنا بالمصباح، فقد جئنا بالنور؛ و إن نحنُ ذهبنا بالمصباح، فقد ذهبنا بالنور.
أمّا السحاب و المطر و الشمس و غيرها، فليس أيّاً منها علّة لنموّ النبات، لأنّ السحاب إذا تفرّق، و المطر إذا انقطع، و الشمس إذا غربت، بقي النبات موجوداً. و لذلك فليس أيّاً من هذه الامور علّة، بل هي امور تعدّ البذر و تهيّئه ليجعله الله تعالى بإرادته الفاعلة في هيئة النبات و خاصّيّته.
و جميع الأجسام التي نشاهدها هي إشعاع من موجودات مجرّدة لا نراها، و بقاء الأجسام ببقاء إشعاعها. كما أنّ السحاب و البرق و المطر
و الثلج هي آيات و علامات من ذلك العالم اللأمرئيّ، أشبه بالفجر الذي يسطع في المشرق، فيبشّر بالشمس اللأمرئيّة وراء الافق، و يحكي عن نورها و ضيائها و حرارتها.
جهان جمله فروغ نور حقّ دان | *** | حق اندر وي ز پيدائى پنهان۱ |
يقول آية الله الشعرانيّ بعد شرح موجز في هذا المجال: «و أعجبُ من أحد العلماء الأجلّاء، و هو السيّد مرتضى الداعى الرازيّ عليه الرحمة الذي أنكر هذا المعنى بشدّة في كتاب «تبصرة العوامّ»، و نسبه إلى طائفة الحشويّة و قال: لقد عزا القرآن الكريم سَوْق السحاب إلى الرياح لا إلى الملائكة، و لو كان المَلَك هو الذي يسوق السحاب، لما احتاج إلى سوط في سَوْقها».٢
كان هذا حاصل الكلام في أمر الكتاب و السنّة في المسائل الاعتقاديّة؛ و أمّا في شأن المسائل العمليّة، كحكم الزنا، فقد ورد في القرآن الكريم:
الزَّانِيَةُ وَ الزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ وَ لا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ لْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ.٣
القرآن و السُّنَّة كجناحَي الطائر، يدعم أحدهما الآخر
أمّا حكم الرجْم في بعض مسائل الزنا، كزنا المحصنة، و الزنا بالمحارم، و الإكراه على الزنا، و غير ذلك، فقد ورد الأمر بالرجم في
خصوص هذه الموارد في السُّنّة القطعية لرسول الله صلّى الله عليه و آله.
و لذلك، فإنّ مجموع مسائل الزنا و أحكامه يجب أن يؤخذ من مجموع الكتاب و السنّة.
و مثل حرمة اللحوم و حلّيّتها، فقد ورد في القرآن الكريم تحريم لحم الخنزير، و ورد في السنّة تحريم و نجاسة لحم الكلب، و تحريم لحم الأرنب و الثعلب و سائر الوحوش.
و مثل أصل الصلاة، و خصوصيّاتها من الركعات، حيث ورد الأوّل في القرآن الكريم، بينما ورد الثاني في السنّة.
و نظير هذا الارتباط القويم بين الكتاب و السنّة قائم و موجود في جميع المسائل الاعتقاديّة الاصوليّة و العلميّة الفروعيّة.
بيان أميرالمؤمنين عليهالسلام في لزوم التمسّك بالقرآن الكريم
و لقد كان أميرالمؤمنين عليه أفضل صلوات المصلّين يؤكّد كثيراً على التمسّك بالقرآن الكريم و بسُنّة النبيّ الأكرم صلّى الله عليه و آله و سلّم، و قد وردت له في «نهج البلاغة» خطب كثيرة تتحدّث عن عظمة القرآن و الرسول الأكرم و الارتباط الوثيق بينهما، يقول في أحدها:
فَالقُرْآنُ آمِرٌ زَاجِرٌ، وَ صَامِتٌ نَاطِقٌ. حُجَّة اللهِ على خَلْقِهِ، أخَذَ عَلَيْهِ مِيثَاقَهُمْ، وَارْتَهَنَ عَلَيْهِ أنفُسَهُمْ. أتَمَّ نُورَهُ، وَ أكْرَمَ بِهِ دِينَهُ، وَ قَبَضَ نَبِيَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ [و آلِهِ] وَ سَلَّمَ وَ قَدْ فَزَعَ إلى الخَلْقِ مِنْ أحْكَامِ الهُدَى بِهِ. فَعَظِّمُوا مِنْهُ سُبْحَانَهُ مَا عَظَّمَ مِنْ نَفْسِهِ، فَإنَّهُ لَمْ يُخْفِ عَنْكُمْ شَيْئاً مِنْ دِينِهِ، وَ لَمْ يَتْرُكْ شَيْئاً رَضِيَهُ أوْ كَرِهَهُ إلَّا وَ جَعَلَ لَهُ عَلَماً بَادِياً وَ آيَةً مُحْكَمَةً، تَزْجُرُ عَنْهُ أوْ تَدْعُو إلَيْهِ. فَرِضَاهُ فِيمَا بَقِيَ وَاحِدٌ، وَ سَخَطُهُ فِيمَا بَقِيَ وَاحِدٌ.۱
يقول ابن أبي الحديد في شرح هذه الفقرات: أخَذَ سُبْحَانَهُ على الخَلَائِقِ مِيثَاقَهُ وَارْتَهَنَ عَلَيْهِ أنفُسَهُمْ؛ لمّا كان سبحانه قد قرّر في عقول المكلّفين أدلّة التوحيد و العدل، و من جملة مسائل العدل النبوّة، و يثبت نبوّة محمّد صلّى الله عليه و آله و سلّم عقلًا، كان سبحانه بذلك كالآخذ ميثاق المكلّفين بتصديق دعوته و قبول القرآن الذي جاء، و جعل به أنفسهم رهناً على الوفاء بذلك، فمن خالف خسر و هلك هلاك الأبد.
هذا تفسير المحقّقين؛ و من الناس من يقول: المراد بذلك قصّة الذرّيّة قبل خلق آدم عليه السلام كما ورد في الأخبار، و كما فسّر قومٌ عليه الآية ...».
و أمّا قوله: لَمْ يَتْرُكْ شَيْئاً رَضِيَهُ أوْ كَرِهَهُ إلَّا و جَعَلَ لَهُ عَلَماً بَادِياً وَ آيَةً مُحْكَمَةً فقد قال: أي أمّا منصوص عليه صريحاً، أو يمكن أن يُستنبَط حُكمه من القرآن إمّا بذكره أو بتركه فيبقى على البراءة الأصليّة و حكم العقل.
قوله: فَرِضَاهُ فِيمَا بَقِيَ وَاحِدٌ، وَ سَخَطُهُ فِيمَا بَقِيَ وَاحِدٌ، معناه: أنّ ما لم ينصّ عليه صريحاً هو في محلّ النظر، ليس يجوز للعلماء أن يجتهدوا فيه فيحلّه بعضُهم و يحرّمه بعضُهم، بل رضا الله سبحانه أمرٌ واحد و كذلك سخطه، فليس يجوز أن يكون شيء من الأشياء يفتي فيه قومٌ بالحلّ و قومٌ بالحرمة. و هذا قول منه عليه السلام بتحريم الاجتهاد، و قد سبق منه عليه السلام مثل هذا الكلام مراراً».۱
و قد كتب أميرالمؤمنين عليه السلام في حاضرين۱ عند عودته من حرب صفّين وصيّةً مفصّلة ذات مضامين جليلة، بحيث يمكن القول عنها حقّاً بأنّها تالي تِلو القرآن في رقى عباراتها و علوّ معانيها و رشاقة مضامينها و عظمة أدبها، يقول فيها:
أيْ بُنَيَّ! إنِّي وَ إنْ لَمْ أكُنْ عُمِّرْتُ عُمْرَ مَنْ كَانَ قَبْلِي، فَقَدْ نَظَرْتُ في أعْمَالِهِمْ، وَ فَكَّرْتُ في أخْبَارِهِمْ، وَ سِرْتُ في آثَارِهِمْ حتى عُدْتُ كَأحَدِهِمْ. بَلْ كَأنِّي بِمَا انْتَهَى إلى مِنْ امُورِهِمْ قَدْ عُمِّرْتُ مَعَ أوَّلِهِمْ إلى آخِرِهِمْ.
فَعَرَفْتُ صَفْوَ ذَلِكَ مِنْ كَدَرِهِ، وَ نَفْعَهُ مِنْ ضَرَرِهِ، فَاسْتَخْلَصْتُ لَكَ مِنْ كُلِّ أمْرٍ نَخِيلَهُ، وَ تَوَخَّيْتُ لَكَ جَمِيلَهُ، وَ صَرَفْتُ عَنْكَ مَجْهُولَهُ، وَ رَأيْتُ حَيْثُ عَنَانِي مِنْ أمْرِكَ مَا يَعْنِي الوَالِدَ الشَّفِيقَ. وَ أجْمَعْتُ عَلَيْهِ مِنْ أدَبِكَ أنْ يَكُونَ ذَلِكَ، وَ أنْتَ مُقْبِلُ العُمْرِ وَ مُقْتَبِلُ الدَّهْرِ، ذُو نِيَّةٍ سَلِيمَةٍ وَ نَفْسٍ صَافِيَةٍ.
وَ أنْ أبْتَدِئَكَ بِتَعْلِيمِ كِتَابِ اللهِ وَ تَأوِيلِهِ،٢ وَ شَرَائِعِ الإسْلَامِ وَ أحْكَامِهِ،
وَ حَلَالِهِ وَ حَرَامِهِ، لَا اجَاوِزُ ذَلِكَ بِكَ إلى غَيْرِهِ.
ثُمَّ أشْفَقْتُ أنْ يَلْتَبِسَ عَلَيْكَ مَا اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهِ مِنْ أهْوَائِهِمْ وَ آرَائِهِمْ مِثْلَ الذي التَبَسَ عَلَيْهِمْ، فَكَانَ إحْكَامَ ذَلِكَ على مَا كَرِهْتُ مِنْ تَنْبِيهِكَ لَهُ أحَبَّ إلى مِنْ إسْلَامِكَ إلى أمْرٍ لَا آمَنُ عَلَيْكَ بِهِ الهَلَكَةَ، وَ رَجَوْتُ أنْ يُوَفِّقَكَ اللهُ فِيهِ لِرُشْدِكَ، وَ أنْ يَهْدِيَكَ لِقَصْدِكَ، فَعَهِدْتُ إلَيْكَ وَصِيَّتِي هَذِهِ!۱
ثمّ يشرع أميرالمؤمنين عليه السلام بتفصيل مطالب وصيّته، فيذكر بيانات في كيفيّة الآداب و الأعمال و انهدام الآمال الدنيويّة و كرم النفس و غير ذلك، مستنداً في ذلك كلّه إلى القرآن الكريم و السُّنّة.
دعاء «الصحيفة السجّاديّة» في لزوم التمسّك بالقرآن
و يقول سيّد الساجدين، زين العابدين عليه السلام في صحيفته ضمن الدعاء بعد ختم القرآن، متضرّعاً إلى ساحة الربّ ذي الجلال:
اللَهُمَّ إنَّكَ أنْزَلْتَهُ على نَبِيِّكَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ مُجْمَلًا، وَ ألْهَمْتَهُ عِلْمَ عَجَائِبِهِ مُكَمَّلًا، وَ وَرَّثْتَنَا عِلْمَهُ مُفَسَّراً، وَ فَضَّلْتَنَا على مَن جَهِلَ عِلْمَهُ، وَ قَوَّيْتَنَا عَلَيْهِ لِتَرْفَعَنَا فَوْقَ مَنْ لَمْ يُطِقْ حَمْلَهُ.
اللَهُمَّ فَكَمَا جَعَلْتَ قِلُوبَنَا لَهُ حَمَلَةً، وَ عَرَّفْتَنَا بِرَحْمَتِكَ شَرَفَهُ وَ فَضْلَهُ، فَصَلِّ على مُحَمَّدٍ الخَطِيبِ بِهِ، وَ على آلِهِ الخُزَّانِ لَهُ؛ و اجْعَلْنَا مِمَّنْ يَعْتَرِفُ بِأنَّهُ مِنْ عِنْدِكَ حتى لَا يُعَارِضَنَا الشَّكُ في تَصْدِيقِهِ، وَ لَا يَخْتَلِجَنَا الزَّيْغُ عَنْ قَصْدِ طَرِيقِهِ.
اللَهُمَّ صَلِّ على مُحَمَّدٍ وَ آلِهِ، وَ اجْعَلْنَا مِمَّنْ يَعْتَصِمُ بِحَبْلِهِ، وَ يَأوِي مِنَ المُتَشَابِهَاتِ إلى حِرْزِ مَعْقَلِهِ، وَ يَسْكُنُ في ظِلِّ جَنَاحِهِ، وَ يَهْتَدِي بِضَوْءِ
مِصْبَاحِهِ، وَ يَقْتَدِي بِتَبَلُّجِ إسْفَارِهِ، وَ يَسْتَصْبِحُ بِمِصْبَاحِهِ، وَ لَا يَلْتَمِسُ الهُدَى في غَيْرِهِ.
حتّى يصل إلى قوله: اللَهُمَّ صَلِّ على مُحَمَّدٍ وَ آلِهِ، وَ احْطُطْ بِالقُرآنِ عَنَّا ثِقْلَ الأوْزَارِ، وَ هَبْ لَنَا حُسْنَ شَمَائِلِ الأبْرَارِ، وَاقْفُ بِنَا آثَارَ الَّذِينَ قَامُوا لَكَ بِهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَ أطْرَافَ النَّهَارِ؛ حتى تُطَهِّرَنَا مِنْ كُلِّ دَنَسٍ بِتَطْهِيرِهِ، وَ تَقْفُو بِنَا آثَارَ الَّذِينَ اسْتَضَاءُوا بِنُورِهِ، وَ لَمْ يُلْهِهِمُ الأمَلُ عَنِ العَمَلِ فَيَقْطَعَهُمْ بِخُدَعِ غُرُورِهِ.
اللَهُمَّ صَلِّ على مُحَمَّدٍ وَ آلِهِ، وَ اجْعَلِ القُرْآنَ لَنَا في ظُلَمِ اللَّيَالِي مُؤْنِساً، وَ مِنْ نَزَغَاتِ الشَّيْطَانِ وَ خَطَرَاتِ الوَسَاوِسِ حَارِساً، وَ لأقْدَامِنَا عَنْ نَقْلِهَا إلى المَعَاصِي حَابِساً، وَ لألْسِنَتِنَا عَنِ الخَوْضِ في البَاطِلِ مِنْ غَيْرِ مَا آفَةٍ مُخْرِساً، وَ لِجَوَارِحِنَا عَنِ اقْتِرَافِ الآثَامِ زَاجِراً، وَ لِمَا طَوَتِ الغَفْلَةُ عَنَّا مِنْ تَصَفُّحِ الاعْتِبَارِ نَاشِراً؛ حتى تُوصِلَ إلى قُلُوبِنَا فَهْمَ عَجَائِبِهِ، وَ زَوَاجِرَ أمْثَالِهِ التي ضَعُفَتِ الجِبَالُ الرَّوَاسِي على صَلَابَتِهَا عَنِ احْتِمَالِهِ.۱
لا تغتمّ أبداً مادام وِردك الدعاء و درسك القرآن
و قد كان الخواجة شمس الدين محمّد حافظ الشيرازيّ قدّس الله تربته الزكيّة حافظاً للقرآن الكريم، و قد اشتهر باسم حافظ مع أنّه استاذ كامل، و متكلّم بصير، و فقيه قدير، و عارف منقطع النظير، لأنّه كان حافظاً للقرآن الكريم. و قد قال بنفسه:
عشقت رسد به فرياد ار خود بسان حافظ | *** | قرآن ز بر بخوانى در چارده روايت٢ |
و قال:
حافظ مى خور و رندى كن و خوش باش ولى | *** | دام تزوير مكن چون دگران قرآن را۱ |
و قال:
اى چنگ فرو برده بخون دل حافظ | *** | فكرت مگر از غيرت قرآن و خدا نيست٢ |
و قال:
حافظ به حقّ قرآن كز شيد و زرق باز أى | *** | باشد كه گوى عيشى در اين جهان توان زد٣ |
و قال أيضاً:
زاهد ار رندى حافظ نكند فهم چه شد | *** | ديو بگريزد از آن قوم كه قرآن خوانند٤ |
و قال:
حافظا در كنج فقر و خلوت شبهاى تار | *** | تا بود وردت دعا و درس قرآن غم مخور٥ |
و قال:
گفتمش زلف به خون كه شكستى گفتا | *** | حافظ اين قصّه دراز است به قرآن كه مپرس۱ |
و قال:
هيچ حافظ نكند در خم محراب فلك | *** | اين تنعّم كه من از دولت قرآن كردم٢ |
و قد أورد حافظ في ديوانه اسم القرآن في تسعة مواضع، ذكرنا منها ثمانية مواضع، و نرى أنّ من اللائق، بمناسبة اختتام هذا البحث، أن نذكر الغزل المبارك التاسع بتمامه:
بيا با ما مورز اين كينه دارى | *** | كه حقّ صحبت ديرينه دارى |
نصيحت گوش كن كاين دُر بسى به | *** | از آن گوهر كه در گنجينه دارى |
به فرياد خُمار مفلسان رس | *** | خدا را گر مى دوشينه دارى٣ |
وليكن كى نمائى رخ به رندان | *** | تو كز خورشيد و مه آئينه دارى |
بدِ رندان مگو أى شيخ و هشدار | *** | كه با مهر خدائى كينه دارى |
نميترسى ز آه آتشينم | *** | تو دانى خرقة پشمينه دارى |
نديدم خوشتر از شعر تو حافظ | *** | به قرآنى كه اندر سينه دارى۱ |
روز در كسب هنر كوش كه مي خوردن روز | *** | دلِ چون آينه در زنگ ظلام اندازد |
آن زمان وقتِ مِي صبح فروغ است كه شب | *** | گِرد خرگاه افق پردهء شام اندازد |
البَحْثُ الثَّانِي عَشَر: شُمُولُ القُرْآنِ الكَرِيمِ وَ كَوْنُهُ غَيْر قَابِلً لِلْتَبْدِيلِ و تفسير آية ﴿وَ اوحِى إلى هَذَا الْقُرْآنُ لُانذِرَكُم بِهِ وَ مَن بَلَغَ أئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أنّ مَعَ اللهِ ءَالِهَةً اخْرَى قُل لَا أشْهَدُ قُلْ إنَّمَا هُوَ إلَهٌ وَاحِدٌ وَ إنَّنِي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ﴾
أعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيطانِ الرَّجِيمِ
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
و صلَّى اللهُ على سَيِّدِنا مُحَمَّدٍ و آلِهِ الطَّيِّبِينَ الطَّاهِرِينَ
و لَعْنَةُ اللهِ على أعْدَائهِمْ أجْمَعِينَ مِنَ الآنَ إلى قِيامِ يَوْمِ الدِّينِ
و لَا حَولَ و لَا قُوَّةَ إلَّا بِاللهِ العَلِيِّ العَظِيمِ
قال الله الحكيم في كتابه الكريم:
قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ وَ أُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَ مَنْ بَلَغَ أَ إِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرى قُلْ لا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَ إِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ.۱
ذكرنا في المباحث السابقة أنّ القرآن قد اوحى إلى النبيّ الأكرم صلّى الله عليه و آله و سلّم بخصوصيّة عباراته و ألفاظه و هيئة كلماته و إعرابه، و أنّ معانيه لم تُوحَ إلى النبيّ فقام بصبّها في قالب الألفاظ و العبارات. و هذا الأمر من مختصّات القرآن الكريم، و هو ممّا لا يوجد في كتاب من جميع الكتب السماويّة، و لقد أنزل جبرائيل الأمين تلك المعاني العالية الطيفة من مقام قدس ربّ العزّة في قالب خصوص هذه العبارات الفصيحة البليغة على القلب المبارك لرسول الله.
و لهذا فإنّ ترجمة القرآن لا تُدعي قرآناً؛ و مطالعته دون تلفّظ عباراته لا تُسمّي تلاوةً، و لو استلزمت الأجر و الثواب.
و لقد أخطأ من تصوّر أنّ معاني القرآن لوحدها قد انزلت على النبيّ
الأكرم صلّى الله عليه و آله و سلّم، فهذا مخالف لعقيدة المسلمين. و المسلمون منذ زمن رسول الله و إلى يومنا هذا يعتقدون بأنّ عين ألفاظ القرآن هي كلام الله تعالى الذي انزل على النبيّ؛ و هذا هو القرآن الكريم.
أمّا السُّنّة فعبارة عن المعاني التي كانت تُلقى على قلب النبيّ، فكان يصبّها في قالب العبارات، لأنّ جميع كلام النبيّ الأكرم صلّى الله عليه و آله و سلّم من الربّ الجليل. أمّا إذا صرّح النبيّ بأنّ الله تعالى قال كذا، فإنّه يدعى بالحديث القُدسيّ.
و لا تمثّل مطالعة القرآن قراءةً للقرآن؛ ففي الصلاة - مثلًا - ينبغي أن تجري هذه الألفاظ بخصوصها على لسان المصلّي، و إلّا لم يُعدّ قد قرأ قرآناً، و لكان في النتيجة لم يُقمِ الصلاة. و إذا ما عجز امرؤ عن التلفّظ بهذه العبارات بصيغتها الخاصّة، و لو كان ذلك مسبّباً عن نقصٍ في لسانه أو وجود لكنةٍ لديه، فإنّه لن يكون قد قرأ القرآن، و سيكون الاقتداء به في صلاة الجماعة باطلًا. و الحكمة الجليلة في هذا الحُكم هي حفظ خصوص ألفاظ القرآن و عباراته، لئلّا يسري فيها نقص أو خلل أو زيادة خلال الدهور و الأعوام المتمادية.
طريق ثبوت القرآن منحصر بالتواتر
أمّا طريق ثبوت القرآن لنا فهو طريق التواتر. أي أنّ الأفراد الذين نقلوا لنا القرآن بألفاظه و عباراته و حركاته هم من الكثرة بحيث لا يتصوَّر احتمال تواطئهم على الكذب في ذلك. و مثل ذلك كمثل وجود مدينتَي مكّة و المدينة، و الوجود المقدّس للرسول الأكرم و أميرالمؤمنين عليهما السلام الذي ثبت لدينا بالتواتر.
