المؤلّف العلامة آیة الله السيد محمد الحسين الحسيني الطهراني
القسم القرآن والحديث والدعاء
المجموعة نور ملكوت القرآن
التوضيح
البَحْثُ الرَّابعُ: القرآن تبيان لكل شيء، ثابت لا ينسخ وتفسير آية ﴿وَ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَ هُدىً وَ رَحْمَةً وَ بُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ﴾
أعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيطَانِ الرَّجِيم
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم
وَ صَلَّى اللهُ عَلَى سَيِّدنا مُحَمَّدٍ وَ ءَالِهِ الطَّيِّبِينَ الطّاهِرِينَ
وَ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى أعْدَآئِهِمْ أجْمَعِينَ مِنَ الأنَ إلى قِيامِ يَوْمِ الدِّينِ
وَ لا حَولَ وَ لا قُوَّةَ إلّا بِاللهِ الْعَلي الْعَظيم
قالَ اللهُ الحَكيمُ في كِتابِهِ الكَريم:
وَ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَ هُدىً وَ رَحْمَةً وَ بُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ.۱ و قد كان النصف الأوّل لهذه الآية:
وَ يَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَ جِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ.
كيف يُظهِر القرآن كلّ خفيّ و يحلّ كلّ مُعضل
يستفاد من ذيل هذه الآية المباركة أنّ القرآن الكريم هو الموضّح و المبيّن لكلّ شيء، و يمثّل بشكل مطلق الهداية و الرحمة و البشرى للمسلمين الحقيقيّين الذين اتّخذوا الإسلام ديناً و نظاماً، و صدّقوا بنبوّة الرسول الأكرم صلّى الله عليه و آله و سلّم أكرم الأنبياء من الأوّلين و الآخرين و الشاهد عليهم أجمعين، و آمنوا بهذا الكتاب السماويّ: القرآن.
و قد وردت أحاديث بهذا الشأن عن الأئمّة الطاهرين سلام الله عليهم في تفصيل هذه المسألة؛ فيروي محمّد بن يعقوب الكلينيّ بإسناده عن مرازم، عن الإمام الصادق عليهالسلام أنّه قال:
إنَّ اللهَ تعالى أنزل في القرآن تبيان كل شيء حتى و الله ما ترك الله شيئا يحتاج إليه العباد حتى لا يستطيع عبد يقول: لو كان هذا انزل في القرآن، إلا و قد أنزله الله فيه.۱
و يروي الكلينيّ أيضاً، بإسناده عن عمرو بن قيس، عن الإمام الباقر عليهالسلام، قال: سَمِعْتُهُ يقول: إن الله تعالى لم يدع شيئا يحتاج إليه الامة إلا أنزله في كتابه، و بينه لرسوله عليه السلام؛ و جعل لكل شيء حدا، و جعل عليه دليلا يدل عليه، و جعل على من تعدي ذلك الحد حدا.٢
و يروي الكلينيّ كذلك بإسناده عن مُعَلَّى بن خُنَيْس، قال: قال الإمام الصادق عليهالسلام: مَا مِنْ أمْرٍ يَخْتَلِفُ فِيهِ اثْنَانِ إلَّا وَ لَهُ أصْلٌ في كِتَابِ اللهِ؛ وَلَكِنْ لَا تَبْلُغُهُ عُقُولُ الرِّجَالِ.٣
و قد نقل المرحوم الجامع لجميع العلوم النقليّة و العقليّة المولى محسن الفيض الكاشانيّ رضوان الله عليه في المقدّمة السابعة من تفسيره الشريف المسمّى بـ «الصافي» عن بعض أهل المعرفة كلاماً دقيقاً و لطيفاً و واقعيّاً جدّاً و بأنّ القرآن تبيان لكلّ شيء، نورد خلاصته هنا:
إنّ العلم بالأشياء يمكن أن يحصل للناس عن طريقين:
الأوّل: عن طريق الإدراكات الحسّيّة، أي الحواسّ الموجودة في الإنسان، كسماع خبر و شهادة شاهد و رؤية شيء أو اجتهاد و تجربة أو نحو
ذلك. و هذا العلم جزئيّ و محدود لمحدوديّة و جزئيّة معلومه؛ و لأنّ معلومه جزئيّ و محدود و متغيّر فهذا العالم أيضاً سيفتقر إلى الثبات، و سيكون متغيّراً يطرأ عليه الفساد و الفناء، لأنّ هذا العلم إنّما يتعلّق بالشيء في زمان وجوده، معلوم أنّه قبل وجوده كان علماً آخر، و بعد فنائه و زواله سيتبيّن علم ثالث، لذا فإنّ مثل هذه العلوم التي تشكّل غالب العلوم البشريّة فاسدة و متغيّرة و محدودة.
الثاني: عن طريق العلم بأسباب و علل و غايات الأشياء، و هذا لا يتأتّى بالإدراكات الحسّيّة، بل هو علم كلّيّ بسيط و عقليّ، لأنّ أسبابه كلّيّة، و الغايات العامّة للأشياء غير محدودة و لا محصورة، و ذلك لأنّ لكلّ سببٍ سبب آخر، و لذلك المسبّب سبب آخر، إلى أن ينتهي إلى مبدأ المبادئ و مسبّب الأسباب، و هذا العلم يمكن أن يناله الشخص الحائز لعلوم اصول التسبيبات و مبدأ الأسباب، و هو على كلّيّ لا يتغيّر أو يزول، و يختصّ بالأفراد الذين نالوا العلم بالذات القدسيّة لواجب الوجوب و صفاته الكماليّة و و حجبه الجلاليّة و كيفيّة عمل و مأموريّة الملائكة المقرّبين المدبّرين للعالم و المسخّرين بالإرادة الإلهيّة لأغراض العالم الكلّيّة، و عرفوا كيفيّة التقدير و نزول الصور في عالم المعنى و فضاء التجرّد و الإحاطة و البساطة الملكوتيّة.
و على هذا فسيتّضح لهم سلسلة العلل و المعلولات، و الأسباب و المسبّبات، و كيفيّة نزول أمر الله في الحجب و شبكات عالم التقدير، و علائق موجودات هذا العالم مع بعضها.
فعلمهم محيط بالامور الجزئيّة و بأحوال هذه الامور و الآثار و اللواحق المترتّبة عليها، و هو علم ثابت و دائميّ خالٍ من التغيير و التبديل، فيصلون من الكلّيّات للجزئيّات و من العلل للمعلومات، و من ملكوت الأشياء
للجوانب المُلكيّة، و يعلمون من البسائط المركّبات.
و هم يطّلعون على الإنسان و حالاته، و على مُلكه و مَلكوته، أي على طبيعته و نفسه و روحه، و ما يُكملها و يُصعدها إلى عالم القدس و الحرم الإلهيّ و مقام الطهارة المطلقة، كما أنّ لديهم العلم الكلّيّ بما يدنسها و يلوّثها و يُرديها، و ما يسبّب شقاءها و يهوي بها إلى أظلَم العوالم، أي إلى سطح البهيميّة.
فيعلم جميع الامور الجزئيّة من مرآة تلك النفس الكلّيّة، و ينظر لجميع الموجودات المحدودة المتغيّرة من جانب الثبات و الكلّيّة، و يشاهد من عالم الثبات تدريج الزمان و تغيير الموجودات الزمانيّة المتغيّرة.
و هذا كعلم الله سبحانه و علم الأنبياء العظام و الأوصياء الكرام و الأولياء ذوي المجد و الملائكة المقرّبين بجميع الموجودات الماضية و المستقبلة و الكائنة، و هو علم حتميّ ضروريّ فعليّ لا يتجدّد بتجدّد الحوادث و لا يتكثّر بتكثّرها، بل هو علم بسيط و مجرّد و كلّيّ و محيط، يرفل دوماً في خلعة النور و التجرّد و الوحدة فيزين بها قامة الكلّيّة.
فمن حاز هذا العلم أدرك جيّداً معنى قول الله تبارك و تعالى في القرآن الكريم: وَ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ.
و هنا يفهم المرء جيّداً أنّ علوم القرآن كلّيّة لا تتغيّر و لا تزول بتغيّر الزمان و المكان و تجدّد الحوادث. و لا تزول أبداً، و لا تتبدّل بنشوء المسالك و الغايات و بظهور المدنيّات المختلفة أبداً، فيصدّق تصديقاً حقيقيّاً وجدانيّاً أنّه ما من أمرٍ من الامور إلّا و قد نُظر إليه في القرآن الكريم من جانب الكلّيّة و الثبات و بُيِّن ذلك تحت حكم و قانون عامّ.
فإن كان ذلك الأمر غير مذكور بعينه في القرآن الكريم، فمن المسلّم أنّ مقوّماته و أسبابه و مباديه و غاياته قد ذُكرت فيه. و هذه الدرجة من فهم
القرآن و عجائبه و أسراره و دقائقه و أحكامه المترتّبة على الحوادث لا ينالها إلّا أفراد خاصّين تجاوز علمهم المحسوسات و وصلوا إلى العلوم الكلّيّة الحتّمية و الأبديّة.
و في رواية مُعَلَّي بن خُنَيْس التي ذُكرت أخيراً ورد:
مَا مِن أمْرٍ يَخْتَلِفُ فِيهِ اثْنَانِ، إلَّا وَ لَهُ أصْلٌ في كِتَابِ اللهِ وَلَكِنْ لَا تَبْلُغُهُ عُقُولُ الرِّجَالِ.
و هذه الحقيقة مشهودة بشكل واضح و بيّن، فأوّلًا أن أصل و كلّيّة كلّ أمر موجود و مذكور في القرآن؛ و ثانياً أنّ علّة عدم بلوغ عقول الرجال هي عدم الوصول لذلك العلم الكلّيّ. أمّا الأولياء الخاصّون و المقرّبون للحضرة القدسيّة فلهم العلم بهذه الحقيقة۱ - انتهى حاصل كلام هذا العالم الجليل مع ما أضفناه من إيضاح.
و على هذا الأساس، فلو أراد جميع أفراد البشر، و جميع أفراد الجنّ، بل جميع الممكنات ذات الشعور الحسّيّ أن يأتوا بكتاب كالقرآن لما استطاعوا.
قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَ الْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَ لَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً.٢
و يتّضح ممّا بيّنا أخيراً سرّ هذا المعنى بوضوح تامّ و سبب عجز الجنّ و الإنس عن الإتيان بمثيل للقرآن، و إن اجتمعوا و تظاهروا و تعاضدوا عليذلك؛
تحدّى القرآن للبشر أن يأتوا بمثله، أو بعشر سور، أو بسورة واحدة
فالسبب هو أنّ علم القرآن كلّيّ؛ و جميع الجنّ و الإنس لم يدخلوا
مدرسة الكلّيّة و لم يطووا مرحلتها، فهم لذلك عاجزون عن درك المعاني الكلّيّة، و لا سبيل لهم إلى فهمها و إدراكها.
فهم ليسوا عاجزين فقط عن الإيتان بقرآن كامل، بل حتى عن الإتيان بعشر سور كسوره:
أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَ ادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ.
فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ.۱
فأنتم لا تعجزون فقط عن الإيتان بعشر سور، بل عن الإيتان بسورة واحدة كسور القرآن!
وَ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَ ادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ.
فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَ لَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَ الْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ.٢
و كذا الأمر في سورة يونس؛ فبعد أن تحدّى في مقام التعجيز جميع أفراد البشر ليأتوا بسورة مثله، يصرّح. أن ادعوا مِن دون الله مَن شئتم و استعينوه على هذا الأمر، لكنّكم لن تستطيعوا أبداً.
ثمّ يبيّن أنّ علّة تكذيب الكفّار و المتمرّدين بعدم إحاطتهم بحقائق القرآن و عدم إدراكهم و فهمهم لسرّ أمره.
لا يطّلع على حقائق القرآن و تأويله إلّا أولياء الله
و السرّ في ذلك هو أنّ كلام الله لا يمكن فهمه إلّا للّه، و لا يمكن
إدراكه بأيّ وجه من الوجوه إلّا الأولياء المقرّبين الذين فنوا في ذاته القدسيّة؛ و تقصر أفكار علماء العالم و مفكّريه - مهما حلّقت بنات أفكارهم - عن الرقيّ إلى ذروته المتسامية، لأنّهم لم يتخطّوا بعدُ حاجز العلوم التجريبيّة و لا يزالون أسرى سجن الحسّ و الطبيعة، فهم لا يطالون سموّه.
أولياء الله و مقرّبو الحريم الإلهيّ هم وحدهم الذين يطلّعون على حقائق القرآن و تأويله، لاتّصال وجودهم بوجود الحقّ تعالى و فناء علومهم في علم ذاته الأحديّة.
وَ ما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَ لكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَ تَفْصِيلَ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ.
أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَ ادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ.
بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَ لَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ.۱
فسيَفْهم هؤلاء المتمرّدون و المكذّبون أنّ القرآن كلام الله عزّ و جلّ عندما يأتيهم تأويله، أي حين يعبرون علوم الحسّ و يدركون الكلّيّات.٢
فهم لم يعدّوا أنفسهم لتلقّي هذا المعنى في هذه الدنيا، و لهذا فبعد
ارتحالهم من الدنيا و نسيانهم العلوم المادّيّة سيفهمون أنّ آيات القرآن كانت كلّها حقّاً، و كانت كلّيّة غير جزئيّة، لكن فهمهم لن يضيرهم في تلك الحال و لن ينفعهم شيئاً.
فليس هذا الكلام من عند رسول الله قد أعدّه و نطق به عن هوى نفسٍ، بل هو الوحي السماويّ قد أوحاه إليه الرسول الإلهيّ. جبرائيل ذو القوى الشديدة و الشوكة.
وَ ما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى.۱
فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ ، وَ ما لا تُبْصِرُونَ ، إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ، وَ ما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلًا ما تُؤْمِنُونَ ، وَ لا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ ، تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ ، وَ لَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ ، لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ، ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ ، فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ ، وَ إِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ ، وَ إِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ ، وَ إِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكافِرِينَ ، وَ إِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ ، فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ.٢
الآيات الدالّة على أنّ القرآن من قِبَل الله تعالى
و من بين الآيات الدالّة على نزول القرآن من جانب الله تعالى الآيات التي يشدّد فيها على نبيّه فيؤاخذه و يستنطقه، ممّا لا يترك شبهة لدى قارئ الآيات أنّ النبيّ عبدٌ و مولى للّه مطيع له مسلّم لأمره و نهيه، فالله سبحانه يرسل من مقامه الآيات، و على هذا المأمور أن ينفّذ ما امر به، فإن بدرت منه مخالفة أو عصيان - مهما صغر - فسيُحكم بالعذاب المحتمّ الأليم و النقمة الشديدة، كما في الآيات التي ذُكرت أخيراً: وَ لَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ
الْأَقاوِيلِ، إلى آخر الآيات.
و كالاية المباركة: وَ إِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ وَ إِذاً لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا.
وَ لَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا.
إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَ ضِعْفَ الْمَماتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً.۱
و قد أورد العلّامة آية الله الطباطبائيّ قدّس الله سرّه في التفسير كلاماً في أنّ المراد من الذي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هو القرآن، بما يشتمل عليه من التوحيد و نفي الشريك و السيرة الصالحة، و هذا يؤيّد ما ورد في بعض أسباب النزول أنّ المشركين سألوا النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم أن يكفّ عن ذكر آلهتهم بسوء و يبعد عن نفسه عبيدهم المؤمنين به و السقاط حتى يجالسوه و يسمعوا منه، فنزلت الآيات.
و المعنى: أنّ المشركين اقتربوا أن يزلّوك و يصرفوك عمّا أوحينا إليك لتتّخذ من السيرة و العمل ما يخالفه، فيكون في ذلك افتراء علينا لانتسابه بعملك إلى نا، و إذاً لاتّخذوك صديقاً.
و المراد من التَّثْبِيت كما يفيده السياق هو العصمة الإلهيّة، و المعنى. و لو لا أن ثبّتناك بعصمتنا دنوتَ من أن تميل إليه م قليلًا، لكنّا ثبّتناك فلم تدن من أدنى الميل إليه م فضلًا من أن تجيبهم إلى ما سألوا، فهو صلّى الله عليه و آله و سلّم لم يجبهم إلى ما سألوا و لا مال إليه م شيئاً قليلًا و لا كاد أن يميل.٢
و كالاية المباركة: وَ لَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنا وَكِيلًا.۱
و آية: فَلِذلِكَ فَادْعُ وَ اسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَ لا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَ قُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتابٍ وَ أُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنا وَ رَبُّكُمْ لَنا أَعْمالُنا وَ لَكُمْ أَعْمالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا وَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ.٢
خطبة أميرالمؤمنين عليه السلام في شموليّة القرآن
و لأميرالمؤمنين عليهالسلام خطبة في «نهج البلاغة» حول عظمة القرآن و خلوده، أوردناها في بداية هذا الكتاب، لذا نجد الآن وجوب الإرجاع لها.٣
و أوردوا له في «نهج البلاغة» أيضاً:
ثُمَّ اخْتَارَ سُبْحَانَهُ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ لِقَاءَهُ. وَ رَضِيَ لَهُ مَا عِندَهُ، وَ أكْرَمَهُ عَنْ دَارِ الدُّنْيَا؛ وَ رَغِبَ بِهِ عَنْ مُقَارَنَةِ البَلْوَى.
فَقَبَضَهُ اللهُ إليه كَرِيماً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ؛ وَ خَلَّفَ فِيكُمْ مَا خَلَّفَتِ الأنْبِيَاءُ في امَمِهَا إذْ لَمْ يَتْرُكُوهُمْ هَمَلًا بِغَيْرِ طَرِيقٍ وَاضِحٍ؛ وَ لَا عِلْمٍ قَائِمٍ. كِتَابَ رَبِّكُمْ فِيكُمْ؛ مُبَيِّناً حَلَالَهُ وَ حَرَامَهُ؛ وَ فَرَائِضَهُ وَ فَضَائِلَهُ؛ وَ نَاسِخِّهُ وَ مَنْسُوخَهُ؛ وَ رُخَصَهُ وَ عَزَائِمَهُ؛ وَ خَاصَّهُ وَ عَامَّهُ؛ وَ عِبَرَهُ وَ أمْثَالَهُ؛ وَ مُرْسَلَهُ وَ مَحْدُودَهُ؛ وَ مُحْكَمَهُ وَ مُتَشَابِهَهُ؛ مُفَسِّراً مُجْمَلَهُ وَ مُبِيِّناً غَوَامِضَهُ.
بَيْنَ مَأخُوذِ مِيثَاقٍ في عِلْمِهِ؛ وَ مُوَسَّعٍ عَلَى العِبَادِ في جَهْلِهِ. وَ بَيْنَ مُثْبَتٍ في الكِتَابِ فَرْضُهُ؛ وَ مَعْلُومٍ في السُّنَّةِ نَسْخُهُ؛ وَ وَاجِبٍ في السُّنَّةِ
أخْذُهُ؛ وَ مُرَخَّصٍ في الكِتَابِ تَرْكُهُ.
وَ بَيْنَ وَاجِبٍ بِوَقْتِهِ؛ وَ زَائِلٍ في مُسْتَقْبَلِهِ؛ وَ مُبَايَنٍ۱ بَيْنَ مَحَارِمِهِ، مِنْ كَبِيرٍ أوْ عَدَ عَلَيْهِ نِيرَانَهُ؛ أوْ صَغِيرٍ أرْصَدَ لَهُ غُفْرَانَهُ. وَ بَيْنَ مَقْبُولٍ في أدْنَاهُ مُوَسَّعٍ في أقْصَاهُ.٢
انقسام القرآن إلى حلال و حرام، و فرائض و فضائل، و ناسخ و منسوخ و غيرها
و قد عدّد أميرالمؤمنين عليهالسلام في هذه الخطبة، أقسام و أنواع آيات القرآن من جهات مختلفة.
حلال القرآن: كتناول الطيّبات و الأطعمة الزكيّة، و نكاح أربع نساء بالعقد الدائم:
وَ يُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ.۱
وَ إِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَ ثُلاثَ وَ رُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ.٢
حرام القرآن. كتناول الخبائث و الأشياء الضارّة، و كالزنا:
وَ يُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ.٣
الزَّانِيَةُ وَ الزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ وَ لا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ لْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ.٤
فرائض القرآن: كالصلاة، و الزكاة وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ آتُوا الزَّكاةَ وَ ارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ.٥
فَضَائِل القرآن: أي المستحبّات و النوافل الزائدة عن الفرائض، و الموجبة إعلاء درجة المؤمن، كصلوات النوافل، و صلاة الليل، وَ مِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً.٦
ناسخ القرآن: أي الآية التي نسخت و ألغت حكم ما قبلها و حلّت محلّها، كالحكم بقتل المشركين الوارد بعد الأمر بالمداراة و الصبر و تحمل الأذى منهم و المسايرة معهم.۷
فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَ خُذُوهُمْ وَ احْصُرُوهُمْ وَ اقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تابُوا وَ أَقامُوا الصَّلاةَ وَ آتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ.۱
منسوخ القرآن: أي الآيات التي انتهى مدّة حكمها، كحرمة بعض أنواع الطعام التي حرّمها الله على إليه ود جزاء لطغيانهم و ظلمهم:
وَ عَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَ مِنَ الْبَقَرِ وَ الْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَ إِنَّا لَصادِقُونَ.٢
رُخَص القرآن: أي الأشياء التي ابيح ارتكابها، كتناول الدم، و الميتة، و ما اهِلّ لغير الله به، و غيرها ممّا وردت حرمته في الآية الثالثة من سورة المائدة، ثمّ جاء في ذيل الآية أن:
فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
عَزَائم القرآن: و هي الأشياء التي يجب الإتيان بها حتماً، و لا رخصة في تركها، مثل:
وَ لا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَ إِنَّهُ لَفِسْقٌ.٣
خَاصّ القرآن: الأحكام التي تخصّ إنساناً معيّناً، كرسول الله
صلّى الله عليه و آله الذي ورد خطاب الله تعالى له بشأن تحريمه ما أحلّ الله له:
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ وَ اللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ.۱
عامّ القرآن: الأحكام التي لا تختصّ بشخص أو طائفة معيّنة. كوجوب اعتداد النساء و حرمة تزويجهنّ قبل انقضاء العدّة، مثل:
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَ أَحْصُوا الْعِدَّةَ وَ اتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ.٢
الأمثال و العبر، و المحكم و المتشابه، و المفسّر و المبيّن في القرآن
عِبَر القرآن: أي المطالب الواردة في القرآن الموجبة لِعبرة قارئه، كالحوادث الواقعة على الامم السالفة و نزول العذاب لتمرّدهم و تعدّيهم الحقّ و سلوكهم طريق الظلم و العدوان، كقصّة أصحاب الفيل و غيرها.
و العبرة من مادّة العبور، و هو الانتقال من مكان إلى مكان، و يقال للعبرة عبرة لأنّ الناظر يعطف نظره عنها فيعود لنفسه و يعتبر و يتّعظ، كقصّة فرعون التي بيّنها الله سبحانه في سورة النازعات، و ذهاب النبي موسى على نبيّنا و آله و عليهالسلام بأمر الله إليه لهدايته، فأراه الآية الكبرى، فكذّب و عصى، فجمع الناس و نادى. أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى، فأخذه الله بِيَدِ قدرته و أنزل به عذاب و نقمة الدنيا و الآخرة:
فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَ الْأُولى ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى.٣
أمثال القرآن: و هي الأمثال التي يضربها ليفهم الناس بالمثال الحقّ في الأمر الممثَّل، مثل:
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَ مَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَ جَهْراً هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ.
وَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَ هُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ أَيْنَما يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَ مَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ هُوَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ.۱
مُرْسَل القرآن: و هو المطلق بلا قيد، كتحرير العبد، مؤمناً كان أم كافراً:
وَ الَّذِينَ يُظاهِرُونَ٢ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ.٣
محدود القرآن: و هو المُقَيَّد، أي الحكم الذي يرد مع القيد و الحدّ؛ و استعمال لفظة محدود بدل مقيّد غاية في الفصاحة؛ و مثله تحرير عبد مؤمن و عدم كفاية العبد الكافر:
مَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَ دِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ.٤
محكم القرآن: الآيات التي لها دلالة صريحة على معناها، مثل الآية
الشريفة: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ.۱
متشابه القرآن: الآيات التي تحتاج دلالتها على المعنى الحقيقيّ إلى التأويل. كالآية الشريفة: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ ، إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ.٢
مجمل القرآن: الآيات المحتاجة إلى تفسير، كإقامة الصلاة، التي بيّن رسول الله كيفيّتها و قال: صَلُّوا كَمَا رَأيْتُمُونِي اصَلِّي٣، أمّا أصل التكليف في القرآن فمجمل، مثل: أَقِيمُوا الصَّلاةَ.
مُبَيَّن القرآن: الآيات التي لا تحتاج إلى تفسير في فهم معناها، كآية: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ.٤ و الآية الشريفة: وَ لِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ.٥
مَأخُوذُ المِيثَاقِ عِلْمُهُ في القُرْآنِ: و هو ما يتوجّب على الإنسان علمه، و يؤاخذ على جهله، كآيات التوحيد، و أحكام وَ إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ.٦
مُوَسَّعٌ عَلَى العِبَادِ جَهْلُهُ في القُرْآنِ: الآيات التي لا يؤاخذ الإنسان على جهلها، كمقطّعات السور مثل: كهيعص۷، و حم ، عسق،۸ و أمثالهما.
ثُبُوتُ القُرْآنِ وَ نَسْخُ السُّنَّةِ: و هو الحكم الذي ورد في القرآن، لكنّه
نُسِخَ في السنّة القطعيّة لرسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم، كعقوبة الزانية المحصنة التي أمر القرآن بإمساكها في البيت حتى تموت أو يجعل الله لها سبيلًا، و أمّا غير المحصنة فحكم بإيذائها حتى تعود و تتوب، أمّا في السنّة فقد جعل حكم الزانية المحصنة الرجم، و غير المحصنة الجلد، فنسخ أمر رسول الله الحكم الوارد في القرآن، و هو:
وَ اللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا.
وَ الَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما فَإِنْ تابا وَ أَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما إِنَّ اللَّهَ كانَ تَوَّاباً رَحِيماً.۱
و كان هذا مطبّقاً حتى أمر رسول الله برجم الزاني المحصن و بجلد الزاني غير المحصن، فنسخ حكم حبسهنّ في البيوت و حكم إيذائهنّ.
النسخ في الكتاب و الثبوت في السنّة، و النسخ في السنّة و الثبوت في الكتاب
نَسْخُ القُرْآنِ و ثُبُوتُ السُّنَّةِ: و هو عبارة عن حكم ورد في السنّة القطعيّة لكنّ القرآن ألغاه، كالصلاة إلى بيت المَقْدِس في بدء الإسلام التي كانت واجبة حسب السنّة القطعيّة إلى ما بعد هجرة الرسول إلى المدينة بعدّة سنوات، ثمّ نسخ القرآن الكريم هذا الحكم:
قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَ حَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَ مَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ.٢
حتّى يصل إلى هذه الآية فيقول أيضاً:
فى الواجبات المؤقّتة التي ينتفي وجوبها بعد مرور زمن معيّن
وَ مِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَ إِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَ مَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ.۱
ثم يقول تأكيداً، في الآية التي تليها:
وَ مِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَ حَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَ اخْشَوْنِي وَ لِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ.٢
الواجب المؤقّت في القرآن: و هو العمل الواجب في زمان معيّن، فإذا انقضى ذلك الزمن لم يعد واجباً، كحجّ بيت الله الحرام المتعيّن في عدّة أيّام من ذي الحجّة، و غير واجب بعدها.
وَ لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا.٣
المعصية الكبيرة في القرآن: و هي الذنب الذي أوعد القرآن على ارتكابه جهنّم، كقتل المؤمن عمداً:
وَ مَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها.٤
المعصية الصغيرة في القرآن: و هي الذنب الذي وعد على ارتكابه المغفرة إن لم يرتكب معه كبيرة:
الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَ الْفَواحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ
الْمَغْفِرَةِ.۱
مَقْبُولٌ في أدْنَى القُرْآنِ مُوَسَّعٌ في أقْصَاهُ: و هو العمل ذو المراتب و الدرجات، يقبل الله من المكلّف الدرجة الأدنى و يترك له حرية اختيار المراتب و الدرجات الأعلى و الأهمّ و الأصعب، مثل كفّارة إلى مين و هي إطعام عشرة مساكين وجوباً، و ترك اختيار الكفّارة الأشقّ و الأكثر مؤنة؛ أي كسوة عشرة مساكين أو عتقهم؛ لاختيار المكلّف نفسه.
لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَ لكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ وَ احْفَظُوا أَيْمانَكُمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ.٢
الروايات الواردة في أنّ القرآن تبيان لكلّ شيء
يروي محمّد بن يعقوب الكلينيّ في «الكافي» بسنده المتّصل، ضمن حديث أنّ رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم قال:
القُرآنُ هُدَى مِنَ الضَّلَالَةِ وَ تِبْيَانٌ مِنَ العَمَى؛ وَاسْتِقَالَةٌ مِنَ العَثْرَةِ؛ وَ نُورٌ مِنَ الظُّلْمَةِ؛ وَ ضِيَاءٌ مِنَ الأحْدَاثِ؛٣ وَ عِصْمَةٌ مِنَ الهَلَكَةِ؛ وَ رُشْدٌ مِنَ الغَوَايَةِ؛ وَ بَيَانٌ مِنَ الفِتَنِ؛ وَ بَلَاغٌ مِنَ الدُّنْيَا إلى الآخِرَةِ؛ وَ فِيهِ كَمَالُ دِينِكُمْ؛ وَ مَا عُدِلَ عَنِ القُرْآنِ إلَّا إلى النَّارِ.٤
و يروي الكلينيّ أيضاً، بإسناده عن سَماعة بن مِهران أنّ الإمام
الصادق عليهالسلام قال:
إنَّ العَزِيزَ الجَبَّارَ أنزَلَ عَلَيْكُمْ كِتَابَهُ، وَ هُوَ الصَّادِقُ البَارُّ؛ فِيهِ خَبَرُكُمْ وَ خَبَرُ مَن قَبْلَكُمْ؛ وَ خَبَرُ مَنْ بَعْدَكُمْ؛ وَ خَبَرُ السَّمَاءِ وَ الأرْضِ. وَ لَوْ أتَاكُمْ مَنْ يُخْبِرُكُمْ عَن ذَلِكَ لَتَعَجَّبْتُمْ.۱
لذا فمن اعتمد على القرآن فقد اعتمد على الحقّ و الواقع، فهو عزيز، أي مستقلّ و فاعل، و من لجأ إلى غيره فهو ذليل، أي منفعل بلا داع.
فالأوّل يمتلك بنفسه القاهرة حكومة على أي موجود، و أي علم، و أي مدرسة يرد عليها، فَيُلقّحها من قدرته الفعليّة و يؤثّر بها. أمّا الثاني، ذو النفس المقهورة المنفعلة، فمحكوم لأيّ علم و فكر - مهما كان باطلًا - يتلقّح منه و يأخذ عنه.
العامل بالقرآن في أمان و حصنٍ حصين، و غيره في خوف و قلقٍ و اضطراب.
و يروي الكلينيّ أيضاً بإسناده عن الإمام جعفر الصادق عليهالسلام، قال: كَانَ في وَصِيَّةِ أمِيرِالمُؤْمِنِينَ أصْحَابَهُ. اعْلَمُوا أنَّ القُرْآنَ هُدَى النَّهَارِ؛ وَ نُورُ اللَّيْلِ المُظْلِمِ عَلَى مَا كَانَ مِنْ جُهْدٍ وَ فَاقَةٍ.٢
أي أنّه عليهالسلام كان يوصي أصحابه باتّخاذ القرآن نهاراً مصباحاً للهداية، و برنامجاً للعمل، و قدوة و أسوة، و مفتاحاً لكلّ معضل و مشكل، و باتّخاذه نوراً لليل البهيم، حين يهجع الكلّ و ينامون، فيتلوه هؤلاء أحياناً في صلاة الليل بقراءة السور الطوال و الآيات العجيبة، و يقتحمون بقراءته
عالماً من نور و صفاء و سرور و بساطة و تجرّد، و يردون بقراءة كلّ آية على روضة خاصّة ذات أفنان، فتضيء لهم آيات القرآن كلّ عقبة و مرتفع تلفّه الظلمة، و تسطع بأنوارها الوهّاجة المحيّرة للعيون و الأبصار، ثمّ ينقضي الليل و يطلع بياض الفجر الصادق، و تطلّ أشعة الشمس من وراء الافق طلائع بشارةٍ بقدوم الشمس، لكنّ هؤلاء لم يكونوا في ظُلمة أبداً، و لم يحسّوا بافتقاد النور، مع أنّهم كانوا في درجة عالية من الفقر و الجهد و المشكلات المادّيّة، لأنّ باطنهم و ذهنهم مع هذا كلّه كان مضيئاً و منوّراً بأنوار آيات القرآن.
آنكه در خانهاش صَنم دارد | *** | گر نيايد برون چه غم دارد؟۱ |
و كذلك يحدّث الكلينيّ بإسناده. عن الزهريّ أنّه قال: سمعتُ عليّ بن الحسين عليهالسلام يقول:
آياتُ القُرْآنِ خَزَائِنُ العِلْمِ فَكُلَّمَا فَتَحْتَ خِزَانَةً، يَنْبَغِي لَكَ أنْ تَنْظُرَ مَا فِيهَا.٢
القرآن كتاب الحقيقة و كتاب معالجة الأفراد لإيصالهم إلى مقام الكمال و أوج درجات الإنسانيّة، و إخراجهم من مستوى البهيميّة إلى أعلى نقطة من ذروة الآدميّة.
فهو يشخّص المرض جيّداً، و يعالجه كلّيّاً، في سهولة و يسر و سرعة، فلا يخطئ في تشخيص الداء و وضْع يدِه على موطن العلّة، و لا في اسلوب العلاج و المداواة، و لا يستبدل دواءً بآخر، بل يصف الدواء و يشير على
موارد الاحتراز و الاجتناب بما يقتضي، دون زيادةٍ أو نقصان، و لا ينقض يده عن المعالجة و لا يوقفها حتى يشفي أفراد البشر من كلّ الأمراض المزمنة و الكامنة و الخفيّة و المضاعفة، و ذلك بوصفاته العلاجيّة المتعاقبة إلى أن يعطي أخيراً شهادة العافية و السلامة الشاملة.
فهو في أمره أشبه بجرّاح لا نظير له في العمليّات الجراحيّة، و كذا في قوّة التشخيص و المعالجة، و هو يلحظ على الفور النقطة السوداء الخطرة فيستأصلها من مكانها بأسرع وقت و يريح المريض منها، و يصف الدواء لمن لا يحتاج الجراحة و يعالجه حسب مزاجه و قابليّته.
و لأميرالمؤمنين عليهالسلام خطبة ورد في جملتها فقرة يشير فيها إلى حذاقة و مهارة رسول الله في علاج الأمراض الروحانيّة، و هي تصدق على القرآن و مهارته و حذاقته أيضاً: طَبِيبٌ دَوَّارٌ بِطِبِّهِ. قَدْ أحْكَمَ مَرَاهِمَهُ. وَ أحْمَى مَوَاسِمَهُ، يَضَعُ ذَلِكَ حَيْثُ الحَاجَةُ إليه مِنْ قُلُوبٍ عُمْي. وَ آذَانٍ صُمٍّ. وَ ألْسِنَةٍ بُكمٍ. مُتَّبِعٌ بِدَوَائِهِ مَوَاضِعَ الغَفْلَةِ وَ مَوَاطِنَ الحَيْرَةِ.۱
فالأدوية النافعة للقلوب العمي هي التي تعطي الفهم بكشف موانعه و توقظ الوجدان؛ و التي تنفع الآذان الصمّ هي الإنذار و الوعيد و الوعظ و التخويف و التحذير و الترغيب و التحريض؛ و ما ينفع الألسنة البكم هي تلك الأدوية التي تنطق اللسان و تجريه بذكر الله.
و قد ذكر المرحوم المولى فتح الله الكاشانيّ في «شرح نهج البلاغة» أنّ أميرالمؤمنين عليهالسلام أراد بقوله طَبِيبٌ دَوَّارٌ بِطِبِّهِ نفسه النفيسة،٢ لكنّ هذا بعيد كما هو ظاهر من السياق.
نعم، فكما كانت الروح المقدّسة لرسول الله؛ و التي هي حقيقة القرآن؛ طَبِيبٌ دَوَّارٌ بِطِبِّهِ، كان القرآن أيضاً طَبِيبٌ دَوَّارٌ بِطِبِّهِ، ينقذ البشر من الأمراض المهلكة المدمّرة للُاسر و البيوت.
القرآن يرفع الإنسان إلى أعلى درجات الإنسانيّة
كم هي قبيحة ظلمات النفس! و كم هو حسن و جميل الخروج منها! فالقرآن هو الذي يمدّ يده ليخرج البشر من ظلمات الباطن، و يعالج أمراضه الروحيّة و المعنويّة جميعاً فيصير الإنسان إذ ذاك إنساناً مستقيماً و بشراً سويّاً.
ففي الزوايا العميقة المتشابكة للنفس الأمّارة يجد الإنسان نفسه أمام ألف ألم و عقدة و محنة، و ألف خصلة سيّئة، و آلاف من الخواطر المشوّشة المضطربة؛ فكيف سيميّز الخلل و يضع يده على مكان الداء؟ و بما أنّه - على سبيل الفرض - في ظلام، فكيف سيشخّص طريق العلاج الناجع؟ أو كيف يعرف حقيقة أي خصلةٍ و صفة قد ألقته في معرض الردى و الهلاك؟
لكنّ بزوغ شمس القرآن ينير ساحة النفس، فيرى الإنسان عيوبه و نقائصه رأى العين، ثمّ لا يقرّ له قرار قبل استئصالها، لوجود باعث باطنيّ قويّ يدفعه ليعمل بتعاليم القرآن، فينتهي إلى مراده و يجني رغائبه و يصل إلى غاياته في الوصول إلى مقام الإنسانيّة و معرفة نفسه.
العلم بالنفس هذا و معرفتها هو نفسه معرفة المعبود تعالى، لأنّ: من عرف نفسه فقد عرف ربه.۱
و جليٌّ أنّ هذا هو الصراط المستقيم الذي يوصل الإنسان بأقصر فاصلة و سبيل و أقصر زمن و أقصر معالجة إلى هذا الهدف العالي و الغاية
السامية، لا أن يبطئ في معالجته و يتعثّر و يتكاسل حتى تطول الفترة، فيؤدّي ذلك إلى تشتّت قوي الإنسان و إضعافها، و وضعه على شفا الموت و الهلاك.
وَ إنَّهُو لَكِتَابٌ عَزِيزٌ، لَّا يَأتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَ لَا مِنْ خَلْفِهِ
وَ إِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ ، لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ لا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ، ما يُقالُ لَكَ إِلَّا ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَ ذُو عِقابٍ أَلِيمٍ ، وَ لَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْ لا فُصِّلَتْ آياتُهُ ءَ أَعْجَمِيٌّ وَ عَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَ شِفاءٌ وَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَ هُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ.۱
لقد وصفت هذه الآيات القرآن بالعزّة. وَ إِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ، و العزيز ضدّ الذليل؛ و الذليل هو القابل للتأثّر و الانفعال، و يقال لذلّة الحال التأثّرو الانكسار.
معنى عزّة القرآن عدم انفعاله بأيّ وجه، و امتناعه عن الخسران
القرآن عزيز، أي أنّ موضوعاته و أحكامه و محتوياته ليست في معرض الانكسار و البطلان و النسخ، و لن يمكن للعلوم البشريّة الانتقاص منه، و لن يعترى أحكامه و مواضيعه الوهن و لن يتسّرب إلى فرضيّاته الخلل و البطلان كما في بقيّة الكتب.
لا يأتيه الباطل من بين يديه. فما ورد عن السابقين من الأنبياء و المرسلين، و الأولياء المقرّبين، و الحكماء الإلهيّين، و العلماء و المؤرّخين، و الأطبّاء الروحانيّين و النفسانيّين، و الأطباء المادّيّين و الطبيعيّين، و الامم و الطوائف السالفة، و ما بيّنوه إلى زمن آدم أبي البشر؛ فقد وقف القرآن أمام كلّ ذلك ثابتاً دون تأثّر أو انفعال، و لن يتمكّن أيّاً
منهم من أن يوجّه له نقداً أو طعناً.
فلقد ورد على التوراة و الإنجيل الفعليّينِ مئات الانتقادات و الإشكالات العقليّة و النقليّة، أظهرت بوضوح تحريفها عن الوحي السماويّ الأوّل، بالشكل الذي عجز فيه حماتها و مدافعوها عن الإجابة، و تراجعوا أذلّاء أمام أسئلة السائلين التي بقيت تنتظر الإجابة.
لذا، فقد خرج هذان الكتابان فعلًا من المجتمعات العلميّة و البحث و الدراسة و التحليل، بحيث صارا منزويَين منعزلَين بين زوايا الصوامع و الكنائس.
لقد تخبّط الدين المسيحيّ في مسألة التثليث، و لم تذكر التوراة شيئاً عن المعاد، و عزت الفجائع و الدواهي إلى ساحة الأنبياء، و ابتُليت مطالبها الواقعيّة بانتقادات العلوم و الاكتشافات و إشكالاتها.
و يعدّ الإنجيل شرب الخمر حلالًا، لأنّه قد عبّر عنه بدم! و لا يمكن لمن سار على نهج التوراة و الإنجيل من الوصول إلى مقام التوحيد، لأنّ سيره هذا مخالف لبرنامج التوحيد و تعاليمه.
أمّا القرآن الكريم فهو كتاب عزيز، له مجد و عزّة و كرامة، يعامل و يواجه بالعظمة و السيادة، و ليس بإمكان أي كان أن ينقد حتى جزئيّات مضامينه و آياته و قصصه، أو أن يعثر في طيّاته على موضوع يخالف التأريخ و الاكتشافات و نتائج الحفريّات الأثريّة، أو يناقض العقل أو القواعد الرياضيّة و النجوم و الهيئة و أمثالها.
و لا يأتيه الباطل من خلفه؛ أي من زمن نزوله إلى يوم القيامة، فأيّ بشر شاء أن يرد ميدان المواجهة معه، في أي علم أو أي تجربة، فلا مناص له من التسليم بمقام عزّ القرآن، لأنّ أساسه متين و محكم لا يتغيّر، فُصِّل على أساس من الثبات و الاستقرار، لأنّ علومه لا تستند إلى الحسّ و الخيال
لتزول بزوال الحسّ و الخيال. و استناداً إلى هذا الأساس الذي بُيِّن فإنّه لم يستفد أحد لحدّ الآن من التقدّم العلميّ المادّيّ و الطبيعيّ و التجريبيّ في الهيئة و النجوم و الطبيعيّات، و تسخير النور و الأمواج الكهربائيّة، و فلق الذرّة، و الحركة إلى القمر، و بالاستمداد من التقدّم الصناعيّ و الطبّيّ المدهش، و من سائر العلوم، من الأبحاث النفسيّة و الحقوقيّة، و من العلوم الخارجة عن الطبع و الطبيعة، و بالاتّصال بعالم النفس، لم يمكنه بهذا كلّه أن يأتي بموضوع أسمى و أفضل من القرآن.
بل كان الكلّ خاضعين خاشعين و مسلّمين معترفين باحتياجهم للقرآن، و بأن لا فائدة من التقدّم في هذه العلوم المادّيّة و الطبيعيّة لنجاة البشريّة من سجن الجهل، إن تمّ ذلك بمعزل عن متابعة تعاليم القرآن السامية، بل سيزيد ذلك الطين بلّة و المشكلة تعقيداً.
و هذا هو معنى عزّة القرآن الذي يمثّل كلام الخالق، فهو لا يتراجع و لا يهتزّ أمام المنطق و الفرضيّات التي تواجهه، بل هو ثابت راسخ، قائم بنفسه، دائم على كرّ الدهور، مضيء كالمصباح المنير في سجن الجهل، و كالشمس التي تستوعب العالم و تنيره بأشعّتها و ضيائها، و هو معنى عدم ورود الباطل مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ لا مِنْ خَلْفِهِ.
و ليس من منهج القرآن تخويف الناس و إرعابهم باستمرار، فيدفعهم ذلك إلى حافّة القنوط، أو ترغيبهم حتى يصلوا إلى حافّة التمادي و الطغيان.
يقول الله سبحانه، بعد الآية السالفة:
ما يُقالُ لَكَ إِلَّا ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَ ذُو عِقابٍ أَلِيمٍ.
فلو جئنا بهذا القرآن بلغات مبهمة مضطربة غير مُبَيَّنة مليئة بالألغاز و الأحاجي، و لو جئنا به بلسان عييّ غير فصيح، أو بغير اللسان العربيّ
الفصيح، لتساءل المغرضون. لماذا ابهمت آياته! و لِمَ لَمْ يفصّل مطالبه و يبيّنها؟
و لقالوا: ما الفائدة من كتاب مجمل غير فصيح لُاناس فصحاء بلغاء؟ قل لهم أيّها النبيّ. كفّوا عن هذه المقولات! فلقد جئنا بكتاب لسانه عربيّ مبين، لا إبهام فيه و لا إيهام، و قد فصّلناه و بيّناه.
و هو كتاب للمؤمنين الذين فتحوا بصائر قلوبهم، كتاب هداية و إرشاد للغاية القصوى المنشودة إلى آخر منزل المقصود، و للوصول إلى أعلى درجات الإنسانيّة و نيل مقام التوحيد، و شفاء للأمراض العُضال المتراكمة.
أمّا الذين لم يؤمنوا به فقد صُمّت أسماعهم و عُميت قلوبهم و بصائرهم، فلم يعد يمكنهم سماع آيات الله أو مشاهدتها.
فما الذي يجنيه الكفّار بإعراضهم عن القرآن سوى صمم آذان القلوب، و عمى البصائر و عجزهما عن الإصغاء و الرؤية؟
اولئك هم الذين يُنادَون من مكان بعيد، نداء الهداية الإلهيّة يطرق أسماعهم من البعيد، و لا يعدو أن يكون لديهم إلّا همهمة غير مفهومة؛ على العكس من المؤمنين الذين عاشوا بانقيادهم و طاعتهم و تبعيّتهم للقرآن في حرم و حريم القرآن، يستمعون نداءه من مكان قريب، فيفهمون ألفاظه و كلماته و جملاته، فيأخذون جميع القرآن بحسّهم و عقلهم و وجدانهم و يدركونه و يفهمونه جيّداً.
يروي الكلينيّ بسنده عن سفيان بن عُيَينة، عن الزُّهريّ، قال: قَالَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ عليه السلام: لَوْ مَاتَ مَن بَيْنَ المَشْرِقِ وَ المَغْرِبِ، لَمَا اسْتَوْحَشْتُ بَعْدَ أنْ يَكُونَ القُرْآنُ مَعِي.
وَ كَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إذَا قَرَأ «مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ» يُكَرِّرُهَا حتى كَادَ أنْ
يَمُوتَ.۱
فالإنسان غنيّ بمعيّة القرآن لأنّه حقّ، و متحقّق بالحقّ، و معلّم العلوم الحقيقيّة الحقّة؛ و هو بدونه فقير و يبقى فقيراً و إن طالع جميع كتب مكتبات الدنيا، لأنّه قد حاد عن العلوم الحقيقيّة و الوجدانيّة، و ارتمى بين العلوم التخيّليّة.
