المؤلّف العلامة آیة الله السيد محمد الحسين الحسيني الطهراني
القسم القرآن والحديث والدعاء
المجموعة نور ملكوت القرآن
التوضيح
هذه المجموعة في القسم الأول من دورة أنوار الملكوت (الشاملة لنور ملكوت القرآن، نور ملكوت المسجد، نور ملكوت الصلاة، نور ملكوت الصيام، ونور ملكوت الدعاء).
وقد دونت مجموعة (نور ملكوت القرآن) في أربعة مجلدات، جرى البحث خلالها عن هداية القرآن إلى أفضل مناهج وسُبل السلام، خلود أحكام القرآن، عدم نسخ القرآن، التطبيق العملي لآحاد آيات القرآن في كل عصر، الرد على نظرية تحديد النسل، دور القرآن وموقعه بعنوان كتاب سماوي، نقد ومناقشة بعض الأفهام الخاطئة للآيات القرآنية الكريمة، والإشكالات الواردة على مقالة (بسط وقبض نظرية الشريعة) وكتاب (الفكر والقيم).
ومن العناوين الاُخرى لهذه المجموعة: منطق القرآن توحيديّ، بيان القرآن لأخطاء التوراة والإنجيل، أحكام القرآن في الجهاد، القتل، الاستعباد، والفدية، سير القرآن في آيات الأنفس والآفاق، بيان محكمات القرآن ومتشابهاته، كيفيّة قراءة القرآن في الصلاة وغيرها، تأثير القرآن في تربية الإنسان الكامل، عظمة أخلاق القرآن، بيان كيفية خلقة الإنسان والسيّارات في القرآن، دعوة الآيات الآفاقية إلى التوحيد ومكارم الأخلاق، العربية وإعجاز القرآن، لزوم التكلم بالعربية لجميع المسلمين والرد على مسألة إحياء اللغات الفارسية القديمة، عظمة القرآن الكريم وأصالته، تأثير القرآن في الحضارة العظيمة الإسلامية، تفوّق علوم الإسلام على اليونان، بيان كيفية كتابة القرآن وطباعته، تأريخ التوراة والإنجيل الحاليّين، قاطعية القرآن وشموله، عموميّة القرآن الكريم وامتناعه على التغيير، كيفية جمع القرآن وتدوينه.
البَحْثُ الخَامِسُ: مَنْطِقُ القُرْآنِ هُوَ التَوْحِيدُ الخَالِصُ في جَمِيعِ الشُّؤُونِ و تفسير آية ﴿قُلْ أي شَيْءٍ أكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ وَ اوحِيَ إلي هَذَا الْقُرْءَانُ لُانذِرَكُم بِهِ وَ مَن بَلَغَ﴾
أعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيطانِ الرَّجِيمِ
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
و صلَّى اللهُ عَلَى سَيِّدِنا مُحَمَّدٍ و آلِهِ الطَّيِّبِينَ الطَّاهِرِينَ
و لَعْنَةُ اللهِ عَلَى أعْدَائهِمْ أجْمَعِينَ مِنَ الآنَ إلى قِيامِ يَوْمِ الدِّينِ
و لَا حَولَ و لَا قُوَّةَ إلَّا بِاللهِ العَلِيِّ العَظِيمِ
الآيات الدالّة على أنّ الله شهيد و رقيب و حفيظ و محيط بكلّ شيء
قال الله الحكيم في كتابه الكريم:
وَ إِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَ إِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ، وَ هُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَ هُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ ، قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ وَ أُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَ مَنْ بَلَغَ أَ إِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرى قُلْ لا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَ إِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ.۱
و يشير قبل هذه الآيات في بيان تعريف التوحيد و الإشارة إلى وحدة ذات الحقّ القدسيّة في جميع الشؤون و الامور، فيقول جلّ شأنه: قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ، وَ لَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَ النَّهارِ وَ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ، قُلْ أَ غَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فاطِرِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ هُوَ يُطْعِمُ وَ لا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَ لا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ، قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ
يَوْمٍ عَظِيمٍ ، مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَ ذلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ.۱
فهذه الآيات تُبيِّن بوضوح أنّ منطق القرآن هو الدعوة إلى التوحيد، ذلك التوحيد المحض الخالص في جميع الشؤون دون شائبة، و الدعوة إلى المعاد، أي أنّ مبدأ و معاد جميع العوالم و الكائنات و من جملتها الإنسان منحصران في الذات القدسيّة الربوبيّة، فالمقصد و المقصود في جميع الامور - التكوينيّة و التشريعيّة أو غيرهما - هو الله سبحانه، له الطاعة لا يشركه فيها سواه، و هو الحاضر و الناظر و المهيمن و المسيطر على جميع الموجودات، و هو الذي له مع كلّ موجودٍ معيّة ذاتيّة و صفاتيّة و أسمائيّة.
و عليه، فينبغي الخضوع أمام ربٍّ ودود و رحيم بهذه الصفات، و القيام بعبادته و دعائه على الدوام، و الانقطاع عن كلّ ما سواه و كلّ من عداه، و إيكال زمام امور الدين و الدنيا و الآخرة إليه سبحانه، فذلك هو النهج القويم، و العمل وفق أساس عالم الخلقة، و تبعيّة الإنسان للحقّ و الحقيقة، لا للأوهام و الخيال و الشكّ و الريب.
و ليست الشهادة في اللغة العربيّة بمعنى مُطلق بيان العلم، بل هي بمعنى الحضور، و لأنّ الشاهد ينبغي أن يكون حاضراً ليشهد على ما حضره و عاينه، فقد دُعي كلام هذا الشاهد شهادةً، و جميع مشتقّات هذه الكلمة كالشَّهيد و الشَّاهِد و المَشْهُود و غيرها هي من هذا القبيل، أي أنّها تستبطن جميعاً معنى الحضور، و هي لهذا تستعمل بهذا اللحاظ في المعاني و المقاصد المختلفة.
و عليه، فالآية القائلة: قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ وَ أُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَ مَنْ بَلَغَ تُنبئ أوّلًا أنّ دعوة القرآن هي للتوحيد
الخالص لأنّها مشفوعة بقوله: وَ هُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَ هُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ؛ فيعلم أنّ دعوة هذا الكتاب الإلهيّ إنّما هي لهذا النوع من التوحيد.
و تنبئ ثانياً بعدم اختصاص القرآن بأفراد و زمان النبيّ الأكرم، بل هو شامل كذلك لجميع الأزمنة و العصور، كما أنّه لا يختصّ بالناطقين بالعربيّة، بل هو حجّة في جميع الألسن و اللغات، لأنّه بتصريحه بكلمة وَ مَن بَلَغَ فقد جعل الإنذار و الوعيد الإلهيّ موجّهاً لكلّ فرد من أفراد البشر يصله القرآن و محتواه، و اعتبر الحجّة الإلهيّة تامّة عليه، سواء بلغته آيات القرآن بالعربيّة أم مترجمة بلغة اخرى، مكتوبة له أم مقروءة، مشافهةً أم بالبثّ الإذاعيّ و أمثال ذلك.
و قد وردت في القرآن الكريم نظائر لكلمة شهيد و أمثالها، مثل رَقيب و حَفيظ و مُحِيط في شأن الله تعالى، كما في قوله: فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَ أَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ.۱
و مثل: أَ وَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ، أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ.٢
و مثل: فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَ يَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ وَ لا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً إِنَّ رَبِّي عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ.٣
و مثل: إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً.٤
و نظير الآيات المباركة في سورة الأنعام في دعوة القرآن الكريم إلى
التوحيد الخالص و المطلق للذات الأحديّة المقدّسة في جميع الشؤون هناك آيات في سورة يونس تماثلها في المضمون:
قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَ لكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَ أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ، وَ أَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً وَ لا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ، وَ لا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكَ وَ لا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ ، وَ إِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَ إِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.۱
و يتّضح ممّا ذكر أنّ القرآن حجّة علينا نحن الذين أطللنا على الوجود بعد نزوله بأربعة عشر قرناً، نحن الذين نعيش في منطقة جغرافيّة تختلف عن منطقة نزوله، بل هو حجّة مستمرة إلى يوم القيامة و على جميع نقاط الأرض، و لا مفرّ و لا مهرب من قبوله و العمل به.
خطبة أميرالمؤمنين عليهالسلام في وجوب التمسّك بالقرآن
و في نهج البلاغة خطبة بليغة لأميرالمؤمنين عليه أفضل صلوات المصلّين، أوردها في وصف القرآن و بيان وجوب متابعته، يقول في مقدّمتها:
انْتَفِعُوا بِبَيَانِ اللهِ؛ وَ اتَّعِظُوا بِمَوَاعِظِ اللهِ؛ وَ اقْبَلُوا نَصِيحَةَ اللهِ؛ فَإنَّ اللهَ قَدْ أعْذَرَ إلَيْكُمْ بِالجَلِيَّةِ؛ وَ اتَّخَذَ عَلَيْكُمُ الحُجَّةَ؛ وَ بَيَّنَ لَكُمْ مَحَابَّهُ مِنَ الأعْمَالِ وَ مَكَارِهَهُ مِنْهَا لِتَتَّبِعُوا هَذِهِ؛ وَ تَجْتَنِبُوا هَذِهِ!
فَإنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلهِ كَانَ يقول: إنَّ الجَنَّةَ حُفَّتْ بِالمَكَارِهِ؛ وَ إنَّ النَّارَ حُفَّتْ بِالشَّهَوَاتِ.
وَ اعْلَمُوا أنَّهُ مَا مِنْ طَاعَةِ اللهِ شَيءٌ إلَّا يَأتِي في كُرْهٍ. وَ مَا مِنْ مَعْصِيَةِ
اللهِ شَيءٍ إلَّا يَأتِي في شَهْوَةٍ. فَرَحِمَ اللهُ رَجُلًا نَزَعَ عَنْ شَهْوَتِهِ. وَ قَمَعَ هَوَى نَفْسِهِ. فَإنَّ هَذِهِ النَّفْسَ أبْعَدُ شَيءٍ مَنْزِعَاً وَ إنَّهَا لَا تَزَالُ تَنْزَعُ إلى مَعْصِيَةٍ في هَوَى.
وَ اعْلَمُوا عِبَادَ اللهِ! أنَّ المُؤْمِنَ لَا يُصْبِحُ وَ لَا يُمْسِي إلَّا وَ نَفْسُهُ ظَنُونٌ عِنْدَهُ؛ فَلَا يَزَالُ زَارِياً عَلَيْهَا؛ وَ مُسْتَزِيداً لَهَا. فَكُونُوا كَالسَّابِقِينَ قَبْلَكُمْ وَ المَاضِينَ أمَامَكُمْ قَوَّضُوا مِنَ الدُّنْيَا تَقْوِيضَ الرَّاحِلِ؛ وَ طَوَوْهَا طَيَّ المَنَازِلِ.
ثمّ يقول أميرالمؤمنين عليهالسلام بعد هذه المقدّمة بشأن عظمة القرآن و خلوده و لزوم التمسّك به:
وَ اعْلَمُوا أنَّ هَذَا القُرْآنَ هُوَ النَّاصِحُ الذي لَا يَغُشُّ؛ وَ الهَادِي الذي لَا يُضِلُّ؛ وَ المُحَدِّثُ الذي لَا يَكْذِبُ. وَ مَا جَالَسَ هَذَا القُرْآنَ أحَدٌ إلَّا قَامَ عَنْهُ بِزِيَادَةٍ أوْ نُقْصَانٍ. زِيَادَةٍ في هُدَى، أوْ نُقْصَانٍ في عَمَى.
وَ اعْلَمُوا أنَّهُ لَيْسَ عَلَى أحَدٍ بَعْدَ القُرْآنِ مِنْ فَاقَةٍ؛ وَ لَا لإحَدٍ قَبْلَ القُرْآنِ مِنْ غِنَى. فَاسْتَشْفُوهُ مِنْ أدْوَائِكُمْ وَ اسْتَعِينُوا بِهِ عَلَى لأوَائِكُمْ فَإنَّ فِيهِ شِفَاءً مِنْ أكْبَرِ الدَّاءِ وَ هُوَ الكُفْرُ وَ النِّفَاقُ وَ الغَيُّ وَ الضَّلَالُ.
فَاسْألُوا اللهَ بِهِ وَ تَوَجَّهُوا إلَيْهِ بِحُبِّهِ! وَ لَا تَسْألُوا بِهِ خَلْقَهُ إنَّهُ مَا تَوَجَّهَ العِبَادُ إلى اللهِ بِمِثْلِهِ.
وَ اعْلَمُوا أنَّهُ شَافِعٌ مُشَفَّعٌ، وَ قَائِلٌ مُصَدَّقٌ؛ وَ أنَّهُ مَنْ شَفَعَ لَهُ القُرْآنُ يَوْمَ القِيَامَةِ شُفِّعَ فِيه؛ وَ مَنْ مَحَلَ بِهِ القُرْآنُ يَوْمَ القِيَامَةِ صَدَقَ عَلَيْهِ. فَإنَّهُ يُنَادِي مُنَادٍ يَوْمَ القِيَامَةِ. «ألَا إنَّ كُلَّ حَارِثٍ مُبْتَلَى في حَرْثِهِ وَ عَاقِبَةِ عَمَلِهِ غَيْرَ حَرَثَةِ القُرْآن».
فَكُونُوا مِنْ حَرَثَتِهِ وَ أتْبَاعِهِ؛ وَ اسْتَدِلُّوهُ عَلَى رَبِّكُمْ؛ وَ اسْتَنْصِحُوهُ
عَلَى أنْفُسِكُمْ؛ وَ اتَّهِمُوا عَلَيْهِ آرَاءَكُمْ؛ وَ اسْتَغِشُّوا فِيهِ أهْوَاءَكُمْ - (الخطبة).۱
ابن أبي الحديد ينقل مطالب في شأن القرآن
و قد عقد ابن أبي الحديد بعد إيراده هذه الخطبة و شرحها باختصار، فصلًا في بيان ما ورد على لسان الناس في تعظيم القرآن و إجلاله، ننقل هنا قسماً منه.
و من الكلام المرويّ عن أميرالمؤمنين عليهالسلام في ذكر القرآن ما رواه ابن قُتَيْبَة في كتاب «عُيون الأخبار» عنه عليهالسلام، قال:
مَثَلُ المُؤْمِنِ الذي يَقْرَا القُرْآنَ كَمَثَلِ الاتْرُجَّةِ رِيحُهَا طَيِّبٌ وَ طَعْمُهَا طَيِّبٌ. وَ مَثَلُ المُؤْمِنِ الذي لَا يَقْرَا القُرْآنَ كَمَثَلِ التَّمْرَةِ طَعْمُهَا طَيِّبٌ وَ لَا رِيحَ لَهَا. وَ مَثَلُ الفَاجِرِ الذي يَقْرَا القُرْآنَ كَمَثَلِ الرَّيْحَانَةِ رِيحُهَا طَيِّبٌ وَ طَعْمُهَا مُرٌّ. وَ مَثَلُ الفَاجِرِ الذي لَا يَقْرَا القُرْآنَ مَثَلُ الحَنْظَلَةِ طَعْمُهَا مُرٌّ وَ رِيحُهَا مُنْتِنَةٌ.٢
و كان ابن عبّاس يقول: إذَا وَقَعْتُ في آلِ حم؛ وَقَعْتُ في رَوْضَاتٍ دَمِثَاتٍ أتَأنَّقُ فِيهِنَّ.
و قال ابن مسعود. لِكُلِّ شَيءٍ دِيبَاجَةٌ؛ وَ دِيبَاجَةُ القُرْآنِ آل حم.
و قال رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم: أصْفَرُ البُيُوتِ جَوْفٌ صَفِرٌ مِنْ كِتَابِ اللهِ.
و وفد غالب بن صعصعة على أميرالمؤمنين عليهالسلام و معه ابنه الفرزدق فقال له. مَن أنت؟ قال: غالب بن صعصعة المجاشعيّ.
قال عليهالسلام: ذو الإبل الكثيرة؟ قال: نعم.
قال: ما فَعَلَتْ إبلُك؟ قال: أذْهَبَتْهَا النَّوَائِبُ وَ ذَعْذَعَتْهَا الحُقُوقُ.
قال عليهالسلام: ذَاكَ خَيْرُ سُبُلِهَا.
ثمّ قال: يا أبا الأخطل! مَن هذا الغلام معك؟
قال: ابني و هو شاعر.
قال: عَلِّمْهُ القُرْآنَ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ مِنَ الشِّعْرِ.
فكان ذلك في نفس الفرزدق حتّى قيّد نفسه و إلى أن لا يحلّ قيده حتّى يحفظ القرآن، فما حلّه حتّى حفظه، و ذلك قوله:
وَ مَا صَبَّ رِجْلِي في حَدِيدٍ مُجاشِعٍ | *** | مَعَ القِدِّ إلَّا حَاجَةٌ لِي ارِيدُهَا |
ثمّ يقول ابن أبي الحديد هنا. تحت قوله عليهالسلام لغالب بن صعصعة أب الفرزدق يَا أبَا الأخْطَل قبل أن يعلم أنّ ذلك الغلام ولده و أنّه شاعر سرٌّ غامض، و يكاد يكون إخباراً عن غيب، و ينبغي أن يكون الإمام قد لمح بنظره الثاقب البعيد ما سيستقبله من الأيّام.۱
يقول الفُضَيْل بن عِيَاض: بلغني أنّ صاحب القرآن إذا وقف على معصية خرج القرآن من جوفه فاعتزل ناحيةً و قال: ألهذا حملتني؟
روايات عن رسول الله صلّى الله عليه و اله في شأن القرآن
و روى أنس أنّ رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم قال لي:
يَا بْنَ امِّ سَلِيمٍ! لَا تَغْفَلْ عَنْ قِرَاءَةِ القُرْآنِ صَبَاحَاً وَ مَسَاءً فَإنَّ القُرْآنَ يُحْيِي القَلْبَ المَيِّتَ وَ يَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَ المُنْكَرِ.
و قال أسْلَم الخَواص: كنتُ أقرأ القرآن فلا أجد له حلاوة. فقلتُ لنفسي. يا أسلم! اقرأ القرآن كأنّك تسمعه من رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم، فجاءت حلاوة قليلة.
فقلتُ: اقرأه كأنّك تسمعه من جبريل عليهالسلام؛ فازدادت الحلاوة.
فقلتُ: اقرأه كأنّك تسمعه من الله عزّ و جلّ حين تكلّم به. فجاءت الحلاوة كلّها.
و قال بعض أرباب القلوب. إنَّ النَّاس يَجْمِزُونَ۱ في قِرَاءَةِ القُرْآنِ مَا خَلَا المُحِبِّينَ؛ فَإنَّ لَهُمْ خَانَ إشَارَاتٍ إذَا مَرُّوا بِهِ نَزَلُوا.
يُرِيدُ آيَاتٍ مِنَ القُرْآنِ يَقِفُونَ عِنْدَهَا فَيَتَفَكَّرُونَ فِيهَا.
و ورد في الحديث المرفوع: مَا مِن شَفِيعٍ مِنْ مَلَكٍ وَ لَا نَبِيٍّ وَ لَا غَيْرِهِمَا أفْضَلُ مِنَ القُرْآنِ٢.
و قال رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم: إنَّ القُلُوبَ تَصْدَأ كَمَا يَصْدَا الحَدِيدُ. قيل: يَا رَسُولَ اللهِ! وَ مَا جَلَاؤُهَا؟! قال: قِرَاءَةُ القُرْآنِ وَ ذِكْرُ المَوْتِ٣.
و عن رسول الله أيضاً: مَا أذِنَ اللهُ لِشَيءٍ أذَنَهُ لِنَبِيٍّ حَسَنِ التَّرَنُّم بِالقُرْآنِ.
و عنه صلوات الله عليه و آله و سلّم: إنَّ رَبَّكُمْ لأشَدُّ أذَناً إلى قَارِئِ القُرْآنِ مِنْ صَاحِبِ القَيْنَةِ إلى قَيْنَتِهِ.
و عنه أيضاً: أنْتَ تَقْرَا القُرْآنَ مَا نَهَاكَ؛ فَإذَا لَمْ يَنْهَكَ فَلَسْتَ تَقْرَؤُهُ.
و عن ابن مسعود: يَنْبَغِي لِحَامِلِ القُرْآنِ أنْ يُعْرَفَ بِلَيْلِهِ إذَا النَّاسُ نَائِمُونَ؛ وَ بِنَهَارِهِ إذَا النَّاسُ مُفْطِرُونَ؛ وَ بِحُزْنِهِ إذَا النَّاسُ يَفْرَحُونَ؛ وَ بِبُكائِهِ إذَا النَّاسُ يَضْحَكُونَ؛ وَ بِخُشُوعِهِ إذَا النَّاسُ يَخْتَالُونَ. وَ يَنْبَغِي لِحَامِلِ القُرْآنِ أنْ يَكُونَ سِكِّيتَاً، زِمِّيتَاً، لَيِّناً.
وَ لَا يَنْبَغِي أنْ يَكُونَ جَافِياً وَ لَا مُمَارِياً، وَ لَا صَيَّاحاً وَ لَا حَدِيداً
وَ لَا صَخَّاباً.
يقول ابن مسعود: أنْزَلَ اللهُ عَلَيْهِمُ القُرْآنَ لِيَعْلَمُوا بِهِ؛ فَاتَّخَذُوا دِرَاسَتَهُ عَمَلًا! إنَّ أحَدَهُمْ لَيَقْرَا القُرْآنَ مِنْ فَاتِحَتِهِ إلى خَاتِمَتِهِ مَا يُسْقِطُ مِنْهُ حَرْفاً؛ وَ قَدْ أسْقَطَ العَمَلَ بِهِ.
و عن ابن عبّاس: لَئَنْ أقْرَا البَقَرَةَ وَ آ لَ عِمْرَانَ ارَتِّلُهُمَا وَ أتَدَبَّرُهُمَا أحَبُّ إلى مِنْ أنْ أقْرَا القُرْآنَ كُلَّهُ هَذْرَمَةً.
و قال ثابت البنانيّ: كَابَدْتُ القُرْآنَ عِشْرِينَ سَنَةً وَ تَنَعَّمْتُ عِشْرِينَ سَنَةً.۱
القرآن يربط بين جميع الموجودات بنظرته التوحيديّة
و لقد قال الحقير يوماً في حضور الاستاذ آية الله العلّامة الطباطبائيّ قدّس الله نفسه. إنّ بعض آيات القرآن صريحة في التوحيد حتى لكأنّها لا تشير لغير وحدة الحقّ المتعال في جميع عوالم الذات و الصفات و الأفعال! قال: هذا شأن القرآن كلّه.
نعم، القرآن كلّه هكذا؛ فرسالة القرآن و رسالة النبيّ في تفهيم القرآن و إبلاغه هي جعل الناس يدركون و يعون أن لا ذات هناك في جميع عوالم الوجود غير الذات القدسيّة للواحد القهّار، و لا اسم و لا صفة غير أسمائه و صفاته، و لا فعل إلّا فعله.
أي أنّ جميع عالم الوجود له ذات و وجود واحد استقلاليّ محض مختصّ به سبحانه، كما أنّ العلم و القدرة و الحياة و الفعل و التأثير التي هي من آثاره مختصّة به تعالى؛ أمّا جميع العوالم من الموجودات و المخلوقات فوجودها ظلّ و تبع كالظلّ بالنسبة للشاخص، و هي كلّها ظهورات و تجلّيات
و أطوار مختلفة لتلك الحقيقة المحضة المطلقة و ذلك النور القاهر المحض البسيط و المجرّد.
فالقرآن يسعى بمنطقه و كلامه و دلالة نهجه و رسالته إلى البحث عن طريق للوصول إلى هذه الدرجة من خلوص التوحيد، ليس فقط عبر الآيات التي تتحدّث عن التوحيد و انحصاره في الوجود و الذات و الاسم و الفعل، بل إنّ جميع الآيات تتحدّث عن هذا الأمر، و تشمل و تستوعب الغيوم و الرياح، و المطر و البذر و الزرع، و النهر و البحر، و الشمس و القمر، و الليل و النهار، و الروض و القفر، و الورد و شقائق النعمان، و النخل و الأعناب، و الحيوان و الإنسان، و الجنّ و المَلَك، و تعتبرها جميعاً منقادةً و مطيعة كالعبد المسترقّ و الغلام الطيِّع لسيّد و مولى واحد. ثمّ إنّها تربط هذه الأشياء جميعاً بالشكل الذي لا يبقى معه منها غير معنى و مفهوم الربط، فليس لها في ذاتها ظهور، بل إنّ من المحال أن يكون لها ظهور، أو أن تشير إلى ظهور غير ظهور واحد و بسيط لذلك الجمال الرائع و ذاته المتفرّدة التي لا مثيل لها.
فالقرآن لا يكتفي بتشخيص أصل واحد لجميع الموجودات المادّيّة، بل إنّه يعتبر جميع الموجودات ذات نفس واحدة، فهو يربط جميع البشر ببعضهم، ثمّ يربط البشر بالحيوانات، و يصلهما بجميع النباتات و الأعشاب، ثمّ يربط الجميع بالجمادات، و يصل العالم السفليّ بالعالم العلويّ، و عالم المادّة بالملكوت و المقيَّد بالمجرَّد، و السفليّ بالعلويّ، و الجسم بالروح، يربطها جميعاً ببعضها، و سيبدو في هذا الاختلاط و الامتزاج الحاصل في هذا الربط و الارتباط أن لا شيء هناك غير الوحدة الحقّة الحقيقيّة، و أن لا فاصل هناك بين الملكوت الأعلى و بين أظلم العوالم.
هذه هي النظرة القرآنيّة العميقة والدقيقة والصائبة في الربط والاتّحاد والوحدة النفسانيّة بين جميع المخلوقات الإلهيّة بالشكل الذي يعتبر الذرّة الموجودة في الشرق مرتبطة بالذرّة الموجودة في الغرب، فهما يشتركان في الغمّ والفرح والحزن والسرور.۱
و هو نفسه محتوى شعر شاعرنا المتحمّس الواله و العاشق المضطرب، حيث قال:
به صحرا بنگرُم صحرا تَه وِينُم | *** | به دريا بنگرُم دريا تَه وينُم |
بهر جا بنگرم كوه و در و دشت | *** | نشان از روى زيباى تَه وينُم٢ |
و نقل أنّ بعض المشايخ رأي الشاعر الفردوسيّ بعد موته في المنام و هو يرتع في الدرجات العالية في الفردوس، فسأله كيف نلت هذه الدرجة؟
قال: ببيتٍ واحدٍ قلتُه في التوحيد:
جهان را بلندى و پستى توئى | *** | ندانم چهاى هر چه هستى توئى۱ |
بگفتار پيغمبرت راه جوى | *** | دل از تيرگيها بدين آب شوى |
چه گفت آن خداوند تنزيل و وحى | *** | خداوند أمر و خداوند نهى |
كه من شهر علمم عليّم در است | *** | درست اين سخن گفت پيغمبر است |
گواهى دهم كين سخن را ز اوست | *** | تو گوئى دو گوشم به آواز اوست |
منم بنده أهل بيت نبى | *** | ستايندة خاك پاى وصى |
اگر چشم دارى به ديگر سراى | *** | به نزد نبى و وصى گير جاى |
گرت زين بد آيد گناه من است | *** | چنين است و اين رسم و راه من است |
بدين زادم و هم بدين بگذرم | *** | چنان دان كه خاك پى حيدرم |
ابا ديگران مر مرا كار نيست | *** | جز اين در مرا، هيچ گفتار نيست |
نبى و على دختر و هر دو پور | *** | گزيدم و زان ديگرانم نفور |
دلت گر به راه خطا مايل است | *** | ترا دشمن اندر جهان خود دل است |
هر آنكس كه در دلش بغض على است | *** | از او خوارتر در جهان زار كيست؟ |
نباشد مگر بى پدر دشمنش | *** | كه يزدان به آتش بسوزد تنش |
و بالطبع فإنّ هذه النظرة القرآنيّة تمتاز بالواقعيّة، كما أنّ التعليمات التي يصدرها القرآن لأفراد البشر هي لتوحيد القلوب و تقارب النفوس و تناغمها من أجل الوصول إلى هذه الحقيقة:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَ صابِرُوا وَ رابِطُوا وَ اتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ.۱
و هذه النظرة هي على النقيض تماماً من نظرة الشيوعيّين و المادّيّين الذين يرون جميع العالم مشتّتاً متفرّقاً عن بعضه البعض، كذلك كلّ ذرّة منه منفصلة عن الاخرى، و كلّ نفس منعزلة عن النفوس الاخرى، و ليس هناك شيء أبداً - حسب هذه النظرة - يربط بين أفراد الإنسان إلّا و كان أمراً موهوماً.
فهم يعتبرون سعي الإنسان و جدّه من أجل أفراد نوعه و مجتمعه عملًا لا قيمة له و لا طائل وراءه، و لا يدركون مغزى حماية الحيوانات و ذوات الأرواح، حتى أنّهم يعتبرون الارتباط بين أجزاء البدن الواحد أمراً وهميّاً، و يعدّون أنفسهم أمراً وهميّاً، لأنّهم لا يفهمون شيئاً غير المادّة و آثارها.
و عليه، فإنّ قسوتهم و فظاعة أعمالهم تصل إلى الحدّ الذي لا يبالون فيه لو مات أحد جيرانهم جوعاً و لو كانوا مطّلعين على أمره عالمين بمعاناته و محنته.
فشتّان بين هذه النظرة و بين النظرة الإسلاميّة! النظرة التي تعتبر أنّ جار المرء هو جاره و شريكاً له في الغمّ و السرور إلى امتداد أربعين منزل من كلّ جهة؛ و التي وصلت في تعليمها و تربيتها على الإيثار و التضحية إلى الحدّ الذي كان المقاتلون الغارقون في الجراح و الدماء في معركة الجهاد يؤثرون بعضهم البعض على الماء فيلفظون أنفاسهم الأخيرة بشفاهٍ ظمأى و أكبادٍ حَرَّى.
وَ يُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَ لَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ.۱
مقدّمات الثورة الاوروبّيّة على البابوات دعاة الجاه و السلطة
و من دواعي الأسف أنّ الاوروبّيّين بعد قيامهم بنهضتهم العظيمة ضدّ أرباب الكنيسة و البابوات الذين اتّخذوا الدين المسيحيّ وسيلةً لاستغلال الناس، و لم يتورّعوا عن ارتكاب أيّة جناية و خيانة لتثبيت سلطتهم، و بعد القضاء على التقليد و المتابعة العمياء للرؤساء الدينيّين و الاتّجاه صوب الاستقلال الفكريّ و هدم بناء الجهل و التعصّب، و هي امور كانت تشكّل الأرضيّة المناسبة لانتشار الإسلام؛ قد أصابهم الغرور و اكتنفتهم الأنانيّة فأعرضوا عن قبول الإسلام و كتاب القرآن السماويّ، و استبدّوا بفكرهم فراحوا يبحثون عن سبيل الخلاص؛ و بدلًا من حصولهم على الدنيا المعنويّة و الحياة و التقدّم المادّيّ تحت لواء الحقيقة و الواقعيّة الذي كان ينتظرهم في ظلّ الإسلام و سبله الهادية، فقد تردّوا في عبادة المادّة و البحث و التحقيق في العلوم الطبيعيّة و الرياضيّة، و تناسوا الله و التجرّد و النور و الرحمة و المعاني و المعنويّات، فهم قد خرجوا في الحقيقة من جهنّم ليرتطموا في جهنّم اخرى، و نجوا من يدلصّ فوقعوا في أسر (فوّال)، و هو ذنب لا يغتفر لقادة النهضة و حملة لوائها الذين محوا الحقائق و الشرف و الفضيلة من أرض الغرب مدّة لا يعلم مداها إلّا الله.
يقول مؤرّخنا المعاصر السيّد عبّاس إقبال الآشتيانيّ. لقد كان القرنان الثالث عشر و الرابع عشر عصر ظهور عدّة من الدول المهمّة التجاريّة المستقلّة و شبه المستقلّة التي اصبحت بتردّد أهلها و معاملاتهم مع الدول البعيدة - و خاصّة بلاد الشرق الإسلاميّ - مركزاً للعديد من المفكّرين المتنوّرين الذين كانوا يفدون بقيم مادّيّة و معنويّة جديدة و يعملون على
تعريف مواطنيهم على هذه الأوضاع الجديدة، فأوجدوا تدريجيّاً تغييرات جديدة في طريقة حياتهم و اسلوب تفكيرهم.
و كانت أهمّ هذ البلدان التجاريّة هي. فينيسيا، و فلورنسا، و جين في إيطاليا، لشبونة في البرتغال، باريس في فرنسا، بروج و انْفيرس في فلاندرا، لندن في إنجلترا، هامبورج و نورنبرج في ألمانيا، نوجورود في روسيا، و برجين في النرويج.
و كان لغالب هذه البلدان امراء أغنياء ذوي نفوذ أو منضوين تحت حماية ملك مقتدر نسبيّاً؛ و بغضّ النظر عن هذه القدرة الملكيّة الحديثة لهؤلاء الامراء و السلاطين و التي كانت في حالة نموّ و تصاعد، فقد كان للبابا أيضاً؛ و هو الرئيس العامّ للمسيحيّين و الحاكم المطلق على أرواح و أموال عموم أتباع الدين المسيحيّ؛ نفوذاً و قدرة متناهية، و بالطبع فقد كانت الخلافات تنشب بينه و بين الامراء و السلاطين المذكورين فتؤدّي أحياناً إلى حروب بين الطرفين.
و قد اقترنت هذه الأوضاع مع الفترة التي كان البابوات يقتلون بشكل مفجع الكثير من الأبرياء تحت ذريعة قمع المرتدّين و الدفاع عن الدين المسيحيّ، في حين أنّ البابوات أنفسهم لم يكونوا منزّهين طاهري الذيل، بل كانت الحياة الخاصّة لأغلبهم ملوّثة بأنواع المفاسد و الرذائل الأخلاقيّة.
و كان الذين استطاعوا إثر حدوث المقدّمات المذكورة أن يكسروا طوق العبوديّة و يتخطّوا حدود التقليد في امور الدين و الدنيا مستعينين بفكرهم و فكر أمثالهم، و قد تطرّق إليهم الشكّ حين شاهدوا هذه الأوضاع في جهاز حكم البابوات و في أمر سلطة البابا المطلقة و مدى حقّانيّة حكمه و أمره، الذي كان حتى ذلك العهد من الامور المسلّمة، حيث يُحكم بالكفر من خالفه و تحدّاه؛ و فكّروا و هم المؤمنون المتديّنون في ضرورة إيجاد
سبيل نجاة لهم من هذا الوضع.
و في أواخر القرون الوسطى صار لبعض البابوات و السلاطين المسيحيّين الاوروبّيّين اطّلاع و معرفة نسبيّة بالعلوم الإسلاميّة و المعارف اليونانيّة القديمة التي وصلت إلى أيديهم إثر مخالطتهم للأطبّاء و العلماء المسلمين و اليهود، و كان لفِرِدْريك الثاني إمبراطور ألمانيا الذي كان يحكم أيضاً قسماً من إيطاليا و جزيرة صقلية أكبر العون في نشر الفلسفة و العلوم الإسلاميّة، و ذلك بإحياء تعليم فلسفة أرسطو في اوروبّا؛ التي ظهرت تدريجيّاً إثر تشجيعه و تشجيع بعض الامراء الصغار و البابوات، طبقة من الناس في اوروبّاً يعنون بالطبّ و النجوم و الكيمياء و الحكمة، و بذلك فقد اتّجه اهتمامهم و مطالعاتهم إلى العلوم النظريّة و التجريبيّة، و صارت مسائل الحكمة موضوع درس و بحث الدارسين في بعض دور الفنون المعتبرة تلك الأيّام، مثل دار الفنون في باريس و اكسفورد و بولوفنيا (في إيطاليا).۱
و نتيجة لهذه الحوادث التي دارت في اوروبّا بين القرنين الثالث عشر و القرن السادس عشر، أي نتيجة لانتشار الكتب إثر صناعة الورق و اختراع فنّ الطباعة و شيوع السفر إلى البلاد البعيدة و اكتشاف الأراضي و الطرق و القارّات الجديدة. و اطّلاع الناس على وجود حيوانات و نباتات جديدة، و على آداب و أخلاق أقوام لم يكن أحد حتى ذلك الحين ليعلم بوجودهم، مضافاً إلى اهتمام الناس بكتب اليونانيّين القدماء و علماء المسلمين؛ كلّ ذلك قد أدّى إلى استنارة أذهان سكّان اوروبّا، و قد غيّرت هذه الحالة تدريجيّاً حال الجهل و التعبّد و التقليد الحاكم على تلك المنطقة لسنين
متمادية إلى نهضة في طلب العلم و كسب المعرفة و التعقّل في الامور الدينيّة و الدنيويّة لم يسبق لها مثيل في العالم، و كان لهذه الامور مضافاً إلى تأثيرها العظيم في الحياة المادّيّة للناس، أثراً ملحوظاً في الامور الاجتماعيّة و السياسيّة أيضاً.۱
فحين دعا البابوات في القرن الحادي عشر الميلاديّ الناس إلى الجهاد ضدّ المسلمين، فقد لبّى جميع المسيحيّين بإيمان و إخلاصٍ تامّ أوامرهم، و ساروا أفواجاً تليها أفواج إلى الحروب الصليبيّة في الشرق؛ لكنّ هؤلاء الناس أحسّوا بعد ذلك أنّ البابوات جعلوهم أداةً لتنفيذ أغراضهم، و استخدموهم في تثبيت أركان سلطتهم و إلحاق الأذى بأعدائهم الشخصيّين و في المجازر التي ارتكبوها بحقّ الناس، لذا فقد ساورتهم الشكوك في مدى إخلاص نوايا بعض هؤلاء البابوات، و صرّح فردريك الثاني إمبراطور ألمانيا علناً عصيانه لأوامر البابا في الحرب مع المسلمين، و وصل به الحدّ إلى فتح أبواب الصلح و الصداقة معهم ممّا أدّى إلى إيجاد الثغرات و إلى التزلزل الكلّيّ في هيكل سلطه البابوات و استبدادهم.
نقد علماء اوروبّا في مدى موافقة التوراة و الإنجيل للعلم و التأريخ
و كان ويكليف٢ أوّل من نهض في اوروبّا باسم إصلاح الدين المسيحيّ و الاعتراض على بعض البابوات، حيث انتشرت تعاليمه بسرعة في إنجلترا؛ و قام أحد رجال الدين التشيكيّين و اسمه جان هوس٣ بإلقاء عدّة محاضرات في دار الفنون في براغ حول تعليمات ويكليف، و قد تابعه في آرائه جمعٌ كثير هناك ممّا دعى البابا إلى إصدار أمر بتشكيل مجلس في
مدينة كونستانسن، و قد دعا أعضاء هذا المجلس الذي دام من سنة ۱٤۱٤ حتى ۱٤۱۸ ميلاديّ «جان هوس» إلى المناظرة و المحاكمة، ثمّ أدانوه و أحرقوه في سنة ۱٤۱٥ ميلاديّ، و أعلنوا حكم الجهاد لمحاربة أتباعه.۱
و هناك عالم آخر كان وجوده مؤثِّراً في تعميم و نشر العلم و الحكمة الجديدة، و هدم جزء مهمّ من هيكل الآراء العلميّة و الدينيّة البالية التي لا تستند إلى أساس، و هو إرنست رينان٢ الذي بدأ دراسته في المدارس الدينيّة الكاثوليكيّة على أمل أن يصبح عالماً و قسِّيساً يعتقد باسس آراء الكنيسة الكاثوليكيّة، لكنّه تراجع عن هذا الطريق فجأة في سنة ۱۸٤٥ ميلاديّ و لم يستطع بسبب افتتانه بالعلوم الطبيعيّة الجديدة أن يستمرّ في الاتّباع الأعمى للآراء الدينيّة، بل كان على العكس من ذلك يعمل على الاستفادة من اسلوب النقد العلميّ و التأريخيّ في تحقيق مسائل اللغات و الأديان و التواريخ القديمة، و على إنكار ما يُخالف هذا الأساس و لا ينسجم معه؛ و عليه فقد قام بتحقيق حول التوراة و أثبت أنّ أجزاء هذا الكتاب لا تنتمي جميعها إلى عصر واحد، و أنّ أجزاء منها كانت - بلحاظ اللغة و التعبير - أحدث من الأجزاء الاخرى، كما أنّ بعض أجزاء التوراة كانت مختلقة بكاملها.
ففي كتاب النبيّ أشعيا مثلًا، كان القسم الأخير منه مختلفاً تماماً - بلحاظ اللغة و الزمان - عن قسمه الأوّل، و كان زمن تأليف الأسفار الخمسة التي ينسبونها إلى موسى عليهالسلام أحدث بكثير من العصر الذي شخّصوا فيه أنّ مؤسِّس دين بني إسرائيل قد عاش فيه، و كان كتاب دانيال
مختلقاً هو الآخر.
و قد توصّل «إرنست رينان» بعد سفره إلى الشام و إكماله هناك معلوماته عن اللغات الساميّة و جمعه المعلومات المتعلّقة بالأديان و الآداب القديمة إلى أنّ الكثير من الفروع الدينيّة و كتب المذاهب و العقائد الشرعيّة للمسيحيّين إنّما هي تلك الأساطير و القصص الخياليّة لسكنة فلسطين و الشام القدماء.۱
ثمّ اختير «إرنست رينان» سنة ۱۸٦٢ ميلادي لتدريس اللغة العبريّة في أرقى مدارس باريس، و نشر كتيّباً في شرح أحوال السيّد المسيح عليه السلام سلك فيه كمؤرِّخ ناقد، و ناقش تفاصيل حياة السيّد المسيح و جزئيّاتها و كيفيّة نشوء دينه و انتشاره، و لم يسلك في هذا المجال كأتباع المسيحيّة الملتزمين، بل أنكر جميع الدرجات و المقامات غير العاديّة التي كان رجال الدين المسيحيّ ينسبونها لنبيّهم.
و كان «إرنست رينان» ماهراً أيضاً في الكتابة باللغة الفرنسيّة، و تميّز كتابه بالبلاغة و السلاسة، لذا سرعان ما صار كتابه مقبولًا للذوق العامّ؛ و قد سعى الكاثوليكيّون كثيراً لمنع انتشار هذا الكتاب، و قاموا بتكفير «إرنست رينان» و حرموه من التدريس و حرّموا على الكاثوليكيّين المتديّنين قراءة كتابه «حياة السيّد المسيح».
و كان في ألمانيا حكيم آخر هو فريدريك شتراوس٢ الذي قام قبل «إرنست رينان» بقليل بنشر كتاب باسم السيّد المسيح، و قد أنكر فيه كون الإنجيل كتاباً سماويّاً، و أنكر المعجزات التي كان ينسبها رجال الدين
للسيّد المسيح.
و قد شكّل «شتراوس» مع أتباعه في مدينة فيرتمبرك في ألمانيا جمعيّةً لنقد الإنجيل و التوراة من الوجهة التأريخيّة و العلميّة، و نشأ بذلك فرع جديد من علم الأديان.
لقد أدّى نشر مؤلّفات همبولت ولايل و داروين و رينان و أتباعهم إلى إضعاف و زعزعة الدين المسيحيّ و آراء و عقائد أصحاب الكنيسة في الدنيا، و قد وصل الإفراط بعدّة من الكتّاب المتحرّرين فكريّاً و المتحلّلين من أي دين و مذهب إلى حدّ اعتبروا فيه الأديان مانعاً من رقيّ المجتمع البشريّ، و قالوا إنّه ينبغي لخير البشريّة أن يُقضى على جميع الأديان.۱
و كلامنا هنا هو أنّنا نوافق على وجود مطالب خاطئة كثيرة في التوراة و الإنجيل، و أنّ دعوة البابوات و أرباب الكنيسة إلى المطالب الموهومة التي نسبوها إلى السيّد المسيح كانت خاطئة و غير صحيحة، و أنّ تجبّرهم و تحكّمهم تحت شعار الدفاع عن الدين المسيحيّ، من الإحراق و السَّوق للمقصلة، و بيع الجنّة و شراء جهنّم، و أخيراً عدّهم أنفسهم موالي و أرباباً للعوامّ البسطاء المستضعفين، كان خطأ و جريمة لا تغتفر، و كان يستدعي القيام بالثورة و الوقوف أمام هذه الجنايات و الجرائم و إنقاذ عامّة الناس من مخالب اولئك الذئاب، ولكن لا ينبغي للثائرين أن يتركوا الناس بلا قيود ليقعوا في مخالب ذئب آخر كهوى النفس الأمّارة، و شهوة التبرّج و الخلاعة، و الغضب بلا حدود، و المادّيّة المحضة، فيفقدوا من ثَمَّ جميع مزايا إنسانيّتهم و شخصيّتهم.
و نتساءل. حين جاء القرآن و أعلن بندائه الرفيع خلوّه من التحريف
و سلامته من الزيادة و النقصان و لو بحرف واحد، و أنّ جميع تعاليمه هي عين التوحيد و الرحمة و العدل و الطمأنينة، و أنّ حرّاسه - أمثال الأئمّة الأطهار - هم أئمّة العقل و الإدراك و أرباب الزهد و التقوى؛ و حين يصرّح القرآن بأنّ هناك تحريفاً قد وقع في التوراة و الإنجيل، و أنّ يد التلاعب قد امتدّت إليهما، و أنّ العلماء الحارسين لهذين الكتابَين لم يتورّعوا في جمعهم لحطام الدنيا و تسلّطهم على عوامّ الناس من ارتكاب أي قبيح؛ فَلِمَ لا نتّجه إلى القرآن و نؤمن به؟ وَ لِمَ لا نجعل هذا المصباح المنير مشعلًا يضيء بأشعّته الوهّاجة طريقنا؟!
القرآن يفضح أخطاء التوراة و الإنجيل الفعليَّين و يتّهم القساوسة
فنحن نرى عِياناً أنّ القرآن قد أزاح الستار كما فعلت تحقيقاتكم العلميّة و التأريخيّة عن وجه الجهل و الخيانة لأرباب الكنيسة، و تحدّث عنهم كاناس جشعين، و عدّ التوراة و الإنجيل محرّفتَين؛ فلِمَ لا نتّجه نحو واقعيّات و حقائق هذا القرآن؟!
أنتم يا من تعتقدون أنّ بدء بزوغ المدنيّة الغربيّة و حركتها يعود إلى العلوم الإسلاميّة من حكمة و فلسفة و نجوم و طبّ و تأريخ و فيزياء و كيمياء و غيرها، لِمَ تجلسون على هذه المائدة فتتناولون منها ثمّ تكسرون آنيتها في نُكرانكم للجميل؟!
و ها نحن نرى عِياناً نتيجة هذا التطرّف؛ فقد تخبّطت الدنيا في ورطة لا خلاص منها، و جلس أمثال «غاليلو» و «نيوتن» و «أينشتَين» و سائر أتباعهم ينتحبون في غمّهم و حزنهم للنكبة و الذلّ اللذين قدّماهما هديّة للبشريّة.
إن القرآن يقوّم العلوم التجريبيّة و النظريّة و الرياضيّة و يستخدمها للوصول إلى كمال النفس الإنسانيّة، لا للإضرار و الاعتداء و الإفراط؛ و يُسيّر عجلة ماكنة الحركة البشريّة بالسرعة التي يمكنه معها السيطرة على تصحيحها كلّ آن، و لا يعجّل في تحريك هذه العجلة للحدّ الذي تحطّم فيه
الماكنة و المصنع و المؤسّسة و صاحب العمل و العمّال جميعاً؛ فيخرّ على رؤوسهم هذا البناء الشامخ المسمّى بالمدنيّة.
و نقول «لإرنست رينان» و مَن يشاركه فكره. إنّ عيسى الذي عرفتموه من خلال الإنجيل و التأريخ ليس هو عيسى النبيّ الإلهيّ؛ و إنّ موسى الذي توصّلتم إلى معالمه من خلال التوراة و التحقيق التأريخيّ ليس موسى الواقعيّ؛ لكن القرآن الكريم قد عرض عيسى و موسى الحقيقيَّين بلا مغالاة و لا نسبة للقبائح إليهما، و بدون أي انحراف و معصية في الفعل و في العقيدة. فلِمَ لَمْ تشيروا إلى القرآن في حديثكم عند عودتكم من الشام إلى باريس و تدريسكم لدرس اللغة العبريّة؟ و لِمَ لمْ تقرأوا الآيات التي تحدّثت عن عيسى في سورتَي مريم و آل عمران؟۱ و الآيات التي تحدّثت عن موسى في سورة القصص؟ و لِمَ لَمْ تفتحوا في أذهان تلامذتكم نافذة الأمل هذه؟ كان ذلك هو خطأكم الذي لا يُغتفر.
لقد جاء الإسلام فنسخ دين موسى و عيسى، و ألغى العمل بالتوراة و الإنجيل، و قدّم الوجود المقدّس لمحمّد للعالِمين كقدوة و اسوة و تمثيل للارتباط بعالَم الغيب، و وضع السراج المنير - القرآن - مكان التوراة و الإنجيل، و دعا العالَم للحركة صوب القرآن و الاستمداد من روح رسول الله و قبول دعوته.
فلماذا حين أوهنتم اسس الكنيسة لم تُحكِموا اسس المسجد؟ لقد كان ذلك خطأكم.
إن البشر يمتلك خالقاً، كما أنّ الاعتقاد بالخالق من غرائزه، فهو يريد مسجداً يصلّي فيه و يدعو ربّه، فلِمَ خلعتم عنه لباسه القذر الملوّث، ثمّ لم تغسلوا عنه الأدران و تركتموه عارياً بلا ساتر؟
كان ذلك ذنبكم، فواضحٌ أنّ العريان لن يمكنه الصمود أمام الجوّ الخارجيّ و سيهلك و يموت.
نحن نقول. لقد جاء كلّ هؤلاء المستشرقين و الخبراء في شؤون الشرق و تعلّموا العربيّة و عاشوا مدّة طويلة في الممالك الإسلاميّة، فلِمَ يمتنعون هكذا من بيان الحقائق كما ينبغي؟! لِمَ يتصرّفون بنوايا عدوانيّة؟! لِمَ لا يتنازلون و يتخلّون عن روحهم الاستكباريّة، و يخضعون و يخشعون و تنكسر قلوبهم أمام الخالق؟ هذه الامور هي التي تُلقى على عواتقهم ذنب ضلال قارّة، ذنبٌ لم يتّضح بَعْدُ جزاؤه!
و يأتي الدكتور غوستاف لوبون الفرنسيّ ليكتب كتابه الضخم: «حضارة الإسلام و العرب»، و يعترف بنفسه فيه أنّ الدين الذي جاء به محمّد أعلى و أرقى في التوحيد من توحيد عيسي۱؛ لكنّه مع ذلك
لا يصبح مسلماً، و يموت ثَمَّ على نصرانيّته! و يبقى تصرّفه مثاراً للتساؤل و الاستغراب!
الكسيس كارل يوضِّح علّة إخفاق العلوم الطبيعيّة
و لقد كان الدكتور الكسيس كارل الفرنسيّ شخصاً متتبّعاً ذكيّاً حقّاً، و له تحقيقات عميقة و جليّة في استقصائه بعض مفاسد و علل الدمار المادّيّ و الجسميّ و الروحيّ، و كانت كتبه مفيدة حقّاً، لكنّه مع ذلك ظلّ أسير التعصّب، فلم يكن مستعدّاً لامتداح القرآن و رسول الله و العرفان و التصوّف الإسلاميّ، و كان يمرّ على النقاط الحسّاسة و الدقيقة للمطالب فيأبى أن يقرّ بها و يتعامى عنها و يتغافل، فلا ينقضي العجب منه!
و نورد مقاطع من عباراته في بيان سرّ عدم نجاح الماكنة في تحقيق الكمال للبشريّة ليتّضح وعيه بأسرار الأمر و خفاياه، ثمّ نورد مقاطع من عباراته في إغماضه عن العرفان و التصوّف الإسلاميّ لتشخيص تجاهله و تغافله عن الخضوع أمام عظمة القرآن.
فهو يقول بشأن سرّ عدم النجاح تحت عنوان. وجوب التغيير الفكريّ - غلطة النهضة-۱ أولويّة المادّة أو أصالة الإنسان، ثمّ يشرع في
شرح هذا المختصر فيقول:
إنّنا لا نستطيع تجديد أنفسنا و بيئتنا قبل أن نغيّر عاداتنا في التفكير، لقد عانى المجتمع العصريّ منذ نشأ من خطأ عقليّ، خطاٌ ما زال يتكرّر باستمرار منذ عصر النهضة.