و علماء العامّة و أساطين الشيعة متّفقون على أنّ طريق ثبوت القرآن منحصر في التواتر. أمّا ما ورد في آحاد الأخبار، فإنّه ليس قرآناً، مهما كان في أعلى درجة من درجات الصحّة. و لهذا السبب فإنّ جميع الروايات
التي وردت في زيادة أو نقص آية أو عبارة من القرآن الكريم، مرفوضة بأجمعها و ساقطة الاعتبار.
و قد أورد هذا المطلب العلّامة الحلّيّ رضوان الله عليه - و هو من أعاظم الفقهاء - في كتابه «التذكرة»، باب القراءة، و في كتاب «نهاية الأحكام» و سائر كتبه الاخرى.
كما أنّه - مضافاً إلى ذلك - أورد دليلًا على أنّ القرآن هو معجزة النبوّة، و أنّ اليقين لازم في الامور الاعتقاديّة، لذا يجب أن يثبت باليقين أمر صحّة القرآن و هو ما ينحصر بالتواتر. و إذا ما كان القرآن يقينيّاً، فإنّ اليقين سيحصل بالنبوّة بناءً على ذلك. أمّا إذا كان القرآن ظنّيّاً، فإنّ معجزة النبوّة ستكون ظنّيّةً، و سيكون أصل النبوّة أمراً ظنّيّاً.
يقول سماحة استاذنا الأكرم آية الله العظمى الحاجّ السيّد أبوالقاسم الخوئيّ دامت بركاته۱ في مقدّمة كتابه في التفسير «البيان»:
أطْبَقَ المُسْلِمُونَ بِجَمِيعِ نِحَلِهِمْ وَ مَذَاهِبِهِمْ على أنَّ ثُبُوتَ القُرْآنِ يَنْحَصِرُ طَرِيقُهُ بِالتَّوَاتُرِ. وَ اسْتَدَلَّ كَثِيرٌ مِنْ عُلَمَاءِ السُّنَّةِ وَ الشِّيعَةِ على ذَلِكَ بِأنَّ القُرْآنَ تَتَوَفَّرُ الدَّوَاعِي لِنَقْلِهِ، لأنَّهُ الأسَاسُ لِلدِّينِ الإسْلَامِيّ، وَ المُعْجِزُ الإلَهِيُّ لِدَعْوَةِ نَبِيِّ المُسْلِمِينَ. وَ كُلُّ شَيْءٍ تَتَوَفَّرُ الدَّوَاعِي لِنَقْلِهِ لَابُدَّ وَ أنْ يَكُونَ مُتَوَاتِراً.
و على ذَلِكَ فَمَا كَانَ نَقْلُهُ بِطَرِيقِ الآحَادِ لَا يَكُونُ مِنَ القُرْآنِ قَطْعاً.٢
و يتّضح من كلامه أنّ كلّ من يقرأ القرآن، من زمن النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم إلى يومنا هذا، يلزمه أن يكون قد سمع نفس الكلمات و الحروف التي يتعلّمها من النبيّ الأكرم نفسه، أو أن يسعى - إذا سمعه بواسطةٍ منه - أن يتيقّن بصدورها منه؛ و أنّ من يقرأ بقراءة شاذّة، في أي زمن كان، سيتعرّض للانتقاد و الطعن.
جمع القرآن في زمن عثمان بإشراف زيد بن ثابت
و قد كان هناك جماعة في عصر الرسول الأكرم يأخذون القرآن عن النبيّ فيعلّمونه للناس؛ و من أشهرهم ابيّ بن كعب۱ و عبد الله بنمسعود،
و كان لكلّ منهم مصحف خاصّ، و كانت قراءاتهم تختلف عن بعضها. و كان رسول الله يعلم باختلاف القرّاء، و كان يمنعهم في بعض الأحيان، و يقرّهم في البعض الآخر، أي يجيز تلك القراءة و يُقرّها.۱
و كانت قراءة ابيّ بن كعب و قراءة عبد الله بن مسعود من القراءات التي كان رسول الله يُقرّها، و لذلك فحين أراد عثمان إلغاء جميع القراءات و إبقاء قراءة واحدة فقط يجمع الناس عليها، فقد اعترض عليه عبد الله بن مسعود و قال: لقد كنتُ أقرأ القرآن بقراءتِي في عصر رسول الله، و كان يسمع قراءتِي و يُقرّها، فلا معنى لسعيك حصر قراءة القرآن في قراءة واحد و إلغاء باقي القراءات، و لو كان هذا العمل صحيحاً، لعمله رسول الله بنفسه، و يجب أن لا تُلغي القراءات المشهورة المعروفة. أجل، فالقراءات الشاذّة التي لم تثبت بالتواتر ينبغي ألّا توضع في النسخ التي في أيدي الناس.
و بيان ذلك أنّ عبد الله كان في أحد أسفاره، فكتب إلى عثمان: لقد راجت القراءات الكثيرة بين الناس، فأدرك القرآن! فقام عثمان بتشكيل جماعة من خمسين نفر من قرّاء الصحابة: خمسة و عشرون منهم من
المهاجرين، و خمسة و عشرون من الأنصار، يرأسهم و يُشرف عليهم زيد ابن ثابت. فكان كلّ من كان معه آية من القرآن يأتي بها فيعرضها على هؤلاء القرّاء و يشهد له شاهدا عدل، فتدوّن آيته في المصحف، و كان ذلك بطبيعة الحال احتياطاً منهم لئلّا تبقى آية من القرآن الكريم عند أحد دون أن تُجمع في التدوين الأوّل:
تدوين القرآن في عصر أبي بكر و في عصر عثمان
و كان التدوين الأوّل للقرآن قد حصل على يد زيد بن ثابت في زمن أبي بكر بأمرٍ منه، فقد كان القرآن حتى ذلك الحين لم يُجمع و لم يدوّن بين الدفّتين. و كان الناس يحفظون سور القرآن في صدورهم، و كان بعضهم يحفظ أكثر من سواه، و كان الأفراد الذين يحفظون سوراً كثيرة يُدعون بالقرّاء، و كان عددهم في زمن رسول الله يقرب من سبعين أو ثمانين قارئاً. و كانوا يعلّمون الناس القرآن الكريم.
ثمّ إنّ عدداً من هؤلاء القرّاء استشهد في وقعة بئر معونة في عصر رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم، ثمّ استشهد سبعون منهم - و برواية اخرى أربعمائة نفر منهم - في عصر أبي بكر خلال محاربة المسلمين لمُسيلمة الكذّاب في اليمامة،۱ فخُشي على القرآن من الضياع بهلاك قرّائه، فجاء عمر إلى أبى بكر و أصرّ على ضرورة جمع القرآن الذي في أيدي الناس و في صدورهم و تدوينه مجموعاً، و إلّا خُشي على القرآن من الضياع باستشهاد باقي القرّاء في الحروب التي قد تحدث، فعُهد إلى زيد بن ثابت - و كان من قرّاء القرآن من الأنصار، و كان شابّاً عاقلًا - بجمع القرآن
و تدوينه، فقام بذلك، و جمع سور القرآن و آياته المتفرّقة حتى لم تُترك آية إلّا و دُوّنت في هذا التدوين. و قد دُعي هذا التدوين بهذه الكيفيّة بالتدوين الأوّل للقرآن.۱
أمّا التدوين الثاني الذي حصل في عهد عثمان، فلم يتعرّض لأصل القرآن، بل بكيفيّة قراءته. فقد كان قارئو القرآن الذين يتعلّمون القرآن في عصر رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم ثمّ يعلّمونه للناس،٢ و كانوا يقرأون القرآن بقراءات مختلفة، و كان رسول الله يسمع تلك القراءات الرائجة فلا يمنع عنها إلّا في بعض مواقع الضرورة، فقد كان ينبّه على القراءات المغلوطة.
امتناع ابن مسعود من تسليم مصحفه إلى عثمان لإحراقه
و كانت القراءات كثيرة يتجاوز عددها المائة قراءة، ثمّ اشتدّ الاختلاف شيئاً فشيئاً، حتى بلغ الاختلاف في عهد عثمان بواسطة كثرة القرّاء و مرور الزمان حدّاً جعل عبد الله بن مسعود يكتب إلى عثمان. أدرك هذه الامّة، فقد كثرت القراءات و أشرف القرآن على الضياع. و شاركه حذيفة اليمانى و بعض الصحابة الآخرين في التأكيد على هذا الأمر،
فاستجاب عثمان لطلب ابن مسعود، فأمر بجلب جميع المصاحف إلى المدينة، سواء في ذلك مصاحف المدينة، و مصاحف مكّة، و مصاحف سائر البلاد الاخرى، فجُمعت المصاحف، و كانت في ذلك العصر مدوّنة على ألواح الخشب و الأكتاف و عُسب النخل و قطع أديم الغزال و الرقاع، فكدّست على بعضها فكانت تلّا كبيراً، فأحرقها بأجمعها.
هذا ما جاء في روايات الشيعة، أمّا ما جاء في روايات العامّة فهو أنّ عثمان أمر بإلقاء هذه المصاحف في قدر ماء مغليّ فسُلقتْ حتى زالت عنها آيات القرآن. ثمّ إنّ عثمان أمر زيد بن ثابت بتدوين المصحف على قراءة واحدة، فدُعي هذا التدوين بالتدوين الثاني:
ثمّ إنّ عثمان أعدّ خمس نُسخ من هذا المصحف، فأبقى أحدهما في المدينة بعنوان إمام، و أرسل مصحفاً إلى مكّة، و مصحفاً إلى الشام، و مصحفاً إلى البصرة، و مصحفاً إلى الكوفة. و دُعيت تلك المصاحف بالمصحف الإمام، لأنّها صارت مرجعاً يرجع إليه جميع أهالي تلك الديار. كما جاء في بعض الروايات أنّ عثمان أرسل أيضاً مصحفاً إلى اليمن، و مصحفاً إلى البحرين.۱
و في خضمّ انشغال عثمان بجمع المصاحف، عاد عبد الله بن مسعود من سفره، فرأى عثمان و هو يريد إحراق المصاحف، فانتقده في عدّة مجالس، وعيّره بذلك و قال: لقد كتبتُ إليه أنّ القراءات قد زادت بحيث إنّ أصل القرآن صار في معرض الزوال، و لم أقل له أن يُلغي جميع القراءات، لأنّ كثيراً من تلك القراءات كان موجوداً في عهد رسول الله،
و كان رسول الله يقرّها، و من جملتها هذا المصحف الذي معي، فقد قرأته على النبيّ، و قرأه النبيّ على هكذا. و ليس هناك معنى لإتلاف جميع المصاحف، مضافاً إلى أنّ إحراق القرآن بهذه الكيفيّة هو هتك للكتاب الإلهيّ و عمل قبيح ينبغي اجتنابه. لقد كنتُ أوّل مَنِ اقترح هذا الأمر و سبق إليه، فقد أردتُ تجليل كلام الله، فإن شئت (يا عثمان) أن تسبّب هتك حرمة القرآن بهذه الكيفيّة، فإنّي أخالفك بذلك.
فلم يستمع عثمان إليه، و طلب من ابن مسعود تسليمه قرآنه ليحرقه مع سائر المصاحف، فامتنع ابن مسعود أشدّ الامتناع. ثمّ إنّ عثمان كان يخطب يوماً على المنبر، فقام إليه ابن مسعود و وبّخه على مسمع من الناس، و اعترض على فعله، فغضب عثمان و أمر غلمانه فسحبوه على وجهه من المسجد و ألقوه خارجه، لكنّه لم يسلّم المصحف الذي لديه، و قد كُسر له إثر ذلك أحد أضلاعه، و سقط مريضاً في الفراش حتى فارق الحياة.۱
و لمّا مرض ابن مسعود، عاده عثمان و أراد أن يدفع إليه عطاءه من بيت المال، فلم يقبل و قال: منعتَنيه و أنا أحوج إليه، و تُعطينيه و أنا مُستغنٍ عنه، مُشرف على موتي!٢
و قد بقي الاختلاف في القراءة بعد عصر عثمان، إلّا أنّه صار محدوداً في رسم الخطّ الموجود في مصحف زيد و لم يتعدّاه إلى غيره. أمّا في القراءات السابقة، فقد كان الاختلاف يتعدّى أحياناً رسم الخطّ، و هذا الأمر لا يخفى على المتتبّعين من أهل التفسير و القراءات.
فقد كانت قراءة عمر بن الخطّاب - مثلًا - صِرَاطَ مَنْ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَ غَيْرِ الضَّآلِّيِنَ، خلافاً لرسم الخطّ في المصحف المشهور.
و جاء في قراءة ابن مسعود: مِنْ بَقْلِها وَ قِثَّائِها وَ ثُومِهَا، بدل: وَ فُومِها و في قراءته: وَ أقِيمُوا الْحَجَّ وَ الْعُمْرَةَ لِلَّهِ، بدلًا من: وَ أَتِمُّوا الْحَجَّ وَ الْعُمْرَةَ لِلَّهِ. و في مصحف ابيّ بن كعب. فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ ألَّا يَطَّوَّفَ بِهِمَا، بدلًا من: أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما.
لكن أيا من هذه القراءات ليس معتبراً عندنا، لأنّها آخبار آحاد نحتمل صدقها كما نحتمل كذبها. و مع أنّنا نقوم بإثباتها بأدلّة حجّيّة خبر الواحد بواسطة كون سلسلة رواتها من الثقات، إلّا أنّ أدلّة الحجّيّة لا تولّد اليقين لدينا، و لا تنفع في الامور اليقينيّة. أجل، فقد كانت تلك القراءات
معتبرة لأهل ذلك العصر، لأنّها كانت تعدّ متواترة لديهم.
و بصورة عامّة، فإنّ جميع القراءات التي تنقل اليوم لا تمثّل أكثر من أخبار آحاد، و لذلك فهي ليست حجّة. و لو أنّنا قرأنا القرآن بتلك القراءات لارتكبنا معصية فضلًا عن حرماننا من الأجر و الثواب، لأنّنا سنكون قد قرأنا شيئاً لا تزال قرآنيّته مشكوكة لدينا، بعنوان قرآن.
أمّا القراءة المتواترة لدينا اليوم، فهي منحصرة في مصحف زيد بن ثابت. و قد قال العلّامة في «التذكرة» في باب القراءة بأنّ هذه القراءة من مصحف أميرالمؤمنين عليه السلام الذي أبقاه عثمان و أحرق ما سواه. و هذا القول لا يُنافي القول بأن زيد بن ثابت قد امر بجمع القرآن، لأنّ ما كتبه زيد كان موافقاً لقرآن الإمام.۱
أقول: و كذلك لا يتنافي مع ما رواه الشيعة و العامّة من أنّ أميرالمؤمنين عليه السلام عرض مصحفه عليهم فلم يقبلوا به، لأنّ عدم قبولهم للمصحف، هو غير مطابقة مصحف زيد بن ثابت في هذا الجمع للقرآن مع مصحف الإمام، فقد بقي مصحف الإمام عنده، لكنّ القراءة (التي أثبتها زيد) كانت مطابقة لقراءة الإمام.
و قد أوردنا في هذا الشأن كلاماً للعلّامة الاستاذ قدّس الله سرّه
الشريف في كتابنا «الشمس الساطعة» جاء فيه:
أميرالمؤمنين يحمل مصحفه على بعير و يأتي به إلى المسجد
«و قد ورد في أحد التواريخ، و لعلّه «تاريخ اليعقوبيّ» (لا يحضرني ذلك تماماً) أنّ أميرالمؤمنين سلام الله عليه لم يخرج من منزله بعد ارتحال الرسول الأكرم صلّى الله عليه و آله و سلّم، فذهب إليه عدّة من وجوه الصحابة و استفسروا منه عن علّة عدم خروجه و عدم ذهابه إلى المسجد للالتحاق بجماعة المسلمين، فقال بأنّه أقسم ألّا يضع رداءه على عاتقه إلّا بعد أن يتمّ تنظيم القرآن و ينظّم تفسيره و تأويله. ثمّ إنّه عليه السلام نظّم القرآن و رتّبه حسب ترتيب نزوله في مدّة ستّة أشهر.
فكانت أوّل سورة - حسب ترتيب الإمام - هي سورة اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، و جعل خاتمته آخر سورة نزلت على رسول الله، مثل سورة المائدة. فتكون سورة البقرة التي نزلت في المدينة في آخر القرآن. أمّا السور القصار في آخر القرآن، و التي نزلت أغلبها في مكّة، فإنّ موضعها كان في أوّل القرآن.
و من خصائص هذا المصحف، مضافاً إلى ترتيب السور و الآيات حسب ترتيب نزولها، أنّ شأن الآيات و السور قد ذُكر فيه.۱ و بذلك فقد كان سبب نزول كلّ آية أو سورة نزلت في وقت معيّن، قد شُخصّ في ذلك القرآن، فكانت السورة تمتاز عن السور التي سبقتها في النزول و عن التي أعقبتها في ذلك. و تقع هذه السور في وسط القرآن.
أجل، فقد نظّم أميرالمؤمنين عليه السلام المصحف بهذه الكيفيّة،
حتّى بلغ به الأمر إلى تشخيص بعض النواحي التفسيريّة و التأويليّة، حتى أتمّه بعد ستّة أشهر، فحمله على بعير و جاء به إلى باب المسجد - و كان فيه جمعٌ من الصحابة - فقال: هَذَا هُوَ قُرْآنُكُمْ! قد جمعتُه و جئتُ به فلم يلتفتوا إلى كلامه، فأعاده إلى منزله، و لم يرد بعد ذلك له خبر.
و هذا هو محصّل ما جاء في روايات العامّة.۱ أمّا روايات الخاصّة فقد جاء فيها أنّه عليه السلام حمل القرآن على بعير و جاء به إلى المسجد فقال: هذا هو قرآنكم! فقالوا له: لا حاجةَ لنا بقرآنك! و لم يلتفتوا إليه، فعطف الإمام زمام بعيره و عاد إلى المنزل و قال: أمَا إنَّكُمْ لَنْ تَرُونَهُ إلى يَوْمِ القِيَامَةِ!٢
أجل، فقد كان شأن النزول في ذلك المصحف قد بُيّن إلى حدٍّ ما، و كان يظهر موقع كلّ آية، و موقع الآيات التي تسبقها و التي تليها في النزول، و يبدو أنّ هذه الامور كانت مبيّنة فيه.
كما يبدو أنّ في مكّة و المدينة في الوقت الحاضر أشخاص منهمكون في تأليف تفسيرين للقرآن حسب ترتيب النزول، و قد شاهدت قدراً من
ذلك العمل، إلّا أنّ هناك إشكالًا في نفس الروايات الموجودة في أيدي العامّة و التي ورد فيها شأن النزول، لأنّ هناك ثلاث روايات وردت عن العامّة في شأن النزول تختلف فيما بينها و لكلٍّ من هذه الروايات اسلوب خاصّ بها.
أجل، فهناك مطالب عن كيفيّة التنظيم و القراءة و شأن النزول في مصحف أميرالمؤمنين عليه السلام مدوّنة في تفسير ... (لأحد المفسّرين، و تفسيره يقع في مجلّد واحد، و قد ذكر فيه قدراً من مطاعن عثمان و معاوية و غيرهما).۱
مصحف عثمان كان مورد إمضاء الأئمة، و هو كمصحف عليّ مقداراً
بَيدَ أنّ الأئمّة الطاهرين سلام الله عليهم لمّا أقرّوا المصحف الذي جمعه عثمان على يد زيد بن ثابت وفقاً لقراءة أميرالمؤمنين عليه السلام، و أمروا بقراءته، فإنّنا موظّفون بقراءته. و لا يختلف القرآن الفعليّ الذي في أيدينا، و الذي جُمع على يد عثمان، عن مصحف أميرالمؤمنين عليه السلام أي اختلاف في عدد السور و الآيات. و علماء الشيعة و العامّة مُجمعون و متّفقون على أنّ القرآن كامل لم تسقط منه و لم يُزاد فيه آية أو كلمة. أمّا عدم وجود مصحف أميرالمؤمنين عليه السلام في متناول اليد، فمع أنّه سيُلحق ضرراً من جهة عدم الاطّلاع على شأن النزول و الموارد النازلة في القرآن، و عدم الاطّلاع على التأويل و التفسير، و على ترتيب النزول و تقدّم الآيات و السور و تأخّرها، و هو أمر يؤدّي في النتيجة على عدم الاطّلاع على العلوم القرآنيّة و يصعّب أمر اتّساعها، إلّا أنّه ليس فيه أي تفاوت، بلحاظ فنّ أهل البيت عليهم السلام و منهجهم في التفسير، و هو
تفسير الآية بالآية، إذ بناءً على هذه الطريقة، فإنّ كلّ آية يجب أن تُفهم من الآيات الاخرى و من خلال المقارنة بين تلك الآيات. و على من يحاول الحصول على علم بمغزى القرآن و تفسيره أن ينظر إلى جميع الآيات الواردة في ذلك الخصوص، فلا يختلف الأمر - بناءً على ذلك - سواء علم بشأن النزول أم لم يعلم.
و قد كان هذا الأمر المهمّ مورد نظر و التفات أئمّة أهل البيت عليهم السلام، و على هذا الأساس فقد أقرّوا هذه القراءة، و أمروا باتّباعها، و كانوا خلال احتجاجاتهم و استشهاداتهم يستدلّون بهذه الآيات و بهذه القراءة.۱
عدم جواز قراءة القرآن بقراءةٍ غير متواترة
أجل، فمن جهة الحجّة الشرعيّة، فإنّ جميع القراءات المتواترة و الرائجة في زمن الرسول الأكرم صلّى الله عليه و آله و سلّم لو بلغتنا اليوم بالتواتر، لأصبحنا مختارين في قراءة القرآن الكريم بأيّة واحدة من تلك القراءات، سواء كانت قراءة ابن مسعود أم ابيّ بن كعب أو غيرهما. أمّا أنّ تلك القراءات عدا القراءة المشهورة لمّا سقطت عن حدّ التواتر، فقد أضحت تلك القراءات مشكوكة لدينا و لا تمثّل إلّا أخبار آحاد.
يقول العلّامة الحلّيّ في «التذكرة» بأنّ قراءة عبد الله بن مسعود و ابيّ ابن كعب و أمثالهما غير جائزة لنا بسبب عدم تواترها.