و يروي الكلينيّ بسنده عن معاوية بن عمّار، قال: قال لي الإمام الصادق عليهالسلام: مَن قَرَأ القُرْآنَ فَهُوَ غَنِيٌّ وَ لَا فَقْرَ بَعْدَهُ، وَ إلَّا مَا بِهِ غِنَيً.٢
في تفسير. لَا يَمَسُّهُ إلَّا المطَهَّرُونَ
القرآن كتاب عميق له درجات و مراتب، يتزوّد منه الجميع كلٌّ بقدر فهمه، و يمتلك في الوقت نفسه ظاهراً واضحاً قابلًا لدرك عامّة الناس، و باطناً ذا منازل و درجات، فكلٌّ يمضي فيه إلى درجة و منزلة ما لا يعدوها إلى غيرها من منازل القرآن، و لا يفهم معانيه العميقة و بواطنه، مضافاً على ما يتطلّبه فهم باطن القرآن و حقيقته من التزكية و الطهارة؛ فحقيقة القرآن و عمقه و باطنه ليست ممّا يُنال بالمطالعة و القراءة فقط:
فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ ، وَ إِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ ، إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ ، فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ ، لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ ، تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ.٣
لذا، فعلى من ينشد الوصول إلى حقيقة القرآن و معانيه العميقة و أسراره الباطنيّة أن يصل أوّلًا إلى حقيقة الطهارة المطلقة، و ذلك بمتعابعة
و السير على نهجه و خطّه، و بعبور عالم النفس الأمّارة ليقع ناظره على جمال الحضرة الأحديّة و يصل إلى مقام التوحيد المطلق.
أي أنّ نفس القرآن و العمل به سيأخذان بيده شيئاً فشيئاً و درجة درجة إلى الأعلى ليفوز بالدرجة العليا و يحظى بالسهم الأوفى.
فالعلم بالقرآن يستوجب العمل به، و ذلك العمل يستلزم و يستتبع علماً أعلى، ثمّ إنّ ذلك العلم سيورث عملًا أعلى، و ذاك العمل الأعلى سيورث علماً أعلى، و هلمّ جرّا.
فكلّ مرتبة من مراتب العلم و العمل في المرتبة الأدنى تورث العلم و العمل في المرتبة الأعلى حتى يصلان به إلى العلم المطلق و العمل المطلق، أي العلم اللامتناهي و العمل الطاهر الخالص المحض الذي لا تشوبه شائبة من أنانيّة أو هوى أو نزوع إلى غير الله سبحانه.
و هذا هو مقام الفناء في الله تعالى الذي يحصل للعامل بالقرآن، و هنا تصبح حقيقة كتاب الله مشهودة و محسوسة و ملموسة، فينظر بالعين الإلهيّة إلى كتابه، و يسمع بالاذن الإلهيّة كلامه، و يقرأ باللسان الإلهيّ قرآنه، فهنا عبدٌ و لا ربّ، و هو لا يدّعي الربوبيّة و مقامها، بل هنا عبدٌ، هنا محوٌ و إطلاق، و لا شيء هنا غير الذات القدسيّة للحضرة الأحديّة.
قطره درياست اگر با درياست | *** | ورنه قطره قطره و دريا درياست۱ |
و هذا المقام مختصّ بالمقرّبين إلى مقام الحقّ تعالى، و السالكين الواصلين، و المحترقين الوالهين الحيارى؛ أمّا سائر الناس فكلٌّ سيستفيد من علوم القرآن بحسب فهمه و قدرته العقليّة، و كذلك بقدر تقواه و طهارته
المكتسبة؛ فمن حاز التقوى و الطهارة قوي عقله، و قاده القرآن و أرشده إلى درجة أفضل.
إنّ درجات و مراتب فهما لقرآن أشبه بدرجات سلّم البناء، فللوصول إلى الدرجة الأعلى لابدّ من عبور الدرجة التي تسبقها، و الدرجة الأدنى هي ممهّد و معدٌّ للصعود و الرقيّ إلى الدرجة الأعلى، وَ هَكَذَا إلى أنْ يَصِلَ السَّطْحَ فَهُوَ نُورٌ عَلَى نُورٍ.
يروي الكلينيّ بإسناده عن جابر، عن الإمام محمّد الباقر عليهالسلام أنّه قال:
يَجِيءُ القُرْآنُ يَوْمَ القِيَامَةِ في أحْسَنِ مَنْظُورٍ إليه صُورَةً، فَيَمُرُّ بِالمُسْلِمِينَ فَيَقُولُونَ. هَذَا الرَّجُلُ مِنَّا.
فَيُجَاوِزُهُمْ إلى النَّبِيِّينَ. فَيَقُولُونَ. هُوَ مِنَّا.
فَيُجَاوِزُهُمْ إلى المَلَائِكَةِ المُقَرَّبِينَ؛ فَيَقُولُونَ. هُوَ مِنَّا.
حَتَّى يَنتَهِي إلى رَبِّ العِزَّةِ عَزَّ وَ جَلَّ. فيقول:
يَا رَبِّ! فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ، أظْمَأتُ هَوَاجِرَهُ، وَ أسْهَرْتُ لَيْلَهُ في دَارِ الدُّنْيَا! وَ فُلانُ بْنُ فُلانٍ، لَمْ اظْمِئْ هَوَاجِرَهُ؛ وَ لَمْ اسْهِرْ لَيْلَهُ!
فَيَقُولُ تَبَارَكَ وَ تعالى. أدْخِلْهُمُ الجَنَّةَ عَلَى مَنَازِلِهِمْ!
فَيَقُومُ؛ فَيَتْبَعُونَهُ؛ فَيَقُولُ لِلْمُؤْمِنِ. اقْرَأ، وَ ارْقَهْ!
قال: فَيَقْرَا وَ يَرْقَى حتى يَبْلُغَ كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ مَنْزِلَتَهُ التي هي لَهُ فَيَنْزِلُهَا.۱
مجموع عدد الآيات القرآنيّة
و يستفاد من هذه الرواية، أوّلًا: أنّ منازل الجنّة تقع في درجات و مراتب متباينة، و أنّ عددها كثير، بعدد آيات القرآن التي ذكروا أنّها
- بأعلى التقديرات - ستّة آلاف و مائتان و ستّ و ثلاثون آية.۱
و ثانياً: أنّ هذه المنازل ليست في عرض بعضها، بل هي في طول بعضها البعض، فالوصول إلى الدرجة الأعلى يستلزم العبور من الدرجة الأدنى منها.
و ثالثاً، أنّ هذه المنازل مرتّبة طبقاً لآيات القرآن، فمن حاز حظّاً
أوفر من الفهم و العلم و الدراية و التلاوة عن تدبّر لآيات القرآن، كان نصيبه منزلًا أعلى و أرفع.
فقد وضع الله سبحانه رتب و درجات في الجنّة للعاملين بالقرآن و العالمين العاملين به.
لذا، فقد توجّب على المؤمن - مادام لم يصل إلى حقيقة القرآن و لم يدرك معانيه الباطنيّة - أن لا يهمل شأن قراءته و التدبّر و التفكّر في آياته، و أن لا يترك التزكية و تطهير النفس و العبادة الهادفة الموصلة، و العمل المنتج المثمر، لينال مراده و يدرك غايته.
يروي الكلينيّ بسنده عن الإمام جعفر الصادق عليهالسلام، قال: يَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ أنْ لَا يَمُوتَ حتى يَتَعَلَّمَ القُرْآنَ أوْ يَكُونَ في تَعْلِيمِهِ.۱
في معنى قول أميرالمؤمنين عليه السلام: إنَّ القرآن حمّالٌ ذو وجوه
نعم، يكفي في عظمة القرآن و كلّيّته أن يستدلّ به المستدلّون في كلّ عصر و زمان لإثبات ادّعاءاتهم و يوردونه شاهداً على صدق أقوالهم، مع تباين و اختلاف كلّ تلك الادّعاءات و المواضيع و المقاصد.
و قد أوصى مولى الموالي أميرالمؤمنين عليهالسلام عبدالله بن عبّاس حين بعثه للاحتجاج على الخوارج و إلزامهم أن:
لَا تُخَاصِمْهُمْ بِالقُرْآنِ! فإنَّ القُرْآنَ حَمَّالٌ ذُو وُجُوهٍ. تَقُولُ وَ يَقُولُونَ! وَلَكِنْ حَاجِجْهُمْ بِالسُّنَّةِ فَإنَّهُمْ لَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَحِيصَاً.٢
لقد استدلّ المحقّقون من علماء الرياضيّات و أهل الهيئة القائلون
بثبات الأرض و سكونها و دوران الشمس حولها، و المعتقدون بأنّ للسيّارات أفلاكاً و تداوير و ممثّلات، استدلّوا بالقرآن أنّ. وَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ.
و اليوم حيث تُعدّ حركة الأرض و سكون الشمس من البديهيّات فقد استدلّوا بنفس الآية أيضاً: وَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ.
قال القدماء. إنّ المراد بالفلك كرة مجوّفة، سطحها الخارجيّ يقابل السطح الداخليّ لكرة اخرى فوقها، و سطحها الداخليّ يواجه السطح الخارجيّ لكرة اخرى تحتها، و كلّ من السيّارات و القمر مُحكم ثابت في هذا الفلك، أي في سمكه، لا حركة له أبداً، بل إنّ جرم الفلك هو المتحرّك، و في النتيجة، فإنّ السيّارات التي هي ثابتة عليه تتحرّك بحركته و تدور.
و يقول المتأخّرون: إنّ المراد بالفلك هو نفس المدار الدائريّ الشكل، ولكنّ السيّارات و القمر هي نفسها في حركة، و ليس هناك أفلاك لها جرم غير نفس أجرام الكواكب؛ و إنّ القمر و الشمس و المرّيخ و زحل و المشتري و عطارد و الزهرة و يورانيوس و نبتون و بلوتون - حيث اكتشف هذين الأخيرين مؤخّراً - هي كواكب و كلٌّ منها يشبه كرة سابحة في الفضاء في مدار خاصّ بها، ليس لها وقوف و سكون و لو للحظة.
رسالة القرآن هي بناء الإنسان، لا حلّ المسائل العلميّة
لكنّ ما يراه هذا الحقير أنّ القرآن الكريم لم يأت في الأساس لحلّ مثل هذه الامور و المسائل، فهو كتاب تعليم و تربية و بناء الإنسان،
و ليس كتاب طبّ و تشريح و هيئة و نجوم، و لا كتاب طبيعيّات و رياضيّات و كيمياء و فيزياء.
و إذا ما أشار في مورد لإرائة الطريق و هداية البشر للصراط المستقيم في مثل هذه الامور، فمع أنّ قوله و بيانه عين الواقع و الصدق المطلق، فإنّه لا يشير للأمر بشكل يثير الاضطراب بين الناس و يسبّب الصخب و الغوغاء بين علماء العصر؛ و لم يبيّن ما يريد بيانه الّا بالاعتماد على القواعد العلميّة التي تؤيّدها التجارب الطويلة الموزونة، لاحتمال عدم قبول الناس لما لا تؤيّده التجربة في عصر ما بعد أن يحتاجوا لقبولها إلى البحث الطويل و التدقيق و التحقيق المتمادي؛ و قد يفتح القرآن الطريقَ في مثل هذه المواضيع، أو يشير إليها دون ذكر الأسباب و الدواعي بشكل صريح.
و قد كانت مسألة حركة الأرض من المسائل التي لا تزال مستعصية بالنسبة للكثيرين على الرغم من جميع الأدلّة و البراهين التي اقيمت عليها؛ إذ لم يتمكّنوا من الوصول بها إلى أبعد من مرحلة الفرضيّات، مضافاً على ذلك فإنّ سكون الأرض أمر وجدانيّ، و الكلّ يرى بالوجدان سكون الأرض و ثباتها.
فعلى افتراض أنّ عصر نزول القرآن كان بعد مرور ما يقرب من خمسمائة عام۱ على هيئة بطليموس، و كانت دنيا العلم آنذاك قد أقرّت بسكون الأرض و كونها مركز العالم، و أنّ الشمس و القمر و السيّارات تدور
حول الأرض؛ فلو قال القرآن صراحة؛ إنّ الأرض تدور حول الشمس، و إنّها متحرّكة، و إنّ السكون الذي ترونه ليس إلّا خيال و وهم، فمن الواضح أنّه لم يكن ليمكنه أن يُقيم دليلًا لهذا المدّعى من بندول فوكو۱ و من
الشواهد الاخرى، إذ إنّ ذلك ليس من صلب رسالته و مهمّته، فتكون النتيجة أن يثار الصخب و الضوضاء حول الرسالة من جرّاء هذه المسألة الصغيرة، فيؤدّي ذلك إلى عرقلة تطبيق النبيّ للأحكام الإنسانيّة لمئات السنين.
و على اساس هذا الأمر المهمّ و السرّ العظيم نرى في الأخبار و الأدعية و الروايات تذكيراً بحركة الشمس و سيرها؛ لأنّ من يفتح عينيه صباحاً سيرى بالبداهة طلوع الشمس من الشرق؛ ثمّ حركتها شيئاً فشيئاً حتى تصل إلى منتصف النهار، ثمّ حركتها تدريجيّاً نحو المغرب حتى تختفي أخيراً وراء افق الغرب.
و إنّما تستند هذا الروايات و الأدعية على المشاهدة الوجدانيّة و الإحساس الفعليّ، و إلّا فقد كان ينبغي أن يُعرض كلّيّاً عن باب الأدعية و بيان عجائب الشمس و حركتها في مدارها فلا يتفوّه بشأنها شيئاً، و هذا الأمر واضح و بيّن و معهود للدرجة التي نلاحظ معها أنّ علماء الرياضيّات الكبار و المنجّمين العظام الحاليّين الذين أثبتوا حركة الأرض قد اعتقدوا بذلك، و تراهم يتحدّثون عن حركة الأرض في الكتب و المجلّات، لكنّهم حين يريدون إلقاء كلمة أو التحدّث في محيط المنزل يقولون. جاءت الشمس، ذهبت الشمس؛ يقول أحدهم. اذهب إلى المدرسة يا بني حين ترتفع الشمس عن الافق مقدار قامة، و لا يقول: اذهب إلى المدرسة حين تدور الأرض من جهة الغرب إلى الشرق بمقدار قامة! لأنّه لو تفوّه بشيء
من ذاك لضحكوا منه.
فبيان الصيغ و المعادلات و الاسلوب العلميّ شيء، و الكلام مع الناس، مع الأب و الامّ و الابن شيء آخر. لذا تدعى حركة السماء بهذه الكيفيّة بالحركة الظاهريّة.
و على هذا فقد جاء في دعاء الصباح مثلًا.۱ وَ أتْقَنَ صُنْعَ الفَلَكِ الدَّوَّارِ في مَقَادِير تَبَرُّجِهِ.٢
و نستنتج من هذا. أوّلًا: أن لا نتساءل. لماذا لم يرد ذكر الأمر
الفلانيّ في القرآن؟ و لِمَ لَمْ يُبحث في القرآن عن حركة السفينة الفضائيّة؟ و عن فلق الذرّة؟ أو عن المثلّثات الكرويّة؟
ليس من الصحيح تطبيق الآيات القرآنيّة على العلوم العصريّة
و ثانياً: أنّ الذين بذلوا الجهود المضنية في هذا المجال محاولين تطبيق آيات القرآن على العلوم العصريّة، كالمرحوم آية الله السيّد هبة الدين الشهرستانيّ في كتاب «الهئية و الإسلام» و الشيخ طنطاوي الجوهريّ في تفسير «الجواهر» لم يسلكوا سبيلًا صحيحاً و صائباً.۱
بما أنّ علوم العصر ليست علماً قائماً على برهان قويم، فلا يمكن أن تكون مبيّنة لحقائق الدين و معارفه، و لا تستطيع أن تكون سدّاً في طريق الدين و حائلًا دون مسيرته، لذا فإنّ من مصلحة هذه العلوم و حامليها أن توظّف في طريق الدين و خدمته.
افتقار النظريّات إلى الثبات، و ارتباطها بنظريّات اخرى
و ما هذه العلوم إلّا نظريّات و فرضيّات و آراء قد اخذت من تجارب ناقصة و استقراء ناقص غير كامل، و هي تعليلات تختلف باختلاف الآراء و وجهات النظر، ينشئونها أحياناً و يرفعونها كما يفعل البنّاء ثمّ يضيفون عليها، و أحياناً اخرى ينقضونها فيهدمونها؛ يثبّتونها و يحكمونها ثمّ يعودون فينقضونها من أساسها. فهي تمثّل في زمن عنفوانها و قبولها أفضل المطالب التي يستشهد بها الناس، ثمّ يُعدل عنها و يُنكص عن الإيمان بها في الأزمان التالية، مثلها في ذلك مثل الحرب و الصلح بين طائفتين، تغلب اليوم هذه فيُدقّ طبل أمجادها و علوّها إلى عنان السماء، و تغلب في غد تلك فتمرّغ انوف دولة خصومها و منافسيها القدماء في تراب الذلّ و الهوان.
نعم، فلقد كان لكلٍّ من التعليلات و الأسباب الكامنة لنظام الكون و عالم الوجود عصر تتسلّط فيه و تحكم على الأفكار السائدة فيه، فتغلب غيرها من الفرضيّات و النظريّات، و يتّفق أصحاب النظر و المتخصّصون في ذلك الفنّ أن لا بديل لهذه النظريّة و لا منازع؛ و لأنّ الناس تابعون للعلماء في كلّ زمان فإنّهم يعتقدون أنّ هذا الاكتشاف و الرأي الجديد من الحقائق الثابتة التي لا تزول أبداً، و أنّ العقول لن تتمخّض عن أفضل منها و أحسن، فهي أمر ثابت و خالد أبد الدهر.
و لكن بمرور زمن غير طويل ترى كوكب ذلك الاكتشاف و الرأي
يأفل، و تألّقهما يخبو وراء الافق، و حكومتهما و سطوتهما تنهار، و عند ذلك تحلّ محلّها فرضيّة و نظريّة جديدة. و هذه الاخرى لها كسابقتها كرّ و فرّ إلى حين، وصولة في الميدان، تصول وحيدة فريدة حتى تخرّ فجأة إلى الأرض بالسيف القاطع لنظريّة و فرضيّة ثالثة.
لقد كان نظام سكون الأرض حركة الأفلاك مورد قبول و إجماع العلماء ما يقرب من ألفَي سنة، و كان معدوداً من العلوم الواضحة و من الأوّليّات و يعتبرون منكره كمنكر و جاحد البديهيّات.
و لقد كُتِبَ في هذه المدّة المديدة عدد لا يُحصى من الكتب بهذا الشأن، في أوضاع الفلك و كيفيّتها و عدد المدوّرات و ممثّلاتها، و دُرِّسَ و بُحث في المدارس العلميّة، لكنّ عصره انقضى و انهار و جاء بعده نظام حركة الشمس حول الأرض و حركة السيّارات حول الشمس، و لم تمضِ مدّة طويلة حتى انهار هو الآخر و جاء نظام حركة الأرض و جميع السيّارات حول الشمس، و الله هو العالم ما هي الفرضيّة التي ستحلّ فيما بعد محلّ هذه الفرضيّة السائدة اليوم؟۱
سيطرة فرضيّة بطليموس ألفي سنة على عقول منجّمي العالم
لقد كان بطليموس٢ أو بطليموسPetolemee عالماً رياضيّاً كبيراً
و منجّماً يونانيّاً مشهوراً عُرِف بالمصريّ لتوقّف والده في مصر، و قد عاش حتى سنة ۱٣٩ ميلاديّة، و كان يعتقد بسكون الأرض و ثباتها و كونها مركزاً لجميع العالم من شمس و ثوابت و سيّارات و أفلاك.
و كان يقول: إنّ الشمس و السيّارات في حالة دوران حول الأرض بشكل دائرة؛ و لأنّه قد لاحظ بمرصده اختلافات في حركة الكواكب السيّارة - من ثبات و إقامة و رجعة - لا تنسجم مع فرضيّة كون الأفلاك دائرة، فقد كان مجبراً على افتراض أفلاك مختلفة اخرى داخلها باسم تدوير، ثمّ بافتراض أفلاك داخل التداوير باسم ممثّل، و بهذه الفرضيّة فقد استطاع بحساب دقيق رصد و تصحيح الحركة الدوريّة للأفلاك و حركاتها غير المنظّمة و تباطؤها و رجوعها، و دوّن ذلك في زيجه المسمّى بـ «المَجَسطيّ».
لقد قام بطليموس برصد ۱٢٢٢ نجماً، و أثبت الطول و العرض الفلكيّ لكلٍّ منها في كتابه «المجسطيّ»، و كانت هيئة بطليموس مورد قبول علماء النجوم و الهيئة لغاية أربعمائة و خمسين سنة قبل الآن.
و قد استمرّ ذلك حتى جاء نيقولا كوپرنيك (Nicolas Copernic)، المولود سنة ۱٤۷٣ و المتوفّى سنة ۱٥٤٣ م، و هو من منجّمي بولونيا المهمّين و تابع نظريّة بطليموس و دقّته الكبيرة التي بذلها في «المجسطيّ» فعجز أخيراً عن تصوّر أفلاك متعدّدة، و قال بحركة الأرض حول الشمس و نقض اصول هيئة بطليموس كلّيّاً؛ لذا يعدّ واضع و مؤسّس الهيئة الجديدة، لأنّه أوّل القائلين بحركة الأرض في القرون الأخيرة.
و كان سبب توجّه كوبرنيك لحركة الأرض هو رصده الحركات المتضادّة التي كان يلحظها في السيّارت، لأنّه طبقاً لُاصول هيئة بطليموس فقد كان يفترض لكلّ حركة يراها في السيّارات فلكاً خاصّاً معزولًا، حتى صار إثبات و تسجيل حركة الأفلاك بالنسبة له عملًا شاقّاً جدّاً؛ و كان يرجع في نفس الوقت إلى نظريّد فيثاغورس في الحركة الوضعيّة للأرض فتولّدت لديه شيئاً فشيئاً فكرة إمكان حركة الأرض و السيّارات حول الشمس في مدارات دائريّة.
لكنّه واجه صعوبة لأنّ ما كان يستخرجه بالحساب لا ينسجم مع نتائج رصده، و كان هناك اختلاف بين ما هو محسوب و ما هو مرصود.
و عليه فقد بقيت مسائله حول السماء مستعصية عليه حتى فارق الدنيا، و ذلك بسبب تصوّره أنّ المدارات دائريّة، كما كان يعتقده القدماء.
و قد استمرّ ذلك و دام حتى جاء المنجّم الدنماركيّ تيخو براهه (Tycho-Bhear)، المولود سنة ۱٥٤٦ و المتوفّى سنة ۱٦۰۱ ميلاديّة، و شرع بعد كوبرنيك بالتحقيق فعرف خطأ سلفه، و اعتقد أنّ مدار السيّارات لم يكن في الأصل دائريّاً، بل شبيهاً بالبيضويّ، أي كدائرة مدّت فنجم لها مركزان.۱
و بهذا الأمر فقد اقتربت حساباته مع نتائج الرصد و تقارب عنده المحسوب و المرصود؛ لكنّ تيخو براهه ارتكب خطاً آخر في اعتقاده كبطليموس بسكون الأرض، و وضعه لذلك اصولًا في الهيئة ليست كاصول بطليموس و لا كاصول كوبرنيك.
اختلاف نظر المنجّمين في اصول علم الهيئة في القرون الأخيرة
تقول اصول هيئة بطليموس إنّ الأرض هي مركز العالم، و إنّ بقيّة السيّارات كالقمر و الزهرة و عطارد و الشمس و المريخ و المشتري و زحل هي بالترتيب أفلاك دائريّة الشكل تدور حول الأرض. و تقول اصول هيئة كوبرنيك إنّ الشمس هي مركز العالم، و الزهرة و عطارد و الأرض و المريخ و المشتري و زحل هي بالترتيب مدارات دائريّة الشكل تدور حول الشمس.
لكنّ تيخو براهه كان يعتقد أنّ الأرض هي مركز العالم، و أنّ القمر يدور حول الأرض، و عطارد و الزهرة تدور حول الشمس، و الشمس تدور حول الأرض، و المريخ و المشتري و زحل تدور حولها جميعاً.
و مع كلّ الجهود التي بذلها تيخو براهه في الإرصاد لكنّ حساباته لم تكن لتطابق مشاهدات الأرصاد السماويّة، و لم تكن المسائل السماويّة مكشوفة له بشكل تامّ حتى فارق الدنيا.
و قد جاء بعد تيخو براهه تلميذه المنجّم الألمانيّ المعروف جان كبلر (Jean Kepler)، المولود سنة ۱٥۷۱ و المتوفّى سنة ۱٦٣۰ ميلاديّة، فتابع جهود استاذه تيخو براهه و أنجز الكثير من التحقيقات.
و لأنّ كبلر قد لاحظ الفرق بين حساباته و بين مشاهداته الرصديّة فقد أوجد طريقاً ثالثاً بين نظريّة كوبرنيك و نظريّة تيخو براهه، فاعتقد أوّلًا بحركة الأرض حول الشمس، و بأنّ الشمس هي مركز المجموعة
الشمسيّة، و ثانياً أنّ مدار السيّارات حسب نظريّته كان بيضويّاً.۱
و قد وجد كبلر الذي كان يرصد كوكب المرّيخ أنّ له اختلافاً مع حساباته بمقدار ۸ دقائق؛ و لأنّه كان يثق بحساباته و يعتبر رصده صحيحاً فقد تحرّى سبب ذلك و اعتقد أخيراً أنّ ذلك الاختلاف يرجع إلى ظنّه أنّ المدارات دائريّة، فلو حسبها بيضويّة لزال الاختلاف و الفارق.
و على هذا، فقد وضع - بعد أن قضى عمراً في ذلك - ثلاثة قوانين مهمّة في علم الهيئة أحدها أنّ مدار السيّارات حول الشمس بشكل بيضويّ تقع الشمس في إحدى بؤرتيه.۱
و قد حاز كبلر على نجاحات في حلّ المسائل السماويّة المستعصية و كانت اصول هيئة هي نفسها اصول هيئة كوبرنيك مع إضافة هذه القوانين الثلاثة لها.
و دام هذا حتى مجيء إسحاق نيوتن (Isaac Newton)، المولود سنة ۱٦٤٢ و المتوفّى في ۱۷٢۷ ميلاديّة، المنجّم و العالم الفيزيائيّ الإنجليزيّ الذي أثبت عن طريق الجاذبيّة الحركة الوضعيّة و الانتقاليّة للأرض.
و قد كان لكوبرنيك حدس بقوّة الجاذبيّة؛ و أحسّ بها من المتقدّمين
آناكزاغور (Anaxagore)، و إبيكور(Epicour)، الذي عاش بين سنة ٣٤۱ حتى سنة ٢۷۰ قبل ميلاد المسيح، و هو من فلاسفة إلى ونان المعروفين الذي كتب ما يزيد على ثلاثمائة كتاب، لكنّ اكتشاف الجاذبيّة كان من نصيب نيوتن.
و معروفة هي قصّة جلوس نيوتن في حديقة مفكّراً في سبب عدم ثبات النجوم السماويّة و علّة حركتها، ثمّ سقوط التفّاحة من إحدى الأشجار إلى الأرض، فظلّ يفكّر. لماذا سقطت التفّاحة إلى الأرض و لم تذهب إلى الجانب الآخر؟ أو أن تظلّ بعد انقطاعها من الشجرة ثابتة في مكانها؛ ثمّ توصّل بعد مدّة إلى علّة سقوط الأجسام إلى الأرض، أي اكتشاف الجاذبيّة الأرضيّة، و طبّق ذلك على النجوم السماويّة، فعلم أنّ سبب حركتها هي قوى الجاذبيّة التي تجذبها.
نعم، لا عجب أنّ الإفرنج يفتخرون بنيوتن، لأنّه فكّر في تجاذب أجزاء العالم فيما بينها، لكنّ العجب أنّ الشرقيّين يُباهون به و يعتبرونه قمّة الرقى مع أنّ قانون جاذبيّة الأجسام ليس من مكتشفاته؛
اكتشاف الجاذبيّة الأرضيّة حصل قبل نيوتن بألف سنة تقريباً
فقد كان للطبيب الشهير و الفيلسوف عديم النظير. ثابت بن قُرّة نفس هذه العقيدة قبلألف و مائة و خمسين سنة.۱ يقول الحكيم المتألّه الصمدانى الحاجّ المولى
...۱
أعلمتَ مَن حملوا على الأعوادِ | *** | أرأيتَ كيف خَبَا ضياءُ النادي |
جبلٌ هوى لَوْ خرّ في البحر اغتدى | *** | من ثقله مُتتابع الأزبادِ |
ما كنتُ أعلمُ قبل حطّك في الثرى | *** | أنّ الثرى يعلو على الأطوادِ |
و لقد أتاني مِنْ مصابك طارقٌ | *** | لكنّه ما كان كالطرّاقِ |
ما كان للعينينِ قبلك بالبكا | *** | عهدٌ، و لا الجَنبينِ بالإقلاقِ |
و أطقتُ حملَ النائبات و لم يكن | *** | ثقلٌ بِرزئك بيننا بِمُطاقِ |
هادي السبزواريّ قدّس الله سرّه في كتابه في شرح دعاء الجوشن الكبير، في شرح فقرة: يَا مَنِ اسْتَقَرَّتِ الأرَضُونَ بِإذْنِهِ.۱ المراد من الاستقرار سكون الأرض في الوسط (في المركز)، وَ سَبَبُهُ مَيْلُ أجْزَائِهَا الثَّقِيلَةِ مِنْ جَمِيعِ الجَوَانِبِ إلى المَرْكَزِ، فَتَتَقَاوَمُ وَ تَتَدافَعُ وَ تَتَعَادَلُ مِنْ جَمِيعِ الجِهَاتِ فَسَكَنَتْ في الوَسَطِ.
إلى أن يصل الحكيم السبزواريّ قدّس الله نفسه إلى القول: وَ قَالَ ثَابِتُ بْنُ قُرَّةَ. سَبَبُهُ طَلَبُ كُلِّ جُزْءٍ مَوْضِعَاً يَكُونُ فِيهِ قُرْبُهُ مِنْ جَمِيعِ الأجْزَاءِ مُتَسَاوِيَاً. إذْ عِنْدَهُ مَيْلُ المَدَرَةِ إلى السِّفْلِ لَيْسَ لِكَوْنِهَا طَالِبَةً لِلْمَرْكَزِ بِالذَّاتِ. بَلْ لأنَّ الجِنْسِيَّةَ مَنْشَا الانْضِمَامِ. فقال: لَوْ فُرِضَ أنَّ الأرْضَ تَقَطَّعَتْ وَ تَفَرَّقَتْ في جَوَانِبِ العَالَمِ؛ ثُمَّ اطْلِقَتْ أجْزَاؤُهَا، لَكَانَ يَتَوَجَّهُ بَعْضُهَا إلى بَعضٍ وَ يَقِفُ حَيْثُ يَتَهَيَّا تَلَاقِيهَا.٢
و على هذا فإنّ قانون نيوتن لم يكن بالأمر البعيد عن أفكار حكمائنا و فلاسفتنا، أو أنّهم لم يكتشفوا قانون الجاذبيّة العامّة بعد.
فما أقبح للرجل أن يجلس للأكل على مائدة قوم، ثمّ يقدّم الشكر و الامتنان لغيرهم! فيقول في مقالته:
إشكال علماء الطبيعة بعد نيوتن على عموميّة قانونه في الجاذبيّة
لقد كان نيوتن الفارس الأوحد لميدان التحقيق، و نابغة التأريخ النادر، سخّر عقول و أذهان العلماء و الحكماء قرنينِ كاملينِ، و أجبر العلماء الرياضيّين و التجريبيّين و الفلاسفة و العرفاء على الجلوس لتعلّم الأبجديّة في مدرسته، و على كنس أرض القصر الرفيع لمعرفته، هذا هو اعتراف جان لوك الفيلسوف الانجليزى.
لكنّ عقيدة نيوتن لم تكن بمنأى و منجى من الانتقاد و الطعن، فقد أورد علماء الطبيعة بعد نيوتن إشكالًا على عموميّة قوّة الجاذبيّة التي صاغها بشكل قانون، و اعتقدوا أنّ الجسم لا يمكنه التأثير في جسم آخر من مسافة بعيدة، جذباً كان ذلك التأثير أم غيره.
فقال فراداي. كلّ جسم يوجِد أمواجاً في محيطه، تكون دائرته الاولى بقدر محيط الجسم، و كلّما ابتعدت عنه زادت اتّساعاً، و تدعى تلك الأمواج بـ جوّ الجذب؛ و هذه الأمواج كالنور و الكهربائيّة، فهي تستقلّ بعد تولّدها و تنفصل عن الجسم، فإن انعدم الجسم و زال أو انتقل إلى محلّ آخر فإنّ جوّ الجذب سيبقى موجوداً لمدّة قصيرة.
أي لو تضاعفت المسافة بين الجسمين فإنّ قوّة الجاذبيّة ستتضاءل إلى الربع.
اعتراض اينشتَين على عموميّة دليل جاذبيّة نيوتن
و قد أخضع ألبرت أينشتَين (Albert Einstein) المحقّق الألمانيّ، المولود سنة ۱۸۷٩ و المتوفّى سنة ۱٩٥٥ ميلاديّة، جوّ الجذب حسب مقولة فراداي لقانون النسبيّة.
و كتب أينشتَين نفسه في كتابه «النسبيّة و مفهوم النسبيّة» في الفصل الثلاثين تحت عنوان. إشكالات معرفة الدنيا في نظريّة نيوتن، يقول: إنّ مشكلًا رئيسيّاً يواجه الميكانيك السماويّ التقليديّ (الكلاسيكيّ)، و على ما أعلم فقد بحث ذلك لأوّل مرّة من قبل زلّيجِر (Seeliger) المنجّم، و هو أنّ العالم غير متناه بلحاظ الفضاء و الزمان، فالنجوم موجودة في كلّ مكان بالشكل الذي يجعل كثافة المادّة بشكل متوسّط واحداً في جميع الأمكنة بالرغم من كونه متغيّراً جدّاً في الجزئيّات.
و بعبارة اخرى: فكلّما ابتعدنا في الفضاء أكثر فأكثر فإنّنا سنواجه دوماً مجاميع رقيقة من النجوم لها نفس النوع و الكثافة تقريباً.
و لا تنسجم هذه النظرة مع نظريّة نيوتن التي تستوجب أن يكون للعالم نوع مركز تزداد فيه كثافة النجوم قياساً للأمكنة الاخرى، و كلّما ابتعدنا عن هذا المركز فإنّ كثافة مجاميع النجوم ستقلّ، حتى نصل أخيراً في الفواصل البعيدة جدّاً إلى منطقة خالية لا متناهية، فينبغي لعالَم النجوم أن يكون كالجزيرة المتناهية في محيط الفضاء اللامتناهي.۱
و لا يبدو هذا الاستنباط في حدّ ذاته كافياً و مقنعاً؛ و الأبعد منه قبولًا هو أنّ النور المنبعث من النجوم و كذلك كواكب مجموعة النجوم تنتظمّ حسب رأي نيوتن داخل الفضاء اللامتناهي، فلا تعود مرّة اخرى و لا تتبادل التأثير مع الأشياء الاخرى في الطبيعة؛ و مصير عالم مادّيّ متناه و محدود كهذا هو الفراغ و الخلو قليلًا قليلًا و بشكل منتظم.
و للخلاص من هذا اللغز فقد اقترح زلّيجر تعديلًا في قانون نيوتن، و افترض أنّ قوّة الجاذبيّة بين كتلتين تفصل بينهما مسافات شاسعة ستضعف بشكل أسرع ممّا في قانون نيوتن؛ أي مقلوب مربّع المسافة؛ و في هذه الحالة يمكن لمعدّل كثافة المادّة أن يبقى ثابتاً في كلّ مكان، حتى في اللانهاية دون أن تنشأ ميادين جذب كبيرة إلى ما لا نهاية. و بهذا الاقتراح فإنّنا سنتخلّص من شرّ التصوّر المزعج في عالم مادّيّ له شيء من نوع المركزيّة.۱
و واضح أنّ انتقاد أينشتَين لنيوتن هو في فرضه عدم تناهي الفضاء؛ فهو يعود إلى شرح مبسّط في الفصل الحادي و الثلاثين تحت عنوان. إمكان
قبول العالم المتناهي ولكن غير المحدود، يقول في آخره:
«و يُستنتج ممّا قيل أنّه يمكن تصوّر وجود فضاءات مغلقة لكنّها بدون حدّ و غاية، و بين هذه الفضاءات فضاء كرويّ (و بيضويّ) يمتاز ببساطته، لأنّ جميع نقاطه في عرض بعضها البعض.
و ينشأ من هذا البحث سؤال يستلفت انتباه المنجّمين و علماء الفيزياء، و هو. هل العالم الذي نعيش فيه غير محدود؟ أو أنّه بشكل عام كرويّ محدود متناه؟
إنّ تجربتنا لا تكفي بأيّ وجه من الوجوه للإجابة على هذا السؤال بدرجة تبعث على الاطمئنان. و بهذه الطريقة يُجاب على الإشكال الذي اشير له في الفصل الثلاثين».
اعتراف أينشتَين بعدم وجود دليل نظريّ أو تجريبيّ على عدم تناهي الفضاء
و نلحظ هنا أنّ أينشتَين نفسه قد وقع في معضلة النتيجة الحاصلة من قانون الجاذبيّة العامّ.
و حسب طريقة و اسلوب علماء الطبيعة الإفرنج الذين يدّعون بلا دليل و لا برهان عدم محدوديّة الفضاء، و عدم وجود حدّ و نهاية لعالم الأجسام و الكرات السماويّة، فهو الآخر يريد الخروج من نتيجة قانون نيوتن و اعتبار العالم المادّيّ أبديّاً غير متناه تحت غطاء عدم محبوبيّة و استحسان تناهي الفضاء و محدوديّته، و عدم استحسان انهدام عالم المادّة و دماره؛ فيحاول إرضاء نفسه و الخلاص من شرّ العالم المحدود المتناهي و المقبل على النقصان باستناده لفرضيّة زلّيجر في إمكان عدم صدق قانون الجاذبيّة في المسافات البعيدة جدّاً، و لنظريّة النسبيّة العامّة التي يبقى صدقها هنا محلّ تأمّل و نظر.
و هذه في فلسفة الإفرنجيّين التي لا تقوم على البرهان و الدليل المتقن، فقبولهم أو إنكارهم الشيء إنّما يستند في النهاية على استحسان
القلب أو إنكاره.
لقد أثبت الشيخ الرئيس ابن سينا و سائر الحكماء ذوي العزّة و الاقتدار بالدليل العقليّ أنّ الفضاء ليس مطلقاً غير متناه، و أنّ هناك جسماً محيطاً بالعالم كلّه بمعنى الكرسيّ و العرش، ليكون لكلّ جسم مكانه الطبيعيّ، فوجود جسم بدون مكان طبيعيّ، و كذا بدون زمان هو أمر محال.
و قد اعترف أينشتَين نفسه أنّه ليس لدينا دليل تجريبيّ و لا دليل نظريّ لحلّ المشكلات الأساسيّة لعالم المادّة التي تجعله حسب قانون الجاذبيّة العامّ متناهياً و محدوداً و تسوقه إلى الزوال و الدمار. ثمّ يقول في آخر الفصل الثلاثين من كتابه السالف الذكر:
«و ليس لدينا أساس تجريبيّ و لا أساس نظريّ للخلاص من المشكلات الأساسيّة بالالتفات حول قانون نيوتن و تغييره، فإنّ قوانين كثيرة يمكن تصوّرها تقود إلى نفس النتيجة، و لا يمكن إيراد دليل على أرجحيّة أحدها على الباقي، لأنّ أيّاً من هذه القوانين لا يفترق عن قانون نيوتن بلحاظ الاستناد على اصول نظريّة أشمل».۱
و هناك في عصرنا مجموعة من خرّيجي الجامعات لم يمتلكوا ثقافة صحيحة، و لم يكن منهج دراستهم تحقيقيّاً، بل إنّهم يردّدون عقائد الغربيّين و أقوالهم بشكل سطحيّ كالببغاء، و لا يكفّون عن ذكر ديكارت و كانت.
فهم لا يفهمون من الفلسفة إلّا الاطّلاع على تأريخها و أسماء مشاهيرها و زمن ولادتهم و وفاتهم؛ و يصدّقون كلّ ما يقوله الطبيعيّون الاوروبّيّون و يظنّونه صحيحاً؛ و لا يقرّون مسألة المكان الطبيعيّ للأجسام،
و يقولون إنّ الفضاء غير محدود، و ينكرون العرش و الكرسيّ!
إنّ المراد من الكرسيّ كما جاء في عقائد الصدوق عليه الرحمة هو جملة جميع الخلق؛ أي الوعاء الذي توجد فيه جميع الأجسام بلا استثناء، و هو ما يدعى في اصطلاح الحكماء بـ مُحَدَّد الجِهَاتِ،۱ و باصطلاح بعضهم العرش الذي هو أكبر من الكرسيّ و الحاويّ له، فمحدّد الجهات الأصليّ هو في الحقيقة العرش. وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ.٢
أي أنّ البناء الوجوديّ لعالم المادّة و الأجسام، من الذرّة إلى المجرّات، و من الأرض إلى ما يتصوّر في السماوات فوق عالم الأجسام، كلّه في كرسيّ الله، أي أن ذلك الكرسيّ كبير لدرجة لا تبقى خارجة عنه أيّة ذرّة في السماوات أو في الأرض، بل تنضمّ داخله فيحيط بها و يشملها. أمّا العرش فأكبر منه، و هو عبارة عن بناء عالم لوجود بما فيه من مادّة و مجرّدات.
و الآية الكريمة: الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى٣ لها دلالة على أنّ عرش المُلك و الهيمنة، و أريكة القدرة و إنفاذ الأمر و النهي التكوينيّ، و إيجاد و إعدام جميع الأجسام و المادّيّات، و إنشاء جميع المجرّدات من
الأرواح و الملائكة و عوالم العقول و البسائط، كلّها من الله تعالى، لا شَرِيكَ لَهُ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ الصمد العليم القدير المهيمن على هذا العالم الواسع و مسلط و مسيطر عليه.۱
استعمال تعبير «الفضاء اللامتناهي» غير إسلاميّ
إنّ تعبير «الفضاء اللامتناهي» التي يلاحظ تكرارها هذه الأيّام في الكتب و المجلّات و الخطب ليس من الإسلام، بل من الغربيّين، أخذه عنهم شبابنا عديمو الخبرة و الدراية بلا تبصّر فدرجوا على استعماله.
و على المسلمين، بل على كلّ شخص حكيم يعمل على أساس البرهان و اصول الفكر الصحيح أن يستعملوا بدل هذا التعبير تعبير الفضاء الواسع، و الجوّ الرحب الكبير.
و نحن لا نعلم أكان أينشتَين معتقداً بعالم المجرّدات و سيطرة القوّة على المادّة و سيطرة عالم الأنوار على عالم حجاب المادّة، أم لا؟!
فقد قيل إنّ أصله كان نمساويّاً و من أتباع الدين إليه وديّ، و ما يُستخلص من عباراته أنّ له ميلًا كبيراً إلى عالم المادّة و علائقه، و إلى أحكام و قوانين عالم الطبيعة، فهو يعتبر علائق المادّة أصيلة للحدّ الذي لم يكن ليرتضي لهذا العالم بالترعزع و الانهيار حتى بعد ملايين السنين، و بأن تختلّ و تضطرب بعض قوانينه السارية الفعليّة.
و هذا الرأي هو من منظار المادّيّين القائلين بأصالة المادّة و أزليّتها و أبديّتها. لا الإلهيّين الذين يعتقدون بعالم أوسع و أرحب، و فضاء أهدأ و أجمل، و لا يمثّل عالم المادّة بأجمعه، بكلّ أحكامه و لوازمه و آثاره
و خصوصيّاته، و جميع قواعده و صيغه و فرضيّاته و قوانينه، مقابل ذلك العالم إلّا كأساور ملقاة في صحراء قاحلة بلا حدود.
في تفسير آية: ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ
و قد خاطب الله سبحانه تعالى نبيّه المصطفى في كتابه الكريم بشأن هذا النوع من أساليب التفكير:
فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَ لَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَياةَ الدُّنْيا ، ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى.۱
فكلمة بلوغ تعني الوصول إلى الغاية، و تمثّل نهاية القصد و الحركة. و يا له من تعبير عجيب جدّاً في بيان مراد الله المتعال في تعيين هويّة و ميزان اعتبار المادّيّين تعبير القرآن هذا ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ.
أي أنّ غاية و أقصى حدود مشاوراتهم العلميّة، و منتهى جهودهم و تحمّلهم المشاقّ وصولًا لأساس الفهم و العلم و الإدراك هو هذا العالم المادّيّ و الجسمانيّ، فأذهانهم لا تعرف إلّا الجسم و الطبيعة و المادّة، و كلّ لفظ يطرق أسماعهم يحملونه على المعنى المادّيّ، حتى لفظ الجلالة و الروح و النفس و المَلَك.
يقولون. إنّ ما يتبادر إلى ذهننا من هذه العبارات و الكلمات هو معانيها المادّيّة و الطبيعيّة.
نعم، فهذا التبادر يعود إلى الجهل و هو ليس بحجّة لإيصال المعنى الحقيقيّ، إذ هو كتبادر الماء الاجاج في ذهن من لم يذق الماء العذب الفرات من قبل.
سيكون مشهوداً للماديّين يوم القيامة أنّ جميع قوانين الطبيعة كانت
إنّما تنشأ أكثر اعتراضات و إشكالات و كفر و إلحاد الملحدين
و الجاحدين و المنكرين من هذا المنطلق؛ أي أنّهم يفهمون من كلّ شيء معناه المادّيّ المحسوس فقط، و ما يتبادر إلى ذهنهم هو الجسم و الطبيعة و المادّة لا غير، لذا فحين يرون أقوال ل% ۰۰۷ - ٣% الأنبياء لا تطابق الحسّ تراهم يعمدون إلى إنكارها و تكذيبها. فحين يسمعون مثلًا بعذاب القبر و سؤال منكر و نكير يتبادر إلى ذهنهم فوراً أنّه ينبغى للملائكة أن يكونوا مرئيّين، و أصواتهم مسموعة، فحين لا يرون و لا يسمعون شيئاً يقولون. ليس هناك من شيء، لأنّ غاية علمهم هي المادّة المحسوسة الملموسة.
أمّا العلماء و العقلاء فيعلمون أنّ هناك عالماً آخر وراء العالم المحسوس، فتراهم يعزون ما لا ينطبق من أقوال الأنبياء العظام و رسل الله على عالم المادّة حكاية عن ذلك العالم الغير محسوس.
و لقد كان أينشتَين متحمّساً لعالم المادّة، قلقاً لدماره و خرابه، لذا فقد عمد في هربه من التزلزل في أبديّة المادّة الذي استنتجه من قانون نيوتن إلى فرض النسبيّة في الموارد التي لا تصدق فيها، و قد أراح نفسه و أقنعها بتسليمه لأمر محال، و هو. عدم تناهي الفضاء و عدم تناهي الزمان.
و ليت قانون الطبيعة و المادّة المحسوسة و انطباق قانون النسبيّة في الفضاء اللامتناهي تماشيه و تسايره، و لكن هي هات؛ إذ ما العمل إذا سُمع نداء: إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ ، وَ إِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ ، وَ إِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ ، وَ إِذَا الْعِشارُ عُطِّلَتْ ، وَ إِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ ، وَ إِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ ، وَ إِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ ، وَ إِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ ، بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ ، وَ إِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ ، وَ إِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ ، وَ إِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ ، وَ إِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ ، عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ.۱
و سيُكوّر و يُجمع نور هذه الشمس الذهبيّة و ضياؤها الذي يعمّ العالم فتغدو مظلمة قاتمة، و ستنطفئ هذه النجوم الجذّابة التي تخطف الأفئدة، من ثوابت و سيّارات، و ستتحرّك هذه الجبال الثابتة الموطّدة و تُسيّر، و ستُشعل هذه البحار و تُسجّر، و ستُكشط هذه السماوات فتُزاح جانباً، و سيأتي نفخ إسرافيل في الصور أن:
إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ ، وَ إِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ ، وَ إِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ ، وَ إِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ ، عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَ أَخَّرَتْ.۱
فتنشقّ هذه السماء الزرقاء و تتناثر الكواكب ذات قوى الجذب و التنافر و تتبعثر كرمال الصحراء و تتشتّت بلا رابطة و لا علاقة، و ستنشقّ البحار و تتفجّر، و يخرج الناس من قبورهم و يُبعثون ليُروا جزاءهم، و عندها فسوف لن ينفع قانون جاذبيّة نيوتن و لا فرضيّة أينشتَين النسبيّة:
هُنالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ وَ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ وَ ضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ.٢
فلن يجدوا ثَمَّ من مادّة و لا أزليّتها و لا أبديّتها، و لا الطبيعة و العالم الحسّيّ و لا قوانينه و علائقة، و سيدركون هناك جيّداً أنّ الله مولاهم و وليّهم و حارسهم و مدبّرهم و راعيهم و المحيط بهم و المهيمن على جميع امورهم قد كان في جميع مدّة الدنيا المديدة حقّاً، و أنّ المادّة بجميع أحكامها المادّيّة، و الطبيعة و قوانين جاذبيّتها و تنافرها كانت تحت أمر و هي منة إرادة و علم و قدرة الحقّ تعالى، و هذا الأمر ليس كأنّه بل إنّه لحقّ.