لقد كوّنتْ التكنولوجيا الإنسان، لا تبعاً لروح العلم ولكن تبعاً لآراء ميتافيزيقيّة. و ها قد حان الوقت لكي نتخلّى عن هذه المذاهب. يجب أن نُحطِّم الحواجز التي انشئت بين أجزاء الموادّ الصلبة و بين الجوانب المختلفة لأنفسنا، فإنّ الغلطة المسؤولة عمّا نعانيه إنّما جاءت من ترجمة فكرة لطيفة لجاليلو، فقد فصل جاليلو؛ كما هو معروف جيّداً؛ الصفات الأوّيّة للأشياء و هي الأبعاد و الوزن التي يمكن قياسها بسهولة، عن صفاتها الثانويّة و هي الشكل و اللون و الرائحة التي لا يمكن قياسها، ففَصَل الكمّ عن النوع، و لقد جلب الكمّ المُعبَّر عنه باللغة الحسابيّة العلم للإنسانيّة بينما اهمل النوع.
و لقد كان تجريد الأشياء من صفاتها الثانويّة أمراً مشروعاً، لكنّ التغاضي عن الصفات الثانويّة لم يكن كذلك. فالأشياء غير القابلة للقياس في الإنسان أكثر أهمّيّة من تلك التي يمكن قياسها. فوجود التفكير هامّ جدّاً، مثل التعادل الطبيعيّ - الكيميائيّ لمصل الدم.
و لقد ازدادت التفرقة بين الكمّ و النوع اتّساعاً عندما أنشأ ديكارت مذهب ثنائيّة الجسم و الروح،۱ و عندئذٍ أصبحت ظواهر العقل غير مفهومة و لا قابلة للإيضاح، لأنّها قد عزلت المادّة نهائيّاً عن الروح. و عندها، فقد اتّخذت التركيبات العضويّة و الآليّات الفسيولوجيّة حقيقةً أكبر كثيراً من
التفكير و السرور و الحزن و الجمال. و لقد دفعت هذه الغلطة الحضارة إلى سلوك طريق أدّى إلى فوز العلم و انحلال الإنسان.۱
كانت هذه هي مقولته في القسم الأوّل، و يُلاحظ أنّها في منتهى الإتقان و الإحكام؛ أمّا مقولته في القسم الثاني فيقول فيها.
إن التصوّف في المسيحيّة هو بيان لأعلى مظاهر النشاط الدينيّ، و ارتباطه بالنشاطات العقليّة الاخرى أفضل من عرفان و تصوّف الهنود و التبت.
و كانت ميزته على التصوّف الآسيويّ أنّه اكتسب في عصر صباه دروساً من اليونان و الروم، فتعلّم من أحدهما الفكر و من الآخر القياس و النظم.۱
و كما ترى فقد جانب الإنصاف كثيراً في هذا التقييم، فكيف اعتبر عرفان بلاد الشرق ممثّلًا بتصوّف الهنود و التبت، متغافلًا عن العرفان و التصوّف الإسلاميّ؟! و كيف تغافل عن عرفان عليّ بن أبي طالب و سائر الأئمّة الأطهار، و عرفان الإمام السجّاد و الإمام الرضا عليم السلام؟ و كيف أغمض عن «نهج البلاغه» و خطبه المحيّرة للعقول و التي تعدّ مخّ العرفان و أساسه، و عن «الصحيفة السجّاديّة» و «عيون أخبار الرضا» و «توحيد الصدوق» التي لم يمكن لأحد من اولئك أن يصل حتى الآن لحقيقة هذا
العرفان؟
و كيف تجاهل و لم يلحظ مشايخ العرفان المشهورين مثل بايزيد البِسْطَامِيّ، و مَعروف الكَرْخي، و سَرِيّ السَّقَطِيّ، و الخواجة عبدالله الأنصاريّ، و مُحيي الدين عَرَبي، و ابن الفارِض المصريّ، و صدر الدين القُونَوِيّ، و شيخ الإشراق. شهاب الدِّين السُّهْرَوَردِيّ، و عبدالرزّاق الكاشانيّ، و المولى جلال الدِّين الرُوميّ، و الخواجة شمس الدِّين حافظ الشيرازيّ؟!
ألم تكن الأجزاء الستّة لمثنويّ «مولانا» التي تنضوي جميعها تحت ذلك العنوان:
بشنو از ني چون حكايت ميكند | *** | ...۱ |
أفضل و أعلى من جميع عرفان المسيحيّة و توحيد المسيح نفسه؟
ألم يكن حافظ الشيرازيّ الذي عُبّئ بأجمعه في بيت الغزل الأوّل:
ألَا يَا أيُّهَا السَّاقِي أدِرْ كَأساً وَ نَاوِلْهَا | *** | ... |
كافياً لبصيرته؟
أ وَ لم يكن النظم و السلوك، أي التائيّة الكبرى لابن الفارض، و التي تمثّل حقّاً دورة كاملة جامعة لجميع منازل السير و السلوك و بيان أعلى درجات التوحيد و العرفان أعمق و أرقّ و أدقّ في بيان لطائف العرفان مئات المرّات ممّا ورد في الإنجيل؟! فلِمَ إذاً تناسى عمداً و أخطأ عن تبصّر، فأغمض عن القرآن نفسه و عن هذه الكتب العرفانيّة النفيسة و هذه المدرسة المتعالية، فأورد ذكر عرفان و تصوّف المرتاضين الهنود و المغول و التبت، و عدّها العرفان الآسيويّ في مقابل تصوّف المسيح و المسيحيّة؟
و عليه، فإنّ على السيّد كارل أن لا ينتظر أن يلتحق الناس بركب تصوّف المسيحيّة، و أن لا يغتمّ، لأنّ الناس قد أودعوها زوايا النسيان، فعرفان القرآن أعلى بكثير و أرفع و أكثر جاذبيّة، و لا مفرّ و لا مهرب إلّا أن يتحرّك هو و أتباعه مع أقوام اوروبّا و أمريكا و دول الاتّحاد السوفييتيّ و الصين و اليابان و الهند و ماليزيا، فيتركوا تصوّف المسيحيّة و الزرادشتيّة و البوذيّة و البراهمة، و يحنوا رؤوسهم أمام عظمة القرآن و عرفانه، فهذا هو طريق الخلاص لهم.
لكنّه مات و لم يسلّم بهذا الأمر، و سيفهم الآن ما نقول في ذلك العالَم حين يصل إلى عقبات الظُّلمة و المنعطفات الناشئة من الجهل فلا يستطيع حراكاً.
تخبّط الشرق و الغرب في أسر المادّيّة
إن جميع اوروبّا و أمريكا تحترق اليوم في جهنّم المادّيّة، ليس فقط دول الاتّحاد السوفييتيّ و الصين اللذان ينحوان منحى الشيوعيّة و يُظهران ذلك، بل إنّ جميع علماء الغرب الذين قطعوا رابطتهم مع الله سبحانه صاروا مادّيّين خالصين، و صار للمادّيّة معنى أوسع و أشمل بحيث ابتلع الجميع وازدردهم.
و على الرغم من أنّ هؤلاء يتظاهرون باتّباع اليهوديّة و المسيحيّة، لكنّ اسلوبهم و مذهبهم هو مذهب أصالة المادّة، يدور عليه اسلوب ورودهم و خروجهم في البحوث و الجلسات و المؤتمرات و الجامعات، ناشراً جناح ظلمته المشؤومة في معنى وسيع للمادّيّة و عبادتها على كثير من دول العالم، ليس فقط في مجال العقيدة، بل في اسلوب التفكير و العمل، و طريقة تعيين المراد و الهدف، التي تنصبّ كلّها في اتّجاه المادّة، فيضيع هؤلاء في وادي الأوهام و التيه.
و أذكر لكم مثالًا حيّاً معبّراً لتشاهدوا إلى أي مدى تُوصل النزعة
المادّيّة و الانحراف البشرَ.
لقد حصل أحد معارفنا على شهادة الطبّ من كلّيّة الطبّ في طهران، ثمّ سافر بعد مدّة قصيرة إلى أمريكا و تابع دراسته و تخصّصه و صار من الجرّاحين المشهورين في تلك البلاد، و تزوّج امرأة أمريكيّة و مُنِح الجنسيّة الأمريكيّة، و انقضى على وجوده هناك أربعون سنة، و لا يزال على قيد الحياة حتى الآن.
يقال: إنّه يمتلك هناك مزرعةً و مستشفى أهليّة، و يقوم يوميّاً بعدّة عمليّات جراحيّة و يتقاضى على كلّ منها عشرة آلاف دولار كحدٍّ أدنى. و قد حصل بعد رحيله أن توفّي والده فوزِّعت تركته من البيت و الدكّان على ورثته، و عاشت امّه بعد ذلك في ضائقة و افتقدت الراحة و اليُسر اللذين قد تنعّمت بهما في حياة الأب.
و قد كتب إليه أحد إخوته يخبره. أنّ امّك الآن في ضائقة و محنة، و أنّ الله قد منحك - و له الحمد - نعمةً موفورة و حياةً رغيدة و ثروة بلا حساب، فما أولاك أن لا تنسى امّك في هذه السنّ و الضعف و المرض، فترسل لها شهريّاً مبلغاً تستعين به على امور حياتها.
و بعد مدّة وصل الردّ منه بهذا التعبير. ايخيّل إليكم أنّنا نحصل على هذه الأموال مجّاناً بلا حساب؟! نحن نعمل و نتحمّل المشاقّ لذلك؛ و على امّنا كي تؤمّن احتياجاتها أن تذهب فتعمل هي الاخري!
هذا هو اسلوب التربية الغربيّة و تأديب المادّيّين، و هذه المقولة نابعة من مدرسة أتباع هيغل و داروين و ديكارت، و التي أدّت إلى هذا.
فقارنوا هذه القصّة مع قصّة الشابّ التي أوردناها قبلًا في الجزء الأوّل من هذا الكتاب «نور ملكوت القرآن»، و كيف أنّه غضّ النظر عن الزواج ضمن هدي التعليم والتربية القرآنيّة رعايةً لحال امّه و حمايةً لها، و احتماله
إيذاء امّه و شتائمها، و صبره عن الردّ على سبابها المقذع في ليلة شتائيّة باردة حين ناولها قدح الماء، و كيف أنّ الله قد أزال حجاب الغيب في لحظةٍ عن قلبه فصار عالَم الغيب مشهوداً لديه، و فتح أمامه باب مناجاة قاضي الحاجات و مشاهدة أنواره الملكوتيّة و نفحاته السبحانيّة.۱
إن منطق القرآن هو توحيد ربّ العزّة في جميع المقامات، و الإيثار و العدل و الصبر أمام المشكلات، و اجتناب الكسل و الهوى و الهوس، و بسط النعمة و تعميمها لكلّ الطبقات.
و هو لا يمثّل الأخلاق النظريّة له فقط، بل الأخلاق العمليّة و الخارجيّة أيضاً، فلقد كان المسلمون بشهادة التأريخ المسلّم، من صدر الإسلام و حتى الآن هم أهل الصبر و الإيثار و العفو و الرحمة و المروءة و العدل، و قد كان لهم في حروبهم المظفّرة منتهى الرعاية و الحماية لُاسراهم، و الحفاظ على حياتهم؛ فلم يكونوا ليحرقوا الأشجار و يتلفوا المزارع و يُهلكوا الحرث، أو يقاتلوا مَن تنكّب عن مقاتلتهم و لم يشهر السيف بوجوههم، و لم يتعقّبوا مُدبراً عن قتال، أو يمثّلوا بقتيل، و كانوا يؤمنون مَن لجأ إليهم، و لا يمنعون عدوّهم شريعة الماء التي في أيديهم.٢
و حين تقع هناك حربٌ داخليّة، فتقتتل فئتان من المسلمين بينهما و تختصمان على السلطة، فإنّ الواجب الأوّل هو الدعوة إلى الصلح، فإن رفضتا الصلح فإنّ من المحتّم أن تكون إحداهما باغية على الاخرى و ظالمة لها، و يجب على المسلمين جميعاً محاربتها حتى ترجع إلى حكم الله و تنزجر عن ظلمها و عدوانها.
هذا الطريق هو طريق الإصلاح بين المسلمين، و الذي يتمثّل أوّلًا بعقد الصلح، ثمّ يتمثّل في حال الاعتداء الأكيد لأحد الأطراف و عدم قبوله بالصلح، بمحاربته حتى يرجع عن عدوانه و يخضع لأمر الله:
وَ إِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَ أَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ، إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَ اتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ.۱
و لا حقّ للفريق المنتصر في هذه الحروب الداخليّة بين المسلمين أن يأسر أحداً، أو يُغير على أحد، أو يقتل جريحاً؛ و كلّ ما يمتلك من حقّ أن يأخذ الأجهزة و المعدّات الحربيّة من ساحة القتال فيتصرّف فيها بما يشاء.
أمّا عند هجوم عدوّ خارجيّ من غير المسلمين على البلاد الإسلاميّة، فإنّ الواجب يحتّم على المسلمين أن يجاهدوا لصدّه و قتاله، و أن ينهضوا جميعاً في دفاعهم ذلك. الرجل و المرأة، و الشيخ و الشابّ، الطفل و البالغ، المريض و السليم، و العالِم و العامّيّ بلا استثناء فيقاتلوا عدوّهم و يهزمونه، فيقدمون على القتل و الأسر و الإغارة و نهب الأموال و الذراريّ، و بكلّ طريق آخر ممكن، من أجل ردع و صدّ عدوانه.
تعميم نعمة القرآن و نشرها يستوجب الجهاد لذلك
أمّا فريضة الجهاد فهي أعلى من هذا و أدقّ، فالجهاد عبارة عن حركة الجيش الإسلاميّ، بلا عداء سابق من الطرف المقابل أو تجاوز منه، بل إنّ هدفه المحض يقوم على أساس هدايته للتوحيد و الإقرار بالشهادَتين: أشْهَدُ أن لَا إلَهَ إلَّا اللهُ، وَ أشْهَدُ أنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللهِ؛ فهو بهذا الهدف يتحرّك و يندفع في أرض العدوّ و يدعوه إلى دين الإسلام.
و بالطبع فمن الواضح أنّ سكنة تلك الأراضي هم من غير المسلمين، سواء من المشركين و المادّيّين و الطبيعيّين، أم من أتباع بوذا و البراهمة و أتباع كونفوشيوس و غيرهم، أم من أهل الكتاب من يهود و نصارى
و مجوس. و على أيّة حال فإن قبل هؤلاء اعتناق الدين الحقّ بمجرّد دعوتهم إلى الإسلام فإنّهم يحقنون دماءهم فلا يُقتلون و لا تؤخذ منهم الجزية، و عند ذلك يعود الجيش الإسلاميّ و يتحمّل سائر المسلمين و بيت مال المسلمين نفقات الحرب من تجهيز الجيش و غير ذلك، و لا يؤخذ من تلك الفئة المغلوبة للمسلمين حتى درهم واحد.
أحكام الإسلام في الجهاد من القتل و الأسر و الفدية و النهب و الإغارة
أمّا لو رفضوا اعتناق الإسلام و أصرّوا على دينهم، فإن كانوا من أهل الكتاب اجبروا على دفع الجزية (الضرائب و الخراج إلى خزينة الحكومة الإسلاميّة)؛۱ فإن رفضوا دفع الجزية أو كانوا من غير أهل الكتاب، كالمشركين و الدهريّين، فإنّ على الجيش الإسلاميّ مقاتلتهم و حربهم
ليقبلوا بدين الحقّ. و لا يبقى لهم في هذا الاحتمال مفرّ غير القتل و الأسر، و يصبح من حقّ المسلمين النهب و الإغارة و أسر نسائهم و ذراريهم۱.
و للجيش الإسلاميّ عند عدم انعقاد معاهدة الصلح و الهدنة أن يتصرّف في الأفراد الباقين من غير القتلى، فيأسرهم و يسترقّهم، ثمّ يهتمّ بتربيتهم الدينيّة و هدايتهم الإلهيّة وفق رأي الدولة الإسلاميّة، أو يمُنّ عليهم - إن اقتضت المصلحة ذلك - فيعتقهم و يحرّرهم، أو أن يأخذ منهم الفِدية مقابل حرّيّتهم.
فلسفة الجهاد في الإسلام هي الإيثار و إنفاق التوحيد و نشره على مفتقديه
و للجهاد في الإسلام مزايا مختصّة به، فهو ليس كالحروب التقليديّة للمحاربين و الأبطال التي تقوم على الرغبة في الانتقام و الحسد و الحقد و التعالي و الاستكبار و الأنانيّة و عبادة الذات، أو توسيع رقعة الأرض و الحصول على الأموال و الجواهر و النفوس، بل هو أمر مقدّس شرعيّ
و عبادة حقيقيّة من المحراب الإلهيّ، لا تنتفي فيها أمثال هذه الأنانيّات و المقاصد فقط، بل إنّ وجودها فيها له الضرر و الإحباط الذي يلحق بأساس تعبّديّة هذا العمل و يؤدّي إلى فساده و عدم قبوله.
و في الجهاد الإسلاميّ يفقد الجيش أمواله، و يتحمّل نفقات ذهابه و إيابه، و يُقتل أفراده في القتال صرعى مضمّخين بدمائهم، و يتحمّل عدداً كبيراً من الجرحى، كلّ ذلك بنيّة إرشاد و هداية الجانب غير المسلم الذي يريد دعوته إلى دين التوحيد، و إلى التمتّع بمواهب الإسلام و منافعه؛ ثمّ يكفّ عن القتال بمجرّد إسلام اولئك و يعدّ إسلامهم نصراً و ظفراً له. هذه هي فلسفة الجهاد.
و يمكن بلا أدنى شكّ اعتبار هذا الأمر و الواجب الإسلاميّ الرفيع من أعظم خصائص الإسلام الأخلاقيّة و الحياتيّة و التربويّة. فهل رأيتم أو سمعتم في هذا العالم بأحدٍ يستعدّ من أجل إرشاد و هداية شخص أجنبيّ لا تربطه به محبّة أو علاقة سابقة لأن يتجاوز مرحلة الوعظ و النُّصح و الإرشاد و الكلام الغليظ، بل يتجاوز الوعيد و التهديد، فلا يتحمّل مشقّة السفر و محنته فقط، بل يوافق على تقديم نفسه و أعزّة أولاده و إخوانه و عشيرته و أصحابه قرابين مضرّجة بالدماء، كلّ ذلك من أجل أن يضع ذلك الرجل الأجنبيّ المنحرف المشرك قدمه على طريق الهداية و يحني رأسه لقبول الحقّ و يُنجي نفسه من مهالك الشرك و عواقبه الوخيمة، و من المضائق و الطرق المليئة بالمنعطفات في عقائده و سننه التقليديّة الخاطئة، التي تلقّاها بعينَين مغمضتَين و أدلج بها عالم روحه و حياته؟! هذه هي فلسفة الجهاد.۱
...۱
...۱و نحن نرى أنّ المؤمنين من صدر الإسلام و حتى يومنا هذا يعيشون على أمل الجهاد و القتل في سبيل الله، و يطلبون من خالقهم بإلحاح في أدعيتهم أن يوفّقهم لهذه الفريضة الإلهيّة. نراهم يعدّون القتل تحت الحراب و الرجم بالحجارة و بين الرماح و السيوف فوزاً عظيماً. لماذا؟ و لأيّ سبب؟ ولأيّة حكمة؟
ذلك لأنّ المسلم الذي ذاق طعم التوحيد، و آمن بآيات القرآن، و اتّبع رسول الوحي المرتبط و الرابط و الربط بعالم الغيب و الشهود؛ و تَمتَّعَ و سعد بأحسن وجه بمزايا الإسلام و آثاره في العدل و الإيثار و الأخلاق الحميدة و العقائد المقبولة و المعاملة الحسنة، لن يرضى أن يجلس وحده على هذه المائدة فيرتوي و يتناول و يغتذى من المواهب الإلهيّة، و المناجاة حال الخلوص و الخلوة، و كرائم الأخلاق المُرضيّة و الشيم المحمودة، و يلفّه السكر من تجلّيات الحقّ و نور توحيده، في حين يُحرم أبناء نوعه و جلدته، و يمدّون أيديهم على الموائد الظلمانيّة إلى الأقذار، و يقضون أعمارهم في الغفلة و الشرك و الجهل بأعين عمياء و آذان صمّاء و قلوب خالية لم يعمرها الفكر.
و لقد أوصى نبيّ الإسلام بالجار، و كان يُشرك جلساءه و أصحابه في الهدايا التي تُجلب إليه، و كان يتحرّز من تناول الطعام في ملأ عامّ بحيث يراه عابرو الطريق، حتى أنّه أوصى بقطط البيوت أن لا يُتركن جياعاً إذ: هُنَّ طَوَّافَاتُ بُيُوتِكُمْ. فلم يكن يرضى - لهذا - أن يتمتّع و أصحابه بنعمة الإيمان و التوحيد و الإسلام، و التي تعدل آلاف المرّات النعم المادّيّة و الحياتيّة الدنيويّة، في حين يُحرم بنو نوعه و بنو جنسه من بني آدم من هذه النعمة، و لو كانوا يعيشون قباله في الطرف الآخر من الدنيا!
و عليه، فقد كان يمتنع من الأكل إلّا ما جشب، و يتجافى عن الراحة و النوم إلّا قليلًا، و يشدّ حجر المجاعة على بطنه، و ينصرف مع أصحابه إلى معركة الجهاد فيقف فيها أقربَ الناس إلى العدوّ. و كان يُجرح، و تُكسر رباعيّته، و ينغرس حلق الحديد في جبينه فيسيل دمه، و لا يستطيعون انتزاع بيضة الحديد من رأسه الشريف و استخراج حلقاتها الحديديّة؛ و يستشهد أقرب أرحامه إليه، كعمّه الجليل حَمْزَة بن عَبْدالمُطَّلِب، و ابن عمّه عُبَيْدَة بن الحَارِث بن عَبْدالمُطَّلِب، و تصيب حاميه الوحيد و ابن عمّه عليّ بْنَ أبِي طالِب في معركةٍ واحدة تسعون جراحة وُضع في أكثرها فتائل لتعذّر تضميدها، و يسقط أصحابه قرّاء القرآن من أمثال عبدالله بن عَمْرو بن حَرَام أب جابر و عَمْرُو بن الجَمُوح على الأرض مقطّعين إرباً إرباً، كلّ ذلك كي لا يجلس وحده إلى هذه المائدة السماويّة، بل يدعو أبناء نوعه و جنسه فينتفعون بنور العلم و العمل.
و لقد كان أيسر عليه كثيراً؛ لو لم يكن هدفه ذاك؛ أن يهاجر من مكّة مع قلّة من أصحابه، فيختار مكاناً عند نهرٍ جارٍ أو عند مساقط مياه ذات هواء عذب فينشغل بالترنّم و قراءة آيات القرآن متمتّعاً بالمزايا الروحيّة فقط. لكنّه لم يفعل ذلك، بل كان يرى نور التوحيد تحت ظِلال بريق
السيوف و الرماح، و مع صهيل الخيول الغازية و همهمة الأبطال الغزاة. هذه هي فلسفة الجهاد في الإسلام.۱
قصّة مرور النبيّ الأكرم على الأسرى و تبسّمه
و ينقل الشاعر الملّا الروميّ بالتفصيل قصّة الأسرى المصفّدين بالسلاسل الذين مرّ عليهم النبيّ الكريم فتبسّم؛ فقالوا: كيف يكون هذا الرجل رحمةً للعالمين و هو يرانا على هذه الحال فيضحك؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم في جوابهم:
عَجِبْتُ مِنْ قَوْمٍ يُجَرُّونَ إلى الجَنَّةِ بِالسَّلَاسِلِ.
و يقول الحكيم المتألّه الصمدانيّ الحاجّ الملّا هادي السبزواريّ تغمّده الله في رضوانه في شرح هذه العبارة:
أي أعجبُ من قومٍ يجرّون بالسلاسل إلى الإيمان الذي هو عين الجنّة، بل الإيمان العيانيّ و الحقّيّ هو جنّة الصفات و جنّة لقاء الذات.۱
و لأنّ الملّا الروميّ قد ذكر تفصيل هذه القصّة فإنّنا ننقل منها مقاطع منتخبة من متن القصّة:
ديد پيغمبر يكى جوق اسير | *** | كه همى بردند و ايشان در نفير |
ديدشان در بند، آن آگاه شير | *** | مى نظر كردند در وى زير زير |
تا همى خائيد هر يك از غضب | *** | بر رسول صدق، دندانها و لب |
زهره نى با آن غضب كه دم زنند | *** | زانكه در زنجير قهر ده مناند٢ |
ميكشاندشان موكّل سوى شهر | *** | ميبرد از كافرستانشان به قهر |
نى فدائى ميستاند، نى زرى | *** | نى شفاعت ميرسد از سرورى |
رحمت عالم، هميگويند، واو | *** | عالَمى را ميبُرد حَلق و گلو |
با هزار انكار ميرفتند راه | *** | زير لب طعنه زنان بر كار شاه |
اين بمنكيدند، در زير زبان | *** | آن اسيران با هم اندر بحث آن |
پس رسول آن گفتشانرا فهم كرد | *** | گفت. آن خنده نبودم از نبرد |
مردهاند ايشان و پوسيده فنا | *** | مرده گشتن نيست مردى پيش ما |
آنگهى كآزاد بوديد و مكين | *** | من شما را بسته ميديدم چنين |
أى بنازيده به ملك و خانمان | *** | نزد عاقل، اشترى بر نردبان |
من شما را وقت ذرّاتِ ألَسْت | *** | ديدهام پا بسته و منكوس و پست |
من شما را سرنگون ميديدهام | *** | پيش از آن كز آب و گِل باليدهام |
نو نديدم، تا كنم شادى بدان | *** | اين همى ديدم در آن اقبالتان۱ |
بسته قهر خفى، آنگه چه قهر | *** | قند ميخورديد، و در وى دُرج زهر |
چون چنين قندى پر از زهرى عدوّ | *** | خوش بنوشد، چَتْ حسد آيد بر او |
با نشاط آن زهر ميكرديد نوش | *** | مرگتان خفيه گرفته هر دو گوش |
من نميكردم غَزا از بهر آن | *** | تا ظفر يابم فرا گيرم جهان |
كاين جهان جيفه است و مردار و رخيص | *** | بر چنين مردار چون باشم حريص؟ |
سگ نيم تا پرچم مرده كَنَم | *** | عيسيم آيم كه تا زندهاش كنم |
زان همى كرده صفوف جنگ چاك | *** | تا رهانم من شما را از هلاك۱ |
زان نمى برّم گلوهاى بشر | *** | تا مرا باشد كرّ و فرّ و حشر |
زان همى برّم گلوى چند تا | *** | زان گلوها عالمى يابد رها |
كه شما پروانه وار از جهل خويش | *** | پيش آتش ميكنيد اينجمله كيش |
من همى دانم شما را همچو مست | *** | از در افتادن در آتش با دو دست |
آنكه خود را فتحها پنداشتيد | *** | تخم منحوسى خود ميكاشتيد |
يكدگر را جدّ و جدّ ميخوانديد | *** | سوى اژدرها فرس ميرانديد |
قهر ميكرديد و اندر عين قهر | *** | خود شما مقهور قهر شير دهر |
گفت پيغمبر. كه هستند از فنون | *** | أهل جنّت در خصومتها زبون۱ |
از كمال حزم و سوء الظنّ خويش | *** | نى ز نقص و بد دلى و ضعف كيش |
مَا رَمَيْتَ إذْ رَمَيْت آمد خطاب | *** | گم شد او، و الله أعلم بالصواب |
زان نميخندم من از زنجيرتان | *** | كه بگردم ناگهان شبگيرتان |
زان همى خندم كه از زنجير و غلّ | *** | ميكشمتان سوى سرو ستان و گل |
أى عجب كز آتش بى زينهار | *** | بسته ميآريمتان تا سبزه زار |
از سوى دوزخ به زنجير گران | *** | ميكشمتان تا بهشت جاودان |
هر مقلِّد را در اين ره نيك و بد | *** | همچنان بسته به حضرت ميكشد ۱ |
جمله در زنجير بيم و ابتلا | *** | ميروند اين ره به غير أوليا |
ميكشند اين راه را پيكار وار | *** | جز كسانى واقف از اسرار كار |
جهد كن تا نور تو رخشان شود | *** | تا سلوك و خدمتت آسان شود |
كودكان را ميبرى مكتب به زور | *** | زانكه هستند از فوائد چشم كور |
چون شود واقف به مكتب ميدود | *** | جانش از رفتن شكفته ميشود |
ميرود كودك به مكتب پيچ پيچ | *** | چون نديد از مزدكار خويش هيچ۱ |
و من جملة الأحكام المترتّبة على الجهاد الإسلاميّ مسألة الاستعباد، أي أخذ الأسير الكافر بعنوان غلام أو جارية و استرقاقهم و استعبادهم استعباداً مطلقاً لتكون دولة الإسلام في أمان من كيدهم و شرّهم، و لتربيتهم
بآداب الإسلام، فيتعلّمون على يد المسلمين تدريجيّاً عقائد الإسلام و آدابه و أخلاقه، و ينضمّوا بملء إرادتهم و بطوعهم و اختيارهم إلى صفوف المسلمين.
و هذا الحكم يمثّل الطريق الوحيد للحلّ الصحيح الموضوع على أساس فلسفة الإسلام، و الذي يرتضيه و يقرّه الحكم القطعيّ العقليّ و لا يتعارض مع الحكم الشرعيّ في الكتاب و السنّة.
ولكن وفقاً لقرار مؤتمر بروسل - قبل مائة سنة - فقد مُنع بيع و شراء العبيد في العالم، و اعتبر استرقاقهم غير جائز بأيّ وجه من الوجوه. و قد أصدر هذا القرار تحت عنوان حماية البشر تحت غطاء الإنصاف و العدل، ممتنّاً بذلك على البشريّة في تخليص أبناء نوع الإنسان و جنسه إلى الأبد من وطأة الرقّ و تحمّل المشاقّ الناشئة من الأسر و العبوديّة.
و يُشاهد أحياناً أنّ البعض يوجّه الانتقاد للإسلام في أنّه مع عظمته و رفعته لم يضع الحلّ الناجح لمسألة العبيد، و يتساءل. كيف يتغاضى هذا الدين الذي أعلن مَن جاء به خلوده و أبديّته عن مسألة الحرّيّة و إلغاء حكم الرقّ؟!
و ثانياً فإنّ القوانين الجارية و الراقية للُامم المتمدّنة الغربيّة لبست إكليل الفخر في تخليصها البشر من الرقّ و فتحت له أبواب الرقيّ و السيادة.
و نلحظ ثالثاً أنّ البعض في دفاعه عن الإسلام يسلّم بأساس صحّة و صواب إلغاء حكم الرقّ، ثمّ يكون بصدد بيان عدم إلغائه في زمن رسول الله و يتحرّى مقتضيات و ظروف و إمكانات ذلك العصر، محاولًا تبرير عدم إلغائه في ذلك العصر بهذه العلل و الأسباب.
و سنوضح إن شاء الله تعالى في هذا البحث أنّ هذا الكلام لم يكن غير خدعة و مكر، و أنّ قرار بروسل لم يتضمّن غير إلغاء اسم العبوديّة
تاركاً حقيقتها و مسمّاها سالمة غير مخدوشة، فالعبودية حسب نظره هي غيرها في نظر الإسلام، و حكم الإسلام بعبوديّة إنسان له شروط و عنوان خاصّ لا يمكن رفضه عقلًا، و ينبغي أن يكون كذلك، و حكم الإسلام هذا غير منسوخ و لن يُنسخ، و هو صحيح و ثابت إلى الأبد؛ كما أنّ البحث في آيات القرآن الراجعة إلى العبيد، و كذلك البحوث الروائيّة و التأريخيّة و الفقهيّة الواردة في كتاب الاستيلاد و المكاتبة، مسألة حيّة شأنها شأن بحوث الجهاد، و ينبغي تدريسها في الحوزات و الاستمرار في بحثها.
بحث العلّامة الطباطبائيّ حول الرقّ و العبوديّة في آخر سورة المائدة
و باعتبار قيام الاستاذ آية الله العلّامة الطباطبائيّ قدّس الله سرّه الشريف ببيان هذا البحث و استقصاؤه في تفسيره بشكل كامل، لذا يليق أن نقتطف عنقوداً من محصوله و نتابع البحث من خلاله.
فقد أورد في آخر سورة المائدة في خطاب عيسى المسيح على نبيّنا و آله و عليه الصلاة و السلام مع الله سبحانه. إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ،۱ بحثاً في عشر فقرات نورد هنا خلاصته:
۱ - اعْتِبَارُ العُبُودِيَّةِ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ:
في القرآن الكريم آيات كثيرة جدّاً تعدّ الناس عباداً للّه سبحانه، و تبنى على ذلك أصل الدعوة الدينيّة. الناس عبيد و الله مولاهم الحقّ. بل ربّما تعدّى ذلك و أخذ كلّ من في السماوات و الأرض موسوماً بسمة العبوديّة للّه، قال تعالى:
إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً.٢
و لو أخذنا أمر العبوديّة بالتحليل العقليّ لرأينا أنّ حقيقة معنى العبوديّة مع حذف خصوصيّاتها الزائدة الطارئة موجودة في مخلوقات الله سبحانه؛ فالله سبحانه خلق الخلائق من جهة تكوين جميع جهاتها المحيطة، فهي في يد تصرّفه و مشيئته من كلّ الوجوه و لا تملك لنفسها و لا لغيرها شيئاً من ضرر أو نفع، و لا موت و لا حياة و لا نشور.
و هذا هو مفاد العبوديّة، إذ لمّا ثبتت من جهة التكوين، فإنّها من جهة التشريع ستترتّب عليها أيضاً، لأنّ العبوديّة التشريعيّة هنا تابعة للعبوديّة التكوينيّة لا يعقل انفكاكها عنها:
وَ قَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ.۱
و كما أنّ في تلك الجهة ربوبيّة مطلقة، فهنا في هذه الجهة عبوديّة مطلقة، و لدينا في القرآن الكريم آيات لها الدلالة التامّة على إطلاق هذه العبوديّة، أمثال قوله تعالى:
ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لا شَفِيعٍ.٢
و قوله تعالى: وَ هُوَ اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَ الْآخِرَةِ وَ لَهُ الْحُكْمُ.٣
و قوله: يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَ لَهُ الْحَمْدُ وَ هُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.٤
و كيفما كان فإنّ معنى عبوديّة الموجودات بالنسبة إليه تعالى هو
نفس معنى العبوديّة الذي يستعمله العقلاء في مجتمعاتهم مع حذف لوازمه المادّيّة و الطبيعيّة و الظروف الاخرى. و من الواضح أنّ معنى العبوديّة هو عدم الاستقلال المحض، و التبعيّة المطلقة في جميع الامور نسبةً لإرادة المولى القاهرة، كما أشار إليها قوله تعالى:
بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ ، لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَ هُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ.۱
و كذلك قوله تعالى: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَ مَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَ جَهْراً هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ.٢
٢ - نَشْأةُ اسْتِعْبَادِ الإنْسَانِ وَ أسْبَابُهُ:
كان الاستعباد و الاسترقاق - كما يشير التأريخ - أمراً شائعاً في العصور القديمة، و الأصل في معناه كون النفس الإنسانيّة سلعة مملوكة كسائر السلع المملوكة يتصرّف بها مالكها بما يشاء، و هي مسلوبة الاختيار و الإرادة أمام اختيار المالك و إرادته. غير أنّ أساس الاسترقاق كان مبتنياً على قواعد معيّنة، و لم يكن متّكئاً على إرادة جزافيّة، فلم يكن يسع لأحدهم أن يتملّك كلّ من أحبّ، و لا أن يملك كلّ من شاء و أراد ببيعٍ أو هبة أو غير ذلك.
و كان الاستعباد مبنيّاً على الغلبة و السيطرة، كغلبة الحروب التي تنتج للغالب الفاتح أن يفعل بخصمه المغلوب ما يشاء من قتلٍ أو سبي أو غيره.
أو غلبة الرئاسة التي تصيّر الرئيس فعّالًا لما يشاء في حوزة رئاسته.
أو اختصاص التوليد و الانتاج الذي يضع ولاية أمر المولود الضعيف في كفّ والده القوى يصنع به ما بدا له حتى البيع و الهبة و التبديل و الإعارة و نحو ذلك.
و قد تكرّر في أبحاثنا السابقة أنّ أصل الملك في المجتمع الإنسانيّ مبني على القدرة المغروزة في الإنسان على الانتفاع من كلّ شيء يمكن أن ينتفع به بوجهٍ أكمل. فالإنسان يستخدم في سبيل إبقاء حياته كلّ ما قدر عليه، ليس الجمادات و النباتات فقط، بل الحيوانات أيضاً، و حتى الإنسان الذي هو مثله في الإنسانيّة.
غير أنّ حاجة الإنسان المبرمة إلى الاجتماع و التعاون اضطرّه إلى قبول الاشتراك مع سائر أفراد نوعه. كما أن إعمال الغريزة أو قوّة الاستخدام العقليّة في المجتمع بدون قيد أو شرط أمرٌ محال، لأنّ جميع الأطراف تسعى بتمام معنى الكلمة أن تستخدم الآخرين في منافعها الشخصيّة و تجبرهم على ذلك، و هذا الأمر سيوجب التصادم و التزاحم بينهم ممّا سيوجب سلب الاجتماع و العودة إلى الحياة الفرديّة من جديد.
و لأنّ ذلك أمرٌ غير ميسور، فقد عمد الإنسان إلى تعديل غرائزه في الاستخدام و صار لكلّ امرئ الحقّ في الاستخدام و الانتفاع بالمنافع المستحصلة من عمل غيره بقدر ما يبذل من جهد، و اختصّ كلّ جزء من المجتمع بعمل أو أعمال معيّنة ثمّ ينتفع مجموع الأفراد بمجموع المنافع و تقسّم نتائج الأعمال بينهم بنسبة متساوية، فجميع أفراد المجتمع شركاء متساوون متشاركون في حفظ ذلك المجتمع.
و في هذه الحال فلم يكن ممكناً إطلاق عنوان العبوديّة و الرقّ على أحدٍ منهم و اعتباره عبداً محضاً و رقيقاً خالصاً للآخرين بلا نقاش. فلا محالة أنّ العبد المستعبد سيكون ذلك الشخص الخارج عن هذا المجتمع
و ليس جزءاً من أجزائه، و هذا يحصل بأحد طرقٍ ثلاثة:
أ - أن يكون ذلك الشخص المملوك فرداً محكوماً بالخروج عن المجتمع، كالعدوّ المحارب الذي لا همّ له إلّا أن يُهلك الحرث و النسل و يمحي الإنسان باسمه و رسمه، فهو خارج عن مجتمع عدوّه، و لا طريق لهم لحفظ مجتمعهم غير محاربته بكلّ قواهم لحفظ وجودهم، و لو بالقتل و الإفناء و النهب و الغارة على الأموال و الأسر و الاستعباد. فالحرمة مرفوعة لمثل هذا العدوّ الذي أماط الحرمة عن نفسه و جعلها بعدوانه عُرضةً للفناء.
ب - الأب بالنسبة إلى صغار أولاده التابعين له، فإنّه يرى أنّهم من توابعه في المجتمع من غير أن يكافئوه أو يماثلوه أو يوازنوه في الحقوق الاجتماعيّة، فله أن يتصرّف فيهم حتى بالقتل و البيع و غيرهما.
ج - و أمّا أن يكون الإنسان القويّ المالك يرى نفسه فوق المجتمع لا يعادل مَن تحت سيطرته في وزن أو يكافئهم، و لا يريد مشاركتهم في المنافع و المضارّ، بل له نفوذ الحكم و التمتّع بصفوة ما يختار من نتاج عمل المجتمع و التصرّف في نفوسهم حتى بالاستعباد و الاسترقاق، فالكلّ ينبغي أن ينقاد لأوامره و يسير وفق غايته و يعمل وفق رضاه.
و يمكن عنونة هذه الطوائف الثلاث باختصار بعناوين العدوّ المحارب، و الأولاد الصغار بالنسبة إلى آبائهم، و كذا النساء بالنسبة إلى أوليائهنّ، و المغلوب المستذلّ بالنسبة إلى الغالب المتعزّز.
٣ - سَيْرُ الاسْتِعْبَادِ في التَّأرِيخِ:
سُنّة الاستعباد و إن كانت مجهولة من حيث تأريخ شيوعها في المجتمع الإنسانيّ، غير أنّ الأشبه أن يكون العبيد هم الأرقّاء المأخوذين في أوّل الأمر بالقتال و التغلّب، ثمّ الحق بهم الأولاد و النساء. و لذلك نعثر
في تأريخ الامم القويّة الحربيّة من القصص و الحكايات و كذا القوانين و الأحكام المتعلّقة بالاسترقاق بالسبي ممّا لا يوجد في غيرهم.
و قد كان دائراً بين الامم المتمدّنة القديمة، كالهند و اليونان و الرومان و إيران، و كذا بين الشعوب كاليهود و النصارى على ما يُستفاد من التوراة و الإنجيل، حتى ظهر الإسلام فأنفذ أمره مع تضييق في دائرته و إصلاح لأحكامه المقرّرة، ثمّ آل الأمر إلى أن قرّر مؤتمر بروسل إلغاء الاستعباد.
قال فردينان توتل في معجمه۱ لأعلام الشرق و الغرب:
كان الرقّ شائعاً عند الأقدمين، و كان الرقيق يؤخذ من أسرى و سبايا الحرب و من الشعوب المغلوبة، و كان للرقّ نظام معروف عند اليهود و اليونان و الرومان و العرب في الجاهليّة و الإسلام. و قد الغى نظام الرقّ تدريجيّاً في الهند سنة ۱۸٤٣ ميلاديّة، و في المستعمرات الفرنسيّة سنة ۱۸٤۸ م، و في الولايات المتّحدة بعد حروب الانفصال سنة ۱۸٦٥ م، و في البرازيل سنة ۱۸۸۸ م، إلى أن اتّخذ مؤتمر بروسل قراراً بإلغاء الاستعباد سنة ۱۸٩۰ م، غير أنّه لا يزال موجوداً فعلًا بين بعض القبائل في أفريقيا و آسيا؛ و مبدأ إلغاء الرقّ هو تساوي البشر بالحقوق و الواجبات - انتهى.
إلغاء الإسلام العبوديّة الناشئة من جهة الغلبة و من جهة ولاية الأبوين
٤ - نَظَرِيَّةُ الإسْلَامِ بِشَأنِ الرِّقِّ وَ الاسْتِعْبَادِ:
قسّم الإسلام الاستعباد بحسب أسبابه، و قد تقدّم أنّ عمدتها كانت ثلاثة:
الحرب، و التغلّب، و الولاية كالأبوّة و نحوها، فألغى سببين من الثلاثة من أصلهما و هما التغلّب و الولاية، و أبقى و أقرّ الثالث، أي الأسرى
المحاربين للإسلام. و اعتبر الإسلام احترام الناس شرعاً سواء بجميع طبقاتهم، من ملك و رعيّة، و حاكم و محكوم، و أمير و جندي، و مخدوم و خادم، بإلغاء الامتيازات و الاختصاصات الحيويّة، و التسوية بين الأفراد في حرمة نفوسهم و أعراضهم و أموالهم، و الاعتناء بشعورهم و إرادتهم - و هو الاختيار التامّ في حدود الحقوق المحترمة - و أعمالهم و ما اكتسبوه و هو تسلّطهم على أموالهم و منافع وجودهم.
فليس لوالي الأمر في الإسلام - أي صاحب القدرة و الولاية في الشرع الإسلاميّ - غير الولاية على الناس في إجراء الحدود و الأحكام و في أطراف المصالح العامّة العائدة إلى المجتمع الدينيّ. و أمّا ما تشتهيه نفسه و ما يستحبّه لحياته الفرديّة فهو كأحد الناس لا يختصّ من بينهم بخصيصة و لا ينفذ أمره في الكثير ممّا يهواه لنفسه و لا في القليل.
و عليه، فإنّ الاسترقاق التغلّبيّ، أي الحاصل بالتسلّط و الغلبة، سيرتفع بارتفاع موضوعه. أي أنّ الإسلام وفق أساس قوانينه لا يجعل شخص الوالي صاحب الغلبة و السيطرة في الإرادة و الاختيارات النفسيّة فيما يتعلّق به نَفْسِهِ، كي يفتح الطريق للاسترقاق و الاستعباد عن طريق السيطرة و الغلبة.
و أمّا ولاية الآباء لأبنائهم فلهم حقّ الحضانة و الحفظ، و عليهم حقّ التربية و التعليم، و حفظ أموالهم ماداموا محجورين بالصغر، فإذا بلغوا الرشد فهم و آباؤهم سواء في الحقوق الاجتماعيّة الدينيّة، و هم أحرار في حياتهم، لهم الخيرة فيما رضوا لأنفسهم. نعم أكّدت التوصية لآبائهم عليهم بالإحسان و مراعاة حُرمة التربية؛ قال تعالى:
وَ وَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ وَ فِصالُهُ فِي عامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَ لِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ ، وَ إِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ
بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَ صاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً وَ اتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ.۱
و قال تعالى: وَ قَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَ بِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَ لا تَنْهَرْهُما وَ قُلْ لَهُما قَوْلًا كَرِيماً ، وَ اخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَ قُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً.٢
و قد عدّ عقوقهما في الشرع الإسلاميّ من المعاصي الكبيرة المهلكة، و من الواضح أنّ خدماتٍ أخلاقيّة كهذه لا تجعل الأبناء في رتبة العبيد بالنسبة لآبائهم. و أمّا النساء فقد وضع لهنّ من المكانة في المجتمع و اعتبر لهنّ من الزنة الاجتماعيّة ما لا يجوز عند العقل السليم التخطّي عنه و لو بخطوة، فصرن بذلك أحد شقّي المجتمع الإنسانيّ، و قد كنّ في الدنيا محرومات من ذلك، و اعطين الزمام في أمر الزواج و التصرّف في أموالهنّ و قد كنّ قبل الإسلام إمّا محرومات من الاختيار في هذين الأمرين، أو غير مستقلّات في الاختيار.
و قد أشركهن الإسلام مع الرجال في بعض الامور، و اختصصن عنهم بأمور، و اختصّ الرجال بامور اخرى، كلّ ذلك عن مراعاة لقوام وجودهنّ و تركيب بناهنّ، ثمّ سهّل عليهنّ امور شقّ فيها على الرجال، كأمر النفقة و حضور معارك القتال و نحو ذلك؛ قال تعالى:
لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَ لِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ.٣
و قال تعالى: وَ لَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ.۱
و قال: أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ.٢
و قال: لَها ما كَسَبَتْ وَ عَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ.٣
و قال أيضاً: وَ لا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها وَ لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى.٤
إلى غير ذلك من الآيات المطلقة التي تأخذ الفرد من الإنسان جزءاً تامّاً كاملًا من المجتمع و تعطيه من الاستقلال الفرديّ ما ينفصل به عن أي فرد آخر في نتائج أعماله من خير أو شرّ أو نفع أو ضرّ، من غير أن تستثني صغيراً أو كبيراً، ذكراً أو انثى،
الآيات الدالّة على تساوي أفراد البشر من جميع الجوانب عدا التقوي
ثمّ سوّى بينهم جميعاً في العزّة و الكرامة، ثمّ ألغى كلّ عزّة و كرامة إلّا الكرامة الدينيّة المكتسبة بالتقويو العمل؛ فقال:
وَ لِلَّهِ الْعِزَّةُ وَ لِرَسُولِهِ وَ لِلْمُؤْمِنِينَ.٥
و قال أيضاً: يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَ أُنْثى وَ جَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَ قَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ.۱
و قد رأينا بهذا التفصيل أنّ الإسلام ألغى سببَين من أسباب الرقّ
و العبوديّة، أي استعباد و استرقاق الغير، و أبقى السبب الثالث للاستعباد و هو الحرب، و هو أن يُسبي الكافر المحارب لله و رسوله و المؤمنين فيصبح رقّاً للمسلمين، و ذلك أنّ العدوّ المحارب الذي لا همّ له إلّا أن يفني الإنسانيّة و يهلك الحرث و النسل، لا ترتاب الفطرة الإنسانيّة أدنى ريب في أنّه يجب أن لا يعدّ جزءاً من المجتمع الإنسانيّ الذي له التمتّع بمزايا الحياة و التنعّم بحقوق الاجتماع، و أنّه يجب دفعه بالإفناء فما دونه؛ و على ذلك جرت سنّة بني آدم منذ عمروا في الأرض إلى يومنا هذا و على ذلك ستجري.
و الإسلام لمّا وضع بُنيَة مجتمعه على أساس التوحيد و حكومة الدين الإسلاميّ ألغى جزئيّة كلّ مستنكف عن التوحيد إلّا مع ذمّة أو عهد، فكان الخارج عن التوحيد و حكومة الدين و عهده خارجاً عن المجتمع الإسلاميّ لا يُعامل إلّا معاملة غير الإنسان، فلذلك يجب أن يُحرم من أي نعمة يتمتّع بها الإنسان في حياته، و يُطرد لتطهير الأرض من رجس استكباره و إفساده، فهو مسلوب الحرمة عن نفسه و عمله و نتائج أي سعي من مساعيه و للجيش الإسلاميّ الحقّ المسلّم أن يأسره و يستعبده عند الغلبة.
٥ - مَا هُوَ السَّبِيلُ إلى الاسْتِعْبَادِ في الإسْلَامِ؟
يتأهّب المسلمون على من يلونهم من الكفّار فيتمّون عليهم الحجّة و يدعونهم إلى كلمة الحقّ بالحكمة و الموعظة و المجادلة بالتي هي أحسن.۱
فإن أجابوا فإخوانٌ في الدين لهم ما للمسلمين و عليهم ما عليهم، و إن أبوا فإن كانوا أهل كتاب و قبلوا الجِزْيَةِ (الخراج و الماليّات الخاصّة) تُركوا و هم أحرار على ذمّتهم، و إن أخذوا عهداً - سواء كانوا أهل كتاب أم غيرهم - وُفي بعهدهم، و إن لم يكن شيء من ذلك اوذنوا على سواء و قُوتلوا، يُقتل منهم من شَهَرَ سيفاً و دخل المعركة، و لا يقتل منهم مَن ألقى السلم، و لا يُقتل منهم المستضعفون من الرجال و النساء و الولدان، و لا يُبيّتون و لا يُغتالون و لا يقطع عنهم الماء و لا يعذّبون عند قتلهم - كأن يُقَطَّعوا إرباً إرباً أو يجرّحوا و يتركوا ليموتوا أو يشنقوا أو يحرقوا و أمثال ذلك - و لا يمثّل بهم في حياتهم أو بعد موتهم كأن تُنتزع أعضاء بدنهم أو تُقطع؛ فيُقاتلون:
حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَ يَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ.۱
فإذا غلب المسلمون على الكافرين و وضعت الحرب أوزارها فما تسلّط عليه المسلمون من نفوسهم و أموالهم فهو لهم. و قد اشتمل تأريخ حروب رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم و مغازيه على صحائف غرّ ناصعة طافحة بالسيرة العادلة الجميلة مشحونة بالفتوّة و المروءة و بدائع البرّ و الإحسان و طرائف العدل و الإنصاف.
٦ - مَا هِيَ سِيرَةُ الإسْلَامِ في العَبِيدِ وَ الإمَاءِ؟
إذا استقرّت العبوديّة على من استقرّت عليه صار ملك يَمين و صار منافع عمله لغيره و نفقته على مولاه.
شروط الجهاد الإسلامي وكيفية قتل وأسر الكافرين
و قد وصّى الإسلام بمعاملة المولى مع عبده معاملة الواحد من أهله و هو منهم، فيساويهم في لوازم الحياة و حوائجها؛ و كان رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم يؤاكل عبيده و خدمه و يُجالسهم و لا يؤثر نفسه عليهم في مأكل و لا ملبس و نحوهما؛ و أن لا يشقّ عليهم في العمل، و لا يعذّبوا، و لا يسبّوا، و لا يُظلموا، و اجيز لهم أن يتزوّجوا فيما بينهم بإذن أهلهم، و أن يتزوّج بهم الأحرار، الرجال منهم و النساء، و أن يشاركوهم في الشهادات عند قضاة الإسلام، و يساهموهم في الأعمال حال الرقّ و بعد الانعتاق.