و لقد كان سعيد بن جُبير يتلو القرآن بجميع القراءات، و لم يكن يتبنّي قراءة معيّنة، لأنّ جميع تلك القراءات كانت متواترة لديه. و قد ورد في قراءة ابن عبّاس و ابيّ بن كعب و ابن مسعود في الآية ٢٤ من سورة النساء. «فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ»،۱ و هي قراءة غير جائزة لنا.
القرآن الذي يُقرأ اليوم بقراءة عاصم هو قراءة أميرالمؤمنين عليه السلام
و قد ذكر آية الله الشعرانيّ رحمة الله عليه مطالب حول القرآن المشهور الذي يُقرأ فعلًا، و مطابقته لقراءة أميرالمؤمنين عليه السلام، و عن عدم وجود نقص أو تحريف في القرآن، نبادر إلى ذكرها لمطابقتهانظر الحقير؛ حيث يقول:
«لقد نشأ التوهّم بوجود نقص أو تحريف في القرآن منذ زمن عثمان، فقد أراد جمع الناس على قراءة واحدة، فأحرق المصاحف الاخرى، فحصل التوهّم بأنّ قدراً من القرآن قد ضاع خلال إحراق المصاحف، بَيدَ أنّ سنخ تلك القراءات المحروقة موجود فعلًا. و نحن نعلم
الحدّ الذي كانت المصاحف تختلف فيه في القراءة. و على أيّة حال، فإنّ احتمال وجود نقص أو تحريف في القرآن هو احتمال سخيف، و قال به البعض سَفَهاً.
و قد أبطل السيّد المرتضى هذا القول بالبرهان، و قد ذُكر ذلك في «مجمع البيان» و «التبيان» و سائر الكتب. بل إنّ هذا القول لم يوجد أساساً لدى الطبقة الوسطى من علمائنا، مثل العلّامة و الشهيد و المحقّق. و يقول الشيخ الصدوق. إنّ من ينسب إلينا القول بنقصان القرآن كاذب مفترٍ، و نحن لا نقول بهذا أبداً.
و حسب قول العلّامة رحمه الله في «التذكرة»، فإنّ مصحف أميرالمؤمنين عليه السلام الذي جمعه بعد ارتحال النبيّ، هو المصحف المتداول حاليّاً بيننا، و أمّا المصاحف الاخرى فقد أحرقها عثمان.
و ينقل الطبرسيّ في «مجمع البيان» في سورة التحريم عن أبي بكر ابن عيّاش قوله: «إنّي أدخلتها (أي الحروف العشر) في قراءة عاصم من قراءة عليّ بن أبي طالب عليه السلام حتى استخلصتُ قراءته، يعني قراءة عليّ عليه السلام».۱
و إحدى موارد الاختلاف هي كلمة عَرَّفَ في الآية الثالثة من سورة التحريم، حيث القراءة المشهورة بالتشديد، أمّا أبوبكر بن عيّاش فقد قرأها بالتخفيف.
و يقول ابن النديم في «الفهرست» في قراءة حفص: وَ كَانَتِ القِرَاءَةُ التي أخَذَهَا عَنْ عَاصِمٍ مُرْتَفِعَةً إلى عليّ بْنِ أبي طَالِبٍ عَلَيْهِالسَّلَامُ مِنْ رِوَايَةِ أبِي عَبْدِالرَّحْمَنِ السُّلْمِيِّ - انتهى.
و قراءة حفص هي القراءة المشهورة المتداولة حالياً، و التي تكتب المصاحف وفقاً لها.
فالقول الصحيح إنّ القراءة المعروفة الموجودة في أيدينا، و التي نقلت عن عاصم، هي قراءة أميرالمؤمنين عليه السلام».
حتّى يصل إلى قوله: «و أمّا قولهم بأنّ أميرالمؤمنين أراد جمع القرآن، فإنّهم يقصدون جمعه للسور في مجلّد واحد، و ليس جمع الآيات المتفرّقة و تشكيل سورة منها. و كذلك الحال في شأن زيد بن ثابت و غيره، فقد كان ترتيب السور قد أنجز في زمن النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم،
و قد جاء في القرآن:
فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ؛۱ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ؛٢ سُورَةٌ أَنْزَلْناها.٣
كما تكرّر كثيراً في أخبار الرسول الأكرم صلّى الله عليه و آله و سلّم الشبيهة بالدرر ذكر أسماء سور للقرآن الكريم، و ذكر فضائل قراءتها، مثل سورة يس و سورة البقرة و غير ذلك.٤
و ينبغي أن نرى الآن هل نحن موظّفون اليوم أن نقرأ القرآن من المصحف الفعليّ حسب قراءة حفص عن عاصم بن أبي عبدالرحمن السلميّ عن أميرالمؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام؛ أم أنّنا مختارون في القراءة، مخيّرون بين هذه القراءة و بين إحدى القراءات الستّ الاخرى التي يقال لمجموعها القراءات السبع المتواترة؟ أو مخيّرون بين هذه القراءة و بين تسع قراءات اخرى يعدّ مجموعها القراءات العشر المتواترة و الشاذّة المقبولة المعروفة؟ تلك مسألة مهمّة قد جرى بحث جوانبها المختلفة و اختلفت الآراء في شأنها.
القراءات السبع المتواترة
قال السيوطيّ في «الإتقان»: «المشتهرون بقرّاء القرآن من الصحابة سبعة: عُثمان، و عليّ، و ابيّ، و زيد بن ثابت، و ابن مسعود، و أبوالدرداء و أبوموسي الأشعريّ، كذا ذكرهم الذهبيّ في «طبقات القرّاء».
ثمّ ذكر مَن أخذ عنهم من المدينة و مكّة و الكوفة و البصرة و الشام
الذين صاروا أئمّة يُقتدى بهم، ثمّ ذكر أسماءهم واحداً فواحداً ثمّ قال: «و اشتهر من هؤلاء في الآفاق الأئمّة السبعة:
نافع، و قد أخذ عن سبعين من التابعين، منهم أبوجعفر.
و ابن كثير، و أخذ عن عبد الله بن السائب الصحابيّ.
و أبوعمرو، و أخذ عن التابعين.
و ابن عامر، و أخذ عن أبي الدرداء، و أصحاب عثمان.
و عاصم، و أخذ عن التابعين.
و الكسائيّ، و أخذ عن حمزة و أبي بكر بن عيّاش.
و حمزة؛۱ و أخذ عن عاصم و الأعمش و السَّبيعيّ و منصور بن
المعتمر و غيره.
ثمّ انتشرت القراءات في الأقطار، و تفرّقوا امماً بعد امم، و اشتهر من رواة كلّ طريق من طرق السبعة راويان:
فعن نافع: قالون و ورش، عنه.
و عن ابن كثير: قَنْبل و البزّيّ، عن أصحابه، عنه.
و عن أبي عمرو: الدوريّ و السوسيّ، عن اليزيديّ، عنه.
و عن ابن عامر: هشام و ابن ذكوان عن أصحابه، عنه.
و عن عاصم: أبوبكر بن عيّاش، و حفص، عنه.
و عن حمزة:۱ خَلَفَ وخَلّاد، عن سليم، عنه.
و عن الكسائيّ:۱ الدوريّ، و أبوالحارث.٢
القراءات المتواترة، و الآحاد، و الشاذّة
و يقول السيوطيّ: «اعلم أنّ القاضي جلال الدين البُلقينيّ قال: القراءة
تنقسم إلى متواتر و آحاد و شاذّ.
فالمتواتر: القراءات السبعة المشهورة.
و الآحاد: قراءات الثلاثة التي هي تمام العشر، و يلحق بها قراءة الصحابة.
و الشاذّ: قراءات التابعين كالأعمش و يحيي بن وثّاب و ابن جُبير و نحوهم.
و هذا الكلام فيه نظرٌ يُعرَف ممّا سنذكره. و أحسن من تكلّم في هذا النوع إمام القرّاء في زمانه، شيخ شيوخنا أبوالخير بن الجزريّ. قال في أوّل كتابه «النَّشْر»: كلّ قراءةٍ وافقت العربيّة و لو بوجهٍ، و وافقتْ أحد المصاحف العثمانيّة و لو احتمالًا، وصحّ سندها، فهي القراءة الصحيحة التي لا يجوز ردّها و لا يحلُّ إنكارها، بل هي من الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن، و وجب على الناس قبولها، سواء كانت عن الأئمّة السبعة، أم عن العشرة، أم عن غيرهم من الأئمّة المقبولين. و متى اختلّ ركنٌ من هذه الأركان الثلاثة، اطلِق عليها ضعيفة أو شاذّة أو باطلة، سواء كانت عن السبعة أو عمّن هو أكبر منهم. هذا هو الصحيح عند أئمّة التحقيق من السَّلف و الخلف، صرّح بذلك الدانيّ، و مكّيّ، و المهدويّ، و أبوشامة، و هو مذهب السلف الذي لا يُعرف عن أحدٍ منهم خلافه».۱
روايات: إنَّ القُرْآنَ نَزَلَ بِحَرْفٍ وَاحِدٍ على نَبِيٍّ وَاحِدٍ
و قد أنكر صاحب «الجواهر» رحمة الله عليه تواتر القراءات السبعة و قال بأنّ القرآن إنّما نزل بحرفٍ واحد على النبيّ الأكرم صلّى الله عليه و آله و سلّم، و ذلك هو القرآن فحسب. أمّا باقي القراءات فهي اجتهاد القرّاء و أساتيذ العربيّة في القرآن. و يقول في كتاب الصلاة من «الجواهر»:
لا يُقال (في الاعتراض على نظرنا): إنّه بعد أن كلّف بقراءة القرآن مثلًا في الصلاة، فلا يجزيه إلّا قراءة ما هو معلومٌ أنّه قرآن أو كالمعلوم، و هو لا يحصل إلّا بالقراءات السبع، للإجماع في «جامع المقاصد» و عن «الغَرِيَّة» و «الروض» على تواترها. كما عن «مجمع البرهان» نفي الخلاف فيه المؤيّد بالتتبّع، ضرورة مشهوريّة وصفها به في الكتب الاصوليّة و الفقهيّة. بل في «المدارك» عن جدّه۱ أنّه أفرد بعض محقّقي القرّاء كتاباً في أسماء الرجال الذين نقلوا هذه القراءات في كلّ طبقة، و هم يزيدون عمّا يعتبر في التواتر، مضافاً إلى قضاء العادة بالتواتر في مثله لجميع كيفيّاته، فتوفّر الدواعي على نقله من المقرّ و المنكِر، و إلى معروفيّة تشاغلهم به في السلف الأوّل، حتى أنّهم كما قيل ضبطوه حرفاً حرفاً، بل لعلّ هذه السبعة هي المرادة من قوله صلّى الله عليه و آله: نَزَلَ القُرْآنُ على سَبْعَةِ أحْرُفٍ، كما يوفي إليه (الحديثُ) المرويّ عن «خصال الصدوق».
و (السبب الآخر) لأنّ الهيئة (في كلّ كلمة) جزء اللفظ المركّب منها و من المادّة، فعدم تواترها يقضي بعدم تواتر بعض القرآن.
أو (أن يقول أحد بوجوب القراءة في الصلاة بإحدى القراءات) العشر، لدعوى الشهيد في «الذكري» تواترها أيضاً، و هو لا يقصر عن نقل الإجماع بخبر الواحد كما اعترف به في «جامع المقاصد»، و إن ناقشه بعضُهم بأنّ شهادته غير كافية، لاشتراط التواتر في القرآن الذي يجب ثبوته بالعلم، و لا يكفي الظنّ، فلا يُقاس على الإجماع.
نعم، يجوز ذلك له، لإن كان التواتر ثابتاً عنده، و لو سُلّم عدم تواتر
الجميع، فقد أجمع قدماء العامّة و من تكلّم في المقام من الشيعة - كما عن الفاضل التونيّ في «وافية الاصول» - على عدم جواز القراءة بغيرها و إن لم يخرج عن قانون اللغة العربيّة. و في «مفتاح الكرامة»: أنّ أصحابنا متّفقون على عدم جواز العمل بغير السبع أو العشر إلّا شاذّ منهم. و الأكثر على عدم العمل بغير السبع.
ثمّ يشرع صاحب «الجواهر» بذكر أدلّة المطالب السالفة الذكر، ثمّ يبدأ بالإجابة على هذا الإشكال بأربعة أجوبة مفصّلة، حتى يصل إلى قوله:
بل لعلّ المعلوم عندنا خلافه، ضرورة معروفيّة مذهبنا بِأنَّ القُرْآنَ نَزَلَ بِحَرْفٍ وَاحِدٍ على نَبِيٍّ وَاحِدٍ، و الاختلاف فيه من الرواة، كما اعترف به غير واحدٍ من الأساطين. قال الشيخ (الطوسيّ) فيما حكي من «تبيانه»: إنّ المعروف من مذهب الإماميّة و التطلّع في أخبارهم و رواياتهم أنّ القرآن نزل بحرفٍ واحد على نبيٍّ واحد، غير أنّهم أجمعوا على جواز القراءة، فإنّ الإنسان مخيّر بأ يّ قراءة شاء، و كرهوا تجويد قراءةٍ بعينها.
و قال الطبرسيّ فيما حكي عن «مجمعه»: الظاهر من مذهب الإماميّة أنّهم أجمعوا على القراءة المتداولة، و كرهوا تجريد قراءة مفردة، و الشائع في أخبارهم أنّ القرآن نزل بحرفٍ واحد.
و قال الاستاذ الأكبر۱ في حاشية «المدارك»: و لا يخفى أنّ القراءة عندنا نزلت بحرفٍ واحد، و الاختلاف جاء من قبل الرواية، فالمتواتر ... إلى آخر ما نقلناه عنه سابقاً.
و قال الباقر عليه السلام في خبر زُرارة:
إن القُرْآنَ وَاحِدٌ نَزَلَ مِنْ عِنْدِ الوَاحِدِ، وَلَكِنَّ الاخْتِلَافَ يَجِيءُ مِنْ
قِبَلِ الرُّوَاةِ.
و قال الصادق عليه السلام في صحيح الفُضَيل لمّا قال له: إنّ الناس يقولون إنَّ القُرْآنَ على سَبْعَةِ أحْرُفٍ، [قال:] كَذِبَ أعْدَاءُ اللهِ، وَلَكِنَّهُ نَزَلَ على حَرْفٍ وَاحِدٍ مِنْ عِنْدِ الوَاحِدِ. و مثله خبر زرارة.
و قال أيضاً في صحيح المُعلّى بن خُنَيس لربيعة الرأي: إنْ كَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ لَا يَقْرَا على قِرَاءَتِنَا فَهُوَ ضَالٌّ.
فقال ربيعة الرأي: ضَالٌّ؟
فقال: نعم. ثمّ قال أبوعبد الله عليه السلام: أمَّا نَحْنُ فَنَقْرَا على قِرَاءَةِ ابَيٍّ.
إنكار صاحب «الجواهر» و آية الله الخوئيّ تواتر القرآءات السبع
ثمّ يستمرّ الشيخ صاحب «الجواهر» في كلامه، فيبحث في أمر عدم تواتر القراءات بالتفصيل، حتى يصل إلى قوله:
«فإنّ مَن مارس كلماتهم عَلِمَ أن ليس قراءتهم إلّا باجتهادهم و ما يستحسنوه بأنظارهم، كما يومي إليه ما في كتب القراءة مِن عدّهم قراءة النبيّ صلّى الله عليه و آله و على و أهل البيت عليهم السلام في مقابلة قراءاتهم، و من هنا سمّوهم المتبحّرين، و ما ذاك إلّا لأنّ أحدهم كان إذا برع و تمهّر، شرع للناس طريقاً في القراءة لا يُعرَف إلّا من قِبَله، و لم يرد على طريقةٍ مسلوكة و مذهبٍ متواتر محدود، و إلّا لم يختصّ به، بل كان من الواجب بمقتضي العادة أن يعلم المعاصر له بما تواتر إليه، لاتّحاد الفنّ و عدم البعد عن المأخذ، و من المستبعد جدّاً أنّا نطّلع على التواتر و بعضهم لا يطّلع على ما تواتر إلى الآخر» - (الكلام).۱
ثمّ يختتم صاحب «الجواهر» كلامه بعد تفصيلٍ ما، و هو - كما نلاحظ - مصرّ على عدم التواتر.
و قد اقتفى آية الله الخوئيّ مدّ ظلّه، استاذنا المكرّم في علم اصول الفقه، في كتابه تفسير «البيان» أثر المرحوم صاحب «الجواهر»، فأورد بحثاً مفصّلًا تحت عنوان نظرةٌ في القراءات، و أورد ترجمة كلّ واحدٍ من القرّاء العشرة، ثمّ أبطل تواتر هذه القراءات بخمسة أدلّة:
الأوّل: عدم تواترها لنا من زمن القرّاء.
الثاني: عدم التواتر في الطريق الذي أخذوا تلك القراءات بواسطته عن رسول الله.
الثالث: انقطاع أسانيد التواتر في أشخاص القرّاء، إذ على فرض تحقّق التواتر قبلًا و بعداً، فإنّ راوي القراءة ينحصر بهم في طبقتهم، فتكون خبر آحاد.
الرابع: احتجاج كلّ قارئ بصحّة قراءته، و إعراضه عن قراءة غيره.
و الخامس: إنكار جملة من المحقّقين أمر تواتر القراءات.
ثمّ إنّه يتصدّى بعد بيان مفصّل و كلام مبسوط لبيان أدلّة مَن يدّعي تواتر القراءات فيقوم بالردّ على تلك الأدلّة، فيقول:
«(الدليل) الرابع (من أدلّة هذه الجماعة) أنّ القراءات لو لم تكن متواترة، لكان بعض القرآن غير متواتر، مثل ملك و مالك و نحوهما، فإنّ تخصيص أحدهما تحكّم باطل».
ثمّ يقوم بالردّ على هذا الدليل بعدّة وجوه، فيقول في الوجه الثاني:
«إنّ الاختلاف في القراءة إنّما يكون سبباً لا لتباس ما هو القرآن بغيره، و عدم تميّزه من حيث المادّة أو من حيث الإعراب، و هذا لا يُنافي تواتر أصل القرآن؛ فَالمَادَّةُ مُتَوَاتِرَةٌ وَ إنِ اخْتُلِفَ في هَيْئَتِهَا أو في إعْرَابِهَا.
وَ إحْدَى الكَيْفِيَّتَيْن أوْ الكَيْفِيَّاتِ، مِنَ القُرْآنِ قَطْعاً وَ إن لَمْ تُعْلَمْ بِخُصُوصِهَا. و على الجُمْلَةِ تَوَاتُرُ القُرْآنِ لَا يَسْتَلْزِمُ تَوَاتُرَ القِرَاءَاتِ».۱
و سنقوم في هذا المجال بحول الله و قوّته بإثبات تواتر القراءات السبع أو العشر، و بأنّ ما ورد في «الجواهر» و تفسير «البيان» من اتّجاه لم يكن منحيً كاملًا. إذ إنّ الإحاطة و العلم بتواتر القراءات، يستلزم تتبّع كتب السير و التواريخ و القراءة و الرجال، و إنّ هذه المسألة ليست مسألة فقهيّة محضة، ليُحكم بعدم التواتر بصورة جازمة استناداً على روايةٍ معيّنة.
و سنذكر في هذا الشأن من القرائن و الشواهد المسلّمة ما يبيّن أنّ القراءات السبع ليست استنباطاً أو اجتهاداً للقرّاء، بل هي ناشئة من السماع و الرواية، و إنّ فقهاءنا رضوان الله عليهم مُجمعون على تواتر قراءة القرّاء السبعة و سماعهم بواسطة عن رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم.
إن حفص الذي يروي عن عاصم، يقرأ في سورة الفرقان: يَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً٢ بإشباع كسرة الهاء في فِيهِ، مع أنّه يعلم أنّ عدم الإشباع هو الصحيح لموافقته لقواعد العربيّة، و أنّه لو قرأ يَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا لما كان قد خالف القواعد، بَيدَ أنّه لم يقرأ على هذا النحو، لأنّ سماعه كان مع الإشباع.
كما أنّه قرأ هاء الضمير في سورة الفتح: بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ؛٣ و في سورة الكهف: وَ ما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ،٤ بالضمّة، مع أنّه يعلم جيّداً أنّ كسرة الهاء في عَلَيْهُ و أنسَانِيهُ جائزة، لكنّه لم يقرأ على النحو الأخير، لأنّ
سماعه و روايته كانت على النحو الأوّل:
أمّا في سائر مواضع القرآن فقد قرأ فيه بلا أشباع، و قرأ عليه و أنسانيه بكسر الهاء، مع كثرة الموارد التي وردت فيها، أمّا هذه المواضع الثلاثة فقط فقد قرأها على النحو السالف. و لو لم يكن اجتهاده هكذا، لكان ينبغي أن يقرأ على نحوٍ واحد في جميع المواضع، و لا يقتصر على هذه المواضع فقط.
و نظير هذه الموارد - كما سيأتي بيانه - من الكثرة بحيث يستعصي على الإحصاء و الحصر. فكيف يُتصوّر - و الأمر كذلك - القول بأنّ الاختلاف قد نشأ من آراء و نظريّات القرّاء أنفسهم؟!
كلام العلّامة في استناد القراءات إلى السماع و الرواية
لقد طرح الحقير خلال محاوراتي مع استاذي سماحة آية الله العلّامة الطباطبائيّ رضوان الله عليه أسئلة في خصوص تواتر قراءة القرّاء السبعة، و قد أجاب العلّامة على تلك الأسئلة. و قد سجّلت تلك المحاورات على شريط مسجّل، ثمّ نشرت بعد ارتحاله ضمن عدّة أبحاث بمناسبة ذكرى ارتحاله، باسم «الشمس الساطعة»، و إجمال تلك الأجوبة كالتالي:
يُعزى اختلاف القراءات إلى الرواية، أي أنّ القرّاء قد رووا ذلك النحو من القراءة عن رسول الله. و هكذا بالنسبة إلى قراءة عاصم التي هي القراءة الدائرة في القرآن، حيث يروي عاصم عن أميرالمؤمنين بواسطة واحدة. و قضيّة اختلاف القراءات من الامور المهمّة في تأريخ القرآن، و يستنتج من ذلك أنّ الأمر لم يكن بحيث إنّ القرّاء كانوا يسمعون القراءة من رسول الله بذاته، ثمّ يروونها، بل إنّ عدداً كبيراً (في حدود سبعين أو ثمانين نفراً أو أكثر) قد وجد في زمن رسول الله من حاملي القرآن الذين كانوا يتلون القرآن و يتعلّمونه ثمّ يعلّمونه للناس و ينشرونه بينهم. فإن صادفهم إشكال في أمرٍ ما، استفسروا عنه من النبيّ الأكرم صلّى الله عليه
و آله فيجيبهم عليه.