و سيدركون أنّ تلك المدائح و التكريمات التي كالوها للمادّة، و الأيّام
و الليالي التي قضوها للحصول على صيغة جديدة و اكتشاف قانون جديد لها، بل إنّ ذلك العمر الذي قضوه في هذه المرحلة بعقد المؤتمرات و حضور الجلسات، و في المطالعة و التأليف، و في طيّ المراحل الجامعيّة، لم يكن حقّاً. و أنّ نسبة الثبات و الأصالة التي كانوا يفيضونها على المادّة كانت خطاً محضاً و حجاباً و عمى، و ها هي الآن قد ضاعت كلّها في موقف ظهور الحقّ هذا، و أنّ ما توهّموه علماً في الدنيا و ما كانوا يدَّعونه علماً قد اتّضح الآن أنّه لم يكن إلّا خيالًا و وهماً، ضاع بأجمعه و تلاشي.
و صار مشهوداً في هذا الموقف أن لم يكن في الطبيعة مع الله شيء آخر سواه، و أنّ ما كان جارياً هو الحقّ و إرادته المباشرة، لكنّ العين الحولاء كانت ترى الحقّ باطلًا و الباطل حقّاً.
نعم، لقد سقنا البحث إلى هنا ليُعلم كم طال اختلاف الآراء و النظريّات حول دوران الأرض و المدار السماويّ، و أين انتهى، و لسنا نعلم ما الذي سيأتي بعد من آراء لتنسخ آراء السابقين.
و نظير اختلاف الآراء حول دوران الأرض اختلافها في الحرارة المركزيّة للأرض، و التي ظلّ العلماء لمدّة مديدة يعزون السبب الوحيد للزلزلة و البركان في قمم الجبال إلى الحرارة المركزيّة للأرض، حتى جاء اللورد كِلْفين فعزى ذلك إلى شيء آخر و وافقه داروين على رأيه هذا.
اختلاف آراء الفلاسفة المادّيّين في حقيقة المادّة
و أعجب من هذا كلّه هو اختلاف الآراء و تباين النظريّات بشأن حقيقة المادّة؛ نعم هذه المادّة نفسها التي يحنون الرؤوس تعظيماً لها و يحصرون الموجودات فيها، فجعلوها مقابل الله الأزليّ الأبديّ عَلَماً يُثبتون لها أعلى صفات الالوهيّة من الأزليّة و الأبديّة، و لقد جهدوا في الكفر بالله الربّ الخالق و ساقوا أنفسهم أذلّاء تابعين لهذه المادّة الصمّاء عديمة الشعور.
لقد اتّفق رأي طبيعيّي العالم و ماديّيه و كلمتهم ابتداءً على أنّ المادّة لا تفنى و لا تضمحلّ، و كانوا يتمسّكون بهذا الرأي و يصرّون عليه لدرجة يعجب المرء منها و يحار؛ ثمّ أثبت جوستاف لوبون أنّ المادّة تفنى و تضمحلّ و تتحلّل، و أنكر هانس و مالبرانش و طومسون من الأصل تلك الذرّات الصغار و الجواهر الفردة التي اعتبرت المادّة مكوّنة من تركيبها، و قالوا إنّ حقيقة المادّة ليست أجزاءً صغاراً و ذرّات دقيقة مرتبطة و مركّبة ببعضها، بل هي نوع من الحركة في الأثير،۱ أو نوع من الاضطراب و الاهتزاز أو الأمواج التي توجد في الأثير.
و لقد نفى جوستاف لوبون حتى هذا النوع من الوجود للمادّة أيضاً، و كان رأيه أنّ المادّة هي مخازن للقوّة تتمكّن فيها لا غير، و اعتبرها اسبرن دينلدر عبارة عن خُلل و فتحات توجد في انتظام دقائق الأثير.
و قد أنكروا في الحقيقة بهذا النمط من الآراء و النظريّات وجود المادّة، و استنكفوا عن معبودهم الأزليّ، فوجّهوا وجوههم إلى قبلة اخرى هي الأثير، هذا الأثير الذي كانوا ابتداءً ينكرون أصل وجوده و تحقّقه، و لا يعرفون له وجوداً إلّا بمقدار ما تستخدمه المادّة و بمقدار الميدان لحركتها و مرآة تجلّي مظاهر قدرتها و قوّتها.
ثمّ بقي الأثير أيضاً مدّة ينتظر حلول يوم نحسه و إدبار حظّه لِينزلوا به ما أنزلوه بالمادّة، و ليهبطوا به من علياء عرشه و سلطان قوّته و اقتداره و يخلعوا عنه رداء الأزليّة و الأبديّة، و يعلّقونه قهراً و جبراً على خشبة إعدام التجزئة و التفرقة و الفناء و الاضمحلال و ينكرون أصل وجوده تماماً كما
فعل بوانكاره، حيث جاء و أبدل الأثير بآخر يحلّ محلّه و يقوم مقامه فأناطوا إلى الأمر و النهي. نعم؛ وَ كُلُّ آتٍ قَرِيبٌ.
و ها نحن بعد مرور مائة و خمسين ستة مرّت - من زمن أينشتَين حتى اليوم - لا نسمع عن الأثير شيئاً، بل و نرى علم الفيزياء يرفض الأثير و لا يقرّ به.
و كما حكم جماعة بفناء المادّة و اضمحلالها، فإنّ آخرين قد سلبوا عنها صفة بساطتها، فقالوا إنّ أجزاء المادّة و ذرّاتها الصغيرة التي تشكّل جوهرها ليست بسيطة، بل إنّ كلًّا من هذه الذرّات الصغيرة التي تدعى بالجزيئات تمتلك نواة مركزيّة تدعى البروتون و مركّبة من ألف جزء من الشحنة الكهربائيّة الموجبة، يدور حول هذه النواة دقائق تحمل الشحنة الكهربائيّة السالبة يُدعى كلُّ منها بـ الإلكترون.۱
ثمّ جاء بعد ذلك آخرون و قالوا إنّ المادّة ليست إلّا أمواجاً حركيّة، فلا شيء منها في العالم إلّا نفس الحركة، و إنّنا نشاهد اختلاف الصور و الأشكال و الأشياء في الخارج لاختلاف نوع الحركة التي نسمّيها أمواجاً.
فلو كان هذا الاختلاف في المادّة الذي أوجدوه يتعلّق بالمادّة نفسها لما كان مهمّاً، لكنّ هذه الآراء الأخيرة تسبّب تحطّم و انهيار أساس بحث و استدلال الفلاسفة المادّيّين لقرون متمادية و عصور طويلة.
و من بين المسائل التي صارت مورد بحث المحافل و المدارس هي مسألة أصل نوع الإنسان، و أنّه مِمَّ خُلق؟ فهل ولد من أب و امّ معيّنين؟ أم تدرّج من طبقات الحيوانات السابقة الواحدة تلو الاخرى حتى انتهى إلى نوع البشر؟!
القول بانتهاء الإنسان إلى آدم و حوّاء، و بانتهاء كلّ حيوان إلى أصله
و في هذا الشأن قولان:
القول الأوّل: إنّ أبوَي هذا النوع كانا آدم و حوّاء اللذان خلقهما الخلّاق العليم القدير بإرادته بنحو الإبداع و الإعجاز دفعة واحدة، بأن صيّر التراب طيناً فسوّى منه آدم، ثمّ نفخ فيه فصار بشراً سويّاً له عقل و ذكاء و إدراك.
و كذا الأمر بشأن أصل خلقة سائر أنواع الحيوان، حيث خلق لكلٍّ منها أصلًا من أب و امّ، البقر و الغنم، و الأسد و النمر، و الطيور و الحيوانات البرّيّة ...، كلٌّ خلق له أصلًا بنفس الاسلوب و أوجد فيه نفساً حيوانيّة خاصّة، فصارت اصول بداية خلقة الأجيال العديدة للحيوانات على ظهر البسيطة.
صار آدم أبا البشر، لأنّ بدنه يخلو من الشعر خلافاً لجميع الحيوانات،
لذا يقال للإنسان بشر، فالبشر جمع بشرة، و البشرة تقال للموجود الذي يخلو جلده من الشعر فتبدو بشرته؛ و هكذا صارت اصول الحيوانات أبا الفَرَس و أبا الغنم و أبا البقر و أبا الأسد و غيرها.
و أوجد كذلك للبناتات و الأشجار أصلًا من ذكر و انثى، فخلق أشجار الصنوبر، و السِّدر، و الأشجار المثمرة، و الأعشاب و الحنطة و العدس و الأرز و غيرها بهذا المنوال، و أوجد بصنعه البديع اصول الأشياء.
ثمّ أجرى بإرادته التامّة هذه الأنواع البديعة بالتناسل و التكاثر بالمثل في الإنسان و الحيوان و النبات، و هو الآن أيضاً كلّما شاء أن يوجد نوعاً بديعاً في أي وقت أوجده، و متى ما شاء أن يسبّب انقراض نوع ما و قطع نسله فَعَل، ثمّ أسند نوعاً آخر مكانه على كرسيّه.
كانت جميع الحيوانات ثابتة لا تتغيّر، تعود جميعاً إلى اصولها البديعة الإعجاز، المخلوقة دفعة واحدة؛ و ستستمرّ هكذا إلى الأبد أنواع النباتات بتكاثرها التناسليّ، و ستمضي أنواع الحيوان و أصناف الإنسان نحو الثبات و الاستقرار، فلا تبديل في العالم لنوع ما إلى نوع آخر، فجميع الأنواع ثابتة و العالم ثابت لا يتغيّر، و هو أشبه بنجوم السماء، و جميعها قد ملأت ساحة عالم الطبيعة بهذه الكيفيّة؛ و يُدعى هذا القول فيكْسِيسْم(Fixisme)، و القائلون به يدعون فيكْسِيست(Fixiste).
القول بانتهاء الإنسان و جميع أنواع الحيوان إلى نوع واحد
و القول الثاني: إنّ جميع الموجودات الحيّة، من حيوان و إنسان و نبات قد جاءت نتيجة التغيّر و التبدّل في الأنواع، و إنّ جميع الناس ينتهون إلى نوع من الحيوان جاء كسائر أقسام الحيوانات من نوع واحد، ثمّ تكاثرت على إثر تكامل الأنواع.
فهذه الكثرة الملحوظة فيها ترجع إلى تناسلها و تكاثرها و وجودها التكامليّ، و إلّا فكلّما توغّلنا نحو اصولها سنجد أنّ جميع الأنواع كانت
أبسط و أقلّ عدداً، حتى نصل إلى أنواع من الحيوانات الصحراويّة، و تلك تعود إلى أنواع من الحيوانات ذات الحياتين، و تلك ترجع إلى أنواع من الحيوانات المائيّة، و هذه الأخيرة أصلها في غاية البساطة و تنتهي أخيراً إلى الموجودات ذات الخليّة الواحدة التي توجد في المياه الراكدة الآسنة.
فقد نمت و تكاملت تلك الحيوانات ذات الخليّة الواحدة التي كانت في الماء بنحو تصاعدى و شطرنجيّ، أي أنّ ذلك الموجود ذا الخليّة الواحدة قد انقسم للوهلة الاولي من الوسط إلى نصفين، ثمّ نما النصفان، ثمّ انقسم النصفان و نميا، ثمّ صارا ثمانية فستّة عشر، و هكذا تضاعفت بنحو المتوالية الهندسيّة و ظهرت منها حيوانات أكبر بحريّة كانت تعيش في بداية أمرها في ذلك الماء الآسن و المستنقعات الراكدة، ثمّ جاءت إلى حافّة الماء فخرجت منه، و عادت إليه حتى صارت شيئاً فشيئاً ذات حياتين، ثمّ تطوّرت هذه الحيوانات ذات الحياتين تدريجيّاً فابتعدت عن الماء و نشأ منها الحيوانات الصحراويّة، ثمّ نشأ منها الطيور و الإنسان. فكان أوّل أمر الإنسان نوعاً من الحيوان، ثمّ سقط شعر جسمه و ذيله و قرناه على إثر التكامل فصار بشراً.
و قد وهب الله لهذا النوع عقلًا، و جعل أحده آدم و الآخر حوّاء، أمّا غيرهما من أفراد الإنسان الذين لم يمتلكوا العقل و الشعور فقد انقرض نسلهم من العالم بالتدريج؛ أو أنّهم هم أيضاً كانوا يمتلكون العقل و الإدراك، و قد أنعم الله على البشر من بينهم بخلعة النبوّة و العلم و المعرفة، فصار البشر يتكرّم عليها بقوّة العلم.
و يُدعى هذا القول ترانسفورميسم (Transformisme)، و يُدعى القائلون به ترانسفورميست (Transformiste).
إنّ اختلاف الإنسان عند القائلين بتكامل الأنواع (ترانسفورميست)
مماثل بعينه لاختلاف الأنواع في الحيوانات، فكما أنّ هناك أصنافاً مختلفة من الإنسان ترجع إلى اصول و أعراق مختلفة. الأصفر و الأسود و الأبيض و الأحمر، لكنّها ترجع إلى أصل واحد و تنتهي إلى إنسان واحد، و كذا الأمر بالنسبة لجميع أنواع الحيوانات، إذ إنّها تنتهي هي الاخرى إلى نوع واحد.
و ما العالم إلّا كنهر جار تسير فيه الأنواع إلى تكاملها فتتبدّل أنواعها إثر التغيّر التكامليّ فيها.
و ينطبق كذلك أصل هذه الفرضيّة على الحيوانات و النباتات، فآدم و حوّا لم يكونا الحلقة الاولى في هذه السلسلة، بل تمّ تحوّل الأنواع إلى نوع البشر بعد مرور ملايين من السنين، فتمّ انتخاب آدم و حوّاء، و على رأي البعض فقد استلزم ذلك مرور ثلاثمائة مليون سنة، و على رأي بعض آخر ستمائة مليون سنة، و بقول آخرين ثمانمائة مليون سنة، و قال آخرون بأكثر من هذا.
و السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو. ما هو نسل الحيوانات الذي كان قبل آدم و مثّل الحلقة التي سبق حلقة نسل البشر؟
قيل: تلك حلقة مفقودة؛ فجميع حلقات الحيوانات السابقة و الأنواع المختلفة التي تبدّلت و تطوّرت منها قد اكتُشف و صار معلوماً، و من المسلّم أنّ الإنسان ينتهي هو الآخر إلى تلك الأنواع؛ لكنّ بين الإنسان و تلك الأنواع السابقة حلقة وصل؛ فما هي حلقة الوصل تلك! و ظلّ هذا السؤال بلا إجابة. لذا فقد دُعيت تلك الحلقة بالحلقة المفقودة.
يقول داروين إنّه قد اكتشف الحلقة المفقودة، و تلك هي القرد!! لكنّ داروين لم يقدّم دليلًا على مقولته هذه، التي رفضها كبار القائلين بنظريّة تغيّر الأنواع ممّن جاء بعد داروين، كما أنّ دعاة هذه النظريّة بقوا لا يملكون أي دليل قاطع لرفض ما يستفاد من ظواهر الآيات القرآنيّة في
إنّ الله تعالى خلق البشر من الطين دفعة واحدة على نحو الإعجاز و الإبداع و نفخ فيه من روحه.
و لأنّ الحلقة المفقودة بقيت غير مكتشفة، فإنّ هناك في هذا المجال احتمالان من وجهة النظر العلميّة.
الأوّل: أنّ نسل البشر ينتهي إلى أنواع الحيوانات السابقة، مع احتمال تحقّق الحلقة المفقودة و التسليم بها.
و الثاني: خلق آدم دفعة واحدة بنحو الإعجاز، و في هذه الحالة فإنّ القائلين بتغيّر الأنواع سيتكلّمون في هذا الأمر وفق الظنّ و الحدس و التخمين، فهم يتشدّقون بأنّ أساس التكامل صادق في جميع الأنواع فلابدّ أن يكون الأمر كذلك بالنسبة للإنسان.
و هناك قول ثالث في هذا الشأن، و هو غير معروف طبعاً، و هو أن نقول بأنّنا نعتقد بالخلق الإعجازيّ دفعة واحدة بخصوص الإنسان، أي بنظريّة ثبات الأنواع، و نقول بالتبدّل و التكامل لسائر أنواع الحيوانات، أي بنظريّة تغيّر الأنواع و تكاملها. نعود ثانية إلى موضوعنا الأصليّ و نقول.
بالرغم من اعتقاد مؤلّف كتاب «خلق الإنسان»۱ بنظريّة تكامل الإنسان و إصراره الشديد على تطبيق آيات القرآن عليها، لكنّه يقول بصراحة.
«على فرض صحّة نظريّة داروين و قطعيّتها فهي لا تمثّل إلّا بياناً لعلّة التغيير التدريجيّ للموجودات الحيّة، لكنّ نظريّة كهذه ليست صادقة و لا تنطبق على ابتداء الخلقة حيث كان الأمر خالياً إذ ذاك من تنوّع و اختلاف الموجودات.
فلقد أثبتت العلوم الحياتيّة هذه الأيّام - مؤيّدة بالدلائل المكتشفة في علم طبقات الأرض - حدوث التنوّع و الاختلاف التدريجي في الموجودات الحيّة، فزادت أنواعها و كثرت، ممّا يؤيّد كون الحياة قد نشأت من مكان واحد.
أمّا كيفيّة نشوء الحياة من جسم ميّت و مادّة غير حيّة، فبالرغم من جميع الجهود العلميّة التي بُذلت لمعرفة ذلك فقد بقيت المسألة في حدود الفرضيّة و النظريّة و لم تكتسب صورتها القطعيّة إلى قينيّة.
فرضيّة القائلين بالتكامل، و عدم وجود الحلقة المفقودة
لقد واجهت نظريّة داروين الانتقادات (راجع كتاب «Bioligie Animale» تأليف Aron et Grasse، الصفحات ۱٣٣٤ إلى ۱٣٦٢، نشرMasson باريس، سنة ۱٩٦۰ م)، و لم تكتسب نظريّته شكلها و إطارها التامّ الخالي من الاستثناءات، لذا فإنّ استناد المادّيّين على فرضيّة داروين و الفرضيّات المتعلّقة بمنشأ الحياة سعياً لإنكار خالق العالم لن يصمد أمام المنطق العلميّ».۱
و يقول المؤلّف المذكور كذلك:
«لقد اعتقد العلماء السابقون في عصر المدنيّة إلى ونانيّة بالتغيير التدريجيّ للموجودات الحيّة مثل أناكسيماندير (Anaximander) و امبدوكليس (Empedocles). فأمبدوكليس مثلًا (القرن الخامس قبل الميلاد) قد اعتقد قبل داروين أن كيفيّة التنازع على البقاء و انتخاب الأصلح مؤثّر في تغيير الأنواع.
لم تتجاوز المعارف و المعلومات العلميّة العامّة في القرون الوسطي بشأن الموجودات الحيّة ما ذُكر في آثار الهنود و البابليّين، أو ما ورد في
التوراة، و مع ذلك فإنّ بعض كبار مفكّري المسيحيّة مثل غريغوربوس النيصي (Gregory Of Nissa) من الكنائسيّين إلى ونان و اغوستين المقدّس (Augusin) من الكنائسيّين اللاتينيّين اللذين عاشا في القرن الرابع و الخامس الميلاديّ كانا يعتقدان بتكامل العالم و تطوّره ضمن الإرادة الإلهيّة، و أكدّا في كتاباتهما أنّ الأقسام الجديدة للموجودات الحيّة قد خُلقت من التغيير التدريجيّ للأقسام السابقة تحت تأثير عوامل طبيعيّة ثانويّة».۱
و قال كذلك: «إنّ نظريّة تغيّر الأنواع (ترانسفورميسم) قد جرى بيانها قبل داروين من قبل بُوفُّون (Buffon ، ۱۷۰۷ إلى ۱۷۸۸ م)، و لامارك (Lamarek، ۱۷٤٤ إلى ۱۸٢٩ م)، و جيفرو سنتيللر (Etienne Geffroy Saint Hillaire، ۱۷۷٢ إلى ۱۸٤٤ م)، و قبل ذلك من قبل بعض العلماء المسلمين و العلماء إلى ونانيّين، و من المؤكّد أنّ العلماء المتأخّرين لم يكونوا بمعزل عن الاطّلاع على أفكار أسلافهم، لكنّ نظريّة داروين قد ترافقت مع تجارب و أمثلة كثيرة ممّا أدّى إلى القبول بها أكثر من سابقاتها، و إلى تركّزها في الأذهان.
لقد اعتقد داروين (Charles Robert Darwin، الذي عاش بين ۱۸۰٩ و ۱۸۸٩ ميلاديّة) بتأثير موضوع التنازع على البقاء في الانتخاب الطبيعيّ، و في نشوء أنواع جديدة و تكاثرها و تغييرها التدريجيّ. و كما قد اشير سابقاً فقد كان لداروين أسفار كثيرة للمطالعة و لإجراء التجارب بشأن نظريّته، و قدّم الأمثلة المتعدّدة لدعمها، لذا فقد أثارت نظريّته الاهتمام منذ
البداية.
لكنّ مطالعة الانتقادات التي وجّهت لها فيما بعد ستوضّح أنّ هذه النظريّة لم تكتسب صفتها القطعيّة، كما أجبر داروين نفسه على اعتبار عوامل ثانويّة اخرى مؤثّرة في التغيير التدريجيّ للأنواع».۱
مؤسّس التشريح التطبيقيّ (كوفيه الفرنسيّ) من مدافعي نظريّة ثبات الأنواع
و يقول كذلك. «بناء على نظريّة ثبات الأنواع (فيكِسيسم) فإنّ العلماء المهتمّين كانوا يعتقدون بعدم وجود رابطة و علاقة نسليّة بين أقسام الموجودات الحيّة. و كانت هذه العقيدة رائجة إلى أوائل القرن التاسع عشر للحدّ الذي كان العالم الفرنسيّ كوفيه(Cuvier) مؤسّس علم التشريح التطبيقيّ يكتشف بمطالعاته و أبحاثه الدقيقة الواسعة تشابه الهيكل التشريحيّ بين بعض الموجودات المختلفة ظاهريّاً ممّا يشير إلى ارتباطها و علاقتها، لكنّه كان واقعاً تحت تأثير نظريّة ثبات الأنواع و أحد المدافعين عنها، فاجبر في النهاية على إضافة وجهة نظر جديدة إلى نظريّة ثبات الأنواع تقول:
بالرغم من أنّ لأنواع الموجودات خلقة منفصلة و مستقلّة عن بعضها، لكنّ نظر الخلّاق في إيجادها لم يكن عشوائيّاً خالياً من النظام و التخطيط، و إنّ على علماء الطبيعة أن يكتشفوا و يتعرّفوا على هذا التخطيط المشترك الواحد الذي استُخدم في خلقة الموجودات، و هذا التخطيط المشترك المذكور إنّما هو الصفات الطبيعيّة المشتركة في أنواع الأحياء المختلفة».٢
و يضيف المؤلّف أيضاً:
«إنّ نظريّة داروين هي نظريّة لبيان العلّة (أو إحدى العلل) المؤثرة في
التغيير التدريجيّ للأنواع، و ليس في مسألة خلقتها التكامليّة، و كما أوضحنا سابقاً فإنّ داروين قد اعتبر في بداية الأمر الانتخاب الطبيعيّ للأنواع بواسطة عامل التنازع على البقاء هو المؤثّر الوحيد في تنوّع و تكاثر الموجودات.
و قد اعتبر علماء آخرون مثل بوفون و لامارك و سنتيلّر و إيزمان (Weismann الذي عاش بين ۱۸٣٤ إلى ۱٩۱٤ م) و دي فرايس(de Vries، ۱۸٤۸ إلى ۱٩٣٥ م) عوامل اخرى مثل تغيّر الظروف الطبيعيّة لمحيط العيش و استعمال أو عدم استعمال الأعضاء، و تغيير هي كل الخلايا الجنسيّة و التغيير السريع (Mutation) مؤثّرة في التغيير التدريجيّ للأنواع.
و لم تكن أيّاً من هذه النظريّات، بالرغم من التجارب الكثيرة التي اجريت بشأنها، متكاملة شاملة، فقد حفل كلٌّ منها بالنواقص و الإشكالات التي منعت من اعتبارها و النظر إليها كنظريّة عامّة قطعيّة في التغيير التدريجيّ لأنواع الموجودات. كما أيّد داروين نفسه في كتاباته الأخيرة مسألة تأثير ظروف محيط العيش على تكامل و نشوء أنواع جديدة، مضافاً إلى التنازع على البقاء (راجع كتاب «Cours elementaires de Zoologie» تأليف Remy Perrier، نشرMasson، باريس، ص ۱۰۰).
و كذلك اعتقادهم في النظريّة الداروينيّة الجديدة بأنّ عامل الوراثة و التغيير الدقيق للخلايا الجنسيّة منا لمؤثّرات في نشوء الأنواع الجديدة.
و على أيّة حال فلا يمكن لأيٍّ من العوامل المذكورة أن يكون لوحده عاملًا قطعيّاً و تامّاً للتغييرات التدريجيّة للموجودات في أي زمان و مكان، فهذه العوامل و أمثالها بأجمعها هي عوامل ثانويّة لعلّة أصليّة و غائيّة أدّت إلى تغييرات مستمرّة في عالم الوجود منظّمة و مثمرة و متناسبة مع بعضها و قابلة
للاستمرار».۱
كان داروين مسيحيّاً و مؤمناً بالله
نعم، لقد كان داروين الذي يمكن أن نعتبره المنشئ و البادئ بهذا الرأي التكامليّ في هذا العصر مسيحيّاً إنجليزيّاً متديّناً متمسّكاً بالمسيحيّة، و قد أمسك عند احتضاره بكتاب المسيحيّين المقدّس على صدره و ألصقه به بقوّة، لقد كان معتقداً بالله، لكنّ نظريّاته صارت بعد موته مورداً اسيء استخدامه و الاستفادة منه، فقد جعله المادّيّون و الملحدون سنداً و دسيسة لهم أثاروا لأجلها ضجّة و صخباً بالشكل الذي لم يكن داروين نفسه ليرضى به أو يريده.
و قد أثارت هذه النظريّة قلقاً و اضطراباً شديداً في محافل المسيحييّن الاوروبّيّين؛ مع أنّ الإنجيل يتطرّق إلى بدء خلقة الإنسان، لكنّه نصّ على صحّة مطالب التوراة بأجمعها و اعتبر اتّباعها في العقيدة و الأخلاق و العمل واجباً، كما أوجب على المسيحيّين العمل بكتاب التوراة مادام الدهر، و لم يعدّه منسوخاً باطلًا؛ لذا فحين تتعارض نظريّة داروين مع تصريح التوراة في الفصل الثاني من سِفْر التكوين بالقول بأنّ الله خلق آدم من الطين و خلق زوجه حوّاء من خَلْفِهِ، أي من أصغر أضلاع جنبه الأيسر،٢ فإنّها لهذا تتعارض بصراحة مع عقيدة و مذهب القساوسة النصارى.
لقد وردت في سفر تكوين التوراة مسائل مغايرة للحقيقة بشأن خلقة آدم و حوّاء و تفوّق الشيطان عليهما في أصل الخلقة تجعل تحريف هذا الكتاب الإلهيّ بِيَدِ البشر مسألة مسلّمة، و قد ورد في بعضها وصف الله بالكمر و الخداع و وصف الشيطان بالصدق!
و قد ألّف علماء الإسلام الأعلام كتباً لإبطال هذه الزخارف و الأضاليل التي تدلّ الأدلّة و الشواهد العقليّة و النقليّة على خلافها، كما فعل آية الله المعظّم الشيخ محمّد جواد البلاغيّ النجفيّ۱ في كتاب «الرحلة المدرسيّة أو المدرسة السيّارة» في ثلاثة أجزاء، و هو حقّاً كتاب نفيس ثمين.
أمّا مسألة خلق زوج آدم من ضلعه الأيسر، و ما هو مشهور من أنّ عدد الأضلاع إلى سري للرجل تنقص عن مثيلاتها في المرأة فكلام عار عن الحقيقة، لا واقع له في الخارج و لا دليل عليه من الآيات القرآنيّة.
و الاية المباركة: يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ
واحِدَةٍ وَ خَلَقَ مِنْها زَوْجَها،۱ تدلّ على أنّ الرجل و المرأة خُلقا من جنس واحد، و أنّ زوج آدم قد خُلقت من نفس المادّة التي خُلق آدم منها، و لفظة من: في خَلَقَ مِنْها زَوْجَها ليست تبعيضيّة، بل نشوئيّة تفيد ابتداء الغاية. و معنى النفس الواحدة هو الشيء الذي تقوم به إنسانيّة الشخص، و هو عبارة عن الروح و البدن في عالم الدنيا، و الروح فقط في عالم البرزخ، فالآية في مساق قوله تعالى:
وَ مِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَ جَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَ رَحْمَةً؛٢ و قوله تعالى: وَ اللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ وَ حَفَدَةً؛٣ و قوله تعالى: فاطِرُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَ مِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ؛٤ و نظيرها قوله: وَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ.٥
عدم اعتبار الروايات الدالّة على أنّ خلق حوّاء من ضلع آدم الأيسر
فما جاء في بعض التفاسير من أنّ المراد بالآية كون زوج هذه النفس مشتقّة منها و خلقها من بعضها وفاقاً لما في بعض الأخبار أنّ الله خلق زوجة آدم من ضلع من أضلاعه ممّا لا دليل عليه من الآية.٦
و في «نهج البيان» للشيبانيّ عن عمرو بن أبي أبي المقدام، عن أبيه، قال: سألتُ أباجعفر عليهالسلام: من أي شيء خلق الله حوّاء؟
فقال عليهالسلام: أي شيء يقولون هذا الخلق؟
قلتُ: يقولون: إنّ الله خلقها من ضلع من أضلاع آدم.
فقال: كذبوا، أكان الله يعجزه أن يخلقها من غير ضلعه؟!
فقلت: جعلت فداك، من أي شيّ خلقها؟
فقال: خَبَّرنِي أبي عَنْ آبائه قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ:
إنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَ تعالى قَبَضَ قَبْضَةً مِنْ طِينٍ، فَخَلَطَهَا بِيَمِينِهِ - وَ كِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ - فَخَلَقَ مِنْهَا آدَمَ؛ وَ فَضُلَتْ فُضْلَةٌ مِنَ الطِّينِ فَخَلَقَ مِنْهَا حَوَّاءَ.
و روى الصدوق عن عمرو مثله. و هناك روايات اخرى تدلّ على أنّها خلقت من خَلْف آدم و هو أقصر أضلاعه من الجانب الأيسر؛ و كذا ورد في التوراة في الفصل الثاني من سفر التكوين.
و هذا المعنى و إن لم يستلزم في نفسه محالًا إلّا أنّ الآيات القرآنيّة خالية عن الدلالة عليها كما تقدّم.۱
أمّا أنّ آدم قد خُلِق من الطين لا من الأجناس الاخرى التي كانت قبل آدم فهو صريح الآية القرآنيّة: إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ.٢
نقد أبي المجد لفلسفة داروين و مقولة شبلي شُميّل المصريّ
لذا فحين وصل صدى نظريّة داروين المخالفة للقرآن الكريم إلى الممالك الإسلاميّة و وصل تركيا (آسيا الوسطي) و مصر و العراق و إيران، فقد انبرى العلماء الكبار فألّفوا المؤلّفات لردّها، و من بينهم العالم الكبير و المجتهد و الفيلسوف الخبير آية الله المعظّم أبوالمجد الشيخ محمّد رضا الأصفهانيّ ابن آية الله الخبير و العارف البصير الشيخ محمّد حسين
مسجد شاهي۱ ابن آية الله الأعظم الشيخ محمّد تقيّ الأصفهانيّ صاحب الحاشية على المعالم باسم «هداية المسترشدين»، و هو أخ صاحب «الفصول» الشيخ محمّد حسين؛ فقد كتب ردّاً جامعاً في جزءين بالعربيّة، طبعه و نشره سنة ۱٣٣۱ هجريّة و قد طبع هذا الكتاب و اسمه «نقد فلسفة داروين» في نفس السنة في مطبعة الولاية ببغداد.٢
و قد طبع أبوالمجد الشيخ محمّد رضا كتابه باللغة العربيّة بسبب إقامته في النجف الأشرف و كربلاء المقدّسة، ثمّ ترجم هذا الكتاب إلى الفارسيّة أيضاً. و لقد شرع المتشبّهون بالإفرنج و ذوو ربطات العنق۱ بإثارة الضجّة و الضوضاء بمجرّد نشر فرضيّة داروين، بلا أدنى تحقيق أو تأمّل، و بلا مناقشة لصحّتها أو بطلانها؛ و لأنّ داروين كان إنجليزيّاً و من علماء الطبيعة فقد أطلقوا عليه لقب الفيلسوف و بدأوا بشنّ هجوم ساخر و لاذع على الدين و العقيدة في الصحف و المدارس الثقافيّة الاستعماريّة، و يا لها من سخرية حين قالوا.
قصّة آدم و حوّا كه دروغ است دروغ | *** | نسل ميمونم و از هر دو جهان آزادم٢ |
و لقد كان شِبْلي شُمَيِّل المِصْرِيّ، و هو مسيحيّ لبنانيّ سكن مصر، (ميلاده ۱۸٥٣ م = ۱٢٦٩ ه-، و وفاته ۱٩۱۷ م = ۱٣٣٥ هـ) من المادّيّين الملحدين في ذلك العصر، و دكتوراً محقّقاً في دنيا الطبّ، ينحو نحو الفلاسفة في أحاديثه و كتاباته، و كان أيضاً من المعتقدين بهذه النظريّة و من مؤيّدي داروين المتعصّبين، لكنّه خلافاً لداروين المؤمن بالله كان ملحداً منكراً للّه سبحانه.
وُلد شبلي في قرية كفر شيما في لبنان، و أكمل دراسته في الجامعة الأمريكيّة، ثمّ أقام في اوروبّا مدّة سنة، عاد بعدها إلى مصر فاستوطنها، و سكن بداية الأمر في الإسكندريّة، ثمّ في طنطا، ثمّ اختار السكن في القاهرة حيث وافته المنيّة إثر نوبة قلبيّة مفاجئة.
و كان شبلي شميّل يكتب مقالاته في المجلّات، فكتب رسالة في النشوء و الارتقاء و طبعها، ثمّ كتب رسالة باسم «مجموعة مقالات» كتبها في الجرائد و المجلّات و طبعت مستقلّة، ثمّ طبع رسالة اخرى باسم «آراء الدكتور شميّل»، و اخرى باسم «شرح بوخنر۱ على مذهب داروين»، و رسائل اخرى في الطبّ (حاشية على كتب الطبّ القديمة) و غيرها؛ و كان يقول الشعر أحياناً لكنّه لم يكن شاعراً، و كان متمرّساً بالفرنسيّة حاذقاً لدرجة عُدَّ معها من الكتّاب بالفرنسيّة.٢
و كان شبلي شميّل رجلًا صريح اللهجة عديم المحاباة و المجاملة،
فمع أنّه كان في الأصل مسيحيّاً ثمّ صار من أتباع النظريّة الداروينيّة، ثمّ زاد على ذلك فصار مادّيّاً؛ فهو في الحقيقة داروينيّ و مادّيّ معاً (Materialist ,Darwinist)، يعني أنّه من المجدّدين الذين عاشوا في الغرب و تربّوا تربية أمريكيّة،۱ و من المفكّرين المتعصّبين؛ لكنّه في نفس الوقت كان ينحني إجلالًا و تواضعاً و خضوعاً لنبيّ الإسلام الأكرم.٢
شعر شبلي شميّل في الرسول الأكرم
و لشميّل أبيات في شأن الرسول الأكرم صلّى الله عليه و اله و سلّم تستحقّ التأمّل.
دَعْ مِن مُحَمَّدَ في سَدَى قُرْآنِهِ | *** | مَا قَدْ نَحَاهُ لِلُحْمَةِ الغَايَاتِ |
إنِّي وَ إنْ أكُ قَدْ كَفَرْتُ بِدِينِهِ | *** | هَلْ أكْفُرَنَّ بِمُحْكَمِ الآيَاتِ |
أ وْ مَا حَوَتْ في نَاصِعِ الألْفَاظِ مِنْ | *** | حِكَمٍ رَ وَادِعَ لِلْهَوى وَ عِظَاتِ |
وَ شَرَائِعٍ لَوْ أنّهُمْ عَقَلُوا بِهَا | *** | مَا قُيِّدَ العُمْرَانُ بِالعَادَاتِ |
نِعْمَ المُدَّبِّرُ وَ الحَكِيمُ وَ إنَّهُ | *** | رَبُّ الفَصَاحَةِ مُصْطَفى الكَلِمَاتِ |
رَجُلُ الحِجَى رَجُلُ السِّيَاسَةِ وَالدُّهَي | *** | بَطَلٌ حَلِيفُ النَّصْرِ وَ الغَارَاتِ |
بِبَلَاغَةِ القُرْآنِ قَدْ غَلَبَ النُّهَى | *** | وَ بِسَيْفِهِ أنْهَى عَلَى الهَامَاتِ |
مِن دُونِهِ الأبْطَالُ مِنْ كُلِّ الوَرَى | *** | مِنْ غَائِبٍ أوْ حَاضِرٍ أوْ آتٍ۱ |
و يقول شبلي شميّل بشأن الإمام أميرالمؤمنين عليّ بن أبي طالب عليهالسلام:
الإمَامُ عَلِيُّ بْنُ أبِي طَالِبٍ، عَظِيمُ العُظَمَاءِ، نُسْخَةٌ مُفْرَدَةٌ لَمْ يَرَ لَهَا الشَّرْقُ وَ لَا الغَرْبُ صُورَةً طِبْقَ الأصْلِ؛ لَا قَدِيمَاً وَ لَا حَدِيثَاً.٢
يقول صاحب كتاب «سيرى در أنديشة سياسي عرب» (=جولة مع سياسة العرب الفكريّة). و لكنّنا من جهة اخرى نجد في الكثير من كتابات
شميّل إشارات على نزوعه إلى الدين، فنحن لا نعجب من كلامه في الدفاع عن المسيحيّة باعتباره مسيحيّ الأصل، لكنّ ما يدهشنا ثناؤه و مدحه لحقيقة التعاليم الإسلاميّة في مقالة بعنوان القرآن و العمران ردّ فيها على مقولة اللورد كرومر الحاكم الإنجليزيّ لمصر التي يتهجّم فيها على الإسلام.
و كان كرومر قد قال: «إنّ الإسلام لا يتلاءم بحكم ماهيّته مع التقدّم و الحضارة، لذا يجب البحث عن أساس تخلّف المسلمين في الإسلام نفسه».
و قد أثار كلام كرومر هذا حفيظة المصريّين و آثار غضبهم بشدّة ممّا دفع بالجرائد لنشر مقالات ضدّه. و قد جهد شميّل في ردّه على كلام كرومر لأن يشير إلى المماثلة بين الإسلام و المسيحيّة، فكتب يقول:
إنّ أغلب الأديان الكبيرة إنّما جاءت لتحرير الإنسان و نشر العدالة و المحبّة و المساواة بين الناس، فالإسلام و المسيحيّة كلاهما يسعى لتحقيق هذا الهدف.
فالإسلام يشارك المعدمين في أموال ذوي النفوذ و الثروة، و المسيحيّة تدعو الإنسان لنكران ذاته في خدمته لأقرانه في الإنسانيّة، فالإسلام دين الجدّ و الاجتهاد و المسيحيّة دين البصيرة و النظر، أوّلهما يولي عنايته للمحسوسات و ثانيهما للمجرّدات، لكن من العجائب أنّ الوضع قد انعكس، فأتباع الإسلام قد توقّفوا عن الجهد و السعي و التحرّك، و أتباع المسيحيّة قد لزموا جانب الإفراط في الحياة العمليّة.
و يستنتج شميّل من هذه النكتة أنّ حقيقة الأديان لا ترتبط بكيفيّة المدنيّة - أو حسب مقولته. بعمران مجتمع أتباعها - و أنّ اسلوب حياة أتباع الأديان لا يصحّ اعتبارها دوماً دليلًا على صواب عقائدهم الدينيّة أو بطلانها، و الحال فإنّ الانتقادات التي يوجّهها كرومر للإسلام ترتبط بسلوك
المسلمين تأريخيّاً و ليس بالإسلام نفسه.۱
فرضيّة داروين لا تستلزم إثبات نظريّة المادّيّين
نعم، لقد صار البحث على عدّة مراحل:
الأولى: أن نفترض صحّة فرضيّة داروين و نقول بأنّ أصل الإنسان من القرد، و أصل القرد من الحيوانات و الطبقات التي سبقته، و هكذا حتى نصل إلى الحيوانات المائيّة و الموجودات ذوات الخليّة الواحدة.
فنقول إنّها كانت منشأ الحياة و بدايتها، ثمّ سارت حياتها في طريق التكامل إثر تكامل المادّة حتى وصلت إلى الحياة الفعليّة التي نشاهدها في عالم البشريّة بصورته الحاليّة بعد مئات الملايين من السنين؛ فأيّ علاقة لهذا الأمر بمقولة المادّيّين الذين ينكرون وجود الله؟
إن كان أصل الإنسان من آدم فالخالق هو الله، سواء حصل ذلك في ذلك الزمن السالف أم تدرّجاً من ذلك الزمن إلى زمننا الحاليّ؛ و إن كان أصل الإنسان قرداً و هلمّ جرّاً إلى الطبقات السابقة و الموجودات ذوات الخليّة الواحدة، فالخالق هو الله أيضاً، سواء في ذلك الزمن، أم تدرّجاً من ذلك الزمن إلى زمننا، لأنّ إشكال المادّيّين إنّما ينحصر في مُنشئ الحياة و باعثها.
يقول الإلهيّون: إنّ المادّة عديمة الفهم و الشعور و لا يمكنها أن تنشئ الحياة التي هي قوّة مسيطرة على المادّة، و أن تخضعها لقوّتها و تهيمن عليها و توجدها و تفنيها. في حين يقول المادّيّون. إنّ الحياة معلولة للمادّة و أثرها الطبيعي و الطبعيّ.
فماذا سيضير في هذا النزاع و النقاش إن كان مبدأ الحياة نفخ الخالق تعالى في الحمأ المسنون ليكون مادّة نشأة آدم و زوجه، أو كان من
الموجودات ذات الخليّة الواحدة النامية في المستنقعات و المياه الآسنة؟!
لذا، فلا وجه لإسناد نزاع الإلهيّين و المادّيّين إلى فرضيّة الثبوت أو إلى نظريّة التكامل.
و الدليل المهمّ للإلهيّين ضدّ المادّيّين هو أنّ المادّة إن كانت منشأ الحياة فلن يتوجّب أن يسير العالم نحو التكامل، لأنّه لا ينبغي لتكاثر الخلايا و الكائنات الأوّليّة ذات الخليّة الواحدة أن يسبّب تصاعد القوّة و حركة المادّة بنحو تصاعديّ و هرميّ باتّجاه القدرة و العلم و الحياة.
فإن انقسمت الخليّة الأوّليّة من وسطها نصفين، و انقسم نصفاها إلى نصفين، ثمّ صار الأربعة ثمانية و هكذا وصولًا إلى خلايا بدن الإنسان التي تعدّ بالمليارات، فينبغي لبدن الإنسان بهذا الهيكل و الضخامة أن يكون تمثالًا كبيراً ليس إلّا. إذ مِن أين تؤتي له هذه القدرة و العظمة، و هذا الشعور و الإدراك، و خلايا الكلية و القلب و الكبد، و هذا الترابط و العلاقات المدهشة العجيبة، و هذا التوحّد و التكاتف المحيّر الذي يربط خليّة من خلايا العين بخلية من خلايا ظفر القدم، و يجعل هذه المليارات من موادّ الخلايا المنفصلة الثقيلة الكثيفة واحداً، و يعطيها الخفّة و يحرّكها بإرادة واحدة؟!
فخليّة واحدة تضاف إلى مائة مليار خليّة ستساوي مائة مليار خلية و خليّة واحدة، و من الخطأ أن نقول إنّها ستساوي نفسَ و قدرةَ و علم و حياة إنسان، و شخص ذي إرادة و اختيار يحرّك مليارات الخلايا هذه و ينقلها من مكان الآخر.
و بناء على هذا، فلا علاقة لفرضيّة داروين مع نظريّة المادّيّين، و أنّ محاولة المادّيّن الاستفادة منها ليس إلّا مغالطة في فنّ الحكمة و المنطق، و أنّ الصراخ و الضجيج لن يمكنه صياغة قواعد برهان تقوم علي المقاييس
الصحيحة.
الثانية: أنّ فرضيّة داروين لم تنتهِ بعدُ، فهي لا تزال في طور الفرضيّة و لم تأتِ كقانون و قاعدة. فقد وضع داروين فرضيّته في الانتخاب الطبيعيّ الحاصل علي إثر تنازع الموجودات الحيّة علي البقاء في محيط البيئة، لانعدام الغذاء و مستلزمات المعيشة و صغر المحيط اللازم لاستمرار حياتها.
و لم تحظَ هذه الفرضيّة بالقبول، بل كانت مورد انتقاد و إشكال علماء الطبيعة و خبراء علم البيئة و الحياة بشكل جعل داروين نفسه يتراجع في حياته فيعتبر بعض الأشياء الاخري من بين العوامل المؤثّرة في التكامل و التطوّر.
الثالثة: أنّ رجوع نسل البشر إلي القرد إنّما هو فرضيّة داروين و ليس فرضيّة علماء الطبيعة، فداروين قد اعتبر القرد الرابط بين البشر و الحلقات السابقة، و ذكر أدلّة علي هذا المعني، لكنّها لم تكن مقنعة لعلماء علم الحياة و البيئة، فاعتبروها أدلّة غير صحيحة و قالوا لذلك بـ الحلقة المفقودة، أي لا يمكن للقرد أن يكون حلقة الوصل، تلك الحلقة التي ظلّت مجهولة لدينا حتى اليوم.
و لأنّ آثار الحفريّات الأرضيّة من الفسائل و غيرها لم تكن ذات جدوي في إيضاح الأمر، فإنّ علينا حسب نظريّة التكامل أن نقول إنّ حلقة الوصل كانت موجودة في هذا العالم ثمّ فُقدت و فقد أثرها؛ أمّا ماهيّة تلك الحلقة، و أي حيوان كانت، و بأيّ صفات اتّصفت، فإنّ هذا ممّا لم يعرفه أحد و لم يدّعِ الشهادة عليه أحد.
لذا، فلا يمكن لعلماء البيئة أبداً تقديم نظريّة التكامل علي أنّها مسألة علميّة، ما لم يكتشفوا حلقة الوصل هذه و يثبتوا أنّها كانت الحلقة الرابطة بين البشر و سائر الطبقات، فما هو موجود حاليّاً إنّما يمثّل فرضيّة
فقط، فرضيّة يمكن أن تتحوّل إلي قانون التكامل التامّ لو تمّت حلقة الوصل و تشخّصت.
لا فرق في الحكمة المتعالية بين خلق الله للكائنات بسنّة التكامل أو غيرها
الرابعة: لو كانت حلقة الوصل الرابطة موجودة، فلا يمكن إثبات مسألة رجوع و انتهاء سلسلة نسل البشر إلي طبقات الحيوانات السابقة، لأنّ إثبات سلسلة النسب لتلك الموجودات ذات الخليّة الواحدة وفق رأي و نظريّة المادّيّين القائلين بعدم وجود الله العالم القدير الحيّ المهيمن بإرادته الفعليّة علي جميع العالم و تدبيره و تسييره كان تامّاً من قبل.
أمّا وفق نظريّة و فلسفة الإلهيّين فإنّ ذلك الإثبات لن يتمّ، لأنّهم يقولون بأنّ الله العليم القادر الحيّ الخالق قد أوجد العالم بإرادته و يسيّره الآن و يديره بحياته و علمه و قدرته و تدبيره.