و قد بلغ من إرفاق شريعة الإسلام المقدّسة بهم أن شاركوا الأحرار في عامّة الامور، و قُلِّد جمع منهم الولاية و الإمارة و قيادة الجيش على ما يضبطه تأريخ صدر الإسلام، و كان يوجد بين الصحابة الكبار عدّة من الموالي كَسَلْمَان و بِلَال و غيرهما.
لاحظوا سيرة رسول الله حين أعتق جاريته صَفِيَّةَ بِنتَ حَيِّ بْنِ أخْطَب و تزوّج بها، و تزوّج جُوَيْرِيَّةَ بِنْتَ الحَارِث بعد وقعه بَنِي المُصْطَلِق و قد كانت بين سباياهم، و كانوا مائتي بيت بالنساء و الذراري، و صار ذلك سبباً لانعتاق الجميع، و قد مرّ إجمال القصّة في الجزء الرابع من «تفسير الميزان».
و من الأحكام الضروريّة في سيرة الإسلام أن يُقدَّم العبد المتّقي على المولى الحرّ الفاسق، فتُقبَل شهادة هذا و تُردّ شهادة ذاك، و أن يُبيح للعبد أن يتملّك المال و يتمتّع بعامّة مزايا الحياة بإذنٍ من أهله. هذا إجمال أحكام العبيد و صنيع الإسلام معهم.
ثمّ أكّد الوصيّة و ندب أجمل الندب إلى تحرير رقابهم و إخراجهم من ظرف الاستعباد إلى جوّ الحرّيّة، و لا يزال يقلّ بذلك عددهم و يتبدّل
جمعهم موالي و أحراراً لوجه الله؛ و لم يقنع بذلك دون أن جعل تحرير الرقبة أحد خصال الكفّارات، مثل كفّارة القتل و كفّارة الإفطار، و أجاز لهم الاشتراط و الكتابة و التدبير (أي أن يعتقهم مولاهم مقابل قدر من الخدمة أو أن يجعلوا له شيئاً آخر مقابل تحريرهم، أو أن يشترطوا على مواليهم أن يعملوا و يدفعوا إلى مولاهم تدريجيّاً أو دفعةً قيمتهم أو أقلّ منها من كسبهم مقابل عتقهم، أو أن يوصي المولى بعتقهم بعد موته فيصيرون حال موت مولاهم أحراراً)، كلّ ذلك عنايةً بهم و قصداً إلى تخليصهم و إلحاقاً لهم بالمجتمع الإنسانيّ الصالح إلحاقاً تامّاً يقطع دابر الاستذلال.۱
۷ - محصّل البحث في الفصول السابقة:
تحصّل ممّا مرّ امور ثلاث:
الأوّل: أنّ الإسلام لم يألُ جهداً في إلغاء أسباب الاستعباد و تقليلها و تضعيفها حتى وقف على واحدٍ منها لا محيص من اعتباره بحكم الفطرة القاطع، و هو جواز استعباد كلّ إنسان محارب للدين مضادّ للمجتمع الإنسانيّ غير خاضع للحقّ بوجه من وجوه الخضوع.
الثاني: أنّه استعمل جميع الوسائل الممكنة في إكرام العبيد و الإماء و تقريب شؤونهم الحيويّة من حياة أجزاء المجتمع الحرّة، حتى صاروا كأحدهم و إن لم يصيروا أحدهم، و لم يبقَ عليهم إلّا حجابٌ واحد رقيق،
و هو أنّ الزائد من أعمالهم على واجب حياتهم حياةً متوسطة لمواليهم لا لهم، و إن شئتَ فقل. لا فاصل في الحقيقة بين الحرّ و العبد في الإسلام إلّا إذن المولى في العبد.
الثالث: أنّه حاول بكلّ وسيلة مؤثِّرة إلى إلحاق صنف المماليك إلى مجتمع الأحرار بالترغيب و التحريض في موارد، و بالفرض و الإيجاب في اخرى كالكفّارات، و بالإنفاذ و التجويز في مثل أحكام الاشْتِرَاط و التَّدْبِير و المُكَاتَبَة.
۸ - سَيْرُ الاسْتِرْقَاقِ في التَّأرِيخِ:
ذكروا۱ أنّ الاسترقاق ظهر أوّل ما ظهر بالسبي و الأسر، و كانت القبائل قبل ذلك إذا غلبت في حروبها و مقاتلها و أخذت سبايا قتلتهم عن آخرهم، ثمّ رأوا أن يتركوهم أحياءً و يتملّكوهم كسائر الغنائم الحربيّة، لا لينتفعوا بأعمالهم بل إحساناً في حقّهم و احتراماً للقوانين الأخلاقيّة التي ظهرت فيهم بالترقّي في صراط المدنيّة شيئاً فشيئاً.
و إنّما ظهرت هذه السنّة بين القبائل بعد ما اختفت فيهم طريقة الارتزاق بالاصطياد، إذ لم تكن لهم فيها من السعة ما يسوغ لهم الإنفاق على العبيد و الإماء، حتى انتقلوا إلى معيشة النزول و السكنى في المدن و تمكّنوا من ذلك.
الأماكن التي عُهد فيها استعمال الرقيق في قديم الزمان و التي لم يُعهد فيها
و بشيوع الاستعباد بين القبائل و الامم على أي وتيرة كانت، فقد تحوّلت حياة الإنسان الاجتماعيّة و ظهر فيها اختلافان، الأوّل: ظهور
جهات من الانتظام و الانضباط في المجتمعات، و الثاني. تقسيم الأعمال فيها. و لم يكن الاسترقاق يومئذٍ دائراً في جميع أقطار المعمورة على وتيرة واحدة، فلم يستنّ في بعض المناطق أصلًا، كاستراليا و آسيا المركزيّة و سيبريا و أمريكا الشماليّة و الأسكيمو و بعض مناطق أفريقيا بشمال النيل و جنوب رامبيز. و على العكس فقد كان رائجاً في جزيرة العرب و أفريقيا الوحشيّة و اوروبّا و أمريكا الجنوبيّة، و كان دائراً بين اليهود، و نرى في التوراة دعاءً يدعو العبيد إلى طاعة مواليهم؛ و كذا في النصارى؛ و في كتاب بولس إلى فيلمن أنّ أفسيموس كان عبداً شارداً ردّه بولس إلى سيّده.
و كان اليهود أرفق الناس بعبيدهم، و من الشواهد على ذلك أنّا لم نعثر لهم من شواهق الأبنية على ما يشبه الأهرام المعمولة بمصر و الأبنية الآشوريّة التأريخيّة، فإنّها كانت من أعمال العبيد الشاقّة.
و كانت الروم و اليونان أكثر الامم تشديداً على العبيد.
التأريخ و كيفيّة تحرير العبيد
و قد ذاع في الروم الشرقي بعد قسطنطين فكرة تحرير العبيد، حتى الغى الرقّ فيها في القرن الثالث عشر الميلاديّ، و بقي في الروم الغربيّ على شكل آخر، و هو أنّهم كانوا يبيعون و يشترون المزارع بزارعها - كانت الزراعة من مشاغل العبيد - لكن الغيت بينهم الأعمال الإجباريّة.
و كان الاستعباد شائعاً في معظم ممالك اوروبّا إلى سنة ۱۷۷٢ ميلاديّة، و قد انعقدت قبل ذلك بحين معاهدة بين الدولَتين إنجلتزا و إسبانيا على أن يجبي الإنجليز إليهم كلّ سنة أربعة آلاف و ثمانمائة نسمة من رقيق أفريقيا إلى ثلاثين سنة ليَبيعهم منهم قبال مبالغ باهظة تأخذها دولة الإنجليز منهم.
و قد ثارت الأفكار العامّة الإنجليزيّة سنة ۱۷٦۱ م على نظام الرقّ و الاستعباد، و أوّل الطوائف التي ثارت عليه طائفة لرزان المذهبيّة؛
و لم يزالوا كذلك حتى وُضعت مادّة قانونيّة سنة ۱۷۷٢ م أنّ كلّ مَن دخل أرض بريطانيا فهو حرّ.
و قد ظهر سنة ۱۷۸۸ م بعد بحث و تفتيش دقيق أنّ إنجلترا كانت تبيع كلّ سنة لأمريكا وحدها مائة ألف نسمة من الرقيق تجلبهم إليها من أفريقيا، و أنّ إنجلترا كانت تبيع سنويّاً مائتي ألف نسمة منهم.
و قد استمرّ ذلك حتى الغى الاستعباد في بريطانيا سنة ۱۸٣٣ م، و أدّت الدولة إلى شركات بيع العبيد و النخاسة مبلغ عشرين مليون ليرة أثمان ما حرّرته من رقيقهم العبيد و الإماء، و حُرِّر في هذه الواقعة منهم (۷۷۰٣۸۰) نسمة.
و قد الغي الاستعباد في أمريكا سنة ۱۸٦٢ م، بعد مُجاهدات شديدة تحمّلها أهالي أمريكا، و كان شمال أمريكا و جنوبها مختلفَين في مسألة أخذ الرقيق، ففي أمريكا الشماليّة كان العبيد و الإماء يؤخذون للتجمّل فحسب، أمّا في أمريكا الجنوبيّة فإنّ معظم الأشغال كانت في مجال الزراعة و الحراثة، و كانوا في أمسّ الحاجة إلى كثرة الأياديّ العاملة، فكانوا يأخذون الأرقّاء و يستثمرونهم في تلك الأعمال، لذا فقد كانوا يتحرّجون من قبول التحرير العامّ.
و لم يزل الاستعباد يُلغي في مملكة إثر مملكة حتى انعقد مؤتمر بروسل سنة ۱۸٩۰ م و أقرّ إلغاء سُنّة الاستعباد و أمضتها الدول و اجريت في الممالك، و الغي مبدأ العبوديّة في الدنيا و انعتقت بذلك الملايين من النفوس - انتهى ما ذكروه ملخّصاً.
و أنت تجد بنظرك الثاقب أنّ هذ المجاهدات الطويلة و المشاجرات ثمّ ما وضعوه من قوانين الإلغاء و ما انفذ من الحكم، كلّ ذلك إنّما كان يدور حول الاسترقاق من طريق ولاية الآباء على الأبناء و على النساء و من طريق
التغلّب، كما يشهد به أنّ جلّ الأرقّاء، أو إن شئتَ فقل. كلّ الأرقّاء كانوا يُجلبون من نواحي أفريقيا التي كان فيها الاستعباد أمراً معهوداً، و أمّا نظام الاسترقاق من طريق السبي الحربيّ و الأسر الذي أنفذه الإسلام، فلم يكن مورداً للبحث قطّ.
٩ - نَظْرَةٌ في بِنَاءِ الحُرِّيَّةِ الإنسَانِيَّةِ:
هذه الحرّيّة الفطريّة التي نسمّيها بالحرّيّة الموهوبة للإنسان على أساس شعوره و إدراكاته. و باعتبار اشتراك جميع أفراد البشر في الشعور و الإدراكات، و أنّ إعطاء الحرّيّة لجميعهم في جميع رغباتهم و مرامهم سيوجب سلب الحقوق و تعارضها مع بعضها، لذا فإنّ هذه الحرّيّة ينبغي بلا شكّ أن تكون محدودةً مقيّدة.
و بيان ذلك أنّ الإنسان يمتلك شعوراً و فهماً و إدراكاً، كما أنّ غريزة إرادة و طلب ما يلذّه موجودة فيه؛ و تبعاً لهذه الإرادة فإنّه يختار لنفسه ما يشاء فيسعى لجلب ما فهمه بشعوره و أراده برغبته، و لإيصاله إلى مرحلة التحقّق و إكسابه وجوداً خارجيّاً.
و أفراد البشر متساوون بأجمعهم في هذا الشعور و الإرادة و الاختيار، فلا الفرد القويّ يختصّ بإدراكات و إرادة أقوى، و لا الفرد الضعيف أضعف فيها، و لا هناك رابطة بين إرادة الضعيف، و إرادة القويّ لتُجبر إرادة الضعيف على أن لا تتعلّق بما تعلّقت به إرادة القويّ، أو لتفنى في إرادة القويّ فتعود الإرادتان إرادةً واحدة.
و لأنّ جميع الأفراد - الضعيف منهم و القويّ - شركاء في البُنية الإنسانيّة، متساوون في حصّتهم منها، متماثلون في الخلقة و الفطرة، لذا فقد كان هذا الأساس أصل إلغاء حكم العبوديّة و إسقاطه.
لكنّ ما ينبغي ملاحظته و التأمّل فيه هو. هل يمكن العمل بأصل الحرّيّة المطلقة، و هل هذه الحرّيّة الموهوبة في المجتمع الإنسانيّ على إطلاقها منذ وُلدت البشريّة؟
الإنسان يعيش دوماً في إطار محدّد، و تعبير الحرّيّة المطلقة اسمٌ بلا مسمّي
فما يشير إليه التأريخ أنّ النوع الإنسانيّ لم يزل منذ وجد في العالم يعيش في حال الاجتماع، و لا يسعه بحسب جهازه الوجوديّ إلّا ذلك، لذا فقد وجد دوماً قواعد و قوانين تحدّد الحرّيّة الفرديّة، لأنّ الحياة الاجتماعيّة ستنجرّ إلى الاضمحلال و الفناء ما لم تراعي فيها قوانين و سنن تحدّد هذه الحرّيّة.
فلن يسع شخصان أن يعيشا في زمان واحد و يجلسا في مكان واحد و يأكلا من طعام واحد و يلبسا لباساً واحداً، و حريّ أن تتعلّق إرادتهما كلاهما بنفس ذلك الشيء. و من هذا فقد وضعوا قوانين تحديد الملكيّة و تحديد الزواج و غيرها. و بشكلٍ عامّ، فإنّ إجراء قانون مجازاة المجرمين بدون هذا المعنى من التحديد أمرٌ خاطئ.
فالمجتمع حين يضع للمجرم قانوناً للمجازاة من قتل و حبس و تعذيب و غيرها لا يمكنه ذلك بدون امتلاك حقّ تحديد حرّيّة المجرم عمليّاً، و المجرم نفسه أيضاً سيعتبر خارجاً عن هذا المجتمع ما لم يمضِ أمر تحديد حرّيّته الأوّليّة حسب تعيين و تشخيص القانون، و عليه فإنّ المجرمين أنفسهم بإقرارهم قانون الجزاء و العقوبات قد ألغوا حرّيّتهم المطلقة، و حدّدوها بالحدود المقرّرة.
هذا التقييد و التحديد واضح و مشهود للقدر الذي نجد في قوانا البدنيّة أنّها لا يمكنها الاستمرار في عملها بدون تحديد و تقييد القوى الاخرى. فقوّة الإبصار تفعل فعلها بحرّيّة حتى تكلّ لامسة العين أو تتعب القوّة المفكّرة فتقف الباصرة عن فعلها تقيّداً بفعل مزاملها. و الذائقة تلتذّ بالتقام
الغذاء اللذيذ و ازدراده و بلعه حتى تكلّ عضلات الفكّ فتقيّد الذائقة فتكفّ عن مشتهاها. و إجمالًا، فإنّه لا تردّد لدى أي عاقل أنّ بقاء و إبقاء الحرّيّة المطلقة في المجتمع، و لو للحظة واحدة أمرٌ لا يمكن تصوّره، كما لا يمكن تصوّر السلب الكلّيّ للحرّيّة، فكلّ فرد من أفراد المجتمع يعيش دوماً بين حدّين. حدّ الحرّيّة المطلقة و حدّ سلب الحرّيّة المطلقة، و هو أمر حتميّ و ضروريّ.
و عليه، فإنّ اسم الحرّيّة المطلقة التي ملأت وسائل الإعلام الغربيّ آذان العالم بها بالشكل الذي خُيِّل للناس معه أنّهم هم الذين اخترعوا اسمها و معناها، و أنّها من لغاتهم هم لا من لغات غيرهم؛ هذه الحرّيّة ليست إلّا تطبيلًا أجوفاً لا محتوى له، و شعاراً لا واقع له، و اسماً بلا مسمّى. فالاجتماع الفطريّ لا يتمّ للإنسان إلّا بأن يجود ببعض حرّيّته في العمل و استرساله في التمتّع، فيعيش بين حدّين.
القوّة الدفاعيّة في القتل و أسر العدوّ ضروريّة لأيّ مجتمع
۱۰ - مَا مِقْدَارُ تَحْدِيدِ الحُرِّيَّةِ؟
و أمّا المقدار الذي تحدّد به الحرّيّة الموهوبة من قبل المجتمع فهو مختلف باختلاف المجتمعات الإنسانيّة بحسب كثرة القوانين الدائرة المعتبرة و قلّتها. فإنّ المقيّد للحرّيّة - بعد أصل الاجتماع - إنّما هو القانون المجري بين الناس، فكلّما زادت القوانين و دقّت زاد الحرمان من الحرّيّة و الاسترسال؛ و كلّما نقصت نقص الحرمان من الحرّيّة المطلقة.
لكنّ الذي لا مناص عنه في أي اجتماع لأيّ مجتمع فُرِض، و الواجب الذي ليس في وسع الإنسان الاجتماعيّ أن يستهين به و يتساهل في أمره، شيئان:
حِفْظُ وُجُودِ الاجْتِمَاعِ وَ كَوْنِهِ، إذ لا حياة للإنسان بدونه.
و حِفْظُ السُّنَنِ الدَّائِرَةِ وَ القَوَانِينِ الجَارِيَةِ فِيهِ من النقص و الانتقاض.
و لذلك، لستَ تجد مجتمعاً من المجتمعات البشريّة إلّا فيه جهة دفاعيّة تذبّ عن النفوس و الذراري و تقيهم من الفناء و الهلاك و وليّ يلي أمرهم و يحفظ السنّة الجارية و العادات الدائرة المحترمة بينهم من الانتقاض، و يبسط الأمن الاجتماعيّ و يردع المتعدّي الجائر؛ و الموجود من التأريخ يصدّق ذلك أيضاً.
و عليه، فإنّ أوّل حقّ مشروع للمجتمع في شريعة الفطرة أن يسلب الحرّيّة من عدوّ المجتمع في أصل اجتماعه، و إن شئت فقل. أن يملك من عدوّه المُبِيدُ لحياته المفسد لحرثه و نسله و عمله و يذهب بحرّيّة إرادته بما يشاء من قتل فما دونه، و أن يسلب عن عدوّ السنّة و القانون حرّيّة العمل و الاسترسال في النقض، و يملك منه ما يفقده بالمجازاة من نفس أو مال أو غيرهما.
و كيف يسع الإنسان - حتى الإنسان الفرد - أن يذعن بحرّيّة عدوّ لا لحياةِ مجتمعه يحترم فيوافيه و يشاركه و يمتزج به، و لا عن إبادة مجتمعه و إفنائه يغمض فيتركهم و شأنهم؟ و هل الجمع بين العناية الفطريّة بالاجتماع و بين ترك هذا العدوّ و حرّيّته في العمل إلّا جمعاً بين المتناقضَين صريحاً و هو سفه و جنون.
فتبيّن ممّا مرّ أوّلًا: أنّ البناء على إطلاق حرّيّة الإنسان أمر مخالف لصريح الحقّ الفطريّ المشروع للإنسان الذي هو من أوّل الحقوق الفطريّة المشروعة.
و ثانياً: أنّ حقّ الاستعباد الذي اعتبره الإسلام هو المطابق لشريعة الفطرة، و هو أن يستعبد أعداء الدين الحقّ المحاربين للمجتمع الإسلاميّ فيسلب منهم حرّيّة المجتمع و يُجلبوا إلى داخل المجتمع الإسلاميّ و يُكلّفوا
بأن يعيشوا في زيّ العبوديّة حتى يتربّوا بالتربية الصالحة الدينيّة، و ينعتقوا تدريجيّاً و يلتحقوا بالمجتمع الحرّ السالم.
و لولي الأمر أن يشتريهم و يعتقهم عن آخرهم إن رأي صلاح المجتمع الدينيّ في ذلك، أو يسلك في ذلك طريقاً آخر فلا تنسخ بذلك الأحكام الإلهيّة.
إلغاء لفظ الرقّ من أجل الحفاظ عليه بنحوٍ أتمّ و أكمل
۱۱ - إلى مَ آلَ أمْرُ الإلْغَاءِ؟
أجرت معظم الدول العظمى قرار مؤتمر بروسل و منعوا بيع الرقيق أشدّ المنع و انعتقت الإماء و العبيد فلا يصطفّون اليوم في دكاك النخّاسين و لا يُساقون سوق الأغنام، و تبع ذلك أنِ انتسخ اتّخاذ الخصيان، فلا يكاد يوجد اليوم من هؤلاء و اولئك و لو نماذج قليلة، إلّا ما ربّما يذكر من أمر الأقوام الهمجيّة.
ولكن، هل يُقنع هذا المقدار - أي. ارتفاعُ اسم الاستعباد و الاسترقاق من الألسنة و غيبةُ المسمّين بهذا الاسم عن الأنظار - الباحث الناقدَ في هذه المسألة؟
أو لا يسأل هذا الإنسان هل هذه المسألة هي مسألة لفظيّة يجزي فيها المنع من أن يذكر الاسم، و يكفي في إجرائها أن يسمّي العبد حرّاً و إن سُلِب منافع عمله و تبع غيره في إرادته؟ أو أنّ المسألة معنويّة يُراعى فيها حال المعنى بحسب حقيقته و آثاره الخارجيّة؟
فهاتيك الحرب العالمية الثانية أمام أعيننا لم يمض عليها إلّا بضع عشرة سنة۱ حملت الدول الفاتحة على عدوّها المغلوب التسليم بلا شرط،
ثمّ احتلّوا بلادهم، و أخذوا ملايين من أموالهم، و تحكّموا على نفوسهم و ذراريهم، و نقلوا الملايين من اسراهم إلى داخل مملكتهم يستعملونهم فيما شاءوا و كيف شاءوا، و الأمر يجري على ذلك حتى اليوم.
فليت شعري؛ هل للاستعباد مصداق في العالم حتى لا يكون عملهم هذا مصداق له و إن منع من إطلاق لفظ الاستعباد عليه؟
و هل للاستعباد معنى آخر غير سلب إطلاق الحرّيّة، و تملّك الإرادة و العمل، و إنفاذ القويّ المتعزّز حكمه في الضعيف المستذلّ كيف شاء و أراد عدلًا أو ظلماً، معنى لم تُوقِعَه بعدُ هذه الدول الغالبة بمغلوبيها؟!
فَيَا لِلَّهِ العَجَبُ، كيف يسمّى حكم الإسلام - بنظير الحكم على أصلح وجه يمكن - استعباداً، و لا يسمّى حكمهم بذلك؟! في حين أنّ الإسلام يأخذ فيه بأسهل الوجوه و أخفّها، و هم يأخذون بأشقّها و أعنفها؟!
و لقد رأينا بأعيننا محبّتهم و صداقتهم حينما احتلّوا بلادنا تحت عنوان المحبّة و الحماية و الوقاية، فكيف حال من استعلوا عليه بالعداوة و النكاية؟!
و من هنا يظهر أنّ قرار الإلغاء لم يكن إلّا لعبةً سياسيّة، و لا يمثّل في الحقيقة إلّا أخذاً للعبيد في صورة المنع و الردّ.
و أمّا الاستعباد عن حرب و غلبة و سيطرة، فقد أنفذه الإسلام و أنفذوه عملًا، و إن منعوا من التلفّظ باسمه لساناً.
و أمّا الاستعباد عن طريق بيع الآباء أبناءهم الذي منعوه، فقد كان الإسلام منعه من قبل.
و أمّا الاستعباد عن طريق الغلبة و السيطرة الحكميّة، فقد منعه الإسلام من قبل، و أمّا هؤلاء فقد أجمعوا على منعه. ولكن، هل توقّف المنع في مرحلة اللفظ كنظيره، أم تعدّاها إلى مرحلة المعنى و وافقه العمل؟
يمكنك أن تستخرج الجواب لهذا السؤال بإلقاء النظر في تأريخ الاستعمارات الاوروبّيّة في آسيا و أفريقيا، و في الاستعمارات الأمريكيّة، و في الفجائع التي ارتكبوها، و الدماء و الأعراض و الأموال التي أهرقوها و استباحوها و نهبوها، و التحكّمات و الضغوط التي أتوابها و التي فاق عددها الآحاد و المئات و الالوف.
و لا تذهب بعيداً فقد يجزيك أن تتأمّل أخبار ما قاساه أهل الجزائر من فرنسا طيلة سنين متمادية من إبادة النفوس و تخريب البلاد و التشديد على أهلها، و ما تلقاه الممالك العربيّة من الإنجليز، و ما يتحمّله السود و الحمر في أمريكا و ما قاسته اوروبّا الشرقيّة من الجمهوريات الاشتراكيّة الروسيّة و السوفييتيّة، و ما نكابده نحن من أيدي هؤلاء و اولئك، كلّ ذلك في لفظه نصح و إشفاق، و في معناه الاستعباد و الاسترقاق.۱
و ظهر ممّا بيّنّا أنّهم أخذوا في مرحلة العمل بما شرعه الإسلام من
إباحة سلب إطلاق الحرّيّة عند وجود سببها الفطريّ المتمثّل في حرب من يريد هدم المجتمع و إهلاك الإنسانيّة، و هو حكم مشروع في شريعة الفطرة، له أصل واقعيّ لا يتغيّر، و هو حاجة الإنسانيّة في بقائها إلى دفع ما يطاردها وجوداً و يناقضها بقاءً.
و هو بغضّ النظر عن ذلك في المرتبة الثانية أصل اجتماعيّ عقلائيّ و يترتّب عليه وجوب حفظ المجتمع الإنسانيّ عن الانعدام و الانهدام.
فهذا هو الذي راموه في عملهم و أخذوه معنى و أنكروه اسماً، غير أنّهم تعدّوا هذا القسم المشروع إلى غيره غير المشروع و هو الاستعباد بسبب الغلبة و السلطة.
فهم لا يزالون قبل مسألة الإلغاء و بعدها يستعبدون الالوف و الملايين من النفوس تحت نوع من الاسترقاق، فيبيعون و يشترون و يهبون و يُعيرون، إلّا أنّهم لا يسمّون ذلك استعباداً، و إنّما يدعونه استعماراً أو استملاكاً أو قيمومة أو حماية أو عناية أو إعانة أو غير ذلك من الألفاظ التي لا يُراد بشيء منها إلّا أن يكون ساتراً على معنى الاستعباد، و كلّما خلق أو خرق شيء من هذه الألفاظ رُمي به وجيء بآخر جديد.
و يتّضح ممّا بيّنا في هذا البحث أنّه لم يبقَ ممّا نسخه قرار مؤتمر بروسل و لا يزال يقرع به أسماع الدنيا و أهلها و تتباهى به الدول المتمدّنة التي تدعو نفسها من روّاد المدنيّة الراقية، و أنّ راية الحرّيّة الإنسانيّة بأيديهم، لم يبقَ منه إلّا إلغاء الاستعباد من طريق بيع الأبناء و البنات و الإخصاء من قبل آبائهم، و لا فائدة هامّة فيه تعود إليهم، مع كونه أشبه بالمسألة الفرديّة منه بالمسألة الاجتماعيّة، و نسخه مع ذلك حجّة لفظيّة إعلاميّة بأيديهم كسائر حججهم التي لا تعدو مقام اللفظ و لا تصل مرحلة التحقّق و التنفيذ.
نعم، يبقى هناك محلّ بحث آخر، و هو أنّ الإسلام يبدأ في غنائمه الحربيّة من رقيق أو مال - غير الحاصل من الأراضي المفتوحة عنوةً - أوّلًا بالأفراد من مجتمعه فيقسّمها بينهم، ثمّ ينتهي إلى الدولة، على ما سير به في صدر الإسلام، و هؤلاء يحفظون الاستفادة من الغنائم الحربيّة حقّاً موقوفاً على الدولة.
و هذه مسألة اخرى غير مسألة أصل الاسترقاق، لعلّنا نوفّق لاستقصاء البحث عنها فيما يأتي إن شاء الله من الكلام في آيات الزكاة و الخُمس.۱
و كانت نتيجة البحث المفصّل للُاستاذ هي. أنّ مؤتمر بروسل ألغى اثنين من الموارد الثلاثة للاستعباد و التي كان قد ألغاها الإسلام و أبطل أساسها:
أ - الاستعباد عن طريق ولاية الآباء في بيع أبنائهم.
ب - الاستعباد عن طريق الغلبة و السيطرة على نفوس الناس باستخدام القوّة.
و هذا القسم الثاني ألغاه مؤتمر بروسل لفظاً، لكنّ معظم الدول في اوروبّا و أمريكا و الاتّحاد السوفييتيّ، سواء قبل حكم الإلغاء أو بعده كانت و لا زالت تستعبد بألفاظ و ذرائع اخرى الملايين من أفراد الإنسانيّة و تأسرهم و تجعلهم عبيداً أرقّاء لها.
ج - أمّا المورد الثالث و هو الاستعباد عن طريق السيطرة على العدوّ المحارب، فقد أمضاه الإسلام و أقرّه كما أمضوه و أقرّوه، غاية الأمر أنّ الإسلام سمّاه صراحةً بالعبد، ثمّ بذل المساعي الجميلة بمنتهى العطف
و المحبّة لإرشاده و ترقيته و تعليمه و تربيته تربيةً صحيحة وصولًا إلى تحريره بالإسلام و تربيته تحت إشراف و حكومة الإسلام، في حين أنّهم نافقوا فلم يُطلقوا عليه ظاهراً اسم العبد، لكنّهم استخدموه و استعبدوه إجباراً بكلّ ما لكلمة الاستعباد من معنى، و بأقسى صوره و أبشعها، و أبقوه بالعنف و الخشونة رازحاً تحت وطأة الأعمال الثقيلة التي ينوء بها كاهله.
إن حُكْمَ الإسْلَامِ بِضَرُورَةِ الاسْتِعْبَادِ في ظُرُوفِ الحَرْبِ لَيْسَ قَابِلًا لِلنَّسْخِ، و هو أمر باقٍ فعلًا، غاية الأمر أنّ هذا الحكم ينبغي تحقّقه في مرحلة الجهاد مع الكفّار، فلو تحقّق الجهاد و وقع أحد الكفّار المحاربين أسيراً، لانطبق عليه حكم العبيد و الأرقّاء، و لتربّوا تحت نفوذ الإسلام و سيطرته حتى ينالوا كمالهم.
و يعدّ هذا الأمر من الخدمات المهمّة التي أسداها الإسلام إلى البشريّة، و التي كان حاضراً للمجاهدة و الحرب من أجل هدايتها إلى عالم التوحيد و قبول الدين الحقّ و المشاركة في المائدة السماويّة و الارتواء من شراب الجنّة؛ فهو يدعو المحرومين للجلوس على هذه المائدة الوسيعة، و يجرّهم - عند امتناعهم - إليها بالحبال و السلاسل، ثمّ يتلو عليهم آيات القرآن، و يهتف بأسماعهم بنداء اللهُ أكْبَرُ، ثمّ يمتّعهم تحت ظلّه و في حضوره بحياة سليمة و عيش هنيء صحيح دنيويّ و أخلاق و صفات حميدة اخرويّة.
الجهاد في سبيل الله من أعظم الفرائض الإسلاميّة، الجهاد إحياءٌ للنفوس، الجهاد هو الركن الأساس للحياة الدينيّة و ركن الإيمان.
الآيات و الروايات الواردة في وجوب الجهاد في سبيل الله
قال رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم:
مَنْ فَصَلَ في سَبِيلِ اللهِ فَمَاتَ أوْ قُتِلَ فَهُوَ شَهِيدٌ، أوْ وَ قَصَهُ فَرَسُهُ، أوْ بَعِيرُهُ أوْ لَدَغَتْهُ هَامَّةٌ أوْ مَاتَ عَلَى فِرَاشِهِ [أوْ] بِأيِّ حَتْفٍ شَاءَ اللهُ فَإنَّهُ
شَهِيدٌ. وَ إنَّ لَهُ الجَنَّةَ۱.
و قال رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم أيضاً:
مَنْ مَاتَ وَ لَمْ يَغْزُ، وَ لَمْ يُحَدِّثْ نَفْسَهُ بِالغَزْوِ، مَاتَ عَلَى شُعْبَةٍ مِنْ نِفَاقٍ.٢
و هناك في القرآن الكريم؛ كما في الروايات الواردة عن رسول الله، آياتٌ دالّة على وجوب الجهاد، و من جملتها:
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ هاجَرُوا وَ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ الَّذِينَ آوَوْا وَ نَصَرُوا أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ لَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا وَ إِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُمْ مِيثاقٌ وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ، وَ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَ فَسادٌ كَبِيرٌ ، وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ هاجَرُوا وَ جاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ الَّذِينَ آوَوْا وَ نَصَرُوا أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ رِزْقٌ كَرِيمٌ.٣
و يتّضح جيّداً من هذه الآيات وجوب كلّ من الإيمان و الهجرة و الجهاد في سبيل الله؛ و عليه فيجب:
أ وّلًا: على جميع المؤمنين في الدنيا، الذين يعيشون في بلاد الكفر
و في الدول غير الإسلاميّة - سواء كانوا من أتباعها و أهليها و كانت لغتهم الأصليّة لغة تلك البلدان و كانوا يتوطّنونها أباً عن جدّ، أم كانوا مقيمين هناك و سبق أن ذهبوا إليها من ممالك اخرى فصارت محلّ إقامتهم المؤقّتة أو الدائميّة - أن يهاجروا إلى بلد الإسلام و أن يعيشوا تحت ظلّ الإسلام.
هذا و قد تحقّق هذا الأمر بحمد الله في دولة إيران و تحرّرت حكومتها ظاهراً و باطناً من تبعيّة الدول الكافرة الخارجيّة، و هو أمر له أهمّيّته العظمى و يستحقّ الملاحظة.
نعم، لو ارتأت الدولة الإسلاميّة لمصالح تراها، أن ترسل أفراداً للدرس و التحصيل أو التجارة أو السفارة إلى تلك الدول، فإن كان ذلك بإمضاء و إقرار الحاكم الشرعيّ و صاحب مقام الولاية و تحت إشرافه، لَمَا كان في الأمر إشكال. و على اولئك السادة مراعاة نظر الحاكم في خصوص محيط سكناهم و مدّة إقامتهم و كيفيّتها.
و ثانياً: أمّا اولئك الذين لم يهاجروا و لم يرجعوا إلى هذه الدولة و فضّلوا البقاء هناك، فإنّ رابطة الوَلاء بينهم و بين المؤمنين في هذه الدولة ستنقطع، و لن يكون لهم مطلقاً حقّ المشاركة في امور ولاية الناس من خلال تسلّم زمام ولايتهم، كأن يُعَيَّن أحدهم الحاكم المطلق، أو رئيس الجمهوريّة، بل ليس من حقِّهم إشغال سائر المناصب و الوظائف الحكوميّة التي يشملها عنوان الولاية و الإشراف و السلطة.
كما يجب على المسلمين الذين يعيشون في الدولة الإسلاميّة ولكنّهم من أتباع دولة أجنبيّة كافرة أن يخرجوا من تبعيّة تلك الدولة و يصبحوا من أتباع دولة إيران الإسلاميّة، و ليس لهم - ما لم يخرجوا من تبعيّتهم تلك - التصدي لعهدة ولاية الفقيه أو إشغال منصب رئاسة الجمهوريّة، أو أن يصبحوا من الأعضاء المنتخبين للمجلس، أو إشغال منصب رئاسة الوزراء
و سائر الوزارات و حقيبة المدير العامّ، و بشكل عامّ، كلّما يتعلّق بالرئاسة و ولاية امور المسلمين ماداموا لم يخرجوا من تبعيّتهم تلك.
و يجب على الحكومة الإسلاميّة؛ وصولًا إلى بسط الإسلام و إقامة الصلاة و إيتاء الزكاة و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر في أرجاء الدنيا حسب إمكاناتها؛ إعلان الجهاد و إرسال المسلمين لإرشاد و هداية الكفّار للانضمام إلى بيضة الإسلام:
وَ لَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ، الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَ آتَوُا الزَّكاةَ وَ أَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَ نَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَ لِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ.۱
و المراد من التَّمْكِينِ في الأرْضِ هو حكومة الإسلام، و الاستقلال، و الخروج من رِبقة العبوديّة للكفّار، و التمكّن من تطبيق و إقامة الأحكام الإلهيّة.
و عليه، فإنّ هذه الآية تبيّن بوضوح أنّ وظيفة الحكومة الإسلاميّة لا تنحصر - كما هو الأمر في سائر الحكومات - في حفظ الأمن الداخليّ، و حفظ حدود المملكة، و تأمين الرفاه المادّيّ للدولة و الشعب، و الاهتمام بالامور الاقتصاديّة، و رعاية أموال الناس و ثرواتهم، و إيجاد التسهيلات في مجال الامور الطبّيّة و الصحيّة، أو في تحصيل العلوم الفنيّة و الصنائع، و العلوم التجريبيّة و الطبيعيّة و الأدبيّات و التأريخ، بل إنّ واجبها الأوّل كحكومة إسلاميّة إقامة الصلاة في أرجاء البلاد، و جمع الزكاة، و الأمر بالمعروف و ترويج الامور اللائقة و المحاسن التي يعتبرها الله و رسوله معروفاً و حُسناً و الترغيب فيها، و منع المنكرات و القبائح التي يعدّها الله
و رسوله منكراً.
و في المرتبة الثانية و بعد التمكّن من بسط المعروف و النهي عن المنكر و إقامة الصلاة و إيتاء الزكاة، فإنّ عليها إعلان الجهاد لتطهير الأرض من لوث الشرك و الزندقة و الكفر، و إنارتها بنور الإسلام.
حَتَّى جاءَ الْحَقُّ وَ ظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَ هُمْ كارِهُونَ.۱
النهضة الجزائريّة ضدّ الاستعمار الفرنسيّ الجائر كانت اتّباعاً للقرآن
هذه الآيات القرآنيّة الحيّة و الباعثة للحياة و الأمل، التي ترتعد لسماعها فرائص الاستعمار فيقوم بجميع قواه بمحاربة الإسلام، و التستّر باسم الحرّيّة للقضاء على كلّ شيء يقف أمامه وصولًا إلى الانتفاع بأتعاب المسلمين و مصادرة جهودهم، و إلى الاستعباد الجمعيّ لهم بعشرات الملايين بل مئات الملايين، فالمسلمون لا يمتلكون حلّا إلّا العودة للقرآن، فلا ينبغي لهم أن يجعلوا قراءته مقصورة على شهر رمضان، و عليهم أن يجعلوا درس القرآن و تفسيره ضمن البرامج الدراسيّة الضروريّة، بل من أهمّها و ألزمها، كما فعل سكّان الجزائر بعودتهم إلى القرآن و الدرس و البحث و العمل به، فوقفوا أمام دولة فرنسا الجائرة المتعطّشة للدماء التي فرضت عليهم لمائتي سنة الرقّ و الأسر و الاستعباد على نحوٍ أسوأ من استعباد الحيوانات، و نهبت نساءهم و أولادهم و أموالهم و تجاوزت على شخصيّتهم و ثرواتهم الطبيعيّة و جميع كيانهم و وجودهم، حيث استطاع المسلمون بعد مقاومة بطوليّة دامت سنين عديدة، و جهادٍ مُضنٍ لملايين، و تحمّل لأشد المحن و الآلام و المصائب أن ينجوا في شرف العمل بالقرآن من مخالب عدوّهم المسمومة.
و لقد اعتبرت فرنسا مسلمي الجزائر ملكاً مطلقاً لها، و عدّت أرض
الجزائر جزءاً من ترابها، و اعتبرت مسألة خروجها من الجزائر في عداد المستحيلات، و ساندتها الدول الحليفة لها، فلم يُصْغِ أحد لآهات الضحايا الحَرَّي و أنينهم المصدِّع للأفئدة، و لقد أحرق اولئك الفرنسيّون القرآن، و هدموا المحراب، و قوّضوا الإيمان على رؤوس شعب الجزائر، لكنّ هذا الشعب المقاتل في سبيل الحقّ قد تمكَّن من تحرير نفسه من خلال مواظبته على الجهاد تبعاً لهداية آيات القرآن بشكلٍ صار معه عبرةً للآخرين و قدوةً لهم.
طريق العلاج الوحيد للمسلمين في العودة إلى القرآن
كتب أحد المعاصرين المطّلعين:
لقد بدأت طلائع اليقظة و النهضة التحرّرية ضدّ الاستعمار في شمال أفريقيا يوم جاء محمّد عبده؛ و هو من أتباع نهج السيّد جمال الدين الأسد آباديّ الذي كان شعاره عودة جميع المسلمين للقرآن؛ فجمع العلماء المسلمين و دعاهم للاتّجاه إلى القرآن بدل الغرق في العلوم غير النافعة، و الإفراط في التدقيق الذهنيّ في التفاصيل و الجزئيّات بلا جدوى ...۱
... و منذ ذلك الوقت، فقد بدأ القرآن يستعيد دوره في المجتمع من جديد، فيدرّس في حوزات الدرس، و راج الاهتمام بتحقيق و تفسير
القرآن بين علماء الدين، و بمسائل الإسلام في جلسات المثقّفين و المجاهدين، و انتشر تعليم القرآن حتى في حلقات الدرس في الأرياف بصورة برنامج حيويّ و أساسيّ هامّ، و كان من نتائج ذلك أن ...
و يضيف أيضاً: لقد بسط الجنرال أرغو و الجنرال سالان سلطة الاستعمار الفرنسيّ المعادي للإنسانيّة على جميع الجزائر و مراكش و موريتانيا، فأذلّا به تلك البلاد، و نهبا ثروتها و عزّتها و ثقافتها، و كان الجنرال سوستيل يخرج مع ابنه إلى غابات طلمسن لاصطياد العرب، من أجل تعليم ابنه الصيد و إطلاق النار، فيكتب لزوجته في باريس .... كلّنا بخير، أنا بخير، و كلبي بخير، و تابعي العربيّ بخير ... لكنّ القرآن الذي عاد من شُرفة التقديس إلى مسند التعليم و الفكر قد علّمهم أنّ طريق الفلاح في الآخرة هو الاستقامة في الدنيا، و أنّ الإسلام هو الطريق المؤدّي إلى الجنّة ...
و هذه العلوم جميعها علّمها القرآن للناس فأيقظهم ... و قد دام ذلك حتى استطاع بواسطته جمعٌ من المثقّفين المتعصّبين الجامدين العودة إلى الإسلام و النجاة من التقليد الأعمى للغرب و التأثّر به، و عاد إلى الإسلام حتى عمر اوزغان المفكّر الماركسيّ المشهور و الأمين السابق للحزب الشيوعيّ، الذي جاء طوع إرادته في أفريقيا فالتحق بركب الإسلام، و كتب أثره الكبير. «Lemeilleur Comba» (=أفضل الجهاد)، الذي اقتبسه من بداية الحديث المشهور للنبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم: أفْضَلُ الجِهَادِ كَلِمَةُ حَقٍّ عِنْدَ إمَامٍ جَائِرٍ.
و يكتب رجلٌ مثل هنري آلِغ رئيس تحرير «جريدة الجمهوريّة الجزائريّة» الناطقة بلسان الحزب الشيوعيّ الجزائريّ، و كان فرنسيّ الأصل انتمي إلى صفوف مجاهدي الإسلام على رغم تعاليم الحزب، يكتب في
السجن أن.
أكتبُ في حال يُرثى لها من التعذيب المهول الذي لاقيتُه ... إنّهم هنا يقذفون كلّ ساعة مجاهداً من غرف أحد الطوابق إلى ساحة السجن، و اشاهد بامّ عيني أنّهم، مع التعذيب الفظيع الطويل الذي تبدو آثاره عليهم، كانوا يتمتمون، بأفواه داميةٍ محطّمة، بكلماتٍ غير مفهومة من دعاءٍ مشهور.۱
و لم أكن لأعي معنى هذه الكلمات التي يلفظونها، لكنّ ما أعرفه أنّ الشيء الوحيد الذي أعتقد به الآن من بين جميع المذاهب و الإيديولوجيّات العالميّة هي تلك الكلمات غير المفهومة ...
و هذا هو عين ما قاله الجنرال سوستيل، الذي كان كالذئب الوحشيّ للاستعمار الفرنسيّ في أفريقيا، فقد قال:
ليس القرآن كتاباً مذهبيّاً و دينيّاً، بل كتاب ضدّ الدين و المذهب، فهو بدلًا من الدعوة للتقوى و العبادة و الصلح و العفو و التفكّر في الله و الموت و الروح و أسرار ما وراء الطبيعة و فلسفة الحياة و المصير النهائيّ للإنسان، فهو يدعو العرب إلى الحرب و النصر و الانتقام و التمرّد و السيطرة على العالم و أخذ الغنائم و ...
و ليس من كتابٍ كالقرآن بإمكانه تحريك الفئات الفقيرة التعسة و تحريضهم على الشغب، و التأثير بكلماته السحريّة و الموسيقيّة المهيّجة على العقد و الخصومات و إثارة مشاعر الغرور و الحقد و الغليان السياسيّ ... انتهى نقل هذه المقولة.
يقول كندي - الرئيس الأمريكيّ السابق - في خطابه المفصّل في مجلس الشيوخ بتأريخ ٢ تمّوز ۱٩٥۷ م، ضمن هجومه على فرنسا بشأن سياستها في الجزائر.
إن التعرّف على الشخصيّة الوطنيّة تبدأ عادة بشرارة لا يمكن لأمطار القمع إخمادها، خاصّة إذا حدث هذا الحريق في منطقة تتمتّع جميعها بميراث الإسلام و تعاليمه.
و كان كندي كذلك يُبدي أسفه في أحد خطبه من السياسة الخارجيّة لأمريكا في دعمها للحكومات التي تنفر منها شعوبها و تكرهها، فيقول:
بدلًا من قيامنا بإسناد الشعوب و الوقوف إلى جانبها، فقد دعمنا الأنظمة، و لعلّنا قد ربطنا بهذا العمل مستقبلنا مع مصير الدول و الحكّام الذين لا شعبيّة لهم و المعرّضين للسقوط في كلّ لحظة ...
و لقد كانت الأشلاء و الأوصال المتناثرة لنوري السعيد رئيس الوزراء العراقيّ الأسبق - الذي عُلِّقَ على أحد أعمدة الكهرباء في تمّوز سنة ۱٩٥۸ م في بغداد - مظهر المحنة التي أصابت سياستنا في العراق.۱
سيطرة الاوروبّيّين على العالم بعد اكتشاف كريستوف كولومبس
و ينبغي العلم أنّ سبب ضعف المسلمين و سيطرة الكفّار عليهم يُعزي لعاملَين، و قد أدّى ترك العمل بالقرآن إلى إلحاق هذين العاملين الهزيمة الظاهريّة بالمسلمين.
العامل الأوّل: تسابق الاوروبّيّين في السيطرة على بلاد العالم بعد حركة كريستوف كولومبوس و اكتشاف قارّة أمريكا التي أدّت إلى توسّلهم
بالقوّة البحريّة لشنّ الحروب الدمويّة ضدّ المسلمين و بسط سيطرتهم و نفوذهم عليهم.
فقد تحرّك كريستوف كولومبوس في مجموعة من غرب إسبانيا المطلّة على المحيط في طريقهم إلى الهند لاكتشاف طريقٍ جديد و قريب لإسبانيا يمرّ خلال البحار و المحيطات، لكنّهم لم يصلوا إلى الهند، بل اكتشفوا الساحل الشرقيّ لأمريكا الجنوبيّة، ثمّ فتحوا أمريكا الجنوبيّة بمساعدة دولة إسبانيا، ثمّ وصلوا بعد ذلك عن طريق جنوب أمريكا الجنوبيّة إلى السواحل الغربيّة لأمريكا و اتّجهوا إلى غرب المحيط الكبير فوصلوا إلى جزائر جنوب شرقي آسيا التي تدعى إندونيسيا، و فازوا بامتيازات هامّة، ثمّ و اصلوا الطريق لفتح الهند.
و قد عمل الإسبان و البرتغاليون بعد اكتشاف أمريكا على السكنى في الساحل الغربيّ لأمريكا المركزيّة و الجنوبيّة و جزر آنتيل و في بعض المناطق الداخليّة. لتلك النواحي، فأبعدوا تدريجيّاً سكّانها الأصليّين و اتّخذوا منازل اولئك و مساكنهم البدائيّة مستعمرةً لهم.
و قد طبّق البرتغاليون عين هذا الاسلوب في بعض جزر الخليج الفارسيّ و سواحل الهند و جزر الهند الشرقيّة، فقد سيطروا في الساحل الجنوبيّ لإيران على منطقة تدعى اليوم بندر عبّاس، و أسّسوا بندر البرتغال (بورتو كيش)، ثمّ بسطوا نفوذهم و حكمهم من خلال هذا الميناء على جميع سواحل الخليج الفارسيّ، حتى أعدّ شاه عبّاس الكبير في زمن الدولة الصفويّة بتحريك من الإنجليز جيشاً مجهّزاً و استعاد هذه المنطقة التي اشتهرت بعد ذلك باسم بندر عبّاس، و التي تمكّن الإنجليز عن طريقها من التوجّه بعد هذه الفتوحات إلى القارّة الجنوبيّة لخطّ الاستواء، باسطين حكمهم على الجزر و النقاط الهامّة الاستراتيجيّة التي في طريقهم، فصاروا
أصحاب الأمر و النهي على إمارات الخليج و حكموا الكويت، قطر، البحرين، دُبَي و عُمان.
و قد تابع الهولنديّون البرتغاليّين في مجال السفر البحريّ و السيطرة على المستعمرات، فقاموا بإخضاع أفريقيا الجنوبيّة و استراليا و جزر جاوة و سومطرة.
ثمّ وصلت النوبة هذه المرّة بعد الإسبان و البرتغاليّين إلى الإنجليز و الفرنسيّين، فقام الفرنسيّون في البداية بضمّ القسم الأعظم من الهند و أمريكا الشماليّة إليهم و جعلوهما مستعمرةً لهم، و قد ظهرت بينهم و بين الإنجليز منافسة شديدة، لأن الإنجليز كانوا يطمعون هم أيضاً في السيطرة على هذه المناطق، و انجرّت المنافسة إلى حرب تفوّق فيها الإنجليز فأخرجوا معظم القوّات الفرنسيّة من الهند و كندا و استقرّت قوّاتهم في هاتين المنطقتَين الغنيّتَين بالذهب.
و قد فقدت المستعمرات الإنجليزيّة في القرن الثامن عشر سعتها و امتدادها بسبب قيام مجموعة من المهاجرين الإنجليز الذين استوطنوا في السواحل الشرقيّة لأمريكا الشماليّة بالتمرّد، فقد أعلن هؤلاء استقلالهم و انفصلوا عن دولة الإنجليز و شكّلوا دولة كانت النواة لنشوء الولايات المتّحدة الحاليّة في أمريكا الشماليّة، و في الحقيقة فإنّ أمريكا الشماليّة لم تكن إلّا قسماً و كياناً انتقل من اوروبّا إلى هناك.
ثمّ ظهرت حالات انفصاليّة و استقلاليّة مشابهة في نواحٍ اخرى مثل كندا و استراليا و نيوزيلاندا و أفريقيا الجنوبيّة.
أمّا الفرنسيّون فقد قاموا بتنظيم قوافل تحت إشراف دولتهم، و اندفعوا لفتح ممالك جنوب خطّ الاستواء في الجزء الساحليّ من أراضي أفريقيا الجنوبيّة، فوصلوا أوّلًا إلى الساحل الجنوبيّ لأفريقيا، ثمّ عبروا
الرأس الأبيض، أو رأس الرجاء و اتّجهوا صوب الشمال و الشرق.
ثمّ إنّ البرتغاليّين في سفرهم إلى أجزاء من السواحل الغربيّة لأفريقيا، ثمّ إلى نواحي شرق أفريقيا (موزامبيق)، و منها إلى السواحل الغربيّة للهند، سيطروا على الجزء الغربيّ للهند، و بنوا في بعض تلك المناطق قلاعاً حصينة لجمع الأمتعة التجاريّة و لإسكان رعايا البرتغال فيها.
و قد استولى الفرنسيّون في سباق الفتوحات البحريّة على جزيرة مدغشقر و جعلوها محلّ جمع الأموال و الأطعمة ليتحرّ كوا منها نحو فتح الهند.