و الخلاصة، فإنّ قراءات القرّاء لم تكن قراءات سمعها القرّاء من رسول الله فقرأوا بها، كما أنّها لم تكن قراءات أبتدعها القرّاء من عند أنفسهم، بل إنّ المسلمين رأوا حملة القرآن ينحون في قراءاتهم هذا النحو، و إنّ اولئك الحملة قد أخذوا عن النبيّ الأكرم، فاستقرّ في نفوسهم أنّ هذه القراءة من القارئ الفلانيّ أو الصحابيّ الفلانيّ هي قراءة مسندة إلى النبيّ الأكرم صلّى الله عليه و آله و سلّم.
و حسب قول المؤرّخين، فإنّ الرسول الأكرم كان يقرأ القرآن بحرفَين أو أكثر، و لذلك فإنّ اختلاف القراءات عائد إلى اختلاف قراءة رسول الله ذاته.
و لقد كان جبرائيل يأتي إلى رسول الله مرّة كلّ عام، فيعارضه بما نزل من القرآن منذ أوّل الوحي إلى ذلك الوقت، و يجدّد له الوحي، و كان النبيّ يُعارض كتّاب الوحي بنفس الطريقة التي قرأ بها جبرئيل مؤخّراً، و كان كتّاب الوحي ينشرون ذلك بين الناس. و كان هذا الوحي يختلف في نتيجة الأمر عن الوحي السابق. و بذلك فإنّ العلّة في اختلاف القراءات تستند إلى أصل اختلاف قراءة جبرئيل خلال السنوات العديدة.
و كان يمكن أن يقرأ الرسول الأكرم القرآن لفردٍ معيّن، كابيّ بن كعب على نحوٍ في سنة، ثمّ يقرأه عليه على نحوٍ آخر في السنة التي تليها، و هكذا. و الأمر كذلك فعلًا، إذ نُقلت عدّة أنواع من القراءة عن كلّ واحد من القرّاء. و على سبيل المثال، فإنّ ابيّ كان يقرأ في هذه السنة على نحوٍ معين، و يقرأ في السنة التي تليها على نحوٍ آخر.
و البعض يقولون إنّ ذلك الأمر هو العلّة في اختلاف القراءات.
إن ابيّ مضافاً إلى اختلافه في القراءة مع باقي القرّاء، فإنّ هناك
اختلافاً بين قراءاته نفسه. و لعاصم تلميذان ينقل كلٌّ منهما عنه القرآن من أوّله إلى آخره، و هما مختلفان بينهما في القراءة. فالتلميذ الأوّل يروي عن عاصم قراءة معيّنة، و التلميذ الثاني يروي عنه أيضاً قراءة اخرى مختلفة. و الأمر ينطبق كذلك على ابيّ و عبد الله بن مسعود و ابن عبّاس.
و لا يمكن أبداً القول بأنّ مثل القرّاء السبعة مثل النحويّين من أمثال سيبويه و الكسائيّ و غيرهما الذين يختلفون في القواعد التي في أيديهم، فيقرأ أحدهم بيتاً من الشعر على نحوٍ ما، و يقرأه الآخر على نحوٍ آخر، فإنّ ابيّ بن كعب و زيد بن ثابت و سائر القرّاء كانوا عرباً من أهل اللغة و من المطّلعين على علم النحو و الأدب و العربيّة، فهم يقرأون حسب لغتهم الامّ و القواعد التي ينتهجونها.
كلّا، لا يمكن الصيرورة إلى هذا القول، لأنّ اختلاف القراءات لم يكن نابعاً من اختلاف الاجتهاد و وجهات النظر.
بل كان اختلاف اولئك القرّاء في الرواية، أي الرواية التي يسندونها إلى رسول الله. و لدينا روايات مثلًا في مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ تقول بأنّ رسول الله كان يقرأ مالِكِ، كما كان يقرأ مالِكِ. و هو أمر يستند إلى كون كلتا الروايتين متواترتَين. إذ لو لم تكن كلتا كيفيَّتَي القراءة للكلمة متواترتَين - كأن تكون رواية مَالِكِ غير متواترة - فإنّ رواية مَلَكِ ستكون غير متواترة أيضاً: فمن أين سنحصل على اليقين بأنّ إحدى هاتين القراءتَين هي من القرآن حتماً؟ إذ سيُحتمل أنّ القرآن قد نزل على كيفيّة اخرى لم تصلنا.
أدلّة تواتر القراءات، و دليل قراءة القرّاء
و ينبغي العلم بأنّ القراءات المتواترة هي القراءات السبع التي تُعزي إلى القرّاء السبعة، مثل عاصم الذي يروي عن أميرالمؤمنين عليه السلام بواسطةٍ واحدة، و ابن كثير الذي أخذ عن الصحابيّ عبد الله بن السائب
و نافع الذي روى القرآن عن التابعين أمثال أبي جعفر؛ و هي قراءات تصل إلى رسول الله بوسائط قليلة.
أمّا القراءات الشاذّة فهي القراءات التي أخذها الأساتيذ عن القرّاء، فاتّخذوها قراءة لأنفسهم. و القراءات الشاذّة كثيرة، و منها ثلاث قراءات معروفة هي. قراءة أبي جعفر، و قراءة يعقوب، و قراءة خَلف، تصبح مع القراءات السبع المتواترة. القراءات العشر، و هي القراءات المعروفة. إلّا أنّ هناك - غير هذه القراءات الثلاث الشاذّة - روايات اخرى تنقل أنواعاً اخرى من القراءات، و هي تدعى بالقراءات الشاذّة غير المعروفة.
و هناك طبعاً مَن يعتبر هذه الروايات الثلاث الشاذّة، أو بعضاً منها، روايات متواترة، و على هذا القول يكون مجموع روايات القراءات المتواترة أكثر من سبع روايات.۱
هذا هو محصل المطالب التي ذكرها سماحة الاستاذ العلّامة رضوان الله تعالى عليه؛ أمّا قول سماحة آية الله الخوئيّ في التفسير بأنّ القرآن عبارة عن مادّة، و أنّ الهيئة و الإعراب هي كيفيّة تلك المادّة، و أنّ عدم تواتر الهيئة لا يُلحق ضرراً بتواتر القرآن، فينطوي على إشكال واضح، و هو أنّ القرآن عبارة عن مجموع المادّة و الهيئة، أي ما يُسمع عند التكلّم. و أنّ الهيئة و المادّة يشكّلان أمراً واحداً يستحيل تجزئته.
أمّا ما ينفصل عن بعضه، ففي الكتابة، حيث يُكتب الإعراب في اللغة العربيّة منفصلًا، مثل لفظ ملك التي إن تُرك بلا إعراب، لأمكن أن يدّعي أحد بأنّ المادّة متواترة و أنّ إعرابها الذي يجعلها في هيئة مَلك أو
مَالِكِ ليس متواتراً.
أمّا عند التلفّظ، فإنّ فصل هذين الاثنين عن بعضهما محال؛ و أنّ المادّة كما يُحكي عنها بالتواتر أو بخبر الآحاد، فإنّ الإعراب و الكيفيّة سيُحكي عنهما لزوماً و مُقارناً مع المادّة بالتواتر أو بخبر الآحاد.
شواهد و أدلّة انحصار طريق القراءة في السماع و الرواية
و سنقوم هنا، بحول الله و قوّته، بإثبات تواتر القراءات السبعة و رواية قرّائها عن طريق السماع و الرواية فقط، بدون الاجتهاد و الاستنباط، و ذلك بعدّة أدلّة، و نذكر حقيقة مصادر القرّاء، لتتّضح حقيقة تواتر القرآن بما هو قرآن بلحاظ الهيئة و المادّة.
الدليل الأوّل: كلام أساطين و أعاظم علماء فنّ القراءة و المجتهدين ذوي الخبرة:
يقول العلّامة الحلّيّ رضوان الله عليه، و هو أعظم علماء الشيعة، بل أعلم علماء الإسلام، في كتاب «تذكرة الفقهاء»:
يَجِبُ أنْ يُقْرَأ بِالمُتَوَاتِرِ مِنَ القِرَاءَاتِ؛ وَ هِيَ السَّبْعَةُ. وَ لَا يَجُوزُ أنْ يُقْرَأ بِالشَّوَاذِّ؛ إلى أن يصل إلى قوله:
وَ لَا يَجُوزُ أنْ يُقْرَأ مُصْحَفُ ابْنِ مَسْعُودٍ وَ لَا ابَيٍّ وَ لَا غَيْرَهُمَا. و عَنْ أحْمَدَ رِوَايَةٌ بِالجَوَازِ إذَا اتَّصَلَتْ بِهِ الرِّوَآية: وَ هُوَ غَلَطٌ؛ لأنَّ غَيْرَ المُتَوَاتِرِ لَيْسَ بِقُرْآنٍ - انتهى.۱
و مع كلام هذا الرجل الجليل، فإنّ أمثال الجَزَريّ الذين يحاولون إسقاط القراءات السبع عن تواترها إنّما يحاولون محالًا.
يقول السيوطيّ في «الإتقان»:
وَ قَالَ [ابْنُ الشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ السُّبْكيّ] في جَوَابِ سُؤَالٍ سَألَهُ ابْنُ الجَزَرِيِّ: القِرَاءَاتُ السَّبْعُ التي اقْتَصَرَ عَلَيْهَا الشَّاطِبيُّ وَ الثَّلَاثُ التي هِيَ قِرَاءَةُ أبِي جَعْفَرٍ وَ يَعْقُوبَ وَ خَلْفٍ، مُتَوَاتِرَةٌ مَعْلُومَةٌ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ. وَ كُلُّ حَرْفٍ انْفَرَدَ بِهِ واحِدٌ مِنَ العَشْرَةِ مَعْلُومٌ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ أنَّهُ مُنَزَّلٌ على رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ [وَ آلِهِ] وَ سلّم: لَا يُكَابِرُ في شَيءٍ مِنْ ذَلِكَ إلَّا جَاهِلٌ.۱
الدليل الثاني: إنّ العلماء قالوا. إنّ القراءة سُنّة واجبة الاتّباع، ينحصر دليلها في السماع و الرواية، و ليس للنظر و الاجتهاد دخل في ذلك. و قد جاء في مقدّمة «مجمع البيان» أنّه كان جائزاً في صدر الإسلام أن يُقرأ المعنى الواحد بعدّة ألفاظ مترادفة، مثل هَلُمَّ و أقْبِلْ و تَعَالَ، بَيدَ أنّهم كانوا مقيّدين بالسماع، و لم يكن مجازاً لأحد منهم أن يغيّر اللفظ بمشيئته و يستعمل اللفظ المرادف، بل كانوا يسعون إلى جعل قراءتهم مطابقةً لما يصلهم عن رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم، و كانوا يسمعون أحياناً لفظين مختلفين، فيعتمدون عليهما معاً. و كان باقي القرّاء يعتمدون على السماع أيضاً.
و من جملة الشواهد على هذا الأمر، أنّ قواعد العربيّة تجيز في بعض الموارد كلا اللفظين، بَيدَ أنّهم لم يكونوا يختارون القراءة التي تعجبهم، بل كانوا ينظرون إلى الرواية و النقل عن رسول الله فيتبعونهما.
و في قواعد العربيّة أنّ ياء آخر الكلمة إذا وقعت بعد حرف ساكن، يجب أن تفتح، كما في:
قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَ نُسُكِي وَ مَحْيايَ وَ مَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ،۱
حيث إنّ الياء في مَحْيَايَ تُقرأ مفتوحةً لوقوعها بعد الألف الساكنة. أمّا لو لم تعقب حرفاً ساكناً، جاز قراءتها بالسكون أو الفتحة، مثل ياء لفظ مَمَاتِي التي يجوز قراءتها بالسكون أو بالفتحة.
بَيدَ أنّ القرّاء - مع وجود هذا الاختيار - لم يختاروا السكون أو الفتحة، بل تقيّدوا بالسماع، فقرأوا بأجمعهم بالسكون في كلماتٍّ مثل: لي، و مسني، و عهدي و أمثالها التي تبلغ مواردها ٥٦٦ مورداً، و قرأوا بالاتّفاق بالفتح في ۱۸ مورداً، و في الموارد الاخرى التي يبلغ عددها ٢۱٢ مورداً، فقد قرأ بعضهم بالسكون و رَفَضَ الفتح، و قرأ البعض بالفتح و رفض السكون، و لم يقرأ أي قارئ بكلا الوجهين، لأنّ سماعه كان على نحوٍ واحد.
أمّا بالنسبة لنا، فيجوز أن نتابع أحد القرّاء في قراءته بأحد هذين النحوين فيما يتعلّق بالموارد البالغة ٢۱٢ مورداً. أمّا في الموارد الاخرى التي قرأ فيها جميع القرّاء بالسكون، فإنّ علينا القراءة بالسكون، و لا يجوز لنا القراءة بالفتح.
و لا يمكننا - على سبيل المثال - أن نقرأ الآية المباركة: إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً.٢ بفتح ياء إنِّي، لأنّ القرّاء لم يقرأوها على هذا النحو، على الرغم من أنّ قواعد العربيّة تجيز قراءة الياء الواقعة بعد حرف متحرّك على وجهين.
و من جملة الشواهد الحيّة على كلامنا، الياء الزائدة في نظائر يَوْمَ يَدْعُ
الدَّاعِ؛۱ وَ اللَّيْلِ إِذا يَسْرِ؛٢ وَ إِيَّايَ فَاتَّقُونِ؛٣ حيث لا يجوز وفقاً لقراءة عاصم (في القراءة المتداولة المشهورة) قراءة الياء غير المكتوبة، سواء في الوقف أو الوصل. و ينبغي في آية لَكُمْ دِينُكُمْ وَ لِيَ دِينِ٤ أن يُقرأ لفظ دِينِ بكسر النون عند الوصل، و دِينِي بإظهار الياء عند الوقف.
أمّا الآخرون (غير عاصم) من أمثال نافع، و ابن كثير و أبي عمرو فقد قرأوا في سورة القمر إلى الدَّاعِي بدلًا من إلى الدَّاعِ؛٥ و قرأوا في نفس السورة يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ بلا ياء. و هم بالتأكيد لم ينسوا، و ليس هناك سبب يحدوهم إلى ذلك إلّا أن يكونوا قد سمعوا في المورد الأوّل تلك القراءة، و في المورد الثاني هذه، فكانوا مقيّدين بالسماع.
الدليل الثالث: إنّ جميع النحويّين و الادباء متّفقون فيما يتعلّق ببعض الكلمات، بإمكان قراءتها في الجمل التي وردت فيها بقراءتين، أمّا القرّاء فقد قرأوها على نحوٍ واحد.
فمثلًا كلمة مُصَدِّقٌ في الآية المباركة: وَ لَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ،٦ يقرأها القرّاء مرفوعة على أنّها صفة إلى رسول، بينما يقول في «مجمع البيان» بأنّه يحسن نصب مصدّق على الحال، إلّا أنّه لا يجوز في القراءة إلّا الرفع، لأنّ القراءة سُنَّةٌ مُتَّبَعَةٌ.
كما أنّ رفع كلمة مُصَدِّقٌ في القراءة ليس بسبب مراعاة رسم الخطّ،
إذ إنّ القرّاء قرأوا على نحوٍ واحد في كلماتٍ لا يتفاوت رسم الخطّ فيها في حالَتي النصب و الرفع، مثل: فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً۱ التي قرأها جميع القرّاء بالنصب على الحال، مع أنّ بإمكانهم قراءتها بالرفع على أنّها خبر ثانٍ لـ تِلْكَ.
الدليل الرابع: يُجمع علماء العربيّة على أنّ القرآن الكريم هو الركيزة الأساسيّة لقواعد اللغة العربيّة، و أنّها الركن الأساس الذي يقوم عليه النحو و الصرف و المعاني و البيان و الاشتقاق و سائر فنون العربيّة. و يمكن الاستشهاد بعبارة من القرآنٍ لتأييد مطلب ما، في حال كون تلك العبارة قد نُقلت عن النبيّ بالرواية و السماع، و ليس اعتماداً على القياس و القاعدة، و إلّا لزم الدَوْر، إذ سيكون الاستشهاد بالقرآن متوقّفاً على قاعدة و قانون أهل اللغة، و هذه القاعدة و هذا القانون متوقّفان بدورهما على أصالة القرآن، و هو دور صريح.
و بناءً على ذلك، فإنّ الأدلّة و الشواهد التي ذكرها القرّاء و تلامذتهم و أتباعهم لإثبات إدّعاءاتهم و دحض و إضعاف ما يدّعيه خصومهم، من الأدلّة الواردة في كتب القراءات و الكتب التفسيريّة، قد جاءت تأييداً للمسموعات و دعماً للعلّة بعد الوقوع، و ليس دعماً للآيات و تصحيحاً للإعراب و هيئات القراءة و كيفيّاتها.
إن علم النحو و العربيّة هو المُعين على حفظ القرآن من خطر زوال العربيّة، و تصحيحاً لقواعد العربيّة الكاشفة عن أصالة القرآن و متانته، حيث إنّنا حين نعلم كيفيّة الأداء الصحيح لكلمةٍ ما في العربيّة، و حين نعلم أنّ القرآن قد نزل بالعربيّة الصحيحة، فإنّنا سنميّز الصحيح من السقيم.
أمّا لو كانت الكلمة العربيّة الصحيحة الخالصة تُقرأ على نحوين، فإنّ علينا في إثبات قرآنيّتها أن نتمسّك بالنقل و السماع، و ليس بالاجتهاد و النظر.
فمثلًا بالنسبة إلى لفظ قَدَر، قال اللغويّون بأنّه يجيء على نحوين؛ بفتح الدال و سكونها. بَيدَ أنّه مع كون كِلا النحوين صحيحاً في اللغة و الأدب، فإنّ بعض القرّاء قرأ آية على الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ۱ بفتح (قَدَر)، بينما قرأها البعض الآخر (قَدْر) بسكون الدال.
أمّا آية جِئْتَ عَلى قَدَرٍ، و آية إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ،٢ و آية: وَ أَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ،٣ فقد قرأ فيها جميع القرّاء بالفتح، بينما قرأوا بأجمعهم في آية: قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً٤ بالسكون.
و مع فرض كون القرّاء مختارين في قراءة القرآن و في انتخاب واحدٍ من هذين الوجهَين، فكيف يُتصوّر أنّ جميع القرّاء يختارون وجهاً واحداً دون غيره؟ إنّ هذا ليس إلّا التقيّد عند القراءة بالسماع و النقل.
مواصفات قراءة عاصم في النقل و السماع
الدليل الخامس: من الشواهد و الأدلّة التي يمكن إقامتها على انحصار طريق القراءة في الرواية، هو أنّنا نشاهد أنّ القرّاء قد عملوا وفق القاعدة و الميزان المشهور المتعارف في قراءة جميع الكلمات، لكنّهم تخلّفوا عن القاعدة المشهورة في خصوص بعض الكلمات، و عملوا - دونما سبب و علّة - خلاف المشهور في العربيّة، مع علمهم جيّداً بذلك المشهور.
فعلى سبيل المثال، جاء في سورة يوسف أنّ إخوته قالوا لأبيهم:
قالُوا يا أَبانا ما لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ وَ إِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ.۱
فالنونَين في كلمة لا تَأْمَنَّا ينبغي ألّا تُدغمان وفقاً للقاعدة العربيّة، و أن تُقرأ الكلمة بفكّ الإدغام، أي أن تُقرأ لَا تَأمَنُنَا، و ذلك لأنّها ستُفْسّر اشتباهاً بمعنى لَا تَأمَنَّا التي هي صيغة نهي، أي يجب ألّا تأتمننا.
بَيدَ أنّ حفص الذي يروي عن عاصم، قد رواها بالإدغام، و قرأها بالإشمام رفعاً للاشتباه و الخطأ. و الإشمام عبارة عن ضمّ الشفتين كمن يريد التلفّظ بالضمّة - و هو إشارة إلى أنّ الحركة المحذوفة من النون هي الضمّة - دون أن يُظهِر أثر لهذه الضمّة في التلفّظ.
و لهذا، صاروا يضعون على الميم (بما يقترب بعض الشيء من النون) علامةً للإشمام هي مضلّع لوزيّ الشكل أجوف، و ذلك في المصاحف التي طُبعت مؤخّراً، و هي أفضل المصاحف التي طُبعت حتى الآن بلحاظ رسم الخطّ، فتصبح الكلمة: (لا تَأْمَنَّا).
أيمكن أن يُعزى عمل حفص هنا إلى شيء غير التعبّد الصرف مقابل السماع؟
و كمثل قول قوم فرعون له في إمهال موسى و أخيه: قالُوا أَرْجِهْ وَ أَخاهُ،٢ التي وردت في سورتَي الأعراف و الشعراء، حيث قرأ حفص أَرْجِهْ بسكون الهاء، بينما ينبغي في جميع القرآن، وفقاً للمشهور، أن يكسر الضمير و تشبع الكسرة لتُلفظ أرْجِهِي، لكنّه لم يفعل. و نظير أَرْجِهْ،
خطاب النبيّ سليمان للهدهد بأنّه سيكتب رسالة لملكة سبأ، و أنّ على الهدهد أن يُلقها إليهم ثمّ يتولّى فينظر ردّ فعلهم.
اذْهَبْ بِكِتابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ ما ذا يَرْجِعُونَ.۱
حيث قرأ حفص في هذه الآية أيضاً لفظ فَأَلْقِهْ بسكون الهاء، مع أنّ عليه - وفقاً للمشهور - أن يقرأه ألْقِهِي.
و حفص هذا، قد قرأ نظائر هذين الموردين في جميع القرآن بإشباع كسرة الهاء متابعةً للمشهور. فهل يمكن حمل عمله على شيء غير التمسّك بالسماع؟
و لقد قرأ حفص آية: وَ إِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ،٢ فلم يُشبع الضمّة على هاء الضمير في يَرْضَهُ بحيث تُسمع الكلمة عند التلفّظ يَرْضَهُو؛ إلّا أنّ عدم إشباع ضمّة الضمير ينحصر في هذا المورد دون سواه.