و في هذه الحالة فإنّ جميع التغييرات في العالم، ما كان منها بحسب الأسباب الظاهريّة، كحركة الشمس و القمر، و حدوث الفصول المختلفة، و هطول المطر من السماء، و نموّ الأشجار الخضراء و الأعشاب و الحبوب و غيرها؛ أو ما لم يكن بحسب الأسباب الظاهريّة، كانشقاق القمر،۱ و تكلّم عيسى عليهالسلام عند ولادته،٢ و إحيائه الموتي و إبرائه الأكمه و الأبرص،٣ - الذي عجزت دنيا العلم عن معالجته - ثمّ ضرب الحجر بالعصا
لتنفجر العيون المتدفّقة منه،۱ و العبور من نهر النيل و انفراجه عن طريق يابس لعبور موسي و قومه ثمّ انضمامه علي فرعون و قومه و إغراقهم جميعاً،٢ و إراءة اليد البيضاء،٣ و كذلك سائر المعجزات و خوارق العادات التي ظهرت و تظهر من الأنبياء العظام و الأئمّة الكرام و سائر أولياء الحقّ ذوي العزّة و الاحترام، كلّها جميعاً كانت من الله وحده لا إله سواه.
فالأسباب الظاهريّة التي قيل عنها: أبَي اللهُ أنْ يُجْرِي الامُورَ إلَّا بِأسْبَابِهَا، بِيَدِ الله، فهو نفسه مسبّب الأسباب، أي المهيّئ لدواعيها و أسبابها؛ لا أن يكون سبحانه محكوماً و مغلوباً لسبب، فيعجز عن الإتيان بشيء إلّا عن سببه الخاصّ، فهذه عقيدة مخالفة للتوحيد تماماً. فما الذي يضير الخالق في هذه الحال أن يخلق أحداً عن طريق التوالد و التناسل أو عن طريق آخر كما فعل مع آدم و عيسى ابن مريم عليهما السلام؟ فالكلّ هو معجز، خَلْقُ الطفل عن طريق الاستيلاد، و نفخ الروح بواسطة جبرائيل في بطن مريم، أم بواسطة إرادته القاهرة في طين آدم، كلّها عنده علي حدٍّ سواء، فلا فرق بينها صعوبة أو سهولة، و هي كلّها علي وتيرة واحدة، و اسلوب و سُنّة واحدة، و لو بدت عند المحجوبين بمظاهر مختلفة.
و نسأل القائلين بفرضيّة التكامل. ما تقولون في ناقد صالح التي خرجت من الجبل و خُلقت في آنٍ واحد؟ أكان لديها أب و امّ فوُجدت عن
طريق التناسل لتضطرّوا في نسبتها إلي خلايا المياه الآسنة؟!
و ما تقولون في انبعاث عصا موسي ثعباناً يتعقّب فرعون و جنده؟ أكان لها هي الاخري أب و امّ فجاءت عن طريق التناسل ليتوجّب عليكم أن ترجعوها إلي ذوي الخليّة الواحدة؟!
إنّ واقع الأمر و حقيقته هي أنّ القائلين بالتكامل بهذا الشكل لا يختلفون عن المادّيّين، فاولئك ينكرون الله لفظاً، و هؤلاء ينكرونه معني، فيسقطون الباري من أثره و يهبطون به عن عرش عظمته.
فالقول بإله لا يمكنه الفكاك من نظام المادّة و آثاره و لوازمه التي لا ينفكّ عنها، و العاجز عن تجاوز هذا كلّه، هو نفس معني و مفهوم أصالة المادّة و الوهيّتها التي تقول بها المادّيّون، فالمادّيّون لا يقولون غير أنّ المادّة الأزليّة قد تحرّكت في نظامها الصحيح المتقن فأوجدت هذا العالم البديع المدهش، و هو عين كلام الذين يعتبرون الله مُجبراً محبوساً في إطار المادّة و أعمالها.
إنّ دين التوحيد يدعو الإنسان إلي الله المريد المختار الذي يخضع جميع نظام المادّة تحت سلطته و اقتداره و علي أساس علمه و قدرته، القادر بإرادته علي خلق العالم من جديد أو هدمه و تخريبه.
لكنّ البعض يأتي فيؤوِّل الآيات القرآنيّة النازلة بشأن معجزات الرسل الإلهيّين، و يفسّر الشيطان بالجرثومة!
أفاجبرتم أن تقولوا شعراً فتعجزوا عن إكمال قافيته؟!
أفكنتم مجبرين علي كتابة التفسير، لتأتوا فتفسّروا للبذوقكم و رأيكم و مزاجكم بلا قرينة أو شاهد خارجيّ، و تفسّروا معجزات الأنبياء كإحياء إبراهيم عليهالسلام الطير و غيرها برأيكم و وفق نظركم؟
أ يّ جواب لديكم إذا استوقفكم الله يوم القيامة فسألكم: بأ يّ دليل
غُرتم علي كتابي و عدّدتم معانٍ سخيفة كهذه علي أنّها معاني آياتي الكريمة؟!
نحن لا نقول بعدم إمكان أمر التكامل و سُنّته، بل بإمكان ذلك، لكنّ الفاعل يبقي - في حال تحقّقها و صدقها - هو الله سبحانه.
نحن نقول: إنّ حصر قدرة الله تعالى و تحديدها في سنة التكامل أمر خاطئ، فالله سبحانه يمكنه أن ينشئ عيسى في بطن امّه بلا أب، و يخلق آدم و حوّاء من الطين، و يمكنه كذلك أن يوجد ذلك عن طريق التكامل، فكلا الأمرين لديه سواء.
و الحال هذه فإن رأيتم الإمام عليهالسلام يشير بإرادته إلي صورة أسد علي الستارة فيصنع منها أسداً مفترساً و هيكلًا غاضباً خارجيّاً يهجم علي هارون و المأمون، فلا تقولوا إنّ هذه الروايات ضعيفة لأنّنا لم نعثر في علوم الحياة من مقارنة الفسائل، و في حالات علم الأجنّة و التشريح التطبيقيّ علي أسد ترجع سلسلة نسبه إلي ذوي الخليّة الواحدة للمياه الآسنة.
فكلّ الإشكالات أيّها العزيز إنّما تكمن في إرادتك حصر و تحديد قدرة الله تحت اسم السنّة السنيّة و النهج التكامليّ العجيب المدهش، فتشيح بوجهك عن قدرة الله و تتبع مدرسة المادّيّين التي يشكّل غالبيّتها علماء الحياة و الطبيعة العالميّين، و تردّد نفس كلامهم. لا مفرّ أبداً من هذه السنّة و النظام الذي حدّدناه و شخّصناه، فمن أراد الهرب بأيّ شكل من هذه العلوم فإنّه سيُجبر علي السقوط في أحضانها مرّة اخري؛ فهذه كلام خاطئ و منطق مغلوط، و الله سبحانه يخلق و يفني بإرادته القاهرة كلّ آن ثمانية عشر ألف عالم، بل ملايين العوالم؛ أفيعجز سبحانه بعد هذا عن خلق آدم من الطين، هذا الخلق الذي وجده السيّد داروين غير مستساغ في مذاقه؟!
و علينا و الحال هذه أن نتبع الدليل الإثباتيّ بعد إمكان الدليل الثبوتيّ فنقول. لو وُجدت الحلقة المفقودة أيضاً، و أثبت علماء علما الحياة بشكل قاطع (كما في ٢ × ٢ = ٤) أنّ حلقة كانت قبل الإنسان يمكن إثبات سلسلة نسل البشر بواسطتها إلي الحلقات السابقة؛ فكيف يمكن أن نعلم أنّ خلق آدم كان من سلسلة التوالد و التناسل القديم أم من نفخ روح الله في الطين، بعد أن قلنا و أثبتنا أن كلام الطريقينِ ممكن؟
فيمكن للناقة أن توجد عن طريق الولادة من حيوانين ذكر و انثي، و يمكن أن توجد و تكوّن بإرادة و إعجاز صالح النبيّ فتخرج و تتكوّن من الجبل.
هذان الطريقان لا يفترقان من وجهة نظر الحكمة المتعالية و الفلسفة التوحيديّة، فكيف يتسنّي لنا أن نقول. إنّ هذه الناقة ليست من الجبل، و إنّها لم تكن معجزة، و إنّها ولدت حتماً بطريق الولادة الطبيعيّة؟
هنا يظهر الفارق بين المنكر و المؤمن؛ و الكافر و الموحّد؛ و الملتزم و المتهوّر؛ فمن أصغي السمع لكلام النبيّ صالح فعدّها ناقَةُ اللَّهِ،۱ فهو موحّد حسن العاقبة؛ و من كذّب كلامه فعدّها في سائر النوق فهو مشرك و عاص يتنظر العذاب الإلهيّ.
افتراض العثور علي الحلقة المفقودة لا يكفي لإثبات سنّة التكامل
لقد كان كلامنا في افتراض وجود الحلقة المفقودة و إثبات انحدار نسل البشر إلى الطبقات السابقة و الحيوانات القديمة، حيث إنّ هذه الإثبات يبقى في دائرة الإمكان لا الوقوع الخارجيّ، لأنّ هناك طريقاً آخر يقابل
هذا الطريق المنتهي بسلسلة الأعقاب السالفة قبل الإنسان، و هو طريق ممكن الوجود من وجهة نظر البحث و الدراسة القديمة، و هو حدوث بداية نسل البشر من آدم و زوجه عن طريق تحقّق الإرادة القاهرة للربّ القدير العليم دفعة واحدة بنحو بناء وجودهما من التراب، بلا تغيّر من نوع لآخر. و مادام هذا الطريق ممكناً غير مُغلق فإنّ التقيّد و الالتزام بوجود آدم و حوّاء بداية سلسلة نسل بني آدم من أطوار الأنواع الماضية، سيبقى أمراً لا معنى له.
فطبقاً للُاصول العلميّة من جهة، و لتصريح الآية القرآنيّة من جهة اخرى،۱ بأنّ جميع سلسلة البشر الموجودين حاليّاً على سطح الكرة الأرضيّة يرجعون إلى رجل واحد و امرأة واحدة، لا دخل في بدء نسلهما الأوّلي لسائر الموجودات من ملائكة أو جنّ أو حيوانات، إذاً ينبغي القول بأنّه لو اكتملت أدلّة علماء الحياة، و على فرض وجود الحلقة المفقودة، فيمكن لتلك السلسلة من الإنسان أو الموجودات التي وُجدت بعد الحلقة الأخيرة أن تكون قد فنيت و انقرضت بواسطة الحوادث الخارجيّة التي وُجدت في الأرض طوال مئات الملايين من السنين، من براكين و سيول و طوفانات و زلازل عالميّة و أمثالها التي تحقّق أحد نظائرها و أمثلتها في طوفان نوح فاغرق جميع البشر على سطح الأرض عدا نوح و نسله؛ و أنّ هذه السلسلة البشريّة من بني آدم، المنتهين إلى آدم و حوّاء قد وُجدت دفعة واحدة بأمر الله؛ أو إذا كان هناك زمن و تدرّج لخلقهم من التراب، فمن المسلّم أنّهم لم يجيئوا من حيوان آخر على نحو التوالد
و التناسل.
و لا دليل لدينا لإبطال إمكان الوجود هذا (لا الوجود نفسه)، سواء في الفلسفة الكلّيّة أم في علم الحياة، و إذا ما كان لدى علماء الحياة ما يقولونه خلاف هذا فليدلو بدلوهم!
كلام ابن سينا في وجوب اعتبار ما لم يقم الدليل على بطلانه من الممكنات
يقول الشيخ الرئيس ابن سينا: كُلُّ مَا قَرَعَ سَمْعَكَ مِنَ الغَرَائِبِ فَذَرْهُ في بُقْعَةِ الإمكَانِ مَا لَمْ يَذُدْكَ عَنْهُ قَائِمُ البُرْهَانِ.۱
و يقول في آخر «الإشارات»:
إيَّاكَ أن يَكُونَ تَكَيُّسُكَ وَ تَبَرُّؤُكَ عَنِ العَامَّةِ، هُوَ أنْ تَنْبَرِيَ مُنْكِرَاً لِكُلِّ شَيءٍ. فَذَلِكَ طَيْشٌ وَ عَجْزٌ. وَ لَيْسَ الخَرْقُ في تَكْذِيبِكَ مَا لَمْ يَسْتَبِنْ لَكَ بَعْدُ جَلِيَّتُهُ، دُونَ الْخَرْقِ في تَصْدِيقِكَ مَا لَمْ تَقُمْ بَيْنَ يَدَيْكَ بَيِّنَةٌ! بَلْ عَلَيْكَ الاعْتِصَامُ بِحَبْلِ التَّوَقُّفِ.
وَ إنْ أزْعَجَكَ اسْتِنْكَارُ مَا يُوعَاهُ سَمْعُكَ، مَا لَمْ تَتَبَرْهَنِ اسْتِحَالَتُهُ لَكَ؛ فَالصَّوَابُ أنْ تَسْرَحَ أمْثَالَ ذَلِكَ إلى بُقْعَةِ الإمكَانِ، مَا لَمْ يَذُدْكَ عَنْهُ قَائِمُ الْبُرْهَانِ.٢
كان هذا دليلنا للإمكان الثبوتيّ لخلق آدم و حوّاء بدون أن يكون لهما أب و امّ من الطبقة السابقة.
خلقة عيسى كانت إعجازاً، كخلقة آدم من التراب
أمّا دليلنا الإثباتيّ في تحقّق هذا الإمكان فهو القرآن الكريم، حيث إنّ آياته لها ظهور قريب من النصّ في الدلالة على هذه الحقيقة؛ كالاية المباركة:
إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ.۱
فهذه الآية صريحة في الدلالة على خلق آدم من التراب، و تشبّه خلق عيسى في ولادته الإعجازيّة بلا أب بخلق آدم الإعجازيّ من التراب بمجرّد كلمة كُن الصادرة من ربّ العزّة.
أي لا دلالة لُالوهيّة عيسى لمجرّد أنّ خَلْقَه في بطن امّه مريم دون أن يمسّها بشر، فهو و أبوه آدم قد خُلقا من غير أب؛ و إذا كان فقدان الأب لعيسى دليلًا على الُوهيّته، فعليكم أن تقولوا بالوهيّة آدم المخلوق من التراب وحده بلا أب و بلا امّ أيضاً. لكنّكم لم تقولوا و لن تقولوا بالوهية آدم، فيجب إذاً أن لا تقولوا ذلك في عيسى أيضاً.
و قد تحدّثت الآيات التي سبقت هذه الآية مفصّلًا عن بشارة الملائكة لمريم بأنّ الله يهبها كلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم وجيهاً في الدنيا و الآخرة و من المقرّبين، يكلّم الناس في المهد و كهلًا و من الصالحين؛ فتتساءل مريم: يا الهي! أنّى يكون لي غلام و لم يمسسني بشر؟
فيردّ سبحانه. كذلك! إنّ الله يخلق ما يشاء، إنّما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون!
ثمّ يعدّد القرآن هنا معجزات عيسى على نبيّنا و آله و عليه الصلاة و السلام واحدة واحدة، ثمّ يخاطب نصارى نجران الذين ادّعوا الوهيّة عيسى فيقول بعد الآية السالفة:
فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَ أَبْناءَكُمْ وَ نِساءَنا وَ نِساءَكُمْ وَ أَنْفُسَنا وَ أَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ.۱
أي أنّه نفى ادّعاءهم في عيسى و حذّرهم و دعاهم إلى المباهلة و الملاعنة مبيّناً بإجمال ما سبق أن أوضحه مفصّلًا من الخلق الإعجازيّ لعيسى، الشبيه بخلق آدم، و ذلك ليتمّ الحجّة عليهم بعد فقدانهم الحجّة و البرهان في ردّهم، و على هذا فسيكون معنى الآية. أنّ كيفيّة خلق عيسى هي نظير كيفيّة خلق آدم، فقد جُمعت أجزاؤه من التراب، ثمّ قال لها. كُن فَتَكوّنت بشراً كاملًا بلا أب.
و ينقسم هذا البيان إلى حجّتين، تكفي كلُّ منهما لوحدها لنفي الوهيّة المسيح:
الأولى: أنّ عيسى مخلوقٌ للّه، خَلَقَهُ بهيئة البشر و إن كان بلا أب، و من كانت حاله هكذا فهو عبدٌ للّه، و ليس إلهاً.
الثانية: أنّ خلق المسيح لا يزيد شيئاً عن خلق آدم، فإن اقتضت سنخيّة خلقته أن يقال بالوهيّته، لَوَجَب أن يكون هذا الداعي و المقتضي في خلقة آدم كذلك؛ في حين أنّ النصارى لم يكونوا ليعتقدوا في آدم هذا الاعتقاد، لذا فإنّ عليهم - للمماثلة و المشابهة بين الحالتين - أن يكفّوا عن عقيدتهم هذه في عيسى.
و نلحظ في الآية. أنّ خلق عيسى كخلق آدم، و هو الخلق الطبيعيّ في العالم، و لو أنَّه خارق للسنّة الجارية في النسل حيث يحتاج الطفل في وجوده إلى أب.
و يستفاد من كلمة فَيَكُونُ إرادة الحكاية عن حال الماضي؛ و لا منافاة بين هذه الجملة المضارعة مع كلمة كن الدالّة على عدم التدريج، لأنّ جميع الموجودات - تدريجيّة الوجود كانت أم دفعيّة الوجود - هي مخلوقات الله سبحانه و قد تكوّنت بأمره، أي بنفس كلمة كُن، كما يقول سبحانه. إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ.۱
و من الواضح أنّ التدريج يتحقّق في الكثير من الأشياء تدريجيّة الوجود، قياساً و نسبةً لخصوص أسبابها التدريجيّة الحصول، و إلّا فإنّ قسنا هذه الامور التدريجيّة بالباري تعالى في ذلك المقام الرفيع فلا مهلةَ و لا تدريج، كما يقول سبحانه.
وَ ما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ.٢
و استناداً إلى هذا البيان فإنّ كلمة فيكون لا تختلف أبداً عن كلمة كان، فكمة كُنْ تدلّ على أنّ الله سبحانه لا يحتاج في خلقه الأشياء إلى أسباب ليختلف عنده حال ما يريد خلقه؛ قياساً لذاته القدسيّة؛ بإمكان و استحالة و سهولة و صعوبة، و قرب و بُعد، لاختلاف الأسباب و العلل الدخيلة في إيجاد ذلك الشيء.
فالشيء الذي يريد الله خلقه يقول له كُنْ فيصبح كان، أي أنّ وجوده الخارجيّ قد تحقّق بلا حاجة للأسباب العاديّة التي لها دخل في وجوده.
و هذه الآية للجهتين الآتيتينِ صريحة في خلقة آدم أبي البشر من التراب دفعة واحدة، و إعجازاً بدون العلاقة التناسليّة عن طريق الأب و الامّ.
الجهة الاولى: من منظار معنى و مفهوم نفس الآية، لأنّ وجه تشبيه عيسى بآدم في هذه الآية المباركة ينحصر في جملة خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ؛ و لأنّنا نعلم أنّ عيسى لم يُخلق دفعة واحدة من التراب، و أنّ الله لم يخلق تمثالًا له ابتداءً ليتكوّن و يوجد بنفخ روحه فيه بكلمة كُنْ، بل إنّ امّه مريم عليها السلام قد ولدته بطريقة طبيعيّة بالحمل في البطن و بألم المخاض؛ لذا، فمن المسلّم القطعيّ أن يكون التشبيه بآدم في خلقته الترابيّة هو اللازم الأكيد للخلق من التراب دفعة، و هو فقدان الأب.
أي أنّ عيسى يماثل أيضاً في هذه الخلقة الاستثنائيّة و الخلق بدون أب آدمَ الذي خُلق من تراب بلا أب، فقد خُلقا بأمرٍ حتميّ و كلمة كُن فظهرا على مسرح الوجود.
الجهة الثانية: كان احتجاج و استشهاد القرآن بهذه الآية في معرض الردّ على النصارى المتوهّمين في عيسى المولود بلا أب مرتبة تفوق مرتبة البشريّة، و القائلين له بمرتبة تعادل الالوهيّة.
ردّ الآيات القرآنيّة على الطوائف المسيحيّة الثلاث المعتقدة بالوهيّة المسيح
و قد انقسم النصارى وفق الآيات القرآنيّة إلى ثلاث فرق، و هي مرفوضة من وجهة نظر العقائد التوحيديّة.
الفرقة الاولى: اولئك القائلون بأنّ عيسى المسيح أحد الاصول الثلاثة القديمة الأقانيم الثلاثة، فكانوا يظنّونه ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ؛ كما تشير الآية: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ.۱
أي اولئك القائلون بالاصول القديمة الثلاثة، أوّلها الذات التي يعبّرون عنها بـ الأب. و ثانيها: الحياة التي يعبّرون عنها بـ رُوحُ القُدُسِ. و ثالثها: العِلم الذي يعبّرون عنه بـ الابن.
فكانوا يدعون كلًّا من هذه الاصول الثلاثة بـ الاقْنُوم، الأب و الابن و روح القدس التي يعتبرونها الله و الأصل و القديم، و هم معروفون و مشهورون في اعتقاداتهم باسم. الأب و الابن و روح القدس.
و يقول في القرآن الكريم في ردّهم و نهيهم:
وَ لا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ.۱
الفرقة الثانية: اولئك القائلون إنّ عيسى ابن مريم هو الله نفسه؛ فيردّ القرآن عليهم: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ.٢
و الفرقة الثالثة: القائلون بأنّ المسيح ابن الله، كما يقول القرآن الكريم: و قالت إليه ود عزير ابن الله و قالت النصارى المسيح ابن الله.٣
و بناء على هذه الاعتقادات الثلاثة التي يعتقدها المسيحيّون في عيسى فإنّهم ينقسمون إلى ثلاث طوائف: المَلْكَائِيّة، و النَّسْطُورِيَّة، وَ إلى عْقُوبِيَّةِ.
و لأنّ هذه العقائد كفر بأجمعها وفق المنطق القرآنيّ، و لأنّ النصارى الذين يحملون أمثال هذه العقائد في المسيح يستدلّون عليها بانعدام وجود أب له، فيقولون: إنّ جميع أفراد البشر يولدون من أب، لكنّ عيسى جاء إلى الدنيا بغير أب، فمن الواضح أنّه ليس من سنخ البشر، بل هو من عالم
الربوبيّة و اللاهوت؛ فقد وجّه القرآن هذه الآية في ردّ هذه الطائفة، ثمّ قال:
الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ.۱
ثمّ دعاهم القرآن بعد هذه الآية إلى المباهلة و الملاعنة بآية:
فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ.
فيمكن الردّ بآية: إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ، على النصارى في هذه الاحتجاج و الاستشهاد فيما إذا كان المراد من خلقة آدم من التراب في هذا الوجه من المشابهة هو عدم ولادة آدم من أب. فيقول: إنّ عيسى و إن اختصّ بخلقه و تكوينه في مجيئه إلى مسرح الظهور بلا أب، لكنّ هذا التكوّن الخاصّ لا يستلزم ارتفاعه إلى مرتبة الالوهيّة و الربوبيّة، لأنّ آدم أيضاً يماثله في الخلق و الوجود الخاصّ و ولادته من التراب بلا أب و بلا امّ أيضاً، لذا فإنّ عليكم إمّا أن تقولوا بالوهيّة آدم أيضاً - في حين أنّكم لا تفعلون ذلك - أو أن تقولوا ببشريّة عيسى.
آيات القرآن تبطل نظريّة المعتقدين بتغيّر الأنواع بشأن آدم
لكنّ القائلين بتكامل الأنواع و تطورّها، و المعتبرين آدم مولوداً من أب و امّ عن طريق التناسل يقولون في شأن هذه الآية الكريمة.
إنّ المراد من خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ليس الخلق الإعجازيّ لآدم من تمثال من الطين على هيئة آدم، بل إنّ المراد هو أنّ أصل جميع الأشياء من التراب، فالأغذية و الأطعمة و اللحوم و الفواكه و الخضروات التي تسبّب تكوّن النطفة من التراب، لذا فإنّ خلقة آدم من التراب أيضاً، و أنّ الله يريد في هذه الآية بيان هذا القدر فقط؛ أنّ عيسى ابن مريم أيضاً قد خُلق من
التراب على مثال آدم الذي كان من التراب.
و لقد كانت خلقة عيسى حسب المنوال الطبيعيّ و لم تكن خرقاً للعادة، فقد اتّضح من وجهة نظر علوم الحياة أنّ بعض النساء يقمن بإنتاج الحيامن و البويضات في نفس الوقت.
فيريد أن يقول الله هنا إنّ خلقة عيسى لم تكن خارجة عن سير الطبيعة و العادة، مثله كآدم الذي وُجد من التراب بواسطة الأصل الكلّيّ للتوالد و التناسل.
و قالوا بشأن كلمة كُن فَيَكُونُ إنّ معناها أنّ الله قال لآدم صفوته. كن عالماً؟ أو كن نبيّاً! أو كن موجوداً منتخباً من بين الأنواع! فكان هكذا، كما قال لعيسى. كن عالماً! و كن نبيّاً! و كن ذا معجزة! فَنادى امّه حين وُلد. أن ألّا تحزني قد جعل ربّك تحتك سريّاً.
و في هذا التفسير إشكالان:
الإشكال الأوّل: إنّ وجه تشبيه عيسى بخصوص آدم أمر خاطئ، إذ بناء على هذا التفسير في أنّ ترابيّة آدم من جهة أنّ أصله كان من مادّة التراب فإنّ جميع أفراد البشر هم من هذا القسم. و ينبغي على هذا أن يقول: إنّ مثل عيسى عند الله كمثل سائر الناس.
فالقرآن كلام الله، و قوله فصل ليس بالهزل، فإنّه إن جاء و خصّص في قوله آدم بهذا التشابه بالرغم من وجود الاشتراك في وجه الشبه في جميع بني آدم و جميع الناس من زمن آدم إلى قيام القيامة، فلا يُحمل ذلك إلّا على الخطأ و الاشتباه، و لن يمكن تصوّر محمل آخر له.
و على هذا فإنّ تشبيه عيسى بآدم، أي الاسم الخاصّ و العَلَم لرأس سلسلة نسل البشر - لا اسم الجنس كلفظ إنسان و بشر الذي يُطلق على جميع الأفراد - لا يمكن أن يكون له وجه إلّا الخصوصيّة التي كانت في آدم
نفسه، لا في سائر الأفراد، و لا يمكن لتلك الخصوصيّة أن تكون غير خلقه الإعجازيّ من التراب بدون وساطة الأب.
الإشكال الثاني: كانت هذه الآية - كما هو الحال في الآيات التي سبقتها و التي بعدها و التي ذكرنا أيضاً مفهومها هنا - ردّاً على المسيحيّين الذين اعتقدوا لعيسى - من وجهة عدم وجود أب له - مرتبة أعلى من البشريّة و صعدوا به إلى عالم الالوهيّة، و في هذه الحالة و بناء على هذا التفسير فلن يكون هناك ردّ عليهم.
فالمسيحيّون يقولون. بما أنّ المسيح يمتلك خلقاً استثنائيّاً، و قد جاء ظهوره بدون أب، فهذا الظهور هو ظهور الله؛ و إذا ما قيل في جوابهم إنّ خلقته عاديّة و غير استثنائيّة، و إنّه جاء كسائر بني آدم بالطريق الطبيعيّ فإنّهم لن يقبلوا بذلك، أي أنّ هذا المنطق لن يغلق أمامهم طريق الاستدلال.
فمقولة المسيحييّن هي أنّ عيسى لا يشبه سائر أفراد البشر، لذا فهو إله، و إذا ما قلنا في جوابهم إنّه يشبه سائر أفراد البشر و هو ليس بدليل، لأنّه سيكون نفياً لادّعائهم بلا دليل، أي أنّه سيكون مصادرة بالمطلوب.
و يتّضح هنا أنّ ما جرت مناقشة في كتاب «خلقت انسان» (=خلق الإنسان) حول هذه الآية، و ما سعى إليه المؤلّف، سواء في متن الكتاب أو في البحث و التوضيح الإضافيّ الذي الحق به، في إسقاط هذه الآية من الظهور في خلقة آدم من التراب بلا أب و بشكل إعجازيّ، كان غير موفّق و غير تامّ.۱
و الأعجب من هذا فقد ادّعى المؤلّف صراحة أنّ جميع الآيات القرآنيّة المتعلّقة بالخلقة من التراب و الطين و أمثالهما ترجع إلى لفظ إنسان، و هو اسم عامّ، أمّا ما يخصّ آدم، أي الاسم الخاصّ، فليس لدينا أبداً في القرآن آية ذات دلالة على أنّه خُلِق من التراب.۱
و لست أدري كيف تغافل عن عبارة كمثل آدم خلقه مِن تُرَابٍ مع أنّه أورد الآية مورد البحث في موضعين في كتابه.٢
و يتّضح من هذا البيان أيضاً أنّ ما بُحث في كتاب «تكامل در قرآن» (=التكامل في القرآن) لتفسير عقيدة التكامل من هذه الآية ليس تامّاً، فقد جاء في هذا الكتاب. أنّ الآية المبحوث عنها هنا تكفي في ردّهم و تخطئة أوهامهم بالإشارة إلى تشبيه عيسى بآدم، و مفادها أنّه كما خلق الله آدم من تراب ثمّ قال له كن، فكذلك خلق عيسى من تراب ثمّ قال له كن، فلو كان هذا النحو من الخلقة مقتضياً للُالوهيّة لكان آدم أيضاً إلهاً، بل كان كلّ من يشترك معه في التكوّن من تراب إلهاً أيضاً - انتهى.٣
و ورد كذلك. أنّ المعتقدين بالتكامل يقولون أن لا إشكال في مماثلة
عيسى لآدم في التكوّن من تراب و غذاء و نطفة و علقة إلى الولادة فما بعدها، و لا إشكال أيضاً في أنّ الله قد وهب لعيسى العقل و العلم و الإدراك، أو وهب تلك الامور مع النبوّة في أوائل تولّده على نحو الإعجاز و الخرق لناموس التكوين، كما أعطى لآدم كذلك العقل أو العلم و النبوّة بنفس الطريقة، فوجه الشبه في الآية هو المماثلة في الخلقة و العلم، و معنى قوله كن أي كن عاقلًا عالماً أو عالماً نبيّاً - انتهى.۱
دلالة آية «وَ بَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ» على فطرة آدم من الطين
و من جملة الآيات التي لها دلالة على أنّ مبدأ خلقة الإنسان (آدم) كان من الطين هذه الآيات الثلاث:
الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَ بَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ ، ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ ، ثُمَّ سَوَّاهُ وَ نَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَ جَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَ الْأَبْصارَ وَ الْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ.٢
يقول في «مجمع البيان». السُّلَالَةُ الصَّفْوَةُ التي تَنْسَلُّ أي تُنْزَعُ مِنْ غَيْرِهَا، وَ يُسَمَّى مَاءُ الرَّجُلِ سُلَالَةً لَانْسِلَالِهِ مِنْ صُلْبِهِ٣.
قال العلّامة الطباطبائيّ قدّس الله سرّه. في هذه الآية وَ بَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ، المراد بالإنسان النوع، فالمبدو خلقته من طين هو النوع الذي ينتهي أفراده إلى مَن خُلق من طين من غير تناسل من أب و امّ كآدم
و زوجه عليهما السلام، و الدليل على ذلك قوله من بعده: ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ، فالنسل الولادة بانفصال المولود عن الوالدين، و المقابلة بين بدء الخلق و بين النسل لا يلائم كون المراد ببدء الخلق بدء خلق الإنسان المخلوق من ماء مهين، و لو كان المراد ذلك لكان حقّ الكلام أن يقال: ثُمَّ جَعَلَهُ سُلَالَةً مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ، فَافْهَمْهُ.۱
و كان مقصوده بهذا البيان. أنّ مجيء كلمة نسل هنا بشكل حتميّ تدلّ على مغايرة كيفيّة خلقة بدء الإنسان مع كيفيّة خلقة ذرّيّته و أولاده، لذا لا يمكن اعتقاد بدء خلق الإنسان من نوع آخر بالتوالد والتناسل و النطفة التي هي سلالة من ماء مهين. و هو يردّ بهذا البيان على تفسير و تعبير الذين يعتبرون البشر نوعاً مبتذلًا من أنواع اخرى.
يقول الحقير: و مضافاً إلى ذلك و أكثر، فإنّ هذا البيان ردّ على الذين حملوا هذه الآية على مبدأ خلقة الإنسان و بقيّة الموجودات من الطين الأوّل، أي من تلك الخلايا و الموجودات ذوات الخليّة الواحدة.
و المراد بنسله عندهم نُطَفُ أنواع الحيوانات و الناس السابقين قبل ولادة آدم، و حملوا تسويته على خلقة الإنسان الكامل من جميع الجهات كآدم، التي اكتسب بها قابليّة السمع و البصر و الفؤاد و صار لائقاً لمقام العلم و المعرفة و شكر الخالق.
يقولون: إنّ هذه الآيات الثلاث تبيّن بالترتيب ثلاث دورات مختلفة لنشوء الإنسان:
الدورة الاولى: حين كان الإنسان طيناً، و لم تكن الموجودات ذوات الخلايا الواحدة قد ظهرت: وَ بَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ.
الدورة الثانية: حين نشأت الخلايا و بدأت بالتكاثر، فظهرت أنواع بعد أنوع اخرى بالتكاثر في النسل: ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ. أي أنواع النطف، إذ من غير ذوي الخلايا الواحدة فإنّ الجميع يحتاج في تكاثره إلى ذكر و انثى و فعل و انفعال.
آية «ثُمَّ سَوَّاهُ وَ نَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ» لا تدلّ على عقيدة التكامل
الدورة الثالثة: تسوية الإنسان الكامل و منحه من بين جميع طبقات الحيوانات السابقة هيكلًا بدنيّاً قابلًا من الناحية الفسلجيّة للأعضاء السمعيّة و البصريّة و القوى الفكريّة.
ثُمَّ سَوَّاهُ وَ نَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ.۱
أقول: يجعل التفسير بهذا النمط كلمة نَسْلَهُ زائدة و غير ضروريّة، لأنّ الله قد خلق مبدأ الإنسان من طين، ثمّ جعله يتقلّب بهيئة النطف المختلفة في العصور و الدهور حتى سوّاه و نفخ فيه من روحه؛ أي أنّ هذا التفسير سيجعل كلمة نَسْلَهُ زائدة لا مكان لها، لذا فبعد أنّ التفت المؤلف إلى هذا التزاحم، ترجم عبارة ثم جعل نسله من ماء مهين بهذه الصورة. (سپس او را از عصارهاي از آب ناچيز قرار داد).٢
و ما أيّده هو و صاحبُ كتاب «التكامل في القرآن» أكثر هو مجيء لفظ ثُمَّ فِي الآية التاسعة: ثُمَّ سَوَّاهُ وَ نَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ، لأنّ ثُمَّ في اللغة تفيد التعاقب مع التراخي و الفاصلة، و لو تركنا هذا اللفظ بهذا المعنى فسيلزم أن تكون التسوية و نفخ الروح في آدم أبي البشر بعد نشوء ذرّيّته
و أولاده، على ما يقتضيه سياق الآية الثامنة: ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ ... ثُمَّ سَوَّاهُ وَ نَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ، و إن سلخنا لفظ ثمّ عن هذا المعنى و أخذناه بمعنى واو العطف، أو اعتبرناه للتراخي في حكاية الحال، لكنّا قد عملنا في هذه الحالة خلاف الظاهر و خلاف الأصل.۱
أقول: يَرِد هذا الإشكال في حالة رجوع ثُمَّ سَوَّاهُ وَ نَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ إلى المطلب الأوّل في الآية الثامنة، أمّا إذا كانت راجعة لكلتا الآيتين و كلا المطلبين، فالمعنى صريح جدّاً و واضح. و الظاهر أنّه يجب اعتباره مرتبطاً بكلتا الآيتين، فيكون المعنى. ثمّ بدأ خلق الإنسان الذي كان مبدأ خلقته من الطين و نسله من سلالة من ماء مهين فسوّاه و نفخ فيه من روحه.
و على هذا فإنّ تسوية الإنسان و نفخ الروح فيه بعد خلق الإنسان من الطين في آدم أبي البشر، و بعد جعل نسله بشكل نطفة، و طيّ مدارج الحمل من العلقة و المضغة و العظام و إكساء العظام لحماً في أولاد آدم و ذرّيّته. و هذا هو التفسير الذي قال به العلّامة قدّس الله سرّه.٢
آيات سورتي المؤمنون و السجدة تدلّان على خلق آدم من الطين
و ينبغى العلم أنّ التفسير الذي بيّنه العلّامة قدّس الله سرّه هنا في شأن هذه الآية الكريمة: وَ بَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ ، ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ، هو عين التفسير الذي أورده للآيات الواردة في سورة المؤمنون:
وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ، ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ ، ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ
الْخالِقِينَ.۱
فقد أورد العلّامة في تفسير هذه الآيات أنّ السُّلَالَة اسم لِما يُسلّ من الشيء، كالكُساحة اسم لِما يُكسح. و ظاهر السياق أنّ المراد بالإنسان هو النوع، فيشمل آدم و من دونه، و يكون المراد بالخلق الخلق الابتدائيّ الذي خلق به آدم من الطين ثمّ جعل النسل من النطفة، و تكون الآية و ما بعدها في معنى قوله: وَ بَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ ، ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ،٢ و يؤيّده قوله بعده: ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً، إذ لو كان المراد بالإنسان ابن آدم فحسب و كان المراد بخلقه من طين انتهاء النطفة إلى الطين، لكان الظاهر أن يقال. ثُمَّ خَلَقْنَاهُ نُطْفَةً كما قيل: ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً، إلى آخره.
و بذلك يظهر أنّ قول بعضهم إنّ المراد بالإنسان جنس بني آدم، و كذا القول بأنّ المراد به آدم عليهالسلام غير سديد.
و أصل الخلق؛ كما قيل؛ التقدير، يقال خَلَقْتَ الثَّوْبَ إذَا قِسْتَهُ لِتَقْطَعَ مِنْهُ شَيْئاً مِنَ اللِّبَاسِ، فالمعنى. وَ لَقَدْ قَدَّرْنَا الإنْسَانَ أوَّلًا مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ أجْزَاءِ الأرْضِ المَخْلُوطَةِ بِالمَاءِ.٣
و على هذا التفسير فإنّ ما يستفاد من كلامه أنّ سرّ هذا التفسير يكمن في المجيء بكلمة جَعَلَ بدل كلمة خَلَقَ في الآية ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ. أي أنّنا جعلنا الإنسان بعد خلقه البَدْويّ في رحم امّه بصورة نطفة،
و لم يقل ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ. أي أنّنا كوّنّا الإنسان بعد خلقه البدْويّ في رحم امّه نطفة و أبدلناه في سيره التكامليّ بنطفة.
فالفرق بين كلمة جَعَلَ و خَلَقَ أنّ الجعل مجرد الوضع و الإقرار، أمّا الخلق فعبارة عن الإبداع و الإحداث، و هو تسديد الشيء من قياساته و أبعاده و تبديل ماهيّته و صورته الأوّليّة.
فإن كان المراد من الآية تطوّر حالات الإنسان من بداية المرحلة الترابيّة من عصارة و سلالة الأرض في الفواكه و الخُضَر و الحبوب و اللحوم و الدسوم التي ستتبدّل من ثَمّ في بدن الإنسان إلى دم و من ثمّ تتبدّل إلى نطفة، فيجب أن يقول إنّنا جعلنا بدء خلق الإنسان من سلالة الطين، ثمّ خلقناه و بدّلناه بصورة و ماهيّة نطفة في رحم امّه، كما هو الأمر في السير التكامليّ بعد النطفة، أي الإنشاء و الخلق الجديد في حالات النطفة و تطوّراتها، كما قال: ثُمَّ خَلَقْنَا و بدّلنا النُّطْفَةَ بصورة و ماهيّة العلقة فَخَلَقْنَا و بدّلنا العَلَقَةَ بصورة و ماهيّة المضغة فخلقنا العلقة مضغة، لأنّه يبيّن فقط في هذا الفرض التطوّرات و الحالات المختلفة لسلالة التراب التي طوتها من بدء خلقتها حتى صيرورتها إنساناً كاملًا خَلْقًا بَعْدَ خَلْقٍ و تبديلًا بعد تبديلها السابق حيث طوت مراحل و منازل معيّنة، و على هذا الفرض فإنّ الإتيان ابتداءً بعبارة الخلق: وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ و ذِكْر التطوّرات بعد النطفة بعبارة الخلق أيضاً: ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً، ثمّ العدول بين هاتين الفقرتين من كلمة خَلَقَ إلى جَعَلَ و القول: ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ سوف لن يُحمل إلّا على اللغو و الخطأ و عرض المقصود بعبارة تدلّ على خلافه وَ حَاشَا لِلْقُرْآنِ أن يَكُونَ فِيهِ بَاطِلٌ وَ هَزْلٌ «إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ ، وَ ما هُوَ بِالْهَزْلِ».
آية «ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً» تدلّ على خلقة آدم من سلالة الطين
و هذا دليل قطعيّ على أنّ الإنسان المراد به في هذه الآية ليس نوع بني
آدم، و لم يكن المقصود من الآية هو السير التكامليّ في الحالات المختلفة، بل إنّ الإنسان بما هو إنسان عموماً من آدم و بني آدم، و المراد من خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ابتداؤه، أي آدم، فهو الذي خلقه الله من سلالة من طين. و المراد من ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ نشوء الإنسان بعد آدم، و المتحقّق من النطفة عن طريق التوالد و التناسل.
و المراد بالسلالة هنا العصارة و الخلاصة و الجوهرة المستخلصة من الأرض، لا الحيوانات الأوّليّة و ذوي الخلايا الواحدة؛ و على هذا فإنّ مفاد هذه الآية التي وردت فيها عبارة سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ لا يختلف عن مفاد آية السجدة التي وردت فيها عبارة بَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ. بل هو مفاد واحد.
و سيظهر الفرق بين سلالة من طين و نفس الطين فيما لو أخذنا المراد بالسلالة تبعاً لتفسير القائلين بتكامل الخلايا الأوّليّة و الأنسجة المفردة.
و على هذا، فقد كان ينبغي للآية أن تشير إلى مسارها بإراءة المسير التكامليّ للإنسان، و بيان الحالات و التطوّرات الحاصلة في الموجود الواحد، و هو ما يتنافى و استعمال كلمة ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً التي كان ينبغي أن يكون بدلها ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً، أي أنّنا خلقنا الإنسان أوّلًا من نسيج مفرد و خليّة حيّة موجودة في المستنقعات و المياه الآسنة و الحمأ المسنون الناشئ فوق الأرض من الطين و الماء، ثمّ بدّلنا تلك الخليّة و النسيج بعد تطوّرات و تغيّرات أنواع في الماهيّة و الموجوديّة نطفة في الرحم، ثمّ خلقنا و بدّلنا النطفة أيضاً في ماهيّة و موجوديّة العلقة.
لكنّ معنى الآية ليس هكذا، بل إنّ معناها أنّنا خلقنا الإنسان من سلالة الطين، ثمّ جعلناه بشكل و صورة نطفة في الرحم؛ و الجعل غير الخلق. فتعبير و تفسير العلّامة، و النكتة البديعة الدقيقة التي أفادها من الآية
في خلق آدم من الطين أو من سلالة الطين، و كذلك عين عباراته التي أوردناها و التي استُفيدت نكاتها جميعاً من الفرق بين لفظ جَعَلَ و خَلَقَ، إنّما تشهد جميعها على دقّة النظر و طريق سدّ الشبهات.
استدلال بعض القائلين بالتكامل بآيات القرآن يفتقر إلى الأساس و البرهان
و يعترض في كتاب «التكامل في القرآن» على العلّامة بعد بيان تفسيره لنشوء آدم من الطين في هذه الآية: وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ، فيقول: العجب منه كيف ألغى في تفسيره الآية معنى السلالة بالكلّيّة مع أنّه قد نقل عن «مجمع البيان» معناها قبيل هذا الكلام، لكنّه أسقطها في إيضاح معنى الآية فأوجب الخلط و التغيير في معنى الآية.۱
و الجواب: أنّ العلّامة لم يسقط كلمة سلالة حين التفسير، ولكن بما أنّ فقرة ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً التي جاءت بـ جَعَلْناهُ و لم تأتِ بـ خَلَقْنَاهُ، فقد عدّ الآية ذات مفاد واحد مع الآية: وَ بَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ، لذا فإنّ مجيء جَعَلْناهُ بدل خَلَقْنَا دليل على منعنا من عدّ الآية في سياق بيان مدارج الإنسان التكامليّة، بل ينبغي عدّها في معرض بيان خلقته الأوّليّة، أي خلقة آدم من الطين و خلقة نسله من النطفة. و في هذه الحال فما الفرق بين أن نقول إنّه خُلِقَ من الطين، أو من سلالة الطين؟ فكلاهما له نفس المفاد و المفهوم.
أمّا إذا أخذنا سُلالَةٍ بمعنى الخليّة الأوّليّة؛ كما استند في كتاب «التكامل»؛ فبالرغم من أنّ سلالة من طين ستعطي مفهوماً مغايراً لمفهوم نفس الطين حيث غفلوا عن استعمال عبارة ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً و أخذوا في السياق معنى جَعَلْنَا بمعنى خَلَقْنَا، ثمّ أنهى البحث بهذا الترتيب، فتأمّل!
و قد سار مؤلّف كتاب «خلقت إنسان» على هذا النهج فاعتبر كلمة سُلالَةٍ في هذه الآية بمعنى الخليّة الأوّليّة، ثمّ توسّع في ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً
و اعتبر هذه النطفة التي جاءت نكرة علامة إبهام ذات مفهوم كلّيّ، فهي تشمل جميع نطف الحيوانات من الأنواع السابقة التي تمثّل بنظره حلقات في سلسلة آباء و أجداد آدم.۱
و كان هذا دليلًا في نظره على نشوء الإنسان و ارتقائه و تكامله من الخليّة الواحدة الموجودة أوّل الخلقة، و بما أنّه كان يريد استنتاج التكامل ضمن بحث طويل، فقد تشبّث بمطالب غير محكمة من جهة فنّ الأدب و العربيّة و البرهان.٢
و قد غفل في هذا الاستدلال أيضاً عن عبارة ثُمَّ جَعَلْناهُ.
و يتّضح ممّا أوردنا في هذا البحث عن الاستاذ العلّامة أنّ استدلال صاحب كتاب «خلق الإنسان» لم يستند على أساس معيّن، إذ إنّ رمز التفسير
الصحيح لهذه الآية هو التوجّه إلى كلمة جَعَلْناهُ، كما أنّ رمز التفسير الصحيح للآية السابقة هو التوجّه إلى لفظة نُسْئَلُ الذي جيء به معطوفاً على الخلقة الاولى للإنسان. ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ.
علماء طبقات الأرض لا يملكون دليلًا على اتّصال هذا النسل بالامم
إنّ الآية الدالّة على أنّ جميع أفراد البشر على الكرة الأرضيّة يرجعون إلى نفس الأب و الامّ على طول سلسلة التوالد و التناسل هي آية: يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَ خَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَ بَثَّ مِنْهُما رِجالًا كَثِيراً وَ نِساءً وَ اتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَ الْأَرْحامَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً.۱
فخطاب الآية عامّ لجميع الناس: يا أَيُّهَا النَّاسُ، و قد عدّهم مخلوقين من أب واحد و امّ واحدة، بالنحو الذي بثّ على الأرض منهما الكثير من الرجال و النساء.
فيستفاد أوّلًا: أنّ جميع الناس، من أيّة طائفة و أصل كانوا، و على أيّة بقعة يعيشون - في وسط المعمورة أم في أقصاها، و في جزر أمريكا الشماليّة أم الجنوبيّة التي تفصل بينهما المحيطات المائيّة - إنّما يرجعون إلى زوجين اثنين كانا على رأسهم و السبب في ظهورهم و نشأتهم، ثمّ حدثت هذه الفاصلة بواسطة الحوادث الجويّة و الأرضيّة، من الصواعق و العواصف و السيول طوال مدّة عمر الأرض المديدة التي لا يعرف قدرها تحديداً، فسبّب انفصال و افتراق هاتين المجموعتين عن بعضها.