و تقارن مع هذا السباق أن تحرّكت دول إنجلترا و ألمانيا و هولندا في هذا الطريق، فسيطروا أوّلًا عن طريق جنوب أفريقيا على قسم منها، ثمّ اندفعوا في هجومهم إلى جنوب شرقيّ أفريقيا و منها إلى وسط القارّة، ثمّ شمالًا باتّجاه ممالك موزامبيق و شمالها، و بسطت ألمانيا سلطتها على الساحل الغربيّ لأفريقيا الجنوبيّة (ناميبيا).
و في نفس الوقت فقد شاءت دولة بلجيكا أن لا تتخلّف عن القافلة، فشكّلت قوافل بحريّة و وصلت إلى الساحل الغربيّ لأفريقيا عند خطّ الاستواء، ثمّ اندفعت من هناك داخل قارّة أفريقيا متّجهة شمال و جنوب خطّ الاستواء و سيطرت على منطقة باسم حكوفينزويلا.
أمّا الهولنديّون، فقد وصلوا عن طريق البحر إلى سواحل الهند و جزر جنوب شرقي آسيا و أسّسوا هناك حكومة تابعة لهولندا، ثمّ تمكّن الفرنسيّون في هذا النزاع و الصراع أن يصلوا إلى الهند الصينيّة و أسّسوا حكومة هناك باسم (أنام).
و قد سيطر الإنجليز في هذا الصراع أوّلًا عن طريق بومبي على قسم
صغير من الساحل الغربيّ للهند، و نفذوا منه إلى داخل القارّة الهنديّة و وصلوا إلى أواسط الهند، ثمّ وصلوا عن طريق البحر إلى ساحل كلكتا و سيطروا على مقاطعة بورما و سيام، و تابعوا فتوحاتهم حتى وصلوا حدود الصين و مملكة التبت.
ثمّ إنّ الإنجليز توجّهوا بعد بسط سلطتهم على إمارات الخليج الفارسيّ إلى جنوب شرق خطّ الاستواء، فسيطروا على جزيرة كاليدونيا و بوزه الجنوبيّة و شبه جزر الهند الصينيّة و بعض جزر إندونيسيا و هانيدي، ثمّ اندفعوا لفتح استراليا. و كان من نتائج هذه التحرّكات كشف و استعمار القارّة الخامسة التي اختصّ كلّ جزء منها بمجموعة من القوافل الاوروبّيّة الفاتحة، ثمّ شُكّلت - باتّفاق هذه المجموعات - دولة استراليا المستقلّة التي انشغلت بتطوير الزراعة و تربية الدواجن و خاصّة الأغنام، ثم بأمر تجارة المنتجات الحيوانيّة.
علل ضعف المسلمين ناشئ من ضعف العمل بالقرآن
العامل الثاني لضعف المسلمين: في زمن ضعف دولة بني العبّاس في الأندلس (إسبانيا) قُدّم طلب إلى حكومة المسلمين المحليّة هناك لبناء مستشفى لتقديم خدمات إنسانيّة في عدّة مدن إسبانيّة تتحمّل الجماعات المسيحيّة هناك نفقات بنائها، و قد نفّذ هذا الأمر الذي كان يمثّل ظاهراً علاج المرضى و شفاءهم شروعاً من المسيحيّين أنفسهم، ثمّ امتدّت خدماتهم بمرور الزمن فصارت تقدّم لجميع الناس المسيحيّين منهم و المسلمين؛ لكنّه كان في الباطن محلّا لإشاعة شرب الخمور و الرقص و ممارسة الجنس و غيرها، اجتذب إليه بمرور الوقت جمعاً من الشبّان المسلمين فتياناً و فتيات فصاروا يتمرّدون على القيود الإسلاميّة و يرتبطون بجماعة الأساقفة المستعمرين.
و ظهرت في تلك الفترة دول إسلاميّة صغيرة في مقاطعات إسبانيا
و مراكش و شمال أفريقيا، ثمّ وقعت الحروب الصليبيّة التي اجتاحت لقرنين و نصف بلاد المسلمين عن طريق البحر و البرّ و انتهت أخيراً بالهزيمة على يد صلاح الدين الأيّوبيّ، لكنّ هذا القائد الإسلاميّ قام - مقابل هذا الفتح و الظفر على المسيحيّين المتعطّشين للدماء - بإنهاء الحكومة الإسلاميّة الشيعيّة في مصر و شمال أفريقيا، فتأسّست بدلها حكومة سنّيّة شافعيّة، مالكيّة، ثمّ حنفيّة، و كان التشديد على الشيعة و القتل العامّ لتسعين ألف نفر من شيعة مدينة حلب في يومٍ واحد من أعمال صلاح الدين الأيّوبيّ.
الحروب الصليبيّة و الإبادة الجماعيّة للمسلمين في الأندلس
و كان تشجيع الاوروبّيّين على فتح البلاد الإسلاميّة من الامور المؤثِّرة في اوروبّا، فقد كان الهجوم على الدولة الإسلاميّة في الأندلس (إسبانيا) و محاربتها، و القضاء على الدول الإسلاميّة الصغيرة في تلك الأنحاء، و إخراج المسلمين و القتل العامّ لهم في الأندلس من المسائل المحيّرة في التأريخ و الحاكية عن الحدّ الأعلى لقسوة المسيحيّين و همجيّتهم.
فحين سيطر المسيحيّون على إسبانيا ظهرت هناك وجهتا نظر:
اولاهما و هي للقساوسة، تقول بوجوب قتل المسلمين جميعاً، الرجل و المرأة، الصغير و الكبير حتى الأطفال القادمين حديثاً. أمّا وجهة النظر الثانية و هي للمسيحيّين العاديّين و العوامّ، فكانت تقول بوجوب إخراجهم جميعاً من إسبانيا. و قد عمد فيليب الثاني - الحاكم آنذاك - جمعاً لكِلا القولين إلى إصدار شروط للخروج في سنة ۱٦۱۰ م على أن يُخرج من إسبانيا من توفّرت فيه تلك الشروط، و يُقتل من لم تتوفّر فيه، و في النتيجة فقد قُتل ثلاثة أرباع جمع المسلمين هناك و أخرج الربع الباقي فقط.
و لقد سقطت إسبانيا بجلالها و عظمتها و مدنيّتها إثر فقدان المسلمين و سكنْ النصارى فيها، إلى درجة هدّمت معها المكتبات و المساجد و لم يعد
يوجد فيها الأطبّاء و الجرّاحون المهرة، و صارت المدينة قذرة للدرجة التي صار معها الناس يلقون نفاياتهم في الشوارع و الأزقّة و يجلسون عليها للتغوّط.۱
و كان لتشجيع دولة فرنسا و سيطرة نابليون على مصر٢ ثمّ على ولايات ليبيا، تونس، الجزائر و مراكش، و نهوض شعوب اوروبّا من أجل تشكيل دول مستقلّة، و الذي كانت نتيجته تأسيس دول بروسيا الشرقيّة،
و الغربيّة أو ألمانيا العظمى، دولة إيطاليا، و اتّفاق هذه الدول على استعادة المقاطعات التي تسلّطت عليها الدولة العثمانيّة في حملاتها عليها ابتداءً من منطقة آسيا الصغرى إلى شبه جزيرة ممالك اليونان، صربستان، ألبانيا، بلغاريا و رومانيا - و هو ما دوّنه التأريخ باسم مسألة الشرق انتهاءً بالحرب العالميّة الاولى - كان لذلك كلّه سهم وافر في إضعاف المسلمين.
و قد جرى بعد عقد الصلح في خاتمة الحرب العالميّة الاولى تقسيم الدول التي كانت خاضعة للدولة العثمانيّة بين الدول المنتصرة في الحرب، و سمّيت الدول المنتصرة في الحرب بالحلفاء و الدول المنهزمة بالمحور.۱
ففي قارّة آسيا صارت سوريا مستعمرة لفرنسا، و صار العراق و شبه الجزيرة العربيّة في نجد و الحجاز و اليمن و عدن و حضر موت و عُمان و إمارات جنوب الخليج و البحرين من حصّة الاستعمار الإنجليزيّ.
أمّا في أفريقيا فقد آل أمر مصر و السودان إلى الاستعمار الإنجليزيّ، في حين اعطيت ولايات طرابلس الغرب وليبيا إلى إيطاليا، و صارت ولايات تونس و الجزائر و مراكش خاضعة للاستعمار الفرنسيّ.
و من الحريّ بالقول أنّ السبب لبداية الحرب العالميّة الاولى كان هو استيلاء دولة النمسا حين تأسيسها على مناطق من أطراف مدينة فيينا و تشكيل دول هنغاريا و صربستان و ألبانيا في شمال اوروبّا و دولة الإمبراطوريّة الروسيّة القيصريّة التي تضمّ شمال شرقيّ اوروبّا و شمال
آسيا.
و قد قامت الدولة الإمبراطوريّة الروسيّة بمنافسة دول ألمانيا و إنجلترا و فرنسا على توسيع رقعة أرضها، فحاربت نتيجة لذلك دولة إيران و أخضعت ثمان عشرة ولاية و مدينة في القفقاس و ولايات تركستان تحت نفوذها. و قد اشتدّت المنافسة على توسيع رقعة النفوذ في إيران بين دولة الروس من جهة و بين الحكومة الإنجليزيّة و العثمانيّة من جهة اخرى.
و في هذه الأجواء، فقد اغتيل وليّ عهد النمسا بتحريك من دولة أجنبيّة، فقامت النمسا بإعلان الحرب على دولة الصرب انتقاماً له، و هكذا فقد انحازت بعض الدول الأجنبيّة إلى النمسا و قامت بمساعدتها، بينما انضمّ البعض الآخر إلى صفّ الصرب، فكانت الدولة العثمانيّة و ألمانيا منحازة إلى النمسا، في حين قامت إنجلترا و فرنسا و روسيا القيصريّة بإعلان الحرب منضمّة إلى صفّ صربستان.
و قد قامت هاتان المجموعتان و التي دُعيت اولاهما باسم المحور و الثانية باسم الحلفاء بمحاربة مخالفيهم من الطرف الآخر في أطراف الكرة الأرضيّة، و بهذه الكيفيّة وقعت الحرب العالميّة الاولى بين دول العالم و أدّت إلى انقراض الإمبراطوريّة العثمانيّة.
و قد قامت إيطاليا بمساعدة صربستان و إنجلترا و فرنسا، و قامت باستعراض قوّتها أثناء الحرب فاستولت على ليبيا و الصومال في القرن الأفريقيّ و على قسم من أرض الحبشة.
و حدث أن احتاجت جبهة الحلفاء إلى مساعدات ماليّة لإدارة امور الحرب خلال الحرب العالميّة، فمدّت يد الاستجداء إلى أمريكا الظالمة التي جلست تنتظر و تراقب الوضع عن كثب، و كان المبادر إلى هذا العمل دولة إنجلترا، و كان ذلك بالطبع بتأييد من الفرنسيّين، فقدّمت أمريكا
المساعدات الماليّة لهم مقابل حصولها على امتيازات في الممالك المفتوحة التي ستصير من حصّة الدول المنتصرة، و بقبول دول الحلفاء للشرط الأمريكيّ فقد دخلت أمريكا كطرف في الحرب.۱
و كان للسفن الحربيّة لهذه الدول أدوار و مبادرات مدهشة، و خاصّة للسفينة الألمانيّة عروس الدنيا التي قامت بقطع خطوط التموين بين دول إنجلترا و فرنسا و حلفائهما في المحيط الأطلسيّ و الهندي و الهادئ، و كانت جبهة المحور من الدولة العثمانيّة و ألمانيا على مشارف الفتح و النصر حين
اكتشف السلاح الجديد. الطائرات، و هرع لمساعدة الحلفاء.
غلبة الإنجليز على العراق في الحرب العالميّة كان ناشئاً من الارتشاء
جهاد العلماء و الشعب ضدّ الهجوم الإنجليزيّ
و في هذه الأثناء فقد قام الجيش الهنديّ الخاضع للاستعمار الإنجليزيّ بمهاجمة أراضي الدولة العثمانيّة، فطلبت الدولة العثمانيّة من علماء دولة إيران و جماعة العلماء المقيمين في العراق، و كذلك من رجال الدين القاطنين في سوريا و الحجاز و مصر المساعدة على الوقوف بوجهالإنجليز.
و عليه، فقد صدر أمر الجهاد المقدّس للدفاع عن حريم الإسلام و صيانة الأعراض، و قام العلماء المسلمون الساكنون في العتبات المقدّسة بالتحرّك مع الناس بأنفسهم أو بإرسال أولادهم، فتحركوا من النجف الأشرف و كربلاء المقدّسة و من بغداد، و كانوا يسلّمون كلّ شخص سلاحاً و مبلغاً من المال لتغطية نفقاته الشخصيّة، و تحرّكوا باتّجاه كوت العمارة لمواجهة العدوّ الإنجليزيّ في جبهة خرّمشهر. (المحمّرة) و منطقة القرنة باتّجاه العزير و الفردوسيّة و الجزر الواقعة في هور الحمّار، و خاصّة القسم الواقع بين نهرَي دجلة و الفرات. و بقيت هذه القوات مدّة سنة تقريباً في هذه المنطقة تمنع و رود القوّات الإنجليزيّة. ثمّ بدأ أخيراً الهجوم الإنجليزيّ على الفاو، ثمّ على مدينة البصرة.
و في هذه المواجهة وصلت القوّات الإسلاميّة إلى مشارف الظفر و النصر على العدوّ، فقام جماعة من الخونة، بواسطة إعطاء الرشوة، بالحصول على الأسرار و المعلومات اللازمة و سلّموها إلى رؤساء الإنجليز. و وصل الأمر بشيوخ العشائر الذين كانوا يتحرّكون من ناحية سوق الشيوخ في جيش كبير تحت قيادة و إشراف العالِم المجاهد الشهير آية الله السيّد محمّد سعيد الحبّوبيّ و علماء آخرين من بينهم آية الله الحاجّ السيّد محسن الحكيم متّجهين إلى منطقة الشعيبة، و كان هناك من جهة اخرى
جيش آخر مأمور بالدفاع المقدّس بقيادة سليمان العسكريّ من طرف الدولة العثمانيّة آنذاك؛ وصل الأمر بهؤلاء إلى الإيعاز لعشائرهم الحاضرة في تلك المنطقة فنكّست عَلَمها الحربيّ المنصوب على الرمح - و الحرب لم تبدأ بعدُ - و انسحبت من ساحة القتال!
و قد أدّى ذلك إلى أن يسقط المرحوم آية الله السيّد محمّد سعيد الحبّوبيّ۱ مريضاً بالسلّ من الغصّة و الحسرة و الألم، فحُمل إلى النجف الأشرف في علّته، و فارقت روحه الطاهرة الدنيا و حلّقت إلى أعلى علِّيِّين، عَلَيْهِ الرَّحَمَاتُ الوَفِيرَةُ مِنَ اللهِ العَلِيِّ القَدِيرِ المَنَّانِ الرَّؤُوفِ بِعِبَادِهِ.
كما قام سليمان العسكريّ - قائد الجيش العثمانيّ - جرّاء خيانة العرب بالانتحار، فوضع خاتمة حياته بيده.
و ينبغي العِلم أنّ سلاح المدفعيّة العثمانيّة كان ذا مدى قصير، و كانت قنابل مدفعيّة الجيش العثمانيّ تبرد و تسقط و لمّا تصل بعدُ إلى مواضع العدوّ، في حين كانت المدفعيّة البريطانيّة ذات مدى بعيد، فكانت قنابلهم تنهال في المعركة على مؤخّرة الخطوط الاولى و تصل إلى مؤخّرة ساحة القتال، و كان ذلك من الميزات المهمّة التي تميّز بها الجيش المهاجم. و في النتيجة، فقد اجبر جيش المجاهدين الوطنيّ خلال نصف يوم فقط على تخلية خنادقهم و الفرار.
و قد قام الجيش الإنجليزيّ أوّلًا بمهاجمة و إسقاط الجناح الأيمن في
منطقة الفلاحيّة - قرب خرّمشهر - و التي كانت تحت إشراف المرحوم آية الله السيّد محمّد ابن المرحوم آية الله السيّد محمّد كاظم الطباطبائيّ اليزديّ، ثمّ اتّجه إلى الشعيبة، و قام عن طريق إعطاء الرشاوي و القيام بحرب مختصرة بهزيمة الجيش هناك، ثمّ تحرّك صوب سوق الشيوخ و الناصريّة، و قام باحتلال مدينة الناصريّة بعدّة سفن حربيّة صغيرة.
و بعد الانتهاء و الفراغ من هاتين الجبهتين، فقد سقطت خلال نصف يوم النقاط الاستراتيجيّة المهمّة في هور الحمّار و من ضمنها جزيرة عَرار و أبوعَران التي كان يدافع عنها مائة نفر من الجيش العثمانيّ و حوالي مائة نفر من المجاهدين الوطنيّين، فقد بدأ الهجوم عليها عند الفجر و دامت المعركة إلى ساعةٍ بعد الظهر.
و كان المرحوم آية الله الحاجّ السيّد أحمد الخوانساريّ و آية الله آقا ميرزا علي مجاهد قمشهاي و ابن خالته. آية الله آقا ميرزا محمّد حسين قمشهاي، و الاستاذ أبوالحسن الشوشتريّ (المسؤول الأخصّائيّ و مهندس إدارة الماء و الكهرباء في النجف و الكوفة الذي ذهب أخيراً ليقوم بمهمّة توسعة حرم و صحن و مرقد السيّدة زينب سلام الله عليها) مع شخصَين آخرَين يدافعون في خندق صغير في مؤخّرة الخنادق، و كان هذا الجزء هو نقطة الدفاع الأخيرة في هذه الجزيرة، و قد قام الجيش العثمانيّ بعد هزيمته في هذه الجزيرة بالانسحاب رأساً باتّجاه كُوت العِمارة (الإمارة)، و انسحب الناس و العلماء المجاهدون. الآيات العظام. الحاجّ الشيخ فتح الله شريعت الأصفهانيّ الغازيّ، و المرحوم السيّد عبدالحسين حجّت، و السيّد مهدي الحيدريّ الكاظميّ و العلماء الآخرون الذين رافقوهم، و قاموا عن طريق الشيوخ المحلّيّين بالركوب في قوارب صغيرة أوصلتهم إلى حيّ عِفَك السماوة، ثمّ وصلوا إلى النجف الأشرف و الكاظميّة و كربلاء، بينما استقرّ
الإنجليز في مدينتَي الناصريّة و العمارة.
و دامت الحرب مع الإنجليز سنتَين، حيث تحرّك هؤلاء باتّجاه كوت العمارة بقيادة الجنرال طاوزند، و كانوا لم يستقرّوا فيها بعد حين وصل الجيش العثمانيّ القادم من بغداد إلى مدينة الكوت، و كان يتمتّع بمعنويّات عالية، فقام بمحاصرة الجيش الإنجليزيّ لمدّة ستّة أشهر حتى اضطره إلى التسليم بعد انتهاء مؤنهم، و كان عدد الجيش الإنجليزيّ المستسلم اثني عشر ألف جنديّ.
و بعد هذه الواقعة أرسل الإنجليز مجدّداً جيشاً آخر بقيادة الجنرال مود فاستولى أوّلًا على مدينة الكوت، ثمّ توجّه إلى بغداد فسيطر عليها، و استمرّ في مطاردة الجيش العثمانيّ إلى مدينة سامرّاء و تكريت.
ثمّ قامت الدولة العثمانيّة بعد ذلك بإخلاء منطقة تكريت و الموصل و أطراف هذه المناطق طولًا و عرضاً و تراجعت عنها بدون حرب، فاستغلّ الإنجليز خلوّ الميدان و تابعوا تقدّمهم إلى منطقة ديار بكر و الحدود الفعليّة لدولة تركيا، فاحتلّت المنطقة النفطيّة بلا حرب.
و بدأ بعد هذا التأريخ فصل جديد في الاستعمار عُرِف بعنوان: العراق تحت استعمار و سيطرة الإنجليز، إلّا أنّ ذلك العنوان زال بعد ثورة الرميثة، الديوانيّة، الحلّة، ديالي، الرمادي و النجف الأشرف، و جرى منح الاستقلال للعراق.
و يلزم ذكر أنّ بقايا الجيش العثمانيّ المنسحب قد توجّهت إلى إيران و وصلت إلى حدود همدان، فعمد الإنجليز إلى تحريك القطعات العسكريّة الاحتياطيّة باتّجاه إيران خلف الجيش العثماني حتى وصلوا إلى حدود گيلان و غابات مازندران و لاهيجان.
و في هذه الأثناء حدثت حوادث التمرّد و الثورة داخل الإمبراطوريّة
الروسيّة، فاسر الإمبراطور الروسيّ القيصر بِيَدِ المتمرّدين في حالٍ يُرثى لها، ثمّ قُتِل مع أفراد عائلته بصورة فجيعة، و اسّست من ثَمَّ حكومات بلشفيّة و اشتراكيّة في أرجاء المملكة الواسعة. و لم يمضِ وقت طويل حتى نشبت المنازعات و الحروب بين هذه الحكومات حول مبدأ و اسلوب الحكم، و أعقب ذلك غلبة لينين و سيطرته على جميع أرجاء الدولة، فأخضعها لنظام بلشفيّ واحد.
و كانت ثورة الشعب العراقيّ قد تقارنت مع هذه الأوضاع، حيث قاموا بهزيمة الجيش الإنجليزيّ الفاتح في عدّة معارك مهمّة. الرُّمَيثة، الرارنجيّة، الرمادي و ديالي، ممّا أجبر الإنجليز إلى إعادة قادة جيوشهم من إيران إلى العراق لضمان السيطرة على العراق مجدّداً، و أعطوا و عود الاستقلال الوطنيّ طبق رغبة الشعب العراقيّ.
و قد قام مرجع تقليد الشيعة: آية الله الميرزا محمّد تقي الشيرازيّ المتوفّى سنة ۱٣٣۸ هجريّة قمريّة بإعلان الجهاد على الإنجليز، فاطيع أمره و اشتعلت ثورة عامّة ضدّ الاستعمار الإنجليزيّ في مناطق العراق المختلفة، و من بينها النجف الأشرف و كربلاء، و قد عجز الإنجليز عن إخماد هذه الثورة بقوّة السلاح، فاجبروا مُكرهين على منح العراق الاستقلال و قاموا بإمضاء حكم الاستقلال.۱
و قد وقع هنا خبط و اشتباه، فلم يجر في تعيين الرئيس رعاية الدقّة
اللازمة، فبالرغم من أنّ الشيعة يشكّلون ثلاثة أرباع، بل أربعة أخماس مجموع السكّان، إلّا أنّ المسألة انتهت لصالح السُنّة و بضرر الشيعة، فقد كانت أنظار أهل الكفر تتوجّه صوب أهل السُنّة الذين كانوا أسهل في التعامل معهم. و لقد حكم الإنجليز العراق بواسطة هؤلاء الحكّام السُنّة طيلة خمس و عشرين سنة عن طريق حكومة استشاريّة برئاسة الملك فيصل الأوّل و الملك غازي بن فيصل و الملك فيصل الثاني ابن الملك غازي، حتى سقوط الحكم الملكيّ في ثورة قادها عبدالكريم قاسم الذي أعلن فيها قيام الحكم الجمهوريّ بدل الحكم الملكيّ.
و طيلة السنتين اللتين حكم فيهما عبدالكريم قاسم حدث تزلزل مشهود في كثير من الأحكام الإسلاميّة، من ضمنها مسألة حقوق إرث الأب (حيث صارت حصّة المرأة في الإرث مساوية لحصّة الرجل).
و لم يدم الأمر طويلًا حتى نشب الاختلاف بين أعوان عبدالكريم قاسم، فقام أحدهم و اسمه عبدالسلام محمّد عارف بانقلاب على عبدالكريم و هجم على بغداد و وزارة الدفاع، فاعتقلوه بينما كان يساهم في الدفاع مع المدافعين و قتلوه شرّ قتلة.
و كان في نيّة عبدالسلام محمّد عارف إعلان حكومة لا دينيّة و لا مذهبيّة حين احترقت طائرته فجأة خلال سفره إلى مدينة البصرة لبحث امورها الداخليّة، بينما كان يحلّق في موكب يضمّ ثلاث طائرات (أو ثلاث هليكوبترات) متّجهاً إلى منطقة صناعيّة في الهارثة، و هوت طائرته المحترقة في منطقة نائية و لم توفّق الطائرتان الاخريان على العثور على أثر من طائرته.
و أخيراً جاء في اليوم التالي أحد رعاة الأغنام إلى دائرة الشرطة فأبلغ عن كيفيّة و محلّ سقوط الطائرة، و لم يشاهد المسؤولون حين وصلوا محلّ
الحادثة من بقايا الطائرة إلّا أجساداً محترقة متفحّمة.
و آلت الرئاسة بعد هذه الحادثة إلى أخيه عبدالرحمن محمّد الذي لم يحكم إلّا أقلّ من سنة واحدة، فقد وقع انقلاب عسكريّ جاء بحكومة بعثيّة إلى الحكم و اقصي عبدالرحمن مع عائلته، حيث طلب اللجوء السياسيّ من الحكومة التركيّة.
ثمّ لم تنقضِ على ذلك سنة واحدة، حتى وقع انقسام بين البعثيّين الكبار جاء بالحكومة البعثيّة الثانية التي كان منظّرها رجل نصرانيّ يُدعى ميشيل عفلق، و شكّلت حكومة لإدارة البلاد برئاسة أحمد حسن البكر.
كانت الحرب العراقيّة الظالمة لإسقاط إيران الإسلاميّة
و بعد مرور عدّة سنوات تنحّى أحمد حسن البكر عن السلطة لصالح نائبه و قريبه صدّام حسين التكريتيّ حيث بدأ بعد ذلك فصلٌ جديد في تأريخ العراق، و كانت الحكومة الثوريّة الإسلاميّة في إيران قد تأسّست حين ذاك، و كان يبدو أنّ تنحّي أحمد حسن البكر و مجيء صدّام - الذي كان مظهراً للبطش و الخبث و سفك الدماء - تمهيداً لإعلان الحرب و شنّ الهجوم الظالم على الحكومة الإسلاميّة في إيران، حيث يمرّ حتى الآن على هذه الحرب مدّة ثمان سنوات كان النصر فيها محالفاً للدولة الإسلاميّة و للمجاهدين المسلمين، و لا زالت الحرب قائمة و ستنتهي إن شاء الله بنصر الامّة الإسلاميّة الناهضة في إيران و خسارة الكفر و الزندقة و الإلحاد العالميّ.
تذييل رقم ۱: و لا ننسى القول إنّ الهيئة العلميّة للمجاهدين ضدّ القوّات الإنجليزيّة قد فكّرت بعد هزيمتها في منطقة القرنة و العمارة بتجديد قواها من جديد، فاجتمع لهذه الغاية آنذاك المرحوم حجّة الإسلام السيّد مصطفى الكاشانيّ - و كان مقيماً في الكاظميّة برفقة علماء آخرين من كربلاء، هم حجّة الإسلام السيّد محمّد علي الطباطبائيّ، و الآخوند
الملّا حسين قمشهاي، و الحاجّ الشيخ جواد الجواهريّ، و الشيخ علي مانع، و الحاجّ الشيخ إسحاق ابن آية الله الشيخ حبيب الله الرشتيّ، و الميرزا مهدي الكفائيّ، و الشيخ محمّد الحسين آل كاشف الغطاء و جمع آخر من الأعلام و رجال الدين الأفاضل في مدينة الكاظميّة - و دعوا الامّة إلى الثورة و النهوض من جديد. و كان قد وصل آنذاك إلى بغداد جيشٌ مجهّز من الحكومة المركزيّة في إسطنبول، فذهب مع العلماء لحرب طاوزند المقيم في كوت العمارة و تمكّن بعد ستّة أشهر من الحصار من فتح مدينة الكوت، و عادت هيئة العلماء من الكاظميّة إلى كربلاء و النجف الأشرف.
السياسة الإنجليزيّة في أي بلد تتمثّل في الدعوة إلى القوميّة
تذييل رقم ٢: قام الحلفاء بعد نصرهم على دول المحور بتجزئة الدولة العثمانيّة و قسّموها إلى تسع عشرة دولة صغيرة، و ساروا فيها بسياسة التفرقة في العقائد و الأخلاق و السنن التي كانت تقوي و تنفذ يوماً بعد آخر، و ذلك لمواجهة الوحدة الإسلاميّة، و دعوا الناس في هذه النقاط كلّا على انفراد إلى اتّباع السنن و الطقوس الشعبيّة في مناطقهم و ذلك من منطلق حربهم للإسلام.
فقاموا في دولة تركيا باتّباع برنامج سياسيّ ثقافيّ وسعوا في نشر هذا الفكر و تغذيته - من خلال الكتب الدراسيّة - بأنّ الامّة القديمة الأصليّة في آسيا كانت أقوام باسم حَتّ تركوا في شجاعتهم و مآثرهم دروساً لا تنسى لُامّتهم، و على أفراد الدولة أن يحفظوا أصالة قدمائهم و أجدادهم و يتّبعوا سننهم و آدابهم.۱
و في دولة سوريا كانوا يروّجون بأنّ الأقوام الأصليّين للشام و لبنان هم الآراميّون و الفينيقيّون.
و قد نشر هؤلاء الآراميّون لآداب حياتهم الخطّ و اللغة الآراميّة في أطراف آشور و جنوب لبنان. أمّا الفينيقيّون فكانوا يربّون قوماً محاربين في البحار، و كان لهم مساهمة خاصّة في تكميل حروف الهجاء.
و قد قاتل الجيش الفينيقيّ في البحر مع دولة الروم الغربيّة، و فتح سواحل تونس و شمال أفريقيا، و سيطر على مدينة و ميناء كارتاج، و كان له التقدّم في الفتوحات الساحليّة حيث أحاط بسواحل إسبانيا و البرتغال و تفرّد بالحكم هناك، حتى وصل به الأمر أن يصل إلى الساحل الجنوبيّ لجزيرة بريطانيا و يأخذ من أهليها الضرائب. فهذه الانتصارات و أعلام الفخر التي يحملها تعود جميعها إلى شعب لبنان.
و كانوا في دولة العراق يقولون: أنتم أفضل من جميع الأقوام
الاخرى، فالآشوريّون كانوا في شجاعتهم و سعيهم لتوسعة البلد و فتح المناطق الاخرى إلى الحدّ الذي كانوا يحكمون فيه على القوم الآراميّين و قسماً من إيران. كردستان و لرستان.
أمّا الأكديّون الذين سبقوا زمن الآشوريّين فقد أسّسوا في مقاطعات وسط العراق قبل غيرهم أوّل دولة في العراق. ثمّ بسط بختنصّر نفوذ دولته إلى فلسطين و دمّر مدينة القدس فقتل الرجال و أسر النساء و جاء بهنّ إلى بابل في العراق. ثمّ استولى السومريّون على دولة الأكديّين و واصلوا تقدّمهم و فتوحاتهم حتى وصلوا منطقة خوزستان و بختياري.
أمّا في دولة إيران، فمع أنّها لم تكن من أجزاء الدولة العثمانيّة المقسّمة، فقد كانوا يذكّرون بعصر جمشيد ملك فارس، و يخاطبوهم. أنّكم أفضل من غيركم و أمهر، و لقد وصلت فتوحاتكم من فارس إلى بابل و سوريا و شمال العراق، و وصلت غرب نهر النيل إلى حدود تونس، حيث شكّلت في هذه البلدان دولًا عيّن لها امراء محلّيّين يحكمونها، و هي كلّها تابعة لدولة الإمبراطوريّة الإيرانيّة. ثمّ إنّ أجدادكم قاموا بنشر القانون الأوّل لحقوق البشر و أوكلوا أمر التجارة و الزراعة في كلّ ولاية إلى القاطنين فيها، و الذين كانوا يتبعون إدارة الحكومة المركزيّة في شوش القديمة.
كما كان هؤلاء يظهرون لشعوب الحجاز و اليمن و مصر بسلسلة تأريخهم المفصّل عظمة و تفوّق قوميّتهم على جميع أفراد الدنيا و اممها، و يوحون إلى وجوب اتّباع هذه الآداب و العادات للوصول إلى الرقيّ و التقدّم.۱
إن الشرح و التفصيل سيجرّنا إلى الإطالة، فنذكر إجمالًا أنّ الاستعمار كان يبذل - كما رأينا - قصارى جهده و مساعيه لتحطيم الحكومة الإسلاميّة و تمزيق وحدتها و مركزيّتها، سواء من ناحية المكان و الأرض، أو من ناحية الأفكار و المفاهيم. ثمّ إنّ الدول الاستعماريّة نصبت على رأس كلّ واحد من هذه الدول المجزّأة الصغيرة أحد عملائها، و قاموا بالمحافظة على تسلّطهم على هذه المراحل بإدارة الامور فيها عن طريق المستشارين الأجانب الذين كانوا يرسلونهم للعمل تحت إشراف هؤلاء الرؤساء العملاء.۱
و كانت خطوتهم الاولى هي منح الحرّيّة، أي الحرّيّة في العقيدة و المذهب و الأخلاق، و التي ليست في الحقيقة إلّا الحرّيّة في السُّكْر و الرقص و أعمال الجنس و شيوع الموسيقى و ازدياد محلّات بيع الخمور و المسابح المختلطة و دور السينما المبتذلة و المُفسدة للأخلاق، و إشاعة الفساد بواسطة الجرائد و المجلّات، و التغيير الجذريّ للبرامج الثقافيّة للمدارس، شروعاً من دور الحضانة و انتهاءً بالجامعات، و صياغتها جميعاً على أساس تربية العبيد و نزع الحميّة و الغيرة الإسلاميّة، و ترويج التدخين و الإدمان على المخدّرات باختلاف أنواعها حتى لأطفال المدارس و تلاميذها، و على السخرية من العلماء و الفقهاء و العلوم الأصيلة، و الاجتناب عن العمامة و الزيّ الإسلاميّ، و كانت هذه الامور جميعاً
تنصبّ في جبهة مقابل تعاليم القرآن.۱
قَضَيْتُ شَبِيبَتِي وَ بَذَلْتُ جُهْدِي | *** | فَلَمْ تَكُنِ الحَيَاةُ كَمَا ارِيدُ |
إلى كَمْ أسْتَحِثُّ النَّفْسَ عَزْمَاً | *** | وَ كَمْ أسْعَى وَ غَيْرِي يَسْتَفِيدُ |
نَهَضْتُ فَقِيلَ أي فَتَيً فَلَمَّا | *** | خَبَرْتُ القَوْمَ أعْجَبَنِي القُعُودُ |
وَ إنِّي بَعْدُ مُجْهِدَةٌ وَ قَوْمِي | *** | كَضَارِبَةٍ وَ قَدْ بَرَدَ الحَدِيدُ |
وَحِيدٌ بَيْنَهُمْ وَ لَعَلَّ يَوْماً | *** | عَصِيباً فِيهِ يُفْتَقَدُ الوَحِيدُ |
لَنَا في الشَّرْقِ أوْطَانٌ وَلَكِنْ | *** | تَضِيقُ بِنَا كمَا ضَاقَتْ لُحُودُ |
نُقِيمُ بِهَا عَلَى ذُلٍّ وَ فَقْرٍ | *** | وَ نَظْماً لَا يَسُوغُ لَنَا الوُرُودُ |
أكَاذِيبُ السِّيَاسَةِ بَيِّنَاتٍ | *** | تَكِيدُ بِهَا الحُكُومَةُ مَا تَكِيدُ |
وَعُودٌ كُلَّهَا كِذْبٌ وَ زُورٌ | *** | فَكَمْ وَ إلى مَ تَخْدَعُنَا الوُعُودُ |
إذَا مَا المُلْكُ شِيدَ عَلَى خِدَاعٍ | *** | فَلَا يَبقَى الخِدَاعُ وَ لَا المَشِيدُ |
وَ مَنْ لَمْ يَتَّخِذْ مُلْكاً صَحِيحاً | *** | فَلَا تُغْنِي الجُيُوشُ وَلَا البُنُودُ |
كَمْ نَكْبَةٍ تُحَطِّمُ الإسْلَامَ وَ العَرَب | *** | وَ الإنْجِلِيزُ أصْلُهَا فَتِّشْ تَجِدْهُمُ السَّبَبْ |
بَلْ كُلُّ مَا في الأرْضِ مِنْ وَيْلَاتِ حَرْبٍ وَ حَرَب | *** | هُمْ أشْعَلُوا نِيرَانَهَا وَ صَيَّروا النَّاسَ حَطَب |
وَ اسْتَخْدَمُوا مُلُوكَنَا لِضَرْبِنَا وَ لَا عَجَب | *** | فَمُلْكُهُمْ بِفَرْضِهِمْ كَانَ وَ إلَّا لَانْقَلَبْ |
هُمْ نَصَبُوا عَرْشاً لَهُمْ في كُلِّ شَعْبٍ فَانشَعَبْ | *** | وَ اسَوْأتَا إنْ حَدَّثَ التَّارِيخُ عَنْهُمْ وَ كَتَبْ |
و كان يجرى تعيين ميزانيّة خاصّة في البرنامج السياسيّ لهذه الدولة من قبل ملوك و رؤساء الجمهوريّات فتصرف المبالغ الطائلة لإشاعة المنكرات و الامور الجنسيّة و محاربة المسائل القرآنيّة.
عمل المستعمرين يماثل اسلوب فراعنة مصر مع العبيد في بناء
نعم، فليس لهذا الاستعمار حقيقة إلّا الاستعباد بصورته القبيحة المنفّرة التي تختفي وراء قناع الإعانات و التقدّم و التنمية. و كما يقول غوستاف لوبون، فإنّ شموخ قصور لندن و تقدّم تلك المدنيّة هناك و في سائر الدول المُستعمِرة كان يقوم على الأنقاض و التخريب و النهب و القتل في الدول المستعمَرة، و يُبنى على إتلاف ثرواتها و أخلاقها و شرفها.
فلقد عُطِّل جهاد صدر الإسلام ذاك، و تناست إمبراطوريّتا بني اميّة و بني العبّاس الكبيرتَين الإسلاميتَين ظاهراً برنامج القرآن القائم على أساس محاربة الظلم و بسط العدل و الإنصاف، و استمرّوا في اكتساب الملذّات و التنعّم و الأكل و الشرب و بنوا قصورهم من أتعاب الآخرين.
و نتيجة لإلقاء الدرس العمليّ للقرآن، فقد آلت نوبة الاستعباد إلى السقوط بأيدي هؤلاء الشياطين الذين لا همّ لهم إلّا الفساد في العالم، و لا هدف لهم من الحرب إلّا توسعة الأرض و التمتّع بالذخائر و المعادن على حساب كدح و جهود الضعفاء و اليتامى و الأرامل.
و تصيبنا الدهشة و الحيرة حقّاً حين نقارن ذلك الجهاد الإسلاميّ، و ذلك الهدف، و ذلك القصد، و ذلك الإيثار و العدل و الإنصاف و الاخوّة
و المساواة مع هذه السيطرة على العالم و الاكتشافات و الرحلات البحريّة و السيطرة على الامم بالمكر و الرشوة و نشر المواد المخدّرة و إسقاط قيمة الأخلاق و الفضائل لنيل الحطام الدنيويّ و الحياة الناعمة.
فأين هذا من ذاك؟! فهذا يمثّل الانحطاط و الدناءة مائة في المائة، و ذاك يمثّل الشرف و الفضيلة مائة في المائة.
إن سياسة هؤلاء تقوم على أساس من الكذب و المكر، في حين تبتني سياسة القرآن على أساس من الصدق و الواقعيّة.
فعلامَ يُحمل احتلال البلاد و تسخير أهلها للعمل في المعامل و الأشغال الثقيلة لاستخراج المعادن، فلا يحصلون في المقابل حتى على قوت لا يموت؟ و عَلامَ يُحمل القحط و الجوع و إتلاف نفوس الملايين و الحرمان من الثقافة و الأدب؟
نعم، فلقد كانت تلك اللقمة ملوّثة بالدماء التي سالت لأجلها، و ذاك القصر و البلاط و تلك الحكومة و السلطان، و تلك الجامعة و المدرسة، و تلك المدينة و ذلك الفضاء الذي حُصل عليه من ألقاب و جهود هؤلاء الناس المحرومين بالمكر و الخديعة، مملوءة بالهواء المتعفّنُ الناقل للأوبئة.
و لقد قال غاندي حين ذهب إلى لندن. أعجبُ كيف لم تغرق هذه الجزيرة تحت المياه حتى الآن؟ قيل: لماذا؟
قال: لقد خُيِّل لي أنّ الذهب الذي نقلته دولة الإنجليز من الهند إلى هنا قد أثقل هذه الجزيرة بكثرته فأغرقها تحت الماء.
لقد كان إعمار مدن البلاد الاستعماريّة يقابل تخريب المدن المستعمرة، ممّا يذكّرنا بأهرام طغاة مصر و فراعنتها التي شيدت بتلك العظمة و الجلال الذي يصعب معه على البعض أن يصدّق أنّها من بناء كرتنا الأرضيّة، فقد جسّدت أتعاب و محنة و معاناة ثلاثين ألف عبد قد قاموا بنقل
قطعاتها الضخمة الثقيلة من فاصلة ألف كيلومتر و لمدّة ثلاثين سنة، و كانوا يتهاوون في الطريق و يموتون فتُدفن أجسادهم بعنوان خدم و حشم في مواضع منخفضة جنب البناء الشامخ للأهرام الذي كان بمثابة مقبرة اولئك الطغاة، ليدافعوا عن جنايات اولئكم في العالم الآخر.
نعم، لقد كان هذا كلّه دليلًا على فساد و تعاسة اولئك الطغاة، لا على جهل الناس.
أفيمكن للعالم نسيان الجرائم و الفجائع التي ارتكبتها في التأريخ دولة بلجيكا بحقّ شعب الكونغو المحروم في إجبارهم على حمل الآلات و المعادن المستخرجة؟
«و لأنّ لومومبا المظلوم كان شهماً فضح الاسلوب الديكتاتوريّ الظالم لبلجيكا حين وقف في عيد استقلال الكونغو يوم الثلاثين من حزيران سنة ۱٩٦۰ م ليقول أمام ملك بلجيكا. إنّ الهديّة الوحيدة التي تفضّلت بها على شعب الكونغو بلجيكا المسيحيّة المتمدّنة، التي تدّعى أنّها هى التي أوجدت تقدّم و تربية الأقوام المتوحّشة بعد سنين من استخدامها و تسخيرها لنا نحن شعب الكونغو البائس، هي الفقر و المرض و الجهل، إذ لم يتجاوز عدد مثقّفينا المائتي شخص من بين عدّة ملايين ...
و كان هؤلاء مشغولين بالرقص و الأعمال التافهة الاخرى إلى الحدّ الذي رأي لومومبا حين عاد من أمريكا - حسب قول مؤلِّف كتاب «نشاطات وكالة المخابرات المركزيّة الأمريكيّةCIAوضع بلده بدرجة من السوء و الوخامة و التعاسة بحيث كان يظنّ أنّ الامم المتّحدة مشغولة بالتآمر على بلده.
و لقد اتّهم المستعمرون و عملاؤهم لومومبا - المضحّي و الحامي لشعبه - بالشيوعيّة و اعتقلوه و سجنوه، ثمّ عذّبوه تعذيباً وحشيّاً حطّموا فيه
أصابعه، ثمّ قتلوه بأفجع قتلة، كي لا يجرؤ لومومبا آخر أن يكرّر خطأه و يتحدّث عن منافع شعبه».۱
إن المنطق القرآنيّ هو تساوي أفراد البشر على اختلاف عناصرهم و أعراقهم، المثقّفون منهم و الامّيّون، المتوحّشون و المتمدّنون، الأبيض منهم و الأسود؛ فالفضيلة للتقوى فقط؛ و لقد كان شعار الإسلام أينما توجّه للجهاد هذه الآية:
يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَ أُنْثى وَ جَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَ قَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ.٢
و كان يُعلن ذلك لجميع الامم المغلوبة، فهذه الآية من آيات القرآن، و لقد كان الإسلام أينما وضع أقدامه يعطيهم القرآن و يأمرهم بتلاوته.
و لقد تواءم الجهاد الإسلاميّ مع الرفق و المحبّة و العطف و إعطاء جميع الامتيازات الإنسانيّة و البشريّة للشعوب المغلوبة، بحيث أثار عجب و دهشة حتى الأجانب، و لقد اعترف هؤلاء بأنّ تعاليم أيّة امّة و دين لا تقوم على أساس المحبّة كما هي الحال في الإسلام. و قام المسلمون عملًا بإظهار هذه المودّة و الرأفة في حروبهم، فكانوا يعاملون أسراهم و عبيدهم كمعاملتهم بعضهم البعض.
يقول غوستاف لوبون: لم يكن انتشار و اتّساع الإسلام في الشرق و الغرب بالسيف و القوّة، بل كان بالأخلاق الفاضلة الإسلاميّة٣ التي تسيطر
على قلوب المسلمين و التي قد فقدت مركزيّتها السياسيّة بالفعل.
و يقول أيضا: غير أنّ أهمّ نتيجة يمكن استنباطها من جميع ما تقدّم هي تأثير القرآن العظيم في الامم التي أذعنت لأحكامه، فالديانات التي لها ما للإسلام من السلطان على النفوس قليلة جدّاً.
و قد لا تجد ديناً اتّفق له ما اتّفق للإسلام من الأثر الدائم، و القرآن هو قطب الحياة في الشرق، و القرآن هو ما نرى أثره في أدقّ شؤونالحياة.
أجل، دخلت دولة العرب في ذمّة التأريخ، بَيدَ أنّ الدين الذي كان سبباً في قيامها لا يزال ينتشر، و يسيطر ظِلُّ النبيّ من مرقده على ملايين المؤمنين الذين يسكنون أقطار أفريقيا و آسيا الواقعة بين مراكش و الصين و البحر المتوسط و خطّ الاستواء.۱
منطق المستعمرين هو القوّة و الاقتدار
و لقد عامل المستعمرون و يعاملون سكّان مستعمراتهم معاملة الحيوانات، و ما أسهل عليهم أن يذبحونهم زرافات زرافات و يقتلونهم و يحرقوهم على أساس تفوّقهم عليهم و بمنطق القوّة التي يحسبونها ميزاناً
لكلّ حقّ و واقعيّة.
يقولون: لأنّنا نمتلك القوّة و البندقيّة، فنحن نمتلك كلّ شيء، فالحكم و السيادة للأقوى.
و نقول: إنّكم إن كنتم تمتلكون القوّة و المهارة، و ترغبون في الاستفادة من المنابع الطبيعيّة لسائر البلاد و الأمكنة، فعليكم أوّلًا تحصيل إجازة من أصحابها للورود إليها؛ و عليكم ثانياً أن تعملوا وفق عقد و اتّفاق صحيح و عادل، فتدفعوا لأصحابها حقّهم، و تعملوا على رفع مستوى البشر فيها، فيرتفع مستواكم أنتم و تعمر قلوبكم. لكنّ مجيئكم بالدبّابات و المدافع، و بالسفن الحربيّة التي تصبّ الحمم، و عبوركم بالقصف الجوّيّ على أجساد أصحاب البلد الذين كانوا يعيشون تحت ظلّ أشجار الغابة و يقضون عمرهم في قناعة، و نهبكم لكدِّهم و حاصل جهودهم، و أسركم لجمعهم و استعبادكم لهم، ثمّ صرفكم منافعهم و ثرواتهم على ترفكم و نزواتكم التي لا حدّ لها و لا حصر، كلّ هذا أمر خاطئ و مُدان.
ولكن، أنّى لُاولئك الذين أسكرهم غرورهم و أعمتهم نعرة الجاهليّة و التكبّر أن يصغوا لهذا الكلام؟ فهم يؤلّفون الكتب، محاولين بأدلّة واهية سخيفة إثبات تفوّق عنصرهم و عرقهم على سائر العناصر و الأعراق، فيثبتون على هذا الأساس أنّ الغلبة حقّ مسلّم لهم، و أنّ التبعيّة و المغلوبيّة حقّ طبيعيّ للُامم الضعيفة، ليمنحوا بهذا وجهةً فلسفيّة و علميّة لجناياتهم، و لإثبات إمكان الضغط على كلّ ضعيف و عاجز حسب ميزان أفضليّة و تفوّق قدرتهم و قوّتهم.
و كم كان بيان الاستاذ العلّامة آية الله الطباطبائيّ جميلًا و شافياً حين قال:
كان الإنسان فيما مضى يرمى بالحجر فيقتل به إنساناً، و اليوم صار
يرمي بقنبلة فيمحو و يُهلك مدينة هيروشيما، و الإنسان الذي كان يأسر يوماً إنساناً عاجزاً ضعيفاً فيجعله عبده و يحصل من كدّه و أتعابه على دراهم معدودة، صار اليوم لا يكتفي بملايين العبيد و مليارات الليرات و الدولارات و ...۱
و قال أيضاً: و كان هناك دوماً قوانين جارية في المجتمعات الإنسانيّة، و كلّ ما هنالك أنّ القوانين في المجتمعات غير المتقدّمة كانت تتعيّن تلقائيّاً وسط الاضطرابات لمصلحة الأقوى، و كانت تجري في المجتمع و تنفّذ بشكل غير منتظم، لكنّها توضع في المجتمعات المتقدّمة الراقية عن رويّة و فكر و تفرض على الناس و تطبّق و تنفّذ بشكل منتظم نسبيّاً.
و في نفس الوقت فإنّ الاعتداءات التي كانت تجرى سابقاً بين الأفراد الأقوياء و الأفراد الضعفاء، أو بين الأفراد الأقوياء و المجتمعات الضعيفة، تجري حالياً بين المجتمعات القويّة و المجتمعات المتخلّفة.٢
استعمار العالم يمثّل نفس قوانين الغاب بصياغة جديدة
و قال سماحته أيضاً: و حين ندقّق في الأمر نلحظ عِياناً أنّ جميع الرذائل الإنسانيّة التي كانت موجودةً في العصور المظلمة السابقة بين الفرد و الفرد الآخر، أو بين فرد قويّ ظالم و بين مجتمعٍ ما، موجودة فعلًا بين المجتمعات القويّة و الضعيفة، بين مربّي عالم الإنسانيّة و البشر، بين الغربيّ و الشرقيّ، بين الأبيض و الأسود، و بين المثقفين المتنوّرين و المتخلّفين.
فأنواع الظلم و المكر و التزوير و الفساد و آلاف البلايا الاخرى التي لا علاج لها، و كانت تجري سابقاً بشكل عشوائيّ غير منظّم، تجري اليوم بمنتهى الدقّة و وفق برامج لمائة سنة و لألف سنة، و تحصل بشكل مؤثِّر
و منظَّم، دافعةً بالإنسانيّة يوماً بعد آخر إلى هاوية الهلاك و الفناء.
فلا يمكن اعتبار أنّ يوم سعادة و حسن حظّ البشر سيأتي على يد هؤلاء المربّين الأغراب، الذين يدّعون أنّهم أشفق على الطفل من امّه التي أنجبته.۱
و يمكن استخلاص امور هامّة بالتأمّل و التمعّن في المطالب التالية،
التي نقلت بأجمعها عن أقوال الأجانب:
منطق المستعمرين يعاكس تماماً المنطق القرآنيّ
إن إلقاء نظرة واحدة على الأجزاء الأربعة الضخمة لكتاب الكونت غوبينو حول اختلاف العناصر و الأعراق البشريّة، تشير إلى مدى الجدّ و السعي الذي بُذل فيها لإظهار اختلاف العناصر بطريقة علميّة، حتى أنّهم لم يتورّعوا في إثباتهم العلميّ لهذا المطلب عن الإفراط بالتوسّل بأيّة خرافة و مهزلة!
فحين يعجز السيّد صاموئيل كارت رايت في مقالته عن الإتيان بأيّ دليل، فإنّه يتوسّل في إثباته لحيوانيّة السود الاستدلال بشكل شعورهم، فيقول:
إن ساق كلّ شعرة منهم مغطّاة بما يشبه الفلس، شأنها شأن صوف الأغنام، فيمكن حياكة شعورهم ببعضها كما يُحاك الصوف، و ليس الشَّعر الحقيقيّ هكذا ... و السود كثير و القرب من جهة حاسّة الشمّ بالحيوانات الواطئة، و يمكنهم أن يميّزوا بيننا بحاسّة الشمّ فقط ...۱
إن جميع طغاة و سفّاكي التأريخ هم ظاهراً أو باطناً من أتباع و مستحسني هذا المنطق العلميّ البرّاق، ابتداءً من آتيلّا و نيرون إلى بسمارك و هتلر، فكلّ هؤلاء يؤيّدون تصريحاً أو تلميحاً المَثَل الإنجليزيّ القائل بأنّ القوّة تعني الحقّ، أو حسب مقولة بسمارك. الحقّ يمرّ من فوهة الدبّابة.