و قد ذكرنا مؤخّراً أنّ حفص أشبع كسرة هاء الضمير في. يَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً٣ بحيث صار يُسمع عند التلفّظ فِيهِي، كما أنّه ضمّ هاء الضمير في عَلَيْهُ في الآية: وَ مَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً،٤
أجل، يتّضح ممّا قلناه أنّ أحداً إذا شاء أن يقرأ في هذه الموارد وفقاً للقراءة المشهورة، كأن يقرأ بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهِ بكسر الهاء، أو يَخْلُدْ فِيهِ بدون إشباع للكسرة، أو يَرْضَهُ بإشباع ضمّة الضمير، و أمثال ذلك من القراءات، بنيّة قراءة القرآن تبعاً لقراءة حفص، فإنّه سيكون قد أخطأ في قراءته،
و هذا فقط تابع إلى التعبّد بالسماع.
و يمكن من خلال ذلك إدراك أنّ ما أفتى به بعض الفقهاء الأعلام في العصر الأخير في قوله: «الأقوى عدم وجوب متابعة القراءات السبع، بل يكفي في ذلك القراءة حسب قانون العربيّة، و لو خالف في الحركات و الإعراب للقرّاء السبعة» يمثّل قولًا غير صائب، إذ سيمكننا في هذه الحال أن نقرأ وفق ما نشاء، كأن نقرأ: إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً بفتح ياء إنِّي لتصبح إنِّيَ؛ أو أن نقرأ بقراءة: فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً أو بقراءة: وَ لَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ.
فهل سيبقى من القرآن شيء في مثل هذه الحالة، أم أنّ قراءتنا ستكون قرآناً جديداً؟!
و على هذا الأساس، فإنّ مَن قالوا. «يجوز قراءة القرآن وفقاً للروايات و القراءات الشاذّة غير المتواترة» قد اشترطوا أن تكون القراءة تبعا لقراءة أحد القرّاء المعروفين، و أن تثبت تلك القراءة بسند صحيح.
و بغضّ النظر عن ذلك، فإنّ هذه القراءة - أساساً - قراءةٌ غير صحيحة، لأنّها ليست قرآناً، إذ القرآن عبارة عمّا أوحاه جبرائيل إلى النبيّ الأكرم، و هو عبارة عن مادّة وهيئة. فإن نحن غيّرنا القرآن بمشيئتنا وفقاً للقواعد العربيّة، فإنّنا لن نكون قد قرأنا قرآناً.
فمن الممكن أن يُفتي فقيهٌ ما بكفاية القراءة المغلوطة في الصلاة، كأن يقول بأنّ ترك القراءة في الصلاة سهواً لا يُبطلها. ولكن هل بإمكانه أن يُفتي بأنّ القراءة المغلوطة هي قراءة للقرآن؟
التواتر في القرّاء السبعة متحقّق في كِلا الجانبين
أجل، فقد اتّضح ممّا أوردنا في هذا المجال عدم صحّة كلام «جواهر الكلام» و تفسير «البيان» في إصرارهما على عدم تواتر القراءات. و قد استفدنا كثيراً من هذه المطالب من كلام المرحوم آية الله الشعرانيّ
رضوان الله عليه؛۱ كما أنّنا سنورد فيما يلي مطالباً منه مع توضيحات لنا حول عدم تماميّة التواتر بين القرّاء و بين رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم من جهة، و بيننا و بين القرّاء من جهة اخرى؛ و في شخص القرّاء من جهة ثالثة، حيث يصبح آنذاك من أخبار الآحاد - الذي جرى الاستدلال به في تفسير «البيان» فنقول:
إن التواتر قد يختصّ أحياناً بطائفة معيّنة أو بأهل مدينة خاصّة، أو يختصّ بمحلّةٍ واحدة أو بفردٍ واحد دون أن يعلم عنه الآخرون شيئاً. و على سبيل المثال، فإنّ الشيخ الطوسيّ كان متأخّراً عن الشيخ التلعكبريّ مسلّماً بالتواتر، و هو أمر يعلمه علماء الرجال فقط؛ كما أنّ الإسكندر المقدونيّ قد عاش قبل النبيّ عيسى على نبيّنا و آله و عليه السلام، و هذا التواتر ثابت عند المؤرّخين.
و أنّ مقبرة البقيع تقع في شرق المدينة المنوّرة، و يقع قبر مالك بن أنس في مدخلها، و هو أمر مشهور بالتواتر لدى أهل المدينة، و قبور علماء و أعلام كلّ مدينة هي أمر ثابت بالتواتر لسكنة المدينة، كما أنّ نسب أفراد كلّ عائلة معلوم بالتواتر لديهم.
و لقد سمعتُ في طهران من بعض أساتذتِي - الذين لا يُعلم عنهم التواطؤ على الكذب، و لا يمكنهم ذلك - بأنّ استاذ الحكماء الميرزا أبا الحسن جِلوه قُدّس سرّه كان يرجّح حكمة ابن سينا على الملّا صدرا؛ و أنّ المرحوم الحكيم المحقّق آقا محمّد رضا القمشئيّ كان يرجّح فلسفة الملّا صدرا، و هذا الأمر متواتر لدينا، و ليس لدى عامّة الناس.
إن التواتر ليس أمراً مشهوراً للعامّة، و ليس أمراً يعلمه الجميع. و إنّ
كلّ واحد من القرّاء السبعة كانت قراءته عن النبيّ الأكرم صلّى الله عليه و آله و سلّم و أصحابه متواترة لديه، و إنّه تعلّم القرآن حسب نقل كلّ واحد من مشايخه و أساتذته المتعدّدين الذين لا يحتمل تواطؤهم على الكذب، و كانت قراءته موافقة لمصحف مدينته أو لمصحف مدينة اخرى، و الذي كان متواتراً بدوره.
و بعد بيان هذه المقدّمة، نقول: إنّ تواتر قراءة القرّاء السبعة قد تحقّق في الجانبين: من جانب القرّاء وصولًا إلى رسول الله؛ و من جانبنا وصولًا إلى القرّاء.
أمّا من الجانب الأوّل الذي اعتمد فيه القرّاء السبعة على التواتر، فيثبت بعدّة أدلّة:
الدليل الأوّل: أنّ كلّ واحد من القرّاء كان قد اختار قراءته التي كانت متواترة لديه، و لم يختر أحدٌ منهم قراءة الآخر. و لو أنّهم عملوا وفقاً لروايات الآحاد و اكتفوا بها، للزم أن يقبلوا بجميع تلك القراءات.
و لو قال أحد: إنّ عدم قبولهم بقراءات بعضهم نابع من عدم ثقتهم ببعضهم، لكان كلاماً جزافاً لا يُعقل.
الدليل الثاني: أنّ أحداً لو قرأ على مدى القرون التأريخيّة الإسلاميّة قراءةً مخالفة للقراءة المشهورة، لطُعن عليه و لتعرّض للّوم و الهجوم، فإنّ حدث ذلك في زمن الرسول الأكرم صلّى الله عليه و آله و سلّم، فإنّهم كانوا يستفسرون منه، فإن أقرّ ذلك زال الطعن و اللوم، و إلّا فإنّهم كانوا يُرجِعُونه إلى القراءة المشهورة، حتى لو كان من القرّاء المشهورين من أمثال ابيّ بن كعب.
و عليه، فالقراءة الشاذّة التي لا يعدّها الناس، كانت مرفوضةً حتى لو قرأ بها أحد القرّاء المشهورين. و لم يكن يُكتفى بقول القارئ وحده بأنّه
سمع من النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم.۱
الدليل الثالث: أنّ عبد الله بن مسعود و حُذيفة و بعض الصحابة الآخرين قد طلبوا من عثمان إزالة القراءات الشاذّة، و سوق الأمّة إلى القراءات المشهورة، فاستجاب عثمان لطلبهم، فأحرق جميع المصاحف الاخرى. و هذا العمل دليل على أنّ القراءات الشاذّة المنقولة بخبر واحد كانت تبدو في النظر شنيعة و قبيحة، أمّا القراءات المتواترة المشهورة فمطلوبة مستحسنة.
غاية الأمر، أنّ اعتراضهم على عثمان لأنّه، أولًا: أحرق المصاحف، و هو هتك لحرمة القرآن، و ثانياً: أضاع بهذا العمل مع القراءات الشاذّة كثيراً من القراءات المتواترة، كقراءة ابن مسعود، و قراءة ابيّ بن كعب، و هو خسارة عظيمة.
الدليل الرابع: أنّ قراءة السبعة تنتهي إلى أحد صحابة رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم و قرّاء زمن النبيّ، من أمثال ابيّ و ابن عبّاس و ابن مسعود و أمثالهم. و نحن نرى في نفس الوقت من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم هؤلاء قراءات اخرى منقولة برواية واحدة؛ و قد ذكرت هذه القراءات في التفاسير و قيل عنها بأنّها لم تكن من القرّاء و إنّ أحداً لم يقبل بها.
و نستخلص من ذلك أنّ القراءات التي نقلت بالتواتر عن ابيّ و ابن عبّاس و ابن مسعود كانت قراءات مقبولة، و أنّ القراءات التي نقلت بأخبار الآحاد لم تُقبل.
فإن كان عمل القرّاء قائماً على قبول كلّ قراءة و لو نقلت بأخبار الآحاد، للزم من ذلك أن تُقبل جميع تلك القراءات، و تصبح قراءات رسميّة.
اتّفاق علماء الشيعة و العامّة على تواتر القرآن
و أمّا من الجانب الثاني، و هو وصول قراءة القرّاء إلينا بالتواتر، فنقول: لقد كانت قراءات القرّاء السبعة هي القراءات المشهورة و المتداولة منذ زمن القرّاء السبعة و إلى عصرنا هذا. و جميع المسلمين، من الشيعة و العامّة و الخوارج، في شرق العالم و غربه يقرأون القرآن و يحفظونه تبعاً لإحدى هذه القراءات.
و قد تخصّص جمع من العلماء في فنّ حفظ القراءات؛ و من المحال، مع حضور و اطّلاع الناس في أرجاء العالم، أن تكون القراءات المنسوبة إلى اولئك القرّاء في الكتب المتداولة مُفتراةً و مختلَقة.
فقد ذكر الدانى و الشاطبيّ و الجزريّ كلّا في كتابه۱ قراءة كلّ واحد من القرّاء السبعة و غيرهم.
و مع أنّ مؤلِّف الكتاب شخص واحد، إلّا أنّ شاهد صدقه أنّ آلافاً من العلماء بالقراءات قد عدّوا هذه الكتب كتباً معتبرة. و التواتر يتحقّق بلحاظ كثرة الشهود، من غير ضرورة لكثرة المؤلِّفين.
و قد رُويتْ في هذه الكتب قراءات عن الحسن البصريّ و ابن
مُحيصِن و أمثالهما، لكنّ هذه القراءات تفتقر إلى آلاف الشهود الذين شهدوا لصالح القراءات السبع و لمن يشهدوا على هذه القراءات، لأنّها لم تكن قراءات متداولة.
و لذلك، فإنّ القراءات السبع متواترة بالنسبة لنا، و قراءاتهم أخبار آحاد. و لو نقل امرؤ في زمننا هذا، في حضور جمع من العلماء المطّلعين على أقوال الشيخ الأنصاريّ مطلباً عن كتاب تقريرات الشيخ، فكان هذا النقل في حضور هؤلاء متواتراً. أمّا لو نقل أحد مطلباً عن عالم غير مشهور في حضور هؤلاء العلماء، و لم يكن لهم علم بأقواله، لكان هذا النقل من أخبار الآحاد.
و لو قيل بأنّ طرق قراءات القرّاء السبعة المذكورة في كتب القراءة، كانت بأجمعها بطريق الآحاد؛ فنقول في إجابته. إنّ إسناد القراءة هو للتبرّك، شأنه شأن الإسناد الذي يذكره علماء عصرنا للكتب المتواترة من أمثال «الكافي» و «التهذيب».
و أحد القرّاء الذين لم يشترطوا التواتر هو الجزريّ، و قد تعرّض للانتقاد على هذا الرأي، و من جملة من اعترض عليه تلميذه: أبوالقاسم النُوَيريّ في شرح «طيّبة النشر»، حيث قال بأنّ عدم اشتراط التواتر هو قول مُبتكر يخالف إجماع الفقهاء و المحدِّثين و غيرهم، لأنّ القرآن لدى جمهور أئمّة المذاهب الأربعة عبارة عمّا بين الدفّتين الذي ثبت لنا بالنقل المتواتر.
و قد صرّح بهذا المطلب طائفة من الأعلام من أمثال: ابن عبدالبرّ، و ابن عطيّة و النوويّ و الزَّركَشيّ و السُّبْكيّ و الإسنَويّ و الأذرِعيّ، كما أجمع عليه القرّاء، و لم يخالفه من المتأخّرين سوى المكّيّ.
كما قال مؤلّف كتاب «إتحافُ فضلاء البشر»: و حاصل الأمر أنّ قراءة
القرّاء السبعة أمرٌ متّفق عليه، و هكذا بالنسبة للثلاثة الآخرين: أبي جعفر و يعقوب و خلف على الأصحّ. و كتاب «الإتحاف» هو أفضل الكتب المتأخّرة و أجمعها، و قد ذكر ذلك فقهاؤنا و علماؤنا في الاصول، و نقل كلماتهم في المقام يجرّنا إلى الإطالة.۱
ذكر بعض الإشكالات الواردة على أمر تواتر القرآن، و الإجابة عليها (ت)
...۱
...۱
و يجب أن نبحث في هذا المجال في حديثين مشهورَين:
أوّلهما: ما ورد في الحديث النبويّ: إنَّ هَذَا القُرآنَ انزِلَ على سَبْعَةٍ أحْرُفٍ.
و ثانيهما: ما ورد عن الأئمّة عليهم السلام: اقْرَأ كَمَا يَقْرَا النَّاسُ.
لقد بحث سماحة الاستاذ الأكرم آية الله الخوئيّ مدّ ظلّه الشريف في تفسير «البيان» حول سند و مضمون الحديث الأوّل بالتفصيل.
المراد من الأحرف السبعة ليس القراءات السبع
و قد قام أوّلًا ببحث ما تصوّره البعض خطأ من أنّ الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن هي القراءات السبع، ثمّ تعرّض لبحث أمر عدم صحّة روايات الأحرف السبعة.
أمّا في شأن الأمر الأوّل فيقول: إنّ ذلك شيء لم يتوهّمه أحدٌ من العلماء المحقّقين ... و الأولى أن نذكر كلام الجزائريّ في هذا الموضع: قال: لم تكن القراءات السبع متميّزة عن بعضها، حتى قام الإمام أبوبكر أحمد ابن موسى بن العبّاس بن مجاهد - و كان على رأس الثلاثمائة ببغداد - فجمع قراءات سبعة من مشهوري أئمّة الحرمين (مكّة و المدينة) و العراقين (البصرة و الكوفة) و الشام، و هم: نافع، و عبد الله بن كثير، و أبوعمرو بن العلاء، و عبد الله بن عامر، و عاصم، و حمزة، و عليّ الكسائيّ.
و قد توهّم بعض الناس أنّ القراءات السبع هي الأحرف السبعة، و ليس الأمر كذلك ... و قد لام كثيرٌ من العلماء ابن مجاهد على اختياره عدد السبعة، لما فيه من الإيهام ... .
قال أحمد بن عمّار المهدويّ: لقد فعل مُسبّع هذه السبعة ما لا ينبغي
له، و أشكل الأمر على العامّة بإيهامه كلّ من قلّ نظره أنّ هذه القراءات هي المذكورة في الخبر، وليته إذ اقتصر نقص عن السبعة أو زاد ليُزيل الشبهة ... .
و قال الاستاذ إسماعيل بن إبراهيم بن محمّد القرّاب في «الشافي»:
التمسّك بقراءة سبعة من القرّاء دون غيرهم ليس فيه أثر و لا سُنّة، و إنّما هو من جمع بعض المتأخّرين، لم يكن قرأ بأكثر من السبع، فصنّف كتاباً و سمّاه كتاب السبعة، فانتشر ذلك في العامّة ....
و قال الإمام أبومحمّد مكّي. قد ذكر الناس من الأئمّة في كتبهم أكثر من سبعين ممّن هو أعلى رتبةً و أجلّ قدراً من هؤلاء السبعة ... فكيف يجوز أن يظنّ ظانٌّ أنّ هؤلاء السبعة المتأخّرين، قراءة كلّ واحد منهم أحد الأحرف السبعة المنصوص عليها - هذا تخلّف عظيم - أكان ذلك بنصّ من النبيّ صلّى الله عليه [و آله] و سلّم أم كيف ذلك!! و كيف يكون ذلك؟۱
و الكسائيّ إنّما الحق بالسبعة بالأمس في أيّام المأمون و غيره - و كان السابع يعقوب الحضرميّ - فأثبت ابن مُجاهد في سنة ثلاثمائة و نحوها الكسائيّ موضع يعقوب.۱
و قال الشرف المرسيّ: و قد ظنّ كثير من العوامّ أنّ المراد بها - الأحرف السبعة - القراءات السبع، و هو جهلٌ قبيح.٢
و قال القرطبيّ: قال كثيرٌ من علمائنا كالداوديّ و ابن أبي سفرة و غيرهما: هذه القراءات السبع التي تُنسب لهؤلاء القرّاء السبعة ليست هي الأحرف السبعة التي اتّسعت الصحابة في القراءة بها، و إنّما هي راجعة إلى حرفٍ واحد من تلك السبعة، و هو الذي جمع عليه عثمان المصحف. ذكره
ابن النَّحَّاس و غيره. و هذه القراءات المشهورة هي اختيارات اولئك الأئمّة القرّاء.۱
و تعرّض ابن الجزريّ لإبطال توهّم مَن زعم أنّ الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن مستمرّة إلى اليوم فقال:
و أنت ترى ما في هذا القول، فإنّ القراءات المشهورة اليوم عن السبعة و العشرة، و الثلاثة عشر بالنسبة إلى ما كان مشهوراً في الأعصار الاوَل، قُلٌّ من كُثر، و نزر من بحر؛ فإنّ من له اطّلاع على ذلك يعرف علمه العلم اليقين، و ذلك أنّ القرّاء الذين أخذوا عن اولئك الأئمّة المتقدّمين من السبعة و غيرهم كانوا امماً لا تُحصى، و طوائف لا تُستقصى، و الذين أخذوا عنهم أيضاً أكثر و هلمّ جرّاً.
فلمّا كانت المائة الثالثة، و اتّسع الخرق و قلّ الضبط، و كان علم الكتاب و السنّة أوفر ما كان في ذلك العصر، تصدّى بعض الأئمّة لضبط ما رواه من القراءات، فكان أوّل إمام معتبر جمع القراءات في كتاب أبوعُبَيد القاسم بن سلام، و جعلهم - فيما أحسب - خمسة و عشرين قارئاً مع هؤلاء السبعة ... ثمّ ذكر ابن الجزري جماعة ممن كتب في القراءة.٢
قال أبوشامة: و ظنّ قومٌ أنّ القراءات السبع الموجودة الآن هي التي اريدت في الحديث، و هو خلاف إجماع أهل العلم قاطبةً، و إنّما يظنّ ذلك بعضُ أهل الجهل.٣
رفض مقولة: نزل القرآن على سبعة أحرف
و أمّا في أمر عدم صحّة إسناد هذه الروايات، فقد أورد بحثاً ناقش فيه إحدى عشرة رواية وردت عن طريق العامّة، ثمّ قال: هذه أهمّ الروايات التي رويت في هذا المعنى، و كلّها من طرق أهل السنّة، و هي مخالفة لصحيحة زرارة عن أبي جعفر (الباقر) عليه السلام، قال:
إن القُرْآنَ وَاحِدٌ نَزَلَ مِنْ عِنْدِ وَاحِدٍ؛ وَلَكِنَّ الاختِلافَ يَجِيءُ مِنْ قِبَلِ الرُّوَاةِ. و قد حكم الإمام الصادق عليه السلام بكذب الرواية المشهورة بين الناس في قولهم: نَزَلَ القُرآنُ على سَبْعَةِ أحْرُفٍ، و قال ... وَلَكِنَّهُ نَزَلَ على حَرْفٍ وَاحِدٍ مِنْ عِنْدِ الوَاحِدِ.۱
ثمّ قال: و قد تقدّم إجمالًا أنّ المرجع بعد النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم في امور الدين، إنّما هو كتاب الله و أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس و طهّرهم تطهيراً - و سيأتي توضيحه مفصّلًا بعد ذلك إن شاء الله تعالى - و لا قيمة للروايات إذا كانت مخالفةً لما يصحّ عنهم. و لذلك لا يهمّنا أن نتكلّم عن أسانيد تلك الروايات.٢
و كانت الرواية الثامنة من الروايات الإحدى عشرة التي ذكرها عن طريق العامّة هي.
... عن أبي هريرة أنّه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه [و آله] و سلّم: إنَّ هَذَا القُرْآنَ انْزِلَ على سَبْعَةِ أحْرُفٍ فَاقْرَاوا وَ لَا حَرَجَ؛ وَلَكِنْ لَا تَخْتِمُوا ذِكْرَ رَحْمَةٍ بِعَذَابٍ، وَ لَا ذِكْرُ عَذَابٍ بِرَحْمَةٍ.٣
و كانت الرواية العاشرة منها هي:
و أخرج عن سعيد بن يحيي، بإسناده عن عاصم، عن زرّ، عن عبد الله بن مسعود، قال:
تَمَارَيْنَا في سُورَةٍ مِنَ القُرْآنِ، فَقُلْنَا: خَمْسٌ وَ ثَلَاثُونَ، أوْ سِتٌّ وَ ثَلَاثُونَ آيَةً. قال: فَانْطَلَقْنَا إلى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ [وَ آلِهِ] وَ سَلَّمَ فَوَجَدْنَا عَلِيَّاً يُنَاجِيهِ. قال: فَقِلْنَا. إنَّمَا اخْتَلَفْنَا في القِرَاءَةِ. قال: فَاحْمَرَّ وَجْهُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ [وَ آلِهِ] وَ سَلَّمَ وَ قال: إنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِاخْتِلَافِهِمْ بَيْنَهُمْ. قال: ثُمَّ أسَرَّ إلى عليّ شَيْئاً. فَقَالَ لَنَا على: إنَّ رَسُولَ اللهِ يَأمُرُكُمْ أنْ تَقْرَاوا كَمَا عُلِّمْتُمْ.۱
و يذكر في تفسير و بيان مضمون هذه الطائفة من الروايات وجوهاً عشرة من كتب أهل السنّة، ثمّ يفنّد كلّ وجه من تلك الوجوه و يعتبره غير صحيح، ثمّ يعتبر في الخاتمة - كما سبق ذكره - أصل الروايات مرفوضاً.