و مع أنّنا نمتلك حاليّاً تأريخ ستّة الآف سنة فقط، لكنّ علماء طبقات الأرض و علماء الفسائل قد ذكروا أنّ عمر الإنسان على الأرض يزيد على خمسمائة ألف سنة.
قال الاستاذ العلّامة الطباطبائيّ قدّس الله سرّه:
و ظاهر السياق أنّ المراد بالنفس الواحدة آدم عليهالسلام، و من زوجها زوجته؛ و هما أبوا هذا النسل الموجود الذي نحن منه و إليه ما ننتهي جميعاً على ما هو ظاهر القرآن الكريم، كما في قوله تعالى: خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها۱ و قوله تعالى: يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ٢، و قوله تعالى حكاية عن إبليس. قالَ أَ رَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا.٣
ثمّ يقول في بحث مستقلّ في عمر نوع الإنسان و الإنسان الأوّليّ بعد بسط القول في كلام علماء طبقات الأرض المعتقدين بأنّ عمر هذا النوع من الإنسان يزيد على ملايين السنين، و قد وجدوا من الفسائل الإنسانيّة و الأجساد و الآثار ما يتقدّم عهده على خمسمائة ألف سنة على ما استظهروه. فهذا ما عندهم غير أنّه لا دليل معهم يقنع الإنسان و يرضى النفس باتّصال النسل بين هذه الأعقاب الخالية و الامم الماضية من غير انقطاع. فمن الجائز أن يكون هذا النوع ظهر في هذه الأرض ثمّ كثر و نما و عاش ثمّ انقرض ثمّ تكرّر الظهور و الانقراض، و دار الأمر على ذلك عدّة أدوار، على أن يكون نسلنا الحاضر هو آخر هذه الأدوار.
أمّا القرآن الكريم فإنّه لم يتعرّض تصريحاً لبيان انحصار ظهور هذا النوع في هذه الدورة التي نحن فيها أو أنّ له أدواراً متعدّدة نحن في
آخرها، و لو أنّه يمكن استشمام هذا المعنى من قوله تعالى: وَ إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَ تَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَ يَسْفِكُ الدِّماءَ،۱ حيث يمكن الاستشمام من هذه الآية بسبق دورة اخرى للإنسانيّة تقدّمت على دورتنا، و قد تقدّمت الإشارة إلى هذا المعنى في تفسير الآية.
نعم، في بعض الروايات الواردة عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام ما يثبت للإنسانيّة أدواراً كثيرة قبل هذه الدورة.٢
الروايات الواردة في أنّ الله خلق قبل آدم دورات من البشر
و أورد في البحث الروائيّ: ورد في كتاب «التوحيد» عن الصادق عليه السلام، قال: لَعَلَّكَ تَرَى أنَّ اللهَ لَمْ يَخْلُقْ بَشَرَاً غَيْرَكُمْ؟ بَلَى وَ اللهِ لَقَدْ خَلَقَ ألْفَ ألْفَ آدَمَ؛٣ أنْتُمْ في آخِرِ اولَئِكَ الآدَمِيِّينَ.
و نقل ابن ميثم في «شرح نهج البلاغة» عن الباقر عليهالسلام ما في معناه، و أورده الصدوق في «الخصال» أيضاً.
و ورد في كتاب «الخصال» عن الصادق عليهالسلام، قال:
إنَّ اللهَ تعالى خلق اثني عشر ألف عالم كل عالم منهم أكبر من سبع سماوات و سبع أرضين ما يرى عالم منهم أن لله عز و جل عالما غيرهم.
و ورد في «الخصال» عن الباقر عليهالسلام أنّه قال:
لقد خلق الله عز و جل في الأرض منذ خلقها سبعة عالمين ليس هم
من ولد آدم خلقهم من أديم الأرض فأسكنهم فيها واحدا بعد واحد مع عالمه ثم خلق الله عز و جل آدم أبا البشر و خلق ذريته منه – (الحديث).۱
و قال أيضاً: هناك آثار أرضيّة كثيرة تدلّ على تغييرات هامّة في سطح الأرض بمرور الدهور من تبدّل بحر إلى برّ و بالعكس، و سهل إلى جبل و بالعكس، و ما هو أعظم من ذلك كتبدّل القطبينِ إلى منطقة البروج على ما تشرحه علوم طبقات الأرض و الهيئة و الجغرافية. ثمّ يقول بعد ذكر آيات من القرآن مرّت في مطاوي بحثنا.
فإنّ الآيات كما ترى تشهد بأنّ سنّة الله في بقاء هذا النسل أن يتسبّب إليه بالنطفة، لكنّه أظهره حينما أظهره بخلقه من تراب، و أنّ آدم خلق من تراب، و أنّ الناس بنوه، فظهور الآيات في انتهاء هذا النسل إلى آدم و زوجته ممّا لا ريب فيه و إن لم تمتنع من التأويل.
المراد من آدم في القرآن آدم الشخصيّ لا آدم النوعيّ
و قال البعض: إنّ المراد بآدم في آيات الخلقة و السجدة لآدم. النوعيّ دون الشخصيّ، كأنّ مُطلق الإنسان من حيث انتهاء خلقه إلى الأرض و من حيث قيامه بأمر النسل و الإيلاد سُمّي بآدم، و ربّما استظهر ذلك من قوله تعالى: وَ لَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ،٢ فإنّه لا يخلو من إشعار بأنّ الملائكة إنّما امروا بالسجدة لمن هيأه الله لها بالخلق و التصوير، و قد ذكرت الآية أنّه جميع الأفراد لا شخص إنسانيّ واحد معيّن حيث قال: وَ لَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ إلى آخر الآية، و هكذا قوله تعالى:
قالَ يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ - إلى أن قال: قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَ خَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ إلى أن قال: قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ، إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ.۱
حيث أبدل ما ذكره مفرداً أوّلًا مثل خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي إلى الجمع ثانياً مثل لَأُغْوِيَنَّهُمْ. و يردّه مضافاً إلى كونه على خلاف ظاهر ما نقلناه من الآيات ظاهرُ قوله تعالى بعد سرد قصّة آدم و سجدة الملائكة و إباء إبليس في سورة الأعراف:
يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما،٢ فظهور الآية في شخصيّة آدم ممّا لا ينبغي أن يرتاب فيه، و كذا قوله تعالى: وَ إِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قالَ أَ أَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً.
قالَ أَ رَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا،٣ فواضح في هذه الآية بعد ذكر آدم الشخصيّ أنّ الشيطان يريد إغواء ذرّيّته من ولد آدم. و كذا الآية المبحوثة. يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَ خَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَ بَثَّ مِنْهُما رِجالًا كَثِيراً وَ نِساءً إلى آخر الآية بالتقريب الذي مرّ بيانه.
فالآيات - كما ترى - تأبى أن يسمّى الإنسان آدم باعتبار و ابن آدم باعتبار آخر، و كذا تأبى أن تنسب الخلقة إلى التراب باعتبار و إلى النطفة
باعتبار آخر، و خاصّة في مثل قوله تعالى: إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ، و إلّا لم يستقم استدلال الآية على كون خلقة عيسى استثنائيّة ناقضة للعادة الجارية. فالقول بآدم النوعيّ في حدّ التفريط؛ و الإفراط الذي يقابله قول بعضهم إنّ القول بخلق أزيد من آدم واحد كفر. ذهب إليه زين العرب من علماء السُّنّة.۱
و يستفاد ثانياً: أنّ الطبقة الاولى من الإنسان كانت عبارة عن آدم و زوجه، اللذين تكاثرا عن طريق التزواج فأولدا بنين و بنات؛ و الكلام هنا في كيفيّة تكاثر نسل هؤلاء الأولاد مع أنّهم كانوا كلّهم إخوة و أخوات. فهل تحقّق ذلك فيما بينهم؟! أو تمّ بطريقٍ آخر؟
ظاهر القرآن أنّ نكاح أولاد آدم كان فيما بينهم
يشير ظاهر الآية المذكورة: وَ بَثَّ مِنْهُما رِجالًا كَثِيراً وَ نِساءً، إلى اتّصال هذا النسل الموجود بآدم و زوجه بلا مشاركة من الغير، ذكراً كان أم انثى، لأنّ القرآن حين عبّر بـ بَثَّ لانتشار ذلك النسل فإنّه لم يُشِر إلى غير ذينك الشخصين، فلو كان قد شاركهما في هذا النسل غيرهما، لقال: وَ بَثَّ مِنْهُمَا وَ مِنْ غَيْرِهِمَا، أو عبارة اخرى تشبهها.
و حين نعتبر مبدأ التوالد و التناسل منحصراً في آدم و زوجه فيستوجب أن يكون التزاوج قد حصل بين البنين و البنات. و قد ورد في هذا الخصوص من جهة دلالة الروايات مضمونان متفاوتان، الأوّل: أنّ التزواج حصل - كما تفيد الآية - بين الإخوة و الأخوات، و هو أمر لا يستلزم إشكالًا، لأنّ حرمة نكاح الاخت إنّما تكون بتشريع الله سبحانه، في حين لم يكن للناس قبل نوح على نبيّنا و آله و عليهالسلام شريعة، فقد كان نوح عليهالسلام أوّل الأنبياء ذوي العزم الذي كان لهم شريعة و كتاب. فلم يكن
للناس قبل زمن نوح مجتمع و مدنيّة، و كانوا يعيشون بشكل بدائيّ بسيط. و إذا كان قد جاءهم أنبياء من قِبَل الله تعالى إلى حكم ما، فقد كان ذلك منحصراً بالاعتقاد بالتوحيد و الأحكام العقليّة المستقلّة و بعض الأحكام البسيطة العامّة، كالدعوة للصدق و عبادة ربّ العزّة عن رغبة و لهفة و أمثال ذلك، و إذا ما كان آدم نبيّاً أيضاً فإنّ تعاليمه و أحكامه لنسله ستكون بهذا المقدار.
و هذه المجموعة من الروايات قابلة للأخذ و الاعتبار، لأنّ مضمونها يوافق كتاب الله و ينسجم معه.
و الثاني: أنّ الله تعالى قد أنزل من الجنّة غلماناً و حوريّات ليتزوّجوا بأولاد آدم و بناته ذوي السيرة الحسنة، و أرسل من الجانّ ليتزوّجوا بأولاد آدم ذوي السيرة السيّئة، و قد انقسم الناس لهذا السبب إلى مجموعتين. و جاء في بعض الروايات أنّه أرسل حوريّة من الجنّة إلى هابيل و جنيّة إلى قابيل، فحسد قابيلُ هابيلَ و انتهى به الأمر إلى قتله. و ورد في بعضها ما يشبه ذلك بمضامين اخرى.
و هذه الروايات بالرغم من أنّ بعضها صحيح السند، لكنّها مرفوضة جميعاً و غير قابلة للعمل بمقتضاها، لمخالفتها ظاهر كتاب الله تبعاً للأدلّة الاصوليّة التي تدرّس في اصول الفقه؛ لذا فإنّ المتّبع هو تلك المجموعة الاولى من الروايات الموافقة لظاهر كتاب الله.
حرمة نكاح الأخوات غير فطريّ، بل حسب مصالح المجتمع
و قد قال الاستاذ العلّامة قدّس الله سرّه بعد البحث بشأن هذه الآية و عدم مشاركة غير الإنسان في بقاء نسل بني آدم.
«و أمّا الحكم بحرمة نكاح الأخوات في الإسلام و كذا في الشرائع السابقة عليه على ما يُحكى، فإنّما هو حكم تشريعيّ يتبع المصالح و المفاسد، لا تكوينيّ غير قابل للتغيير، و زمامه بِيَدِ الله سبحانه يَفْعَلُ مَا
يَشَآءُ وَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ، فمن الجائز أن يبيحه يوماً لاستدعاء الضرورة ذلك ثمّ يُحرّمه بعد ذلك لارتفاع الحاجة و استيجابه انتشار الفحشاء في المجتمع. و القول بأنّه على خلاف الفطرة و ما شرعه الله لأنبيائه دين فطريّ قول فاسد؛ قال تعالى:
فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ.۱
فإنّ الفطرة لا تنفيه و لا تدعو إلى خلافه من جهة تنفّرها عن هذا النوع من المباشرة (مباشرة الأخ مع الاخت)، و إنّما تبغضه و تنفيه من جهة تأديته إلى شيوع الفحشاء و المنكر و بطلان غريزة العفّة بذلك و ارتفاعها عن المجتمع الإنسانيّ، و من المعلوم أنّ هذا النوع من التماسّ و المباشرة إنّما ينطبق عليه عنوان الفجور و الفحشاء في المجتمع العالميّ اليوم، و أمّا المجتمع يوم ليس هناك بحسب ما خلق الله سبحانه إلّا الإخوة و الأخوات و المشيّة الإلهيّة متعلّقة بتكثّرهم و انبثاثهم فلا ينطبق عليه هذا العنوان.
و الدليل على أنّ الفطرة لا تنفيه من جهة النفرة الغريزيّة تداوله بين المجوس أعصاراً طويلة (على ما يقصّه التأريخ) و شيوعه قانونيّاً في روسيا (على ما يُحكي) و كذا شيوعه سفاحاً من غير طريق الزواج القانونيّ في اوروبّا.٢
و قد قال مونتسكيو في كتاب «روح القوانين» [إنّ هذا العمل مخالف
للقوانين الطبيعيّة، و هي التي تجري في الإنسان قبل عقده المجتمع الصالح لإسعاده، فإنّ الاختلاط و الاستيناس في المجتمع المنزليّ يبطل غريزة التعشّق و الميل الغريزيّ بين الإخوة و الأخوات] و هو قولٌ فاسد، لأنّه ممنوع كما تقدّم أوّلًا، و مقصور في صورة عدم لحاجة الضروريّة ثانياً، و مخصوص بما لا تكون القوانين الوضعيّة غير الطبيعيّة حافظة للصلاح الواجب الحفظ في المجتمع و متكفّلة لسعادة المجتمعين، و إلّا فمعظم القوانين المعمول بها و الاصول الدائرة في الحياة اليوم غير طبيعيّة».۱
ردّ العلّامة الطباطبائيّ قدّس الله نفسه على فرضيّة تغيّر الأنواع
نعم، فبعد بحث مفصّل للُاستاذ حول انتهاء نسل جميع البشر إلى امّ واحدة و أب واحد و وقوع التوالد و التناسل بعد ذينك الأبوين بين أولادهما بلا تدخّل من موجود آخر، عقد بحثاً مستقلًا تحت عنوان. إنّ الإنسان نوع مستقلّ و ليس متحوّلًا من نوع آخر، جدير بالاهتمام و التأمّل.
«إنّ الآيات السابقة تكفي مؤونة هذا البحث فإنّها تنهي هذا النسل الجاري بالنطفة إلى آدم و زوجته و تبيّن أنّهما خلقا من تراب، فالإنسانيّة تنتهي إليه ما و هما لا يتّصلان بآخر يماثلهما أو يجانسهما و إنّما حدثا
حدوثاً.
و الشائع اليوم عند الباحثين عن طبيعة الإنسان أنّ الإنسان الأوّل فَرْدٌ تكامل إنساناً، و هذه الفرضيّة بخصوصها و إن لم يتسلّمها الجميع تسلّماً يقطع الكلام، و اعترضوا عليها بامور كثيرة مذكورة في الكتب، لكنّ أصل الفرضيّة و هي أنّ الإنسان حيوانٌ تحوّل إنساناً ممّا تسلّموه و بنوا عليه البحث عن طبيعة الإنسان. فإنّهم فرضوا أنّ الأرض - و هي أحد الكواكب السيّارة - قطعة من الشمس مشتقّة منها، و قد كانت في حال الاشتعال و الذوبان ثمّ أخذت في التبرّد من تسلّط عوامل البرودة، و كانت تنزل عليها أمطار غزيرة و تجري عليها السيول و تتكوّن فيها البحار.۱
ثمّ حدثت تراكيب مائيّة و أرضيّة فحدثت النباتات المائيّة ثم حدثت بتكامل النباتات و اشتمالها على جراثيم الحياة السمك و سائر الحيوان المائيّ، ثمّ السمك الطائر ذو الحياتين، ثمّ الحيوان البرّي، ثمّ الإنسان، كلّ
ذلك بتكامل عارض للتركيب الأرضيّ الموجود في المرتبة السابقة يتحوّل به التركيب في صورته إلى المرتبة اللاحقة، فالنبات ثمّ الحيوان المائيّ ثمّ الحيوان ذو الحياتين ثمّ الحيوان البرّيّ ثمّ الإنسان على الترتيب هذا.
كلّ ذلك لما يشاهد من الكمال المنظّم في بُنيتها و نظم المراتب الآخذة من النقص إلى الكمال و لما يعطيه التجريب في موارد جزئيّة التطوّر، و هذه فرضيّة افترضت لتوجيه ما يلحق بهذه الأنواع من الخواصّ و الآثار من غير قيام دليل عليه بالخصوص و نفي ما عداها مع إمكان فرض هذه الأنواع متبائنة من غير اتّصال بينها بالتطوّر، و قصر التطوّر على حالات هذه الأنواع دون ذواتها و هي التي جرى فيها التجارب، فإنّ التجارب لم تتناول فرداً من أفراد هذه الأنواع تحوّل إلى فرد من نوع آخر كقردة إلى إنسان و إنّما يتناول بعض هذه الأنواع من حيث خواصّها و لوازمها و أعراضها. و استقصاء هذا البحث يُطلب من غير هذا الموضع، و إنّما المقصود الإشارة إلى أنّه فرض افترضوه لتوجيه ما يرتبط به من المسائل من غير أن يقوم عليه دليل قاطع، فالحقيقة التي يشير إليها القرآن الكريم من كون الإنسان نوعاً مفصولًا عن سائر الأنواع غير معارضة بشيء علميّ».۱
و يستفاد من بيان الاستاذ أنّ ما قالوه و أثبتوه و تسالموا عليه في بحوث علم الحياة و علم الأجنّة و علم الفسائل التي يشكّل مجموعها علم الطبيعة هو تطوّر الأنواع فقط لا تبدّلها و تغيّرها.
فالتطوّر في الأنواع يعني التغييرات في الآثار و الخواصّ و العوارض الداخليّة لذلك النوع، كالتغييرات و التحوّلات الحاصلة في نوع الحصان، أو نوع الفيل، أو نوع الغنم؛ و التي طوت في مسير تكاملها مدارج و مراحل معيّنة.
و التبدّل في الأنواع يعني تغيّر و تبدّل نوع لنوع آخر، كأن يتغيّر فرد أو أفراد من نوع الحصان إلى فرد أو أفراد من نوع الفيل، و كتغيّر أحد أفراد النسناس و القرود إلى فرد من البشر.
و ما جرى إثباته في علم الطبيعيّات هو التطوّرات في الأنواع، أمّا تبدّلها فلم يقم عليه الدليل العلميّ أبداً، و لم يثبت بالتجربة؛ و خلاصة الأمر لم يتمّ إراءة دليل نظريّ أو تجربيّ عليه، و لو تمّ ذلك لصار بشكل قانون و قاعدة. و كان كلّ ما قيل و كتب و بُحث بشأن تبدّل الأنواع عبارة عن فرضيّة تحقّق ذلك، و لا تصلح الفرضيّة لأن تكون دليلًا على موضوع معيّن، لذا ففرضيّة تبدّل الأنواع بشكل عامّ لا تستند إلى دليل علميّ.
و قد وافق الاستاذ قدّس الله سرّه على مسألة التطوّر في الأنواع و أثبت على أساسها أنّ اختلاف دماء البشر الموجب لاختلاف ألوانهم (الأبيض و الأسود و الأحمر و الأصفر) لا يوجب و لا يبرّر اعتبارنا البشر منقسمين لأربعة أنواع مستقلّة، لأنّ الأبحاث الطبيعيّة مبنيّة على فرضيّة التطوّر في الأنواع.
«و مع هذا البناء كيف يمكن الاطمئنان بعدم استناد اختلاف الدماء فاختلاف الألوان إلى وقوع التطوّر في هذا النوع؟
مع أنّنا نعلم أنّهم جزموا هذه الأيّام بوقوع تطوّرات كثيرة في الأنواع الحيوانيّة كالفرس و الغنم و الفيل و غيرها. و قد ظفر البحث و الفحص بآثار أرضيّة كثيرة تكشف عن ذلك، على أنّ العلماء اليوم لا يعتنون بهذا الاختلاف كثيراً.»۱
ردّ العلّامة الطباطبائيّ على كتاب «خلقت انسان» في نظريّة تغيّر الأنواع
و بعد أن أورد الاستاذ قدّس الله سرّه بحثاً وافياً حول هذه المسألة في الجزء الرابع من تفسيره، حيث استفدنا من مقدار منه، يبدو أنّه عثر على كتاب «خلقت انسان» الذي حاول مؤلّفه فيه بإصرار إثبات التبدّل و التغيّر في الأنواع استناداً إلى آيات القرآن فعدّ العلّامة مطالبه مرفوضة بأجمعها،
و ردّ عليها جميعاً في الجزء السادس عشر ضمن بحث في ستّة صفحات بعنوان: كلام في كينونة الإنسان الاولى،۱ دون أنه يشير إلى اسم الكتاب أو مؤلّفه، و قد أدّى ذلك إلى قيام مؤلّف الكتاب المذكور بإلحاق عدّة صفحات في آخر كتابه تحت عنوان بحث و توضيح إضافيّ ليكون - في نظره - قد أجاب على ردّ الاستاذ.
و قد استدلّ الحقير في البحث السابق على انسجام الآيات القرآنيّة مع النهج التفسيريّ و بيان الاستاذ، في حين كانت مطالب كتاب «خلقت انسان» غير صحيحة من وجهة نظر الاستدلالات القرآنيّة.
و نطرح بعض أقوال الاستاذ الواردة في هذا الجزء من التفسير، التي تردّ على كتاب «خلقت انسان»؛ ثمّ نعرض رأينا ليتّضح صواب كلام الاستاذ و خطأ كلام مؤلّف كتاب «خلقت انسان» و مخالفته للصواب.
قال الاستاذ: «و أمّا القول بانتهاء النسل إلى فردين من الإنسان الكامل بالكمال الفكريّ من طريق التوالد، ثمّ انشعابهما و انفصالهما بالتطوّر من نوع آخر من الإنسان غير الكامل بالكمال الفكريّ، ثمّ انقراض الأصل و بقاء الفرع المتولّد منهما على قاعدة تنازع البقاء و انتخاب الأصلح، فيدفعه قوله تعالى: إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ، على التفسير المتقدّم و ما في معناه من الآيات.
على أنّ الحجّة التي اقيمت على هذا القول قاصرة عن إثباته، فإنّها شواهد مأخوذة من التشريح التطبيقيّ و أجنّة الحيوان و الآثار الحفريّة الدالّة على التغيّر التدريجيّ في صفات الأنواع و أعضائها، و ظهور الحيوان تدريجاً آخذاً من الناقص إلى الكامل، و خلق ما هو أبسط من الحيوان قبل
ما هو أشدّ تركيباً.
و فيه أنّ ظهور النوع الكامل من حيث التجهيزات الحيويّة بعد الناقص زماناً لا يدلّ على أزيد من تدرّج المادّة في استكمالها لقبول الصور الحيوانيّة المختلفة، فهي قد استعدّت لظهور الحياة الكاملة فيها بعد الناقصة، و الشريفة بعد الخسيسة، و أمّا كون الكامل من الحيوان منشعباً من الناقص بالتولّد و الاتصّال النسبيّ فلا و لم يعثر هذا الفحص و البحث على غزارته و طول زمانه على فرد نوع كامل متولّد من فرع نوع آخر، على أن يقف على نفس التولّد دون الفرد و الفرد.
وَ مَا وُجِدَ فِيهَا شَاهِداً عَلَى التَّغَيُّرِ التَدرِيجِيِّ فَإنَّمَا هُوَ تَغَيُّرٌ في نَوْعٍ وَاحِدٍ بِالانْتِقَالِ مِن صِفَةٍ اخْرَى لَا يَخْرُجُ بِذَلِكَ عَنْ نَوْعِيَّتِهِ وَ المُدَّعَى خِلَافُ ذَلِكَ. فالذي يُتسلّم:
إنّ نشأة الحياة ذات مراتب مختلفة بالكمال و النقص و الشرف و الخسّة، و أعلى مراتبها الحياة الإنسانيّة ثمّ ما يليها ثمّ الأمثل فالأمثل، و أمّا أنّ ذلك من طريق تبدّل كلّ نوع ممّا يجاوره من النوع الأكمل فلا يفيده هذا الدليل على سبيل الاستنتاج. نعم يوجب حدساً ما غير يقينيّ بذلك؛ فالقول بتبدّل الأنواع بالتطوّر فرضيّة حدسيّة تبتني عليها العلوم الطبيعيّة اليوم و من الممكن أن يتغيّر يوماً إلى خلافها بتقدّم العلوم و توسّع الأبحاث».۱
الردّ الواهي لمؤلّف «خلقت انسان» على مقولة الاستاذ في نظريّة تغيّر الأنواع
و قد ردّ مؤلّف كتاب «خلقت إنسان» (=خلق الإنسان) على هذا البيان بقوله. نذكر في جوابنا لهذا الرأي مطلبينِ.
«أوّلهما: أنّ الأمثلة و الشواهد التي أوردناها في القسم الأوّل من كتاب «خلقت إنسان» (=خلق الإنسان) من العلوم العصريّة للحياة و لطبقات
الأرض و ذلك لزيادة اطّلاع مَن لا عهد لهم بمثل هذه الأبحاث و لا تمثّل إلّا جزءاً من كلّ، و عشراً من معشار الأمثلة و الموارد التي جرى بحثها و تجربتها في كلٍّ من فروع العلم المذكورة.
و يمكن اعتبار النتائج الإيجابيّة الحاصلة في القسم العمليّ و التطبيقيّ للعلوم المذكورة؛ كتحسين الاصول و الأنواع النباتيّة و الحيوانيّة و مسائل الصحّة الإنسانيّة أو اكتشافات الحفريّات؛ مؤيّدة لهذه الأبحاث في مسألة التكامل و ارتباط سلسلة الموجودات الحيّة.
و لو كان كلّ ما ذُكر من شواهد لبيان ارتباط و قرابة الموجودات فيما بينها ناقصاً غير مدعوم، فكيف تمّ الوصول إلى النتائج المدهشة في مسائل الطبّ الحاضرة مثلًا؟ أو في الاستفادة من المنابع الطبيعيّة؟
و كيف يمكن الاستناد على بحث فلسفيّ واحد هو أنّ المادّة لا تتقبّل عند كمالها الصور الحيوانيّة المختلفة أن يغضّ النظر عن النتائج العمليّة و الملموسة الأخيرة؟
فهناك في العلوم التجريبيّة نظريّات و فرضيّات هي غير القوانين و القواعد، فالاولى متغيّرة و غير قطعيّة، و الثانية ثابتة و لها جانب قطعيّ، ففي علوم الحياة مثلًا ليس للنظريّة العائدة إلى العلّة أو العلل المؤثّرة في التغيّر التدريجيّ للصفات الطبيعيّة لأنواع الموجودات و انشعاب مجموعة من مجموعة اخرى شكلًا قطعيّاً و ثابتاً، لكنّ مسألة الظهور التدريجيّ للموجودات، و ارتباطها فيما بينها، و وجود اسس و قوانين عامّة في هيكلها الجسميّ، من قبيل وجود محور عظميّ و عصبيّ ظهريّ، و جهاز الدورة الدمويّة المغلقة في جميع الحيوانات يعدّ أساساً و قانوناً عامّاً.
و ما يستفاد منه في العلوم الطبيعيّة التجريبيّة و ما يشكلّ أساس الاكتشاف و اكتساب المعلومات الجديدة هي هذه القواعد و الاسس،
لا النظريّات و الفرضيّات القابلة للتغيير، و التي أشار إليها في السطرين ٥ و ٦ من صفحة ٢۷٣.
نقد كتاب «خلق الإنسان» للُاستاذ اعلّامة نقدٌ واهٍ و لا أساس له
و ثانيهما: أنّنا نذكّر مرّة اخرى أنّ ما بُحث و استنتج في كتاب «خلقت انسان» قد استند إلى الآيات القرآنيّة فقط، و لم يستفاد في الاستنتاج المذكور من أي من البحوث العلميّة و التكامليّة؛ و على هذا فلو فرضنا محالًا بعدم وجود شواهد من علوم الحياة و طبقات الأرض في إثبات مسألة التكامل و الانشعاب التدريجيّ للموجودات، فإنّ ذلك لن يشكّل خللًا و لا إيراداً على ما كتبنا و بحثنا في الكتاب سالف الذكر».۱
و في رأيى فإنّ منشأ الخطأ للمؤلّف المذكور و من ساوقه و شاكله في هذا النحو و الاسلوب هو الخلط بين الإمكان و الوقوع، و بعبارة اخرى: عدم التمييز بين القابليّة و الفعليّة.
فما ذُكر في علوم الحياة من الشواهد و الأمثلة لن يعطى نتيجة أبعد من إمكان سلسلة الاتّصال لا وقوع الاتّصال، و لو زادوا على الشواهد و الأمثلة عشرات بل مئات الأضعاف أمثالها.
إنّ الحكماء و الفلاسفة يفصلون بعمليّة التدقيق و التحقيق بين هاتين المسألتين، و لا يسمحون لمطلب ثبت إمكانه فقط أن يستفاد منه أحياناً في مرحلة الوقوع و الوجود الخارجيّ، ليمكن للخصم المجادل أن يستنتج - بدون الالتفات إلى التفاوت بين هاتين المرحلتين المختلفتين - وقوع و ثبوت شيء ما من مجرّد إمكان وجوده.
في حين لم يقدّم داروين و جميع أتباعه دليلًا أبعد من الإمكان، و عجزوا عن الإتيان بأكثر من ذلك الدليل، فكيف يتأتّى الآن لأتباع تلك
المدرسة أن يثبتوا الوقوع الخارجيّ بمجرّد إمكانه؟!
و من الطريف في الحكمة و الفلسفة أن يرى أحد حديداً احمي بالنار ثمّ يقول باعتقاد جازم إنّ هذا الحديد قد احمي بأشعة الشمس، و دليله في ذلك أنّ الحديد يمتلك قابليّة الإحماء لو بقي تحت أشعة الشمس مدّة طويلة.
و تماماً هذا هو كلام مؤيّدي تغيّر الأنواع الذين يريدون الحكم بوقوع التغيّر و التبدّل من المقارنة و اسلوب تحديد الفسائل، و من الحالات الجنينيّة المختلفة، و من تناسب الأنسجة الحيوانيّة، و أن يصبح هذا الإمكان الذي لا يعدو أن يكون فرضيّة، قانوناً و قاعدة، لكنّ الحكيم يقف بوجه مغالطتهم فيقول: هذه مغالطة و ليست برهاناً، فأنتم لم تبرهنوا على أبعد من الإمكان، أي أنّكم قدّمتم فرضيّة و نظريّة ليس إلّا، فَلِمَ تضعون اسمها قانوناً و قاعدة؟ و لِمَ تقولون في علوم الحياة إنّ ارتباط الموجودات من جهة علاقة الانشعاب و التولّد هو قانون و قاعدة؟
إن هو إلّا خطأ و تجانف عن الحقيقة ذلك الذي قلتم به، فالقابليّة غير الفعليّة، و الإمكان غير الوجود و التحقّق.
لذا، فإنّ ما تبحثون عنه في علوم الحياة، و تتخيّلونه قاعدة و أساساً مخدوش لدينا، لأنّه لا يعطي أبعد من إمكان شيء و فرض وجوده، فمهما سمّيتموه علماً فلن يكون بعلم، إن هو إلّا الحدس و الظنّ و الخيال.
يقول الحكيم: إنّ التكامل في النوع غير التبدّل في النوع، و ما ثبت بالتجربة و المشاهدة فعلًا هو التطوّر و التكامل الحادث في داخل كلّ نوع، لكنّكم لم تستطيعوا أن تشيروا إلى التبدّل و لو في مورد واحد، فضلًا عن تبدّل الحيوان إلى إنسان غير مفكّر، و تبدّل الإنسان غير المفكّر إلى إنسان عالم مفكّر.
و الإشكال الآخر: أنّه قال: كيف يمكن بالاستناد إلى بحث فلسفيّ واحد في أنّ المادّة لا تتقبّل عند كمالها الصور الحيوانيّة المختلفة أن يغضّ النظر عن النتائج العمليّة الملموسة المذكورة؟
و ينبغي أن نسأله. أين شاهدتم هذا البحث الفلسفيّ؟ و ممّن سمعتموه؟ فنحن لم نره حتى الآن في أي مكان، و لم نسمع به من أحد، وَ ما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ.۱
فما ورد عن الحكماء و الفلاسفة يخالفه و يعاكسه تماماً، فهم يقولون إنّ المادّة تتقبّل أيّة صورة من الصور الحيوانيّة، فتكون عند تكاملها قد طوت مراتب، و تشكّلت و تصوّرت بأشكال متفاوتة و صور مختلفة.
و قد كان إثبات الحركة الجوهريّة من قبل الحكيم الجليل و الفيلسوف النادرة، الذي فتح مغلّق الأبواب، و حلّ المعضلات الصعاب، و استحدث المسائل الجديدة في الحكمة المتعالية على أساس هذا المطلب؛ أنّ المادّة تتحرّك في جوهرها فتّتخذ بنفسها الصور المختلفة، ثمّ تظهر في النفس الناطقة و الروح المجرّدة الإنسانيّة، ثمّ تتحرّك من هناك أيضاً لتطوي آخر درجة من درجات التكامل.
أفلم تقرأوا بعدُ هذه الأشعار البديعة و اللطيفة و العميقة للملّا الروميّ، محمّد البلخيّ:
از جمادي مُردم و نامي شدم | *** | و ز نما مردم به حيوان سر زدم٢ |
مردم از حيواني و آدم شدم | *** | پس چه ترسم كي ز مردن كم شدم |
حملة ديگر بميرم از بشر | *** | تا بر آرم أز ملايك بال و پر |
و ز مَلَك هم بايدم جَستن ز جو | *** | كُلُّ شَيْءٍ هَالِك إلَّا وَجْهَهُ |
بار ديگر از مَلَك قربان شوم | *** | آنچه اندر وهم نايد آن شوم |
پس عدم گردم عدم چون ارغنون | *** | گويدم كإنَّآ إليه رَاجِعُونَ۱ |
و أمّا الإشكال الذي كان للُاستاذ العلّامة قدّس الله سرّه على كلامكم فهو: أنّ هذا الاستدلال لا يشير إلى أكثر من أنّ المادّة لا يمكنها في طيّ مراحل كمالها لقبول الصور الحيوانيّة المختلفة إلّا أن تخضع للتدرّج؛ فما علاقة هذا القول بعدم قبول المادّة للصور الحيوانيّة المختلفة؟
فكلام العلّامة راسخ لا غبار عليه، و هذا الكلام يعني أنّ المادّة - حسب قولكم - اتّخذت في تكاملها طريق التدرّج، و هناك في عالم الوجود تدرّج من الناقص إلى الكامل؛ و نحن لا اعتراض لدينا على هذا القول.
الإشكال الثالث: قوله: إنّ النظريّات و الفرضيّات في مجال العلوم التجريبيّة هي غير القوانين، فالاولى متغيّرة و غير قطعيّة، و الثانيّة ثابتة و لها جانب قطعيّ.
و جوابه: إنّ هذا لا يشمل العلوم التجريبيّة فقط، بل يجري و يصدق على جميع العلوم، يبقى أنّ مطلب النشوء و الارتقاء و الانتخاب الطبيعيّ و التغيّر في الأنواع يمثّل فرضيّة لا قانوناً، و أنتم الذين منحتموه جزافاً اسم القانون.
إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَ آباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ.۱
أزيحوا جانباً هذا الاسم الذي و ضعتموه خطأ أو تغافلًا، فلن يتبقَّ هناك من شيء إلّا النظريّة و الفرضيّة التي لا يعلم إلّا الله وحده كم جاء من أمثالها في الدنيا من نظريّات و أفكار ثمّ انطوت و تلاشت.
أخطأ كتاب «خلقت انسان» في الاستناد إلى آيات القرآن
الإشكال الرابع: قولكم. إنّ الاستناد إلى الآيات القرآنيّة مثّل محور رأينا في كتاب «خلقت إنسان»، و على هذا فإن لم تستطع شواهد و أدلّة علوم الحياة أن تصمد في إثبات مسألة التكامل و الانشعاب التدريجيّ للموجودات، فلن يشكّل ذلك خللًا في ما كتبنا و بحثنا في الكتاب المذكور.
و الجواب: إنّ أهمّ نقاط الخلل و الإشكال في كتابكم هو هذا الاستدلال بالآيات و ليس القسم الأوّل من الكتاب الذي أوردتم فيه الشواهد و الأمثلة؛ فقد تمثّل إشكال القسم الأوّل في أنّ كلّما أوردتم من شواهد فقد كان بخصوص تحوّل و تكامل النوع، و في تطوّر و اختلاف
حالات النوع ضمن النوع نفسه. محاولين أن تستنتجوا لتغيّر من هذا التطوّر. و لم نفهم كيف يعطي هذا البحث في التطوّر نتيجة التغيّر و التبدّل؟
أمّا بحثكم في الآيات القرآنيّة فقد لفّه الاضطراب و التشويش، و كان واهياً من جهة فنّ التفسير، و لا تخلو استدلالاته و عباراته من هفوات، و قد جرى في هذا البحث البيان الاستدلاليّ لقسم من تلك الأخطاء و الهفوات من الإشارة إلى مواقع الخلط و مواضع الخطأ.
و أمّا استدلالكم بالاية المباركة: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَ نُوحاً وَ آلَ إِبْراهِيمَ وَ آلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ،۱ بهذا التقريب. أنّ الاصطفاء هو انتخاب الشيء الجيّد و المرغوب، و هذا الانتخاب يصدق حين يكون هناك جماعة يتمّ من خلالهم اختيار و اصطفاء المنتخب الأفضل و الأشرف، كما اختار الله نوحاً و آل عمران آل إبراهيم من بين أقوامهم.
و يستلزم هذا أن يكون مع آدم قوم غيره ليصطفيه الله و ينتخبه من بينهم و يؤثره و يفضّله عليهم، و لا يمكن أن يكون أولئك القوم غير البشر البدائيين الذين سبقوا عصر آدم ممّن لم يجهّزوا بجهاز العقل، حيث انتخب آدم من بينهم فصار مجهزّاً بجهاز العقل الكامل.
و جوابه هو ما ذكره الاستاذ قدّس سرّه؛ «و هو أنّ الْعالَمِينَ في الآية جمع محلّى باللام، و هو يفيد العموم و يصدق على عامّة البشر إلى يوم القيامة، فهم مصطفون على جميع المعاصرين لهم و الجائين بعدهم، كمثل قوله: وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ.٢
فما المانع من كون آدم مصطفى مختاراً من بين أولاده ما خلا
المذكورين منهم في الآية؟ و على تقدير اختصاص الاصطفاء بما بين المعاصرين و عليهم، فما هو المانع من كونه مصطفى مختاراً من بين أولاده المعاصرين له؟ و لا دلالة على أنّ اصطفاء آدم أوّل خلقته قبل ولادة أولاده.
على أنّ اصطفاء آدم لو كان على الإنسان الأوّليّ كما يذكره المستدلّ، كان ذلك بما أنّه مجهّز بالعقل، و كان ذلك مشتركاً بينه و بين بني آدم جميعاً على الإنسان الاوّليّ، فكان تخصيص آدم في الآية بالذكر تخصِيصاً من غير مُخَصِّص».۱
الردّ الواهي لمؤلّف كتاب «خلقت انسان» على الاستاذ العلّامة
و قد ردّ مؤلّف كتاب «خلقت إنسان» فقال: «إذا كان المفهوم من عموميّة كلمة الْعالَمِينَ لتحليتها باللام هو إطلاقها على الجائين أيضاً، و اعتبار آدم مصطفى على جميع الجائين، غير الأفراد الذين وردت أسماؤهم في الآية لاستلزم أن يكون جميع الأفراد الذين ذكروا بالاسم أو بلفظ آل في الآية لم يكونوا في مرتبة واحدة، فلا يمكن تعميم مسألة الاصطفاء على أزمنة غير أزمنتهم، لأنّ القاعدة أن يُصطفى الأفضل من بين الآخرين.
و باعتبار اصطفاء هؤلاء الأنبياء جميعاً، فينبغي أن يكونوا إذن في مرتبة و درجة واحدة؛ لكنّ هؤلاء الرسل الإلهيّين لم يكونوا - للأدلّة التي سترد آنفاً - في مقام واحد، فلا يمكن اعتبار اصطفائهم كائناً في زمن غير زمانهم و في شريعة غير شرائعهم.
ثمّ شرع بعد هذا الكلام في الفقرتين ب و ج بإثبات أفضليّة بعض
الأنبياء على آدم بالدليل العقليّ و حسب الآيات القرآنيّة».۱ و لعلّ الإجابة على كلامه من البساطة للحدّ الذي ربّما سهل على الأطفال دركها؛ فحين نختار و ننتقي عدّة أشياء من بين أشياء مختلفة؛ فإنّ هذا الاختيار لا يستلزم أن تكون هذه الأشياء المنتخبة متماثلة و في نفس الرتبة؛ و إذا ما اختار مدير مدرسة يوماً من بين صفّ معيّن عدد من الطّلاب الممتازين، فإنّ اختياره لا يستلزم أن يكونوا جميعهم في الدرجة نفسها؛ و لو انتقي معلّم روضة أطفال يوماً للأطفال مجموعة لعب خاصّة من بين الدُّمي و اللعب، فلن يتوجّب من ذلك أن تكون تلك اللعب متساوية و متماثلة في المرغوبيّة؛ و إذا ما انتقي الفلّاح يوماً من جنينة الفواكه مجموعة من ثمار الكمّثري و الخوخ و الإجّاص، فنضّدها في طبق و قدّمها لصاحب الجنينة، فإنّ ذلك لا يستدعي أن يكون لهذه الثمار المنتقاة نفس الشكل، و نفس الخاصّيّة و الطعم و القيمة؛ و لو انتخب حاكم ما يوماً من بين وزراء و مدراء و موظّفي قسم معيّن جماعة، فإنّ ذلك لا يستلزم أن يكون المنتخب منهم وزيراً أو مديراً أو موظّفاً في نفس التقييم و الكفاءة، لأنّ انتخاب وزير في مرحلة، و اختيار مدير في مرحلة اخرى، و اصطفاء موظّف في مرحلة ثالثة لا علاقة لكلّ منها بالآخر بالرغم من اجتماع هؤلاء و اشتراكهم في معنى الاصطفاء و الانتخاب.
ثمّ أردف المؤلّف في الفقرة د لتأكيد مقولته:
«و إذا ما وسّعنا مفهوم كلمة الْعالَمِينَ لتحليتها باللام، و اعتبرناها ناظرة لجميع أدوار البشريّة، أفيمكننا إنكار أنّ نوحاً و كلًّا من أنبياء آل إبراهيم و آل عمران قد اصطفوا في زمانهم من بين قومهم الذين شاكلوهم في
الجسم؟ فإن كان ذلك حقّاً فكيف نستنبط معنى آخر من الآية التي ذكرت آدم كرديف لسائر الأنبياء بغير أن تذكر لن استثناءً و اختصاصاً، فنعتبره مخلوقاً من غير أب و امّ، و نعتبر اصطفاءه من بين البشر الذين سيجيئون فيما بعد؟».۱
و جوابه: أنّنا لم نستفد مسألة خلق آدم من غير أب و امّ من آية الاصطفاء في القرآن الكريم.
إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَ نُوحاً وَ آلَ إِبْراهِيمَ وَ آلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ.٢
فلقد ذكرت آيات اخرى هذا المعنى و تكفّلت بإثباته، و قد أوردناها بالتفصيل، كآية: إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ.٣
أمّا معنى الاصطفاء في آية الاصطفاء فهو واحد لجميع المذكورين فيها، أي آدم و نوح و آل إبراهيم و آل عمران، و كان ذلك هو الانتخاب و الاختيار من جهة النبوّة الممتازة و علوّ درجة الرسالة و المقامات التوحيديّة و غير ذلك.
فأين هو سعي الاستاذ قدّس الله سرّه لإثبات خلق آدم بغير أب و امّ اعتماداً على آية الاصطفاء، لتحاولوا منع هذا الإثبات و إبطاله؟ فهذا المعنى للاصطفاء (أي الخلق بغير أب و امّ) قد كان هنا من بنات أفكاركم، اختلقتموه من عند أنفسكم ثمّ عدتم فتعثرتم به و أشكلتم عليه!!
إنّ التردّد و الإشكال الأهمّ الذي يمسك بتلابيب مؤلّف الكتاب المذكور فلا يملك منه مناصاً هو إقراره بعَلَمِيّة لفظ آدم، حيث صرّح بذلك في مواضع عدّة من كتابه، أي أنّ لفظ آدم يمثّل الاسم الخاص لجدّ بني آدم، أي أبي البشر، و أنّ هذا الاصطفاء و الانتخاب في هذه الآية يرجع إلى نفس هذا الشخص المعيّن الخارجيّ أيضاً، و يصرّح بأنّ آية الاصطفاء و سائر الآيات الواردة في خصوص آدم ترجع إلى انتخاب هذا الفرد من بين جميع أمثاله في النوع ممّن عاصروه في ذلك الوقت و المفتقرين إلى جهاز العقل و الإدراك، حيث اختار الله تعالى من بين هذه الحيوانات، أو البشر فاقدي العقل و الإدراك فرداً بشراً؛ أي يمتلك بشرة و لا يكسو جسمه الشعر و ليس له ذنب أو قرون؛ فسمّاه آدم و خلع عليه خلعة العقل و الإدراك، و متّعه بمقام الاصطفاء و الانتخاب، فصار أولاده بعد ذلك بني آدم و سُمّوا بالبشر.
و نقول هنا: تبعاً لنظريّة النشوء و الارتقاء و الانتخاب الطبيعيّ، فإنّ لفظ آدم بعنوان الاسم الخاصّ و العلم الشخصيّ لا معنى له و لا معقوليّة بشكل كلّيّ؛ فأمّا أن تقولوا بآدم النوعيّ؛ أي أنّ المراد بآدم في القرآن نوع الإنسان، السابقون منهم و اللاحقون؛ في حين أنّكم لا تقولون بهذا المعنى،۱ و قد رفض الاستاذ العلّامة قدّس الله نفسه في تفسيره مسألة اعتبار آدم نوعيّاً، و اعتبره يمثّل اسماً لفرد معيّن محدّد؛ أو أن تنصرفوا - في حال التزامكم بآدم الشخصيّ طبق آيات القرآن - عن نظريّة التبدّل في الأنواع و تقولوا بخلق آدم الدفعيّ و الإعجازيّ من الطين.
فالإشكال يتمثّل في أنّ عمر الإنسان حسب نظريّة الخلق الدفعيّ
لا يتجاوز عدّة آلاف من السنين، لكنّ عمر العالم حسب نظريّة التكامل في الأنواع ينبغي أن يزيد على مئات الملايين من السنين، فقد قال البعض. إنّ الحياة بدأت على ظهر البسيطة قبل مائتي مليون سنة، و قال آخرون. قبل ثلاثمائة، و أربعمائة، و حتى ثمانمائة مليون سنة.
إذ يجب مرور ملايين السنين - طبقاً للانتخاب الطبيعيّ - ليتبدّل نوع إلى نوع آخر؛ فعمليّة التغيّر تحدث في رأي علوم الحياة بشكل بطيء و تدريجيّ، إلى الحدّ الذي يستغرق تبدّل و تغيّر جزئيّ في نوع ما ضمن نفس النوع - كتبدّل بعض الأصابع، أو اختفاء أرجل الحرباء - ألفاً أو آلافاً من السنين.
و قد ظلّ داروين قلقاً بعد تقديمه فرضيّته في أنّ عمر الدنيا ثلاثمائة مليون سنة، لأنّ هذا المقدار إن لم يثبت فإنّ فرضيّته ستفقد أثرها و قيمتها، لذا فقد سُرّ أيّما سرور عندما ثبت اعتماداً على تقدير عمر النظائر المشعّة في أعماق الصخور أنّ عمر الدنيا يزيد على هذا المقدار.