و يحاول أدولف هتلر السفّاك العنصريّ المشهور أن يبرّر هذه الخشونة و العنف الوحشيّ تحت غطاء جميل و لطيف الاحترام لقانون الطبيعة، فيقول:
إن لم نحترم قانون الطبيعة فنفرض إرادتنا كأقوياء على الآخرين،
فسيأتي اليوم الذي ستفترسنا فيه الحيوانات ثانية، ثمّ ستلتهم الحشرات تلك الحيوانات، و لن يبقَ على وجه البسيطة إلّا الجراثيم.۱
و ننقل هنا مقتطفاً من بحث روبرت نوكس٢ حول العناصر البشريّة السوداء، لتتّضح لنا بشكل أفضل المباني العلميّة لأخلاق دعاة العنصريّة و تحكيم القوّة، و حريّ بنا قبل نقل كلام نوكس أن نتحدّث عن شخصيّته، فذلك ممّا لا يخلو من فائدة؛ فهو طبيب إنجليزيّ و مؤسِّس لمدرسة التشريح في أدينبورو.
و قد تورّط الشخصان اللذان كانا يهيّئان له أجساد الموتى للتشريح في أعمال أبعد من نبش القبور، فارتكبا جنايةً قتلا فيها شخصاً ليجلبا بدنه للتشريح، فامتدّت الفضيحة لتنال نوكس أيضاً، ممّا أجبره على الاستقالة.
و كان قد تجاوز نوكس بعد ذلك حدود علمه الخاصّ المحدود، فقام بإلقاء محاضرات في التشريح العالي٣ الذي يتضمّن مقارنة العناصر البشريّة المختلفة، فيميّز الجيّد منها من الرديء. و قد نشر كتابه سنة ۱۸٥۰ م تحت عنوان «العناصر البشريّة». و الخلاصة التي ننقلها فيما يلي مقتبسة من فصل في كتابه تحت عنوان العناصر البشريّة السوداء، يقول فيه.
لقد كانت القوّة دوماً منذ الأدوار الاولى للتأريخ المدوّن هي التي توجد الحقّ، أو التي يتصوّر أنّها كذلك. و على أساس هذا الحقّ فقد قام
العنصر السلافيّ بتدمير إيطاليا و القضاء على أشرف فئات البشريّة.
و لقد قمنا؛ بهذا الحقّ؛ بالاستيلاء على أميركا الشماليّة و أخرجناها من أيدي العناصر المحلِّيّة التي تُعِدُّ أمريكا حقّاً طبيعيّاً لهم، و قمنا بإبعادهم إلى الغابات الاولى التي كانوا فيها و قتلناهم بكلّ سهولة و يُسر. و بناءً على هذا الحقّ نفسه - أي بالقوّة - فقد قام أعقابنا من أفراد الولايات المتّحدة بإبعادنا عنها ...
و يتزامن مع كتابتي لهذه الكلمات قيام عنصر السِّلت بإعداد العدّة للسيطرة على أفريقيا الشماليّة بنفس الحقّ الذي سيطرنا به على الهند، أي بالقوّة و الضغط. فالحقّ الطبيعيّ الوحيد يتمثّل في ذلك الضغط الفيزياويّ ...
و ليس لديّ أدنى شكّ في أنّ كبار المسؤولين في إدارة المستعمرات كانوا يفكّرون في هندٍ مماثلة اخرى في أفريقيا المركزيّة، و التي يمكن أن تجعل الثروة من حاصل عمل الملايين من الأفارقة؛ الذين ليسوا في الحقيقة إلّا عبيداً تنساب إلى صناديق إدارة الهجرة. و للأسف الشديد فإنّ المستعمرين الساعين لامتلاك الأراضي و السيطرة عليها قد تدخّل الماء و الجوّ في عملهم فأغرق ركّاب السفينة التي أرسلوها لهذا الهدف و حوّل آمالهم هباءً منثوراً.
و عليه، فإنّ العناصر السوداء لم تزل منذ القِدَم عبيداً لأسيادهم المستعبدين البيض.
فلِمَ كان ذلك؟ يجيب السيّد غيبون باسلوبه الجازم الدائميّ على هذا السؤال فيُشير إلى الضِّعة البدنيّة المشهودة لذوي شعر القطط ...
ولكنّي اعتقد أنّه ينبغي وجود نوع من الضِّعة و الانحطاط البدنيّ الذي يؤدّيّ إلى ضِعة روحيّة في جميع أفراد العناصر السوداء ... و يمكن أن لا يكون ذلك عموماً مرتبطاً بنفس مادّة المخّ، بل إنّه يرتبط أكثر بكيفيّة
تركيب المخّ.۱
هذا هو اسلوب تفكير الدول الاستعماريّة و منطقها، و يمكن القول إنّ هؤلاء يمثّلون خطراً عظيماً و جناية على البشريّة. و الله وحده يعلم كم من المصائب صُبّت على إيران في القرنَين الأخيرَين من قبل الروس و الإنجليز، و يمكن للراغبين في الاطّلاع مراجعة «تاريخ روابط سياسي إيران و إنگليس در قرن نوزدهم» (=تأريخ العلاقات السياسيّة لإيران و إنجلترا في القرن التاسع عشر) تأليف محمود محمود، و خاصّة الفصول ٩٢ إلى ٩٥ من الجزء الثامن.
رأي السيّد جمال الدين الأسد آباديّ في عداء إنجلترا للمسلمين
لقد فغرت جميع الدول الاستعماريّة، و خاصّة أمريكا، أفواهها و أعدّت نفسها لابتلاع المسلمين في شهيّة كبيرة، فهي الشياطين المفسدة المثيرة للفتن، الكُفْرُ مِلَّةٌ وَاحِدَةٌ. لكن الإنجليز يمتلكون عداءً خاصّاً للإسلام، و لقد أزاحت كلمات و خطب و كتابات السيّد جمال الدين الأسد آباديّ الستار عن هذا الأمر، فقد جاء في كتاب «سير در انديشه سياسي عرب» (=جولة في الفكر السياسيّ العربيّ).
أ نّ السيّد لا يعتبر إنجلترا القدرة الاستعماريّة الوحيدة فقط، بل يعدّها العدوّ اللدود الصلب للمسلمين، و يعتقد أنّ هدف إنجلترا في إفناء الإسلام؛ و كتب مرّة يقول:
إن عَدَاءَ إنْجِلْتَرَا لِلْمُسْلِمِينَ يَكْمُنُ في اتِّبَاعِهِمْ لِدِينِهُمُ الإسْلَامِيِّ، فَهِيَ تَسْعَي دَوْماً بِمُخْتَلَفِ الحِيَلِ لِتَسْتَوْلِي عَلَى جُزْءٍ مِنَ الأرَاضِي
الإسْلَامِيَّةِ فَتُعْطِيهَا لُامَمٍ اخْرَى مِنْ غَيْرِ المُسْلِمِينَ، لَكَأنَّ انْكِسَارَ وَ سُوءَ طَالِعِ أهْلِ الدِّينِ يُثْلِجُ فُؤَادَهَا، فَهِيَ تَسْعَى إلى سَعَادَتِهَا في إذْلَالِهِمْ وَ إفْنَاءِ وَ مَحْوِ كُلِّ مُقَدَّرَاتِهِمْ وَ ثَرْوَاتِهِمْ.۱
و كان يعتبر اعتداءات فرنسا على تونس نتيجة مباشرة لسياسة التوسّع الإنجليزيّة في البحر المتوسّط.٢
و كان من نتائج نظرته المعادية للإنجليز أن مال إلى اعتبار الإسلام دين الحرب و الجهاد، لذا فقد كان يؤكّد كثيراً على فريضة الجهاد، فلم يكن للمسلمين أمام حكومة عازمة على إفناء الإسلام إلّا اللجوء إلى القوّة، لذا فقد كان يُهاجم بعنف جميع القادة الدينيّين المسلمين الذين كانوا يمنحون تعاليم الإسلام وجهاً مسالماً يميل إلى الصلح و السلام و الدعة.٣
و عليه، فقد كان السيّد يمتدح التعصّب الدينيّ، لأنّه كان يعدّه رأسمال وحدة و فخر كلّ قوم في الدفاع عن حقّهم، و كان يُهاجم اولئك الذين يعتبرونه عائقاً أمام تقدّم أهل الدين باتّجاه المدنيّة الجديدة، لكنّه كان يقول في نفس الوقت. إنّ التعصّب صفةٌ كباقي الصفات الإنسانيّة لها حدّ معتدل و لها إفراط و تفريط، فإن روعي فيها المحافظة على الاعتدال عُدَّت من الصفات الحميدة، و إلّا صارت من الصفات الذميمة.
و على أيّة حال، فإنّ التعصّب الدينيّ لا يختلف عن التعصّب
العنصريّ عدا أنّه أنزه منه و أقدس و أكثر نفعاً و فائدة، ولكن كيف يُمتدح التعصّب العنصريّ باسم الوطنيّة في حين يعدّ التعصّب الدينيّ عيباً؟!۱
و من الجليّ أنّ الاوروبّيّين حين يرون أنّ العقيدة الدينيّة للمسلمين هي أقوى الروابط بينهم، يسعون لإضعاف هذه الرابطة باسم مخالفة التعصّب، لكنّهم يقعون اسرى التعصّب الدينيّ أكثر من أيّة جماعة و دين، فيتكلّم رجل متحرّر مثل غلادستون رئيس وزراء إنجلترا فيدافع بتعصّب عن المسيحيّة و خاصّة في مقابل الإسلام مع أنّه لم يكن متديّناً عمليّاً، و كأنّ كلّ كلام قاله بشأن الإسلام ترجمة لروح بطرس الراهب، أي إظهارٌ لروح الحروب الصليبيّة.۱
...۱
و لهذا السبب فقد كان السيّد جمال الدين يعتبر القرآن الكريم هو الكتاب الوحيد الباعث للحياة في عالَم الإنسانيّة، و يعدّ ضعف المسلمين و ذلّهم راجعاً إلى ضعف عملهم بالقرآن، و أنّ السبيل الوحيد لهم في النجاة و القوّة و الحياة من جديد ينحصر في الرجوع إلى هذا القرآن، و العمل به.
خطبة السيّد جمال الدين في مصر حول عظمة القرآن
يقول في كتاب «شرح حال و آثار سيّد جمال الدين أسد آبادي» (=ترجمة حياة و مؤلّفات السيّد جمال الدين الأسد آباديّ).
و يذهب السيّد إلى مصر ثانيةً فيتوقّف فيها عشر سنين يربّي تلاميذه و يشتغل بالتدريس و البحث و إلقاء الخطب، و من جملتها خطبته المشهورة في مسألة الرجوع إلى القرآن، و هي خطبة غرّاء بالعربيّة، نوردها فيما يلي.
إلهي! قولك: وَ الَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَ إِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ.۱
و كلامك الحقّ المحض! و لأنّ دعوتي و استجابة هذه النفوس الزكيّة كان خالصاً مخلصاً لوجهك الكريم، فأهدنا بموجب قولك الحقّ إلى سبيل الهداية و الرشاد.
أيّها السادة! إنّ القرآن هو المدينة الفاضلة الإنسانيّة، و الصراط المستقيم للسعادة البشريّة. إنّ جلال الدستور المقدّس الذي يمثّل خلاصة سموّ و رفعة جميع أديان العالم الحقّة، و البرهان القاطع للخاتميّة المطلقة للدين الإسلاميّ إلى يوم القيامة، و ضمان سعادة الدارين و فوز النشأتين،
آهٍ، آهٍ، صار من فرط الغفلة مهجوراً.
و لقد حقرّتم جلال و عزّة الدستور المقدّس حين أوصلتم، للعالم القديم و الدنيا الحديثة و إلى هذه المدنيّة، فقط شرارة طفيفة من قبسات أنواره المضيئة، آهاً، آهاً، صارت فوائده اليوم تنحصر في الامور التالية.
التلاوة على القبور ليالي الجمعة، مشغلة للصائمين، متروكات المساجد، كفّارة الذنوب، العوبة الكتاتيب، للوقاية من الحسد، اليمين الكاذبة، رأسمال الاستجداء، زينة قماط الطفل، قلادة العروس، تميمة عضد الخبّاز أو في عنق الأطفال، حرز حفظ المسافرين، سلاح علاج المصروعين، زينة الاحتفالات و في حجلة العروس، مقدّمة نقل أثاث البيت، حرز محلّ ألعاب القوى (زور خانه)، في أمتعة التجارة لروسيا و الهند، رأسمال الكتبيّين، رأسمال استجداء المتسوّلين من النساء و الرجال في المعابر و الطرقات!!
آهٍ، وا أسفاه! فسورة وَ الْعَصْرِ كانت لوحدها - مع عدم احتوائها على أكثر من ثلاث آيات - أساس نهضة جماعة أصحاب الصُّفّة الذين حوّلوا بالفيض المقدّس لهذه السورة المختصرة، محلّ أصنام مكّة الذي كان مرتعاً للشِّرك قبل الهجرة إلى بستان للتوحيد و بيت للّه في بطحاء مكّة.
آهٍ، وا لهفاه! هذا الكتاب السماويّ المقدّس، و هذا التصنيف العزيز للحضرة السبحانيّة، و هذا الأساس لكلّ السعادات الإنسانيّة، لم يعد يحظى اليوم بالاهتمام إلّا أقلّ من «ديوان سعدي» و حافظ و «المثنوي» و ابن الفارض!!
و على العكس من ذلك، فحين تقرأ إحدى المقطوعات الشعريّة في جمع و حفلٍ ما فإنّ الآهات تتصاعد من أعماق القلوب، و العيون و الآذان و الأفواه تفتح و تصغى و تفغر لسماعها، و كم هو الأمر معكوس بالنسبة
للقرآن و الذي لن يزاحم أبداً في أي مكان ثرثرة أحد، أو عمله أو تفكيره!
إي وَ حَقِّكَ، سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ! أنْتَ القَائِلُ وَ قَوْلُكَ حَقُّ: «نَسُوا اللَّهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ».۱
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَ قَوْلُكَ حَقُّ: «إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ».٢
عَلَيْكُمْ بِذِكْرِ اللهِ الأعْظَمِ وَ بُرْهَانِهِ الأقْوَمِ؛ فَإنَّهُ نُورُهُ المُشْرِقُ الذي بِهِ يُخْرَجُ مِنْ ظُلُمَاتِ الهَوَاجِسِ وَ يُتَخَلَّصُ مِنْ عَتَمَةِ الوَسَاوِسِ وَ هُوَ مِصْبَاحُ النَّجَاةِ. مَنِ اهْتَدَى بِهِ نَجَى وَ مَنْ تَخَلَّفَ عَنْهَا هَلَكَ. وَ هُوَ صِرَاطُ اللهِ القَوِيمُ. مَنْ سَلَكَهُ هُدِى، وَ مَنْ أهْمَلَهُ هَوَى.
عَلَيْكُمْ بِالفَوْزِ مِمَّا انْتَثَرَ مِنْ لَئَالِئ مَقَالاتِ صَاحِبِهِ عَلَيْهِالسَّلَامُ، لِقَوْلِهِ صَلَوَاتُ اللهِ على قائِلِهِ:
إذَا أرَادَ اللهُ بِقَوْمٍ سُوءاً قَلَّ فِيهِمُ العَمَلُ؛ وَ كَثُرَ فِيهِمُ الجَدَلُ.
وَ قَوْلِهِ عَلَيْهِالسلام: ثَلَاثٌ لَا يَغِلُّ قَلْبُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ. إخْلَاصُ العَمَلِ فِيهِ، وَ النَّصِيحَةُ لُامَرَاءِ المُسْلِمِينَ، وَ لُزُومُ جَمَاعَتِهِمْ.
المُسْلِمُونَ تَكَافَؤُ دِمَاؤُهُمْ أدنَاهُمْ؛ يَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ مَنْ وَالاهُمْ؛ وَ هُمْ يَدٌ على مَنْ سِوَاهُمْ.
وَ قَوْلِهِ عَلَيْهِالسلام: لَا يَزَالُ الأمْرُ في امَّتِي مَا لَمْ يَتَخَلَّقُوا بِأخْلَاقِ الفُرْسِ. وَ أشْبَاهُ هَذِهِ الغُرَرِ الزَّاهِرَةِ التي تَضْمَنُ وَاحِدَةٌ مِنْهَا سَعَادَةَ الامَمِ كُلِّهَا. وَ السَّلَامُ عَلَيْكُم وَ رَحْمَةُ اللهِ وَ بَرَكَاتُهُ.
الإغماء على السيّد جمال الدين و أعضاء الجمعيّة إثر خطبة حول القرآن
ثمّ نزل السيّد بعد هذه الخطبة من منصّة الخطابة و قد اغمي على ثلث
أعضاء الجمعيّة و تضعضع حال الباقين، و كان السيّد الجليل يبكي و يردّد:
إي وَ حَقِّكَ اللَهُمَّ، نَسَيْنَاكَ فَأنْسَيْتَنَا، يردّدها حتى يسقط مغميً عليه.
و قد ظلّت حالة الإغماء و النحيب حاكمة على الجمعيّة طوال ساعات ثلاث قام بعدها حسن عطا بك صهر خديوي مصر باستعمال العطور لإعادة السيّد و أعضاء الجمعيّة إلى الوعي.
ثمّ يقوم السيّد بتشكيل جمعيّة مع مقرّرات للعمل بالقرآن كانت مؤثِّرة بشكل محيّر، و دام الأمر مدّة تسعة أشهر و أيّام عدّة، قام بعدها الإنجليز و امراء مصر بإغلاق الجمعيّة و إخراج السيّد من مصر.۱
ترجمة حياة السيّد جمال الدين الأسد آباديّ و مؤلّفاته
ثمّ يعقّب مؤلّف «شرح حال و آثار سيّد ...» بعد ذلك فيقول:
نعم، لقد أبعدوا السيّد مع تلميذه و خادمه أبي تراب عن مصر سنة ۱٢٩٦ هجريّة قمريّة، فذهب إلى الهند و كتب سنة ۱٢٩۷ هـ. ق الرسالة النيشريّة (المذهب الطبيعيّ) في ردّ الدهريّين، طُبعت في بمبي. ثمّ سافر سنة ۱٣۰۰ هـ. ق من الهند إلى لندن، ثمّ إلى باريس حيث بقي هناك ثلاث سنوات، و أسّس سنة ۱٣۰۱ هـ. ق صحيفة «العروة الوثقي» التي كان محرّرها الشيخ محمّد عبده ضدّ سياسة الإنجليز و الاوروبّيّين، و كان يرسلها مجّاناً إلى جميع نقاط الشرق، لكنّها للأسف أوقفت عن الصدور و لم ينشر منها سوى ثمانية عشر عدداً.٢
و في حدود سنة ۱٣۰٣ هـ. ق عزم السيّد على السفر من باريس إلى بلاد الشرق، فدعاه ناصر الدين شاه بواسطة صنيع الدولة للقدوم إلى
طهران، فوصلها السيّد سنة ۱٣۰٤ هـ. ق و عرض عليه ناصر الدين شاه منصب رئاسة الوزراء و رئاسة دار الشورى فرفض السيّد ذلك قائلًا. لم أكن و لستُ طالب دنيا و رئاسة، بل إنّ هدفي ينحصر في إصلاح امور المسلمين.
و يذهب السيّد سنة ۱٣۰٤ هـ. ق من طهران إلى روسيا فيقيم سنتَين في مدينة بطرسبورج، ثمّ يذهب إلى النمسا فيلتقى به ناصر الدين شاه في سفره الأخير إلى بلاد الغرب في فيينا و يدعوه مجدّداً إلى طهران و يعقد له العهود و المواثيق أنّه سيعمل بقول السيّد، فيجيء السيّد إلى طهران، و يُخلف الشاه عهده فلا يوافق على إجراء اقتراحات السيّد في الامور.
و يعلن السيّد مخالفته لناصر الدين شاه علناً، فيعتصم في صحن السيّد الشاه عبدالعظيم لمدّة سبعة أشهر، ثمّ يصدر ناصر الدين شاه أخيراً في سنة ۱٣۰۸ هـ. ق أمراً إلى الميرزا على أصغر خان الصدر الأعظم باعتقال السيّد، فيعتقله و يبعده في الشتاء مع مرضه و سوء حاله إلى كرمانشاه و خانقين راكباً على بغل، ثمّ يرسله حاكم بغداد إلى البصرة.
و يكتب السيّد في البصرة رسالة مفصّلة حول تسلّط الإنجليز على إيران و قيامهم بشراء أراضي إيران و استحكاماتها، و امتياز التنباكو و عواقبه الوخيمة، و غفلة ناصر الدين شاه و جرمه في هذه المسألة، فيبعث بها إلى المرحوم آية الله مرجع التقليد آنذاك. الحاجّ الميرزا محمّد حسن الشيرازيّ في سامرّاء، ثمّ يتّجه السيّد من البصرة ميمّماً صوب لندن.۱
و قد اثبت في كتابَي «تاريخ سامرّاء» و «أعيان الشيعة» بالأدلّة الوافرة كون السيّد جمال الدين إيرانيّاً و شيعيّاً، و أنّ تسمية بعض الغربيّين
و المصريّين له بالأفغانيّ ليس إلّا خطأ محضاً.
و يورد كتاب «تاريخ سامرّاء» بالتفصيل رسالة السيّد جمال الدين من البصرة إلى الإمام المجدِّد المرحوم الحاجّ الميرزا محمّد حسن الشيرازيّ بشأن مسألة التنباكو و عن احتلال دولة إنجلترا للأراضي الإيرانيّة، ثمّ يقول المؤلّف المذكور.
يقول شكيب أرسلان في تعليقته على كتاب «حَاضِرُ العَالَمِ الإسْلَامِيّ»:
فَكَانَ هَذَا النِّدَاءُ مِنَ السَّيِّدِ الحُسَيْنِيِّ مِنْ أعْظَمِ أسْبَابِ الفَتْوَي التي أفْتَاهَا ذَلِكَ الإمَامُ بِبُطْلَانِ هَذَا الامْتِيَازِ وَ اضْطَرَّتِ الحُكُومَةُ الفَارِسِيَّةُ خَوْفُ انْتِقَاضِ العَامَّةِ إلى إلْغَائِهِ - انتهى.
لكنّ السيّد محسن العامليّ يقول: إنّ الإمام المجدِّد الشيرازيّ أصدر فتواه بشأن تحريم التنباكو حين اطّلع على منح الامتياز إلى دولة بريطانيا، و كان ذلك قبل وصول رسالة السيّد. ثمّ يورد المرحوم العامليّ متنها بكامله.۱
الدعوة إلى الجهاد تتألّق مضيئة في معالم القرآن
نعم، منذ وضع المسلمون السيف في غمده، أي حين أودعوا القرآن في صندوق مقفل، فقد بدّلوا عصر عزّتهم و فخرهم إلى زمن الذلّ و العار؛ القرآن القائل:
إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَ أَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَ يُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَ الْإِنْجِيلِ وَ الْقُرْآنِ وَ مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ، التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ النَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ الْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَ بَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ.۱
القرآن القائل: وَ لِلَّهِ الْعِزَّةُ وَ لِرَسُولِهِ وَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَ لكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ.٢
هست جنّت به زير سايهء تيغ | *** | شود از تيغ، آب زهرهء ميغ |
و كم أبدعت (نيم تاج خانم رشتي) حين وقفت تخاطب الرجال و توبّخهم؛ و قد تدفّقت الجيوش الروسيّة في گيلان و اعتدت على أعراض الناس و نواميسهم و أموالهم و شرفهم؛ و تلومهم على ضعفهم و تواكلهم، و تدعوهم إلى الجهاد و الدفاع:
شد پاره پردهء عجم از غيرت شما | *** | اينك بياوريد كه زنها رفو كنند |
نوحى بيايد و طوفان وى ز نو | *** | تا لكّههاى ننگ شما شستشو كنند |
نِسوان رشت، زلف پريشان گشاده مو | *** | تشريح عيبهاى شما مو به مو كنند |
اندر طبيعت است كه بايد شود ذليل | *** | هر ملّتى كه راحتى و عيش خو كنند |
مرد بزرگ بايد و عزم بزرگتر | *** | تا حلّ مشكلات به نيروى او كنند۱ |
ايوانِ پى شكسته مرمّت نمىشود | *** | صد بار اگر به ظاهر وى رنگ و رو كنند |
آزاديت به دستة شمشير بستهاند | *** | مردان هميشه تكيهء خود را بدو كنند۱ |
نعم، فحين يذهب السيّد جمال إلى لندن يقوم هناك سنه ۱٣۰٩ بتأسيس جريدة عربيّة و إنجليزيّة باسم «ضياء الخافقين»، لكنّ الإنجليز يوقفون صدورها.
ثمّ يدعوه سفير تركيا آنذاك نيابة عن السلطان عبدالحميد للسفر إلى تركيا، فتنشأ بينه و بين السلطان علاقة حميمة و مودّة شديدة، و يبذل السيّد في مسألة وحدة الدول الإسلاميّة مساعٍ حثيثة و يوافقه السلطان على ذلك، لكنّ العلاقة بينه و بين السلطان تتعكّر في عاقبة الأمر، فيرحل عن الدنيا سنة ۱٣۱٤ أو ۱٣۱٥ في شهر شوّال بعد عمليّة جراحيّة اجريت له في حلقه، أو بسمّ جرى سقيه إيّاه، أو حتف أنفه.٢
و كان السيّد يجلس على مائدته في إسلامبول، و التي كانت تبسط على مائدة عالية و تنسّق وفق الطراز الإفرنجيّ، و مع أنّ جميع ضيوفه كانوا يتناولون طعامهم بالشوكة و الملعقة، لكنّه و هو المضيّف كان ينفرد من
بينهم بتناول الطعام بأصابع يده مُعرضاً عن آداب ذلك الزمن و عاداته.۱
لقد اتّضح ممّا أوردنا أنّ هدف إنجلترا هو بثّ التفرقة بين المسلمين و تشتيت صفوفهم، و هو الهدف الذي عملت من أجله بمختلف الصور و الأشكال في جميع الأزمان، و لقد أدرك السيّد جمال الدين هذه الحقيقة جيّداً، و لم يكن يرى طريقاً و علاجاً لمواجهتها غير اتّحاد المسلمين و فتح جبهات الحرب عند الضرورة لحفظ كيان الإسلام و إعادة عزّة المسلمين إلى مركزها الأصليّ و محورها الحقيقيّ.
و عليه، فإنّ ما يجري هذه الأيّام بين الامم المختلفة من شيوع الأفكار القوميّة و الشعوبيّة التي يدعونها الوطنيّة في أشكال و قوالب: وحدة الشعب الإيرانيّ، الوحدة العربيّة، الوحدة التركيّة، الوحدة الهنديّة، و غيرها من الأقطار الإسلاميّة بترغيب و تحريض من الاستعمار و الترويج الإعلاميّ لأياديه و أبواقه، و كذلك تشديد و تقوية الصراعات المذهبيّة بين الشيعة و السنّة، و تجزئة الأرض الإسلاميّة و الدولة العثمانيّة الواسعة إلى دول صغيرة متنافسة بينها، كلّ ذلك من منطلق محاربة الفكر الهادف لاستئصال الاستعمار، أي محاربة الوحدة الإسلاميّة و عودة القرآن ليأخذ موقعه الرياديّ.
مقولة محمّد عبده في عداء السيّد جمال الدين لإنجلترا
ينقل صاحب «أعيان الشيعة» بعد بحث مفصّل عن هويّة السيّد جمال الدين الأسد آباديّ و شخصيّته؛ عن تلميذه الشيخ محمّد عبده، قوله:
أمَّا مَقْصَدُهُ السِّيَاسِيُّ الذي قَدْ وَجَّهَ إلَيْهِ أفْكَارَهُ وَ أخَذَ على نَفْسِهِ السَّعْيَ إلَيْهِ مُدَّةَ حَيَاتِهِ، وَ كُلُّ مَا أصَابَهُ مِنَ البَلَاءِ، أصَابَهُ في سَبِيلِهِ؛ فَهُوَ إنْهَاضُ دَوْلَةٍ إسْلَامِيَّةٍ مِنْ ضَعْفِهَا وَ تَنْبِيهِهَا لِلْقِيامِ على شُؤُونِهَا حتى تَلْحَقَ
الامَّةُ بِالامَمِ العَزِيزَةِ، وَ الدَّوْلَةُ بِالدُّوَلِ القَوِيَّةِ.
فَيَعُودِ لِلإسْلَامِ شَأنُهُ؛ وَ لِلدِّينِ الحَنِيفِ مَجْدُهُ، وَ يَدْخُلُ في هَذَا تَنْكِيسُ دَوْلَةِ بِرِيطَانِيَا في الأقْطَارِ الشَّرْقِيَّةِ، وَ تَقْلِيصِ ظِلِّهَا على رُؤوسِ الطَّوَائِفِ الإسْلَامِيَّةِ، وَ لَهُ في عَدَاوَةِ الإنْجِلِيزِ شُؤُونٌ يَطُولُ بَيَانْهَا.۱
فتن الإنجليز في المستعمرات تنفّذ على يد عملائهم الماسونيّين
إن أحد الطرق التي يتّبعها الإنجليز في سياستهم في إيران و في سائر الدول الاخرى، بل الطريق الوحيد لهم، هو تأسيس محافل ماسونيّة داخل الدولة على يد صنائعهم و أذنابهم تبثّ أنواع الفساد و الخراب باسم الحرّيّة في كلّ مكان، بما يتناسب و أوضاع البلد و محيطه، و تقفو أثر ما تختطّه لها السياسة الإنجليزيّة:
يقول في كتاب «تاريخ روابط سياسي ايران و انگليس» (=تأريخ العلاقات السياسيّة بين إيران و انجلترا).
حين تظهر الحرّيّة في أيّة امّة، فإنّها ستسوقها للموت و الخراب و تدفعها إلى الفناء و الهلاك، و ستوجد طغياناً من الفتنة في تلك المملكة يحرق الأخضر و اليابس، و من سوء الحظّ أنّ هذه النار قد امتدّت إلى بيدرنا أيضاً و أفنت وجودنا و كياننا.
إن أحد أسباب نشر شعار (الحرّيّة، الاخوّة و المساواة) هو المحافل السرّيّة الماسونيّة، و لقد كتبتُ في الفصل الستّين موجزاً عن تأريخ هذه
المحافل السرّيّة. فمنذ أوائل القرن التاسع عشر لم تطأ قدم أيّة شخصيّة إيرانيّة أرض اوروبّا، و لندن بوجه خاصّ، إلّا و دعوه إلى هذا المحفل السرّيّ و حصلوا على إمضاء منه بالانتماء إليه، و نعتوه بالاخوّة و المساواة لهم، ثمّ ألجموا فمه فصار هذا الإنسان بعد ذلك طوع أيدي دعاة الحرّيّة، يعدّ نفسه تابعاً مطيعاً لتعاليمهم.
و ربّما سيأتي اليوم الذي يُنشر فيه على يد عالم و متتبّع إيرانيّ التأريخ الصحيح لظهور هذا المحفل في إيران، لكنّ هذا الأمر ظلّ مستتراً حتى الآن و ربّما نُشرت قصّة عنه بين الفينة و الفينة، لكنّ جذوره لم تتّضح بعد.۱
و كان لممثّلي الدولة الإنجليزيّة الذين يُعيّنون في إيران إخوة من هؤلاء في كلّ مكان، ينشدون عن بعضهم البعض، و يتبادلون الألغاز و الأحاجي و يبذلون لبعضهم كلّ شيء.
و لم يمتلك الإنجليز هذه المحافل في إيران وحدها، بل امتدّ الأمر ليضمّ جميع ممالك آسيا و أفريقيا و سائر البلاد الاخرى. و لم يكن مأمور و دولة الإنجليز الرسميّون غرباء في هذه الممالك، فقد كان لهم أصدقاء كثيرون يعشقون الحرّيّة و يحبّون الإنجليز و لا يعدّونهم غرباء عنهم، و كانوا ما إن يقابل أحدهم الآخر حتى يتعارفوا و يبذلوا لبعضهم كلّ شيء.٢
و ينبغي القول إنّ حكومة لندن كانت بلا شكّ من أوّل دعاة المحفل الماسونيّ حين قامت بإدارة محفل ماسونيّ في إيران.
التدخّل المقيت لدولة إنجلترا في تعيين مصير الشعب الإيرانيّ
و حين يتأمّل الإنسان أعمال و سيرة رجال بلاط فتح على شاه، محمّد شاه و ناصر الدين شاه و يطالعها بتمعّن، يلاحظ أنّ هؤلاء جميعاً كانوا أشخاصاً متداعين متهالكين و مهملين بطّالين لا يمتلكون حماساً و لا رغبة في العمل، لَكَأنَّ مقدّراتهم ليست في أيديهم، فلم يكونوا يتصرّفون وفق إرادتهم، و لم يكونوا بأنفسهم حكّامَ إيران، بل كان لإيران حاكم آخر غير الشاه و الصدر الأعظم.
فحين يشاهد هؤلاء أنّ اعتماد الدولة الرجل القويّ الوحيد في إيران يحكم يوماً ثمّ يُقتل و جميع أعوانه و أنصاره و أولاده في يومٍ آخر، و يُؤتى بالميرزا شفيع ليجلس مكانه، فإنّ رجال البلاط سيغرقون في التفكير بأنّ الشاه ليس هو الذي أزاله فأتى بآخر مكانه؛ و حين لا يتركون الميرزا أبا القاسم قائم مقام في مقام الصدر الأعظم سنة واحدة، بينما يحفظون الحاجّ الميرزا آقاسي في ذلك المقام أربع عشرة سنة، فإنّ من الواضح أنّ ذلك لم يكن من عمل الشاه. و كذلك الأمر للميرزا تقي خان أمير كبير حين يقتلونه في قدرته و قوّته تلك و يُجلِسون الميرزا آقا خان نوري على مسند الصدارة، يفهم الجميع أنّ ذلك لم يكن عمل الشاه، فهناك يدٌ اخرى قتلت الميرزا تقي خان و أجلست الميرزا آقا خان مكانه.
إن المراسم و التشريفات التي وضعت لدخول المحفل تُذهل كلّ وارد جديد للمحفل و تصيبه بالدهشة، فيفقد إرادته، و يرى نفسه أمام أشياء تخرجه عن طوره و سيطرته، و حينذاك يأخذون منه تعهّداً، فيرى نفسه مرتبطاً بذلك المحفل إلى آخر عمره، لا رجعة بيده في أمره، بل ينبغي تنفيذ أوامر المحفل بلا مناقشة للوصول إلى الجنّة الموعودة، و هي الحرّيّة
التامّة التي يرتع فيها جميع سكّان العالم، و حينذاك تطبّق الحرّيّة و المساواة و الاخوّة في أرجاء العالم أجمع.۱
ثمّ يورد شرحاً مفصّلًا للتخريب و الإفساد الإنجليزيّ لُامور فرنسا قبل الثورة على يد صنائعهم من أفراد الماسونيّة الذين أعدّوهم لذلك، و الذين نشروا الفوضى هناك ليدمّروا فرنسا باسم الحرّيّة و الثورة فيُسقطوا بذلك اعتبار منافسهم الوحيد في اوروبّا، و قد قاموا بذلك فعلًا، ثمّ يقول:
و يمكن القول إنّ تأريخ إيران في النصف الثاني من القرن الثالث عشر الهجريّ يُماثل تماماً تأريخ فرنسا في النصف الثاني من القرن الثامن عشر الميلاديّ، فإيران كان لها خصمٌ، بعد حكم طويل لناصر الدين شاه لما يقرب من خمسين سنة و المماثل لملك فرنسا لويس الخامس عشر؛ هو نفسه خصم فرنسا، و قد تصرّمت أيّام سلطنة ناصر الدين شاه في الملذّات و المتع.
و نتيجة لدسائس الإنجليز، فقد فُصلت عن إيران - أيّام حكم هذا الملك - جميع أفغانستان، نصف منطقة سيستان و نصف منطقة بلوجستان، و حين توفّي ناصر الدين شاه ترك هو الآخر شعباً متخلّفاً يفتقر إلى جميع مستلزمات المدنيّة و الرقيّ.
و لم تترك جارتا إيران القويّتان طيلة فترة الخمسين سنة هذه أيّة فرصة لتقدّم إيران، فقضتا على كلّ من كان يفكّر بتقدّم إيران و رقيّها، و كان حكّام إيران من عملائهما.
و قد أحسّ ناصر الدين شاه و الصدر الأعظم في السنوات الأخيرة لسلطنته مدى احتيال هؤلاء و مكرهم، فأبعدا من كان في البلاط منهم، و أغلقا محافلهم و قطعا السبل أمام دعاة الفتنة، لكنّ ذلك لم يدم طويلًا، ففي هذه الأيّام القصيرة سقط ناصر الدين شاه قتيلًا برصاصة الميرزا رضا الكرمانيّ بتحريك من السيّد جمال الدين.
و خلف ناصر الدين شاه على الحكم شخص كان أسوأ ممّن سبقوه و أضعف عزماً و إرادة، و أقلّ حماساً لمملكته و سلطنته، و كان من أهل البذل و العطاء، و لم يكن مختاراً في نفقاته و مصاريفه، فاستحال في حكم ملك كهذا إجراء أي نوع من الإصلاحات في شؤون المملكة.
و كانت هذه المحافل و الجمعيّات تهيّئ أسباب الفوضى و الفتنة و الفساد في إيران، و كانوا يطلقون على هذه الفوضى نهضة قوميّة، و لقد صنعوا انقلاباً مزيّفاً لم يكن نابعاً من روح الشعب الإيرانيّ.
تدخّل الإنجليز في فتنة إيران تحت اسم النهضة الدستوريّة
و ينبغي تسمية هذه الفوضى بفوضى مثيري الفتنة التي أقامتها المحافل السرّيّة في إيران لحساب السادة الجالسين في المقصورات على ضفاف نهر التايمس لإخافة الروس و تحذيرهم من النفوذ الإنجليزيّ في إيران، و سأورد فيما بعد في فصل خاصّ تفاصيل التدفّق الذي حصل على السفارة الإنجليزيّة المقارن لسفر جورج تشرشل إلى قم متنكّراً في لباس الزهد و التقوى باسم الآخوند الطالقانيّ.
لقد أغلق ناصر الدين شاه هذه المحافل و شتّت أتباعها بعد بليّة رِجي، فلم يكن لأحد في زمنه الجرأة في إظهار هذه الشعارات، و إذا ما كان هناك أتباع لهذه المحافل فإنّهم كانوا مختفين تماماً، لكنّ هذه المحافل استعادت رونقها في زمن مظفّر الدين شاه و خاصّة بعد عزل أتابك إلى مدينة قم، لكنّها بقيت في طور السرّيّة و الجديّة، حتى وجدوا فرصة
للفوضى بضعف الدولة و دعوة أمين الدولة إلى التحرّر و مجيء الميرزا أبي القاسم خان ناصر الملك إلى الحكم، و كان من أركان الماسونيّة في إيران، حيث جرى إعادة محفل هؤلاء السادة من جديد، و كانت الأوضاع مهيّئة لنشرهم شعاراتهم و بثّهم دعوتهم.۱
و لقد سعت إنجلترا - كلّما أحسّت أنّ خطر الروس يتهدّدها - إلى مواجهته عبر وسائل اخرى، ففي حرب كِريمه كانت فرنسا في عون الإنجليز، و في سنة ۱۸۷۸ م كان مؤتمر برلين هو المغيث لإنجلترا، و في سنة ۱٩۰٤ م كانت اليابان هي المنقذة لإنجلترا من الخطر الروسيّ المحدق بها، فأعطت الإنجليز الحرّيّة في إنهاء الوجود الروسيّ في إيران، و في إذلال أتابك و الهيمنة على دولة إيران.
و لقد أنهوا إلى الأبد نظام السلطنة القاجاريّة، و أقاموا في أرجاء إيران حكماً لن يُفلح معه الشعب الإيرانيّ أبداً، هذا الحكم الذي لا يزال موجوداً منذ خمس و أربعين سنة، و لا يعلم إلّا الله وحده متى سيمكن للشعب الإيرانيّ النجاة من هذا الفخّ. و على إيران أن تتحمّل المحنة و تتجرّع عذاب الصبر حتى تمتدّ يدٌ من الغيب فتنقذها. و ما أجمل قول من قال: إنَّ الحُرِّيَّةَ هِيَ السُّمُّ الإنْجِلِيزِيِّ المُهْلِكَ.٢
و كان تأريخ كتابة و نشر هذا الكلام حسبما ورد في أوّل الكتاب سنة ۱٣٤٥ هجريّة شمسيّة، و كان قد مرّ على مجيء رضا خان إلى الحكم - بانقلاب عسكريّ دبّره نِرْمان الوزير الإنجليزيّ المفوّض بواسطة السيّد ضياء - مدّة خمس و أربعين سنة، فقد وقع ذلك الانقلاب العسكريّ في
الثالث من برج الحوت (الثالث من إسفند) سنة ۱٢٩٩ هجريّة شمسيّة، (و عُرف في التأريخ باسم انقلاب نِرْمان)، و يوافق ذلك حسب التأريخ الإسلاميّ، أي التأريخ القمريّ سنة ۱٣٤۱ هجريّة قمريّة.
ولكن و للّه الحمد و له الشكر، فقد انهى ذلك الحكم الاستعماريّ البغيض في شهر بهمن لسنة ۱٣٥۷ هجريّة شمسيّة الموافق لربيع الثاني ۱٣٩٩ هجريّة قمريّة، و قد انقضى على تأريخ نشر الكتاب خمس و عشرون سنة، و ذلك بحركة و انتفاضة الشعب الإيرانيّ المجاهد و المثابر، ولاذ محمّد رضا خان ابن رضا خان بالفرار من إيران و تحطّم إلى الأبد ذلك النظام الفاسد.
و لقد أثمر بحول الله و قوّته الصبر على المحن و المصائب، و استشهاد مئات الآلاف من الإيرانيّين بيد نظام الشاه الطاغوتيّ و بيد نظام صدّام العفلقيّ و حربه الظالمة المفروضة، أثمر ذلك في إيصال الثورة إلى هدفها و غايتها، ولكن يبقى على عاتق الشعب الإيرانيّ المسلم أن يسجدوا للّه شكراً على نعمائه، و أن يكفّوا عن الانتقادات و الكلام الذي لا طائل وراءه، و أن يبادروا إلى تقوية و دعم النقاط الإيجابيّة في الحكومة، و يرمّموا النقاط السلبيّة، و أن يكونوا بصدد الإصلاح، فبحمد الله صار الوطن وطنهم و الأرض أرضهم، و أنّ من أهمّ الواجبات على كلّ فرد غيور أن يحفظ بيته الذي يمثّل الصائن و الحافظ لعرضه و ناموسه، و أن يصونه من عبث أيادي الأجانب:
لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَ لَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ.۱
إن التبعيّة لولاية الفقيه لازمة، و الحضور في صلاة الجمعة واجب،
و حفظ و صيانة الحكومة الإسلاميّة من أهمّ الفرائض.
يقول مؤلّف «تاريخ روابط ...» في ذكره لمقدّمات السلطنة البهلويّة.
و كان الميرزا أبوالقاسم خان مهرّج ناصر الملك في هذا التأريخ نائب السلطنة، و هو الشخص الذي تلقّي درس السياسة في إنجلترا و تخرّج من نفس المدرسة التي درس فيها اللورد كُرزون المعروف بالحيلة و التزوير و المكر، و كان الذين يتّصلون به تلك الأيّام يعلمون أي طبيعة و ذوق خاصّ كان يمتلك، و كان على وجه خاصّ من اولئك الذين يتحدّثون تلك الأيّام عن إنشاء السكك الحديديّة في إيران، كلّ ما في الأمر أنّه لم يكن يمتلك الجرأة كالآخرين ليعزف مثلهم على هذه النغمة.۱
و كان اللورد كرزون يشغل في ذلك الوقت منصب وزارة الخارجيّة الإنجليزيّة، و كان له عداء للإيرانيّين و المسلمين، ليس لكونه مسيحيّاً تابعاً للسيّد المسيح - فمثل هؤلاء، لا يملكون أساساً ديناً و مذهباً - ولكن لأنّه مثل غلادستون - رئيس الوزراء الإنجليزيّ الأسبق - كان الفارس الأوحد لمعركة السياسة، و كان يدرك جيّداً أنّ الإسلام هو المانع و العائق لنفوذهم و عملهم في الدول المستعمَرة.
لقد أدرك هؤلاء - خلال سوابقهم الاستعماريّة لثلاثمائة سنة - أنّ سبيل نفوذهم و حفظ مستعمراتهم سهلٌ يسير، لكنّ هذا العمل كان يصطدم بسدّ و مانع في الدول الإسلاميّة، سواء في بدء بسط النفوذ و الحرب، أو في زمن الحفاظ عليها، فلقد كانت آيات القرآن التي تمثّل برنامج عمل المسلمين تغلق أمامهم سبيل العمل.
و كما يُعدّ الذئبُ عدوّ الراعي، لأنّه يمنعه من اختطاف الخراف
و قتلها و ازدرادها، فقد كانوا كذلك أعداءً للقرآن، لا فرق في الأمر أكانوا مسيحيّين صهاينة في مسلكهم، أو يهوداً صهاينة، أو كانوا لا يمتلكون أصلًا عقيدة و مسلكاً خاصّاً.
و كان عصر كُرزون عصر إعمال الضغط على الامّة و الدولة الإسلاميّة، إلى الحدّ الذي كان يُرهق رجال السياسة و المؤمنين و الملتزمين و يصيبهم بالعجز و التداعي، و يسلب منهم القدرة على العمل و المبادرة، و يُبقي أسيافهم في أغمادها.۱
ففي زمن تصدّي الميرزا حسن خان مشير الدولة لرئاسة الوزراء، و كان معدوداً في الرجال الملتزمين الإيرانيّين من ذوي النزاهة و الفكر الصائب، لم يكن خاضعاً لأوامرهم، و لم يكن ينفّذ تعليماتهم، لذا كانوا يأتون إليه بكلّ سهولة بملاحظات من السفارة الإنجليزيّة ممّا أجبره على الاستقالة، فخلفته تشكيلة وزاريّة كانت تعمل حسب أوامرهم.٢
يكتب مشير الدولة يوماً إلى الوزير الإنجليزيّ المفوّض:
أرى نفسي مجبراً لُاذكّركم بهذه الحقيقة. لو نحّوا القوّة العظيمة للبحريّة الإنجليزيّة من ورائكم، و أزاحوا عنّي القوّة الضعيفة لدولة إيران، ثمّ وضعوا آنذاك شخصيّة مشير الدولة و مار لينج في كفّتَي ميزان، فلن يكون أكيداً أن ترجح كفّة الميزان الثقيلة لصالحكم. لذا فإنّ شخص مشير الدولة لا يسمح لشخص مارلينج أن يكون له اسلوب خشن فظّ كهذا.۱
و قد تزامن عهد اللورد كرزون مع مجيء مارلينج كوزير مفوّض، و مجيء نرمان مدبّر الانقلاب العسكريّ، و إزالة أساس السلطنة القاجاريّة، و مجيء البهلويّ إلى الحكم و تنفيذ المقاصد الإنجليزيّة المشؤومة على يد رضا خان.
و أورد في كتاب «زندگاني سياسي أحمد شاه» تأليف حسين مكّي، أنّ اللورد كرزون وزير الخارجيّة الإنجليزيّة، قال: في الواقع أنّ على إيران أن تعيّن إلى الأبد مقدّراتها و مصيرها بمساعدتنا.٢
و يقول أيضاً: لقد ورد ضمن كلمة اللورد كُرزون وزير الخارجيّة الإنجليزيّة قوله: ولكن من جهة اخرى فإن امتنع البرلمان الإيرانيّ عن
الموافقة على الاتّفاقيّة (اتّفاقيّة آب ۱٩۱٩ م) فإنّ على دولة إيران أن تمضيلسبيلها.۱
أقول: وردت كلمة كرزون هذا في ۱۷ نوفمبر ۱٩٢۰ م، الموافق للخامس و العشرين من شهر آبان ۱٢٩٩ هـ. ش، و لأنّ هذه الاتّفاقيّة لم يُصادق عليها من قبل أحمد شاه الذي كان ملكاً لإيران، لذا فقد قدّم مشير الدولة استقالته مدفوعاً بالملاحظات التي ارسلت إليه من السفارة الإنجليزيّة، و خلفته الحقيبة الوزاريّة للقائد العسكريّ سبهدار تنكابني، ثمّ وقع بعد ثلاثة أشهر من خطاب اللورد (أي في الثاني من إسفند ۱٢٩٩ هـ. ش) الانقلاب العسكريّ الإنجليزيّ على يد نرمان الوزير الإنجليزيّ المفوّض في طهران باسم انقلاب السيّد ضياء الدين و رضا خان القزّاق، و كان لقبه آنذاك مير بنج.
و يقول كذلك. يقول الدكتور مصدّق في المجلس في كلامه ضدّ وثوق الدولة بشأن الاتّفاقيّة:
إن أساس التبعيّة للإسلام هو اليوم في مملكتنا أقوى، لأنّ المسلم الحقيقيّ لا يستسلم إلّا إذا قضوا على حياته، و لهذا تقوم الدول المسيحيّة في عواصمها ببناء المساجد لكسب المسلمين من هذا القبيل؛ لكنّ دعاة التغيير السطحيّين من عديمي الفكر يمكن أن يستسلموا بمجاملة واحدة.٢
عدم استسلام السلطان أحمد شاه أمام الضغوط الإنجليزيّة القويّة
و يضيف في كلامه. لقد أقصى المجلسُ القاجاريّةَ عن السلطنة زمن حقيبة مستوفي الممالك بعد التاسع من آبان ۱٣۰٤ هـ. ش، فقرّر أصحاب
المناصب المهمّة في طهران فيما بينهم قلب الحكومة و تغييرها بمجرّد الحصول على موافقة الشاه (أحمد شاه)، و كان أخو الشاه (السلطان محمود الميرزا) قد جاء إلى طهران هو الآخر، و كانت مقدّمات هذا العمل جاهزة بكلّ معنى الكلمة، و لو بادرت طهران في هذا الأمر لتابعتها أيضاً سائر الولايات بلا شكّ.
لكنّ أحمد شاه - الذي كان في الخارج - أبدى معارضته من جديد فلم يوافق على ذلك، ممّا أثار حفيظة الكثير من مريديه، لكن رسالةً وصلت من هذا الملك توضّح جريان الامور و تغلق أمام المخالفين طريق الاعتراض، فقد كتب لهم. إنّ مملكة إيران أشبه بمريض جعله ضعف النقاهة المتمادية متهالكاً، فهو بحاجة إلى الراحة و الهدوء، و لقد اقترح عليّ حتى أصدقائي الذين لن يغيبوا عن خاطري أبداً من الإيرانيّين الطيّبين الأحرار حقّاً أن أعود بالقوّة إلى المملكة، و يبدو أنّهم كانوا قد أعدّوا مستلزمات ذلك.
و لقد وجدتُ بعد دراسة كاملة لهذا الأمر أنّ عودتي لن تكون في صالح المملكة، لأنّه ينبغي لهذه العودة أن تحصل عن طريق الصراع، ممّا سينجرّ إلى الانقسام مجموعتين و اتّساع رقعة الأمر، فالامور الداخليّة لإيران لا تحلّ المشكلة لوحدها، و لستُ راغباً بأي شكل في حلّ المشكلة السياسيّة. لذا فإنّ إراقة الدماء أمرٌ لا طائل وراءه، و سيوجب ذهاب شخص و مجيء أشخاص آخرين مكانه.
و مع إبداء الامتنان لهؤلاء الأصدقاء، أنصحهم أن يضحّوا لأجل
المملكة فيحترزوا عمّا ينجرّ إلى الفوضى الداخليّة.
و بالطبع فإنّ أحداً لن يمكنه أن ينسب إلى الخوف، لأنّ هذا الصراع
و الثورة المسلّحة ستحصل في غيابي.۱
و يُحضر أتاتورك - رئيس الحكومة التركيّة الجديدة - أنوشيروان سبهبدي - سفير إيران في تركيا - فيسلّمه رسالة إلى أحمد شاه يدعوه فيها إلى العودة إلى إيران، و يضع تحت تصرّفه قوات كافية من الأكراد الأتراك و الإيرانيّين ليعود من غرب إيران إلى مقرّ سلطنته، فيقول أحمد شاه في جوابه. أبلغه شكري لذلك، فيردّ سبهبدي. ليس هذا ردّاً. أيوافق جلالة الملك على هذه الدعوة أم لا.