أمّا في نظر الحقير، فبناءً على أنّ كثرة القراءات في زمن رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم هي أمر مسلّم كما ذكرنا، و أنّ الشكّ لا يعترينا - وفقاً للسيرة النبويّة القطعيّة - أنّ النبيّ كان قد أقرّ بعض تلك القراءات، فإنّ الوجه الثامن الذي ذكره القاضي عياض و مَن تبعه - على فرض تسليم سند الروايات - سيعدّ وجهاً مناسباً.
و الوجه الذي ذكره القاضي عياض هو. أنّ لفظ السبعة يُراد منه الكثرة في الآحاد (و ليس عدد السبعة) كما يُراد من لفظ السبعين و السبعمائة الكثرة في العشرات و المئات.٢
و على هذا الأساس، فإنّ رسول الله قد أراد القول بأنّ القرآن قد نزل
عليه بقراءات مختلفة، و أنّ أي طريق يصدر عنه و يقرّه يعدّ طريقاً صائباً و صحيحاً.
كان هذا هو بحثنا في شأن الرواية الاولى: ان القرآن نزل على سبعة احرف.
في حديث: اقْرَأ القُرْآنَ كَمَا يَقْرَا النَّاسُ
و أمّا الرواية الثانية التي وردت عن المعصومين صلوات الله عليهم أجمعين: إقْرَأ كَمَا يَقْرَا النَّاسُ؛ و ورد أيضاً: اقْرَاوا كَمَا تَعَلَّمْتُمْ.۱
فإنّهما يعنيان أنّ إمضاءً قد حصل بشكل قطعيّ مسلّم من الأئمّة عليهم السلام للقراءات المشهورة المعروفة في زمنهم، و أنّهم قد أمروا شيعتهم باتّباع تلك القراءات. و لم يصلنا ردع أو منع منهم، إذ لو صدر عنهم شيء من ذلك فرضاً لوصلنا حتماً. و لذلك فإنّ من الجائز قراءة القرآن تبعاً لأيّة قراءة من القراءات المتواترة، سواء في ذلك القراءات السبع أو العشر.
أجل، يُعتبر في الجواز، كما حُكي عن الثقات من علماء السنّة، إلّا أن تكون تلك القراءة شاذّة أو مختلقة. و نعني بالقراءة الشاذّة أمثال قراءة مَلَكَ يَوْمَ الدِّينِ بصيغة الماضي و نصب كلمة «يوم»؛ أمّا الموضوع و المختلَق فمن أمثال قراءة: إنَّما يَخْشَى اللهُ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءَ، برفع كلمة اللهُ و نصب كلمة العلماءَ حسب قراءة الخزاعيّ عن أبي حنيفة.٢
لكنّ هناك بحثاً في هذا الحديث، إذ كيف يمكن تعبّداً جعل قراءة القرآن تبعاً لقراءة الناس، مع أنّ ثبوت القرآن يجب أن يكون عن علم و يقين و تواتر، و ليس بالتعبّد.
و نقول هنا: إنّ ثبوت القرآن يجب أن يحصل بالتواتر، و كما سبق
أن ذكرنا مفصّلًا، فإنّ مادّة القرآن و هيئته، أي متنه و عروضه من إعراب و حركات، يجب أن تكون قطعيّة يقينيّة. و في هذه الحال فإنّ التعبّد لن ينفع، و لو بألف خبر و رواية. و لن يكون بإمكان خبرٍ ما، و لو كان صحيح السند و في الحدّ الأعلى من الصحّة، أن ينفع شيئاً في هذه الحال.
لكنّ كلامنا هنا هو أنّنا لا نغضّ الطرف عن الأخبار المشكوكة تمسّكاً منّا بالقرآن، بل إنّ أئمّتنا عليهم السلام لمّا أمروا شيعتهم في كلّ عصر باليقين و بالقراءات المتواترة، و هي نفس القراءات المشهورة المتداولة بين الناس، و لما كان العلم و اليقين قد حُصل عليهما عن طريق القرّاء، فإنّ الأمر بقراءة القرآن بهذه القراءات هو إرشاد إلى أمر مسلّم و ضروريّ في تحصيل اليقين، و ليس تعبّداً و تكليفاً بأمرٍ مشكوك.
إن الأئمّة عليهم السلام لم يختاروا لأنفسهم قراءة غير القراءات المعروفة المشهورة، و لم يدعوا شيعتهم إلى غير هذا الطريق، و إلّا لعُرف ذلك الطريق و اشتهر، و لامتازت قراءة الشيعة عن قراءة غيرهم، و لبلغنا ذلك الطريق.
لكنّنا نرى أنّ قراءة بعض الشيعة من أمثال أبان بن تغلب۱ التي
كانت خلافاً للمشهور قد ضاعت و اندثرت. و ندرك من خلال ذلك أنّ الردّ إلى المشهور و إلى القراءة المعروفة التي طريقها اليقين و التواتر هو أمر مسلّم و ضروريّ في كلّ عصر.
و بناءً على ذلك، فإنّنا - قبل الأمر بـ. اقْرَأ كَمَا يَقْرا النَّاسُ - قد عملنا بقراءات القرّاء السبعة و بقراءات اخرى كقراءات خلف و يعقوب و أبي جعفر، لأنّنا وجدناها متواترة، كما أنّ العمل بمضمون هذا الحديث هو ممّا ثبت لدينا بالتواتر.
و لو قيل: إنّ قراءات اخرى كانت في زمن الأئمّة عليهم السلام، كقراءة ابيّ بن كعب و قراءة عبد الله بن مسعود و غيرهما، و ينبغي أن تكون قراءة القرآن وفقاً لهذه القراءات أمراً ممكناً حسب مضمون الخبر، فإنّ جوابه سيكون: أنّ تلك القراءات قد سقطت عن حدّ التواتر، و أضحت نادرةً بحيث إنّ نقل القرّاء لها لم يكن بالذي يوجب لدينا علماً بصدورها.
و لو قيل: إنّ هؤلاء القرّاء كانوا من المخالفين أو من الفاسقين! لُاجيب: بأنّ خلافهم لم يثبت لدينا، و كذا الحال بالنسبة إلى فسقهم. و الوثوق كافٍ في قبول الخبر، و لو صدر من غير الشيعيّ الإماميّ. و الخبر الموثّق في حكم الخبر الصحيح حائز لشرائط الحجّيّة؛ مضافاً إلى أنّ العدالة و الإيمان ليسا في التواتر، لأنّ التواتر الحاصل عن أي طريق هو حجّة عقليّة.
كان هذا خلاصة كلامنا في باب تواتر القراءات، و قد فصّلنا القول فيه بعض الشيء لئلّا يروج من جَديد كلام بعض الإخباريّين الذين لا يفهمون إلّا التعبّد، حتى في الامور اليقينيّة و القطعيّة، و الذين يقدّمون الخبر - مهما كان ظنّيّاً - على مائة دليل عقليّ؛ و لئلّا يضيع كلام أعاظم فقهائنا في طيّات النسيان.
الروايات المتظافرة للشيعة و العامّة في أنّ البسملة جزء من السورة
و يجب أن نذكر في هذا المجال جُملةً من المطالب بعنوان تنبيهات:
التنبيه الأوّل: ورد في كتب الشيعة الفقهيّة روايات كثيرة عن الأئمّة عليهم السلام تقوم على أنّ البسملة: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ هي جزء من كلّ سورة من السور عدا سورة براءة. و قد جرى بحث هذا الموضوع مفصّلًا في بحث القراءة من كتاب الصلاة في «جواهر الكلام» و «مصباح الفقيه»، و عدّت قراءة سورة الحمد و سائر سور القرآن بدون ذكر هذه الآية قراءة غير مُجزية. حتى أنّ هناك رواية عن الإمام الصادق عليه السلام
يقول فيها: قَاتَلَهُمُ اللهُ! عَمَدُوا إلى أعْظَمِ آيَةٍ في كِتَابِ اللهِ؛ فَتَرَكُوهَا وَ زَعَمُوا أنَّهَا بِدْعَةٌ.
و نرغب هنا أن ننوّه بأنّ السيوطيّ قد ذكر في كتابه «الإتقان» أحاديث كثيرة عن طريق أهل السنّة جاء فيها أنّ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ من القرآن، و أنّها آية من آيات السور. و هذه الروايات كثيرة و جديرة بالتأمّل، و مضمونها مطابق لما أجمع عليه الشيعة، مثل ما أخرجه أحمد و أبوداود و الحاكم و غيرهم عن امّ سلمة أنّ رسول الله صلّى الله عليه [و آله] و سلّم كان يُقَطِّع قراءته آيةً آية: بسم الله الرحمن الرحيم ، الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ - (الحديث).
و فيه: وَعَدَّ «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» آيَةً؛ وَ لَمْ يعد عليهم،۱ (أي أنّ رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم كان يعدّ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ آية، و لا يعدّ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ آيةً اخري).
و في هذه العبارة نكتة دقيقة يؤيّدها مذهب الشيعة و الذين يعتبرون البسملة جزءاً من السورة، و بيان ذلك أنّ من المسلّم أنّ سورة الحمد هي سورة السَّبْعُ المَثَانِي، سواء عن طريق الشيعة أم عن طريق العامّة، أي أنّ آياتها سبع آيات، و أنّها انزلت على النبيّ مرّتين.
فإن عددنا بسم الله الرحمن الرحيم آيةً مستقلّة، أضحت آيات هذه السورة سبع آيات. أمّا لو لم نعتبرها آية، لأضحت آياتها الباقية ستّاً و لما انطبق في حقّها اسم السَّبعُ المثاني.
و لقد لجأ المخالفون - فراراً من هذا الإشكال - إلى تجزئة آية: صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَ لَا الضَّالِّينَ، فقالوا إنّ بداية
الآية إلى قوله تعالى أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ هي آية، و إنّ التتمّة هى آية اخرى، من أجل إكمال عدد السبعة. و من البديهيّ أنّ هذا العمل خطأ، لأنّ جملة غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ هي صِفة إلى الَّذِينَ، و لا فاصلة بين الصفة و الموصوف.
المعوّذتان سورتان من القرآن
التنبيه الثاني: جاء عن طريق أهل البيت أنّ مصحف ابن مسعود كان خالياً من المُعَوِّذَتَيْنِ (بكسر الواو، و هما السورتان اللتان ورد فيها التعويذ: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ، و: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ) حيث يقول ابن مسعود: إنّ الحَسَنَيْنِ عليهما السلام مرضا، فهبط جبرائيل بهاتين السورتين ليعوّذهما بهما، فعوّذهما و علّق المعوّذتين عليهما فشفيا.
أمّا ما ورد في مصحف أميرالمؤمنين عليه السلام و سائر المصاحف و القراءات، فهو أنّهما سورتان من القرآن نزلتا على النبيّ ضمن ما نزل عليه من القرآن، و ختْم القرآن بدونهما يُعدّ ناقصاً. و لا منافاة لتعويذ رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم مع كونهما من القرآن، إذ يمكن أن يكون النبيّ الأكرم قد عَوّذ بهما بتعليم من جبرائيل.
يقول العلّامة الحلّيّ في «التذكرة»:
وَ المُعَوِّذَتَانِ مِنَ القُرْآنِ، يَجُوزُ أنْ يَقْرَأ بِهِمَا. و لَا اعْتِبَارِ بِإنْكَارِ ابْنِ مَسْعُودٍ لِلشُّبْهَةِ الدَّاخِلَةِ عَلَيْهِ بِأنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ كَانَ يُعَوِّذُ بِهِمَا الحَسَنَ وَ الحُسَيْنَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ؛ إذْ لَا مُنَافَاةَ، بَلِ القُرْآنُ صَالِحٌ لِلتَّعْوُّذِ بِهِ لِشَرَفِهِ وَ بَرَكَتِهِ.
وَ قَالَ الصَّادِقُ عَلَيْهِالسَّلَامُ: اقْرَأ المُعَوِّذَتَيْنِ في المَكْتُوبَةِ. وَ صَلَّى المَغْرِبَ فَقَرَأهُمَا فِيهَا».۱
و يقول السيوطيّ في «الإتقان»: و من المشكل على هذا الأصل (أصل التواتر) ما ذكره الإمام فخر الدين (الرازيّ). قال: نُقِل في بعض الكتب القديمة أنّ ابن مسعود كان ينكر كون سورة الفَاتِحَة و المُعَوِّذَتَيْنِ من القرآن؛ و هو في غاية الصعوبة. لأنّا إن قلنا: إنّ النقل المتواتر كان حاصلًا في عصر الصحابة بكون ذلك من القرآن، فإنكاره يوجب الكفر. و إن قلنا. لم يكن حاصلًا في ذلك الزمان، فيلزم أنّ القرآن ليس بمتواتر في الأصل.
قال (الفخر الرازيّ): و الأغلب على الظنّ أنّ نقل هذه المذاهب عن ابن مسعود نقل باطل، و به يحصل الخلاص عن هذه العقدة.
إلى أن يقول السيوطيّ. قال ابن حَزْم في «المحلّي»: هذا كذب على ابن مسعود و موضوع، و إنّما صحّ عنه قراءة عاصم عن زُرعة، و فيهما المعوّذتان و الفاتحة.
و قال ابن حَجَر في شرح «صحيح البُخاريّ»: قد صحّ عن ابن مسعود إنكار ذلك، فأخرج أحمد (بن حنبل) و ابن حِبَّان عنه أنّه كان لا يكتب المعوّذتين في مصحفه.
و أخرج عبد الله بن أحمد في زيادات المسند، و الطبرانيّ و ابن مردويه من طريق الأعمش عن ابن إسحاق، عن عبدالرحمن بن يزيد النخعيّ، قال: كان عبد الله بن مسعود يحكّ المعوّذتين من مصاحفه، و يقول: إنّهما ليستا من كتاب الله.۱
فكيف يمكن نفي هذه النسبة عن ابن مسعود مع شهادات هؤلاء الأعلام، و ستر الحقيقة بمجرّد الادّعاء بأنّ هذا النقل عنه مكذوب عليه؟! أليس هذا الادّعاء نفسه كذباً و جعلًا؟
و إنّني مهما أمعنت النظر، وجدت أنّ هذه المشكلة التي سمّاها فخر الدين الرازيّ بالعُقدة و المشكلة العويصة ليست مشكلة قطّ، بل هي أسهل و أيسر من شرب الماء القُراح. لأنّ اعتقاد ابن مسعود بعدم كون المعوّذتين من القرآن لا يشكّل ضرراً بتواتر القرآن لدى سائر الصحابة. فالقرآن بأجمعه - و من ضمنه هاتان السورتان - كان متواتراً لدى الجميع، بل بعدد أعلى من عدد التواتر. و يبدو أنّ ذلك الأمر كان شبهة لدى ابن مسعود. افرضوا أنّ شأن ابن مسعود هو شأن الكثير الذين لم يبلغهم شيء من القرآن أصلًا إلى أن ارتحل رسول الله، و أنّ هاتين السورتين لم تطرقا سمعه، إذ إنّ ذلك لا يُلحق ضرراً ما، بل يرد الإشكال حين يكون ابن مسعود بمفرده مؤثّراً في تكميل نصاب الأفراد الذين لا ينعقد التواتر إلّا بتمامهم.
التنبيه الثالث: يقول السيوطيّ. و ممّا يشبه هذا التقسيم الذي لأهل الحديث، تقسيم القرّاء أحوال الإسناد إلى قراءة و رواية و طريق و وجه. فالخلاف إن كان لأحد الأئمّة السبعة أو العشرة أو نحوهم، و اتّفقت عليه الروايات و الطرق عنه فهو قراءة. و إن كان للراوي عنه فرواية، أو لمن بعده نازلًا فطريق، أو لا على هذه الصفة ممّا هو راجع إلى تخيير القارئ فيه، فوجه.۱
التنبيه الرابع: يقول السيوطيّ: قال ابن الجزريّ في آخر كلامه: و ربّما كانوا (و الضمير للسابقين) يُدخلون التفسير في القراءة إيضاحاً و بياناً، لأنّهم محقّقون لما تلقّوه عن النبيّ صلّى الله عليه [و آله] و سلّم قرآناً، فهم آمنون من الالتباس، و ربّما كان بعضهم يكتبه معه.
و أمّا من يقول: إنّ بعض الصحابة كان يُجيز القراءة بالمعنى، فقد كذب. و سافرد في هذا النوع - أعني بالمدرج - تأليفاً مستقلّا.۱
و قد أورد السيوطيّ هذا الكلام تحت تقسيم القراءات إلى متواتر و مشهور وآحاد و شاذّ و موضوع و مُدرَج. و نقله عن ابن الجزريّ ضمن بيان المدرج. و ضرب للمدرج مثلًا بقراءة سَعد بن أبي وقّاص: و له أخ أو اخت من ام؛ حيث إنّ مِنْ امٍّ مدرج؛ و بقراءة ابن عبّاس: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ في مَواسِمِ الْحَجِّ، حيث إنّ في مَوَاسِمِ الْحَجِّ مدرج؛ أي أنّها ليست من القرآن، و أنّها زيدت في القراءات على وجه التفسير.٢
المختارة: «مَلِك يَوْمِ الدِّينِ»، لا: «مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ»
التنبيه الخامس: بحثٌ في قراءَتَي مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ، و: مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ، حيث إنّ كِلا القراءتين متواترتين، و قراءة أيّة منهما في الصلاة مُجزية، و نريد أن نرى هنا أيّة قراءة من هاتين القراءتين أفضل؟ و نحن مجبرون على تقديم بيان مختصر لهذه المسألة.
مِلْك بمعنى الاستيلاء و القدرة و إذن التصرّف في الأموال؛ و يقال لصاحبه مَالِك بصيغة فاعل. أمّا مُلْك فبمعنى الاستيلاء و القدرة و إذن التصرّف في النفوس، و يقال لصاحبه مَلِك بصيغة فَعِل و هي صفة مشبّهة.
و بالطبع فإنّ كلاهما مشتقّ من مبدأ واحد و من أساس مشترك، و هو مطلق التصرّف و القدرة و الاستيلاء على شيء، و مبدأ الاشتقاق عبارة عن:
مَلَكَ يَمْلِكُ مَلْكاً، و مُلْكاً، و مِلْكاً، و مَلَكَةً، و مَمْلَكَةً، و مَمْلِكَةً، مَمْلُكَةً الشَّيء. أي احْتَوَاهُ قَادِراً على التَّصَرُّفِ وَ الاسْتِبْدَادِ بِهِ.
غاية الأمر، أنّ مبدأ الاشتقاق هذا إن تعلّق بالمتاع و البضاعة
الخارجيّة، أضحى بمعنى المِلكيّة و الاستبداد في التصرّف بها؛ و إن تعلّق بالإرادات و الاختيارات و النفوس، فهو بمعنى المُلكيّة و الاستيلاء عليها في الأمر و النهي.
يقال: مَلَكَ القَرْيَةَ: إذا استولى عليها؛ و مَلَكَ نَفْسَهُ، أي قدر على حبسها. و يُقال للأوّل: مَالِكَ. و يقال للثاني: مَلِك. فاختلاف معنى مَالِك و مَلِك ناشئ عن قرينة خارجيّة، و هي عبارة عن التزام الاستعمال و الوضع التعيينيّ أو التعيّنيّ على تعلّق هذا المعنى بالمتعلَّق خارجاً.
و على هذا الأساس نرى أنّ مالك يضاف إلى الأشياء الخارجيّة، فيقال: مَالِكُ الدَّارِ، و. مَالِك الدَّابَّةِ، و. مَالِكُ العِقَارِ، كما يضيفون مَلِك إلى النفوس و الأقوام فيقولون. مَلِكُ القَوْمِ، و. مَلِكُ العَرَبِ، و: مَلِكُ اليَمانِيِّينَ. و يقال: مَلِك العصر الفلانيّ و الزمن الفلانيّ، و لا يقال: مالِك العصر الفلانيّ.
و على هذا، فإنّ من الأنسب في آية مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ أن يُقال مَلِكِ، لأنّه ينسب إلى يَوْم، و لا تستحسن نسبة مالك إلى يوم، بخلاف نسبة ملك إلى يوم. يقال: حاكم و سلطان و آمر ذلك اليوم، و لا يقال: مالك ذلك اليوم.
قراءة أكثر القرّاء بـ «مَلِكِ»، و هي الأنسب و الأعمّ
قال استاذنا آية الله العلّامة الطباطبائيّ قدّس الله سرّه:
وَ قَدْ ذُكِرَ لِكُلِّ مِنَ القِراءَتَيْنِ. مَلِكِ وَ مَالِكِ وُجُوهٌ مِنَ التَّأيِيد؛ غَيْرَ أنَّ المَعْنَيْينِ مِنَ السَّلْطَنِةِ ثَابِتَانِ في حَقِّهِ تعالى:
وَ الذي تَعْرِفُهُ اللُّغَةُ وَ العُرْفُ أنَّ المُلْكَ بِضَمِّ المِيمِ هُوَ المَنْسُوبُ إلى الزَّمَانِ يقال: مَلِكُ العَصْرِ الفُلَانِيِّ، وَ لَا يقال: مَالِكُ العَصْرِ الفُلَانِيِّ إلَّا بِعِنَايَةٍ بَعِيدَةٍ. وَ قَدْ قَالَ تعالى: «مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ». فَنَسَبَهُ إلى اليَوْمِ. وَ قَالَ أيْضاً: «لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ». (الآية ۱٦، من السورة ٤۰.
غافر).
و قال الزمخشريّ: وَ مَلِكٌ هُوَ الاخْتِيَارُ، لأنَّهُ قِرَاءَةُ أهْلِ الحَرَمَيْنِ، وَ لِقوله: «لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ»، وَ لِقَوْلِهِ «مَلِكِ النَّاسِ»، وَ لأنَّ المُلْكَ يَعُمُّ وَ المِلْكَ يَخُصُّ.۱
و يقول الطبرسيّ في «مجمع البيان»: المَلِكُ: القَادِرُ الوَاسِعُ المَقْدِرَةِ الذي لَهُ السِّيَاسَةُ وَ التَّدْبِيرُ.