و تبعاً لهذه النظريّة فإنّ الفترة الزمنيّة لتبدّل إنسان غير عاقل إلى بشر عاقل و مدرك بصورته الفعليّة ستستغرق مليون سنة، ليمكن خلالها لهذا الإنسان المفكّر أن ينفصل عن الإنسان فاقد العقل. و بناء على عقيدة داروين في أنّ النوع الذي سبق الإنسان كان هو القرد، و على عقيدة الآخرين في أنّه يمثّل الحلقة المفقودة؛ فإنّ زمان التحوّل يجب أن يمتدّ بالقدر الذي يتطلّبه تحوّل قرد نحاول اليوم - على سبيل المثال - أن نصيّره إنساناً.
و على هذا فإنّ القول بآدم الشخصيّ، و بانتخاب فرد خاصّ و وضع تاج و عَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها على رأسه غير معقول أبداً وفق هذه
النظريّة،۱ و ذلك ممّا يستلزم مضافاً إلى ما سبق أن نعتبر قصّة آدم و حوّاء و خلقهما في جنّة الاستعداد، و أمر الملائكة بالسجود لآدم، و عصيان إبليس، و سلطانه على بني آدم، و إخراج آدم و زوجه من الجنّة، و ما إلى ذلك من الخصوصيّات التي بيّنها القرآن الكريم؛ فتصبح مجرّد قضايا تمثيليّة و أساطير خياليّة قد ذُكرت لبيان المطلب و تقريبه، و هو خلاف منحى التفسير و منهجه.
ثمّ ما يدرينا أنّ بقيّة القصص القرآنيّة ليست من هذا القبيل؟ يضاف إلى ذلك أنّنا إذا رفعنا اليد عن ظهورات القرآن، بل عن نصوصه في هذه الموارد، بالرغم من استغراقها للقسم الأعظم من الآيات، فإنّ ظهور سائر الآيات في معانيها سيزول، و ستبطل حجّيّة القرآن في بيان و إفادة معانيه و مفاهيمه؛ و خلاصة الأمر فإنّ هذا الكتاب المبين المتين الإلهيّ الذي ينبغي الاستفادة من كلّ كلمة منه سيصبح كتاب لغو لا ثمرة فيه و لا فائدة. و حاشا أن يؤول إلى هذا الوضع و يظهر بهذه الكيفيّة كتاب الله القويم و حجّته على البشر إلى يوم القيامة، و أحد الثَّقَلَيْنِ المتبقّيين عن رسول الله، و كتابٌ هو الفصل و ليس بالهزل، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه و من خلفه.
كان هذا بحثنا حول الآيات القرآنيّة الكريمة، و علمنا بحمد الله أنّه يعطي نتيجة تخالف عقيدة كتاب «خلقت انسان» (=خلق الإنسان).
حصول التحريف في التوراة، لكنّها ليست بالكامل محرّفة
و أمّا تصريحه في موضعين من كتابه أنّ. القول بخلق آدم دفعة واحدة من الطين إنّما هو من أساطير و خرافات الأوّلين، و من مطالب التوراة المحرّفة التي لا يمكن الوثوق بها و الركون إليها؛ فيجدر بنا أن نورد
عين عبارته التي ذكرها في مقدّمة كتابه قبل تفصيل البحث بشأنها.
فهو يقول: «إنّ مطالب التوراة، مع كلّ التحريف الذي لزمها، تظهر أحياناً في قالب المعتقدات الدينيّة لسائر الأديان، و من جملتها، فإنّ التعبيرات المختلفة لهذا الكتاب لم تخلُ من تأثير في تفسير آيات القرآن، و من ثَمَّ في العقائد الإسلاميّة.
فمع ما في القرآن الكريم من بيانات واضحة و محكمة في آيات عديدة حول خلق الإنسان، لكنّ بعض المفسّرين قد ذكروا تعبيرات تقارب مطالب التوراة حول نشأة آدم متأثّرين بالتلقين الحاصل من الإسرائيليّات المتبقّية، دون الالتفات إلى مفهوم الكلمات و معاني الآيات، كاعتبارهم نوع البشر من نسل آدم، و قولهم إنّ آدم هو مخلوق متميّز و مستقلّ عن جميع الموجودات الحيّة الاخرى، فقد أظهروا في بياناتهم أنّ الله صنع هيكلًا من طين، ثمّ نفخ فيه فخلق منه آدم أبا البشر.
و لقد كان رواج و شيوع تعبيرات كهذه عن آيات القرآن للحدّ الذي لم يستطع حتى المفسّرون الجدد - عدا قلائل منهم ممّن يمتلكون اطّلاعاً على العلوم الحديثة و يتحلّون بذهنيّة منفتحة لاكتساب الحقائق - أن يبقوا بمعزل عن التعبيرات القديمة، و أن يبيّنوا و يفسّروا آيات الكتاب الإلهيّ بنظر أوسع و أرحب و بدون رأي مسبق، بعيداً عن الخواطر التلقينيّة و الموروثة».۱
و لقد خبط المؤلّف فيما نقلناه عنه خبط عشواء، إذ لم تنحصر أخطاؤه و هفواته في كلّ سطر من كلامه، بل تعدّت ذلك إلى كلّ عبارة و جملة.
فَأوّلًا: إنّ كتاب التوراة من الكتب السماويّة النازلة على موسى، على نبيّنا و آله و عليهالسلام، و كلّه صحيح و مبارك عدا موارد تُعدّ على الأصابع جرى تحريفها و تغييرها، و هي موارد مشخّصة و معيّنة، أوّلها المطالب المخالفة للعقل المستقلّ، لأنّها تنسب الخطأ إلى الله، و تحكي غلبة الشيطان على الله في خلق آدم، لأنّه بيّن لآدم ما أراد الله إخفاءه عنه،۱ و أمثال ذلك.
و ثانيها المطالب التي وردت في القرآن الكريم و أشارت إلى بعض مطالب التوراة المحرّفة، و ما خلا ذلك فإنّ جميع مطالب التوراة حقّ و صدق و نور، و ما ورد فيها موافقاً للقرآن الكريم مثل أصل نشوء آدم من الطين فكلّه صحيح و صواب.
فالقرآن الكريم يعدّ التوراة حكم الله و هدى و نور يحكم بها
النبيّون:
وَ كَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَ عِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَ ما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ ، إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَ نُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَ الرَّبَّانِيُّونَ وَ الْأَحْبارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللَّهِ وَ كانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَ اخْشَوْنِ وَ لا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ.۱
و نلحظ في هذه الآيات مدى القيمة التي عدّها الله سبحانه للتوراة و ذمّ مخالفيها؛ ثمّ يقول سبحانه بعد بيان عدّة آيات:
وَ لَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَ الْإِنْجِيلَ وَ ما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ.٢
ثمّ يأمر سبحانه نبيّه الكريم بعد تلك الآية أن يخاطب أهل الكتاب:
قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَ الْإِنْجِيلَ وَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَ لَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَ كُفْراً فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ.٣
و ثانياً: لقد قلتم إنّ بعض المفسّرين - تبعاً لتلقين الاسرائيليّات - كانوا يقولون بصنع مثال آدم من الطين؛ ثمّ قلتم. إنّ رواج و شيوع تعبيرات كهذه عن آيات القرآن كان للحدّ الذي عجز حتى المفسّرون الجدد - عدا عدّة منهم ممّن يمتلكون اطّلاعاً على العلوم الحديثة و يتحلّون بذهنيّة منفتحة
لاكتساب الحقائق - أن يبقوا بمعزل عن التعبيرات القديمة.
و ينبغي الإشارة هنا إلى التناقض الصريح في كلامكم ففي قولكم، أوّلًا: بعض المفسّرين، ثمّ إضافتكم ثانياً بأنّ ذلك شاع حتى لم يبقَ إلّا قليل من المفسّرين الجدد بمعزل و منجى منه.
و مضافاً إلى ذلك فإنّ جميع المفسّرين الجدد و القدماء ممّن يمتلكون مقاماً في التفسير و يصحّ إطلاق اسم المفسّر عليهم يقولون بخلق آدم من الطين دفعة واحدة؛ ولدى الحقير حاليّاً ما يقرب من خمسين دورة تفسير من الشيعة و العامّة من صدر الإسلام و حتى الآن لم نعثر في شيء منها على قائل بخلق آدم من أب و امّ و إمضاء لقول تبدّل الأنواع.
أمّا المفسّرون الجدد الذين ذكرتموهم و قلتم إنّهم يمتلكون اطّلاعاً على العلوم الحديثة فليتكم أشرتم إليه م بأسمائهم.
و بغضّ النظر عن ذلك فإنّ هناك الآن من يمتلكون اطّلاعاً واسعاً على العلوم الحديثة و لهم أيضاً اليد الطولي و الباع الطويل في تفسير القرآن بحيث يصحّ إطلاق لقب مفسّر لكلّ منهم، لكنّهم يرفضون مع ذلك فرضيّة تبدّل الأنواع و يعتبرون البحث عنها العوبة في يد القاصرين، و يعتقدون جادّين بإعجاز الخلق الدفعيّ لآدم، أي ما ندعوهم اليوم بـ فيكسيزم مائة في المائة لا ترانسفورميزم.
ثالثاً: لقد عددتم القائلين بإعجاز خلق آدم استدلالًا من الكتاب الإلهيّ من وارثي خواطر التلقين و التعبيرات الموروثة، فكيف لم تعدّوا أنفسكم و مَن شارككم هذا النهج من مولودي خواطر التلقين و الإلقاء، و من وارثي الفرضيّات و النظريّات الفعليّة، مع أنّها لا تمثّل إلّا وهماً و حدساً و ظنّاً.
رابعاً: لقد صرّحتم أنّ التوراة قد ظهرت في قالب العقائد الدينيّة
لسائر الأديان، و أنّ التعبيرات المختلفة لهذا الكتاب لم تخلُ من تأثير في تفسير آيات القرآن، و من ثَمَّ في العقائد الإسلاميّة.
إنّ تفاسيرنا للقرآن بشأن خلق آدم قد اعتمدت على ما جاء في صدر الإسلام، كما ورد عن أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليهالسلام و تلميذه البارع في التفسير ابن عبّاس و سعيد بن جبير و أمثالهم، لذا فإن لم نقل تحقيقاً إنّ هذا التفسير كان مؤثّراً في التوراة و اسلوبها التفسيريّ، فلا يمكننا القول إنّ مطالب التوراة قد تركت تأثيراً في الاسلوب التفسيريّ للقرآن الكريم، و ليست الروايات الواردة في التفسير منحصرة بكعب الأحبار و أبي هريرة و عبدالله بن سلام ليمكن الطعن في أصالتهم و إيجاد الشكّ في تفسير حقائق القرآن.
و خامساً: لقد قلتم. لقد ذكر بعض المفسّرين مع ذلك متأثّرين بما تبقّي في أذهانهم من تلقين الإسرائيليّات تعبيرات مقاربة لهذه المطالب حول نشأة آدم.
معنى الإسرائيليّات و إقحام مقولة خلق آدم من الطين دفعةً واحدة في التفسير
و نجد أنفسنا مجبرين هنا على بيان معنى الإسرائيليّات ليتّضح من ذلك أن لا علاقة و لا رابطة أبداً للروايات الواردة في التفسير و لا لاستناد المفسّرين في المنهج التفسيري بالإسرائيليّات، حيث إنّ تعبير إسرائيليّ بالخصوص قد اسيء إستخدامه هنا.
تُطلق الإسرائيليّات على الروايات التي رواتها من إليه ود الذين اختاروا الانضمام إلى الإسلام، و يشاهد ضمن رواياتهم في تفسير القرآن، أو في الأحكام و العقائد مطالب تطابق ما جاء في العهد القديم للتوراة من قصص الأنبياء و تخالف مدلول القرآن أو الأحاديث الصحيحة المسندة المعتبرة، أو أن يكون رواتها غير يهود لكنّهم اقتبسوا تلك المطالب المطابقة لحكايات التوراة و أحكامها عن إليه ود و تمسّكوا بها لفهم و تفسير
بعض آيات القرآن المستعصية عليهم، ثمّ نسبوا هذه الروايات كذباً و افتراءً إلى النبيّ الأكرم صلّى الله عليه و آله و سلّم أو إلى أحد الأئمّة عليهم السلام، لتكون مقبولة لعامّة المسلمين و المعتقدين بالقرآن.
و ينبغي - بناء على هذا - أن يكون رواة هذه الروايات إمّا من أهل السنّة الذين افتقدوا المنبع الصحيح للتفسير و لم يكن ماء معين الولاية في متناول أيديهم، فرأوا أيديهم خالية في التفسير، و اجبروا - كي لا يتخلّفوا عن جمع المفسّرين و المحدّثين و المؤرّخين - أن يتطاولوا بهذه الانحرافات؛ أو من أهل الكذب و الجعل و الدّس و الوضع الذين اختلقوا رواية و نسبوها إلى مصدر الوحي أو إلى المعصوم، فهم يروون الرواية في هذه الحال إمّا بلا واسطة، أو يختلقون لها حسب رأيهم وسائط من المعتبرين و الموثّقين و ينسبون سلسلة الرواية افتراءً بذكر الاسم و اللقب و الأشخاص.
طريق تشخيص الإسرائيليّات عن الروايات المعتبرة صحّة سند الرواية
و هذه الروايات تشخّص و تعيّن من قبل العالم و المجتهد الفقيه البصير بواسطة علم الدراية و الرجال، بالاستعانة بعلم اصول الفقه و البحث عن كيفيّة حجّية الخبر، و البحث عن التعادل و الترجيح، و كيفيّة تقديم بعض الروايات على بعضها الآخر؛ فالفقيه و المتبحّر المتخصّص في هذا الفنّ يفهم بمجرّد رؤية الرواية أهذا الحديث مقبول أم مرفوض؟ من الإسرائيليّات هو أو من غيرها؟
و كما قلنا فينبغي لراوي هذا النمط من الأحاديث إمّا أن يكون سنيّاً وضّاعاً و كذّاباً، لا سنيّاً موثّقاً (لأنّ الرجل السنّيّ المذهب إن كان عادلًا أو ثقة في مذهبه فإنّ روايته مقبولة عند الشيعة)، أو أن يكون مجهول الحال، أو إن كان شيعيّاً فينبغي أن يكون غير موثّق و لم يشهد رجال علم الحديث على صدقه.
و في كلّ من هذه الصور و الحالات فإنّ الرواية تُعدّ ضعيفة السند و يُعدّ راويها ضعيفاً، و تُعتبر الرواية غير صالحة للأخذ بها، لأنّ الشخص الأمين و العادل و الموثّق - طبق فرضنا - لا يكذب متعمّداً على النبيّ و الإمام.
و المتكفّل بتشخيص هويّة و شخصيّة و مذهب و اسم و عنوان الرواة و أوضاعهم واحداً واحداً هو علم الرجال؛ و قد كتب المجتهد الخبير و الفقيه البصير. المرحوم آية الله الحاجّ الشيخ عبدالله المامقانيّ تغمّده الله برحمته كتاباً جرى طبعه في ثلاثة أجزاء ضخمة، يُعدّ من أشمل و أنفع كتب الرجال من حيث المجموع من زمن النجاشيّ و الشيخ الطوسيّ و الكشيّ و العلّامة الحلّيّ إلى زماننا الحاضر، و سمّاه. «تنقيح المقال في علم الرجال».۱
و نورد في هذا المجال عدداً من الروايات المرويّة في شأن خلق آدم، من «نهج البلاغة» و «قصص العلماء» و «تفسير العيّاشيّ»، ممّا يعدّ سنادها في أعلى درجات الاعتبار، ليتّضح كم كان خلط مؤلّف كتاب «خلقت انسان» (=خلق الإنسان) مبحثَ الإسرائيليّات مع المقولة التي نحن بصددها مثيراً للعجب و الاستغراب.
لكأنّه فَهِم الرواية الإسرائيليّة على أنّها الرواية التي توافق مضمون مطالب التوراة، و هو فهم خاطئ و غير صائب، لأنّ الكثير من مطالب التوراة توافق القرآن، أفيمكن رفع اليد عنها؟!
كما أنّ كثيراً من روايات العامّة تتّفق و رواياتنا الصحيحة مفاداً و مضموناً، و لا تختلف في المحتوى، أفيمكن الإغماض عنها جميعاً؟!
كلّا بالطبع، فهذا نهج خاطئ لا يقرّه العقل و العلم، بل ينبغي تمييز الصحيح عن السقيم، ليؤخذ بالصحيح و يُعرض عن السقيم. فإذا ورد في التوراة أنّ الله واحد، و أنّ موسى نبيٌّ بالحقّ، أفعلينا أن نخالفه و نقول إنّ الآلهة اثنان، و موسى نبيٌّ كاذب؟! لا شكّ أبداً أنّ هذا الأمر غير وارد
إطلاقاً لا بالنسبة إلى التوراة و لا إلى أي كتاب آخر أو بحث و مطلب علميّ.
خطبة «نهج البلاغة» في خلقة آدم من الطين
أمّا رواية «نهج البلاغة»، فالخطبة الاولى التي وصف فيها أميرالمؤمنين عليهالسلام أوّل الخلق، فيقول بشأن صفة خلق آدم عليه السلام:
ثُمَّ جَمَعَ سُبْحَانَهُ مِنْ حَزْنِ الأرْضِ وَ سَهْلِهَا وَ عَذْبِهَا وَ سَبَخِهَا تُرْبَةً سَنَّهَا بِالمَاءِ حتى خَلَصَتْ؛ وَ لَاطَهَا بِالبَلَّةِ حتى لَزُبَتْ. فَجَبَلَ مِنْهَا صُورَةً ذَاتَ أحْنَاءٍ وَ وُصُولٍ؛ وَ أعْضَاءٍ وَ فُصُولٍ.
أجْمَدَهَا حتى اسْتَمْسَكَتْ؛ وَ أصْلَدَهَا حتى صَلْصَلَتْ، لِوَقْتٍ مَعْدُودٍ وَ أمَدٍ مَعْلُومٍ. ثُمَّ نَفَخَ فِيهَا مِنْ رُوحِهِ فَمَثُلَتْ إنْسَاناً ذَا أذْهَانٍ يُجِيلُهَا، وَ فِكْرٍ يَتَصَرَّفُ بِهَا، وَ جَوَارِحَ يَخْتَدِمُهَا، وَ أدَوَاتٍ يُقَلِّبُهَا، وَ مَعْرِفَةً يَفْرُقُ بِهَا بَيْنَ الحَقِّ وَ البَاطِلِ، وَ الأذْوَاقِ وَ المَشَامِّ وَ الألْوَانِ وَ الأجْنَاسِ.
مَعْجُوناً بِطِينَةِ الألْوَانِ المَختَلِفَةِ وَ الأشْبَاهِ المُؤْتَلِفَةِ وَ الأضْدَادِ المُتَعَادِيَةِ وَ الأخْلَاطِ المُتَبَايِنَةِ مِنَ الحَرِّ وَ البَرْدِ وَ البَلَّةِ وَ الجُمُودِ – (الخطبة).۱
و «نهج البلاغة» هو كلام معدن الحِكَم و العلم و باب مدينة العلم و الحكمة أفضل الكتب على الإطلاق بعد القرآن الكريم، كلّ خطبة و عبارة فيه تكفي لوحدها في الدلالة على صدوره عن مدرسة الوحي و العصمة و اليقين.
و أمّا رواية «قصص الأنبياء»، فيروي بإسناده عن الشيخ الصدوق، عن أبيه، عن سعد، عن ابن يزيد، عن ابن أبي عُمير، عن هشام بن سالم، عن الصادق عليهالسلام أنّه قال:
كَانَتِ المَلَائِكَةُ تَمُرُّ بِآدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ - أي بُصُورَتِهِ وَ هُوَ مُلْقَى في الجَنَّةِ مِنْ طِينٍ - فَتقول: لأمْرٍ مَا خُلِقْتَ؟!۱
و كتاب «قصص الأنبياء» للقطب الراونديّ، أي الشيخ و الإمام قطب الدين أبي الحسين بن سعيد بن هبة الله بن حسن الراونديّ المتوفّي سنة ٥۷٣ هجريّة. و هذا الرجل من أساطين و فحول علماء الشيعة و من أعاظم الرواة و أكابر الثقات السابقين، و باعتبار أنّ سلسلة سند روايته إلى المعصوم في هذا الحديث كانت صحيحة بأجمعها، فإنّ هذه الرواية تعدّ من الصحاح، و لا شكّ في إسنادها إلى المعصوم و في حجّيّتها.٢
و إن لم يكن «قصص الأنبياء» هذا لهذا الرجل الجليل، فهو بلا شكّ للسيّد الأجلّ الأكرم الأفخم السيّد ضياء الدين أبي الرضا فضل الله الراونديّ أحد تلامذة أبي عليّ ابن الشيخ الطوسيّ، و هو من أعيان و أعلام علماء الشيعة و الموثّقين الذين نزلوا راوند كاشان فاتّخذوها محطَّ رحالهم و دار سكناهم و إقامتهم.
و قد ذكر المرحوم السيّد جلال الدين المحدّث الأرمويّ ترجمته مفصّلًا في مجموعة أشعار له طُبعت ملحقة بكتاب «نَقْض» (=النَقْض)،
و نقل قصصاً من تبحّره و تضلّعه في العلوم و الأدب و العربيّة.
فإن كانت قصص الأنبياء المذكورة من تأليفاته أيضاً فإنّها ستكون كذلك في ذروة الإتقان، و ستكون الرواية الواردة في موضوعنا صحيحة السند.
و أمّا رواية العيّاشيّ عن سلمان الفارسيّ فهي أنّه قال:
إنَّ اللهَ لَمَّا خَلَقَ آدَمَ فَكَانَ أوَّلَ مَا خَلَقَ عَيْنَاهُ؛ فَجَعَلَ يَنْظُرُ إلى جَسَدِهِ كَيْفَ يُخْلَقُ؟ فَلَمَّا حَانَتْ وَ لَمْ يَتَبَالَغِ الخَلْقُ في رِجْلَيْهِ، أرَادَ القِيَامَ فَلَمْ يَقْدِرْ. وَ هُوَ قَوْلُ اللهِ. «خُلِقَ الإنْسَانُ عَجُولًا».۱ وَ إنَّ اللهَ لَمَّا خَلَقَ آدَمَ وَ نَفَخَ فِيهِ لَمْ يَلْبَثْ أنْ تَنَاوَلَ عُنْقُوداً فَأكَلَهُ.٢
و مع أنّ هذه الرواية مرسلة حسب اصطلاح أهل الحديث، لكنّ رواية العيّاشيّ لها في تفسيره يعدّ مهمّاً، فالعيّاشيّ أحد العلماء الكبار و من المفسّرين ذوي المنزلة العظيمة، حاز منتهى الثقة و الاطمئنان، حتى قدّمه بعض العلماء في الفضل و المنزلة على محمّد بن يعقوب الكلينيّ صاحب «الكافي».
إنّ الروايات الواردة في موضوعنا كثيرة، لكنّنا آثرنا ذكر هذا العدد من الروايات المعتبرة سنداً و دلالة ليتّضح عدم ارتباط مسألة الإسرائيليّات بما نحن بصدده.
ضعف استدلال كتاب «خلقت انسان» بآيات القرآن
و كانت هذه نكات مهمّة يلزم بيانها و التذكير بها لمطالعي كتاب «خلقت إنسان» (=خلق الإنسان)، و إلّا فإنّ أخطاءً كثيرة اخرى وردت في مطاوى الكتاب المذكور، من جملتها استنباطه وجود أب و امّ لآدم من لفظ خَلْق في الآيات:
خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ.۱
و. خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ.٢
و. إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ.٣
اعتبر فيها كلمة خلق بمعنى إيجاد شيء من شيء آخر، لا بمعنى الإيجاد و الإنشاء الابتدائيّ.٤
و من قبيل استفادته لهذا المعنى من لفظ صِهْر في الآية:
وَ هُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَ صِهْراً وَ كانَ رَبُّكَ قَدِيراً.٥
حيث استفاد من كلمة صِهْر أنّ تحقّق هذا المعنى في آدم أبي البشر نفسه يستلزم رابطة مصاهرته و ارتباطه مع أناس من معاصريه.٦
و كذلك الاتّهام الذي وجّهه للعلّامة الاستاذ قدّس الله سرّه، و نسب إليه في البحث و التوضيح الإضافيّ أنّه قال في المقالة مورد البحث، و بالإرجاع إلى تفسير الجزء الثامن بخصوص الآية ۱۱، من السورة ۷.
الأعراف الشريفة، و لأجل إزالة المدلول التكامليّ الجلي لتلك الآية:
إنّ حرف ثُمَّ فِي الآية ۱۱ من سورة الأعراف ليس حرف عطف ترتيبيّ يفيد التراخي، بل هو بمعنى الواو و العطف الكلاميّ.۱
و تمثّل هذه العبارات الأخيرة خطاً محضاً بيّناً، و أمراً لا يليق نسبته لمثل عبارات الاستاذ.
فما ذكره العلّامة قدّس الله سرّه في الجزء الثامن في تفسير الاية المباركة:
وَ لَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ.
دلالة «ثمّ» في الآية على التراخي عند العلّامة الطباطبائيّ
إنّ ثُمَ هنا بمعنى التراخي الحقيقيّ، و على هذا فالانتقال في الخطاب من العموم إلى الخصوص، أعني من قوله: خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ إلى قوله: ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ؛ و هو خطاب بخصوص آدم، أي أنّ الخطاب انتقل من جميع بني آدم إلى الملائكة و ذلك لبيان حقيقتين.
الأولى: أنّ السجدة التي أمر الله بها الملائكة كانت لجميع بني آدم، أي للنشأة الإنسانيّة و إن كان آدم عليهالسلام خصوصاً هو القبلة المنصوبة للسجدة، فهو عليهالسلام في أمر السجدة كان مثالًا يمثّل به الإنسانيّة مناب أفراد الإنسان على كثرتهم، لا مسجوداً له من جهة شخصه، كالكعبة المجعولة قبلة يتوجّه إليها في العبادات و تمثّل بها ناحيه الربوبيّة.
ثمّ أورد العلّامة لإثبات هذا المدّعى ثلاثة أدلّة من آيات القرآن الكريم قد تناولها بالتفصيل.
الثانية: أنّ خلق آدم عليهالسلام كان خلقاً للجميع؛ ثمّ يورد لإثبات هذا المدّعى آيتين من القرآن بعنوان دليل، و آيتين تأييد و إشعار.
ثمّ يقول في خاتمة بحثه و تفسيره:
و للمفسّرين في هذه الآية أقوال مختلفة؛ قال في «مجمع البيان». ثمّ ذكر سبحانه نعمته في ابتداء الخلق فقال: وَ لَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ. قال الأخفش. ثُمَّ ها هنا في معنى الواو؛ و قال الزَّجَّاج: و هذا خطأ لا يجوّزه الخليل و سيبويه و جميع مَن يُوثق بعلمه، إنّما ثُمَ للشيء الذي يكون بعد المذكور قبله لا غير.
ثمّ ذكر العلّامة بعد نقل هذا القول. العلّة التي أوردها الزجّاج لكلامه من أنّ عرب الجاهليّة يقولون. فعلنا بكم كذا و كذا، و هم يعنون أسلافهم.
و قد جاء في القرآن أيضاً: وَ إِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَ رَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ،۱ و كان الخطاب هنا ليهود زمان النبيّ بما فعله الله بأسلافهم من يهود النبيّ موسى، و على هذا فإنّ ثمّ ليست بمعنى الواو، و هي من هذا الطريق تعني التراخي؛ كان هذا كلام الزجّاج.٢
و قد رفض العلّامة لدليلين دليل الزجّاج على صحّة استعمال أمثال هذا الخطاب لإفادة معنى التراخي، لا أن يكون قد أثبت معنى الواو للفظ ثمّ. أي أنّه يقول: إنّ ثمّ لها معنى التراخي، و قد استعملت للتراخي للحقيقتين اللتين بيّنهما العلّامة، لا للعلّة التي ذكرها الزجّاج.
فالعلّامة في ردّه على الزجّاج لم يردّه في اعتبار ثمّ دالّة على التراخي ليثبت بذلك كلام الأخفش الذي عدّها بمعنى الواو، بل إنّه ردّ على تعليل الزجّاج في استعمال ثمّ للتراخي، ليثبت بكلامه - ببيان تلكما الحقيقتَين - استعمال ثمّ في التراخي.
و ما أورده العلّامة في الجزء السادس عشر في شأن هذه الآية هو:
و ربّما استدلّ بقوله في سورة الأعراف: وَ لَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ بناء على أنّ ثُمَ تدلّ على التراخي الزمانيّ، و يلزم أن يكون للنوع الإنسانيّ وجود قبل خلق آدم لتؤمر الملائكة بالسجود له. و فيه أنّ ثُمَ في الآية للترتيب الكلاميّ، و هو كثير الورود في كلامه تعالى، على أنّ هناك معنى آخر «ثُمَّ» للترتيب الحقيقيّ أشرنا إليه في تفسير الآية في الجزء الثامن من الكتاب.۱
و قد اتّضح بما أوردنا من بيان للحقيقة، و شرح لقول العلّامة في كلام الموضعين حجم الخطأ الذي ارتكبه مؤلّف «خلقت انسان» في نسبته للعلّامة صرف ثُمَّ و سلخها عن معنى التراخي و اعتبارها بمعنى الواو. و يبدو بنظر الحقير أنّه على الظاهر لم يفهم معنى كلام الاستاذ و مقصوده قبل أن يتصدّى للردّ عليه؛ فأجدر بالمرء التحرّز عن الخوض في فنّ لا يمتلك مفاتحه و فنونه، لأنّ البحث و التحليل و النقد و الاجتهاد و إظهار النظر في علم لا تخصّص للمرء فيه و لا مهارة لن يفضي بصاحبه عن القصد إلّا بُعداً، كمن سار في مفازة على غير هدى.
لقد استلفت نظر الحقير قبل أربعين سنة كتاب ما، فطالعته بدقّة حتى أتيتُ على آخره فهالني أنّ كاتبه، و هو امرؤٌ طيّب حقّاً و ليس بمُغرض، و قد بذل اهتماماً بالغاً ليطرح لطلبة الجامعة، و للمجتمع الإسلاميّ موضوعاً مهمّاً، و كان استنباطه للمطلب صحيحاً، و كتابه غير خال من فائدة؛ إلّا أنّه قد ارتكب في كتابه أخطاء و هفوات بيّنة و واضحة.
و كنت اتابع ذلك الوقت تحصيلي في الحوزة العلميّة المقدّسة في قم،
فأخذت الكتاب إلى الاستاذ العلّامة و ذكرتُ له أمره، فكتب رسالة أرسلها للمؤلّف بشأن بعض هذه الأخطاء.
و لم يكن للحقير توقّف في قم بعد تلك الرسالة، فقد شددت الرحال لإكمال التحصيل لأرض الغري، النجف الأشرف للإفادة من جوار و كنف مولى الموحّدين أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليهالسلام، و لم يتّضح لي بعد ذلك ما كان جواب الرسالة، لكنّي سمعت أنّ تلك الموارد قد تمّ إصلاحها في طبعات الكتاب اللاحقة.
و كان ذلك الكتاب يبحث حول سيرة الأنبياء و الهدف الغائيّ في تكامل البشر، و تنظيم أمر دعوتهم و هدايتهم؛ ثمّ كتب في خاتمة الكتاب بحثاً عن القيامة مع الاستفادة من آيات القرآن الكريم.
و لقد شكّلت العلوم الطبيعيّة المرتكز الأساس لأبحاث الكتاب، و خاصّة في بحثه النهائيّ عن القيامة، حيث استند إلى بحث المادّة و بقائها و آثارها و خواصّها المحيّرة للعقول. ثمّ واصل المؤلّف بحثه عن إثبات بقاء المادّة حسب قانون لافوازيه، و عن تبدّل أشكال الطاقة مع حفظ أصلها حسب القانون الأول للثرمو ديناميك، و عن استحالة نشوء وجود حيّ من مادّة غير حيّة، حتى أنّه استخلص من قانون لامارك و داروين علامات للقيامة، و اتّخذ من قانون لافوازيه طليعة بشارة لها ضدّ المادّيّين الطبيعيّين الذين ينكرون الخالق.
أخطأ مؤلّف كتاب «راه طي شده» في بعض مطالبه
لكنّ هذا البحث قد تضمّن إشكالات مهمّة عدّة:
الأوّل: الاعتقاد بأصالة المادّة و الالتفات الشديد إلى آثارها، لدرجة يصرّح معها في كثير من الموارد أنّه. على فرض إنكار الروح و بقائها فإنّ مطلبنا لن يتأثّر أو يتزعزع، بل سيبقى له أهمّيّته و قيمته. و في الحقيقة فإنّ كلامه كان بحثاً عن سيرة الأنبياء و حاصل أتعابهم و مجاهداتهم في إيصال البشريّة إلى الكمال، و في وجود المعاد و يوم الجزاء، لكنّ هذا البحث
لم يَعْدُ عن كونه بحثاً فيزيائيّاً و ميكانيكيّاً فقط، لم يتخطّ هذا الإطار المعيّن إلى خاتمته، ثمّ ينتهي بالاعتراف بالنتائج الحاصلة من هذه المادّة و علائقها العميقة الدقيقة.
الثاني: إنكار الروح المجرّدة، و بشكل عامّ إنكار جميع المجرّدات، فلم يأتِ في كتابه بذكر لِمَلَك مقرّب و لا لذكر العالم العلويّ، بل أنكر تصريحاً و تلميحاً عالم المعاني مقابل عالما لمادّة، و أنكر العالم العلويّ مقابل العالم السفليّ، و لم يميّز الروح عن الجسد،۱ و اعتبر الدعاء و التوسّل لغواً لا تأثير له، و الصحّة و السلامة مكفولة برعاية التعاليم الصحّيّة و الطبّيّة، سواء توسّل المريض بمريم أم بأبي الفضل العبّاس عليهما السلام أم لم يتوسّل.٢
و الثالث: اعتباره علم الحكمة و الفلسفة بشكل عامّ باطلًا لا فائدة ترتجى منه، و عدّ انتشارها في البلاد الإسلاميّة زمن الخلفاء العبّاسيّين ناشئاً من العداء لمدرسة أهل البيت عليهم السلام و محاولة جعلها سدّاً أمامهم.٣
و العجيب أنّه عدّ الحكمة بمعنى الفلسفة إلى ونانيّة! و فسّر الحديث
المروي عن الصادق عليهالسلام: الحِكْمَةُ ضَالَّةُ المُؤْمِنِ بمعنى مُضِلَّة المؤمن. و قال: و الظاهر أنّ قول الصادق. الحِكْمَةُ ضَالَّةُ المُؤْمِنِ كان في شأن هذه الفلسفة أو الحكمة إلى ونانيّة.
و قال في الهامش: إنّ البعض قد ترجم ضَالَّة المُؤْمِن بمعنى الشيء المفقود الذي يبحث عنه المؤمن، و ذلك دفاعاً منهم عن الحكمة إلى ونانيّة.۱ كما يقول في مكان آخر. لقد سِرنا منذ القدم الأوّل على طريق المتاهة فوصل بنا الأمر إلى السقوط في ضائقة كهذه! و لقد صدق إمامُنا حين قال: الحِكْمَةُ ضَالَّةُ المُؤْمِنِ.٢
الرابع: نسبته مطالب غير صحيحة للفلاسفة و الفقهاء المسلمين نتجت حسب رأيه إثر تماسّ و تلاقح الأفكار الفلسفيّة لحكماء إلى ونان الكبار مع أفكارهم و آرائهم. حتى يصل إلى القول (على لسانهم). ينبغى تقصّي منشأ أبسط حركة أو أثر حاصل في الأشياء أو الأشخاص في مشيئة العالم العلويّ، و بواسطة الأرواح اللطيفة من جنّ و مَلَك و غيره. فالسحب ترعد من لفح سياط الملائكة، و قوس قزح هو قوس أميرالمؤمنين، و الزلزلة و الصاعقة و السيل و القحط ليست إلّا بلاءً سماويّاً ينزل لتأديب العصاة، فإن تاب الناس و أقلعوا و رفعوا الأيدي مبتهلين متضرّعين بالدعاء فستتكاثف السحب بقدرة قادر و ستنهمر أمطار الرحمة.
أمّا سبب الأمراض و الأوبئة فهو غضب الله أو انتقام الجنّ للأضرار التي لحقت بهم، و السبيل إلى علاجها بشرب الماء الذي تُمتم عليه بدعاءٍ
ما، أو بالطلاسم و التمائم، أو بتسخير الأرواح.۱
الخامس: الاهتمام و العناية التامّة بمدرسة الغرب و العلماء الاوروبّيّين و علماء المسائل التجريبيّة و الطبيعيّة و الميكانيكيّة، و تجاهل علماء و فقهاء الإسلام و ذكرهم باسم المشايخ، و في صفّ القسسة،٢ و تقديمهم على أنّهم أفراد جامدون قصير و النظر ضحلو الأفكار؛ و التناسي الكلّيّ لخدمات نوابغ العلم و العلماء الحقيقيّين الذين غاصوا في متون الفكر و المعرفة؛ و الانشداد إلى مختبر فلان الفرنسيّ أو محلّ تجارب فلان الإنجليزيّ. و كان من بين مطالبه. «أنّ التقدّم العلميّ لم يجعل العالم المختصّ بالطبيعة موحّداً عمليّاً فقط، بل إنّه صار يدرك الصفات الثبوتيّة للّه أفضل بكثير من أمثال العلّامة الحلّيّ و الشيخ مرتضى الأنصاريّ؛ صحيح أنّه لا يتلفّظ بـ الله أكبر، لكنّ فهمه لعظمة الدنيا و سعتها، أي عن صنع الله، و إدراكه للقدرة الموجودة حتى داخل الذرّة الواحدة، يعادل ملايين المرّات ما افترضوه استناداً على الهيئة إلى ونانيّة».٣
نقد العلّامة الطباطبائيّ لكتاب «راه طي شده» الطريق المطويّ)
و ما يحضرني الآن أنّ العلّامة قدّس الله نفسه أشار في رسالته بإجمال - و كانت في حدود الصفحتين - إلى بعض المطالب التي ذكرناها، و ورد في جملتها أنّ الحكمة قد وردت في القرآن الكريم، و تعني المعرفة المتعالية و البناء الشامخ للفكر الواقعيّ طبقاً لإدراكات الإنسان الحقيقيّة؛ و قد امتدح الله تعالى نبيّه في موارد عديدة بأنّه وهبه الحِكْمَة، و لم يعدُ معناها في الروايات عن هذا المفهوم.
و أمّا ضَالَّة فمن مادّة ضَلَّ يَضِلُّ ضَلَالًا بمعنى الضياع، و هي فعل لازم ثلاثيّ مجرّد، و متعدّيه بمعنى الإضلال. أضَلَّ يُضِلُّ إضْلَالًا من باب إفعال ثلاثيّ مزيد.
و على هذا فإنّ ضَالَّةُ المُؤْمِن تعني أنّ علم الحكمة المفقود الوحيد للمؤمن، يشهد على هذا المطلب تتمّة الحديث. أيْنَمَا وَجَدَهَا أخَذَهَا، كالشخص الذي أضاع شيئاً فهو يبحث عنه، أينما بصر به أخذه.۱
و أمّا ما نسبتَ من رعد الغيوم جزّاء لفح سياط المَلَك، و تسمية قوس الله۱ بقوس أميرالمؤمنين و نظير هذه المسائل، فإنّ نسبة هذه المسائل إلى الفلاسفة المسلمين أمرٌ غريب جدّاً؛ و في أيدينا الآن جميع كتب الفلاسفة المسلمين من الطراز الأوّل مثل ابن سينا و الفارابيّ و صدر المتألّهين الشيرازيّ، و من الطراز الثاني كابن رُشد و بهمنيار و الخواجة نصيرالدين الطوسيّ، لكنّنا لم نَر و لم نسمع عن أحدهم شيئاً كهذا.
و أمّا إثبات عالم المجرّدات، و الروح المجرّدة، فلا ينافي حقيقة المادّة و آثارها، فلا بينونة و لا افتراق بينهما؛ فللمجرّدات تأثير في
المادّيّات هو عينه حكومة القوّة و أثرها في المادّة، لا فرق بينهما في هذا الأمر؛ و عالم المجرّدات هو في باطن و في طول عالم المادّة، لا في ظاهره و في عرضه. فمع وجود جميع الآثار التي تذكر للمادّة، و التي لا ينكر الحكماء و الفلاسفة أيّاً منها، فإنّ العالم العلويّ من المجرّدات و البسائط، و أخيراً من الصفات و الأسماء، و ذات الباري تعالى شأنه الذي لا شبهة في تجرّده تبعاً لقول الموحّدين مقابل المادّيّين، كلّها موجودة مع المادّة و الطبيعة، و لا يمكن تعقّل الانفكاك بينهما - انتهى ما بقي في ذاكرتنا من ردّ العلّامة بعد مرور هذا الزمن الطويل.
لقد كان المراد أنّ الإنسان حين يمتلك مهارة و تخصّصاً في فن معيّن، فإنّ عليه الاجتهاد في ذلك الفنّ فقط، و لا حقّ له في الدلالة في الفنون الاخرى بإظهار النظر و الحكم؛ و في غير هذه الحالة فإنّ مثل هذه الأخطاء و الهفوات ستكون من نصيبه.
و قد نشرت إحدى المجلّات أخيراً مقالة باسم «بسط و قبض تئوريك شريعت» (=انبساط و انقباض نظريّة الشريعة)، و عنونتها باسم «نظرية تكامل معرفت ديني» (=نظرية تكامل المعرفة الدينيّة).۱
و هذه المقالة مليئة بالأخطاء و العثرات، نشير فيما يلي إلى مواضع الخطأ حسب نظرنا.
الأوّل: بالرغم من تكرار الكاتب في عدّة مواضع من أنّ الشريعة كالطبيعة ثابتة لا تتغيّر، و أنّ ما يخضع للتغيير هو فهم الإنسان لهما، و تغيير الفهم الحاصل وفق ضرورات البيئة و نشوء العلوم و التفاعل سلباً و إيجاباً
بين المعلومات السابقة و النتائج الفعليّة، هو أمر حتميّ لا يمكن اجتنابه؛ لكنّه مع ذلك يستنتج في مقام التفصيل و البيان أنّ مجموعة معارف الإنسان في أي عصر، من فهم العلوم الحديثة و الاكتشافات المبتكرة و الفلسفات العصريّة، ينبغي فهمها بميزان و معيار فهم القرآن و السنّة، فما فهمه و استنبطه الفقه و الفقهاء و التفسير و المفسّرون و الحديث و المحدّثون فصار عماد عملهم يجب تحديثه وفق الاسلوب المعاصر، ليخرج باسلوب يقرّه العصر، و ليواكب و يماثل المدارس و الاتّجاهات العصريّة التي تعرض نتائج علومها و تحقيقاتها. و حاصل الأمر فإنّ على العالم و المفسّر و الفقيه أن لا يتّكل على أمر تعبّديّ أبداً، فيراعي في علمه و تفسيره و فتواه احتمال المراحل العالية و المنازل السامية التي لم ينلها، أو يضع القرآن و السنّة و الإسلام على محور الامور التعبّديّة؛ فما اعتمد عليه العلم العصريّ ينبغي أن يصبح هو المرتكز لهذا الامور، فذاك هو الاسلوب الوحيد الكفيل بتقدّم الفقه و العلم. و ردّاً على ذلك نقول.
بناء على هذا المنحى فلن يكون لدينا ثَمّة قرآن و لا سنّة، و لا فقه و لا تفسير، فإذا تقرّر إدخال العلوم البشريّة المتغيّرة في الغايات من العقائد و الأفكار و الأخلاق و العمل فسنكون قد سلبنا إلى الأبد من الدين و الشريعة ثباتهما، و مهما قلنا إنّنا نعتبر الدين و الشريعة محترمة و ثابتة، لكنّنا نكون من الناحية العلميّة قد وضعنا مفاتحها بأيدينا، فصرنا نحاول عند ظهور أي قانون و نظريّة أن نفسّرها و ندخل مستلزمات العصر في ثبات المذهب و أصالته، و في الحقيقة فإنّنا سنكون قد دققنا المسمار ليس في نعش الإسلام وحده، بل في نعوش جميع الشرائع.
و السرّ في ذلك أنّ العلوم البشريّة مهما سمت و علت و تكاملت فهي محدودة و مقيّدة، إذ يمكن أن يأتي علم أعلى منها و أسمى و يضع قدمه في
الميدان فيهدم ما بناه بالأمس.
و الشاهد على هذا أنّ جميع العلوم التي تعاقبت الواحدة بعد الاخرى فكلٌّ منها قد نسخ العلم الذي سبقه؛ كلُّ علم له مريدوه الذين يعتقدون - أوان ظهوره و بزوغ نجمه - أن لا علم أعلى منه و أسمى، و يعجز من أراد إلزامهم و إقناعهم بغير ذلك، لأنّه هو نفسه لم يصل إلى علم أعلى منه و أرقى؛ أمّا حين يُشرف نجم ذلك العلم على الغروب ليتوارى خلف الافق، و يظهر العلم الجديد الناسخ له، فإنّ القديم سيُعدّ في المسائل البالية الخرافيّة حتى عند أصحابه و أنصاره.
فالإلكترون الذي يُعدّ اليوم من بديهيّات علم الكيمياء و الفيزياء هو من علومنا و شؤوننا نحن، و في يومنا هذا لا في غدنا، و غداً حين يتوصّل البشر إلى اكتشاف أدقّ و أعمق، فينكر أصل الذرّات بهذه الكيفيّة و يزيح الستار لنا بالتجربة و الاختبار عن عجائب اخرى من الذرّة، عندها سنضحك على أفكار يومنا المنصرم، و نسخر من يقين و برهان و إصرار أمسنا.
إنّ الدين و الشريعة الإلهيّة الحقّة جاءت من عند الله تعالى، بأصالتها و واقعيّتها، و يقيناً أنّ تعبّديّاتها تفوق أوامرها و نواهيها البديهيّة بآلاف المرّات؛ و ليس للدين معنى غير نزوله من جانب العلم المطلق على الإنسان و البشر ذي العلم النسبيّ، و المرتقي يوماً بعد آخر من درجة القابليّة إلى الفعليّة، و سيبقى البشر في هذه الحالة مهما استعان بالعلوم و المعارف التجريبيّة؛ من ميكانيك و فيزياء و طبيعيّات، و من علم النفس و علم الاجتماع و علوم طبقات الأرض و النبات و الحيوان، و علم الحياة و الكيمياء المعدنيّة و الآليّة، و الهيئة و غيرها؛ قاصراً عن أن ينال بيده عالم الربوبيّة، أو يحيط بأسرار الخلقة و خفاياها التي لا تحصى و المحيطة به من كلّ جانب، و أن يزيح التعبّد عنه جانباً، إلّا أن نقول إنّنا قد فهمنا العالم
المطلق و اكتشفنا سرّه و لغزه، و هو قول جزاف خاطئ.
فجميع حكماء الأمس و اليوم غارقون في البحث الجادّ، و معترفون في الوقت نفسه أنّ يدهم لم تغترف من العلم شيئاً، و أنّهم بعدُ لم يرتووا من بحور الأسرار و العلوم قطرة!
إنّ أ وّل الأشياء التي تنكرها العلوم التجريبيّة الحاليّة هو وجود الملائكة و وجود الجنّ، فهم ينكرونها لجهلهم بها و عدم وصولهم لإدراكها، فيقولون: إنّنا لا نصدّق بشيء لا نراه و لا نحسّه، فإذا ما وُفّقت هذه العلوم التجريبيّة غداً لرؤيّة الملائكة و الشياطين فيومئذٍ سيحصل لهؤلاء اليقين و الإقرار.
الإيمان بالغيب و بملائكة العالم العلويّ شرط التقوى و الفلاح
أمّا الحكماء الإلهيّون و الربّانيّون المطّلعون على الحقائق و الأسرار، و العارفون بحريم قدس و أمان الله، فلهم بيانات كالشمس الساطعة عن وجود الملائكة و أشكالهم و شمائلهم و وظائفهم و تكاليفهم، و عن وجود الجنّ و أشكالهم و أصنافهم، كلّ ذلك اعتماداً و متابعة لآيات القرآن النازلة من المطّلع على الغيب بخفيّه و جليّه.