فيجيب الشاه. لم يحدث في قاموس سلسلتنا أن استعاد أجدادي أو حفظوا تاجهم و عرشهم بمساعدة دولة خارجيّة، أو أن يكونوا قد خلّفوا لي هذا العار. تشكّر فقط من الطرف المقابل، و قل. لم يوافق!
ثمّ يقول لسبهبدي. لو كنتُ راغباً بالعودة إلى إيران بوسائل غير مشروعة لخضعتُ للإنجليز، و لأحنيتُ رأسي أمام طلباتهم.٢
و يكتب الشاه المخلوع محمّد على الميرزا عدّة مرّات رسائل إلى ابنه و يطلب منه أن يتدخّل في امور المملكة، حتى أنّه يجتمع بابنه السلطان أحمد شاه في سفره الأوّل إلى اوروبّا حال وصوله إلى إسلامبول و يرجو منه أن يجيب أباه إلى طلبَين و نصيحتَين فيعمل بهما.
أ وّلًا: أن يتصرّف مع جارته الجنوبيّة تصرّفاً مناسباً، و يلبّي بعض طلباتهم.
و ثانياً: أن يتدخّل شخصيّاً في الامور الجارية في الدولة، فيطبّق نظره عمليّاً في جميع القضايا و الامور.
لكن السلطان أحمد شاه لم يخضع لذلك، و قال في جوابه: إنّ القانون الأساسيّ لم يخوّلني ذلك، و لا يمكنني إلّا أن أمتلك جانباً تشريفيّاً.
و يرى محمّد علي الميرزا مجبراً في النهاية للاستعانة بالمرحوم احتشام السلطنة - سفير إيران الكبير في البلاط العثمانيّ - فيطلعه على الأمر و يطلب منه التوسّط من قبله في المباحثة مع ولده السلطان أحمد شاه في الموضوعَين اللذين نصحه بهما و أن يطلب منه تنفيذهما بأيّ نحو ممكن.
و يردّ السلطان أحمد شاه على احتشام السلطنة في حضور والده محمّد على الميرزا: إنّ القانون الأساسيّ بمثابة عقد عمل بين شخصَين، و لستُ أنا الذي نظّم هذا العقد، و لقد أمضيتم عليه كي تنفّذوه!
لقد وجدتُ نفسي فعلًا أمام أمر مقضى، و لن يمكنني أن أتخطّى هذا العقد و الموادّ المذكورة فيه بأدني شيء، فهذا القانون الأساسيّ للمملكة هو عقدُ عمل بين الشعب و الشاه. و قد وجدتُ نفسي حين وصلتُ إلى السلطنة أمام أمر قد ابرم، فلم يمكنني رفضه أو التحايل عليه. و لو تمّت المصادقة على هذا القانون في زمني لما أمضيته بكيفيّته هذه، و لَوَضَعْتُ حقوقاً لنفسي. و الآن إيضاً إن جرى إعادة النظر في القانون الأساسيّ فأعطاني الشعب الإيرانيّ صلاحيّات للعمل لتدخّلت بالطبع، و إلّا فلستُ حاضراً بأيّة صورة أن أعمل أي شيء يُعدّ خلافاً للقانون الأساسيّ و تخطٍّ له.
أمّا بشأن اسلوب تعاملي و سلوكي مع الإنجليز و سائر الدول المجاورة، فسأعمل وفق ما تقتضيه مصالح المملكة، و لو انجرّ ذلك إلى إقصائي عن السلطة أو انقراض السلسلة القاجاريّة.۱
و تُبيِّن هذه المسألة بوضوح مدى احترام السلطان أحمد شاه للقانون
الأساسيّ للمملكة، فلم يكن مستعدّاً للقيام بإقدام يعاكسه و يخالفه.۱
و قد كتبت عنه الجرائد و المجلّات في أواخر عهد سلطنته، و خاصّة في سفراته الإجباريّة إلى الخارج، فنسبت إليه التهم بتحريك الماسونيّين الإنجليز، و ذكرته بما لا يُستساغ، لكنّ ذلك السلطان طاهر الذيل، كان مصوناً منزّهاً من ساحة هذه التهم و الافتراءات.
و أورد أيضاً في «تاريخ زندگاني سياسي ...»: كان عارف القزوينيّ يمتلك عداءً قديماً للقاجاريّة، لذا فقد كان له دور مهمّ بإعلامه المسموم المضادّ لسلطنة أحمد شاه، و منشغلًا بالمسرحيّات و العزف و الغناء الجماعيّ و أشعاره الكاذبة التي كان ينشدها لصالح قائد الجيش (رضا خان). و كان مدمناً على الأفيُون، و لقد كوفئ على الخدمات التي قدّمها لرضا خان بأن عيّن له إلى آخر عمره راتباً شهريّاً يعادل راتب نقيب في الجيش، فاختار همدان و سافر إليها، ثمّ ندم هناك ندماً لا يوصف إلى آخر عمره على ما اجترحه، حتى مات أخيراً في بؤسه و شقائه.
و قد أنشد عارف أشعاراً ضدّ أحمد شاه نورد بعضها هنا:
به مردم اين همه بيداد شد ز مركز داد | *** | زديم تيشه بر اين ريشه هر چه بادا باد |
پس از مصيبت قاجار عيد جمهورى | *** | يقين بدان بود امروز بهترين أعياد٢ |
خوشم كه دست طبيعت گذاشت در دربار | *** | چراغ سلطنت شاه بر دريچة باد |
تو نيز فاتحهء سلطنت بخوان عارف | *** | خداش با همه بد فطرتى بيامرزاد۱ |
و له كذلك أشعار غزليّة كاذبة معروفة:
سُوى بلبل، دم گل باد صبا خواهد بُرد | *** | خبر مقدم گل تا همه جا خواهد برد |
مُژده ده مژدهء جمهورى ما تا همه جاى | *** | هاتف غيب به تأييد خدا خواهد برد |
سَر بازار جنون، عشق شه إيران را | *** | در أروپا چه خوش انگشت نما خواهد برد |
كَس نپرسيد كه آن گنج جواهر كز هند | *** | نادر آورد، شهنشه به چه جا خواهد برد؟٢ |
تا كه آخوند و قجر زنده در ايرانند اين | *** | ننگ را كشور دارا به كجا خواهد برد؟ |
زاهد ار خرقهء سالوس به ميخانه بَرَد | *** | آبروى همهء ميكدهها خواهد بُرد |
شيخ طرّار به تر دستى يك چشم زدن | *** | أثر از مصحف وتسبيح و دعا خواهد بُرد |
تاج كيخسرو و تخت جم اگر آبروئى | *** | داشت آن آبرو اين شاه گدا خواهد بُرد |
باد سردار سپه زنده در ايران عارف | *** | كشور رو به فنا را به بقا خواهد بُرد۱ |
يقول الحقير: يُمكن بالأشعار المذكورة في «ديوان إيرج ميرزا» و بعلاقاته الحميمة مع عارف القزوينيّ استنتاج درجة الفساد في أخلاق عارف، و التي مثّلت في الفساد و الغيّ أقصاه و منتهاه.
كان أحمد شاه يحسب للعواقب، فلم يجعل المصلحة العامّة فداءً
و جاء كذلك في الكتاب المذكور. أنّ الإنجليز اقترحوا إنشاء شبكة
السكك الحديديّة من الجنوب إلى ميناء جَز (گز)، فقام أحمد شاه ببيان عيوب هذا الطريق، و قال: إنّ من الصالح أن تمتد السكك الحديديّة في إيران من الشرق إلى الغرب فتساعد تجارة الهند إلى إيران و ترانزيت إيران، في حين أنّ خطوط السكك الممتدة من الجنوب إلى الشمال لها جانب عسكريّ و استراتيجيّ فقط، و ليست في صالح الشعب الإيرانيّ، فلا يمكنني أن آخذ أموال الشعب، أو بالاقتراض من الخارج، لأصرف ذلك في سكك حديديّة ليس فيها إلّا الأهمّيّة العسكريّة للإنجليز.
و ردّ الوزير الذي كان يحمل الرسالة على السلطان أحمد شاه قائلًا. لا يمكن إعطاء جواب سلبيّ بهذه الصراحة إلى الوزير الإنجليزيّ المفوّض، و كان الأحرى أن يكون الجواب أكثر ليونة.
فتأمّل السلطان أحمد شاه هنيهة، ثمّ قال في جوابه. أيّها السيّد! إنّ هؤلاء يعرفونني و يعرفونك أفضل ممّا نعرف أنفسنا، فلو اعطي لهم غير هذا الجواب لفهموا أنّه قد كُذب عليهم. فالأفضل أن يُقال بهذه الصراحة. إنّني لا اوافق بأيّة صورة على هذه الخطّة.۱
و أورد أيضاً تحت عنوان: لِمَاذَا كَانَ السُّلْطَانُ أحْمَد شَاه مُعَارِضاً لِاغْتِيَال رِضَا خَان؟
لم يكن قد بقي على انقراض السلسلة القاجاريّة و جلسة التاسع من آبان ۱٣۰٤ هـ. ش أكثر من شهرين أو ثلاث، و كان السلطان أحمد شاه آنذاك في سويسرا و قد جاءه شخص أو شخصان من أقاربه و المنسوبين له لوداعه قبل سفرهم إلى إيران، فأخبراه بعزمهما على السفر إلى إيران و طلبا إذنه لهما بذلك. و قد بدأ كلّ من الطرفين خلال هذا اللقاء بمعاتبة الطرف
الآخر، فعاتبهما الشاه. لماذا يندر أن تأتيا إلى؟ و عتبا بدورهما على أمر آخر.
أحمد شاه يطوي تأريخاً مليئاً بالأحداث و لا يرضى بالخيانة
ثمّ قال الشاه و الدموع تنساب من طرفي عينيه:
لكم الحقّ أن تفكّروا أنّني سأكون السبب في انقراض السلسلة القاجاريّة، و أنّني الباعث لسوء حظّ الاسرة، لكنّكم تستطيعون امتلاك هذا النمط من التفكير أو النوايا مادمتم لستم في موقع كموقعي. و لو كنتم في مكاني لصدّقتم أنّ ما فعلتُه كان في صالح الشعب و المملكة و الاسرة القاجاريّة.
فأجابه أحدهما مُعَرِّضاً. لقد هيّئتم بنفسكم وسائل الانقراض، فلو كنتم قد أعطيتم موافقتكم على إنهاء أمر رضا خان لما عانينا اليوم من كلّ هذه المشكلات.
فقاطعه الشاه قائلًا: لو كنّا قتلنا رضا خان فرضاً لأوجدوا لنا رضا خان آخر! لو كان رضا خان قد قُتل لأوجدوا لنا رضا خان آخر أقسى ألف مرّة، و لاستغلّوا قتل رضا خان و لنسبوا إلينا كلّ ما يريدون و لتقوّلوا علينا الأقاويل، فلم يكن في صالحنا أن نوافق على اغتيال رضا خان أو إعدامه.
فقال الآخر: ليس في الأمر من معضلة، فنحن نستطيع ترميم علاقاتكم مع الإنجليز، و لن يكون آنذاك من عائق يعيق عودتكم إلى إيران.
أجاب الشاه بلا تأمّل: لو علمتم ماذا كانت طلباتهم لما اقترحتم اقتراحاً كهذا! و لو استسلمتُ لهم لاكتسبت خطّتهم صورتها العمليّة بهذا الشرط: أن تُطبّق جميع مطاليبهم، ولكن على يدي أنا. و سيكون نصيبي في هذه الحال الفضيحة و السمعة السيّئة، في حين سيكون رضا خان كمثل أهل الجنّة.
دعوا رضا خان نفسه يطبّق خطّتهم، فستكون الفضيحة و العار في انتظاره في الخاتمة و سأكون أنا من أهل الجنّة، وَ الحُكْمُ في هَذَا الأمْرِ لِلتَّأرِيخِ الذي سيرى الماضي و يشهد المستقبل، و عند ذاك سيقارن بين الاثنين و يقضي بيننا.
و ليس بيدي فعلًا إلّا التسليم للقدر.
و أمّا من انقراض الاسرة القاجاريّة، فليكن ذلك، ولكنّي لم اهيّئ أسباب الشقاء لأحد، و لستُ مستعدّاً مطلقاً للتسليم لإرادة الآخرين، فما دامت الدنيا، و مادام التأريخ فلن ألصق السمعة السيّئة لاسمي، و لكم أن تتصوّروا ما تشاؤون.
فإن وصموني بالجبن فلهم أن يفعلوا، لكنّهم لن ينسبوني إلى الخيانة، ففي هذا وحده السعادةُ لي و لعائلتي.۱
و لربّما كان كلام بوانكاره رئيس جمهوريّة فرنسا الأسبق مستنداً إلى هذه الأوّليّات حين قال لأحمد شاه - و كان صديقه الحميم، و كانا يلتقيان غالباً لقاءات حارّة غير رسميّة كصديقين-. أعجبُ كيف تعجزون عن إدارة أجهزتكم مع كلّ الذكاء و الفراسة التي نعرفها عنكم، و مع هذه الدراية و الصلابة التي تمتلكونها؟! و لربّما لم يكن الشعب الإيرانيّ لائقاً ليكون له ملك قانونيّ يدافع عن الدستور مثلكم! و كان أحرى لكم و أنتم بهذه الكيفيّة أن تلوا سلطنة مملكة كسويسرا مثلًا، ليمكن لشعبها الاستفادة من وجودكم.٢
خطاب أحمد شاه في فرنسا بشأن حقّانيّته
و كان قد انقضى على جلسة التاسع من آبان ۱٣۰٤ هـ. ش (التي أصدر
فيها المجلس قراره بانقراض القاجاريّة)، و في مدينة نيس (في جنوب فرنسا) التي يذهب إليها أغلب اللوردات الإنجليز و سائر أثرياء الدنيا للنزهة؛ و في دعوة رسميّة من قبل أحمد شاه، وقف شاه إيران المخلوع يدافع عن تاجه و عرشه في خطاب مفصّل، و كانت كلمته تدور حول تأريخ إيران السياسيّ، و قد تكلّم ما يقارب ساعة كاملة ببلاغة، فبحث عن تأريخ إيران ثمّ أورد مطالب مهمّة عن تغيير السلطنة في إيران، و نُعرض لعدّة أسباب عن ذِكر محور و مفهوم هذا الخطاب التأريخيّ.۱
و كان غالباً ما يؤامر رئيس الوزراء الفعليّ في الظروف الحرجة، فتتّخذ الامور السياسيّة باستقالتهم شكلًا آخراً، و نتيجة لذلك فلم تكن الحياة السياسيّة للدولة تصاب بالركود و الشلل.
و كانت وطنيّته هذه و اتّخاذه نهجاً سياسيّاً هادئاً قد أدّى إلى قيام أغلب الصحف الخارجيّة بعد عزل المرحوم المذكور بتمجيده و امتداحه، و كتبت إحدى الصحف في مقالتها هذه العبارة:
لَمْ يَكُنِ الشَّعْبَ الإيرَانِيُّ لِيَسْتَحِقَّ مَلِكاً دُسْتُورِيَّاً وَ قَانُونِيَّاً وَ وَطَنِيَّاً كَهَذَا.
و لقد دخلت في ذلك الزمن قوّات دولتَين متنازعتَين فاحتلّت إيران، و كانتا دوماً تسعيان إثر نفوذهما وضعف الحكومة المركزيّة لاستحصال وثائق من المشار إليه.
و قد تظاهر أحمد شاه بالوسوسة، و تمارض مدّة طويلة بهذه الذريعة و أجاد دوره، و كان يسعى لتمويه الأمر، و بذريعة أنّ الأشخاص الموجودين حوله يمكن أن يكونوا ملوّثين بالجراثيم، فقد كان يطلب أدوات إعداد
الشاي فيقوم بإعداده بنفسه خوفاً من تلوّثه بأيدي الآخرين!
و كان مبرّر هذا التمارض و هذا الأمر أن لا يمسك بيده قلماً أبداً، و كان لهذا المبرّر لا يمسك بالقلم بيده و لا يوقّع بإمضائه أي شيء، و إذا ما حدث أن التقى بممثّل لدولة أجنبيّة، و كان له طلب معين، فلم يكن أحمد شاه ليأخذ من أحد شيئاً، و كان يقول: ضعوا الورقة على المنضدة! و سأرسل إلى هيئة الوزراء و آمرهم أن يعطوكم جوابه بسرعة.۱
و كان حين ينصحونه كي يتغلّب على مخالفيه بـ: شكِّل حزباً!
يردّ. حين أكون ملكاً دستوريّاً، فأنا رئيس حزب الشعب، و سيكون كافّة أفراد البلد أعضاء فيه. أمّا إن عزلتُ عدّة قليلة من هذا الحزب و ميّزتهم عن الآخرين فقلتُ مُستثنياً إنّ هذا سيكون حزبي الخاصّ بي، فسيلزم من ذلك أن أنظر إلى الآخرين باحتقار و أن أعتبرهم لا ينتمون إلى حزبي. و سيكون ردّ الفعل على هذا العمل أنّ الناس سيشكّلون مقابل هذا الحزب حزباً آخراً ستكون مقاومته بالنسبة لي غير ممكنة و مستحيلة.٢
تمعّنوا في القصّة التالية التي تبيّن مدى الوقاحة، و في نفس الوقت مدى قدرة النفوذ الإنجليزيّ في تلك الفترة و تأثير شيطنتهم و مكرهم:
قَرَارُ الإنْجِلِيزِ على خَلْعِ القَاجَارِيَّةِ
... حين أحسّ رؤساء القاجاريّة أنّ الإنجليز في صدد تغيير نظام الحكم و عزل أحمد شاه بسبب مخالفته لهم، عقدوا اجتماعاً بينهم ورأوا أنّ في صالحهم أن يتباحثوا مباشرة مع الإنجليز و يأتوا للحكم بشخص آخر
من الاسرة القاجاريّة.
و قد اتّخذ قرار في هذا الاجتماع بأن يقوم نُصرت السلطنة و عضد السلطان عمّا السلطان أحمد شاه بالسفر إلى اوروبّا مصطحبَين معهما آقا خان المحلّاتيّ الذي كان الإنجليز يثقون به، فيذهبوا إلى لندن و يفاوضوا اللورد كرزون وزير الخارجيّة الإنجليزيّة مباشرةً.
و حين وصلت هذه الهيئة إلى لندن، طلب الأشخاص الثلاثة مقابلة وزير الخارجيّة الإنجليزيّة فحُدِّد لهم موعد لمقابلته. و قد أوضحوا في هذا اللقاء هدفهم بصراحة، فقال وزير الخارجيّة الإنجليزيّ في جوابهم. إنّ ملفّ هذه القضيّة في يد المدير العامّ لشؤون الشرق، و قد ذهب فعلًا في إجازة إلى اسكتلندا، و سأكتب له رسالة فابحثوا معه الأمر فسيطلعكم على مسار الامور.
و قد ذهب هؤلاء الثلاثة إلى اسكتلندا و قرعوا على باب البيت الصيفيّ للمدير العامّ، ففتح لهم الباب و منشفة الحمّام على كتفه؛ و كان قد خرج توّاً من الحمّام؛ و سألهم عمّا لديهم، فسلّموه رسالة وزير الخارجيّة فدعاهم إلى الدخول فدخلوا و جلسوا في غرفة الطعام. و بدأ هناك آقا خان المحلّاتيّ فذكر الغرض من هذا اللقاء و أعقب راجياً. الآن و قد حصلت لديكم النيّة لعزل السلطان أحمد شاه، فالأفضل أن يُنتخب للسلطنة أي شخص آخر يحظى بقبولكم.
سأل المدير العامّ. ألديكم موضوع آخر تطرحونه؟ فأجابوا بالنفي، فدفع بيده ورقة وزير الخارجيّة الموضوعة على المنضدة أمامه، و قال:
لا نستطيع العمل أكثر من هذا مع هذه العائلة التي جعلتنا طوال مائة و خمسين سنة في حرب دائمة مع الروس على كلّ متر.
فنظر الثلاثة إلى بعضهم، و قال أحدهم: إِنَّا لِلَّهِ وَ إِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ.۱
ثمّ خاطب المدير العامّ لشؤون الشرق نصرت السلطنة و عضد السلطان و أخبرهم أنّ أحداً لن يتصدّى لمزاحمتهم و أنّ سلامتهم مصونة.
و قد عاد هذان الشخصان إلى إيران عن طريق روسيا، و كانا و هما في طريقهما من رشت إلى طهران أن داهمهما عدّة أشخاص مقنّعون في منطقة إمام زاده هاشم، فأوقفوا سيّارتهم و نهبوا كلّ ما لديهم، فراجع نصرت السلطنة القنصليّة الإنجليزيّة في رشت و أخبرهم بالأمر، فأعادوا لهم وسائلهم و أمتعتهم التي نُهبت منهم بعد ٢٤ ساعة بدون أن ينقص منها شيء.٢
و كان المرحوم المدرّس رضوان الله عليه مخالفاً لتغيير السلطنة من القاجاريّة إلى البهلويّ، و قد ألقى عدّة خطابات منطقيّة و استدلاليّة على رأيه في المجلس، و قد أرسل قبل اجتماع المجلس في التاسع من آبان ۱٣۰٤ هـ. ش، من قبله السيّد رحيم زاده الصفويّ إلى باريس ليدعو أحمد شاه للعودة إلى إيران بأيّ شكل، و كانت رسالة المدرّس مؤثِّرة في أحمد شاه، و على خلاف الردود السلبيّة التي أعطاها للآخرين فقد قبل دعوة المدرّس، لكنّ جملة امور جعلته يتلكّأ بالعودة، منها. تساهل مفتاح السلطنة - سفير إيران الكبير - و إتلافه للوقت في إعداد سفينة للسفر إلى إيران، فكان يتصرّف كلّ مرّة بالمزاح و الهزل فيقول:
أين يريد صاحب الجلالة الذهاب تاركاً اوروبّا ذات الجمال الرائع؟
و كان ذلك بإشارة و توجيه من الإنجليز.
و من تلك الأسباب. مرور الوقت و سوء الظنّ بتلك الرسالة، و سوء الظنّ بوليّ العهد، حتى انقضى الأمر و اجتمع المجلس - و كان غير قانونيّ لفقدانه رئيس المجلس - و كان مستوفى الممالك قد استقال، و سبقه في ذلك الرئيس الأسبق - مؤتمن الملك، الذي استقال لنفس السبب - فأصدر بلا مشاورة أو علم مُسبق قراره الفوريّ بخلع القاجاريّة و تنصيب رضا خان لرئاسة الحكومة المؤقّتة.۱
سفر فروغي إلى باريس لشراء استقالة أحمد شاه بمليون ليرة
لقد كانت هناك جهات عديدة في مجلس التاسع من آبان الذي خلع القاجاريّة من السلطنة، و التي كان لها دلالة على عدم قانونيّة ذلك المجلس، ممّا يمكن أن يسبّب لقائد الجيش (رضا خان) مشاكل فيما بعد، و تظهر حكومته كحكومةٍ جاءت بالإجبار و الإكراه، لذا عمد البهلويّ إلى إرسال ذكاء المُلك فروغي٢ إلى اوروبّا في مهمّة ليلتقى أحمد شاه في باريس و يحاول تطميعه بأيّة وسيلة ممكنة ليكتب استقالته و يسلّمها له فيستلم مقابل ذلك المال.
و قد سافر فروغي فالتقى بالسلطان أحمد شاه و عرض عليه ذلك فردّ عليه بالرفض، فأضاف فروغي في خاتمة طلبه: لديّ أمر يخوّلني أن أشتري استقالتكم و لو بمليون ليرة!
ردّ أحمد شاه و قد امتقع وجهه. لستُ مستعدّاً للبيع و لو بألف ضعف هذا المبلغ، فقل لسادتك عنّي. إنّكم توهّمتم باطلًا! و سأشمخ برأسي أمام وجداني و أمام أجيال إيران القادمة، إنّي كنتُ مستعدّاً أن اقصي عن السلطنة و لا أخون و لا أنكل، فلم أعمل إلّا الواجب الذي اسند لي، و سيحكم التأريخ أنّي اقصيت عن السلطنة و الحكم على رغم إرادة الشعب الإيرانيّ.
و عليه، فاستقالتي ستُظهر كما لو أنّي تنازلت و لم أعتبر السلطة حقّي المسلّم. لذا، فلن أستقيل و لو أعطيتموني الدنيا بما فيها.۱
ولد أحمد شاه بتأريخ ٢۷ شعبان المعظّم ۱٣۱٤ هـ. ق، و كانت والدته - ملكة جهان بنت نائب السلطنة كامران ميرزا - معروفة بالعفّة و العصمة و النزاهة و القدسيّة، و قد وصل إلى السلطنة سنة ۱٣٢۷ هـ. ق، أي في سنّ الثانية عشرة من عمره، بعد خلع محمّد على شاه، و تُوِّج في السابع عشر من ربيع الأوّل ۱٣٣٤ هـ. ق، و في تأريخ ۱٣ ربيع الثاني ۱٣٤٤ هـ. ق، الموافق للتاسع من شهر آبان ۱٣٤٤ هـ. ش اقصي عن سلطنة إيران على الرغم من رغبة الشعب الإيرانيّ و إرادته الحقيقيّة تصحبه دنيا من المفاخر. و أخيراً رحل عن الدنيا سنة ۱٣٤۷ هـ. ق، بعد سلسلة من الأمراض المستديمة، و التحق بعالم الخلود.
ثمّ حُملت جنازة ذلك المرحوم حسب وصيّته من فرنسا بالطائرة إلى العتبات المقدّسة، و دفن في كربلاء، و قد نكّست جميع سفارات الدول الموجودة في بغداد أعلامها احتراماً عند ورود الجنازة إلى بغداد (عدا سفارة دولة إيران التي ظلّ علمها مرفوعاً غير منكّس) و اجريت من قبل دولة
العراق أيضاً مراسم عسكريّة من قبل الحرس احتراماً لموكب الجنازة.۱
و هكذا وضع أحمد شاه في باريس خاتمة حياته المفجعة و لفظ أنفاسه هناك، و تولّى عدّة من أصدقائه الأوفياء بعد إجراء المراسم الدينيّة حسب الشريعة المحمّديّة نقل جنازته إلى العراق طبق وصيّته و دفنوها في تلك التربة المقدّسة.٢
و يقع قبره خلف ضريح سيّدالشهداء عليهالسلام في مقبرة الاسرة القاجاريّة رحمة الله عليه رحمةً واسعة، جعله الله من الواصلين الفائزين مع إمامه الشهيد الذي لاذ بفناء بيته الكريم.
يتمثّل النهج الاستعماريّ الكافر في الخيانة، و النهج القرآنيّ في الحياة
نعم، كان هدفنا من بيان تأريخ هذا السلطان المظلوم إيراد شاهد لبيان سيطرة و غلبة دولة الإنجليز على دولة الإسلام، حيث ضربت عرض الجدار باسم الحرّيّة بجميع شؤون حياتنا و إنسانيّتنا، فهؤلاء الأدعياء المتبجّحون لم يتردّدوا طيلة ثلاثمائة سنة؛ توسّلوا فيها بأنواع الخداع و الحيل، حتى باسم إلغاء الرقّ و العبوديّة و منح الحرّيّة و الاخوّة و المساواة؛ عن ارتكاب أقسى درجات الاعتداء و الأسر و القتل و التعذيب و السجن، و لم يتورّعوا - وصولًا لنهب الأموال و الثروات - عن أيّة جناية و خيانة؛٣ أمّا القرآن
الكريم و تعاليمه الباعثة على الحياة فهي حيّة لا تموت و لا يخمد بريق ساحتها المقدّسة مرّ الدهور و كرّ العصور.
وجود الإمام المعصوم حقيقة القرآن
فإن كان أعداؤنا لم يؤمنوا بالقرآن و لم تنفذ تعاليمه إلى أرواحهم و قلوبهم، فإنّ هناك مَن يدهش و يُغمى عليه لسماع نغمة مُحْيِيَة واحدة لهذا الكتاب السماويّ، و من هو مستعدّ - في سبيل إعلاء كلمة القرآن - للإيثار و التضحية و الموت، و أن يقدّم روحه و ماله و عرضه و أهله، و لا يقف في عطائه عند حدّ:
وَ بِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَ بِالْحَقِّ نَزَلَ وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلَّا مُبَشِّراً وَ نَذِيراً ، وَ قُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَ نَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا ، قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً ، وَ يَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولًا ، وَ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَ يَزِيدُهُمْ خُشُوعاً.۱
فهذه الآيات عجيبة، و خاصّة الآية الاولى القائلة: «وَ بِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَ بِالْحَقِّ نَزَلَ»، و التي يقول بعدها: «وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلَّا مُبَشِّراً وَ نَذِيراً»؛ مع أنّ حقّ العبارة أن يقول: و ما أرسلنا القرآن إلّا مبشّراً و نذيراً، لأنّ الكلام كان عن القرآن لا عن الرسول.
و عليه، فإنّ هذه الآية تبيّن أنّ رسول الله هو حقيقة القرآن، و أنّ حقّانيّة القرآن ممثّلة في نزول حقّانيّة رسول الله في البشارة و الإنذار.
و على هذا الأساس فقد قال أميرالمؤمنين عليه أفضل صلوات المصلّين في حرب صفّين التي رفع فيها معاوية بخديعة عمرو بن العاص المصاحفَ على الرماح: لا تلتفتوا إلى هذا القرآن و ارموه بالرماح و السهام، فأنا القرآن الناطق، أنَا كِتَابُ اللهِ النَّاطِقُ.
لكنّ العوامّ لا يرون إلّا الظواهر، و لا تنفذ عقولهم إلى اللبّ
و الحقائق، فما يرونه في الظاهر يعدّونه ملاكاً للحقّ، لذا لم يُصغوا إلى أمره عليهالسلام و أحاطوا به قائلين. سلِّم لحُكم الحكمَين و حكِّم القرآن، و إلّا جعلناك طعمة سيوفنا العشرة آلاف فقطّعناك إرباً إرباً. قال: أمهلوني ساعة، فقد أشرف الأشتر على الفتح و وصل إلى معسكر معاوية. قالوا: لا مهلة في الأمر أبداً. فالخفّاش ينكر وجود الشمس! هذه الشمس الموجودة التي تمنح نورها الشرق و الغرب؛ فليس إنكاره إلّا حجابه هو، و ضعف بصره و عماه. و لم يكن له أن ينكر الشمس، بل كان عليه أن يعالج عينه.
يقول المامقانيّ: و لقد أجاد الخَلِيلُ العَرُوضِيُّ النَّحْوِيُّ لمّا سُئل: مَا تَقُولُ في عليّ بْنِ أبِي طَالِبٍ عَلَيْهِالسَّلَامُ؟
قال: مَا أقُولُ في حَقِّ امْرِئٍ كَتَمَتْ مَنَاقِبَهُ أوْلِيَاؤُهُ خَوْفاً وَ أعْدَاؤُهُ حَسَداً؛ ثُمَّ ظَهَرَ مِنْ بَيْنِ الكَتْمَيْنِ مَا مَلأ الخَافِقَيْنِ.
و قال المُتَنَبِّي الشاعر المشهور في جواب مَنِ اعترض عليه في عدم مدحه أميرالمؤمنين عليهالسلام على كثرة أشعاره:
وَ تَرَكْتُ مَدْحِي لِلْوَصِيِّ تَعَمُّدا | *** | إذْ كَانَ نُوراً مُسْتَطِيلًا شَامِلَا |
وَ إذَا اسْتَطَالَ الشَّيءُ قَامَ بِنَفْسِهِ | *** | وَ صِفَاتُ ضَوْءِ الشَّمْسِ تَذْهَبُ بَاطِلَا |
فوجود الإمام حقيقة النور، و حقيقة القرآن، و هو البشير و النذير، و هو المحيي و المميت:
روزى كه شود إذَا السَّمَآءُ انفَطَرَتْ | *** | و آنگه كه شود إذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ۱ |
من دامن تو بگيرم اندر سُئِلَتْ | *** | گويم. صَنما بِأيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ |
عشق تو مرا ألَسْتُ مِنْكُمْ بِبَعِيدْ | *** | هجر تو مرا إنَّ عَذَابِي لَشَدِيدْ |
بر كنج لبت نوشته يُحْيِي وَ يُمِيتْ | *** | مَنْ مَاتَ مِنَ العِشْقِ فَقَدْ مَاتَ شَهِيد۱ |
و لقد انهال سيف ابن ملجم المراديّ على القرآن فَفَلَقَهُ، و كانت قطعات بدن الحسين عليهالسلام أوراق القرآن المتناثرة. و ما كان أبلغ بيان الشاعر لهذه الحقيقة في بدنه الذي صار من فرط نور تجلّيات جلال الحقّ سبحانه كالمصحف ذي الأوراق المتناثرة، طريحاً على أرض كربلاء:
چو رسيد زينب مبتلا بر قتلگاه پر از بلا | *** | رَأتِ الحُسَيْنَ مُقَطَّعاً وَ على التُّرَابِ مُرَمَّلَا |
ز تجلّيات جمال حقّ شده مصحفانه ورق ورق | *** | ز وفا نوشته بهر ورق كه أنَا الشَّهِيدُ بِكَرْبَلا٢ |
ز نجوم زخم تنش فزون ز حساب و شماره شده برون | *** | زده خيمه گرد وجود آن سپه مصيبت و ابتلا |
چو بديد كشته برادرش ز وفا گرفت چو بر درش | *** | سخني شنيد ز حنجرش فأجابها كه بَلَي بَلَي |
كه مگر نهاي تو برادرم؟ ز نژاد حضرت مادرم | *** | به فداي پيكر تو سرم؛ لِمَ في التُّرابِ مُجَدَّلَا۱ |
اللَهُمَّ صَلِّ وَ سَلِّمْ وَ زِدْ وَ بَارِك على الحُسَيْنِ وَ امِّهِ وَ أبِيهِ وَ أخِيهِ وَ على التِّسْعَةِ الطَّاهِرَةِ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ وَ ألْحِقْنَا بِهِمْ في جَنَّاتِ النَّعِيمِ، وَ أهْلِكْ وَ الْعَنْ أعْدَاءَهُمْ مِنَ الأوَّلِينَ وَ الآخِرِينَ؛ آمِينَ رَبَّ العَالَمِينَ.
البَحْثُ السَّادِسُ: سَيْرُ القُرْآنِ في آيَاتِ الأنْفُسِ و تفسير آية اللهُ ﴿نَزَّلَ أحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَبِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَ قُلُوبُهُمْ إلى ذِكْرِ اللهِ ذَلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَآءُ وَ مَن يُضْلِلِ اللهُ فَمَا لَهُو مِنْ هَادٍ﴾
أعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيطانِ الرَّجِيمِ
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
و صلَّى اللهُ على سَيِّدِنا مُحَمَّدٍ و آلِهِ الطَّيِّبِينَ الطَّاهِرِينَ
و لَعْنَةُ اللهِ على أعْدَائهِمْ أجْمَعِينَ مِنَ الآنَ إلى قِيامِ يَوْمِ الدِّينِ
و لَا حَولَ و لَا قُوَّةَ إلَّا بِاللهِ العَلِيِّ العَظِيمِ
قال الله الحكيم في كتابه الكريم:
اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَ قُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ وَ مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ.۱
تفسير آية: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ
قال سماحة استاذنا الأكرم العلّامة آية الله الطباطبائيّ قدّس الله سرّه العزيز في تفسير هذه الآية: المراد بأحسن الحديث هو القرآن الكريم، و الحديث هو القول، كما في قوله تعالى: فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ؛٢ و قوله: فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ.٣ فهو أحسن القول لاشتماله على محض الحق الذي لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ لا مِنْ خَلْفِهِ،٤ و هو كلامه
الْمَجِيدِ.۱
و قوله كِتاباً مُتَشابِهاً، أي يشبه بعض أجزائه بعضاً، و هذا غير التشابه الذي في المتشابه المقابل للمُحكم، فإنّه صفة بعض آيات الكتاب و هذا صفة للجميع.
و قوله مَثانِيَ جمع مَثْنِيَّة، بمعنى المعطوف، لانعطاف بعض آياته على بعض، و رجوعه إليه بتبيين بعضها ببعض و تفسير بعضها ببعض من غير اختلاف فيها بحيث يدفع بعضه بعضاً أو يناقضه، كما قال تعالى:
أَ فَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَ لَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً.٢
و قوله: تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ، و الاقشعرار تقبّض الجلد تقبّضاً شديداً لخشية عارضة عن استماع أمر هائل أو رؤيته، و ليس ذلك إلّا لأنّهم على تبصّر من موقف نفوسهم قبال عظمة ربّهم، فإذا سمعوا كلامه توجّهوا إلى ساحة العظمة و الكبرياء فغشيت قلوبهم الخشية و أخذت جلودهم في الاقشعرار.٣
و من الآيات الكريمة لهذا الكتاب المبين أيضاً:
وَ لَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ.٤
و قال سماحة الاستاذ قدّس الله نفسه في شأن هذه الآية:
المراد من السَّبْع المَثَانِي سورة الحمد، على ما فُسِّر في عدّة من
الروايات المأثورة عن النبيّ و أئمّة أهل البيت عليهم السلام، فلا يُصغي إلى ما ذكره بعضهم. أنّها السبع الطوال، و ما ذكره بعضٌ آخر أنّها الحَوَامِيم السَّبْع (السور السبع التي تبدأ بـ «حم»)، و ما قيل: إنّها سبع صحف من الصحف النازلة على الأنبياء؛ فلا دليل على شيء منها من لفظ الكتاب و لا من جهة السنّة.
و قد كثر اختلافهم في قوله من المثاني، من جهة كون مِن للتبعيض أو للتبيين، و في كيفيّة اشتقاق لفظ المَثَاني و وجه تسميتها بالمثاني.
و الذي ينبغي أن يقال - و الله أعلم إنّ مِن للتبعيض، فإنّه سبحانه سمّى جميع آيات كتابه مثاني، إذ قال: كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ؛۱ و آيات سورة الحمد من جملتها، فهي بعض المثاني لا كلّها.
و الظاهر أنّ المثاني جمع مَثْنِيَّة، اسم مفعول من الثني بمعنى اللوي و العطف و الإعادة، قال تعالى: يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ.٢
و سمّيت الآيات القرآنيّة مثاني، لأنّ بعضها يوضِّح حال البعض و يلوي و ينعطف عليه، كما يُشعر به قوله: كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ، حيث جمع بين كون الكتاب متشابهاً يشبه بعض آياته بعضاً و بين كون آياته مثاني.
و في كلام رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم في صفة القرآن: إنّ القُرْآنَ يُصَدِّقُ بَعْضُهُ بَعْضاً.
و عن عليّ عليهالسلام فيه: يَنْطِقُ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ وَ يَشْهَدُ بَعْضُهُ على بَعْضٍ.
أو أنّ المَثَانِي جمع مَثْنَي بمعنى التكرار و الإعادة، و هو كناية عن بيان بعض الآيات ببعضها الآخر. و في التعبير بلفظ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ من تعظيم أمر الفاتحة و القرآن ما لا يخفى على المفكّرين و المتأمّلين؛ أمّا الفاتحة فلمكان التعبير عنها بالنكرة غير الموصوفة سَبْعاً و فيه من الدلالة على عظمة قدرها و جلالة شأنها ما لا يخفى، و قد قوبل بها القرآن العظيم و هي بعضه، و أمّا القرآن فلتوصيفه من ساحة العظمة و الكبرياء بالعظيم.۱
و هذه الآية المباركة: سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي تبيّن بوضوح أنّ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ هي آية مستقلّة عن سورة الحمد، لأنّ مجموع آيات هذه السورة بضميمة هذه الآية تساوي سبعاً.
روايات الخاصّة و العامّة على أنّ البسملة جزء من القرآن
و ينقل السيوطيّ - و هو من العامّة - في كتاب «الإتقان» روايات كثيرة من طرق العامّة أنّ رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم قال بان بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ في جميع سور القرآن و في سورة الحمد جزء من القرآن.
و يروي الفقيه الجليل الحاجّ آقا رضا الهمدانيّ في «مصباح الفقيه» عن يونس بن عبدالرحمن، عن محمّد بن مسلم قال: سألتُ أبا عبدالله الصادق عليهالسلام عن قول الله: وَ لَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ، فقال: فاتحة الكتاب يثنّي فيها القول. قال: و قال رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم:
إن اللهَ تَعَالَى مَنَّ عليّ بِفَاتِحَةِ الكِتَابِ مِنْ كَنْزِ الجَنَّةِ مِنْهَا «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» الآية التي يَقُولُ اللهُ تَعَالَى فِيهَا: «وَ إِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي
الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً»؛ و «الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ» دَعْوَى أهْلِ الجَنَّةِ حِينَ شَكَرُوا اللهَ حُسْنَ الثَّوَابِ. «مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ» قَالَ جِبْرَئيلُ عَلَيْهِالسَّلَامُ: مَا قَالَهَا مُسْلِمٌ قَطُّ إلَّا صَدَّقَهُ اللهُ وَ أهْلُ سَمَاوَاتِهِ؛ «إِيَّاكَ نَعْبُدُ» إخلَاصُ العِبَادِ؛ «وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ» أفْضَلُ مَا طَلَبَ بِهِ العِبَادُ حَوَائِجَهُمْ.
«اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ ، صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ» صِرَاطُ الأنْبِيَاءِ، وَ هُمْ الَّذِينَ أنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ «غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ» اليَهُودُ «وَ لَا الضَّالِّينَ» النَّصَارَى.
و ورد في صحيحة محمّد بن مسلم، قال: سألتُ أبا عبدالله الصادق عليهالسلام عن السبع المثاني و القرآن العظيم، هي الفاتحة؟ قال: نعم.
قلتُ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ من السَّبْع المثاني؟ قال: نعم، هي أفضلهنّ.
و من بين الروايات الدالّة على أنّ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ جزء من سائر السور القرآنيّة، صحيحة معاوية بن عمّار المرويّة في «التهذيب»، قال: قلتُ لأبي عبدالله الصادق عليهالسلام: إذا قمتُ للصلاة، أقرا بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ في فاتحة القرآن؟
قال: نعم.
قلتُ: فإذا قرأتُ فاتحة القرآن، أقرا بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ مع السُّورة؟
قال: نعم.
و ورد كذلك في كتاب «الكافي» للكلينيّ هذا المضون بأدنى اختلاف في العبارة.
و ورد عن العيّاشيّ في تفسيره رواية عن خالد بن المختار، قال:
سَمِعْتُ جَعْفَرَ بنَ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِالسَّلَامُ يقول: مَا لَهُمْ قَاتَلَهُمْ اللهُ عَمَدُوا إلى أعْظَمِ آيَةٍ في كِتَابِ اللهِ فَزَعَمُوا أنَّهَا بِدْعَةٌ إذَا أظْهَرُوا وَ هِيَ «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ».
و يروي أيضاً عن يحيى بن عمير الهُذليّ، عن أبي حمزة قال: سمعتُ الإمام محمّد الباقر عليهالسلام يقول: حَرَّفُوا أكْرَمَ آيَةٍ في كِتَابِ اللهِ. «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ».
و قد ادّعى هذا العالِم الجليل الإجماع على جزئيّة البسملة للقرآن، و قال: بلا خلافٍ بيننا على الظاهر، بل الإجماع على أنّ البسملة جزء من كلّ سورة من سور القرآن عدا سورة براءة، بل ادّعى العلّامة في «التذكرة» و غيرها الإجماع عليه، و نسبه في «المنتهي» إلى فقهاء أهل البيت.۱
معنى المثاني و السور الطوال و المئين و المفصّلات و القِصار
و يتّضح ممّا أوردنا في هذا البحث أنّ لفظ المثاني يُطلق على جميع سور و آيات القرآن و عدم اختصاصه ببعض السور، كما احتمل المرحوم الفيض الكاشانيّ بأنّ المراد به السور السبع بعد السور السبع الطُّوَل الاوَل، لأنّ ثَنَى يَثْنِي الذي اشتقّ منه المَثْنِيَّة و المَثَانِي بمعنى العطف و إرجاع شيء إلى شيء آخر كما في العطف و اللوي، لا مطلق المتابعة الذي بنى عليه الفيض الكاشانيّ لمجرّد مجيء سبع سور بعد السور السبع الطُّوَل فعدّهامثاني.٢
و عليه، فلا يمكن قبول ما ورد في بعض الروايات من تفسير لفظ المَثَانِي ببعض السور أو تخصيصه بسورة الفاتحة باعتبار تكرارها في الصلاة، لأنّ مفاد هذه الروايات مرفوض، و ذلك أوّلًا. لمعارضتها مدلول الكتاب الذي يعتبِر المثاني جميع الكتاب، و ثانياً: فإنّ المعنى الحقيقيّ للمثاني إرجاع شيء إلى شيء آخر، و هو ناظر إلى جميع الآيات التي يبيّن بعضها و يفسِّر البعض الآخر، في حين أنّ معنى التكرار أو مطلق التبعيّة يخالف المعنى اللغويّ الحقيقيّ.
فالقرآن يضمّ مائة و أربع عشرة سورة، منها ٣۷ سورة من عَمَّ يَتَساءَلُونَ إلى آخر القرآن تدعى بالسُّوَرِ القِصَار، و يبقى ۷۷ سورة أوّلها سورة فاتحة الكتاب تليها سبع سور طوال هي. سور البَقَرة، آل عِمْرَان، النِّسَاء، المَائِدَة، الأنْعَام، الأعْرَاف، و الأنْفَال و التَّوْبَة، إذا ما اعتبرنا هاتَين السورتَين سورة واحدة، و في الحقيقة فإنّ هاتين السورتين تُعدّان سورتَين مستقلّتَين، لذا فإنّ مجموع هذه السور الثمان سيصبح مع سورة الفاتحة تسع سور، و إذا ما أنقصناها من السور السبع و السبعين تبقّى ٦۸ سورة تدعى بالمُفَصَّلات.
و يقال للسور الكبيرة الاوَل في القرآن السُّوَر الطِّوال، و كان ينبغي الإتيان بسورة يونس بعد سورة الأعراف، لكنّ عثمان كان قد قدّم عند جمعه القرآن سورة الأنفال و التوبة على سورة يونس، فقد كان يعتقد أنّ سورة التوبة ليست سورة مستقلّة بنفسها لعدم احتوائها على البسملة، و كان يعدّها من متمّمات سورة الأنفال، لذا فقد كانت هاتان السورتان في نظره
سورة واحدة تعدّ من السور الطوال.
و حين اعترض البعض على عثمان بأنّ رسول الله كان قد جعل سورة يونس بعد سورة الأعراف و عدّها من السور الطوال، لم يكن لديه من جواب إلّا أن يقول: لم يكن لي من علمٍ بعمل رسول الله هذا.
و من بين السور المفصّلات هناك سور سبع آياتها في حدود المائة آية يُقال لها أيضاً السور المئين، و هي عبارة عن سور الإسراء، الكهف، مريم، طه، الأنبياء، الحجّ، المؤمنون.
و عليه، ينبغي تفسير مضمون الرواية التي أوردها الكلينيّ في «الكافي»، و استشهد بها الشيخ محمّد حسن في كتاب «الجواهر» في باب استحباب قراءة السُّورة بَعْد الحمد في النوافل، و تعديله وفق ما ذُكِر.
فقد روى الكلينيّ بسنده عن سعد الإسكاف أنّه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم:
اعطِيتُ السُّوَرَ الطِّوَالَ مَكَانَ التَّوْرَاةِ، و المِئِينَ مَكَانَ الإنْجِيلِ، وَ المَثَانِي مَكَانَ الزَّبُورِ، وَ فُضِّلْتُ بِالمُفَصَّلِ ثَمَانٍ وَ سِتِّينَ سُورَةً، وَ هُوَ مُهَيْمِنٌ على سَائِرِ الكُتُبِ۱.
و مضافاً إلى الإشكال الموجود في هذه الرواية من جهة المضمون، و عدّها المثاني في مقابل السور الطوال و المفصّل و المئين، فهي مرفوعة من جهة السند أيضاً و منسوبة إلى رسول الله مع حذف الواسطة.
ماذا تفعل آيات القرآن بنفوس المؤمنين؟
نعم، فقد كانت بداية كلامنا في هذه الآية المباركة أنّ القرآن هو
أفضل القول و أنّ آياته متشابهة و ناظرة إلى بعضها، و أنّ جلود المتّقين تقشعرّ عند قراءته أو استماع آياته، و أنّ القلوب و الأبدان تطمئنّ و تستقرّ بذكر الله.
و هذه هي المسيرة التي وضع القرآن عالَم الآدميّة فيها على مدارج و معارج الروح و النفس، و كان له بالغ الأثر على أرواح المؤمنين و نفوسهم، و هذه هي الهداية الإلهيّة مقابل تخبّط المعرضين عن القرآن في وادي الظلمات متشبّثين بالأهواء و الخيالات و التصوّرات حتى آخر عمرهم.
و القرآن في الحقيقة كالمحكّ الذي يميّز المهتدي عن الضالّ في صَفَّين متميّزَين. صفّ المؤمنين و السير في الكمال النفسانيّ، وصفّ الكافرين و الجمود في زوايا الأهواء النفسانيّة، فهو كالبيّنة القويمة:
لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَ يَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ.۱
يستتبع حياة الخلود للمؤمنين المنهمكين بالسجود و البكاء و التسبيح و التقديس و قيام الليل و المسألة و الدعاء و الرغبة و الرهبة إلى الله سبحانه، و تحليق الروح إلى عالم التوحيد و ارتجاف البدن و اقشعرار الجلد و وجل القلب من خوف هجر المحبوب الأزليّ، و الطمأنينة و السكينة من وجد وصال المعشوق السرمديّ و الحظو بلقائه.
تأمّلوا في هذه الآيات في كيفيّة امتداح و تمجيد القرآن الكريم للذين تربّوا في هذه المدرسة. و أي آثار و خصائص يمتدحها فيهم، و أخيراً الصفات و المزايا النفسيّة و الملكات الروحيّة التي يُشير إليها في خِرِّيجي هذه المدرسة، و التي هي مثار الإعجاب حقّاً:
وَ عِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَ إِذا خاطَبَهُمُ
الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً ، وَ الَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَ قِياماً ، وَ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً ، إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَ مُقاماً ، وَ الَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَ لَمْ يَقْتُرُوا وَ كانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً ، وَ الَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ وَ لا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَ لا يَزْنُونَ وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً ، يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَ يَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً ، إِلَّا مَنْ تابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ عَمَلًا صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وَ كانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً ، وَ مَنْ تابَ وَ عَمِلَ صالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتاباً ، وَ الَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَ إِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً ، وَ الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَ عُمْياناً ، وَ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَ ذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَ اجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً ، أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا وَ يُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَ سَلاماً ، خالِدِينَ فِيها حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَ مُقاماً ، قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْ لا دُعاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً.۱
هذا هو المنطق القرآنيّ في تربية فرد يكون عبداً للّه، فرد قطع كلّ نسبة للعبوديّة مع غير الله و ارتبط بالله وحده، و فاز أخيراً بشهادة التوفيق و النجاح و هي رضوان الحضرة الأحديّة و الاستقرار في حرم الأمن و الأمان الإلهيّ في الغرفة العالية الإلهيّة و السكنى فيها، ثمّ يعدّد لهذا الفرد في هذه الآيات الشريفة الأربع عشرة، خصالًا أربع عشرة هي من ضروراته اللازمة.
أي أنّ القرآن الكريم يقول: إنّ على الراغبين بالخلاص من عبوديّة النفس الأمّارة و من ربقة الأوهام، و الوصول إلى مقام عزّ الإنسانيّة كي تكون لهم إنسانيّتهم و يكون الله الواحد القدير العليم معبودهم و لتنشأ من
ذلك نسبة عبوديّتهم له؛ عليهم أن يتّصفوا و يتحلّوا بهذه الصفات الأربع عشرة التي أشرنا إليها.
و حين يُتلى هذا القرآن على اولئك الذين تخلو قلوبهم من الأحقاد و الضغائن و العصبيّات، فإنّ دموعهم ستنساب تلقائيّاً من أعينهم، لأنّ هذا الكلام هو حديث المحبوب الذي يذكّرهم بالحبيب، و له إشارة و دلالة على الوطن الأصليّ و المقرّ الدائميّ، فيؤمنون به بلا تردّد أو إبطاء:
وَ إِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ.۱
فانظروا ماذا تفعل الآيات الإلهيّة التي هي حديث الشوق إلى الإله القديم الأزليّ بالقلوب الغرثي و الأرواح الظمأي؟ لكأنّها تقتلع الإنسان من الأرض إلى حيث يستقرّ في فضاء القدس و نور التجرّد و الوطن الأصليّ عند الربّ الودود.