وَ المَالِكُ. القَادِرُ على التَّصَرُّفِ في مَالِهِ، وَ لَهُ أنْ يَتَصَرَّفَ فِيهِ على وَجْهٍ لَيْسَ لأحَدٍ مَنْعُهُ مِنْهُ.٢
و قال: قرأ عاصم و الكسائيّ و خلف و يعقوب مالك بالألف، و قرأ باقي القرّاء ملك بغير ألف.٣
و تبعاً لذلك، فإنّ قراءة مَلِكِ أشهر، لأنّ أربعة قرّاء من القرّاء العشرة قرأوا مالك، أمّا الباقون، و هم. نافع و ابن كثير و أبوعمرو و ابن عامر و حمزة و أبوجعفر، فقد قرأوا. ملك.
أمّا القرّاء السبعة، فهناك قارئان فقط هما. عاصم و الكسائيّ قرءا مالك، و أمّا الباقون، و هم. نافع و ابن كثير، و أبوعمرو، و ابن عامر و حمزة فقرأوا. ملك.
و قال الفيض الكاشانيّ في تفسير «الصافي»: «و قُرئ: مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ؛ روى العيّاشيّ أنّه قرأه الصادق عليه السلام ما لا يُحصى٤.
أجل، فيستنتج من مجموع ما ذكر أنّ قراءة مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ أفضل
و أجمل، و أنّ من الأولى أن يُقرأ بها؛ و قد كان سماحة الاستاذ العلّامة رضوان الله عليه، و استاذه العارف بالله الذي عجزت قرون الزمان أن تلد مثله. المرحوم آية الله الحاجّ الميرزا علي القاضي قدّس الله سرّه يقرآن مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ في صلاتهما.
و أمّا ما ذكره الطبرسيّ في «مجمع البيان» عن أبي عليّ الفارسيّ شاهداً على مَالِكِ ليس كاملًا.
فقد نقل عنه أنّه قال: يَشْهَدُ لِقِرَاءَةِ مَالِكِ مِنَ التَّنْزِيلِ قَوْلُهُ تعالى: «وَ الْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ». لأنَّ قَوْلَكَ. الأمْرُ لَهُ، وَ هُوَ مَالِكُ الأمْرِ بِمَعْنى.
ألَا تَرَى أنَّ لَامَ الجَرِّ مَعْنَاهَا المِلْكُ وَ الاسْتِحْقَاقُ؟ وَ كَذَلِكَ قَوْلُهُ تعالى: «يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً»، يُقَوِّي ذَلِكَ.۱ إذ إنّ هذا الاستشهاد من قبل الفارسيّ مخدوش، لأنّ لام الجرّ في لِلَّهِ تفيد الاختصاص، ولكن بأيّة كيفيّة؟ أهو على نحو مِلك الذي يعني التسلّط على الأشياء في الخارج، أم على نحو مُلك و هو التسلّط على النفوس و الأرواح؟ ليس في لام الجرّ شيء من ذلك.
مضافاً إلى ذلك أنّ المِلكيّة للنفس هي نفس معنى المُلكيّة. و لا تستنتج خصوصيّة المِلكيّة من استعمال مادّة مَ لَ كَ التي ذُكر أنّها فعل و مبدأ الاشتقاق، لأنّ هذه المادّة أعمّ، و حين تتعلّق بالنفس، فإنّ المراد منها هو المُلكيّة.
و على هذا، فإنّ جملة. لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً،٢ لا تفيد المِلكيّة و لا المالكيّة. و لن ينفع هذا الاستشهاد أبا عليّ الفارسيّ شيئاً.
مضافاً إلى ذلك أنّ بإمكاننا الاستدلال على أقربيّة مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ بثلاث جهات من القرآن الكريم:
الاولى: قوله تعالى: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ.۱
حيث نُسب المُلك فيه إلى اليوم و جُعل للّه تعالى، و هو تماماً بمثابة مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ، لأنّ الألف و اللام في الْيَوْمِ بمعنى العهد، و هو راجع إلى يوم القيامة. ذلك أنّه يقول قبل ذلك:
يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ لا يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ.٢
الثانية: أنّ صيغة مالك قد وردت في القرآن الكريم في موضع واحد من القرآن الكريم في وصف الله تعالى:
قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَ تَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَ تُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَ تُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.٣
حيث جاء مالك هنا بمعنى مَلِك، لأنّه نُسب إلى المُلك. و في الحقيقة فإنّ مالِكَ الْمُلْكِ يمثّل القدرة و السيطرة على الحكومة و الأمر، و هو مساوق للمُلك و متّحد معه. أمّا في المواضع الاخرى، فقد ورد فيها تعبير مَلِك، مثل قوله تعالى: فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُ.٤
و مثل: هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ.٥
و قوله: الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ.۱
و قوله: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ ، مَلِكِ النَّاسِ ، إِلهِ النَّاسِ.٢
و الثالثة: أنّ القرآن الكريم قد نسب المُلك - و ليس المِلك - إلى الله تعالى، كقوله تعالى:
أَ لَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ.٣
و قوله: وَ لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ.٤
و قوله: تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَ هُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.٥
و لم يُشاهد في أي موضع من القرآن الكريم أنّ المِلك قد نُسب إلى الله تعالى: و العلّة في ذلك - حسب قول الزمخشريّ – أنّ: المُلْك يَعُمُّ و المِلْك يَخُصُّ.
و يُستنتج من مجموع ما ذُكر أنّ قراءة مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ متعيّنة، بَيدَ أنّه لمّا كان قارئان من القرّاء السبعة المشهورين قد قرءا بـ: مَالِك، مضافاً إلى ذلك ما ورد في رواية الحلبيّ عن الإمام الصادق عليه السلام: إنَّهُ كَانَ يَقْرَا «مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ»؛٦ فإنّ قراءة مَالِكِ صحيحة أيضاً، خصوصاً و أنّ فقهاء الإسلام يعتبرون القراءات السبع المشهورة متواترةً، أي أنّ تلك القراءات قد وصلتنا عن رسول الله بالتواتر.
فتكون النتيجة أنّ كلتا القراءتين صحيحة و مُجزية، لكنّ قراءة مَلِكِ
أحسن و أعمّ و أشمل و أنسب؛ و الله العالم.
أمّا ما رواه السيّد هاشم البحرانيّ عن داود بن فرقد، قال: سمعتُ أبا عبد الله (الصادق) عليه السلام يقرأ ما لا أحصى مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ،۱ فليس صحيحاً، لأنّ رواية داود بن فرقد هذه، هي التي أوردها العيّاشيّ في تفسيره (ج ۱، ص ٢٢)، و نقلناها هنا عن تفسير «الصافي» و فيها أنّ الإمام الصادق عليه السلام كان يقرأ كثيراً بـ مَلِكِ و ليس مَالِكِ؛ و الظاهر أنّ تصحيفاً قد حصل في نسخة السيّد البحرانيّ، فتغيّر لفظ مَلِك إلى مَالِكَ.
خطبة «نهج البلاغه» في نزول القرآن، و بيان الخير و الشرّ
و قد أورد أميرالمؤمنين عليه أفضل صلوات المصلّين خطبةً بديعة في «نهج البلاغة» في نزول القرآن الكريم و بيان سبيل الخير و سبيل الشرّ فيه، و في العمل بالفرائض و رعاية حقوق العامّة، يقول فيها:
إن اللهَ تَعَالَى أنْزَلَ كِتَاباً هَادِياً بَيَّنَ فِيهِ الخَيْرَ وَ الشَّرَّ. فَخُذُوا نَهْجَ الخَيْرِ تَهْتَدُوا، وَ اصْدِفُوا عَنْ سَمْتِ الشَّرِّ تَقْصِدُوا!
الفَرَائِضِ! الفَرَائِضِ! أدُّوها إلى اللهِ تُؤَدِّكُمْ إلى الجَنَّةِ إنَّ اللهَ حَرَّمَ حَرَاماً غَيْرَ مَجْهُولٍ، وَ أحَلَّ حَلَالًا غَيْرَ مَدْخُولٍ. وَ فَضَّلَ حُرْمَةَ المُسْلِمِ على الحُرَم كُلِّهَا. وَ شَدَّ بِالإخْلاصِ وَ التَّوْحِيدِ حُقُوقَ المُسْلِمِينَ في مَعَاقِدِهَا. فَالمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ المُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَ يَدِهِ إلَّا بِالحَقِّ. وَ لَا يَحِلَّ أذَى المُسْلِمِ إلَّا بِمَا يَجِبُ.
بَادِرُوا أمْرَ العَامَّةِ وَ خَاصَّةَ أحَدِكُمْ، وَ هُوَ المَوْتُ! فَإنَّ النَّاسَ أمَامَكُمْ؛ وَ إنَّ السَّاعَةَ تَحْدُوكُمْ مِنْ خَلْفِكُمْ.
تَخَفَّفُوا تَلْحَقُوا! فَإنَّمَا يُنْتَظَرُ بِأوَّلِكُمْ آخِرُكُمْ. اتّقُوا الَلهَ في عِبَادِهِ وَ بِلَادِهِ! فَإنَّكُمْ مَسْؤُولُونَ حتى عَنِ البِقَاعِ وَ البَهَائِمِ. أطِيعُوا اللهَ
وَ لَا تَعْصُوهُ. وَ إذَا رَأيْتُمُ الخَيْرَ فَخُذُوا بِهِ. وَ إذَا رَأيْتُمُ الشَّرِّ فَأعْرِضُوا عَنْهُ.۱
و يقول ابن أبي الحديد في شرح هذه الخطبة:
قوله: فَالْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ النَّاسُ ... هذا لفظ الخبر النبويّ بعينه ... و قد ورد في الأخبار النبويّة: لَيُنْتَصَفَنَّ لِلْجَمَّاءِ مِنَ القَرْنَاءِ. و قد جاء في الخبر الصحيح: إنَّ اللهَ تَعَالَى عَذَّبَ إنْسَاناً بِهِرٍّ حَبَسَهُ في بَيْتٍ وَ أجَاعَهُ حتى هَلَكَ.٢
فقرات من دعاء ختم القرآن في «الصحيفة السجّاديّة»
أجل، فمن الأجدر، و نحن نريد اختتام البحث في «نور ملكوت القرآن» أن نورد بقيّة الدعاء الجامع الكامل لسيّد الساجدين عليه السلام في ختم القرآن، الذي لم نذكر شرحاً له: لنحظى بفضائل و فواضل هذه التحفة السماويّة و المائدة النازلة من الجنّة. و قد أوردنا قسماً من الدعاء في الجزء الثالث، و قسماً منه في الجزء الرابع،٣ و ها نحن نذكر تتمّة هذا الدعاء في خاتمة الجزء الرابع:
اللَهُمَّ صَلَّ على مُحَمَّدٍ وَ آلِهِ، وَاجْبُرْ بِالقُرْآنِ خَلَّتَنَا مِنْ عَدَمِ الإملاقِ. وَسُقّ إلَيْنَا بِهِ رَغَدَ العَيشِ وَ خِصْبَ سَعَةِ الأرْزَاقِ. وَ جَنِّبْنَا بِهِ الضَّرَائِبَ المَذْمُومَةَ وَ مَدَانِيَ الأخْلَاقِ. وَ اعْصِمْنَا بِهِ مِنْ هُوَّةِ الكُفْرِ وَ دَوَاعِي النِّفَاقِ؛ حتى يَكُونَ لَنَا في القِيَامَةِ إلى رِضْوَانِكَ وَ جِنَابِكَ قَائِداً. وَ لَنَا في الدُّنْيَا عَنْ سَخَطِكَ وَ تَعَدِّي حُدُودِكَ ذَائِداً. وَ لِمَا عِنْدَكَ بِتَحْلِيلِ حَلَالِهِ وَ تَحْرِيمِ حَرَامِهِ
شَاهِداً.
اللَهُمَّ صَلِّ على مُحَمَدٍ وَ آلِهِ وَ هَوِّنْ بِالقُرْآنِ عِنْدَ المَوْتِ على أنْفُسِنَا كَرْبَ السِّيَاقِ وَ جَهْدَ الأنِينِ. وَ تَرَادُفَ الحَشَارِجِ إذَا بَلَغَتِ النُّفُوسُ التَّرَاقِيَ وَ قِيلَ مَنْ رَاقٍ. وَ تَجَلَّى مَلَكُ المَوْتِ لَقَبْضِهَا مِنْ حُجُبِ الغُيُوبِ، و رَمَاهَا عَنْ قَوْسِ المَنَايَا بَأسْهُمِ وَحْشَةِ الفِرَاقِ. وَ دَافَ لَهَا مِنْ ذُعَافِ المَوْتِ كَأساً مَسْمُومَةَ المَذَاقِ. وَ دَنَا مِنَّا إلى الآخِرَةِ رَحِيلٌ وَ انْطِلاقٌ. وَ صَارَتِ الأعْمَالُ قَلائِدَ في الأعْنَاقِ. وَ كَانَتِ القُبُورُ هِيَ المَأوَى إلى مِيقَاتِ يَوْمِ التَّلَاقِ.
اللَهُمَّ صَلِّ على مُحَمَّدٍ وَ آلِهِ. وَ بَارِكْ لَنَا في حُلُولِ دَارِ البِلَى، وَ طُولِ المُقَامَةِ بَيْنَ أطْبَاقِ الثَّرَى. وَ اجْعَلِ القُبُورَ بَعْدَ فِرَاقِ الدُّنْيَا خَيْرَ مَنَازِلِنَا. وَ افْسَحْ لَنَا بِرَحْمَتِكَ في ضِيقِ مَلَاحِدِنَا. وَ لَا تَفضَحْنَا في حَاضِري القِيَامَةِ بِمُوبِقَاتِ آثَامِنَا. وَ ارْحَمْ بِالقُرْآنِ في مَوْقِفِ العَرْضِ عَلَيْكَ ذُلَّ مَقَامِنَا. وَ ثَبِّتْ بِهِ عِنْدَ اضْطِرَابِ جِسْرِ جَهَنَّمَ يَوْمَ المَجَازِ عَلَيْهَا زَلَلَ أقْدَامِنَا. وَ نَوِّرْ بِهِ قَبْلَ البَعْثِ سُدَفَ قُبُورِنَا. وَ نَجِّنَا بِهِ مِنْ كُلِّ كَرْبٍ يَوْمَ القِيَامَةِ وَ شَدَائِدِ أهْوَالِ يَوْمِ الطَّامَّةِ. وَ بَيِّضْ وُجُوهَنَا يَوْمَ تَسْوَدُّ وُجُوهُ الظَّلَمَةِ في يَوْمِ الحَسْرَةِ وَ النَّدَامَةِ. وَ اجْعَلْ لَنَا في صُدُورِ المُؤْمِنِينَ وُدَّاً، وَ لَا تَجْعَلِ الحَيَاةَ عَلَيْنَا نَكِداً.
اللَهُمَّ صَلِّ على مُحَمَّدٍ عَبْدِكَ وَ رَسُولِكَ كَمَا بَلَّغَ رِسَالَتَكَ، وَ صَدَعَ بِأمْرِكَ، وَ نَصَحَ لِعِبَادِكَ. اللَهُمَّ اجْعَلْ نَبِيَّنَا صَلَوَاتُكَ عَلَيْهِ وَ على آلِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ أقْرَبَ النَّبِيِّينَ مِنْكَ مَجْلِساً، وَ أمْكَنَهُمْ مِنْكَ شَفَاعَةً، وَ أجَلَّهُمْ عِنْدَكَ قَدْراً، وَ أوْجَهَهُمْ عِنْدَكَ جَاهاً.
اللَهُمَّ صَلِّ على مُحَمَّدٍ وَ آلِ مُحَمَّدٍ. وَ شَرِّفْ بُنْيَانَهُ. وَ عَظِّمْ بُرْهَانَهُ. وَ ثَقِّلْ مِيزَانَهُ. وَ تَقَبَّلْ شَفَاعَتُه. وَ قَرِّبْ وَسِيلَتَهُ. وَ بَيِّضْ وَجْهَهُ. وَ أتِمَّ نُورَهُ. وَ ارْفَعْ دَرَجَتَهُ. وَ أحْيِنَا على سُنَّتِهِ. وَ تَوَفَّنَا على مِلَّتِهِ. وَخُذْ بِنَا مِنْهَاجَهُ.
وَ اسْلُكْ بِنَا سَبِيلَهُ. وَ اجْعَلْنَا مِنْ أهْلِ طَاعَتِهِ. وَ احْشُرْنَا في زُمْرَتِهِ. وَ أوْرِدْنَا حَوْضَهُ. وَ اسْقِنَا بِكَأسِهِ.
وَ صَلِّ اللَهُمَّ على مُحَمَّدٍ وَ آلِهِ. صَلَاةً تُبَلِّغُهُ بِهَا أفْضَلَ مَا يَأمُلُ مِنْ خَيْرِكَ وَ فَضْلِكَ وَ كَرَامَتِكَ. إنَّكَ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ، وَ فَضْلٍ كَرِيمٍ.
اللَهُمَّ اجْزِهِ بِمَا بَلَّغَ مِنْ رِسَالاتِكَ، وَ أدَّى مِنْ آيَاتِكَ، وَ نَصَحَ لِعِبَادِكَ، وَ جَاهَدَ في سَبِيلِكَ؛ أفْضَلَ مَا جَزَيْتَ أحَداً مِنْ مَلَائِكَتِكَ المُقَرَّبِينَ، وَ أنْبِيَائِكَ المُرْسَلِينَ المُصْطَفَيْنَ. وَ السَّلَامُ عَلَيْهِ وَ على آلِهِ الطَّيِّبِينَ الطَّاهِرِينَ وَ رَحْمَةُ اللهِ وَ بَرَكَاتُهُ.۱
و يتّضح - من خلال التأمّل و التدبّر في مضامين هذا الدعاء المبارك - الافُق الرحيب و المنظر العالي المُبهج من علوم القرآن الذي يقف الإمام عليه السلام فيه؛ و النظرة التي يتلو القرآن بها؛ و الفوائد المعنويّة التي يجتنيها من آيات القرآن؛ و المراحل و المنازل التي يطويها في الأدب الربوبيّ؛ و كيف يقف أمام عظمة خالق القرآن خاضعاً خاشعاً، كأنّه لا يرى غير الحقّ و عظمة الحقّ تعالى:
و لقد كان أتباع مدرسة النبوّة و الولاية على هذا الشأن، و كان المتشرّفون بالتوحيد الربوبيّ و الفناء في الذات الأحديّة يتولّهون بآيات القرآن، ليس ذلك العشق التافه الوضيع الذي يتعلّق بالمادّة و آثار المادّة، فذاك ماءٌ آسن زائل:
عشقهائي كز پى رنگى بود | *** | عشق نبود عاقبت ننگى بود٢ |
بل عشقٌ حقيقيّ معنويّ روحانيّ، بل إنّ حقيقة العشق تتجسّد هنا،
و لا يمكن إطلاق اسم العشق على أنواع العشق المجازيّ.
فذلك العاشق، متولّهٌ بالدم و الصديد المغطّى بلباس البدن، و المحجوب في حجاب البَشَرة؛ أمّا هذا، فمتحيّر تائه في الجمال الأزليّ، و عاشق للأبديّة و السرمديّة، و للجمال المطلق لعالم الحقّ و الطبيعة الذي لا تشوبه شائبة من كدورات المادّة و التحديد و التقييد. هنا يتجلّى للإنسان معنى العشق حقّاً و حقيقةً، و هنا تصبح آثار العشق و خصائصه مشهودةً في الإنسان، فهو هارب من عالم ما سوى الله، متّجه إلى عالم الوحدة، والهٌ حائرٌ في بحثه و تفتيشه.
ام ورقة ابنة عبدالله بن الحارث كانت جامعة للقرآن و شهيدة
و لقد كان هناك أفراد كثيرون في زمن رسول الله ممّن يقومون بتعليم القرآن، إلّا أنّ الذين جمعوا كلّ القرآن كانوا أفراداً قلائل، سواء في ذلك المهاجرون و الأنصار؛ و كان في الأنصار خمسة نفر فقط من جامعي القرآن، و كانت المرأة المسلمة الوحيدة التي جمعت القرآن هي امّ ورقة بنت عبد الله بن الحارث، و كان لها مقام عظيم حقّاً في الإسلام، و ينبغي أن تكون قدوة تحتذى على مثالها النساء المسلمات.
يقول السيوطيّ في «الإتقان»: أخرج ابن سعد في «الطبقات»: أنبأنا الفضل بن دُكين، قال: حدّثنا الوليد بن عبد الله بن جميع قال: حدّثتني جدّتي عن امّ ورقة ابنة عبد الله بن الحارث - و كان رسول الله صلّى الله عليه [و آله] و سلّم يزورها، و يُسمّيها «الشهيدة»، و كانت قد جمعتْ القرآن - أنّ رسول الله صلّى الله عليه [و آله] و سلّم حين غزا بدراً قالت له امّ ورقة. أتأذن لي فأخرج معك اداوي جرحاكم و امرّض مرضاكم، لعلّ الله يهدي لي شهادة؟ قال: إنّ الله مُهدٍ لكِ شهادةً.
و كان صلّى الله عليه [و آله] و سلّم قد أمرها أن تؤمّ أهل دارها، و كان لها مؤذِّن، فغمّها غلامٌ لها و جارية كانت دبّرتهما (أي أعتقتهما بعد موتها)
فقتلاها في إمارة عمر. فقال عمر: صدق رسول الله صلّى الله عليه [و آله] و سلّم، كان يقول: انطلقوا بنا نزور الشهيدة.۱
كيفيّة وفاة السيّدة نفيسة، و عشقها عند الاحتضار
و من بين النساء المسلمات اللواتي اشتهرن بقراءة القرآن و ختمه و تفسيره السيّدة نفيسة حفيدة الإمام الحسن المجتبى عليه السلام، و كانت قد قضت سنوات عمرها الأخيرة في مصر و دُفنت فيها، و لها مزار عظيم و قبّة و صحن يُزار، و قد اشتهرت في حياتها بالكرامات و استجابةالدعوات.
و قد أورد ترجمتها كثير من الأعلام، منهم ابن خَلِّكان،٢ و الشبلنجيّ،٣ و الشيخ محمّد الصَّبَّان،٤ و المقريزيّ،٥ و الشيخ ذبيح الله المحلّاتيّ،٦ و المحدِّث القمّيّ،۷ و عبّاس قلي خان سبهر.۸ و نورد فيما يلي
مقتطفات اخترناها من عبارة الشبلنجيّ في «نور الأبصار»:
السيّدة نفيسة بنت سيّدي حسن الأنور، بن السيّد زيد الأبلَج بن الحسن السبط بن عليّ بن أبي طالب [عليه السلام].