أفهل فقدنا رشدنا كي نعرض عن هذه الحقّائق صفحاً و نقول بأنّنا لا نعترف بالجنّ، لأنّ علم معرفة الجنّ لم يقرّر بعد في مناهج جامعات اوروبّا و أمريكا؟!
إنّ التوغّل و التعمّق في العلوم المادّيّة للحدّ الذي تعتبر المادّة عنده مع جميع آثارها و خواصّها المدهشة أزليّة أبديّة، و من ثمّ إنكار العالَم العلويّ و الملائكة و النور المطلق للخالق العالم الحكيم الواحد ذ ي الشعور المسيّر للعالم تحت هيمنته و إرادته و مشيئته الواحدة المباشرة، ليس إلّا عبادة المادّة و العكوف في محرابها؛ و عند الفلاسفة المادّيّين مدرسة في هذا الاتّجاه.
و لقد كرّر الطبيعيّون السابقون، و يكرّر المادّيّون اليوم هذه المقولة - عبر مدرستهم و اتّجاههم الفكريّ - مقابل الإلهيّين.
لكنّ القرآن، و هو الكتاب الحكيم المحكم، و لسان الخالق الناطق الحكيم بلا واسطة، اعتبر الإيمان بالغيب شرطاً لليقين و الفلاح:
أَ لَمْ ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ مِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ وَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَ ما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ.۱
فقد عدّ صراحة في هذه الآيات الإيمانَ بالغيب و العالم العلويّ و الآخرة و التعبّد المحض بما أنزل الله تعالى شرط السعادة الأبديّة، و عدّ بعدها مباشرة غيرهم من الأفراد كفّاراً، و حكم عليهم بالختم على القلوب و الأسماع، و بالغشاوة و الحجاب على الأبصار، و توعّدهم بالعذاب الأليم:
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَ أَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ، خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَ عَلى سَمْعِهِمْ وَ عَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ.٢
و كذلك فإنّ القرآن الكريم يعدّ من البرّ. الإيمان بالملائكة و العالم العلويّ، أي الإيمان بيوم الجزاء:
لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَ الْمَغْرِبِ وَ لكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ الْمَلائِكَةِ وَ الْكِتابِ وَ النَّبِيِّينَ.٣
و يعتبر إتقان و إحكام الكتاب الإلهيّ في خلوده و أبديّته، فمعانيه و مفاهيمه تبقى راسخة لا يزعزعها هبوب رياح الإلحاد و الكفر، و لا عواصف الزندقة و الشبهة، و يبقى في منأى عن عبث أيدي الملحدين أ ن تغيّر فيه و تهدم، و عن أن يستطيع الغبار المتكاثف و سُحُب النفوس الشيطانيّة الحالكة و وسوسة الإنس أن تنثر على طلعته المشعّة المنيرة هباء النسخ و البطلان.
فمعنى التصرّف في معاني الآيات القرآنيّة و رفع اليد عن ظهورها بلا قرينة يقينيّة نقليّة أو عقليّة هو الاجتهاد في اصول الدين، لا الاجتهاد في فروعه.۱
فالاجتهاد في اصول الدين خطأ، و الاجتهاد في فروع الدين ينبغي
أن لا يتخطّي الموازين الشرعيّة التي يختصّ بحملها الفقهاء.
أمّا التصرّف في مفاهيم الآيات القرآنيّة على أساس مناهج البحث و طرقه، و على أساس مفاهيم الإحياء و النهضة التي تستشمّ من المقالة المذكورة، فليس فقط نسخاً للقرآن، بل هو مسخ للقرآن.
و الإشكال الثاني: أنّ الفلسفة القديمة في نظر صاحب المقالة منزوية معزولة، قد نسختها الفلسفة الجديدة، حيث وصف الأخيرة بأنّها مفتاح طريق السعادة البشريّة إلى جادّة الرقيّ و التكامل.
و نجد لزاماً قبل البحث و الدخول في صلب الموضوع و التعمّق فيه و البحث في مواضع الخطأ و مواقع الهفوات، أن نذكّر بهذه النكتة.
إنّ إطلاقهم لفظ القديم و الجديد على أي فلسفة أو علم أو دين أو اتّجاه أو مدرسة يعبّر عن نواياهم بوأد القديم منذ الخطوة الاوّلى، و لتوجيه السامع نحو هذا الجديد مهما كان.
و هذا الاسلوب من أنجح أسلحة الاستعمار و أكثرها فعّاليّة، فهو يحاول منذ الوهلة الاولى باستعمال عنوان القديم و القدم، المتضمّن لمعاني التهرّؤ و التآكل و الرثاثة، أن يخطر ذلك المعنى و المحتوى و يرسّخه في ذهن السامع، ليبعد القديم عنه إلى الأبد و يُهيل عليه تراب النسيان، و لئلّا يدور في خلده يوماً حتى مجرّد الرغبة في رؤيته و التطلّع لمنظره الظاهريّ الخارجيّ.
و نلحظ تسميتهم مدارس طلبة العلوم الدينيّة و المعارف الإسلاميّة بالقديمة، و الجامعات السائرة على المنهج و الاسلوب الاوروبّيّ بالجديدة، فيكونون بعملهم هذا قد مهّدوا للقضاء على العلم و المعرفة و الدين و الحقيقة و الشرف و الإنسانيّة و الرسول و الإمام و الملك و الحديث و القرآن؛ و في المقابل فقد روّجوا للمادّيّة و ابّهتها و مظاهرها الخلّابة، و صادقوا على كيفيّة
تنشئة الجيل الجديد ليكونوا عبيداً و أسرى للثقافة المنحطّة و الأخلاق المشؤومة لُامم إليه ود و النصارى من الشرق و الغرب.
أي أنهم بقولهم إنّ هذه الدراسة جديدة و تلك قديمة قد قطعوا نصف الطريق، بل ثلثيه وصولًا إلى أهدافهم المشؤومة الشرّيرة. فالله سبحانه أقدم من كلّ قديم، و هو أجدّد من كلّ جديد، يستوي عنده القدم و الحداثة، فهو موجود دوماً، و حيّ و عالم و محيط دوماً، لأنّ له أصالة و ثباتاً، مقابل زوال و اضمحلال ما سواه.
إنّ نبيّ الإسلام، و دراسة القرآن، و البحث في التأريخ الإسلاميّ، و الفلسفة و العلوم الإسلاميّة، و حكمة الإسلام و عرفانه، وصولًا إلى جميع الفنون المتفرّعة عن شريعته المقدّسة، من علم التفسير و علم الحديث، و حتى العلوم التمهيديّة كالمنطق و العربيّة و الأدب العربيّ الذي يسلّط الضوء على لسان و لغة هذا النبيّ العظيم و هذه الآية الإلهيّة العظمى، هي كلّها جديدة ذات غضارة و نضارة، أشبه ببرعم غضّ فتح للتوّ أكمامه في جنينة الورد ذي العبير الفوّاح، تتأبّى القدم و الاندراس.
أمّا تلك العلوم التي تبحث أصالة عن المادّة أو تؤول إلى التوسّع المادّيّ و المأكل الجيّد و الاجترار الجيّد، الخاوية من آثار الإنسانيّة و الكمال و الحكمة الإلهيّة و العرفان الإلهيّ، فهي من المخلّفات و البقايا العتيقة المندرسة للُامم و الأقوام الهمجيّة و إنسان الغاب الحيوانيّ الذي تلبّس بالطراز الحديث، فصارت و حشيّته و همجيّته القديمة حديثة.
فهم يسقون شبابنا الصاعد باسم المدنيّة و التكامل نفس الوساوس و الأفكار الشيطانيّة، و يضعون في رقابهم نير العبوديّة (عبوديّة النفس)، و يحرمونهم من جميع مزايا الإنسانيّة باسم و عنوان جديد و ضمن قالب
و اسلوب حديث.۱
و ينبغي لهذا الأمر أن تُستبدل كلمة قديم التي استعملت للفلسفة و المدارس بكلمة أصيل.
و أمّا إشكالنا و بحثنا في اعتبارهم الفلسفة قديمة معزولة منزوية فهو إنّ علم الفلسفة الذي يُدعى بالحكمة و صاحبه بالفيلسوف و الحكيم، من أشرف العلوم التي حصل عليها الإنسان في تأريخ البشريّة إلى الآن من بين جميع العلوم، لأنّه علم بناء الإنسان ضمن قدرات البشر و طاقاته. و لقد جاء ذكر الحكمة في موارد عديدة من القرآن الكريم، وصف فيها الباري تعالى شأنه نبيّه الكريم في مقام امتداحه له بأنّه يعلّم الناس الحكمة:
هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَ يُزَكِّيهِمْ وَ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ إِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ.٢
و نلحظ هنا أنّ الله سبحانه يعدّ تعليم علم الحكمة وظيفة و واجب نبيّه الكريم، و جليّ أنّ هذه الحكمة غير القرآن، لأنّها وردت قسيماً لكلمة الكتاب و معطوفة عليها؛ و يعتبر الناس قبل البعثة في ضلال مبين لافتقادهم علم الحكمة و الرشد و التكامل الإنسانيّ.
و يذكر كذلك دعاء إبراهيم و إسماعيل عليهما السلام خلال بناء الكعبة أن. رَبَّنا وَ اجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَ أَرِنا مَناسِكَنا وَ تُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ.۱
و بعد ذلك يدعو الأب و الابن صاحبا الشأن العظيم و عبدالله المخلصان هذان ربّهما بهذا الدعاء: رَبَّنا وَ ابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ يُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ.٢
و نرى هنا أنّ أفضل دعاء و ابتهال لهذين النبيّين الجليلين؛ في ذلك الموقع الحسّاس و تلك اللحظات العظيمة في بناء الكعبة و رفع جدار قبلة المشتاقين لسلوك طريق المحبوب، و مَن شدّهم الوجد للقاء المعشوق، و المتلهّفين لاجتياز المادّيّات الملوّثة للطبيعة فانشغلوا بقطع الدنيا و هم فيها إلى ماورائها من عوالم؛ هو أن يبعث في هؤلاء القوم نبيَّ آخر الزمان.
مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِاللهِ ليعلّمهم الكتاب و الحكمة، فيخرجهم من زمرة البهيميّة، و يربيهم و يهديهم للتكامل و لبلوغ أوج كمال الإنسانيّة.
فكم هو قيّم جليل علم الحكمة ليدعو به إبراهيم و إسماعيل واضعا الحجر الأوّل في بناء التوحيد و شريعة الإسلام المقدّسة، ليكون من نصيب الثمرة الوحيدة التي تمخّض عنها علّام الوجود، و ثمرة فؤادهما الذي تمثّلت فيه أرقى و أسمى نماذج الحياة.
ثمّ يقول بعد ذلك بلا فصل:
وَ مَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ.۱
و يُستكشف من هذه الآية أوّلًا: أنّ السفهاء و المتخلّفين فقط هم الذين يُعرضون و يرغبون عن ملّة إبراهيم و سنّته.
و ثانياً: حسب قاعدة عكس النقيض، فإنّ: كل من لم يسفه نفسه، يرغب في ملة إبراهيم، أي أن. كل عاقل يرغب في ملته.
و بناء عليه فإنّ الحكماء و الفلاسفة الإلهيّين الذين تبعوا هذا النهج و السنّة هم العقلاء وفق المنطق القرآنيّ، أمّا المعرضون عن الحكمة فهم السفهاء الجهلة.
احترام الإسلام لحكماء إلى ونان و نزول سورة لقمان
و لقد مُنح علم الحكمة مضافاً إلى رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم للكثير من الأنبياء الإلهيّين، كداود عليهالسلام،۱ و عيسى ابن مريم عليه السلام،٢ بل يستفاد من إحدى الآيات الشريفة أنّ الحكمة قد وُهبت لجميع الأنبياء عليهم السلام؛٣ مضافاً إلى أنّ الله سبحانه يؤتي علم الحكمة لعباده المصطفين و المباركين الذين هم مورد لطفه و مشيئته، و قد عدّ ذلك من الخير الكثير:
يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ وَ مَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً.٤
و قد أورد الله سبحانه اسم أحد حكماء إلى ونان في القرآن و أنزل سورةً باسمه يذكر فيها كثيراً من كلماته و مواعظه و أحاديثه الحكميّة كدرس و قدوة خالدة للبشريّة.
و هذا الرجل هو لُقْمَان،٥ و سميّت السورة القرآنيّة باسمه. سورة
«لُقْمَان»:
وَ لَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَ مَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَ مَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ.۱
و في سورة الإسراء حيث يعدّد سبع عشرة آية في التوحيد و في الحدّ الأعلى من مكارم الأخلاق يقول بعدها مباشرة:
ذلِكَ مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَ لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً.٢
و مع أنّ كلمة الحكمة التي استعملت في هذه الآيات و نظائرها لم تكن لتعنى خصوص الحكمة إلى ونانيّة، و ذلك أوّلًا: باعتبار أنّ الحكمة وردت بمعناها الكّلّي و العامّ، و هو بمعنى علم معرفة الإنسان، و موقعه من خالقه و علاقته بالعالم و بالآخرين، و مراتب علاقة الجسم و روحه و تأثيرها المتبادل فيما بينها، و برنامج ضمان خيره و سعادته المطلقة، أي أنّه فُسِّر بعبارة موجزة بالعلم بحقائق الأشياء حسب إمكان البشر و قدرتهم.
و ثانياً: أنّ الفلسفة و الحكمة إلى ونانيّة التي رُغّب فيها متكفّلة ببيان
هذه المطالب، ممّا يمكن اعتبار أنّ هناك ارتباطاً وثيقاً لحقيقة الحكمة مع الحكمة إلى ونانيّة، و قد جاء في الروايات الواردة عن أئمّة أهل البيت مدح الحكماء الإلهيّين إلى ونانيّين و الثناء عليهم.
وقوف الفلاسفة الالهيين إلى ونانيّين بوجه الماديّين
و في الحقيقة فإنّ لهم الحقّ و الفضل العظيم على المجتمع البشريّ و عالم الإنسانيّة و الموحّدين و أصحاب الفضائل و المكارم، فقد نهض العلماء العظام المرموقون الموحّدون في إلى ونانيّون في وقت طغت فيه فلسفة السوفسطائيّين و بثّت الشكّ في كلّ أمر بديهيّ، و ساقت البشريّة إلى عالم الموهومات و التفكّك، و انتشرت و طغت فيه فلسفة الكلبيّين و أدّت إلى نهب أموال الناس و أطعمتهم، فقام هؤلاء العلماء إلى ونانيّون الموحّدون العظماء فشمّروا عن هممهم و أنجبوا - بالمجاهدات العظيمة و تشكيل حلقات الدرس و المدارس التوحيديّة على أساس البرهان و الشهود - التلامذة العظماء، و هزموا الاتّجاه المادّيّ في إلى ونان بالرغم من كلّ المشاكل و المرارة و تحملّ المصائب و الشدائد التي صُبّت عليهم و استلزمتها مجاهداتهم.
فقد ابتدع المادّيّون تبعاً لأبيقور (أبيكور) فلسفة هي أساس المذهب الحسّيّ، قالوا فيها إنّ سعادة الإنسان تكمن في لذّاته النفسيّة التي لا يمنع منها إلّا الحياء و العفّة و نظائرها من الأوهام التي أثقل الإنسان بها نفسه و سمّاها بالفضائل، لذا يلزم الإنسان أن يتخلّص من هذه الفضائل لينال سعادته، و هكذا صار، فكان هؤلاء كلّما عرفوا بوجود وليمة و مأدبة انقضّوا عليها و أكلوا كلّ الغداء الموجود عليها فلم يدعوا له باقية.
و كان تحمل هذا الأمر صعباً على أشراف إلى ونان، الذين عزّ عليهم أن تُنتهب أمام أعينهم المآدب التي أعدّوها لضيوفهم، و لم يروا بدّاً من استئجار أفراد خاصّين في منازلهم يقفون متأهّبين و النعال في أيديهم
لينهالوا بها ضرباً على رؤوس هؤلاء.
و كان الفلاسفة المادّيّون، و من بينهم أبيقور نفسه، كلّما أحسّوا أنّ النعال ستنهال عليهم لجأوا إلى الهرب، و إلّا فإنّهم كانوا يهجمون فينهبون و لا يدعون لصاحب البيت شيئاً.
و كان اسلوب الكلبيّين هو هذه الطريقة المادّيّة المحضة و الإلحاد الصرف، الذي يرتضيه كلّ شخص ملحد و لا يتعدّاه قيد انملة، لأنّ هذه الفلسفة لا ترى معنى للحسن و القبح و الحلال و الحرام، فلا زاجر و لا رادع للنفس عمّا تشتهيه و تطمع فيه، و هذه هي الفلسفة الشيوعيّة.
و إذا ما لاحظ الإنسان أنّهم يستنكفون عن بعض الأعمال الوضيعة، أ و يستعملون عبارة الحياء و العفّة في كلامهم، فهم إمّا أ ن يلفظوها نفاقاً و رياءً و تظاهراً، أو أن يكون ذلك من رواسب بعض التعاليم الدينيّة الممتزجة في نفوسهم مضافاً إليها عدم وضوح مستلزمات نهجهم و فكرهم لديهم بالقدر الكافي.۱
و لقد قام سقراط الحكيم، و تلميذه العظيم أفلاطون الحكيم، و تلميذ تلميذه. أرسطو أو أرْسطاطاليس في تدوينهم علم المنطق و الحكمة بهدم اسس و كيان فلسفة المادّيّين و آثارها، فدوّنوا فلسفة الإلهيّين على أساس الحقّ و الواقع، و استدلّوا على احتياج عالم الطبيعة إلى ربّ ذي شعور حكيم و حيّ و أزليّ و أبديّ و قادر، هو مسبّب الأسباب و علّة العلل، و بنوا حكمتهم على أساس مكارم الأخلاق و الفضيلة و عالم ماوراء الطبيعة الذي بُرْهِن
عليه في البرهان الأرسطيّ و في المشاهدات الإشراقيّة الأفلاطونيّة.
و قد جرى تدريس كتب أفلاطون و أرسطو في اوروبّا، ثمّ قام روجر بيكون و من بعده فرنسيس بيكون في نهايات القرون الوسطى (القرنين الرابع عشر و الخامس عشر الميلاديّ) و من بعدهم ديكارت في القرن السابع عشر الميلاديّ، بهدم أساس الفلسفة الأرسطيّة، و استمرّ ذلك لغاية المائتى سنة الأخيرة عند ظهور نيوتن، ثمّ تبعه أينشتَين في عالم الفيزياء، حيث انصرف اتّجاه عامّة الناس عن التوحيد و المعارف و الأخلاق و الفضائل، و عاد إلى المادّيّة و حياة التجمّل و امتطاء الشهوات و عدم إدراك الشخصيّة الإنسانيّة، و انتهى العمل بتلك المدرسة فلا يُري في اوروبّا و أمريكا اليوم فيلسوف إلهيّ يقوم بتعليم و تنشئة تلامذة أخلاقيّين ملتزمين، أو بتدريس كتب أفلاطون و أرسطو؛ و هو خسارة بل فاجعة كبرى حلّت بتلك الامم، فلقد صار الإنسان الذي يتحرّى شخصيّته في اتّباع التعاليم المنقذة للمسيح على نبيّنا و آله و عليهالسلام، يحثّ الخطى مسرعاً تجاه التمدّن الآليّ و علوم الميكانيك و الطبيعة، بشكل نسي معه نفسه و شخصيّته و إنسانيّته و شرفه و عزّته، فلم يتمتّع بالدنيا، بل صار كالآلة و الأداة المسخّرة بِيَدِ الميكانيك، و هذه هي عاقبة ترك تدريس الحكمة إلى ونانيّة في اوروبّا.
مقولة الِكسيس كارل حول أضرار المدنيّة و الثقافة الجديدة علي
يقول الدكتور الكسيس كارل في مقدّمة كتابه «انسان موجود ناشناخته» (=الإنسان ذلك المجهول):
فليس في مقدور الإنسان الاستمرار في متابعة التمدّن الآليّ في الطريق الذي سلكه، لأنّه يؤدّي و يسوق إلى الانحطاط، فلقد بهرته علوم المادّة بجمالها حتى سلبت عقله و شغفت لبّه، و صار جسمه و روحه يخضعان لقوانين معقّدة هي أشبه بقوانين عالم النجوم التي لا تتغيّر
و لا تتبدّل، و لا يمكنه تخطّيها بدون التعرّض لخطرها و أضرارها.
لذا فإنّ من الضروريّ التعرّف على العلائق التي تربط الإنسان قهراً بالعالم و بأمثاله من البشر، و التعرّف على الروابط بين أنسجته و روحه.
و في الحقيقة فإنّه ينبغي أن يُقدَّم الإنسان على كلّ شيء آخر، لأنّ جمال التمدّن سيزول بانحطاط الإنسان، بل و حتى عظمة عالم النجوم، و قد الّف هذا الكتاب من أجل هذا الأمر.۱
و كان فردريك كودر الذي شمل نظره الصائب اوروبّا عبوراً من أمريكا، هو الباعث و المحرّك لتأليف هذا الكتاب. و بكلّ تأكيد فإنّ كثيراً من الامم ستسير في الطريق الذي خطّته و بدأته أمريكا الشماليّة، لأنّ جميع الممالك قد قبلت بروح المدنيّة الصناعيّة و طرقها بلا تبصّر، و ستواجه
إنجلترا أو روسيا، ألمانيا أو فرنسا نفس المخاطر التي تواجه أمريكا حاليّاً.
ينبغي لاهتمام الإنسانيّة و توجّهها أن يتحوّل عن الآلة و المادّة إلى جسم الإنسان و روحه، و أن يعطف على الكيفيّات البدنيّة و المعنويّة التي بدونها لن يكون للآلات و لعالَم نيوتن و أينشتَين من وجود.
إنّنا نفهم تدريجيّاً ضعف تمدّننا، و هناك الكثير ممّن يتمنّون اليوم النجاة و الخلاص من قيود أسر المجتمع الحالي، و هم الذين الّف هذا الكتاب من أجلهم، و كذلك من أجل المفكّرين المتطرّفين الذين يعتقدون ليس فقط بوجوب إحداث تغييرات في الشؤون السياسيّة و الاقتصاديّة، بل بوجوب انقلاب و تغيير جذريّ في اصول المدنيّة الصناعيّة، و يتمنّون طريقاً آخر للرقيّ الإنسانيّ.۱
و كان مستر فرنكل و هو من رجالات الإنجليز يتأسّف على إلغاء تدريس الفلسفة إلى ونانيّة في اوروبّا، فيقول:
بالرغم من أنّ المتأخّرين عنّا قد وصلوا للدرجة العليا من العلوم و الصناعات، لكنهم لم يصلوا إلى عُشر ما وصل إليه إلى ونانيّون، لذا فلو كانت تلك الكتب باقية إلى اليوم، و اضيفت علوم إلى ونان إلى علوم الناس الحاليّة، فستصبح دنيا اليوم جنّة، لا يمكن أن نجد فيها شبراً واحداً إلّا و هو معمور بأنواع العلوم و الفضائل.٢
لقد عاش أفلاطون قبل بعثة عيسى ابن مريم على نبينا و آله و عليه
السلام بخمسمائة عام، و قد نُسب إليه افتراءً أنّه قال: إنّ شريعة عيسى وُضعت لضعفاء العقول، لكنّي - و قد لمستُ الحقيقة - لن أخضع لهذه الشريعة؛ فقد عاش كما ذكرنا قبل بعثة السيّد المسيح، و كان استاذاً لأرسطو، و كان أرسطو بدوره استاذاً و وزيراً للإسكندر المقدونيّ، حيث إنّ زمن الإسكندر المقدونيّ مدوّن في صفحات التأريخ. و كان لأفلاطون حكمة الإشراق، و هو على رأس سلسلة الرواقيّين، و كان يحصل له كشف الحقائق و المعارف الإلهيّة بالرياضات و المجاهدات الباطنيّة عن طريق تصفية الباطن، في حين كان أرسطو تلميذ أفلاطون يمتلك حكمة المشّائين، و لم يكن ليعتني بالباطن أو يعتمد عليه أبداً، بل اسّس المسائل الحكميّة من وجهة نظر البرهان فقط.
و قد بنى الإسكندر بعد فتحه بلاد المشرق ميناء الإسكندريّة في مصر و أسّس فيها مدرسة قام تلامذة أفلاطون بالتدريس فيها، و دُعيت طريقتهم بـ الطريقة الأفلاطونيّة الجديدة لضمّها بعض قوانين أفلاطون إلى جنب بعض الإضافات الجديدة الاخرى، حيث بقي هذا المذهب إلى زمن فتح الإسكندريّة على يد المسلمين زمن عمر فانهار بعدها، و كان أحد كبار هذا المذهب يدعى ثاميطورس و قد أسلم و دُعي بعدها باسم يحيي النحويّ.
أمّا كتاب الاثُولوجيا،۱ و هو كتاب مختصر و نافع، فقد الِّف على أساس الحكمة الإشراقيّة من قبل أفلوطين - أحد أتباع هذا المذهب - و نسبه البعض خطاً إلى أرسطو.
و قد تُرجمت كتب إلى ونان في الطبّ و الفلسفة و الهيئة و الهندسة إلى العربيّة زمن الإمامَين الرضا و الجواد عليهما السلام من قبل حُنين العباديّ، و قد حرّر ثابت بن قُرَّة اصول أقليدس و كان أوّل من هذّبه و حلّ مشكلاته و معضلاته.
و بالرغم من ترجمة هذه الكتب إلى العربيّة من قبل الخلفاء العبّاسيّين و بأمرهم، ولكن لا يوجد هناك أي دليل على أنّ ذلك قد حصل لمعارضة الأئمّة عليهم السلام و الوقوف بوجههم.
ذلك لأنّ الطبّ و الفلسفة و الهندسة و أمثالها من العلوم لا تخلو فقط من معارضة مدرسة أهل البيت، بل إنّها كانت موافقة لها، فالبرهان و المنطق يوضّحان بصورة أفضل الأقوال الحقّة لأئمّة الدين، و لم يكن مدّعاهم خاطئاً ليخشوا و يقلقوا من المنطق و القياس.
و كان جمع من تلامذة الإمام الصادق عليهالسلام، أمثال محمّد بن النعمان المعروف بالأحول و مؤمن الطاق و هشام بن الحكم من أهل الجدل و البرهان، و الحاصل من شرح حالات هشام بن الحكم على وجه خاصّ أنّه قد عرف الفلسفة و درسها؛ و كان هؤلاء يصرّون بمنطقهم و برهانهم القويّ القويم على إشاعة مدرسة الولاية و إثبات حقّانيّتها.
و لقد بقيت حكمة المشّائين و كتب أرسطو تُبحث و تُدرّس بشكل مستمرّ في المدارس و المساجد حتى ألّف المعلّم الثاني الفارابي، و الشيخ الرئيس ابن سينا كتباً مستقلّة في الفلسفة، و ظهر علماء، جيلًا بعد جيل و عصراً بعد عصر، من أمثال ابن فهد، و ابن مسكويه، و ابن رُشد، و الخواجة نصيرالدين الطوسيّ۱، و مير فندرسك، و الميرداماد الذين أوضحوا و بيّنوا
...۱
خجسته رهنموني ذو فنوني | *** | كه در هر فنّ بود چون مرد يك فنّ |
في كلّ فنٍّ بارِع كأنّه | *** | لم يتّخذ سواء إلّا فنّه |
و يا عجباً منّي أحاول وصفَه | *** | و قد فنيت فيه القراطيس و الصحفُ |
كتاب فضل ترا آب بحر كافي نيست | *** | كه تركني سر انگشت و صفحه بشماري |
عالم الإسلام و التوحيد و النبوّة و الإمامة و المعاد و الأخلاق و مكارم الفضائل بنور معارفهم في تفسير القرآن و بيان حقائقه العلميّة و الفلسفيّة، حتى وصل الأمر إلى أفضل الحكماء و أشرف الفلاسفة الأقدمين من المتقدّمين و المتأخّرين، صاحب مدرسة الإشراق و حائز معارف المشّائين، الجامع بين العرفان و البرهان، و بين صفاء الباطن و قوّة البرهان و المنطق:
صدر المتألّهين الشيرازيّ أعلى الله درجته و جزاه الله عن الإسلام و المسلمين و عن التفقّه و الفكر و العلم خير جزاء المُعَلِّمين. فقد عاش عمراً في الزهد و العرفان مع ذكائه و مواهبه الفريدة و نبوغه الذاتيّ المكتسب؛ جمع في اسلوبه بين مدرسة المشّائين و الإشراقيّين و أهل التفسير و الحديث، و خطى خطواته في ساحة المجاهدة و الشهود مع احترامه و إكرامه لصاحب الشريعة و القرآن و مقام الولاية الكبرى لحلّ المعضلات
من الروايات، و التفسير المشكل من الآيات، و للوصول إلى أعلى درجات اليقين و الورود إلى مقام الصدّيقين، محلّقاً بجناحَي العلم و العمل، فحلّ مسائل الفلسفة ببرهانه المتين، و أضاف خمسمائة مسألة مبتكرة على مسائل الحكمة إلى ونانيّة التي لم تتجاوز اصولها المائتي مسألة، فأوصل مسائل الحكمة إلى سبعمائة مسألة.
وجوب إحياء تدريس «الأسفار الأربعة» في الحوزات العلميّة
و لقد هدم صدر المتألّهين اصول الفلسفة إلى ونانيّة و صار بنفسه مؤسّساً لفلسفة جديدة و معجون يلائم الطبع من حكم الفطرة و حكم العقل و حكم الشرع، صاغه بفكره الصائب من بين آلاف الكتب في الفلسفة و الحديث و التفسير، فسقى منه عشّاق العرفان، و مشتاقي الاستدلال و البرهان، و المتلهّفين من المتشرّعين و أهل الإيمان، ثمّ بتأليفه العديد من الكتب التي كان من أهمّها كتاب «الأسفار الأربعة»، فقد بعث حياة جديدة في العلم و البرهان، و في اليقين و العرفان، و في الشرع و الإيقان، و صار ملجأ و مأوى للحكماء الصادقين في دفع و ردّ شبهات المنكرين و الملحدين من المادّيّين و الزنادقة و المنحرفين عن الولاية المطلقة الكلّيّة؛ و سنداً و ناصراً للقرآن بالشكل الذي صار الكلّ في السنين الأربعمائة الأخيرة يجلس إلى مائدته و يرتوي من شرابه المعين، و يستفيد و يستنشق من بركات أنفاسه القدسيّة و رحمات كتبه المؤلّفة السنيّة؛۱ و لا زال هذا الكتاب
صدرا جاهت گرفت باج از گردون | *** | اقرار به بندگيت كرد افلاطون |
در مكتب تحقيق نيايد چون تو | *** | يك سر ز گريبان طبيعت بيرون |
افلاطون زمان استاد عالم | *** | كه با او دل نيارد ياد عالم |
جهان فضل را مهد دل افروز | *** | شب جهل از فروغش طلعت روز |
چو او در مُلك دانش صدر گرديد | *** | هلال دانه دانش بدر گرديد |
به يُمن نسبت او خاك شيراز | *** | بهاي خون صد يونان دهد باز |
نيارد مثل او در دانش و هوش | *** | فلك گو تا أبد ميگرد و ميكوش |
آنانكه ره دوست گزيدند همه | *** | در كوي شهادت آرميدند همه |
در معركة دو كون، فتح از عشق است | *** | هر چند سپاه او شهيدند همه |
رائجاً مستعملًا في الحوزات المقدّسة العلميّة لطلبة العلوم الدينيّة، و ما برح هذا السِّفر العظيم و الرسالة المبينة التي ترتكز على أصالة التوحيد تُبحث و تُدرّس و يزداد رونقها يوماً بعد يوم بحمد الله و منّه حيث تُظهر عقم الفلسفة الغربيّة الخاوية برغم أنف أنصار المدرسة المادّيّة و أتباع الزندقة
و المبهورين بفلسفة الغرب. فالحوزات العلميّة منهمكة بتدريس هذا الكتاب، سواء في النجف الأشرف أم في بلدة قم الطيّبة، أم في دار العلم أصفهان، أم في المشهد الرضوي المقدّس و سائر أمكنة العلم و مراكز المعرفة، ممّا أعمى أبصار الخفافيش من معاندي الإسلام!
ألا يحزّ في النفس ان نتمنّى زوال بحث و تدريس هذا السفر الجليل في الحوزات العلميّة تحت مبرّر الفلسفة القديمة،۱ و نتشدّق بالحديث عن العالم الفارغ لبيكن و الفلسفة الخاوية لكانت و ديكارت؟! أو أن نبحث عن العون في ملاقحة الفقه مع الفلسفة الجديدة من أفكار فرويد و برتراند راسل؟! فنُجيز عمل اللواط و نهج قوم لوط الذين يندى لذكر قبائحهم جبين تأريخ البشريّة؟! أو نتابع مجلس الأعيان الإنجليزيّ فنوقّع علناً على شرعيّة
اللواط؟!
أ وَ ليس «انبساط و انقباض نظريّة الشريعة» يرتوي من ذاك النبع؟
أفهل يتمخّض دخول الفلسفة الحديثة في الحوزة العلميّة، و إلغاء تدريس الفلسفة المانحة للحياة و السعادة و حاصل ألف سنة من أفكار علماء مثل ابن سينا و الفارابيّ و الميرداماد في القالب الفكريّ البكر الفريد للملّا صدرا الشيرازيّ عن غير هذه النتيجة؟
لقد قال المرحوم آية الحقّ و سند الفلاسفة الحكيم الأعظم آية الله المفخّم الحاجّ الميرزا مهدي الأشتيانيّ أعلى الله درجته، و كان فيلسوفاً عظيماً و نابغة في الحكمة و الفلسفة عند عودته إلى طهران بعد سفره للمعالجة و إجراء عمليّة جراحيّة في ألمانيا: حين رقدتُ في المستشفي في ألمانيا جاء جميع الفلاسفة هناك لرؤيتى بسبب شهرتي لديهم، و قد بحثتُ معهم في اصول مسائل الفلسفة، فشاهدتُ حقّاً أنّ معلوماتهم تقلّ عن معلومات أحد الطلبة المبتدئين في حوزاتنا.۱
أمّا قول القائلين بأنّنا لا نحتاج إلى العلوم العقليّة و الحكمة، فما ورد من العلوم العقليّة في أخبار الأئمّة عليهم السلام، فنستفيد منه و ما لم يرد فيها فلا حاجة لنا به؛ فيماثل كلام عمر حين كتب إلى عمرو بن العاص حاكمه في مصر.
وَ أمَّا الكُتُبُ التي ذَكَرْتَهَا فَإنْ كَانَ فِيهَا مَا وَافَقَ كِتَابَ اللهِ، فَفي كِتَابِ اللهِ عَنْهُ غِنَى. وَ إنْ كَانَ فيهَا مَا يُخَالِفُ كِتَابَ اللهِ، فَلَا حَاجَةَ إليه. فَتَقَدَّمْ بِإعْدَامِهَا فَشَرَعَ عَمْرُو بْنُ العَاص في تَفْرِيقِهَا عَلَى حَمَّامَاتِ الإسْكَنْدَرِيَّةِ وَ إحْرَاقِهَا في مَوَاقِدِهَا.۱
فهذه المقولة بمثابة سدّ باب التحقيق و التدقيق و نشر علوم و ثقافة الدنيا و الآخرة، و هي ذات قول عمر: حَسْبُنَا كِتَابُ اللهِ.
فلو لم يكن هناك مفسّر و حارس للقرآن كالعترة، فإنّه سيصبح وسيلة لكلّ جانٍ يحتجّ و يستشهد بآيات القرآن على حكومته الجائرة؛ و كذا الأمر في فهم روايات الأئمّة عليهم السلام باعتبارها ليست في مرتبة واحدة، و لاستناد الكثير منها على علوم دقيقة عقليّة، فإن لم يُستعن بالعلوم العقليّة في حلّ تلك الدقائق و المعارف العظيمة فإنّ عاقبتها ستكون الجمود على الظواهر، نظير التشبيه و التعطيل و التجسيم و الجبر و التفويض، أو كالشيخيّة و الأخباريّين في فهمهم المعاني السخيفة و المتدنّية من كتاب الله، و استنباطهم المفاهيم السطحيّة التافهة من الروايات، و حاشاه و حاشاهم عن مثل ذلك.
اهتمام حوزة النجف الشديد بتدريس الفلسفة و العرفان
لقد كتب آية الله الشهيد الحاجّ السيّد محمّد علي الطباطبائيّ القاضي رضوان الله عليه في تعليقة على كتاب «الفِرْدُوسُ الأعْلَي» لآية الله المعظّم الحاجّ الشيخ محمّد الحسين كاشف الغطاء مطالب في مقدّمتها
نوردها هنا، حيث كانت جامعة النجف في كلّ الأزمنة مركزاً للبحوث و التحقيقات العلميّة و الفلسفيّة و الذبّ عن حريم الإسلام المقدّس. «و ليعلم إخواننا بالقطع و اليقين أنّ من نيّات أعداء الدين و خصماء المذهب من الامم الأجنبيّة و من مكايدهم الممقوتة، هدم أساس هذه الجامعة و محوها و إبادة مجدها و عظمتها و حطّها عن مقامها الشامخ في عالم التشيّع و نسف حضارتها العلميّة و نزعاتها الدينيّة، و لهم السعي البليغ في تهيئة أسباب ضعفها و سقوطها و اضمحلالها و إرجاع الناس إلى غيرها و ترغيبهم إلى سواها في أمر التقليد و الفتوى، و تحكيم الجمود على أفرادها و سوقهم إلى نبذ أغلب العلوم إلى ورائهم ظهريّاً، و الاكتفاء ببعض العلوم التي لا تكفي في قلع أساس الأباطيل و الأضاليل و قمع جرثومة الزندقة و الإلحاد، كما فعلوا ذلك كلّه بالنسبة إليها بعد أوائل هذا القرن، و شاهدنا ذلك في السنين الأخيرة و في أثر ذلك توقّف جمع من الأساتذة في هذه الجامعة عن دراسة بعض العلوم، وَ صَارَ هَذَا الأمْرُ مِنَ الجِنَايَاتِ التي لَا يَسُدُّهَا شَيءٌ إلَّا التَّيَقُّظُ وَ سَدُّ هَذِهِ الثُّلْمَةِ بِالحُرِّيَّةِ التَّامَّةِ في تَحْصِيلِ العُلُومِ بِشَتَّى أنْوَاعِهَا».۱
و يقول المرحوم كاشف الغطاء في هذا الكتاب:
وَ الظَّاهِرُ بَلِ اليقين أنَّ أقْوَى المُسَاعِدَاتِ وَ أعَدَّ الأسْبَابِ وَ المُوجِبَاتِ لِلْوُصُولِ إلى مَقَاصِدِ امَنَاءِ الوَحْي وَ كَلماتِ الأنْبِيَاءِ وَ الأوْصِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ إنَّمَا هُوَ فَهْمُ كَلِمَاتِ الحُكَمَاءِ المُتَشَرِّعِينَ.۱
و قد كتبتُ رسالة مختصرة لم تطبع حتى الآن في وجوب الاهتمام بتعلم الحكمة و العرفان، دوّنتُ فيها أسماء جمع كثير من جهابذة العلماء و أساطين الفقاهة الشيعيّة من صدر الإسلام إلى الآن ممّن كان لهم اهتمام أكيد بعلم الفلسفة و العرفان، و كانوا بالرغم من حيازتهم مقامات عالية في الفقه و الحديث يعدّون من المدرّسين الأجلّاء لهذه العلوم.٢
عبارات مقالة «بسط و قبض تئوريك شريعت» في الرّد على الفلسفة
و يلزم الآن و قد بانت الضرورة الأكيدة لتدريس و تعلّم الحكمة
المتعالية و الفلسفة السامية، و تحصيل العرفان، و الارتباط بعالم الربوبيّة عالم ماوراء الطبيعة، و لقاء الحضرة الأحديّة، و لزوم المشاهدة و المعاينة و البرهان إلى يقينيّ على ربط القديم بالحادث، و إحاطة وهيمنة الله الخالق الحكيم العليم، في الحوزات العلميّة المقدّسة التي تمثّل جامعات بناء الإنسان و تربية الآدميّين، و مدرسة لتعليم القرآن و تعلّمه، و إشاعة روح و سرّ النبيّ و مقام الولاية؛ يلزمنا أن ننقل نصّ عبارات من كاتب مقالة «بسط و قبض تئوريك شريعت» (=انبساط و انقباض نظريّة الشريعة» لتتّضح أكثر فأكثر مواضع الخطأ و مكامن الاشتباه فيها مضافاً إلى ما ذكر، فقد قال:
هل يمكن الاعتقاد بعلم النفس القديم و الاعتماد على تلقينه و تكراره في الوقت الحاضر مع إهمال الطبيعيّات الحديثة (أي علوم وظائف الأعضاء و الأنسجة و الكيمياء الحيويّة و الأجنّة و ...)؟
و هل يمكن تعريف موجود غير مادّيّ بدون معرفة أفضل للمادّة؟
إنّ كلّ القدرات التي كشفت حاليّاً في المادّة و أنواع تركيباتها تدعونا لفهم جديد للُامور غير المادّيّة، و نتساءل. ألم يكن تضخيم القدماء لمسائل ماوراء الطبيعة في الحقيقة جزءاً من جهالتهم؟
و يمكن التوسّع أكثر في هذا السؤال، فنسأل. ما الذي حصل هذه الأيّام فدعى حوزات العلوم الدينيّة إلى إخراج الطبيعيّات القديمة في تكتّم و هدوء من ساحة الفلسفة و إلغاء تدريسها، و القبول إلى حدّ ما، بالعلوم الحديثة، لكنّ غياب علوم الطبيعة القديمة تلك لم يضرّ ما بعد الطبيعة و لم يُحزنها بشيء؟!
أفيمكن فكّ ارتباط إلهيّات الفلسفة مع الطبيعيّات بشكل كامل، كي تبقى الإلهيّات محتفظة بهيئتها و قوامها السابق؟
أفلم تكن مسائل ما بعد الطبيعة قد صُمّمت ليمكنها ضمّ تلك
الطبيعيّات و احتوائها داخلها؟
أو هل ولد و نشأ ذينك الاثنان بلا ارتباط و تناسب بينهما؟
أ وَ هَلْ يمكن اليوم أن يُقبل بالطبيعيّات الحديثة (العلوم التجريبيّة الحديثة) مع ترك الفلسفة محفوظةً يجري تدريسها بدون أن تمسّها يد؟
لقد كانت تلك الإلهيّات هي الموجّه و المكمّل و المبرّر لتلك الطبيعيّات، و كان بناء المعرفة الشامخ ذاك ذا طابقينِ لا غرفتينِ، أفيمكن لانهيار أحد الطابقين أن يترك الآخر بلا ضرر أو تأثّر؟
إنّ الاضطراب و التشويش المشاهَد هذه الأيّام في كلمات أعلام الدين في رفع تعارض العلوم البشريّة مع معارف الوحي ناشئ من إنّ علماء المعرفة و الطبيعة القديمين لم يخليا مكانهما بشكل كامل لعلمَي المعرفة و الطبيعة الحديثينِ.
و لا يزال علم الكلام الإسلاميّ و فهم الشريعة غير متلائم و لا منسجم بعدُ مع المعارف الجديدة، و لم يتّخذ مكانه المناسب في الهندسة الجديدة للمعرفة. لذا فإنّهم يجهدون، اعتماداً على علم المعرفة القديم (بدون لحاظ ظرائف الأبحاث الجديدة في الفلسفة و اسلوب المعرفة العلميّة) ليحكموا على المكتسبات العلميّة الجديدة و يَزِنُوا معارضتها أو موافقتها للمعارف الدينيّة.۱
حتّى يصل إلى القول:
و يجب الإذعان إنّ شيئاً لم يبق على سابق عهده، لا أدبنا و لا فلسفتنا و لا كلامنا و لا عرفاننا، فلقد وقع فيها جميعاً الانبساط و الانقباض، فمن أين يتأتّي الادّعاء بأنّ فهم الشريعة يمكنه أن يبقى في منأيً عن رياح التغيير، و أن لا يتضرّر أو يربح في معاملته معها أخذاً أو
عطاءً؟۱
إلى قوله:
و لهذا السبب فإنّ فلسفتنا لماوراء الطبيعة، و قد انعزلت منذ القدم بعيداً عن المعرفة العلميّة الطبيعيّة، لم تتضرّر بنفسها و تتضاءل، بل إنّ الفلاسفة هم الذين تضرّروا لهذا السبب، فلم يقدّر لهم أن يروا وجه الفلسفة كما ينبغي أن يكون عليه و ضّاءً مشرقاً.٢
إلى قوله:
و لا نظنّ أيضاً أنّه يمكن تصديق أنّ علم النجوم القديم قد انفصل عن الفلسفة، لكنّ فلسفة ماوراء الطبيعة بقيت على حالها، إذ إنّ تلك الفلسفة صمّمت لتضمّ علم النجوم ضمنها، و إنّ الانقلاب و التحوّل الكامل لهذا العنصر و لعناصر اخرى غيره مع بقاء الإطار السابق سالماً أمرٌ لا يقرّه العقل و لا يتحمّله.
فلقد بدت علائم تحوّل ماوراء الطبيعة، و على الفلاسفة إلى قظين أن يكونوا جادّين في النظر إليه ا، و أن يَزِنُوا منظومة المعرفة الفلسفيّة من جديد، فالمعرفة التجريبيّة في العصر الجديد قد جاءت متحدية داعية للمنازلة، أمّا ماوراء الطبيعة فليس لها فلسفة علميّة موزونة و راسخة، و هي لا تستمدّ العون من بحث المعرفة، فهي بمجموعة من الأقوال المتناثرة أشبه منها بمنظومة متّسقة من الآراء المرتبطة ببعضها.٣
لا علاقة ببحث الالهيّات و فلسفة ماوراء الطبيعة مع بحث الطبيعيّات
و يُقال في الإجابة على هذه المطالب. ينبغي القول لجميع هذه الاحتمالات و الإشكالات التي وردت بصورة استفهام في المجموعة
المذكورة إنّها ليست إلّا مطالب لا دليل لها، و مدّعى خالياً من البرهان، و خطابة نظّمت بلا مطالعة و تحقيق، و شعراً قيل بلا فهم و تدقيق.
فأوّلًا: ما هي علاقة فلسفة ماوراء الطبيعة و الإلهيّات بالمعنى العامّ و الخاصّ بالفلسفة و العلم الطبيعيّ؟
ينبغي أن يكون ارتباط العلوم فيما بينها أو عدم ارتباطها إمّا في الموضوع أو في الحكم، و بعبارة أشمل. من جهة المسائل أو من جهة الغاية و الهدف.
إنّ الحكمة الإلهيّة و فلسفة ماوراء الطبيعة لا ترتبط أبداً في أي من هذه الجهات مع المسائل الطبيعيّة الواردة في العلوم التجريبيّة مع ملاحظة توسّعها.
فهناك في الحكمة الإلهيّة البحث عن العلّة و المعلول، و التقدّم و التأخّر، و الوحدة و الكثرة، و الوجود و الماهيّة، و الجوهر و العرض و أمثال ذلك، و كذلك عن إثبات القادر الحيّ الأزليّ الأبديّ السرمديّ الشاعر الحكيم العليم القدير المختار ذي المشيئة و الإرادة، من الطرق المختلفة لإبطال الدور و التسلسل، و عينيّة العلّة مع المعلول في الوجود و اختلافها حسب التنازل و التصاعد و غيرها.
أمّا الطبيعيّات فيُبحث فيها عن الحركة و الزمان و المكان و المادّة و القوّة و تكوّن الأرض و السماء و الأنهار و الأشجار و الأحجار و الشمس و القمر، و عن ظهور المعادن، و عن بدن الإنسان، و الطبّ و الهيئة و النجوم و مسائل الفيزياء و الكيمياء و أمثالها.
فقولوا لنا: أهناك تماسّ و اشتراك بين هذين العلمينِ في موضع معيّن ليسبّب ضمور أحدها تضخّم الآخر و نموّه؟ في الموضوعات، أو الأحكام، أو الغايات؟!