تطرد عنه التفكير بالطعام و النوم، و تسلب منه الراحة، فينهض المؤمن فيغتسل أو يتوضّأ في ليالي الشتاء الباردة المظلمة، ثمّ ينهمك بتلاوة القرآن، ثمّ يهوي للسجود و يقوم، و يحسّ عند قراءته كلّ آية كأنّه يَرِدُ جُنينات خاصّة فيرتع فيها و يقطف من فاكهتها الحلوة الهانئة العطرة، ثمّ يطوف من شجرة لُاخرى ذات شكل آخر، ثمّ يتعدّاها إلى غيرها، فهي جميعاً ذات ثمار لذيذة هانئة تبعث الطمأنينة في القلب و الهدوء في النفس البشريّة المليئة بالقلق و الاضطراب.
إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها خَرُّوا سُجَّداً وَ سَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَ هُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ ، تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ
خَوْفاً وَ طَمَعاً وَ مِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ.۱
و هذه حالات و ملكات جيّدة تبعث على النشاط و السرور، و تثير الرعب و الخشية، و هي ناتجة من كون آيات القرآن شفاء و نور و رحمة للمؤمنين، ينالونها في مراحل سيرهم و سلوكهم النفسيّ، لكنّها على العكس من ذلك بالنسبة للمتمرّدين و المستكبرين تبعث على الشقاء و ظهور الأدران النفسانيّة و بروز الملكات الضالّة و الصفات الشيطانيّة.
عدم قبول آيات القرآن من علائم الكفر
موقف الكفّار من قبول القرآن موقف الأصمّ الذي لا يسمع
نعم، هذا القرآن الذي يُتلى على المؤمن فيسمو بروحه إلى الملكوت الأعلى و يهزّ نفسه بهبوب نسائم اللطف و جذبات المحبوب، إذا ما تُلي على الكافر و المُنكر هبّ و انتفض كأنّ جبال العالم توشك أن تُهدّ فوق رأسه، و كأنّهم يريدون الانهيال بمطارق الحديد الثقيلة على امّ رأسه، أو يحطّمونه تحت المقبضة فيهلكونه؛ و ستظهر حالات المنكرين و المعاندين للقرآن مشهودةً جليّة بالتمعّن و التأمّل في الآيات التالية:
وَ يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَ ما لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَ ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ ، وَ إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتِنا قُلْ أَ فَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ.٢
وَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا صُمٌّ وَ بُكْمٌ فِي الظُّلُماتِ مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَ مَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ.٣
وَ يَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْ لا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ
وَ ذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلى لَهُمْ ، طاعَةٌ وَ قَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ ، فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَ تُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ ، أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَ أَعْمى أَبْصارَهُمْ ، أَ فَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها.۱
فهو يذكر في هذه الآيات نفاق و شكّ و ارتياب ذوي القلوب المريضة و الحالكة، الذين تنتابهم حالة النزع و يغطّي وجوههم غبار اليأس و الكآبة و الخمول و الخوف من الموت حين تنزل آيات القرآن فتأمر بالجهاد، فتغور الأعين في الأحداق، و يكادون يلفظون أنفاسهم الأخيرة في حالة من الإغماء و التهالك:
يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِؤُا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ.٢
و كان المنافقون يدهشون عند نزول آيات القرآن و إخبارهم عن المغيّبات و يحذرون أن تنزل آيات منه فتفضح أسرارهم و أفكارهم و تبيّن نواياهم و خططهم السرّيّة و حيلهم و مكرهم و تخبر عن تواطئهم و خفاياهم في لقاءاتهم الليليّة، و كانوا لهذا يحذرون القرآن و يتجنّبونه خوفاً من كشفه إيّاهم:
وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ
وَ يَتَّخِذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ ، وَ إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ.۱
فليس المنافقون و المشركون إلّا كالأصمّ الذي انخرقت طبلة اذنه و تمزّقت، فلا يصله أبداً هذا النداء المحيي و الباعث على النشاط و البهجة، و لن يخترق سماعُ القرآن أو قراءته مغاليق قلبه أو يستقرّ في روحه و نفسه.
وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَ الْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ ، فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذاباً شَدِيداً وَ لَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ.٢
و من الجليّ أن عدم قبول القرآن هو عدم قبول مراده و مضمونه و ليس عدم قبول ظاهره، فهدف المتمرّدين و المنافقين كان عدم قبول المحتوي و المضمون لا الظاهر، و لم يكن يضير الكفّار و المشركين و المنافقين الذين دأبوا على الكذب و النفاق قبولهم بظاهر القرآن لو أنّ مسألة قبول حقيقة القرآن لم تكن في الحساب، و كان يمكن لهؤلاء أن يقبلوا القرآن بسهولة ثمّ يتمرّدوا عن قبول محتواه و مضمونه، و لقد كان إنكارهم له و إعراضهم عنه و اعتراضهم عليه بلحاظ العمل بحقائقه و الالتزام بتعاليمه و الميثاق و البيعة لهدفه و غايته.
لذا نرى أنّ هؤلاء الأفراد الذين كانوا يعارضون القرآن بلباس الشرك، قد لجأوا بعد إسلامهم الشكليّ الظاهريّ - الذي لم يمسّ الباطن و لم يقترن بالقبول الحقيقيّ - إلى تغيير صورتهم و شكلهم الخارجيّ فتلبّسوا
بلباس الدين و تظاهروا به، ثمّ وقفوا في وجه القرآن كما كانوا يفعلون من قبل.
و حقّاً أنّ روح الشيطنة و المقاصد الفكريّة و اسلوب التفكير عند هؤلاء و اولئك كانت واحدة، و كانوا يتستّرون بغطاء الدين حسب مقتضيات الوقت لتحقيق أهدافهم الدنيئة، و كان لديهم غطاءان و لباسان تحكمهما مصلحتان.
فحين كانت القوّة ترجح لصالح الكفر و الشرك، و كانوا يرون سياستهم و حكومتهم ثابتة في ذلك الظرف، فقد كانوا يتجاهرون بحماية الأصنام و يحملون على عواتقهم أعلام هُبَل و اللات و العُزَّي، و كان نداؤهم اعْلُ هُبَل۱ يملأ أرجاء ساحة احد؛ أمّا حين عجزوا عن الصمود في ذلك الخطّ، و حين انتشرت عظمة الإسلام و قدرته بفتح مكّة في السنة الثامنة للهجرة فملأت كلّ حدب و صوب، فقد ارتدى هؤلاء لباس الإسلام ثمّ حملوا سيوفهم و رماحهم تلك على عواتقهم فحاربوا بها حقيقة القرآن المتجلّية في مقام الولاية المقدّس حامي صميم القرآن و مبيِّن أسراره و موضِّح تأويله و مضمونه و معناه.
كان هؤلاء يتظاهرون بمتابعة القرآن، لكنّهم كانوا يمنعون الناس من تفسير القرآن، و يفسّرون برأيهم آياته المتشابهات التي لا سبيل لمعرفتها و درك معانيها غير سبيل اولي العلم، و كانوا يعدّون أنفسهم اولي
الأمر، و قد فعلوا بكتاب الله الأفاعيل.
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَ أُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَ ابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَ ما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَ ما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ.۱
يقول سماحة العلّامة الاستاذ قدّس الله سرّه. امُّ الْكِتَابِ أصل القرآن و مرجعه، و المحكمات هي الآيات ذات المعنى الظاهر الذي لا يحتاج لفهمه للرجوع إلى آيات اخر، بل تفي و تبيّن معناها بنفسها، في حين أنّ المتشابهات هي الآيات التي لا يتعيّن مرادها لفهم السامع بمجرّد استماعها، بل يتردّد بين معنى و معنى حتى يرجع إلى محكمات الكتاب فتعيّن هي معناها و تبيّنها بياناً، فتصير الآية المتشابهة عند ذلك مُحكمة بواسطة الآية المحكمة، و الآية المحكمة محكمة بنفسها، و في النتيجة فإنّ جميع آيات الكتاب محكمة و ليس لدينا فيها آية لا ترجع إلى محكم.
فمثلًا، قوله تعالى: الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى،٢ يشتبه المراد منها على السامع أوّل ما يسمعها، إذ يمكن أن يكون معنى العرش كهذه العروش المعهودة، فإذا أرجعناها إلى مثل قوله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ٣ اتّضح أنّ عرش الله متناسب و وجوده الأزليّ اللامتناهي، و الذي ينطبق - شئنا أم أبينا - على عالم الإرادة و المشيئة، و على هيكل الوجود و جميع العالم.٤
و أمّا في وَ ما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ، فظاهر الكلام رجوع الضمير إلى ما تَشابَهَ، كما هو الظاهر أيضاً في قوله وَ ابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ.
و قد مرّ سابقاً أنّ ذلك لا يستلزم كون التأويل مقصوراً على الآيات المتشابهة، و من الممكن أن نرجع الضمير إلى الكتاب، كالضمير في قوله ما تَشابَهَ مِنْهُ.
و يستفاد من ظاهر الحصر في عبارة وَ ما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ كون العلم بالتأويل مقصوراً عليه سبحانه. و أمّا قوله وَ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ فظاهر الكلام أنّ الواو للاستئناف لا العطف (و لو أنّنا اعتبرنا الواو عاطفة و وقفنا على في الْعِلْمِ و قلنا. وَ ما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ، فلن يكون هناك من إشكال، لا من جهة الإعراب و التركيب اللغويّ، و لا من جهة المحتوى و المعني)؛ بمعنى كونها طرفاً للترديد الذي يدلّ عليه قوله في صدر الآية: فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ؛ فعلى هذا سيكون معنى هذه العبارة. أنّ الناس في الأخذ بكتاب الله قسمان. فمنهم من يتّبع ما تشابه منه (المتشابهات)، و منهم من يقول إذا تشابه عليه شيء منها: آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا، و إنّما اختلفوا لاختلافهم من جهة زَيْغ القَلْب (الانحراف الفكريّ)، و رُسُوخ العِلْم (العلم الراسخ الأصيل و الصحيح).
مضافاً إلى أنّنا لو اعتبرنا الواو عاطفة لاستلزم ذلك إشكالًا مهمّاً، و هو أنّنا نكون قد خرجنا عن دأب القرآن، ذلك لأنّ الواو لو كانت عاطفة و كان المراد بالعطف تشريك الراسخين في العلم بالتأويل كان منهم رسول الله و هو أفضلهم.
و كيف يتصوّر أن ينزل القرآن على قلبه و هو لا يدري ما ارِيدَ به؟ و سنكون قد خرجنا عن دأب القرآن، لأنّ دأبه إذا ذكر الامّة أو وصف أمر
جماعة و فيهم رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم أن يفرده بالذِّكر أوّلًا و يميّزه بالشخص تشريفاً له و تعظيماً لأمره ثمّ يذكرهم جميعاً، كقوله تعالى: آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَ الْمُؤْمِنُونَ.۱
و كآية: ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ.٢
و آية: لكِنِ الرَّسُولُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ.٣
و قوله تعالى: هذَا النَّبِيُّ وَ الَّذِينَ آمَنُوا.٤
و قوله تعالى: يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ.٥
و هناك آيات اخرى غير هذه الآيات وردت في القرآن الكريم على هذا النهج.
فلو كان المراد بقوله: وَ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ أنّهم عالمون بالتأويل - و رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم منهم قطعاً - كان حقّ الكلام أن يُقال: وَ ما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ.
هذا و إن أمكن أن يقال إنّ قوله في صدر الآية هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ يدلّ على كون النبيّ عالماً بالكتاب، فلا حاجة إلى ذكره ثانياً.
فالظاهر من كلّ ما قيل أنّ العلم بالتأويل مقصور في الآية عليه تعالى، و لا ينافي ذلك و رود الاستثناء عليه في هذه الآية وجعْل أفراد معيّنين من العالمين بالتأويل بشكل مسلّم، كما هو الأمر في الآيات الدالّة
على انحصار علم الغيب عليه تعالى مع و رود الاستثناء عليه، كما في قوله تعالى:
عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً ، إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ.۱
و لا منافاة لذلك أن يكون المستثنى من جملة ما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ نفس الراسخين في العلم، إذ لا منافاة بين أن تدلّ هذه الآية على شأن من شؤون الراسخين في العلم، و هو الوقوف عند الشبهة و الإيمان و التسليم في مقابل الزائغين قلباً، و بين أن تدلّ آيات اخر على أنّهم أو بعضاً منهم عالمون بحقيقة القرآن و تأويل آياته على ما سيجيء بيانه.٢
نعم، لقد كان هدفنا من الاستشهاد بهذه الآية المباركة أنّ مخالفة حقيقة القرآن أمر لا ينحصر بالمشركين و المخالفين، فقد نزلت هذه الآية في شأن المسلمين فقسّمتهم صنفَين، أوّلهما مؤمن ملتزم يسلّم بالحقّ، و ثانيهما متمرِّد يسعى للفتنة و يتعقّب المسارات المنحرفة الملتوية و يقبع كامناً في الزوايا، مبتعداً على الدوام عن الصراط المستقيم و الطريق القويم، فهؤلاء منحرفون في خطّ سيرهم النفسيّ، و هم موجودون في كلّ زمان و مكان، شأنهم و دأبهم التصيّد في الماء العكر، يميلون مع الريح حيثما مالت و ينعقون مع كلّ ناعق، و يمدّون رؤوسهم في كلّ مخلاة، و يمرّون على كلّ معلف، و يعيشون كالعلق على امتصاص دماء الآخرين و إزهاق أرواحهم، و يديمون حياتهم عبوراً على أجساد المظلومين و دماء المحرومين.
قال في «تفسير الصافي» بعد تفسير معنى المحكم و المتشابه:
ورد في كتاب «الكافي» و العيّاشيّ عن الإمام عليهالسلام في تأويل القرآن قوله: إنَّ المُحْكَمَاتِ أمِيرُالمُؤْمِنِينَ وَ الأئِمَّةُ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، وَ المُتَشَابِهَاتِ فُلَانٌ وَ فُلَانٌ.
وتدلّ هذه الرواية على أنّ الإمام عليهالسلام هو الوجود الخارجيّ و التكوينيّ للقرآن، و أنّ الخليفتَين بغير حقّ الغاصبَين لأمر الولاية هما الوجود الخارجيّ و التحقّقيّ للشيطنة و الانحراف و النزوع إلى الباطل.
الروايات الواردة في أنّ الأئمّة عليهم السلام هم الراسخون في العلم
و ورد أيضاً في «الكافي» و العيّاشيّ عن الإمام الصادق عليهالسلام قوله: نَحْنُ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ، وَ نَحْنُ نَعْلَمُ تَأوِيلَهُ.
و روى عن الإمام محمّد الباقر عليهالسلام قوله:
كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ أفْضَلُ الرَّاسِخِينَ في العِلْمِ، قَدْ عَلَّمَهُ اللهُ عَزَّ وَ جَلَّ جَمِيعَ مَا أنْزَلَ اللهُ عَلَيْهِ مِنَ التَّأوِيلِ وَ التَّنْزِيلِ، وَ مَا كَانَ اللهُ لِيُنْزِلَ شَيْئَاً لَمْ يُعَلِّمْهُ تَأوِيلَهُ، وَ أوْصِيَاؤُهُ مِنْ بَعْدِهِ يَعْلَمُونَهُ كُلَّهُ.
و ورد في «الكافي» عن الإمام الباقر عليهالسلام: «وَ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ» مَن لَا يَخْتَلِفُ في عِلْمِهِ.۱
و ورد في كتاب «الاحتجاج» عن أميرالمؤمنين عليهالسلام - ضمن حديث - أنّه قال:
ثُمَّ إنَّ اللهَ جَلَّ ذِكْرُهُ بِسَعَةِ رَحْمَتِهِ وَ رَأفَتِهِ بِخَلْقِهِ وَ عِلْمِهِ بِمَا يُحْدِثُهُ المُبَدِّلُونَ مِنْ تَغْيِيرِ كَلَامِهِ، قَسَّمَ كَلَامَهَ ثَلَاثَةَ أقْسَامٍ:
قِسْمَاً مِنْهُ يَعْرِفُهُ العَالِمُ وَ الجَاهِلُ؛ وَ قِسْماً لَا يَعْرِفُهُ إلَّا مَنْ صَفَا ذِهْنُهُ وَ لَطُفَ حِسُّهُ وَ صَحَّ تَمَيُّزُهُ ممن شرح الله صدره للإسلام؛ وَ قِسْماً لَا يَعْرِفُهُ إلَّا اللهُ وَ أنْبِيَاؤُهُ وَ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ.
وَ إنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ لِئَلَّا يَدَّعِي أهْلُ البَاطِلِ مِنَ المُسْتَوْلِينَ على مِيرَاثِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ مِنْ عِلْمِ الكِتَابِ مَا لَمْ يَجْعَلْهُ لَهُمْ وَ لِيَقُودَهُمُ الاضْطِرَارُ إلى الايتِمَارِ بِمَنْ وَلَّاه أمْرَهُمْ فَاسْتَكْبَرُوا عَنْ طَاعَتِهِ تَعَزُّزاً وَ افْتِرَاءً على اللهِ عَزَّ وَ جَلَّ وَ اغْتِرَاراً بِكَثْرَةِ مَنْ ظَاهَرَهُمْ وَ عَاوَنَهُمْ وَ عَانَدَ اللهَ جَلَّ اسْمُهُ وَ رَسُولَهُ۱.
و قال رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم:
أنَا قَاتَلْتُهُمْ على التَّنْزِيلِ وَ أنْتَ يَا عليّ تُقَاتِلُهُمْ على التَّأوِيلِ٢.
و عليه، فقد كانت حروب أميرالمؤمنين عليهالسلام امتداداً و تبعاً لغزوات الرسول الأكرم، و لقد كان مشركو الجاهليّة يقاتلون بدن النبيّ و هيكل القرآن، فصار أصحاب الجمل و صفّين و النهروان يقاتلون حقيقة النبيّ و واقعيّة القرآن المتمثّلة في النفس المقدّسة لمقام الولاية، و الوليّ الرفيع لعلم القرآن، و العارف بالتنزيل و التأويل، و صدر الراسخين في العلم. و عليه، فقد كانت هذه الحروب امتداداً لتلك الغزوات، لا تفاوت بينها أبداً.
قتال أميرالمؤمنين عليهالسلام للناكثين و القاسطين و المارقين
و قد وردت في كتب الشيعة روايات جمّة تقول بأنّ النبيّ الأكرم صلّى الله عليه و آله و سلّم أخبر تكراراً بأنّ أميرالمؤمنين عليهالسلام مأمور من قبل الله تعالى بالجهاد مع ثلاث طوائف.
الناكِثين (الناقضين للبيعة) و هم عائشة و طلحة و الزبير و أعوانهم. ابنَي اخت عائشة. محمّد بن طلحة و عبدالله بن الزبير، و مروان بن الحكم و العثمانيّين و غيرهم، و ذلك في حرب الجمل.
القاسِطين (الظالمين و المعتدين) و هم معاوية بن أبي سفيان و أعوانه عمرو بن العاص و غيره، في معركة صفّين.
المارقِين (الخوارج عن الدين) الذين مرقوا من الدين كما يمرق السهم من القوس، و هم أصحاب النهروان من الخوارج.
لكنّنا ننقل هنا مطالباً من الثقة الثبت. ابن أبي الحديد المعتزليّ الشافعيّ، و هو من العامّة، حيث يقول:
فأمّا الطائفة النَّاكِثَة فهم أصحاب الجمل، و أمّا الطائفة القَاسِطَة فأصحاب صفّين، سمّاهم رسول الله صلّى الله عليه [و آله] و سلّم القاسطين، و أمّا الطائفة المَارِقَة فقادة حرب النهروان.
و أشرنا نحن بقولنا. سَمَّاهم رسولُ الله بالقَاسِطِين، إلى قوله عليه السلام:
سَتُقَاتِلُ بَعْدِي النَّاكِثِينَ وَ القَاسِطِينَ وَ المَارِقِينَ.
و هذا الخبر من دلائل نبوّته صلوات الله عليه، لأنّه إخبارٌ صريح بالغيب لا يحتمل التمويه و التدليس كما تحتمله الأخبار المُجملة.
و صدّق قول رسول الله صلّى الله عليه [و آله] و سلّم. المارقين (الخارجين عن الدين) قول أميرالمؤمنين عليهالسلام أوّلًا بشأن الخوارج:
يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمْيَةِ.۱
و صدّق قوله صلّى الله عليه [و آله] وسلّم (الناكثين) كونهم نكثوا البيعة بادئ بدء، و قد كان أميرالمؤمنين عليهالسلام يتلو عندما بايعه طلحةو الزبير هذه الآية:
فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ.٢
و أمّا أصحاب صفّين فإنّهم عند أصحابنا المعتزلة مخلّدون في النار لفسقهم؛ فصحّ فيهم قوله تعالى: وَ أَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً.٣
الروايات الواردة عن رسول الله في جهاد أميرالمؤمنين للمنافقين
و أمّا عن قتال أميرالمؤمنين عليهالسلام هؤلاء القوم في هذه الحروب بعنوان تأويل القرآن، فهناك روايات رواها ابن أبى الحديد في «شرح نهج البلاغة» عن إبراهيم بن ديزيل الهمدانيّ في كتاب «صفّين»، عن يحيى بن سلمان مسنداً عن أبي سعيد الخدريّ رحمه الله أنّه قال:
كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ فَانْقَطَعَ شِسْعُ نَعْلِهِ فَألْقَاهَا إلى عليّ عَلَيْهِالسَّلَامُ يُصْلِحُهَا. ثُمَ قال: إنَّ مِنْكُمْ مَنْ يُقَاتِلُ على تَأوِيلِ القُرْآنِ كَمَا قَاتَلْتُ على تَنْزِيلِهِ.
فَقَالَ أبُوبَكْرٍ: أنَا هُوَ يَا رَسُولَ اللهِ؟!
قال: لَا!
فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ: أنَا هُوَ يَا رَسُولَ اللهِ؟!
قال: لَا! وَلَكِنَّهُ ذَاكُمْ، خَاصِفُ النَّعْلِ؛ وَ يَدُ عليّ عَلَيْهِالسَّلَامُ يُصْلِحُهَا.
قَالَ أبُوسَعِيدٍ: فَأتَيْتُ عَلِيَّاً فَبَشَّرْتُهُ بِذَلِكَ؛ فَلَمْ يَحْفَلْ۱ بِهِ كَأنَّهُ شَيءٌ قَدْ كَانَ عَلِمَهَ مِنْ قَبْلُ.٢
و كذلك روى ابن أبي الحديد عن ابن ديزيل في الكتاب المذكور، عن يحيي بن سليمان، عن ابن فضيل، عن إبراهيم بن الهَجَرِيّ، عن أبي صادق قال:
قدم علينا أبوأيّوبِ الأنْصَاريّ العراق، فأهدت له قبيلة الأزد جُزراً٣ فبعثوها معي، فدخلت إليه فسلّمت عليه و قلت له:
يَا أبَا أيُّوبَ! قَدْ كَرَّمَكَ اللهُ بِصُحْبَةِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ وَ نُزُولِهِ عَلَيْكَ؛ فَمَا لِي أرَاكَ تَسْتَقْبِلُ النَّاسَ تُقَاتِلُهُمْ، هَؤْلَاءِ مَرَّةً وَ هَؤْلَاء مَرَّةً؟!
قال: إنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ عَهِدَ إلَيْنَا أنْ نُقَاتِلَ مَعَ النَّاكِثِينَ. فَقَدْ قَاتَلْنَاهُمْ. وَ عَهِدَ إلَيْنَا مَعَ القَاسِطِينَ فَهَذَا وَجَّهَنَا إلَيْهِمْ. يَعْنِي مُعَاوِيَةَ وَ أصْحَابَهُ. وَ عَهِدَ إلَيْنَا أنْ نُقَاتِلَ مَعَ المَارِقِينَ وَ لَمْ أرَهُمْ بَعْدُ.٤
يقول ابن أبي الحديد: روى كثير من المحدِّثين عن أميرالمؤمنين عليّ بن أبي طالب عليهالسلام أنّ رسول الله صلّى الله عليه [و آله] و سلّم
قال له:
إن اللهَ قَدْ كَتَبَ عَلَيْكَ جِهَادَ المَفْتُونِينَ كَمَا كَتَبَ على جِهَادَ المُشْرِكِينَ. قال: فقلتُ: يَا رَسُولَ اللهِ! مَا هَذِهِ الفِتْنَةُ التي كَتَبَ على فِيهَا الجِهَادَ؟!
قال: قَوْمٌ يَشْهَدُونَ أنْ لَا إلَهَ إلَّا اللهُ وَ أنِّى رَسُولُ اللهِ وَ هُمْ مُخَالِفُونَ لِلسُّنَّةِ.
فقلتُ: يَا رَسُولَ اللهِ! فَعَلَامَ اقَاتِلُهُمْ وَ هُمْ يَشْهَدُونَ كَمَا أشْهَدُ؟!
قال: على الإحْدَاثِ في الدِّينِ وَ مُخَالَفَةِ الأمْرِ!
فقلتُ: يَا رَسُولَ اللهِ! إنَّكَ كُنْتَ وَعَدْتَنِي الشَّهَادَةَ فَاسْألَ اللهَ أنْ يُعَجِّلَهَا لِي بَيْنَ يَدَيْكَ!
قال: فَمَنْ يُقَاتِلُ النَّاكِثِينَ وَ القَاسِطِينَ وَ المَارِقِينَ؟ أمَا إنِّي قَدْ وَعَدْتُكَ بِالشَّهَادَةِ وَ تُسْتَشْهَدْ! يُضْرَبُ هَذِهِ فَتُخْضَبُ هَذِهِ. فَكَيْفَ صَبْرُكَ إذَنْ؟!
فقلتُ: يَا رَسُولَ اللهِ! لَيْسَ ذَا بِمَوْطِنِ صَبْرٍ. هَذَا مَوْطِنُ شُكْرٍ!
قال: أجَلْ، أصَبْتَ، فَأعِدَّ لِلخُصُومَةِ فَإنَّكَ مُخَاصَمٌ.
فقلتُ: يَا رَسُولَ اللهِ! لَوْ بَيَّنْتَ لِي قَلِيلًا.
فَقال: إنَّ امَّتِي سَتُفْتَنُ مِنْ بَعْدِي فَتَنَاوَلُ القُرْآنَ وَ تَعْمَلُ بِالرَّأي وَ تَسْتَحِلُّ الخَمْرَ بِالنَّبِيذِ وَ السُّحْتَ بِالهَدِيَّةِ وَ الرِّبَا بِالبَيْعِ، وَ تُحَرِّفُ الكِتَابَ عَنْ مَوَاضِعِهِ، وَ تَغْلِبُ كَلِمَةُ الضَّلَالِ.
فَكُنْ حَلَسَ بَيْتِكَ حتى تُقَلَّدَهَا، فَإذَا قُلِّدْتَهَا جَاشَتْ عَلَيْكَ الصُّدُورُ، وَ قَلَّبَتْ لَكَ الامُورَ، تُقَاتِلُ حِينَئِذٍ على تَأوِيلِ القُرْآنِ كَمَا قَاتَلْتُ على تَنْزِيلِهِ فَلَيْسَتْ حَالُهُمُ الثَّانِيَةُ بِدُونِ حَالِهِمُ الاولَي.
فقلتُ: يَا رَسُولَ اللهِ! بَأيِّ المَنَازِلِ انْزِلُ هَؤُلَاءِ المَفْتُونِينَ مِنْ
بَعْدِكَ؟! أبِمَنْزِلَةِ فِتْنَةٍ أمْ بِمَنْزِلَةِ رِدَّةٍ؟!
فَقال: بِمَنْزِلَةِ فِتْنَةٍ يَعْمَهُونَ فِيهَا إلى أنْ يُدْرِكَهُمُ العَدْلُ.
فقلتُ: يَا رَسُولَ اللهِ! أيُدْرِكُهُمُ العَدْلُ مِنَّا أمْ مِنْ غَيْرِنَا؟!
فَقال: بَلْ مِنَّا، بِنَا فَتَحَ اللهُ وَ بِنَا يَخْتِمُ، وَ بِنَا ألَّفَ اللهُ بَيْنَ القُلُوبِ بَعْدَ الشِّرْكِ وَ بِنَا يُؤَلِّفُ بَيْنَ القُلُوبِ بَعْدَ الفِتْنَةِ.
فقلتُ: الحَمْدُ لِلَّهِ على مَا وَهَبَ لَنَا مِنْ فَضْلِهِ.۱
إن الانحراف عن تأويل القرآن يُبعد الإنسان عن الحقيقة بقدر ما يبعده عنها الانحراف عن أصل القرآن، على أنّ فائدة القرآن تتلخّص في فهمه و العمل بمضمونه، فإن قال أحد. لقد قبلتُ القرآن لكنّي لا أقبل تأويله، بل سأعمل وفق فهمي و إدراكي و استحساني، أي أنّي لن ارجع المتشابهات إلى المحكمات، فهم كمثل من يقول: إنّني لم أقبل القرآن أصلًا.
و لقد كانت مصيبة و محنة أميرالمؤمنين عليهالسلام مع هذه الفئة من الناس، فقد ادّعى معاوية الماكر عابد الدنيا أنّه طالب بدم عثمان، و تمسّك بآية: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى.٢
و آية: وَ لَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ؛٣ و اتّهم أميرالمؤمنين عليهالسلام بقتل عثمان، و قام علماء الشام ممّن يعيش على فتات موائده بخداع و تحريض العوامّ و الجهلة و البسطاء على قتال أميرالمؤمنين عليهالسلام و قتله، و على إقرار حكومة معاوية و إمارته تبعاً للآية الشريفة: وَ مَنْ قُتِلَ
مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً.۱
فهذه الآيات من القرآن الكريم، لكنّ مفهومها و معناها لا يتضمّن حقّانيّة معاوية، فقد كان لعثمان وليّاً و ولداً يجب عليه المطالبة بدمه، فما شأن معاوية و ذاك؟ هذا أوّلًا.
و أمّا ثانياً، فلم يكن أميرالمؤمنين عليهالسلام قد قاتل عثمان، بل كان يمانع في قتله، فما المعنى من التمسّك و التشبّث بهذه الآية؟!
و ثالثاً: لقد بايعت جميع الطبقات بالخلافة لأميرالمؤمنين عليه السلام، فهو الحاكم المطاع للمسلمين، و من واجبه - عند فرض مظلوميّة عثمان و طلب ورثته القصاص من القتلة - أن يشكّل محكمة تفصل في الخصومة، و لا شأن في هذا الأمر لمعاوية الذي ليس إلّا واحداً من الرعيّة.
لكنّ معاوية و أعوانه تغاضوا عن كلّ هذه الخصوصيّات، و وضعوا الآية القرآنيّة في غير موردها و موضوعها لإثارة الغوغاء و الهرج سعياً للاستفادة من جوّ الفتنة و الفساد، و توصّلًا من خلالها إلى ارتقاء أريكة الحكم أيّاماً معدودة.
فهذه كلّها تمثّل الانحراف و الزيغ: فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَ ابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ.٢
يقول السيّد الرضي جامع «نهج البلاغة». لمّا بلغه عليهالسلام اتّهام بني اميّة له بالمشاركة في دم عثمان:
أوَ لَمْ يَنْهَ امَيَّةَ عِلْمُهَا بِي عَنْ قَرَفِي؟ أمَا وَزَعَ الجُهَّالَ سَابِقَتِي عَنْ
تُهْمَتِي؟ وَ لَمَا وَ عَظَهُمُ اللهُ بِهِ أبْلَغُ مِنْ لِسَانِي۱.
رسالته في «نهج البلاغة» لمعاوية في سعى معاوية للرئاسة متأوّلًا للقرآن
و من أقواله عليهالسلام بشأن تصرّف معاوية في تأويل القرآن، رسالة أرسلها له و قد أظهر فيها سعي معاوية للرئاسة بتأويل القرآن، و قد أورد هذه الرسالة أيضاً السيّد الرضي في «نهج البلاغة»:
أمَّا بَعْدُ؛ فَإنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ قَدْ جَعَلَ الدُّنْيَا لِمَا بَعْدَهَا وَ ابْتَلَى فِيهَا أهْلَهَا لِيَعْلَمَ أيُّهُمْ أحْسَنُ عَمَلًا. وَلَسْنَا لِلدُّنْيَا خُلِقْنَا، وَ لَا بِالسَّعْي فِيهَا امِرْنَا. وَ إنَّمَا وُضِعْنَا فِيهَا لِنُبْتَلَي بِهَا.
وَ قَدِ ابْتَلَانِي اللهُ بِكَ وَ ابْتَلَاكَ بِي! فَجَعَلَ أحَدَنَا حُجَّةً على الآخَرِ؛ فَعَدَوْتَ على طَلَبِ الدُّنْيَا بِتَأوِيلِ القُرْآنِ، فَطَلَبْتَنِي بِمَا لَمْ تَجْنِ يَدِي وَ لَا لِسَانِي؛ وَ عَصَبْتَهُ أنْتَ وَ أهْلُ الشَّامِ بِي.
وَ ألَّبَ عَالِمُكُمْ٢ جَاهِلَكُمْ، وَ قَائِمُكُم٣ قَاعِدَكُمْ. فَاتَّقِ اللهَ في نَفْسِكَ؛ وَ نَازِعِ الشَّيْطَانَ قِيَادَكَ؛ وَ اصْرِفْ إلى الآخِرَةِ وَجْهَكَ. فَهِيَ طَرِيقُنَا وَ طِرِيقُكَ.
وَ احْذَرْ أنْ يُصِيبَكَ اللهُ مِنْهُ بِعَاجِلِ قَارِعَةٍ تَمَسُّ الأصْلَ وَ تَقْطَعُ الدَّابِرَ. فَإنِّي اولِى لَكَ بِاللهِ ألِيَّةً غَيْرَ فَاجِرَةٍ. لَئِنْ جَمَعَتْنِي وَ إيَّاكَ جَوَامِعُ الأقْدَارِ، لَا أزَالُ بِبَاحَتِكَ «حتى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنَنَا وَ هُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ»٤.
و كم كان أميرالمؤمنين عليهالسلام يتأوّه متألّماً في خطبه زمن
خلافته و قبله من كون القرآن صار مهجوراً، و يتأسّف من عدم الاستفادة من هذا الكنز الثمين:
إلَى اللهِ أشْكُو مِن مَعْشَرٍ يَعِيشُونَ جُهَّالًا؛ وَ يَمُوتُونَ ضُلَّالًا؛ لَيْسَ فِيهِمْ سِلْعَةٌ أبْوَرُ مِنَ الكِتَابِ إذَا تُلِيَ حَقَّ تِلَاوَتِهِ. وَ لَا سِلْعَةٌ أنْفَقُ بَيْعاً وَ لَا أغْلَى ثَمَناً مِنَ الكِتَابِ إذَا حُرِّفَ عَنْ مَوَاضِعِهِ. وَ لَا عِنْدَهُمْ أنْكَرُ مِنَ المَعْرُوفِ؛ وَ لَا أعْرَفُ مِنَ المُنْكَرِ۱.
و كم كان يتأوّه و يشكو من اختلاف الفقهاء مع أن مرجع جميع الفتاوى واحد، و هو كتاب الله، فلا محمل لاختلافهم هذا إلّا الجهل بمواضع التأويل، و عدم عرضهم الآيات على بعضها، و عدم استعانتهم لرفع الإبهام في آيات القرآن بالقرآن نفسه:
وَ إلَهُهُمْ وَاحِدٌ وَ نَبِيُّهُمْ وَاحِدٌ. أفَأمَرَهُمُ اللهُ تَعَالَى بِالاخْتِلَافِ فَأطَاعُوهُ؟ أمْ نَهَاهُمْ عَنْهُ فَعَصَوْهُ؟ أمْ أنْزَلَ اللهُ دِينَاً نَاقِصَاً فَاسْتَعَانَ بِهِمْ على إتْمَامِهِ؟ أمْ كَانُوا شُرَكَاءَ لَهُ، فَلَهُمْ أنْ يَقُولُوا وَ عَلَيْهِ أنْ يَرْضَى؟ أمْ أنْزَلَ اللهُ دِيناً تَامَّاً فَقَصَّرَ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ عَنْ تَبْلِيغِهِ وَ أدائِهِ؟ وَ اللهُ سُبْحَانَهُ يقول: «ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ» فِيهِ تِبْيَانُ كُلِّ شَيءٍ. وَ ذَكَرَ أنَّ الكِتَابَ يُصَدِّقُ بَعْضُهُ بَعْضَاً، وَ أنَّهُ لَا اخْتِلَافَ فِيهِ، فَقَالَ سُبْحَانَهُ: «وَ لَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً».
وإنَّ القُرآنَ ظَاهِرُهُ أنِيقٌ وَ بَاطِنُهُ عَمِيقٌ، لَا تَفْنَى عَجَائِبُهُ وَ لَا تَنْقَضِي غَرَائِبُهُ؛ وَ لَا تُكْشَفُ الظُّلُمَاتُ إلَّا بِهِ٢.
«نهج البلاغة» و شكوى الإمام من عدم تفسير بعض الآيات ببعضها الآخر
و يقول في موضع آخر في تعريف القرآن الكريم و تكريمه و تعظيمه:
وَ كِتَابُ اللهِ بَيْنَ أظْهُرِكُمْ نَاطِقٌ لَا يَعْيَي لِسَانُهُ، وَ بَيْتٌ لَا تُهْدَمُ أرْكَانُهُ، وَ عِزٌّ لَا تُهْزَمُ أعْوَانُهُ ... إلى أن يقول:
كِتَابُ اللهِ تُبْصِرُونَ بِهِ، وَ تَنْطِقُونَ بِهِ، وَ تَسْمَعُونَ بِهِ، وَ يَنْطِقُ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ، وَ يَشْهَدُ بَعْضُهُ على بَعْضٍ. لَا يَخْتَلِفُ في اللهِ؛ وَ لَا يُخَالِفُ بِصَاحِبِهِ عَنِ اللهِ.
قَدِ اصْطَلَحْتُمْ على الغِلِّ فِيمَا بَيْنَكُمْ، وَ نَبَتَ المَرْعَى على دِمَنِكُمْ. وَ تَصَافَيْتُمْ على حُبِّ الآمَالِ، وَ تَعَادَيْتُمْ في كَسْبِ الأمْوَالِ. لَقَدِ اسْتَهَامَ بِكُمُ الخَبِيثُ، وَتَاهَ بِكُمُ الغُرُورُ، وَ اللهُ المُسْتَعَانُ على نَفْسِي وَ أنْفُسِكُمْ۱.
و كان أميرالمؤمنين عليهالسلام يذكر القرآن في خطبه تكراراً، و يبيّن عظمته و كرامته، و يكشف عن أصالته و إتقانه، و يتأسّف لتقصير الناس و تقاعسهم عن الرجوع إلى هذه التحفة الإلهيّة و المائدة السماويّة، و تقصيرهم عن الاستمساك الجادّ بالكتاب، و يتأوّه و يئنّ من حكّام الجور المتلاعبين بحقيقة القرآن.
خطبته عليه السلام في «نهج البلاغة» حول عظمة القرآن
تأمّلوا في الخطبة التالية كيفيّة بحثه في عظمة القرآن و النبيّ الأكرم، و كيف بيّن أنّ طريق العلاج الوحيد ينحصر في متابعة رسول الله و العمل بالقرآن، و كم كان قلقاً من عدم العمل بالقرآن:
فَبَعَثَ مُحَمَّداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ بِالحَقِّ لِيُخرِجَ عِبَادَهُ مِنْ عِبَادَةِ
الأوْثَانِ إلى عِبَادَتِهِ، وَ مِنْ طَاعَةِ الشَّيْطَانِ إلى طَاعَتِهِ، بِقُرْآنٍ قَدْ بَيَّنَهُ وَ أحْكَمَهُ لِيَعْلَمَ العِبَادُ رَبَّهُمْ إذْ جَهِلُوهُ، وَ لِيُقِرُّوا بِهِ إذْ جَحَدُوهُ، وَ لِيُثْبِتُوهُ إذْ أنْكَرُوهُ.
فَتَجَلَّى سُبْحَانَهُ لَهُمْ في كِتَابِهِ مِنْ غَيْرِ أنْ يَكُونُوا رَأ وْهُ بِمَا أرَاهُمْ مِنْ قُدْرَتِهِ، وَ خَوَّفَهُمْ مِنْ سَطْوَتِهِ. وَ كَيْفَ مَحَقَ بِالمَثُلَاتِ وَ احْتَصَدَ مَنِ احْتَصَدَ بِالنَّقِمَاتِ.
وَ إنَّهُ سَيَأتِي عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِي زَمَانٌ لَيْسَ فِيهِ شَيءٌ أخْفَى مِنَ الحَقِّ؛ وَ لَا أظْهَرَ مِنَ البَاطِلِ؛ وَ لَا أكْثَرَ مِنَ الكِذْبِ على اللهِ وَ رَسُولِهِ. وَ لَيْسَ عِنْدَ أهْلِ ذَلِكَ الزَّمَانِ سِلْعَةٌ أبْوَرُ مِنَ الكِتَابِ إذَا تُلِيَ حَقَّ تِلَاوَتِهِ؛ وَ لَا أنْفَقَ مِنْهُ إذَا حُرِّفَ عَنْ مَوَاضِعِهِ؛ وَ لَا في البِلَادِ شَيءٌ أنْكَرُ مِنَ المَعْرُوفِ وَ لَا أعْرَفُ مِنَ المُنْكَرِ.
فَقَدْ نَبَذَ الكِتَابَ حَمَلَتُهُ، وَ تَنَاسَاهُ حَفَظَتُهُ.
فَالكِتَابُ يَوْمَئِذٍ وَ أهْلُهُ مَنْفِيَّانِ طَرِيدَانِ، وَ صَاحِبَانِ مُصْطَحِبَانِ في طَرِيقٍ وَاحِدٍ لَا يُؤْوِيهِمَا مُؤْوٍ.
فَالكِتَابُ وَ أهْلُهُ في ذَلِكَ الزَّمَانِ وَ لَيْسَا فِيهِمْ، وَ مَعَهُمْ وَ لَيْسَا مَعَهُمْ، لأنَّ الضَّلَالَةَ لَا تُوَافِقُ الهُدَى وَ إنِ اجْتَمَعَا. فَاجْتَمَعَ القَوْمُ على الفُرْقَةِ؛ وَ افْتَرَقُوا عَنِ الجَمَاعَةِ كَأنَّهُمْ أئمَّةُ الكِتَابِ وَ لَيْسَ الكِتَابُ إمَامَهُمْ.
فَلَمْ يَبْقَ عِنْدَهُمْ إلَّا اسْمُهُ؛ وَ لَا يَعْرِفُونَ إلَّا خَطَّهُ وَ زَبْرَهُ. وَ مِنْ قَبْلُ مَا مَثَّلُوا بِالصَّالِحِينَ كُلَّ مُثْلَةٍ؛ وَ سَمَّوْا صِدْقَهُمْ على اللهِ فِرْيَةً؛ وَ جَعَلُوا في الحَسَنَةِ عُقُوبَةَ السَّيِّئَةِ.
وَ إنَّمَا هَلَكَ مَن كَانَ قَبْلَكُمْ بِطُولِ آمَالِهِمْ وَ تَغَيُّبِ آجَالِهِمْ، حتى نَزَلَ بِهِمُ المَوْعُودُ الذي تُرَدُّ عَنْهُ المَعْذِرَةُ، وَ تُرْفَعُ عَنْهُ التَّوْبَةُ وَ تَحُلُّ مَعَهُ القَارِعَةُ وَ النِّقْمَةُ.
أيُّهَا النَّاسُ! إنَّهُ مَنِ اسْتَنْصَحَ اللهَ وُفِّقَ وَ مَنِ اتَّخَذَ قَوْلَهُ دَلِيلًا هُدِى لِلَّتِي هِيَ أقْوَمُ. فإنَّ جَارَ اللهِ آمِنٌ، وَ عَدُوَّهُ خَائِفٌ. وَ إنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِمَنْ عَرَفَ عَظَمَةَ اللهِ أنْ يَتَعَظَّمَ. فَإنَّ رِفْعَةَ الَّذِينَ يَعْلَمُونَ مَا عَظَمَتُهُ أنْ يَتَوَاضَعُوا لَهُ وَ سَلَامَةُ الَّذِينَ يَعْلَمُونَ مَا قُدْرَتُهُ أنْ يَسْتَسْلِمُوا لَهُ.
فَلَا تَنْفِرُوا مِنَ الحَقِّ نِفَارَ الصَّحِيحِ مِنَ الأجْرَبِ وَ البَارِي مِنْ ذِي السُّقْمِ!
وَ اعْلَمُوا أنَّكُمْ لَنْ تَعْرِفُوا الرُّشْدَ حتى تَعْرِفُوا الذي تَرَكَهُ؛ وَ لَنْ تَأخُذُوا بِمِيثَاقِ الكِتَابِ حتى تَعْرِفُوا الذي نَقَضَهُ. وَ لَنْ تَمَسَّكُوا بِهِ حتى تَعْرِفُوا الذي نَبَذَهُ:
فَالْتَمِسُوا ذَلِكَ مِنْ عِنْدِ أهْلِهِ فَإنَّهُمْ عَيْشُ العِلْمِ وَ مَوْتُ الجَهْلِ. هُمُ الَّذِينَ يُخْبِرُكُمْ حُكْمُهُمْ عَنْ عِلْمِهِمْ؛ وَ صَمْتُهُمْ عَنْ مَنْطِقِهِمْ، وَ ظَاهِرُهُمْ عَنْ بَاطِنِهِمْ؛۱ لَا يُخَالِفُونَ الدِّينَ وَ لَا يَخْتَلِفُونَ فِيهِ. فَهُوَ بَيْنَهُمْ شَاهِدٌ صَادِقٌ وَ صَامِتٌ نَاطِقٌ.٢
خطبة اخرى له عليهالسلام حول القرآن و أهمّيّة حماته آل محمّد
و قد أورد أميرالمؤمنين عليهالسلام عند رجوعه من معركة صفّين٣
خطبةً في عظمة كتاب الله و وجوب التمسّك بآل بيت رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم، فيقول فيها بعد حمد الله و الثناء عليه بلا حدّ و الشهادة بالتوحيد المحض:
وَ أشْهَدُ أنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَ رَسُولُهُ، أرْسَلَهُ بِالدِّينِ المَشْهُورِ، وَ العَلَمِ المَأثُورِ وَ الكِتَابِ المَسْطُورِ، وَ النُّورِ السَّاطِعِ، وَ الضِّيَاءِ اللَّامِعِ، وَ الأمْرِ الصَّادِعِ.
إزَاحَةً لِلشُّبُهَاتِ، وَ احْتِجَاجاً بِالبَيِّنَاتِ، وَ تَحْذِيراً بِالآيَاتِ، وَ تَخْوِيفاً بِالمَثُلَاتِ.
وَ النَّاسُ في فِتَنٍ انْجَذَمَ فِيهَا حَبْلُ الدِّينِ، وَ تَزَعْزَعَتْ سَوَارِي اليَقِينِ، وَ اخْتَلَفَ النَّجْرُ، وَ تَشَتَّتَ الأمْرُ، وَ ضَاقَ المَخْرَجُ وَ عَمِيَ المَصْدَرُ.
فَالهُدَى خَامِلٌ وَ العَمَى شَامِلٌ، عُصِى الرَّحْمَنُ وَ نُصِرَ الشَّيْطَانُ، وَ خُذِلَ الإيمَانُ. فَانْهَارَتْ دَعَائِمُهُ، وَ تَنَكَّرَتْ مَعَالِمُهُ، وَ دَرَسَتْ سُبُلُهُ، وَ عَفَتْ شُرُكُهُ.
أطَاعُوا الشَّيْطَانَ فَسَلَكُوا مَسَالِكَهُ، وَ وَرَدُوا مَنَاهِلَهُ، بِهِمْ سَارَتْ أعْلَامُهُ وَ قَامَ لِوَاؤُهُ، في فِتَنٍ دَاسَتْهُمْ بِأخْفَافِهَا، وَ وَطَئَتْهُمْ بِأظْلَافِهَا، وَ قَامَتْ على سَنَابِكِهَا.
فَهُمْ تَائِهُونَ حَائِرُونَ جَاهِلُونَ مَفْتُونُونَ في خَيْرِ دَارٍ وَ شَرِّ جِيرَانٍ. نَوْمُهُمْ سُهُودٌ وَ كُحْلُهُمْ دُمُوعٌ. بِأرْضٍ عَالِمُهَا مُلْجَمٌ وَ جَاهِلُهَا مُكَرَّمٌ.
«وَ مِنْهَا يَعْنِي آلَ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَ السَّلَامُ».
مَوْضِعُ سِرِّهِ، وَ لَجَا أمْرِهِ، وَ عَيْبَةُ عِلْمِهِ، وَ مَوْئِلُ حِكَمِهِ، وَ كُهُوفُ كُتُبِهِ، وَ جِبَالُ دِينِهِ. بِهِمْ أقَامَ انْحِنَاءَ ظَهْرِهِ، وَ أذْهَبَ ارْتِعَادَ فَرَائِصِهِ - (الخطبة).۱
لقد استبان ممّا ذكرنا أنّ القرآن الكريم كتابٌ لرشد النفوس و تكميلها، فهو يقوم بذلك حين لا تُصرف آياته فتُحمل على معنى و محمل آخر، بل يؤخذ منها المراد الذي عُني فيها، و بغير ذلك فإنّ الأمر سيعطي عكس النتيجة المتوخّاة:
وَ لا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً.٢
كيفيّة قراءة رسول الله للقرآن الكريم
و لقد كان رسول الله يقرأ القرآن فيكون معه كالعاشق الولهان، تستقرّ الآيات في أعماق روحه فيصعد به الوجد و السرور، أو يغرق في الحزن و الألم، لكأنّ كلّا من هذه المعاني القرآنيّة اتّخذت صورةً فعليّةً خارجيّة محسوسة تتجسّم أمام ناظرَيْه. و لقد كان تذكّر القرآن، و ذِكر القرآن و قراءته و استماعه أحلى لروحه من كلّ لذّة و أبعثَ على المسرّة و البهجة.٣
و قد ذكر سماحة العلّامة الاستاذ قدّس الله سرّه في باب سننه صلّى الله عليه و آله و سلّم:
۱۸۰ - و من آدابه صلّى الله عليه و آله و سلّم في قراءة القرآن ما في مجالس الشيخ الطوسيّ رحمه الله بإسناده عن أبي الدنيا، عن أميرالمؤمنين عليهالسلام قال:
كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ لَا يَحْجِزُهُ عَنْ قِرَاءَةِ القُرْآنِ إلَّا الجَنَابَةُ.
۱۸۱ - و روى في «مجمع البيان» عن امّ سَلِمَة قالت: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ يُقَطِّعُ قِرَاءَتَهُ آيَةً آيَةً.۱
۱۸٢ - و في «تفسير أبي الفتوح» كَانَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ لَا يَرْقَدُ حتى يَقْرَا المُسَبِّحَاتِ، وَ يقول: في هَذِهِ السُّوَرِ آيَةٌ هِيَ أفْضَلُ مِنْ ألْفِ آيَةٍ. قالوا: وَ مَا المُسَبِّحَاتُ؟!
قال: سُورَةُ الحَدِيدِ وَ الحَشْرِ وَ الصَّفِّ وَ الجُمْعَةِ وَ التَّغَابُنِ.
أقول: و روى هذا المعنى في «مجمع البيان» عن العِرْبَاص بنَ سَارِيَة.۱
۱۸٣ - و روى في كتاب «درر اللئالي» لابن أبي جمهور الأحسائيّ، عن جابر قال: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ لَا يَنَامُ حتى يَقْرَا تَبَارَكَ وَ ألم التَّنْزِيل.٢
۱۸٤ - و ورد في «مجمع البيان». روى عن عليّ بن أبي طالب عليه السلام، قال:
كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ يُحِبُّ هَذِهِ السُّورَةَ: «سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى»؛ وَ أوّلُ مَنْ قَالَ «سُبْحَان رَبِّيَ الأعْلَي» مِيكَائِيلُ.