امّها امّ ولد؛ تزوّج بنفيسة إسحاق بن جعفر الصادق [عليه السلام]، و كان يُدعى بإسحاق المؤتمَن، و كان من أهل الصلاح و الخير و الفضل و الدين، و رُوي عنه الحديث. و كان ابن كاسِب إذا حدّث عنه يقول: حَدَّثَنِي الثِّقَةُ الرَّضِيُّ إسْحَاقُ بْنُ جَعْفَرٍ.
و كان مولد السيّدة نفيسة بمكّة المشرّفة سنة خمس و أربعين و مائة، و نشأت بالمدينة في العبادة و الزهادة، تصوم النهار و تقوم الليل. و كانت لا تفارق حرم النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم، و حجّت ثلاثين حجّة أكثرها ماشية. و كانت تبكي بكاءً كثيراً و تتعلّق بأستار الكعبة و تقول:
إلَهِي وَ سَيِّدِي وَ مَوْلَايَ! مَتِّعْنِي وَ فَرِّحْنِي بِرِضَاكَ عَنِّي! فَلَا سَبَبَ لِي أتَسَبَّبْ بِهِ يَحْجُبُكَ عَنِّي!
قالت زينب بنت يحيي المُتوَّج و هو أخو السيّدة نفيسة رضي الله عنهم. خدمتُ عمّتي نفيسة أربعين سنة، فما رأيتها نامتْ بليلٍ، و لا فطرتْ بنهار، فقلتُ: أما ترفقين بنفسك؟ فقالت: كيف أرفق بنفسي و قُدّامي عقبات لا يقطعهنّ إلّا الفائزون ... .
و كانت لا تأكل لغير زوجها شيئاً. و عن زينب أيضاً قالت. كانت عمّتي نفيسة تحفظ القرآن و تفسيره، كانت تقرأ القرآن و تبكي و تقول: إلهي و سيّدي يسّر لي زيارة خليلك إبراهيم عليه السلام، فحجّت هي و زوجها إسحاق المؤتمن بن جعفر الصادق، ثمّ زارت قبر خليل الرحمن عليه السلام، ثمّ رجعت إلى مصر و سكنت بالمنصوصة في دار امّ هانئ، و كان بجوارهم يهوديّ له ابنة مقعدة لا تستطيع القيام، فشفيتْ بفضل
وضوئها.
و كان قدوم السيّدة نفيسة إلى مصر سنة ثلاث و تسعين و مائة على خلاف في ذلك. و في تاريخ ابن خلّكان: دخلتْ مصر مع زوجها، و قيل: دخلت مع أبيها الحسن ... و لمّا سمع أهل مصر بقدومها - و كان لها ذِكر شائع عندهم - تلقّتها النساء و الرجال بالهوادج من العريش، و لم يزالوا معها إلى أن دخلتْ مصر، فأنزلها عنده كبير التجّار بمصر: جمال الدين عبد الله بن الجَصّاص، فنزلت عنده في داره و أقامت بها عدّة شهور و الناس يأتون إليها أجمعون من سائر الآفاق يتبرّكون بزيارتها.
و لمّا شاعت هذه الكرامة بين الناس، لم يبقَ أحد إلّا قصد زيارة السيّدة نفيسة رضي الله عنها، و عظم الأمر و كثر الخلق على بابها، فطلبتْ عند ذلك الرحيل إلى بلاد الحجاز عند أهلها، شقّ ذلك على أهل مصر و سألوها في الإقامة. فقالت: إنّ الناس قد أكثروا من المجيء عندي و شغلوني عن أورادي و جمع زادي لمعادي [فأعطاها حاكم مصر داراً واسعة كانت له، و شرط على الناس أن لا يزوروها إلّا يومين في كلّ اسبوع، فقبلت بذلك في آخر الأمر، و بقيت في تلك الدار إلى أن توفّيت سنة ٢۰۸ هجريّة].
و لمّا دخل الشافعيّ مصر، كان يتردّد إليها، و كان يصلّي بها التراويح في مسجدها في رمضان، و كان يأتي إليها و يسألها الدعاء ... و كان الشافعيّ إذا مرض يرسل إليها إنساناً من أصحابه يسألها الدعاء، فتدعو له فلا يرجع له القاصد إلّا و قد عوفي من مرضه. فلمّا مرض مرضه الذي مات فيه، أرسل لها على جاري عادته يلتمس منها الدعاء، فقالت للقاصد:
مَتَّعَهُ اللهُ بِالنَّظَرِ إلى وَجْهِهِ الكَرِيمِ! فجاء القاصد له، فرآه الشافعيّ فقال له: ما قالت لك؟ قال: قالت لي كيت و كيت؛ فعلم أنّه ميّت،
فأوصى، و أوصى أن تصلّي عليه، فلمّا توفّى سنة أربع و مائتين كما هو المشهور مرّوا به على بيتها، فصلّت عليه مأمومةً، و كان الذي صلّى بها إماماً أبويعقوب البويطيّ أحد أصحابه، و كان مرور جنازة الشافعيّ على بيتها بأمر السريّ۱ أمير مصر، لأنّها سألته في ذلك إنفاذاً لوصيّة الشافعيّ، لأنّها كانت لا تستطيع الخروج إلى جنازته لضعفها من كثرة العبادة ... .
[ثمّ يروي الشبلنجيّ هنا عدّة حكايات عن كرامات السيّدة نفيسة في حياتها و يقول:] و حفرت قبرها بيدها في بيتها، و كانت تصلّي فيه كثيراً و قرأت فيه مائة و تسعين ختمة، و في رواية عنه ألفي ختمة، و قيل ألفاً و تسعمائة.٢
قالت زينب بنت أخيها. تألّمت عمّتي في أوّل يوم من رجب و كتبت إلى زوجها إسحاق المؤتمن كتاباً، و كان غائباً بالمدينة، تأمره بالمجيء إليها، و لا زالت كذلك إلى أوّل جمعة من شهر رمضان، فزاد بها الألم و هي صائمة، فدخل عليها الأطبّاء الحذّاق و أشاروا عليها بالإفطار لحفظ القوّة لما رأوا من الضعف الذي أصابها، فقالت: وا عجباه، لي
ثلاثون سنة أسأل الله عزّ و جلّ أن يتوفّاني و أنا صائمة، فأفطر! مَعَاذَ الله. ثمّ أنشدت تقول:
اصْرِفُوا عَنِّي طَبِيبِي وَ دَعُونِي وَ حَبِيِبي | *** | زَادَ بِي شُوقاً إلَيْهِ وَ غَرَامِي في لَهِيبِ |
طَابَ هَتْكِي في هَوَاهُ بَيْنَ وَاشٍ وَ رَقِيبِ | *** | لَا ابَالِي بِفَوَاتٍ حِينَ قَدْ صَارَ نَصِيبِي |
لَيْسَ مَن لَامَ بِعَذْلٍ عَنْهُ فِيهِ بِمُصِيبِ | *** | جَسَدِي رَاضٍ بِسُقْمِي وَ جُفُونِي بِنَحيبِ |
قال صاحب «التحفة الإنسيّة من المآثر النفيسة». و مِن الناس مَن يرى أنّ هذه الأبيات لمحمّد بن إبراهيم بن ثابت الكيزانيّ الشيعيّ.
قالت زينب: ثمّ إنّها بقيت كذلك إلى العشر الأواسط من شهر رمضان، فاحتضرت و استفتحت بقراءة سورة الأنعام، فلا زالت تقرأ إلى أن وصلت إلى قوله تعالى: قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ،۱ ففاضت روحها الكريمة.
و في «دُرر الأصداف» عنها: فلمّا وصلت إلى قوله تعالى: لَهُمْ دارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَ هُوَ وَلِيُّهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ،٢ غُشي عليها، فضممتُها لصدري فتشهَّدت شهادة الحقّ و قُبضت رحمة الله عليها. و وصل زوجها في ذلك اليوم فقال إنّي أحملها إلى المدينة و أدفنها بالبقيع، فاجتمع أهل مصر إلى أمير البلد و استجاروا به إلى إسحاق ليردّه عمّا أراد فأبي، فجمعوا له مالًا كثيراً وسق بعيره الذي أتى عليه و سألوه أن يدفنها عندهم فأبى،
فباتوا في مشقّة عظيمة.
فلمّا أصبحوا اجتمعوا فوجدوا منه غير ما عهدوه بالأمس، فقالوا له: إنّ لك لشأناً! قال: نعم، رأيتُ رسول الله صلّى الله عليه [و آله] و سلّم و هو يقول لي: رُدَّ عَلَيْهِمْ أمْوَالَهُمْ وَادْفُنْهَا عِنْدَهُمْ! ... فدُفنت بمزار بدرب السباع، و كان يوم دفنها يوماً مشهوداً، و أتوها من البلاد و النواحي يصلّون عليها بعد دفنها، و اوقدت الشموع تلك الليلة، و سُمع البكاء من كلّ دارٍ بمصر، و عظم الأسف عليها.
القصائد التي أنشدت في السيّدة نفيسة
قال الدميريّ: السيّدة نفيسة رضي الله عنها، كانت امّيّة لا تقرأ شيئاً، إلّا أنّها سمعت الحديث كثيراً و كانت من أهل الخير و الصلاح، و كانت في آخر عمرها إذا عجزت عن الصلاة قائمةً، صلّت قاعدة. و كانت من كثرة الصيام و القيام ضعف قواها. و زار قبرها جماعة من الأولياء و الصلحاء، كالاستاذ الكبير أبي الفيض تومان، ذي النون المصريّ، ابن إبراهيم الإخميميّ أحد رجال الطريقة المعتبرين، و أبي الحسن الدينوريّ، و أبي عليّ الرودباريّ، و أبي بكر أحمد بن نصر الدقّاق، و بنان بن أحمد بن محمّد بن سعيد الحمّال الواسطيّ، و شقران بن عبد الله المغربيّ، و إدريس بن يحيي الخولانيّ، و الفضل بن فضالة، و القاضي بكار بن قتيبة، و إسماعيل المزنيّ صاحب الإمام الشافعيّ، و عبد الله بن عبدالحكم بن أعين بن ليث بن رافع المصريّ و ولده الإمام محمّد صاحب «تاريخ مصر»، و عبدالرحمن بن الحكم و الإمام أبويعقوب البويطيّ، و الربيع بن سليمان المراديّ ممّن لا يحصى عددهم إلّا الله.
ثمّ يذكر الشبلنجيّ هنا زيارة لها، من جملتها:
يَا بَنِي الزَّهْرَاءِ وَ النُّورِ الذي | *** | ظَنَّ موسى أنَّهُ نَارُ قَبَسْ |
لَا اوالِي قَطُّ مَنْ عَادَاكُمُ | *** | إنَّهُمْ آخِرُ سَطْرٍ في عَبَسْ |
و يشير في البيت الثاني أنّ أعداء آل محمّد و بني فاطمة هم تحقيقاً من الكفّار و الفجّار، لأنّ الآية الأخيرة في سورة عبس تقول: أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ.
ثمّ ينقل قصيدتين في هذه السيّدة الجليلة لبعض الفضلاء، تبدأ أولاهما بهذه الأبيات:
يَا مَنْ لَهُ في الكَوْن مِنْ حَاجَةٍ | *** | عَلَيْكَ بِالسَّيِّدَةِ الطَّاهِرَة |
نَفِيسَة وَ المُصْطَفى جَدُّهَا | *** | أسْرَارُهَا بَيْنَ الوَرَى ظَاهِرَة |
في الشَّرْقِ وَ الغَرْبِ لَهَا شُهْرَةٌ | *** | أنْوَارُهَا سَاطِعَةٌ بَاهِرَة |
كَمْ مِن كَرَامَاتٍ لَهَا قَدْ بَدَتْ | *** | وَ كَمْ مَقَامَاتٍ لَهَا فَاخِرَة |
إلى أن يصل إلى هذه الأبيات، حيث يقول:
عَابِدَةٌ زَاهِدَةٌ جَامِعَةٌ | *** | لِلْخَيْرِ في الدُّنْيَا وَ في الآخِرَة |
في كُلِّ قُطْرٍ قَدْ سَمَا ذِكْرُهُا | *** | عَالِمَةٌ فَائِقَةٌ مَاهِرَة |
يُسْقَى بِهَا الغَيْثُ إذَا مَا القُرَى | *** | قَدْ أجْدَبَتْ مِنْ سَحْبِهَا المَاطِرَة |
سُبْحَانَ مَنْ أعْلَى لَهَا قَدْرَهَا | *** | لأنَّهَا بَيْنَ الوَرَى نَادِرَة |
قال المقريزيّ. قبر السيّدة نفيسة أحد المواضع المعروفة بإجابة الدعاء بمصر ... و لم يزل المصريّون ممّن أصابته مصيبة، أو لحقته فاقة أو جائحة يمضون إلى أحد هذه المواضع فيدعون الله تعالى فيستجيب لهم.۱
و قد اخترنا هذه المطالب عن السيّدة نفيسة من كتاب «نور الأبصار» من بين جميع الكتب التي تحدّثت عنها، لأنّه كان أكثر منها شمولًا و إحاطة بحيث لم تزد الكتب الاخرى عليه شيئاً. بَيدَ أنّه يجب العلم بأنّنا اختصرنا
مطالب هذا الكتاب و اكتفينا بنقل المطالب الأساسيّة.
و لقد كان قصدنا من ذكر هذه المخدّرة الجليلة، انسها و معرفتها بالقرآن الكريم، و هو أمر شيّق أكثر من سواه، لأنّ من المسلّم أنّها كانت تحفظ القرآن على الرغم من كونها امّيّة حسب نقل المقريزيّ. و باعتبار انحدارها من سلالة البيت الطاهر، و معرفتها بالحديث و التفسير، و كون العربيّة لغتها الامّ، فإنّها كانت - على وجه التحقيق - تقرأ القرآن عن تبصّر، فيؤثّر في روحها، و كانت جذبات الشوق و العشق الإلهيّ تكتنفها حال قراءتها للقرآن، فتغفل عن نفسها و تتّحد بخالقها، و كانت تلك الحالات البديعة في عالم التوحيد تستدعي ظهور الكرامات، و تحيّر الأعلام و الأعيان الذين كانوا يعرفونها.
و يجب ألّا يُتعجّب من كثرة ختمها للقرآن، فقد كانت حافظة للقرآن، و مَن يحفظ القرآن يمكنه أن يختمه في مدّة ثمان أو عشر ساعات.
و قد سمعتُ حين كنت أدرس في النجف الأشرف بأنّ آية الله الحاجّ الميرزا مهدي الشيرازيّ أعلى الله مقامه - و كان ساكناً في كربلاء المقدّسة، و كان يحفظ القرآن - كان يغتسل في بعض أيّام شهر رمضان، و يتشرّف بالذهاب إلى الحرم المطهّر، فيختم القرآن من الصبح إلى العصر، ثمّ يعود.
الحسن بن زيد بن الحسن، و أبوه زيد بن الحسن، من المرفوضين
و هذه المقامات العالية ليست بعيدة عن مثل السيّدة نفيسة، فإنّها لمّا ولهت بالله تعالى و نست ما سواه، فإنّ الله تعالى قد أنعم عليها بتلك المقامات، يُضاف إلى ذلك أن زوجها كان ابناً للإمام الصادق عليه السلام بلا فصل، و كان أصحاب الرواية و الرجال يدعونه بالمؤتَمَن. و كان يقول بإمامة أخيه الإمام موسى بن جعفر عليهما السلام.
أمّا عن والد نفيسة. الحسن، فلا يُذكر بخير، و قد عدّه الشيخ الطوسيّ
في رجاله من أضعف الضعفاء. و قال عنه مؤلّف «عمدة الطالب»: كان الحسن بن زيد بن الحسن بن عليّ أمير المدينة من قِبل الدوانيقيّ، و عيناً له على غير المدينة أيضاً. و كان مظاهراً لبني العبّاس على بني عمّه الحسن المثنّي، و هو أوّل من لبس السواد من العلويّين ... و روى في المناقب عن المفضّل بن عمر قال: وجّه المنصور إلى الحسن بن زيد، و هو و اليه على الحرمَين، أن أحرق على جعفر (الصادق عليه السلام) داره».۱
أمّا جدّ السيّدة نفيسة، و هو زيد بن الحسن بن عليّ - و قد ظنّه المامقانيّ اشتباهاً زيد بن الحسن بن الحسن بن عليّ - فكان أسوأ من ابنه الحسن. و قد نقل صاحب «تنقيح المقال» حديثاً طويلًا عن «بحار الأنوار» عن «الخرائج و الجرائح» للراونديّ، عن أبي بصير، عن الصادق عليه السلام أمر مخاصمة زيد بن الحسن مع زيد بن عليّ بن الحسين، و مع الباقر عليه السلام، و هو الذي سبّب قتل الباقر عليه السلام و استشهاده بسرجٍ مسمومٍ كان قد جلبه معه من الشام.٢
أجل، فقد كان كثير من أولاد الأئمّة يأبون القبول بولاية أخيهم الإمام بالحقّ، مدفوعين بالغرور و الكِبْر، أو الإقرار بإمامة عمّهم أو ابن أخيهم، نظير محمّد بن إسماعيل٣ الذي اشترك في قتل موسى بن جعفر
بسعايته به لدى هارون، و نظير جعفر بن عليّ الذي لُقّب بالكذّاب.
بَيدَ أنّ فساد الأب و الجدّ ليس موجباً لفساد السيّدة نفيسة؛ و آية: تُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ۱ هي آية نتلوها كلّ يوم. و الله سبحانه ليس له مع أحدٍ قرابة، فمن كان عمله صالحاً، كان من أصحاب الجنّة، و ربّما كانت علّة هجرة السيّدة نفيسة إلى مصر، و إقامتها سنوات مديدة في بلاد الغُربة بعيدة عن وطنها المدينة، كامنةً في الابتعاد عن محيط تنافس الآباء و الأرحام، و اختياراً منها للخلوة للعبادة و تلاوة كلام الله تعالى:
و يتّضح ممّا أوردناه عن السيّدة نفيسة، أنّها كانت جامعةً للقرآن كلّه، لأنّ العلم بالقرآن ليس بحيازة المرء لمصحف في بيته أو اصطحابه معه مصحفاً يمكنه أن يقرأه قراءة صحيحة بصوتٍ حسن جميل؛ و ليس بأن يتمكّن المرء من العثور على الآية التي يشاء اعتماداً على قاموس الآيات؛ بل بأن يتمكّن المرء أن يقرأ متى شاء أي مطلبٍ في القرآن الكريم عن حفظ، و أن يعلم تفسيره. و كان مَن يتعلّم قدراً من القرآن على هذا النحو في زمن النبيّ الأكرم يُعتبر عالِماً بهذا المقدار من القرآن و جامعاً له، و ليس لأكثر منه.
روى الكلينيّ في «الكافي» عن منصور، عن أبي عبد الله (الصادق) عليه السلام قال: سمعتُ أبي عليه السلام يقول: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ [وَ سَلَّمَ]: خَتْمُ القُرْآنِ إلى حَيْثُ تَعْلَمُ.۱
و على هذا، فإنّ ختم القرآن مِن قِبل أي فرد، هو بمقدار ما يعلم قراءته من القرآن. و قد كانت السيّدة نفيسة تختم جميع القرآن، و على أحسن وجه و نحوٍ، عن حفظ، مع لحاظ المعنى و التفسير، فَيَا لَهَا مِنْ مَنْقَبَةٍ عَظِيمَةٍ.
أجل، فقد كانت قصّة هذه السيّدة المعظّمة خاتمة كتاب «نور ملكوت القرآن» الذي بلغ أربعة أجزاء، و الأمل يحدونا بأن تمنّ علينا و على قارئي كتابنا ببركات نفسها القدسيّة.
القرآن هُدى من الضَّلالَة
يروي الكلينيّ في «الكافي» بسنده المتّصل مرفوعاً عن أبي عبد الله (الصادق) عليه السلام قال:
لَا وَ اللهِ! لَا يَرْجِعُ الأمْرُ وَ الخِلَافَةُ إلى آلِ أبِي بَكْرٍ وَ عُمَرَ أبَداً، وَ لَا إلى بَنِي امَيَّةَ أبَداً، وَ لَا في وُلْدِ طَلْحَةَ وَ الزُّبَيْرِ أبَداً! وَ ذَلِكَ أنَّهُمْ نَبَذُوا القُرْآنَ وَ أبْطَلُوا السُّنَنَ وَ عَطَّلُوا الأحْكَامَ. وَ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ [وَ سَلَّمَ]. القُرآنُ هُدى مِنَ الضَّلَالَةِ، وَ تِبْيَانٌ مِنَ العَمَى، وَ اسْتِقَالَةٌ مِنَ العَثْرَةِ، وَ نُورٌ مِنَ الظُّلْمَةِ، وَ ضِيَاءٌ مِنَ الأحْدَاثِ، وَ عِصْمَةٌ مِنَ الهَلَكَةِ، وَ رُشْدٌ مِنَ الغَوَايَةِ، وَ بَيَانٌ مِنَ الفِتَنِ، وَ بَلَاغٌ مِنَ الدُّنْيَا إلى الآخِرَةِ؛ وَ فِيهِ كَمَالُ دِينِكُمْ، وَ مَا عَدَلَ أحَدٌ عَنِ القُرْآنِ إلَّا إلى النَّارِ.٢
و للّه الحمد و له المنّة فقد انتهى الجزء الرابع من كتاب «نور ملكوت
القرآن» من دورة أنوار الملكوت، من دورة العلوم و المعارف الإسلاميّة صباح يوم الأربعاء الثاني و العشرين من شهر ربيع الثاني لسنة ألف و أربعمائة و عشرة هجريّة قمريّة على يد الحقير الفقير المسكين المستكين إلى الله. السيّد محمّد الحسين الحسينيّ الطهّرانيّ في بلدة المشهد الرضويّ المقدّسة على ثاويها آلاف التحيّة و الإكرام. و له الحمد في الاولى و الآخرة، و آخر دعوانا أن الحمد للّه ربّ العالمين، و صلّى الله على سيّدنا و نبيّنا محمّدٍ و على آله الطيّبين الطاهرين، و لعنة الله على أعدائهم أجمعين من الآن إلى قيام يوم الدين.