إنّ الحكمة الإلهيّة و فلسفة ماوراء الطبيعة تقوم بإثبات معيّة الذات القدسيّة للحيّ المتعال مع جميع الموجودات، و تشاهد تجلّي الله العالم القدير في جميع الأشياء، و تبرهن على ربط الحادث بالقديم، و تبحث عن إثبات العلل المتوسّطة كالمُثل الأفلاطونيّة مثلًا، أو بتعبير القرآن الملائكة المجرّدة فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً،۱ سواءً في ذلك دارت الأرض حول الشمس أم دارت الشمس حول الأرض، و سواءً كان القمر من أقمار الأرض و توابعها أم من المجموعة الشمسيّة، و تكوّن بدن الإنسان من الأخلاط الأربعة (الصفراء، السوداء، البلغم، الدم) أم من موادّ سمّيت بمسمّيات اخرى، أم كانت حقيقتها خارجة أيضاً عن هذه الأربعة (كالاوكسجين و الهيدروجين و النتروجين و الكلور و الفسفور و غيرها)، و لا فرق عندها سواء اعتبرت العناصر البسيطة منحصرة في أربعة لا تتجاوزها (التراب، الهواء، النار، و الماء) أم اعتبرت البسائط متجاوزة لمائة و عشرين، و قِسْ عليه فَعْلَلَ و تَفَعْلَلَ.
فلقد كان عبدة المادّة في فلسفة الطبيعيّين يقولون. إنّ جميع هذه العناصر الأربعة، و الأخلاط الأربعة، و الأفلاك لا معلولًا و لا علّة حيّة أزليّة، و هم الآن يقولون. إنّ العناصر البسيطة، و حركة الإلكترونات، و هذا الدوران للعالم الدوّار، و حركة الأمواج، و النور و الكهربائيّة ليست معلومة بعلّة أزليّة حيّة.
و كان المادّيّون في كِلا الزمانين ينكرون الصانع العليم القدير، في حين كان الإلهيّون بدورهم على نهج واحد يثبتون الصانع العليم القدير في كِلا الزمانين.
فحيثما يبدأ البحث الإلهيّ في الفلسفة عن الماهيّة و الوجود، فماذا يضير أن نطلق اسم الماهيّة على الجسم و العناصر التي تتشكّل منه، أو على الموجودات الحيّة الناشئة من الكيمياء الحياتيّة مثلًا؟ فالماهيّة تمتلك في كلّ الأحوال معنى يقابل معنى الوجود، و لا يمكن إنكار هذا الكلام و ردّه.
فلو قلنا بأصالة الوجود فسيكون البحث واحداً عن كلا الطريقين، في الطبيعيّات. الطبيعيّات القديمة أو العلوم التجريبيّة الحاليّة؛ و لو قلنا بأصالة الماهيّة، فسيكون البحث في كلا الطريقين واحداً أيضاً، و لا فرق هناك أبداً.
و لهذا فإنّ الكلام في أنّ إزالة و حذف بحث الطبيعيّات القديمة سيوجد خللًا في بحث الفلسفة الميتافيزيقيّة (ماوراء الطبيعة) هو قول مهزوز تماماً و ليس له ما يعضده و يسنده.
و يرجع ذلك إلى أنّ الإلهيّات قد وضعت على أساس قواعد منطقيّة يتكفّل علم الميزان بصحّتها و استقامتها؛ و علم الميزان كالقواعد الرياضيّة ثابت لا تغيّر فيه، و لا يمكن إنكار القياسات الاقترانيّة و الاستثنائيّة، و إفادة الأشكال الأربعة بشروطها الخاصّة، و ترتيب الصغرى و الكبرى؛ فيبقى المطلب في فلسفة ماوراء الطبيعة غير مقبول ما لم يصل إلى مرحلة البرهان، فالخطابة و الجدل و الشعر و المغالطة و المسائل التي شكّلت إحدى مقدّماتها من هذه الامور غير مقبولة، و النتيجة تتبع أخسّ المقدّمتين، لذا ينبغي لمقدّمتي القياس أن تكونا مبرهنتين.
و لقد وضعوا لهذا الأمر المهمّ علم المنطق، و كتب ابن سينا منطق «الشفاء» الباهر، و ألّف الخواجة نصيرالدين الطوسيّ كتاب «أساس الاقتباس»، ذلك الكتاب الضخم في المنطق، و لا تزال دراسة علم المنطق جارية و معهودة في الحوزات العلميّة حتى يومنا هذا.
أمّا الطبيعيّات فهي بجميع شؤونها و جميع فروع مسائلها، من الطبّ و النجوم و الهيئة، و مسائل الأرض و السماء، غير مرتكزة و غير معتمدة على البرهان، بل تعدّ مسائلها استقرائيّة، حيث استبدلوا أخيراً كلمة الاستقراء بالتجربة. و لقد قالوا و كتبوا جميعاً مكثرين. إنّ المسائل الاستقرائيّة لا تورث القطع و اليقين، بل هي مسائل ظنّيّة تماثل المسائل الحدسيّة و الفرضيّة الحاليّة، عدا الاستقراء التامّ الذي يورث العلم و اليقين.
فنسبة المسائل الطبيعيّة الاستقرائيّة إلى الإلهيّات البرهانيّة كنسبة فرضيّة حركات الأفلاك و التداوير المفروضة، و ثبوت السيّارات داخل جرمها، و فرضيّة حركة السيّارات في مداراتها الخاصّة بلا فلك قد سُمّرت في جُرمه، إلى نتيجة حسابات عالم رياضيّ و منجّم مختصّ قاس و أجرى بصورة دقيقة حساب حركة و زمان أوج و انحطاط الشمس أو ما شاء من سيّارات، و زمن خسوف القمر و كسوف الشمس وفق القواعد الرياضيّة.
فحسابات المنجّم و العالم في الهيئة واحدة في كلّ الصور و الحالات، لأنّها كانت مستندة على قواعد رياضيّة ثابتة و غير متغيّرة، سواء أخذنا الأرض كمركز للعالم حسب هيئة بطليموس و اعتبرنا الشمس و جميع الثوابت و السيّارات تدور حولها، أم اعتبرنا الشمس مركزاً و السيّارات و الأرض تدور حولها حسب هيئة كوبرنيك.
فمع أنّ هاتين الفرضيّتين مختلفتان بالطبع، لكنهما لا تؤثّران أبداً على نتيجة حسابات المنجّم، لأنّ الاهتمام الرئيسيّ للمنجّم و نظره ليس لحركة هذه أو تلك، بل بمقارنة البعد و الاقتراب، و هو أمر لا اختلاف فيه و لا تفاوت.
فلو كانت الفاصلة بيننا و بينكم مائة فرسخ و لابدّ لنا من طيِّ خمسين ساعة لنصل إلى بعضنا، فما الفرق للمحاسب الذي سيجري الحساب فيقول
إنّ كلّ فرسخينِ ينبغي طيّهما في ساعة واحدة، أن نكون نحن ثابتين و أنتم المتحرّكون نحونا، أو تكونوا أنتم الثابتين و نحن المتحرّكون نحوكم، فالأساس هو صحّة المحاسبة و صوابها، لا حركة هذا و سكون ذاك؛ فإنّ (۸) مضروبة في (٢) تساوي (۱٦)؛ و (٢) مضروبة في (۸) تساوي (۱٦) أيضاً.
فمسألتا الضرب هاتان مع اختلافهما في المحتوى، أي في المضروب و المضروب فيه و بيانهما لمعنيين و كيفيّتين، لكنّ نتيجة الضرب واحدة.
كان هذا مثالًا لنعلم أنّ مسائل الإلهيّات أيضاً غير قابلة للتغيّر و التبدّل، لأنّها كالقواعد الرياضيّة و المثلّثات معتمدة على أساس البرهان، أمّا الطبيعيّات فتغيّرها ممكن و وارد طبقاً للفرضيّات المتفاوتة و تبعاً للاكتشافات المختلفة.
لذا فليست مسائل ماوراء الطبيعة مع الطبيعيّات كبناء ذي طابقين أو غرفتين، بل كبناء خرسانيّ مسلَّح محكم و متين مقابل بناء منفصل آخر يواجهه.
الاعتراض على المقالة في الفصل بين وظائف الطبيعة و ماوراء الطبيعة
و لربّما خُيّل لكاتب المقالة أنّ مسائل ماوراء الطبيعة و أحكامها و وظائف مأموريها وصولًا إلى الله الواحد القهّار في معزل عن مسائل الطبيعة، بمعنى إنّ أي أثر نعتبره للمادّة و الطبيعة، لن يكون من عالم ماوراء ذلك و آثار عالم الطبيعة منحصرة به بآثار لا يد للطبيعة فيها، لذا فإنّ هزال و تضخّم الطبيعة و المادّة هو على العكس من العالم الذي وراءها، أي عالم الحياة؛ أي أنّ هزال الطبيعة يستتبع ضخامة عالم الحياة، و ضخامة عالم الحياة يستلزم هزال عالم الطبيعة.
و هذا التصوّر خاطئ و مخالف لُاصول التوحيد و مباين لمنطق القرآن
و البرهان، و ما نُسب في كتاب «راه طي شده» (=الطريق المطويّ) إلى الموحّدين و القائلين بعالم الحياة من الفلاسفة خطأ و مخالفة للصواب، إلّا إذا كان مراد من الفلاسفة علماء الغرب الذين لم يتذوّقوا طعم التوحيد.
فتبعاً للحكمة المتعالية فإنّ جميع أفعال المادّة و الطبيعة هي أعمال ماوراءها، فلا يمكن وجود ذرّة واحدة و آثارها و لوازمها في جميع عالم المادّة إلّا و هي تحت سيطرة و هيمنة عالم الروح، و إحاطة و معيّة عالم ماوراءها؛ و تفكيك الأعمال الطبيعيّة و غير الطبيعيّة، و القول بقطب مستقلّ لكلّ منهما هو خلاف برهان التوحيد.
أو لعلّه ظنّ أنّ المراد من عالم النفس الروح، و ماوراء الطبيعة الملائكة، و أخيراً فإنّ قدرة الواحد العليم الحكيم هي تلك الظاهرة الحاصلة من المادّة و نتيجة جهاز حركة المادّة في عالم الطبيعة، أو النظام المتقن المتين الذي جرى علم الطبيعة على أساسه منذ الأزل في مسير واحد و نهج مستقيم بلا أدنى تخلّف، و سيبقى في جريانه على هذا المنوال أيضاً حتى الأبد؛ و بالطبع فتبعاً لهذا التصوّر فإنّ ضعف الطبيعة يستلزم ضعف هذا المعنى، و قوّتها تستوجب قوّة هذه الحقيقة، و لذا فإنّ تضخّم و هزال المادّة سيوجب تضخّم و هزال ماوراءها مباشرة بشكل معادلة مستقيمة طرديّة لا عكسيّة.
و هذا التصوّر هو تصوّر خاطئ أيضاً، لأنّ إتقان النظام و الحياة الواحدة الحاكمة على العالمين، و على جميع عالم الوجود، من فعل الربّ تعالى، لا نفس ذاته القدسيّة.
ففوق هذا الفعل، و هذا النظام الواحد المتين الراسخ الحاكم على العالم، هناك ذات بسيطة و مجرّدة و واحد و قهّار و عليم و قدير ابتدع هذا العالم بإرادته الأزليّة، و أداره و يديره، و مفيضاً عليه ليس فقط في ابتداء
الخلق، بل كلّ لحظة و إلى الأبد؛ فإحاطته به ليست إحاطة علميّة فقط، بل إنّ له معيّة معه في وجوده و ذاته، و جميع هذا العالم هو عِلمه الحضوريّ.
فالإله المتحرّك الجاري الذي له كلّ يوم ظهور و تجلٍّ جديد في المادّة ليس هو الله، بل مأمور و محكوم لحكم الله تعالى.
علماء الإسلام هم أبرز العلماء، و آباء العلوم الطبيعيّة
و ثانياً: إنّ علم الطبيعيّات لم يُلْغَ تدريسه في الحوزات العلميّة، فهم الآن يدرسون مع الإلهيّات مباحث الطبيعيّات أيضاً، و لقد كان علماء الإسلام الحقيقيّون هم واضعي الحجر الأساس للمدنيّة الغربية، و امتلكوا في جميع الفنون الطبيعيّة المقام الشامخ الذي لا نشاهد له نظيراً و شبيهاً في الغرب.
فأمّا بشأن علم الكيمياء: فهم يقولون اليوم إنّ اختلاف الأجسام و العناصر المادّيّة، كالحديد و الذهب و الكاربون و الاوكسجين عن بعضها مسبّب عن اختلاف عدد الإلكترونات الدائرة حول النواة، و مرتبط بكيفيّة ترتيبها أيضاً، فإذا أمكننا أن نغيّر هذا النظام في مادّة ما إلى نظام مادّة اخرى فسنكون قد أوجدنا تلك المادّة الثانية؛ و من جهة اخرى فإنّه يمكن إطلاق أشعة إكس و الطيف الضوئيّ نتيجة تغيير الترتيب الإلكترونيّ.
و قد أجرى رجلان إنجليزيّان هما والتون و كاسرافت هذا العمل لأوّل مرّة بشأن عنصر الليثيوم فأبدلوه إلى عنصر الهيليوم.
و قد وصل قدماؤنا إلى مراحل أبعد من هذه، و لم يزل العلم الحديث عاجزاً عن الوصول إلى اكتشافاتهم؛ فلقد اعتبروا الفلزّات قابلة للحياة و ممتلكة لنوع من الحياة و الموت (و الفعّاليّة)، و قالوا بإمكان توليدها المثل، فسعوا على هذا الأساس إلى تبديل بعض الفلّزات إلى فلزّات اخرى، و خاصّة إلى الذهب. و لم يختصّ هذا التفكير بالمسلمين فقط، بل
بقيت آثاره من قديم الأيّام من زمن أفلاطون.۱
و النتيجة المستحصلة من هذه النظريّة هي أنّ الكيميائيّين و المحقّقين قد سعوا في مجال التحقيق. فقاموا في أبحاثهم باختراعات و اكتشافات و اختبارات كثيرة، و ظهر في هذا العلم أمثال جابر بن حيّان المعروف بالصوفيّ و هو أحد تلامذة الإمام جعفر الصادق عليهالسلام،٢و ذو النون
كلام عبدالحليم الجندي حول تأسيس الإمام للعلوم الإسلاميّة (ت)
جابر بن حيّان و ذوالنون المصريّ و أبوزكريّا الرازيّ مؤسّسو علم(ت)...۱
...۱المصريّ، و أبوزكريّا الرازيّ٢ و غيرهم.
و قد اكتشف أبوزكريّا الرازيّ الكحول الذي يدعونه اليوم بنفس الاسم (ALCOHOL) من تقطير الموادّ السكّرية و النشاء، و فتح - كما تعلمون - بكشفه لهذه المادّة فصلًا جديداً في الطبّ و الصيدلة.
و اكتشف كذلك جوهر الكبريت (أي. حامض الكبريتيك) من تجزئة الزاج الأخضر أي كبريتات الحديد المتبلورة؛ و تعلمون أنّ هذه المادّة صارت امّ الصنائع، و سميّت ب-. زيت الزاج و. امّ الصنائع.٣
و لقد حصل علماؤنا بأجهزة التقطير القرع و الإنبيق و بأحجار الكلس على الكثير من الموادّ الكيميائيّة من قبيل نترات الفضّة (حجر جهنّم) و كلوريد الزئبق المشبّع، و البوتاسيوم، و أملاح النُّشادِر، و جوهر الملح (حامض الهيدروكلوريك)، و الملح، و كاربونات الصوديوم (القلياء)، و الأنتيمون و عشرات الموادّ الاخرى التي تعدّ في الكيمياء الحاليّة من الاسس و الموادّ المهمّة.٤
و قد عدّوا - عند اكتشافهم لهذه الموادّ - أنّ صنع الفضّة و الذهب أمر ممكن، و قد كتب محمّد بن زكريا الرازيّ كتاباً باسم. «إنّ صناعة الكيمياء إلى الوجوب أقربُ منها إلى الامتناع». يقول ابن جُلجل في «طبقات الأطبّاء و الحكماء». لقد أجرى محمّد بن زكريّا الرازيّ تحقيقات في صناعة الكيمياء و ألّف أربع عشرة مقالة في علم الكيمياء.
و يشاهد في فهرس مصنّفات الرازيّ اسم ثلاثة كتب ر دّ فيها على عقيدة يعقوب بن إسحاق الكنديّ۱ في بطلان صنعة الكيمياء.
و كان للكثير من المتصوّفة اشتغال بهذا العمل، حيث يتكرّر ذكر أسماء. جابر بن حيّان۱ و ذي النون، و الجنيد البغداديّ، و محيي الدين عربي، و شمس التبريزيّ، و جلال الدين الروميّ، و السيّد نعمة الله ولي، و نور علي شاه.
هذه هي عظمة و تقدّم علم الكيمياء أحد فروع الطبيعيّات، و بالطبع فإنّ هذا العلم. علم الكيمياء هو عبارة عن تركيب موادّ خاصّة في شروط خاصّة لصناعة الذهب. و أما الإكسير الذي يقال له أيضاً. الكبريت الأحمر فهو علم يُحصل به على شيء يمكنه تبديل النحاس و الفضّة بالمسّ إلى ذهب، و هو أهمّ كثيراً من الكيمياء.
بروز أبي ريحان البيرونيّ في مسائل الفيزياء و الهيئة و النجوم
أمّا بشأن علم الفيزياء: فقد برع العلماء و المفكّرون المسلمون في هذا الفنّ و برزوا في كثير من مجالاته، سواءً ما تعلّق بحسابات جرّ الأثقال، أم بأبحاث النور و انكسار الأشعّة و المرايا، أم في كثير من الصناعات المعتمدة على القوانين الفيزيائيّة.
فاكتشافات أبي ريحان البيرونيّ في الفلكيّات و الرياضيّات و الميكانيك و الهيدروستاتيك (ضغط و توازن السوائل) حساب ثقل و ضغط السوائل و توازنها، و ارتفاع مياه إلى نابيع و الفوّارات، و قياس محيط الأرض بالطريقة التي دعاها الغربيّون بقاعدة البيرونيّ، و اختراعه لبعض أنواع
الاسطرلاب، و الكتب التي ألّفها في الآلات الفلكيّة، و النجوم المذنّبة، و الظواهر الجوّيّة، و المدّ و الجزر، و إيجاد الوزن الخاصّ للأجسام، و الحدس بحركة الأرض، و احتمال وجود قارّة اخرى في سائر نقاط الربع المسكون كقارّة أمريكا، و كثير آخر من أمثال هذه المسائل، تعدّ بأجمعها من المسائل المهمّة التي وُضعت عليها علوم الفيزياء و الرياضيّات الحاليّة.
و قد جاء في مقدّمة كتاب «التفهيم لأوائل صناعة التنجيم» أنّ أبا ريحان قد اخترع ميزاناً جديداً لتعيين الوزن و الحجم الخاصّ للأجسام دعاه بـ ميزان أبي ريحان و عيّن بواسطته الوزن الخاصّ (النوعيّ) لعدد من الأجسام في حدود ۱٦ فقرة يُطابق آخر ما وصلت إليه تحقيقات العلماءالحاليّين، و كان ميزان أبي ريحان في نظر أهل الفنّ و الخبرة أدقّ من ميزان أرخميدس.
و هناك رسالة مذكورة في فهرس مؤلّفاته في النسبة بين الفلزّات و الجواهر المعدنيّة كتبها بالفارسيّة؛ و قد عيّن بشكل خاصّ في كتاب «الجَمَاهِر» الوزن الخاصّ (النوعيّ) للفلزّات و لبعض الأحجار الكريمة.۱
بحوث أبي ريحان البيرونيّ حول الآبار الارتوازيّة و قانون خاصّيّة الأواني المستطرقة
البئر الارتوازيّة: و قد أورد في «نامة دانشوران» (=رسالة الحكماء) أنّ هناك بعض المطالب المذكورة في كتاب «الآثار الباقية» لأبي ريحان اقيم على اسسها و نظمها في كتب حكماء اوروبّا، و ذكر من جملتها شروحاً لارتفاع الماء من بعض العيون ذكره بعينه الحكيم الطبيعيّ المسيو زله في باب «پي آرت زين».
و سنورد بعد انتهاء مسائل و مطالب أبي ريحان تلك المسألة و سائر المسائل و قواعد رسم الخرائط المعهودة عند حكماء اوروبّا ليتّضح أنّ أبا
ريحان كان له توارد خواطر مع أغلب حكمائهم، أو أنّهم ظفروا بمؤلّفاته فاقتبسوا تلك القواعد منه.۱
يقول في «الآثار الباقية»: تنقسم المياه التي تتجمّع في قعر البئر إلى قسمين. منها ما يترشّح أحياناً من أطراف البئر و يتجمّع، فيكون سطح تلك المادّة مع سطح الماء المجتمع في مستوى واحد، و هذا القسم لا يمكن بأيّ تدبير أن يرتفع إلى الأعلى، لأنّ الفتور و الضعف الذي فيه لا يتلائم مع ذلك القصد.
و يحدث أحياناً أن يفور الماء في قعر البئر بقوّة لأنّ منبعه و مادّته مرتفعة ينحدر منها بشدّة و يخرج من المنافذ، و هذا القسم يمكن رفعه بالآلات العاديّة المعهودة مثل الفوّارات العالية و الأنابيب، للقدر الذي يصبح فيه أعلى ارتفاع لماء الفوّارة موازياً و مساوياً لسطح المادّة الأصليّ، و هذا الماء قد يصل أحياناً إلى مستوى القلعة و المنارة.
و قال أبوريحان في ذيل ذلك المطلب أيضاً.
و لقد حصل كثيراً في إلى من، عند حفرهم الآبار، أن ينتهوا في حفرهم إلى صخرة، فيعرف قوم تلك الديار، حسب فراستهم في هذا الأمر، من صوت الصخرة كمّيّة الماء المخزون في تلك المنطقة، فيعمدون بما في أيديهم من الآلات إلى إيجاد ثقب ضيّق في تلك الصخرة، فإن فار منها الماء بسلامة قاموا بتوسعة ذلك المجرى، و إن شوهد في الماء آثار الطغيان عمدوا إلى ذلك الثقب فسدّوه بالتراب و الجِير لئلّا ينبعث منه سيل مهيب.
و هناك بحيرة واقعة في أعلى جبل بين مدينتي طوس و أبر شهر تدعى ببحيرة برزود، يبلغ محيطها مائة فرسخ، لا يظهر في مائها الجزر و المدّ الذي يظهر في مياه البحار الاخرى، و ذلك لأنّ مستوى المخزن المائيّ الذي يمدّها يوازي سطح البحيرة، أو أنّه يرتفع عنه، لكنّ مقدار الماء الذي يجفّ بالتبخّر الحاصل من أشعة الشمس يعادل المقدار الوارد
من المنبع، لذا انعدمت الزيادة فيه أو النقصان.
حتّى يصل إلى القول:
و قد أورد الحكيم المسيو زله في كتابه في علم الطبيعة بشأن بئر جرْنل۱ الواقعة في باريس فصلًا مشبعاً، و ذكر في بيان علله و أسبابه الطبيعيّة شرحاً يوافق تحقيقات أبي ريحان تماماً.
و على كلّ حال فإنّ تلك البئر تقع في منطقة باريس بعمق خمسمائة و ثمانية و أربعين متراً و يرتفع ماؤها عن الأرض بواسطة أنابيب ارتفاعها ثمانية و ثلاثون متراً.
و لقد كان بحر الخزر مورد حيرة حكماء اوروبّا، إذ تصبّ فيه كلّ تلك الأنهار في حين ليس هناك من ممرّ و مخرج للماء منه، لذا فقد اعتقدوا إلى ما قبل مائتي سنة٢ أنّ للبحر المذكور مجريين سفليّين، أحدهما تحت كرجستان و القفقاس و الآخر من جهة ممالك إيران و هوانق، فما يرد فيه من تلك الأنهار يذهب في المجرى الأوّل إلى البحر الأسود، و في الثاني إلى الخليج الفارسيّ، و لو لا ذلك فإنّ طغيان الماء الناتج من تجمّع الأنهار العظيمة سيغطّي سواحل إيران و حاج طرخان، بل سيغطّي خوارزم و جميع آسيا.
لكنّهم قالوا في مسألة ذلك البحر؛ استناداً إلى علوم الكيمياء و الطبيعة التي تكاملت منذ التأريخ المذكور إلى الآن؛ بنفس القول الذي
نقلناه عن الاستاذ أبي ريحان، و تيقّنوا أنّ الكمّيّة التي تجفّ من المياه بأشعّة الشمس تعادل الكمّيّة الواردة في ذلك البحر، و قد أمعن جمع من المهندسين الروس في التحقيق و البحث بشأن هذه المسألة خاصّة، فاستنبطوا بعد تتبّع زائد ما يطابق رأي أبي ريحان الذي ذكره في «الآثار الباقية».۱ و يُعرَف كشف أبي ريحان هذا اليوم في الفيزياء بـ قانون خاصّيّة الأواني المستطرقة.
و قد كان لأبي ريحان تحقيقات عميقة أيضاً بشأن حركة النور و الصوت، و أنّ حركة الصوت أبطأ من النور.٢
و من بين المسائل الفيزيائيّة التي يدين بها الاوروبّيّين للمسلمين هي مسائل النور و المرايا، و من أرقى الكتب التي دوّنت في هذا الموضوع كتاب «تنقيح المناظر لذوي الأبصار و البصائر» تأليف العلّامة كمال الدين أبي الحسن الفارسيّ، كتبه قبل سبعمائة سنة، و هو كتاب في جزءين يقرب من ألف صفحة.٣
و أمّا بشأن علم النجوم و الهيئة، فإنّ علماء الهيئة الحقيقيّين بالرغم من عدم امتلاكهم لوسائل العمل و مستلزماته، و افتقادهم المنظار (التلسكوب)، قد عملوا في حساب قواعد حركات السيّارات و قربها و بعدها و أماكنها و مواضعها في الفلك، و تعيين أماكن الثوابت و السيّارات و صناعة الكرات الفضائيّة و الاسطرلابات و الخرائط الجوّيّة و الأرضيّة، فأوصلوا البحث في هذه العلوم طبق القواعد الرياضيّة الدقيقة و الحسابات الاستدلاليّة و الجبر و المقابلة و المثلّثات و قواعد الظلّ و الظلّ تمام و الجيب و الجيب تمام إلى ما لا يتصوّر فوقه.
نبوغ أبي ريحان في الفلكيّات و علم النجوم
فلقد كتب أبوريحان البيرونيّ؛ و كان متخصّصاً في علم الفلك ماهراً فيه حتى لكأنّ السماء في قبضة يده؛ كتاب «قانون المسعوديّ» في ثلاثة أجزاء، و كتاب «في تحقيق ماللهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة»، و هو حاصل أربعين سنة من السفر و التوقّف في الهند، و كتاب «التفهيم في أوائل صناعة التنجيم»، و «الآثار الباقية»، و كتباً و رسائل جمّة ذُكرت أسماؤها في عداد مؤلّفاته، ففاق بألف ضعف الاوروبّيّين الذين شاهدوا و رصدوا مراكز النجوم بالنواظر المكبّرة؛ في جهوده و نتائج فكره البِكر التي قدّمها إلى دنيا العلم و العلماء.
يقول في «نامة دانشوران ناصري» (=رسالة العلماء الناصريّين). لقد حاز مقاماً سامياً في أنواع الصناعات و فنون الرياضة و أصناف العلوم، و اتّفق فضلاء العالم و سلّموا على أنّه في مسائل النجوم متفرّد كالشمس، لم يُرَ له نظير، و لم يطرق الأسماع اسماً لصنوٍ له في منزلته أو شبيه، فهو في الحقيقة درّة يتيمة انطوت على الكمالات و الفضائل.۱
حتّى يصل إلى القول: و يتّضح من كتاب «الاستيعاب في صنعة الاسطرلاب»۱ و سائر مؤلّفاته، إنّ ذلك الاستاذ الكامل كما تسلّمَ تفوّقه في المعقول و المنقول، و اشتهرت مهارته في المحسوسات و المصنوعات،
فإنّه وصل في إبداع الصنائع العمليّة إلى حيث تركت مهارته في اختراع طبقات الأفلاك و خرائط النجوم عدّة صفحات بالغ في إيضاحها حتى كأنّ الألواح الفلكيّة قد اندمجت في صفحات خياله، و الصور الثمان و الأربعين قد ارتسمت في لوح صدره، و عموماً فقد كان في جودة الذهن و حُسن القريحة لدرجة كان يشرع معها بنفسه بالابتكار في صناعات الخرائط و الآثار الجغرافيّة، و قد ابتدع عدّة قواعد ظلّ الاوروبّيّون يجلّون واضعها كلّما شاهدوها و طالعوها، كذلك فإنّ أغلب خرائطهم في هذا العصر مبتنية و مرتكزة على الاصول و القوانين التي ابتكرها.
كيفيّة تسطيح سطح الكرة الأرضيّة في الخرائط الجغرافيّة المستوية.
هي من بنات أفكار و إبداعات ذلك الفاضل المتفرّد، و قد أوجد قوانين و أطلق مسمّيات لبعض المسائل الطريفة و المطالب الدقيقة بحس قريحته و فكره البعيد الثاقب الفقدان الوسائل و نقص الآلات، و يرى مَنْ تأمّلها بعين الإنصاف مدى علميّته و قدر فضله؛ و من بينها الاصول و الضوابط التي أوردها في مطاوي مؤلّفاته في تسطيح الكرة الأرضيّة و رسم الخرائط الجغرافيّة، و بالرغم من أنّ حكماء اوروبّا قد أوصلوها - لتوفّر الأسباب و تهيّؤ الأدوات - إلى أعلى درجات الكمال، لكنّهم كلّما سمعوا هذه العبارات و شاهدوا هذه الإشارات كانوا يجلّونه و يعتبرونه لائقاً لكلّ ثناء حسب قاعدة الفَضْلُ لِلْمتَقَدِّمِ.
و لأجل الإيضاح المحض لتلك الرموز، و كشف تلك الكنوز، فسنورد حاصل ما ذكره في «الآثار الباقية» في باب رسم الخرائط الجغرافيّة؛ ثمّ يشرع ببيان كيفيّة تسطيح الكرة الأرضيّة الذي أورده في «الآثار الباقية»،
و ذلك في ثلاث صفحات كاملة.۱
و كان أبوريحان؛ خلافاً لجميع المتقدّمين القائلين بسكون الأرض حسب هيئة بطليموس؛ ذا قريحة جيّدة في مسألة حركة الأرض، يعلم مَن تأمّل فيها أنّ له في اختيار ذلك المذهب و الطريقة كمال الرغبة، فيقول في كتاب «الاستيعاب في عمل الاسطرلاب الزورقيّ»:
وَ قَدْ رَأيْتُ لأبِي السَّعِيدِ السَّجْزِيِّ اسْطُرْلَاباً مِنْ نَوْعٍ وَاحِدٍ بَسِيطٍ، غَيْرَ مُرَكَّبٍ مِنْ شِمَالِيٍّ وَ جُنُوبِيٍّ؛ سَمَّاهُ الزَّوْرَقِيَّ.
فَاسْتَحْسَنْتُهُ جِدَّاً لِاخْتِرَاعِهِ إيَّاهُ عَلَى أصْلٍ قَائِمٍ بِذَاتِهِ مُسْتَخْرَجٍ مِمَّا يَعْتَقِدُهُ بَعضُ النَّاسِ مِنْ أنَّ الحَرَكَةَ المَرْئِيَّةَ مِنَ الأرْضِ دُونَ الفَلَكِ.
وَ لَعَمْرِي هُوَ شُبْهَةٌ عَسِرَةُ التَّحْلِيلِ؛ صَعْبَةُ المَحْقِ؛ لَيْسَ لِلْمُعَوِّلِينَ عَلَى الخُطُوطِ المَسَاحِيَّةِ مِنْ نَقْضِهَا شَئٌ. أعْنِي بِهِمْ المُهَنْدِسِينَ وَ عُلَمَاءَ الهَيْئَةِ. عَلَى أنَّ الحَرَكَةَ سَوَاءً كَانَتْ لِلأرْضِ أمْ كَانَتْ لِلسَّمَاءِ؛ فَإنَّهَا في كِلْتَا الحَالَتَيْنِ غَيْرُ قَادِحَةٍ في صِنَاعَاتِهِمْ. بَلْ إنْ أمْكَنَ نَقْضُ هَذَا الاعْتِقَادِ وَ تحْلِيلُ الشُّبْهَةِ فَذَلِكَ مَوْكُولٌ إلى الطَّبِيعِيِّينَ مِنَ الفَلَاسِفَةِ.٢
و قد بحث أبوريحان في مشكلة حركة الأرض أيضاً في كتاب «تحقيق ماللهند».
اكتشافات أبي ريحان الجديده في المسائل الرياضية و الهيئة
استخراج جيب الدرجة الواحدة:
يعدّ استخراج جيب الدرجة الواحدة من المسائل الرياضيّة الدقيقة التي لم يوفّق العلماء الذين سبقوا أبا ريحان لكشفها؛ و كان أبوريحان أوّل العلماء الذين وفّقوا لذلك، حيث أورد شرحها في الباب الرابع من المقالة الثالثة في «قانون المسعوديّ» ج ۱، ص ٢٩٢، فقد طرح من عنده ابتداءً اثنتي عشرة مقدّمة، أي اثنتا عشرة قضيّة رياضيّة، و برهن عليها، ثمّ استنتج مقصوده و استنبطه منها.
و كان لاثنين من معاصري أبي ريحان من أعاظم علماء الرياضيّات؛ أحدهما أبوسهل بيزن بن رستم كوهي و الآخر أبوالجود محمّد بن ليث السمرقنديّ؛ جهود و محاولات في هذا الشأن، لكنّها لم تثمر شيئاً.
و هناك مسائل اخرى كان للبيرونيّ نظره الخاصّ فيها قام بنفسه بقياسها وفق الحسابات الرياضيّة الدقيقة و الأرصاد، مثل قياس مساحة محيط الكرة الأرضيّة و قطرها، و مسارات الكواكب، و القاعدة النجوميّة لتسوية البيوت، و الطول و العرض الجغرافيّ، و جهة قبلة المدن؛ و قاعدة جديدة لاكتشاف جهة القبلة و بناء محراب المساجد؛ و رصد الميل الكلّيّ و الميل الأعظم؛ و الحركة الخاصّة الوسطيّة للشمس، و حركة أوج الشمس؛
و المقدار الدوريّ لحركة الثوابت؛ و كثير من المسائل الاخرى التي يطول المقام بشرحها واحدة فواحدة، و قد ذكر البيرونيّ هذه المسائل بالتفصيل في «قانون المسعوديّ» و «تحديد نهايات الأمكان» و «الآثار الباقية»، و «كتاب الجَمَاهِر».۱
و من بين علماء الهيئة و الرياضيّات و النجوم الذي يدين لعلمه و فضله و كماله جميع أصحاب التقاويم و الحسابات من زمنه حتى يومنا هذا، و يشيرون إليه في أغلب الكتب بألقاب:
أفضل المتكلّمين، سلطان الحكماء و المحقّقين، استاذ البشر، علّامة البشر، العقل الحادي عشر. العلّامة الخواجة نصيرالدين محمّد بن محمّد بن الحسن الطوسيّ.۱
فإنّه بتأسيسه مرصد مراغة و جمعه علماء الرياضيّات و فضلائها و هيئة العلماء و المتخصّصين من الطراز الأوّل لمدّة ستّ عشرة سنة، فقد قام بترتيب و تدوين الزيج الإيلخانيّ. ثمّ ألّف بعده أحد معاونيه في تنظيم
الزيج،۱ اسمه غياث الدين جمشيد الكاشانيّ كتاباً في إكمال الزيج
...۱
...۱
...۱الإيلخانيّ للخواجة الذي ظلّ ناقصاً، و سمّاه بالزيج الخاقانيّ.
و قد كتب الخواجة في خاتمة عمل الرصد كتاب الزيج الإيلخانيّ باسم هولاكوخان، و أضاف إليه عدّة جداول لم تكن في الأزياج السابقة، فحاز لهذا السبب اعتباراً أكمل.
و قد ترجم و نشر مؤرّخو اوروبّا أيضاً؛ حسب النقل المعتبر؛ سنة ألف و ثلاث و ستين للهجرة التي توافق سنة ألف و ستمائة و اثنين و خمسين ميلاديّة في مدينة لندن جدولًا لعرض البلاد و طولها اعتماداً على هذا الزيج الإيلخانيّ.۱
و من بين كتب الخواجة نصيرالدين الطوسيّ في علم السماء كتاب «التذكرة النصيريّة في الهيئة»، و هو كتاب مختصر إلّا أنّه جامع لمسائل هذا الفنّ، و من الشروح المشهورة على هذا الكتاب شرح الفاضل شمس الدين محمّد بن أحمد الحفريّ أحد تلامذة سعدالدين، و هو شرح ممزوج سمّاه «التكملة»، و فرغ من تأليفه في شهر محرّم الحرام لسنة ٩٣٢ هجريّة.٢
و يعدّ علم الهيئة أيضاً من العلوم التي يجري تدريسها في الحوزات العلميّة، و كان العلّامة آية الله الطباطبائيّ قدّس الله نفسه استاذاً في هذا الفنّ و قادراً على استخراج التقويم، و قد حضرتُ دورة في علم الهيئة في محضره المبارك.
و أمّا علم الطبّ و الصيدلة:
فيكفي في عظمة تدريسه و تعليمه و شهرته أنّ الطبّ كان حتى السنين
الأواخر منحصراً إمّا حسب طبّ خمسة إلى ونانيّ، أو حسب طبّ أبي زكريّا الرازيّ؛ و لم ننسَ بعدُ ما كان لدينا من حكماء و أطبّاء متبصّرين، حاذقين، خبيرين و مشهورين في كلّ مدينة و محلّة و شارع، من المشتغلين بمعالجة الأمراض حسب نظام مشخّص و طريقة معيّنة تبعاً لكتب الأدوية مثل «قرابادين الكبير» و سائر الكتب المتخصّصة في هذا الشأن، و ذلك بالأدوية إلى ونانيّة، حسب نوع المرض المشخّص، أي بالعقاقير و الأدوية العشبيّة و تعديل المزاج بالمُنضج ثمّ المُسهل.
و كان كتاب «القانون» لابن سينا، من الكتب المعروفة التي ينبغي في هذا المجال مطالعتها؛ و كان لكلّ استاذ - مضافاً إلى ذلك - طريقته الخاصّة في العلاج و تلامذة خاصّون يقوم بتعليمهم و تدريسهم كتاباً آخر وفق المنهج الذي اختطّه، يُضاف إلى ذلك مجيئه بالتلاميذ من أوّل العمل إلى مطبه و إراءتهم - عمليّاً - أنواع و أقسام الأمراض و طرق معالجتها و مقدار الدواء الموصوف لكلّ حالة؛ و قد بقي كتاب «القانون» يدرّس حتى السنين الأواخر لتلامذة الطبّ في اوروبّا.
فوائد علم الطبّ القديم و أضرار الطبّ الحاليّ
و لقد تغيّر الاسلوب اليوم، فجعلوا الأدوية عبارة عن موادّ كيميائيّة ذات صيغ و تركيبات خاصّة، و صيّروها بشكل أقراص أو حُقَن، لتكون سهلة الحمل و النقل، و للاستفادة منها بالمقادير المعيّنة حسب الحاجة من جهة، و لتكون أدوية جاهزة يمكن إيصالها أفضل و أسرع ليد المريض، و أكثر انسجاماً مع وضع التقدّم التَّقنيّ الحاكم على الدنيا حاليّاً من جهة ثانية، و ليمكن من جهة ثالثة تجزئة العقاقير للتخلّص من الموادّ المضرّة و السمّيّة الموجودة فيها و الحصول على الدواء الخاصّ المطلوب بتركيب و خلط النافعة لعدّة أنواع من الأدوية. و على الرغم من امتلاك هذه الطريقة للمنافع العديدة، إلّا أنّ لها أضرارها أيضاً.
أوّلًا: لأنّ الأدوية الصناعيّة تفسد و يعروها التلف بسرعة، و ينبغي اتخاذ تدابير خاصّة للمحافظة عليها من التلف لمدّة معيّنة، و تلك التدابير التي تتّخذ للدواء إمّا بواسطة عمل كيميائيّ أو عمل فيزيائيّ لن تبقى بدون تأثير في بدن المريض، حيث يسبّب الترسّب التدريجيّ للموادّ الضارّة، و ردّ فعل خلايا البدن لورودها سوق البدن تدريجيّاً للضعف؛ في حين أنّ الأدوية الطبيعيّة و الأعشاب الطبّيّة خالية من الضرر، و لا يعروها الفساد و التلف و تبقى مدّة طويلة.
و ثانياً: فاستعمال زرق الحُقَن - أي إدخال موادّ خارجيّة دفعةً واحدة في شريان القلب أو العضلة - سيسبّب إيجاد ردّ فعل غير مطلوب، إذ ينبغي لعموم الأغذية و الأدوية أن تدخل البدن من المجاري الطبيعيّة كالمعدة و الرئة.
و ثالثاً: فإنّ هذه المركّبات هي أدوية توصف لجميع أنحاء العالم بما فيها من مناطق باردة و حارّة و معتدلة، و لكلّ أنواع الأمزجة و لكلّ الأقوام بصفاتهم و أنواعهم المتباينة، فكما أنّ ملاحظة وضع الماء و الهواء و البيئة الجغرافيّة مؤثّرة في أصل صحّة الإنسان و طبيعته، فهي كذلك مؤثّرة في كيفيّة المعالجة و تعيين نوع الدواء.
و على هذا الأساس يقول ابن سينا في كتاب «القانون»:
وَ كُلٌّ يُدَاوَي عَلَى نَبْتِ بَلَدِهِ. أي ينبغي معالجة كلّ مريض بالأعشاب التي تنمو في بلده، لا بأعشاب بلد آخر.
و هذا الأمر قد جرت رعايته في الطبّ القديم، و كانت الأدوية التي يصفها الحكماء عبارة عن جذور العقاقير أو الأعشاب التي تؤخذ غالباً من نفس البلد أو البلاد المجاورة.
و رابعاً: فإنّ تلك الأدوية العشبيّة هي موادّ معلومة و مجرّبة، فهي
تؤخذ من النباتات أو الحيوانات المحلّلة كزيت السمك، أمّا الأدوية الكيميائيّة الحاليّة التي تُجلب من بلاد الإفرنج فلا ضابط و لا قيود هناك في عملية انتخابها؛ فهم هناك يعدّون الكلب و الخنزير و الضفدع و السرطان البحريّ و الأفعى و السحلية و العقرب و كلّ ما يتصوّره الإنسان محلّلة، فيأكلونه و يستخرجون أدويتهم منه ما صلح لذلك، من زيت سمك محرّم، أو معدة و كبد خنزير!!، و من غدّة بنكرياس كثير من الحيوانات المحرّمة، أو حتى من عصارة فضلات الكلب.۱
فحقن التستوفيرون (Testowiron) التي يصفونها لبعض أنواع الضعف الجنسيّ يستخرجونها من خصية القرد، لذا تكون غالية القيمة، كذلك فهم يعدّون الكحول و الخمر حلالًا، و يعدّونه في الصيدلة كأحد الموادّ الرئيسيّة.
أمّا الشرع الإسلاميّ المقدّس، فحين يعتبر هذه الموادّ حراماً، فليس ذلك فقط للأمر التعبّديّ، بل للأضرار الجسميّة و الروحيّة التي تنطوي عليها أيضاً. لذا نشاهد أنّ هذا النوع من المعالجات بالموادّ الكيميائيّة و تركيبات الموادّ الصناعيّة غير الطبيعيّة تخفِّض بشكل عامّ معدّل العمر الطبيعيّ للإنسان؛ أي أنّ تناول هذه الموادّ ينطوي على إدخال سموم و موادّ ضارّة إلى البدن، بالرغم من عدم تسبيبها للموت السريع الآنيّ دفعةً واحدة، إلّا أنّها تبعث نوعاً من الموت البطيء التدريجيّ؛ و يقال إنّ هذا النوع من الأدوية و المعالجات يخفِّض معدّل الأعمار الطبيعيّة بما يقرب من عشر سنوات.
يقول الدكتور الِكسيس كارل. و يجب من جهة اخرى أن نسأل أنفسنا: ألا يسبّب انخفاض إصابات الأطفال و الشباب و وفيّاتهم إشكالًا جديداً؟ فالأطفال العاجزين و المعوّقين تجري حمايتهم في المدينة الحديثة فلا يجري انتخاب الأصلح كما كان يحصل في السابق.
و إنّ أحداً لا يعلم أين سيؤول مستقبل نسل تجري حماية موجوداته العليلة و الناقصة بواسطة الموازين الطبّيّة و الصحّيّة. لكنّنا نواجه أمامنا مسألة معضلة اخرى يجب أن نجد لها حلًّا سريعاً، ففي الوقت الذي تزول فيه شيئاً فشيئاً أمراض الالتهابات كالجدري و الحصبة و الخناق و السلّ و الطاعون و الإسهال المعديّ للأطفال و غير ذلك من الأمراض، ممّا يقلّل من ميزان الخسارة في الأطفال، فإنّنا نلاحظ في المقابل أنّ عدد المصابين
بالأمراض النفسيّة يزداد يوماً بعد آخر، ففي بعض المناطق يزيد عدد المرضى المجانين في مستشفيات الأمراض العقليّة حتى على عدد جميع المرضى الآخرين الذين تجري معالجتهم.
و مضافاً إلى ذلك فإنّه ينبغي الاهتمام بمسألة زيادة الاختلالات و الأعراض العصبيّة، التي هي بنفسها أحد الأسباب الرئيسيّة لكآبة الأفراد و تشتّت العائلات، و التي تمثّل خطراً على مستقبل البشريّة و المدنيّة أهمّ بكثير من أمراض الالتهابات التي يخصّص الطبّ الحاليّ كلّ هذا الوقت و الجهد لدراستها و مكافحتها.۱
و الأمر اليوم شبيه أيضاً بالقرن السابق، فالرجل الذي عمره (٤٥) سنة لا يمتلك الأمل الكبير في أن يصل إلى سنّ الـ (۸۰) سنة، و مع أنّ متوسّط عمر الأفراد قد زاد بكثير على السابق إلّا أنّه يحتمل أن تكون الأعمار قد قصرت.٢
و تبعاً لهذا الأمر فإنّ الكثير من العلماء و الأجلّاء يتأسّفون لاندثار الطبّ إلى ونانيّ، فليس لدينا حاليّاً من اولئك الأطبّاء في إيران إلّا واحد أو اثنان،٣ و سيضيع بذهابهم تعليم هذا النوع من الطبّ و تتشتّت علومه، فقد
آل أمر هذه الطبابة بيد العطّارين و باعة الأعشاب الذين لا شأن لهم بالطبابة و لا مهارة، و لا تعود مراجعتهم على المريض المبتلى إلّا بالأذى و الخطر.
و يقال: إنّ هناك بعض الأطبّاء في ألمانيا يقومون بمعالجة المرضى حسب نهج الطبّ إلى ونانيّ فقط، و لهم صيدليّات خاصّة تباع فيها الأدوية التقليديّة القديمة و العقاقير، و تصرف فيها و صفاتهم الطبّيّة، فيضع أصحاب هذه الصيدليّات لافتات في واجهتها كُتب فيها.
Herbalist Medcine Shop.
لكنّ الأمر يختلف في أمريكا، فهناك توجد دكاكين تباع فيها الموادّ الغذائيّة الصحّيّة فقط، مثل ال - «آب نبات»۱ و الأعشاب و العقاقير و الأقراص و الأدوية التي لا يحتاج استعمالها إلى وصفة طبيب، و تعلو واجهاتها لافتات. (محل الموادّ الغذائيّة الصحّيّة) Health Food Shop ٢
و نحن الآن بانتظار ظهور طبابة و أطبّاء بهذه الكيفيّة، يمتلكون التخصّص و المهارة في ذلك الفنّ مضافاً إلى المزايا الإيجابيّة النافعة للطبّ العصريّ، كالعمليّات الجراحيّة و غيرها.
و يقال إنّ الطبّ الحديث يقوم على ثلاثة أركان. ابن سينا، العمليّات الجراحيّة، الترياق؛ و مع امتلاكنا بحمد الله و منه هذه الأركان الثلاثة فإنّ