أقول: و روى صدر هذا الحديث في «البحار» عن تفسير «الدرّ المنثور»، و هناك أخبار و روايات اخرى في ما كان يقوله صلّى الله عليه و آله و سلّم عند تلاوة القرآن أو عند تلاوة سور أو آيات مخصوصة، من أرادها فعليه بمظانّها.
و كان له صلّى الله عليه و آله و سلّم خطب و بيانات يُرَغِّب فيها و يحثّ
على التمسّك بالقرآن و التدبّر فيه و الاهتداء بهديه و الاستنارة بنوره.
و كان صلّى الله عليه و آله و سلّم أولى الناس بما يندب إليه من الكمال و أسبق الناس و أسرعهم إلى كلّ خير، و هو القائل - في الرواية المشهورة - : شَيَّبَتْنِي سُورَةُ هُودٍ.۱
و قد روى عن ابن مسعود، قال: أمرني رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم أن أتلو عليه شيئاً من القرآن، فقرأتُ عليه من سورة يونس حتى إذا بلغتُ قوله تعالى: وَ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِ (الآية)،۱ رأيته و إذا الدمع تدور في عينيه الكريمتَين.٢
و على هذا الأساس روى الكلينيّ عن عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن النوفليّ، عن السكونيّ، عن الإمام الصادق عليهالسلام قال: قال رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم:
حَمَلَةُ القُرْآنِ عُرَفَاءُ أهْلِ الجَنَّةِ؛ وَ المُجْتَهِدُونَ قُوَّادُ أهْلِ الجَنَّةِ؛ وَ الرُّسُلُ سَادَةُ أهْلِ الجَنَّةِ٣.
حالات الإمام الكاظم و الإمام السجّاد عليهما السلام عند قراءة القرآن
و روى الكلينيّ أيضاً عن عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن قاسم بن محمّد، عن سليمان بن داود المنقريّ، عن حفص قال: سمعتُ الإمام موسى بن جعفر عليهالسلام يقول لرجل. أتحبّ البقاء في الدنيا؟ فقال: نعم. فقال: و لِمَ؟ قال: لقراءة قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ. فسكت عنه. فقال لحفص بعد ساعة:
يَا حَفَصُ! مَنْ مَاتَ مِنْ أوْلِيَائِنَا وَ شِيعَتِنَا وَ لَمْ يُحْسِنِ القُرْآنَ عُلِّمَ في قَبْرِهِ لِيَرْفَعَ اللهُ بِهِ مِنْ دَرَجَتِهِ؛ فَإنَّ دَرَجَاتِ الجَنَّةِ على قَدْرِ آيَاتِ القُرْآنِ، يُقَالُ لَهُ. اقْرَأ وَارْقَ، فَيَقْرَا ثُمَّ يَرْقَى.
قال حَفْص: فَمَا رَأيْتُ أحَدَاً أشَدَّ خَوْفَاً على نَفْسِهِ مِنْ موسى بنِ جَعْفَرٍ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ وَ لَا أرْجَأ النَّاسِ مِنْهُ. وَ كَانَتْ قِرَاءَتُهُ حُزْناً. فَإذَا قَرَأ فَكَأنَّهُ يُخَاطِبُ إنسَاناً.۱
و روى الكلينيّ أيضاً بسنده المتّصل، عن الزهريّ قال: قال عليّ بن الحسين عليهما السلام:
لَوْ مَاتَ مَنْ بَيْنَ المَشْرِقِ وَ المَغْرِبِ لَمَا اسْتَوحَشْتُ بَعْدَ أنْ يَكُونَ القُرْآنُ مَعِي. وَ كَانَ عَلَيْهِالسَّلَامُ إذَا قَرَأ «مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ» يُكَرِّرُهَا حتى كَادَ أنْ يَمُوتَ٢.
و أورد الكليني أيضاً بسنده المتّصل عن الإمام أبي الحسن موسى بن جعفر عليهالسلام، أنّ النوفليّ ذكر الصوت عنده، فقال عليهالسلام:
إن عليّ بْنَ الحُسَيْنِ كَانَ يَقْرَا فَرُبَّمَا مَرَّ بِهِ المَارُّ فَصَعِقَ مِنْ حُسْنِ صَوْتِهِ. وَ إنَّ الإمَامَ لَوْ أظْهَرَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئَاً لَمَا احْتَمَلَهُ النَّاسُ مِنْ حُسْنِهِ.
قلتُ: وَ لَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ يُصَلِّى بِالنَّاسِ وَ يَرْفَعُ صَوْتَهُ بِالقُرآنِ؟
فَقال: إنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ كَانَ يُحَمِّلُ النَّاسَ مِنْ خَلْفِهِ مَا يُطِيقُونَ.٣
و روى الكلينيّ أيضاً بسنده المتّصل عن الإمام الصادق عليهالسلام،قال: كَانَ عليّ بْنُ الحُسَيْنِ صَلَواتُ اللهِ عَلَيْهِ أحْسَنَ النَّاسِ صَوْتاً بِالقُرْآنِ وَ كَانَ السَّقَّاؤُونَ يَمُرُّونَ فَيَقِفُونَ بِبَابِهِ يَسْمَعُونَ قِرَاءَتَهُ؛ وَ كَانَ أبُوجَعْفَرٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ أحْسَنَ النَّاسِ صَوْتاً۱.
لقد كانت تلاوة الإمام زين العابدين عليهالسلام للقرآن، و شرح حالاته، و حال الإغماء و التحيّر و الفناء التي كانت تحصل عنده وقت تلاوته القرآن لأمرٌ عجيبٌ حقّاً؛ تُرى بأيّ نظر و رؤية كان يتلوه؟ و أيّة جهة من جهاته كان يواجه و يُقابل؟ من شاء الاطّلاع الكامل على ذلك فليقرأ و ليتدبّر و ليتأمّل دعاء الإمام عند ختم القرآن، الوارد في «الصحيفة السجّاديّة» ليدرك الأبعاد الواسعة و الجهات الكثيرة التي كانت تستلفت نظره المقدّس من كلّ جانب عند قراءته القرآن.٢
دعاء ختم القرآن في «الصحيفة السجّاديّة»
و نكتفي هنا بإيراد عدّة فقرات من هذا الدعاء الكريم المبارك و نُحيل القرّاء الكرام إلى متن الصحيفة المقدّسة ليستفيدوا من دعاء ختم القرآن و من سائر أدعيتها اللطيفة آناء ليلهم و أطراف نهارهم:
اللَهُمَّ إنَّكَ أعَنْتَني على خَتْمِ كِتَابِكَ الذي أنْزَلْتَهُ نُورَاً؛ وَ جَعَلْتَهُ مُهَيْمِنَاً على كُلِّ كِتَابٍ أنْزَلْتَهُ؛ وَ فَضَّلْتَهُ على كُلِّ حَدِيثٍ قَصَصْتَهُ؛ وَ فُرْقَاناً فَرَقْتَ بِهِ بَيْنَ حَلَالِكَ وَ حَرَامِكَ؛ وَ قُرْآناً أعْرَبْتَ بِهِ عَنْ شَرَايعِ أحْكَامِكَ، وَ كِتَاباً فَصَّلْتَهُ لِعِبَادِكَ تَفْصِيلًا، وَ وَحْيَاً أنْزَلْتَهُ على نَبِيِّكَ مُحَمَّدٍ صَلَوَاتُكَ عَلَيْهِ وَ آلِهِ تَنْزِيلًا؛ وَ جَعَلْتَهُ نُورَاً نَهْتَدِي مِنْ ظُلَمِ الضَّلَالَةِ وَ الجَهَالَةِ بِاتِّبَاعِهِ، وَ شِفَاءً لِمَنْ أنْصَتَ بِفَهْمِ التَّصْدِيقِ إلى اسْتِمَاعِهِ، وَ مِيزَانَ قِسْطٍ لَا يَحِيفُ عَنِ الحَقِّ لِسَانُهُ، وَ نُورَ هُدَى لَا يُطْفَا عَنِ الشَّاهِدِينَ بُرْهَانُهُ، وَ عَلَمَ نَجَاةٍ لَا يَضِلُّ مَنْ أمَّ قَصْدَ سُنَّتِهِ؛ وَ لَا تَنَالُ أيْدِي الهَلَكَاتِ مَنْ تَعَلَّقَ بِعُرْوَةِ عِصْمَتِهِ.
اللَهُمَّ فَإذَا أفَدْتَنَا المَعُونَةَ على تِلَاوَتِهِ؛ وَ سَهَّلْتَ جَواسِيَ ألْسِنَتِنَا بِحُسْنِ عِبَارَتِهِ فَاجْعَلْنَا مِمَّنْ يَرْعَاهُ حَقَّ رِعَايَتِهِ، وَ يَدِينُ لَكَ بِاعْتِقَادِ التَّسْلِيمِ لِمُحْكَمَ آيَاتِهِ؛ وَ يَفْزَعُ إلى الإقْرَارِ بِمُتَشَابِهِهِ وَ مُوضِحَاتِ بَيِّنَاتِهِ.
حتّى يقول:
اللَهُمَّ وَ كَمَا نَصَبْتَ بِهِ مُحَمَّداً عَلَماً لِلدَّلَالَةِ عَلَيْكَ، وَ أنْهَجْتَ بِآلِهِ سُبُلَ الرِّضَا إلَيْكَ فَصَلِّ على مُحَمَّدٍ وَ آلِ مُحَمَّدٍ، وَ اجْعَلِ القُرْآنَ وَسِيلَةً لَنَا إلى أشْرَفِ مَنَازِلِ الكَرَامَةِ؛ وَ سُلَّماً نَعْرُجُ فِيهِ إلى مَحَلِّ السَّلَامَةِ؛ وَ سَبَباً نُجْزَي بِهِ النَّجَاةَ في عَرَصَةِ القِيَامَةِ، وَ ذَرِيعَةً نَقْدُمُ بِهَا على نَعِيمِ دَارِ المُقَامَةِ!
ثمّ يصل إلى القول:
اللَهُمَّ صَلِّ على مُحَمَّدٍ وَ آلِهِ، وَ أدِمْ بِالقُرْآنِ صَلَاحَ ظَاهِرِنَا، وَ احْجُبْ بِهِ خَطَراتِ الوَساوِسِ عَنْ صِحَّةِ ضَمَائِرِنَا، وَ اغْسِلِ بِهِ دَرَنَ قُلُوبِنَا وَ عَلَائِقَ أوْزَارِنَا، وَ اجْمَعْ بِهِ مُنْتَشَرَ امُورِنَا، وَ أرْوِ بِهِ في مَوْقِفِ العَرْضِ عَلَيْكَ ظَمَأ
هَوَاجِرِنَا، وَ اكْسُنَا بِهِ حُلَلَ الإيمَانِ يَوْمَ الفَزَعِ الأكْبَرِ في نُشُورِنَا۱
بلوغ النبيّ و الأئمّة أسمى مراتب التصوّر بمجاهداتهم و تبعيّتهم للّه
نعم، لقد كانت آيات القرآن تستقرّ في أعماق نفس الإمام السجّاد عليهالسلام فتسوق فكره و ذِكره و عنايته من عالم الدنيا و الغرور مباشرةً إلى عالم التوحيد و العرفان و البقاء. و لقد كان القرآن هو الذي ينزّه و يطهِّر الأئمّة و أولياء الله و يوصلهم إثر المجاهدة و صقل النفس إلى أعلى المدارج المتصوّرة، لا أن يكون الله قد خلق وجودهم ملائكيّاً لا حاجة معه للمجاهدة و الإرادة، أو أن يكونوا قد قدموا في هذا الدنيا متفرّجين و معلّمين
فقط.
فهذا القول خلاف للعقل، و خلاف للضرورة، و خلاف الشواهد القطعيّة للكتاب و السنّة، و هو قول المتقاعسين الذين يقولون. ما لنا و للأئمّة؟ فاولئكَ كانوا ملكوتيِّين، لا ميل لهم إلى الشهوات، و لا رغبة لهم لسماع الغناء و الموسيقى، كما أنّ جمال الوجوه الفاتنة كفلقة قمر لا يبدو لديهم إلّا كالغول البشع.
و القائلين. إنّ مسألة الأئمّة منفصلة أساساً عن البشر، فمهما جاهد البشر و تحمّل الأذى و المحنة فلن يصل لمقام عرفان الله، لأنّ المقام السامي للمعرفة مختصٌّ بهم و مقصورٌ عليهم.
كلّا، ليس الأمر كذلك، قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ.۱
إن عبادات رسول الله و الأئمّة الطاهرين و جهادهم و مصابرتهم و تحمّلهم، و آلامهم و محنهم، و نومهم و يقظتهم، و عافيتهم و سقمهم، و جوعهم و شبعهم تشير بجلاء في جميع الامور إلى كونهم بشراً مجبولين من هذا الماء و الطين، كلّ ما في الأمر أنّهم وصلوا إلى هذا المقام بتبعيّتهم لأوامر الله و جهادهم الشيطان و النفس الأمّارة، و تحمّلهم آلاف المصاعب و المتاعب، و طاعتهم في سبيل الله و بهدف نيل رضا حضرته القدسيّة، و هو سبيلٌ و طريقٌ مفتوح للجميع، و ليس طريق العرفان بمغلق في وجه أحد، و بإمكان كلّ أحد أن ينال مقام التوحيد و يصبح عبدالله و وليّه، و يرد في حرم أمنه و أمانه.
و بالطبع فإنّ منصب الإمامة منصب خاصّ منحصر بالأئمّة عليهم
السلام، و لا علاقة لهذا الأمر بكمال و توحيد سائر الأفراد، فجميع سكّان العالم يمكنهم طيّ هذا الدرب في ظلّ تربية و ولاية و إمامة الأئمّة عليهم السلام لنيل أعلى درجة في كمال الإنسانيّة.
باتّباع المسلمين لتعاليم القرآن قد بلغوا درجات عالية
إن المواعظ الإلهيّة في كتاب الله المقدّس تحرّك النفس الهيولانيّة المستعدّة للإنسان، و تهب الفعليّة لجميع الاستعدادات و المواهب خلال السير في طريق التربية و التعليم، فهي تعالج الأسقام الكامنة و المتراكمة في النفوس، و تضع مرهم الشفاء على الجراحات المستعصية على العلاج فتمنحها الشفاء و الالتئام، و تعمّم و توسّع رحمة الظاهر و رحمة الباطن.
و على المؤمنين أن يتمسّكوا بمثل هذا الكتاب و يسعدوا و يسرّوا بتعليم القرآن، أي بفضل الله و رحمته:
قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَ بِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ.۱
و يعجز العقل عن وصف ما وصل إليه المسلمون إثر تعليم القرآن، فاولئك الأقوام المتعطّشة للدماء، المفتقدة للحميّة و العاطفة و الإنصاف، و اولئك الذين كانوا يئدون بناتهم أحياءً، صاروا و قد ألَّفت المودّة و الالفة بين قلوبهم إثر اتّباعهم القرآن الكريم بشكل يصعب تصوّره.
و هناك رواية عن حذيفة، عن هشام قال: أخذتُ إناءً في معركة بدر لأسقي أحد إخوتي في الله، و كان قد سقط في جانب من الميدان تشخب الدماء منه، فلمّا دنوتُ منه، قال: ناول هذا الماء ذلك الرجل الساقط هناك، فهو أشدّ ظماً منّي، فأخذتُه إليه، فقال: إنّ أخي فلان الساقط على الأرض في ذلك الجانب من الميدان أشدّ منّي ظماً، فخذ الماء إليه. فأخذت الماء
إليه فوجدتُه قد فارق الحياة، فعدتُ مسرعاً إلى الثاني فوجدتُه قد فارق الحياة، فعجّلتُ إلى الأوّل بالماء فرأيته قد فارق الحياة أيضاً.
كان قدح الماء القراح في يده، لكنّ شهداء طريق الحقّ الثلاثة ماتوا مُؤْثِرِين، يهدّهم العطش و الجراح. و لقد كان هؤلاء جميعاً على أعتاب التوحيد و العرفان الإلهيّ و التعليم القرآنيّ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ، فلقد اختمرت قلوبهم و ضمائرهم و أرواحهم، بهذه الآية فنتج عنها جميعاً عجيناً واحداً خاصّاً.
فقارنوا هذه الرواية مع ما فعله الجنود الفرنسيّون الذين قاتلوا في جيش نابليون لهزيمة الروس في روسيا، فقد جاء في التأريخ أنّ جنوده حين واجههم في روسيا برد الشتاء القارس الذي لا يُطاق، كانوا يعمدون إلى بطون المجروحين الساقطين على الأرض فيشقّونها و يدخلون أيديهم فيها ليدفِّئونها!!
هذه هي حرب الكافر و هدفه، و تلك هي حرب المسلم التابع للقرآن و هدفه.
سماع الفضيل آية: أَ لَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ
ينقل في «سفينة البحار» قصّة الفُضَيل بن عِياض۱ و كيف أنّ آية
قرآنيّة واحدة استقرّت في أعماق وجوده فأثّرت في روحه و محت برنامج سنين طويلة من القتل و النهب و الإغارة، فتاب و صار في صفّ أولياء الله و المقرّبين في فناء حضرته، و له حالات و مقامات و كرامات صارت سبب عبرة أهل زمانه، و قد جعله كشف الحجب الظلمانيّة ثمّ النورانيّة في زمرة العرفاء السامين الأجلّاء.
يقول: كان في أوّل أمره يقطع الطريق بين أبِيوَرْد و سَرَخْس، و كانت القوافل تعاني منه الأمرَّين؛ عشق جاريةً فبينما كان يرتقي الجدران إليها سمع تالياً يتلو:
أَ لَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَ ما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ.۱
فقال و الدموع تنحدر من مآقيه. آنَ، آنَ، آن و الله.
فرجع و آوى إلى خربة، فإذا فيها رفقة، فقال بعضهم: نرتحل. و قال بعضهم: حتى نُصبح فإنّ فضيلًا على الطريق يقطع علينا، فأخبرهم الفضيل بتوبته و آمنهم و قال: اذهبوا في أمان الله لا بأس عليكم.۱
ثمّ التحق الفضيل من هناك بصحبة الإمام الصادق عليهالسلام و صار من أصحابه و خواصّه المحدِّثين عنه، يذكره جميع الكبار بالوثاقة و العدالة و يعدّون رواياته معتبرة.
يقول المحدِّث النوريّ في «مستدرك الوسائل» في شرح حال كتاب «مصباح الشريعة»:
و بالجملة فلا أستبعد أن يكون كتاب «مصباح الشريعة» هو النسخة التي رواها الفضيل، فهو على مذاقه و مسلكه، و الذي أعتقده أنّه جمعه من ملتقطات كلام الإمام الصادق عليهالسلام في مجالس وعظه و نصيحته. ولو فُرض فيه شيء يخالف مضمونه بعض ما في غيره و تعذّر تأويله فهو منه على حسب مذهبه لا من فِريته و كذبه، فإنّه ينافي وثاقته - انتهى.٢
نعم، لقد ذهب الفضيل من محضر الإمام الصادق عليهالسلام إلى مكّة و توفّي فيها سنة ۱۸۷ هـ. ق، يوم عاشوراء. قيل: كان للفضيل ولد اسمه عليّ و كان أفضل من أبيه في الزهد و العبادة، إلّا أنّه لم يتمتّع بحياته كثيراً، و كان سبب موته أنّه كان يوماً في المسجد الحرام واقفاً قرب ماء زَمْزَم فسمع قارئاً يقرأ:
وَ تَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ ، سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ۱ وَ تَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ؛٢ فصعق و مات.٣
بشر الحافي و انقلاب حاله من كلامٍ لموسى بن جعفر عليهما
و نظير تأثير الآية القرآنيّة في الفضيل، تأثير كلام الإمام الحقّ و الوليّ الرفيع لعالَم الإمكان في بِشْر الحافي.
فقد كان بشر الحافي أوّل أمره يتعاطى الخمر و مشغولًا بصحبة الغواني و استماع الأغاني و الطرب و المجون، حتى اتّفق يوماً - كما يذكر العلّامة الحلّيّ في كتاب «منهاج الكرامة» - أن كان الإمام الكاظم. موسى بن جعفر عليهما السلام يجتاز على داره ببغداد فسمع الملاهي و أصوات الغناء و الرقص و الناي تعلو من داره، و خرجت أثناء ذلك جارية بالقُمامة تريد إلقاءها خارج الدار، فسألها الإمام:
يَا جَارِيَةٌ! صَاحِبُ هَذَا الدَّارِ حُرٌّ أمْ عَبْدٌ؟!
فَقَالَتْ: بَلْ حُرٌّ.
فَقَالَ عَلَيْهِ السلام: صَدَقْتِ لَوْ كَانَ عَبْداً، خَافَ مِنْ مَوْلَاهُ.
فدخلت الجارية الدار، و كان مولاها على مائدة السُّكْر، فقال لها. ما أبطأك؟
فقالت: حدّثني رجل بكذا و كذا.
فخرج بشر مُسرعاً حافياً حتى لحق بمولانا الإمام الكاظم عليه السلام، فاعتذر منه و بكى و تاب على يده.٤
تأثير خطبة أميرالمؤمنين عليهالسلام في همّام و مفارقته الحياة
و نظيرُ تأثير القرآن في الفضيل، و كلام الإمام الكاظم عليهالسلام في بشر، الموعظةُ البليغة و اللطيفة لمولى الموالي الإمام عليّ بن أبي طالب أميرالمؤمنين عليهالسلام في صفات الشيعة و المؤمنين و المتّقين، تلك الموعظة التي خرّ همّام على إثرها على الأرض صعقاً بلا حياة.
فقد ورد في «نهج البلاغة» أنّه روى أنّ أحد أصحاب أميرالمؤمنين عليهالسلام يُقال له هَمَّام، و كان رجلًا عابداً، فقال له. يا أميرالمؤمنين!
صف لي المتّقين حتى كأنّي أنظر إليهم. فتثاقل عليهالسلام عن جوابه، ثمّ قال:
يَا هَمَّامُ! اتّقِّ اللهَ وَ أحْسِنْ فَإنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوا وَ الَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ!
فلم يقنع همّام بهذا القول حتى عزم عليه. فحمد الله و أثنى عليه و صلّى على النبيّ صلّى الله عليه و آله، ثمّ شرع بالخطبة، فذكر ابتداءً خلق الإنسان و غنى الباري عن طاعة الخلق و أمنه من معصيتهم، ثمّ بدأ بشرح و تفصيل صفات المتّقين و أحوالهم، حتى يصل إلى قوله:
أمَّا اللَّيْلُ فَصَافُّونَ أقْدَامَهُمْ تَالِينَ لأجْزَاءِ القُرْآنِ يُرَتِّلُونَهُ تَرْتِيلًا. يُحَزِّنُونَ بِهِ أنْفُسَهُمْ وَ يَسْتَثِيرُونَ بِهِ دَوَاءَ دَائِهِمْ.
فَإذَا مَرُّوا بِآيَةٍ فِيهَا تَشْوِيقٌ، رَكَنُوا إلَيْهَا طَمَعاً وَ تَطَلَّعَتْ نُفُوسُهُمْ إلَيْهَا شَوْقاً؛ وَ ظَنُّوا أنَّهَا نَصْبَ أعْيُنُهُمْ. وَ إذَا مَرُّوا بِآيَةٍ فِيهَا تَخْوِيفٌ أصْغَوْا إلَيْهَا مَسَامِعَ قُلُوبِهِمْ وَ ظَنُّوا أنَّ زَفِيرَ جَهَنَّمَ وَ شَهِيقَهَا في اصُولِ آذَانِهِمْ.
فَهُمْ حَانُونَ على أوْسَاطِهِمْ، مُفْتَرِشُونَ لِجِبَاهِهِمْ وَ أكُفِّهِمْ وَ رُكَبِهِمْ وَ أطْرَافِ أقْدَامِهِمْ يَطْلُبُونَ إلى اللهِ تَعَالَى في فَكَاكِ رِقَابِهِمْ.
أمَّا النَّهَارُ فَحُلَمَاءُ عُلَمَاءُ، أبْرَارُ أتْقِيَاءُ. قَدْ بَرَاهُمُ الخَوْفُ بَرْيَ القِدَاحِ يَنْظُرُ إلَيْهِمُ النَّاظِرُ فَيَحْسَبُهُمْ مَرْضَي، وَ مَا بِالقَوْمِ مِنْ مَرَضٍ؛ وَ يقول: قَدْ خُولِطُوا وَ لَقَدْ خَالَطَهُمْ أمْرٌ عَظِيمٌ.
و يستمرّ أميرالمؤمنين عليهالسلام في هذه الخطبة المفصّلة حتى يصعق همّام صعقة كانت نفسه فيها.۱
...۱
تصدّع كبد بشر الحافي من عشق الله حسب نقل الشهيد الثاني رحمه الله
و نظير هذا العشق و الهيجان الباطنيّ الذي هزّ وجوده في لحظة واحدة فأوصله إلى الموطن الأصليّ، العشق و الهيجان الذي كان في بشر الحافي آنف الذكر.
يقول العلّامة السيّد محمّد باقر الخونساريّ صاحب «روضات الجنّات» في كتابه: رأيتُ بخطّ شيخنا الشهيد الثاني نقلًا عن كتاب «المدهش» لأبي الفرج بن الجوزيّ أنّه قال: لمّا مرض بشر الحافي رضي الله عنه مرضه الذي مات فيه اجتمع إليه إخوانه و قالوا له. عزمنا أن نحمل ماءك إلى الطبيب.
فقال رحمه الله: أنَا بِعَيْنِ الطَّبِيبِ يَفْعَلُ بِي مَا يُريدُ.
قالوا: إنّ فلاناً النصرانيّ طبيب جيّد حاذق و لابدّ أن نحمل إليه ماءك.
فقال لهم: دَعُونِي فَإنَّ الطَّبِيبَ أمْرَضَنِي.
فقالوا: لابدّ من ذلك.
فقال لُاخته: إذا كان في الغد ادفعي إليهم الماء!
فلمّا أصبحوا أتوها فدفعته إليهم فمضوا به إلى الطبيب النصرانيّ، فنظر إليه، و قال لهم. حرّ كوه فحرّ كوه، ثمّ قال لهم. ضعوه فوضعوه، ثمّ قال لهم. حرّ كوه فحرّ كوه ثانيةً، ثم قال لهم. ضعوه فوضعوه، ثمّ فعل ثالثة
مثل ذلك.
فقال له أحد القوم: ما هكذا اخبرنا عنك.
قال: و ما الذي اخبرتم به عنّي؟
قالوا: اخبرنا عنك بحسن النظر و سرعة الإدراك وجودة المعالجة، و نراك تردّد النظر و ذلك يدلّ على قلّة المعرفة.
فقال لهم: و الله لقد علمتُ حاله من أوّل نظرة، ولكنّي ردّدت النظر تعجّباً. و بعد، فإن يكُ هذا ماء نصرانيّ فهو ماء راهب قد فتّت الخوفُ كبده، و إن يكُ ماء مسلم فهو ماء بشر الحافي و ليس له عندي دواء فعلّلوه فإنّه ميّت.
فقالوا له: هو و الله بشر الحافي.
فلمّا سمع الطبيب النصرانيّ ذلك أخذ مقراضاً و قطع زنّاره، و قال:
أشْهَدُ أنْ لَا إلَهَ إلَّا اللهُ وَ أنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللهِ.
قال: فأسرعنا نحو بشر نبشّره، فلمّا بصر بنا قال رحمه الله. أسلم الطبيب؟
قلنا: نعم، فمن أخبرك بذلك؟ قال: لمّا خرجتم من عندي أخذتني سِنَة من النوم و إذا قائل يقول لي. يا بشر! ببركة مائك أسلم الطبيب النصرانيّ. ثمّ لم يلبث بعد ذلك إلّا ساعةً و قُبض رضي الله عنه.۱
و نُقل عن ابن خلّكان أنّ البعض قال لبشر عند احتضاره: كَأنَّكَ يَا أبَا نَصْرٍ تُحِبُّ الحَيَاةَ؟!
قال بشر: القُدُومُ على اللهِ شَدِيدٌ.
يقول صاحب «الجنّات»: و هذا الكلام شبيه بكلام سَيِّدِنَا أبِي مُحَمَّدٍ
الحَسَنِ المُجْتَبَي عليهالسلام عند احتضاره، فقد بكى عليهالسلام فقيل له:
أ وَ مِثْلُكَ يَبْكِي مَعَ مَا لَكَ مِنَ القَرَابَةِ مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ وَ الأعْمَالِ الصَّالِحَةِ وَ الخُرُوجِ مِنْ مَالِكَ مَرَّتَيْنِ وَ حَجِّ بَيْتِ اللهِ عِشْرِينَ مَرَّةً مَاشِيَاً؟!
قال عليهالسلام: أبْكِي لِخِصْلَتَيْنِ. لِهَوْلِ المُطَّلَعِ وَ فِرَاقِ الأحِبَّةِ. و في روآية: أقْدِمُ على سَيِّدٍ لَمْ أرَه۱.
يقول الشيخ فريد الدين العطّار في شأن بشر.
حين حانت وفاته كان في اضطراب عظيم و حالٍ عجيب.
فقيل له: أوَ تحبّ الحياة؟
قال: لا، ولكن المثول بحضرة ملك الملوك عسير.٢
التدبّر و التأمّل في القرآن مفتاح النجاة و السعادة
عجباً لهذا القرآن الذي ينبغي أن يربّي أمثال الفضيل و بِشر و همّام، كيف يغفل عنه الناس؟! فالقرآن لم يختصّ باولئك، بل إنّ دعوته عامّة شاملة، و لقد طبق نداء يَآ أيُّهَا النَّاسُ لهذا الكتاب الملكوتيّ شرق العالم و غربه، داعياً الجميع إلى هذه المائدة السماويّة، كما أنّه يقود جميع البشر إلى مقام الإنسانيّة:
أَ فَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها.٣
أي أنّ اولئك الذين لم يُختم على قلوبهم بختم الشقاء و العناد و السواد، عليهم أن يستفيدوا من كتاب الله و أن يتدبّروا آياته؛ على أنّ القادر على طيّ الطريق إلى الله هو المطّلع على برنامج الحركة و السير،
فالقرآن كتاب سير و سلوك، و دليلٌ يهدى إلى أعلى درجات الاستعداد و القابليّة الإنسانيّة، فكيف يمكن السير لمن يفتقد المعرفة بالقرآن، و يجهل طريق السير و معدّاته، و لا يعلم موانعه و صوارفه و آفاته؟
و على هذا الأساس، فقد كان نزول القرآن للهداية و العمل، و هذا الأمر يتوقّف على التدبّر و التفكّر.
يقول الله سبحانه في مواضع أربعة من سورة قرآنيّة واحدة:
وَ لَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ.۱
و لقد ورد القرآن بلسان فصيح خالٍ من الإبهام و الغموض ليفهمه الجميع و يستفيدون منه، و بالرغم من احتواء القرآن على معانٍ عميقة تختصّ بأصحاب البصائر، فإنّ معانيه و مفاهيمه و المعاني الظاهريّة لآياته كانت عامّة تبعث على الاعتبار و السرور و الخوف و الخشية و التقوى و الإخلاص، و تثير المعرفة العامّة للناس، فيمكن لكلّ أحد أن يستفيد منها و ينهل بمقدار سعته و استعداده:
وَ لَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَ ما يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُوراً.٢
و بهذا اللحاظ فقد ورد الأمر في القرآن الكريم بتلاوته مرتّلًا:
يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ ، قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا ، نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا ، أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَ رَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا ، إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا.٣
يروي الكُلينيّ بإسناده، عن عبدالله بن سليمان قال: سألتُ الإمام الصادق عليهالسلام عن معنى قول الله عزّ و جلّ: وَ رَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا.
قال: قَالَ أمِيرُالمُؤْمِنِينَ صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ: بَيِّنْهُ تِبْيَاناً، وَ لَا تَهُذَّهُ۱ هَذَّ الشِّعْرِ؛ وَلَا تَنْثُرْهُ نَثْرَ الرَّمْلِ، وَلَكِنْ أفْزِعُوا قُلُوبَكُمُ القَاسِيَةَ؛ وَ لَا يَكُنْ هَمُّ أحَدِكُمْ آخِرَ السُّورَةِ!٢
فهذا النوع من القراءة يسلب الاهتمام بنفس الآيات و يصرفه نحو إتمام السورة، فعليكم أن تقرأوا الآيات بالشكل الذي تعنون فيه بكلّ آية و تتوقّفون عندها و تستفيدون منها استفادة كاملة، ثمّ تنتقلون إلى الآية التالية، و لا يصار هذا بصرف اهتمامكم إلى إنهاء قراءة السورة.
و قد أورد الشيخ الطبرسيّ عن أبي بصير، عن الإمام الصادق عليه السلام في تفسير هذه الآية بهذه الكيفيّة:
قال: هُوَ أنْ تَتَمَكَّثَ فِيهِ وَ تُحْسِنَ بِهِ صَوْتَكَ.
و روى عن الإمام أيضاً قوله: إذَا مَرَرْتَ بِآيَةٍ فِيهَا ذِكْرُ الجَنَّةِ فَاسْألِ اللهَ الجَنَّةَ، وَ إذَا مَرَرْتَ بِآيَةٍ فِيهَا ذِكْرُ النَّارِ فَتَعَوَّذْ بِاللهِ مِنَ النَّارِ٣.
الديوان المنسوب لأميرالمؤمنين عليهالسلام و الأشعار المتعلّقة
و ورد في «الديوان المنسوب للإمام أميرالمؤمنين عليهالسلام» ضمن وصيّته للإمام الحسين عليهالسلام، يقول:٤
أبُنَيَّ إنَّ الذِّكْرَ فِيهِ مَوَاعِظٌ | *** | فَمَنِ الذي بِعِظَاتِهِ يَتَأدَّبُ؟ |
أحُسَيْنُ إنِّي وَاعِظٌ وَ مُؤَدِّبٌ | *** | فَافْهَمْ فَإنَّ العَاقِلَ المُتَأدِّبُ |
اقْرَأ كِتَابَ اللهِ جُهْدَكَ وَاتْلُهُ | *** | فِيمَنْ يَقُومُ بِهِ هُنَاكَ وَ يَنْصِبُ |
بِتَفَكُّرٍ وَ تَخَشُّعٍ وَ تَقَرُّبٍ | *** | إنَّ المُقَرَّبَ عِنْدَهُ المُتَقَرِّبُ |
وَ اعْبُدْ إلَهَكَ ذَا المَعَارِجِ مُخْلِصاً | *** | وَ انْصِتْ إلى الأمْثَالِ فِيمَا تُضْرَبُ |
وَ إذَا مَرَرْتَ بِآيَةٍ مَخْشِيَّةٍ | *** | تَصِفُ العَذَابَ فَقِفْ وَ دَمْعُكَ تَسْكُبُ |
يَا مَنْ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ بِعَدْلِهِ | *** | لَا تَجْعَلَنِّي في الَّذِينَ تُعَذِّبُ |
إنِّي أبُوءُ بِعَثْرَتِي وَ خَطِيئَتِي | *** | هَرَباً وَ هَلْ إلَّا إلَيْكَ المَهْرَبُ |
وَ إذَا مَرَرْتَ بِآيَةٍ في ذِكْرِهَا | *** | وَصْفُ الوَسِيلَةِ وَ النَّعِيمِ المُعْجِبُ |
فَاسْألْ إلَهَكَ بِالإنَابَةِ مُخْلِصاً | *** | دَارَ الخُلُودِ سُؤَالَ مَنْ يَتَقَرَّبُ |
وَ اجْهَدْ لَعَلَّكَ أنْ تَحِلَّ بِأرْضِهَا | *** | وَ تَنَالَ رَوْحَ مَسَاكِنٍ لَا تَخْرُبُ |
وَ تَنَالَ عَيْشاً لَا انْقِطَاعَ لِوَقْتِهِ | *** | وَ تَنَالَ مُلْكَ كَرَامَةٍ لَا يُسْلَبُ |
وجوب الإنصات للقرآن عند قراءته
و بهذا اللحاظ و الملاك فقد وجب الاستماع و الإنصات و رعاية السكوت حين يُقرأ القرآن كي تجد آيات القرآن طريقها إلى قلب مستمعه، فبغير الإنصات ستبقى آياته غير مفهومة، و لا أثر بدون فهم
و إدراك:
وَ إِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَ أَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ.۱
قال رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم لابن مسعود:
اقْرَأ! فَقال: يَا رَسُولَ اللهِ! أقْرَا وَ عَلَيْكَ انْزِلَ؟! فَقال: إنِّي احِبُّ أنْ أسْمَعَهُ مِنْ غَيْرِي. فَكَانَ يَقْرَا وَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ عَيْنَاهُ تَفِيضَانِ.
وَ قَالَ صَلَّى اللهُ عليه و آله و سلّم: مَنِ اسْتَمَعَ إلى آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللهِ عَزَّ وَ جَلَّ كَانَتْ لَهُ نُوراً يَوْمَ القِيَامَةِ۱.
و في الرواية أنّ رجلًا كان يتعلّم القرآن من النبيّ، فلمّا انتهى إلى قوله تعالى: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ ، وَ مَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ.٢
قال: يكفيني هذه! و انصرف، فقال رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم: انْصَرَفَ الرَّجُلُ وَ هُوَ فَقِيهٌ٣.
و ورد في الأخبار نهيه الشديد عن الغافلين عن القرآن و عن اللاهين بالقرآن، يحدّث في «الكافي» بإسناده عن عبدالله بن سنان، عن الإمام الصادق عليهالسلام أنّ رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم قال:
اقْرَاوا القُرْآنَ بِألْحَانِ العَرَبِ وَ أصْوَاتِهَا؛ وَ إيَّاكُمْ وَ لُحُونَ أهْلِ الفِسْقِ وَ أهْلِ الكَبَائِرِ. فَإنَّهُ سَيَجِيءُ مِنْ بَعْدِي أقْوَامٌ يُرَجِّعُونَ القُرْآنَ تَرْجِيعَ الغِنَاءِ وَ النَّوْحِ وَ الرُّهْبَانِيَّةِ، لَا يَجُوزُ تَرَاقِيَهُمْ؛ قُلُوبُهُمْ مَقْلُوبَةٌ وَ قُلُوبُ مَنْ يُعْجِبُهُ شَأنُهُمْ٤.
و في مقابل هؤلاء الأفراد، فإنّ هناك من يقرأ القرآن بتأمّل و دقّة،
و في هدوء و تفكّر، بالشكل الذي ينبض معه في قلوبهم، و ترتسم آثار الحزن و الوله على سيمائهم، و يستقرّ القرآن في كيانهم و أرواحهم:
فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَ بَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ ، الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَ الصَّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ وَ الْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَ مِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ.۱
و يروى في «الكافي» بسنده المتّصل عن الإمام محمّد الباقر عليه السلام، قال: قُرَّاءُ القُرْآنِ ثَلَاثَةٌ. رَجُلٌ قَرَأ القُرْآنَ وَ اتَّخَذَهُ بِضَاعَةً وَ اسْتَدَرَّ بِهِ المُلُوكَ، وَ اسْتَطَالَ بِهِ على النَّاسِ. وَ رَجُلٌ قَرَأ القُرْآنَ فَحَفِظَ حُرُوفَهُ وَ ضَيَّعَ حُدُودَهُ، وَ أقَامَهَ إقَامَةَ القِدْحِ.٢ فَلَا كَثَّرَ اللهُ هَؤُلَاءِ مِنْ حَمَلَةِ القُرْآنِ.
وَ رَجُلٌ قَرَأ القُرْآنَ فَوَضَعَ دَوَاءَ القُرْآنِ على دَاءِ قَلْبِهِ؛ فَأسْهَرَ بِهِ لَيْلَهُ وَ أظْمَأ بِهِ نَهَارَهُ، وَ قَامَ بِهِ في مَسَاجِدِهِ وَ تَجَافَي بِهِ عَنْ فِرَاشِهِ.
فَبِاولَئكَ يَدْفَعُ اللهُ العَزِيزُ الجَبَّارُ البَلَاءَ وَ بِاولَئِكَ يُدِيلُ اللهُ عَزَّ وَ جَلَّ مِنَ الأعْدَاءِ وَ بِاولَئِكَ يُنَزِّلُ اللَهُ عَزَّ وَ جَلَّ الغَيْثَ مِنَ السَّمَاءِ. فَوَ اللهِ لَهَؤُلَاءِ في قُرَّاءِ القُرْآنِ أعَزُّ مِنَ الكِبْرِيتِ الأحْمَرِ.٣
و قال رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم: مَا آمَنَ بِالقُرْآنِ مَنِ اسْتَحَلَّ مَحَارِمَهُ.۱
و قد وردت روايات كثيرة في شأن قراءة القرآن في البيوت بصوتٍ عالٍ أو منخفض.
الروايات الواردة حول قراءة القرآن في البيوت
فقد روى في «الكافي» بإسناده المتّصل عن ليث بن أبي سليم، مرفوعاً إلى رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم، قال:
نَوِّرُوا بُيُوتَكُمْ بِتِلَاوَةِ القُرْآنِ؛ وَ لَا تَتَّخِذُوهَا قُبُوراً كَمَا فَعَلَتِ اليَهُودُ وَ النَّصَارَى. صَلُّوا في الكَنَائِسِ وَ البِيَعِ وَ عَطَّلُوا بُيُوتَهُمْ. فَإنَّ البَيْتَ إذَا كَثُرَ فِيهِ تِلَاوَةُ القُرْآنِ كَثُرَ خَيْرُهُ وَ اتَّسَعَ أهْلُهُ وَ أضَاءَ لأهْلِ السَّمَاءِ كَمَا تَضِيءُ نُجُومُ السَّمَاءِ لأهْلِ الدُّنْيَا٢
يروى في «الكافي» عن الإمام الصادق عليهالسلام أنّه قال:
إن البَيْتَ إنْ كَانَ فِيهِ المَرْءُ المُسْلِمُ يَتْلُو القُرْآنَ يَتَرَاءَاهُ أهْلُ السَّمَاءِ كَمَا يَتَرَاءَى أهْلُ الدُّنْيَا الكَوْكَبَ الدُّرِّيَّ في السَّمَاءِ.٣
و يروي في «الكافي» أيضاً عن ابن قدّاح عن الإمام الصادق عليه السلام أنّ أميرالمؤمنين صلوات الله عليه قال:
البَيْتُ الذي يُقْرَا فِيهِ القُرْآنُ وَ يُذْكَرُ اللهُ عَزَّ وَ جَلَّ فِيهِ تَكْثُرُ بَرَكَتُهُ وَ تَحْضُرُهُ المَلَائِكَةُ وَ تَهْجُرُهُ الشَّيَاطِينُ وَ يُضِيءُ لأهْلِ السَّمَاءَ كَمَا تُضِيءُ الكَوَاكِبُ لأهْلِ الأرْضِ.
وَ إنَّ البَيْتَ الذي لَا يُقْرَا فِيهِ القُرْآنُ، وَ لَا يُذْكَرُ اللهُ عَزَّ وَ جَلَّ فِيهِ تَقِلُّ بَرَكَتُهُ وَ تَهْجُرُهُ المَلَائِكَةُ وَ تَحْضُرُهُ الشَّيَاطِينُ۱.
و بالطبع فإنّ على قارئ القرآن - ليستفيد من معناه و مراده بالقدر الكافي - أن يتريّث في قراءته، فلا يمرّ عليه مروراً سطحيّاً، فقد أورد في «الكافي» بإسناده عن محمّد بن عبدالله قال: سألتُ الإمام الصادق عليه السلام:
أقْرَا القُرْآنَ في لَيْلَةٍ؟!
قال: لَا يُعْجِبُنِي أنْ تَقْرَأهُ في أقَلِّ مِنْ شَهْرٍ!۱
و يروي في «الكافي» أيضاً، عن عليّ بن حمزة قال: دخلتُ على أبي عبدالله الصادق عليهالسلام، فقال له أبوبصير. جُعلت فداك! أقرا القرآن في شهر رمضان في ليلة؟
فقال: لا. قال: ففي ليلتَين؟ قال: لا.
قال: ففي ثلاث؟ قال: ها - و أشار بيده - (أي لا بأس بذلك).
ثمّ قال لأبي بصير: يَا أبَا مُحَمَّدٍ! إنَّ لِرَمَضَانَ حَقَّاً وَ حُرْمَةً لَا يُشْبِهُهُ شَيءٌ مِنَ الشُّهُورِ، وَ كَانَ أصْحَابُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ يَقْرَا أحَدُهُمُ القُرْآنَ في شَهْرٍ أوْ أقَلَّ.
إن القُرْآنَ لَا يُقْرَا هَذْرَمَةً وَلَكِنْ يُرَتَّلُ تَرْتِيلًا. فَإذَا مَرَرْتَ بِآيَةٍ فِيهَا ذِكْرُ الجَنَّةِ فَقِفْ عِنْدَهَا وَ سَلِ اللهَ الجَنَّةَ؛ وَ إذَا مَرَرْتَ بِآيَةٍ فِيهَا ذِكْرُ النَّارِ فَقِفْ عِنْدَهَا وَ تَعَوَّذْ بِاللهِ مِنَ النَّارِ.٢
و في «الكافي» أيضاً رواية عن حريز، عن الإمام الصادق عليهالسلام قال:
القُرْآنُ عَهْدُ اللهِ إلى خَلْقِهِ فَقَدْ يَنْبَغِي لِلْمَرْءِ المُسْلِمِ أنْ يَنْظُرَ في عَهْدِهِ؛ وَ أنْ يَقْرَأ مِنْهُ في كُلِّ يَوْمٍ خَمْسِينَ آيَةً.٣
من آداب قراءة القرآن. الصوت الحسن، و الاستعاذة
و من آداب قراءة القرآن تلاوته بصوت حسن، سواء في الصلاة أم في غيرها، فالأجدر بالإنسان حين يتلو القرآن - أي وقت شاء - أن يهتمّ بتلاوته فيقرأه بلحنٍ حسن، لا أن يقرأه قراءة عاديّة رتيبة، سواء قرأه في حال حزن و تأثّر أو في حال فرح و سرور، فالصوت الحسن مطلوب
و مندوب في الحالَين.۱
يروي في «الكافي» عن عبدالله بن سنان، عن الإمام الصادق عليه السلام، أنّ الرسول الأكرم صلّى الله عليه و آله و سلّم قال:
لِكُلِّ شَيءٍ حِلْيَةٌ؛ وَ حِلْيَةُ القُرْآنِ الصَّوْتُ الحَسَنُ٢.
و روى في «الكافي» أيضاً، عن عليّ بن إسماعيل الميثميّ، عن رجل، أنّ الإمام الصادق عليهالسلام قال: مَا بَعَثَ اللهُ عَزَّ وَ جَلَّ نَبِيَّاً إلَّا بِحُسْنِ الصَّوْتِ٣.
و من جملة آداب قراءة القرآن الاستعاذة بالله من شرّ الشيطان الرجيم:
فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ.٤
و من البيّن أنّ معاني القرآن في عظمتها لو وردت على النفس الأمّارة الشيطانيّة حال تلوّثها لفقدت صفاءها و رونقها، و لتنزّلت معانيها و هبطت بواسطة تصرّف الشيطان في النفس الأمّارة، و علاج ذلك أن يدخل الإنسان
في حمى و مصونيّة و عصمة الله تعالى ليبقى في حرز حريز من الشيطان و تصرّفه.
و ليست الاستعاذة بالله مجرّد قول أعُوذُ بِاللهِ، بل إيكال القلب و الروح إلى الله سبحانه و نسيان غيره وقت التلاوة، و تصفية الذهن و تطهيره ممّا عداه، و أحد طرق تصفية النفس، نفي الخواطر الذي يحصل بالتأمّل و التفكّر في القرآن مع المجاهدة.
و قد أورد الحسنُ بن عليّ بن شُعبة الحَرَّانيّ في «تُحَف العقُول» حديثاً عن أميرالمؤمنين عليهالسلام قال: لَا خَيْرَ في عِبَادَةٍ لَا فِقْهَ فِيهَا؛ وَ لَا في قِرَاءةٍ لَا تَدَبُّرَ فِيهَا۱.
لا يجب قراءة سورة كاملة في الصلاة بعد سورة الحمد
كما أنّ قراءة القرآن في الصلاة تزيد في ثوابه، و كانوا في زمن الرسول الأكرم صلّى الله عليه و آله و سلّم يقرؤون القرآن في صلواتهم، و كانوا يقرؤون بعد سورة الحمد من أي موضع في القرآن، فلم يعيّن لذلك سورة خاصّة، كما ليس واجباً قراءة سورة كاملة، فالاكتفاء بقراءة عدّة آيات، أو تقسيم قراءة سورة معيّنة على الركعتَين، أو على عدّة ركعات إن كانت السورة طويلة، كلّ ذلك أمر مستحسن مندوب.
و ما أجمل أن يقرأ الإنسان في صلاته الآيات المختلفة، و يقسّم جميع القرآن على صلواته بشكل متناوب! و بالطبع فإنّ سورة الحمد ينبغي قراءتها في ابتداء كلّ ركعة، لأنّ سورة الحمد تمثّل مخاطبة الربّ تعالى و بيان صفات جلاله و جماله؛ و حين يشرع المرء في صلاته، أو ينهض من سجوده فيشرع في القراءة، فعليه أن يقرأ الحمد، إذ: لَا صَلَاةَ إلَّا بِفَاتِحَةِ الكِتَابِ.٢
و بعد مُخاطبة الربّ الكاملة، أي مناشدته الإنعام بنعمة الولاية، و البُعد عن صراط المغضوب عليهم و الضالّين، ينبغي للمصلّي قراءة القرآن، أي قراءة كلام الله و عهده، فيمكن القراءة من أي موضع في القرآن.
يروي في «الكافي» بإسناده عن عبدالله بن سليمان، عن الإمام محمّد الباقر عليهالسلام قال:
مَنْ قَرَأ القُرْآنَ قَائِماً في صَلَاتِهِ كَتَبَ اللهُ لَهُ بِكُلِّ حَرْفٍ مَائَةَ حَسَنَةٍ؛ وَ مَنْ قَرَأهُ في صَلَاتِهِ جَالِساً كَتَبَ اللهُ لَهُ بِكُلِّ حَرْفٌ خَمْسِينَ حَسَنَةً؛ وَ مَنْ قَرَأهُ في غَيْرِ صَلَاتِهِ كَتَبَ اللهُ لَهُ بِكُلِّ حَرْفٍ عَشْرَ حَسَنَاتٍ۱.
و نقل حجّة الإسلام الغزّاليّ هذه الرواية عن أميرالمؤمنين عليه السلام إلى خمسين آية، و نقل له تتمّةً:
وَ مَنْ قَرَأ في غَيْرِ صَلَاةٍ وَ هُوَ على وُضُوءٍ فَخَمْسٌ وَ عِشْرُونَ حَسَنَةً؛ وَ مَنْ قَرَأ على غَيْرِ وُضُوءٍ فَعَشْرُ حَسَنَاتٍ؛ وَ مَا كَانَ مِنَ القِيَامِ بِاللَيْلِ فَهُوَ أفْضَلُ؛ لأنَّهُ أفْرَغُ لِلْقَلْبِ.٢
قراءة القرآن و صلاة الليل لأميرالمؤمنين و الفواطم في صحراء
و قد وصف العليّ الأعلى في القرآن الكريم أشخاصاً ينهمكون في الليل بتلاوة القرآن و ذكر الله حال القيام و القعود و على جنوبهم، فامتدحهم لكنّه قدّم القيام على القعود، و القعود على الاضطجاع على الجنب:
إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَ النَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ ، الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَ قُعُوداً وَ عَلى جُنُوبِهِمْ وَ يَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلًا سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ ، رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَ ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ ، رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ أَنْ آمِنُوا
بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَ كَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا وَ تَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ ، رَبَّنا وَ آتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ وَ لا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ.۱
و قد ورد في التفاسير أنّ هذه الآيات نزلت في صحراء الهجرة من مكّة إلى المدينة في شأن أميرالمؤمنين عليهالسلام و برفقته الفواطم الثلاث. الاولى فاطمة بنت رسول الله، و لم يكن قد تزوّج بها بعدُ، و كان لها ثمان سنين. و الثانية. فاطمة بنت أسد، امّ أميرالمؤمنين. و الثالثة. فاطمة بنت الزبير بن عبدالمطّلب، يرافقهم أيضاً أيمن - ابن امّ أيمن - و أبوواقد الليثيّ، و هما من المستضعفين.
و لهذه القصّة شرح عجيب و تفصيل يستحقّ السماع حقّاً، لكنّنا نورده هنا مختصراً:
فقد أورد آية الله السيّد محسن الأمين في «أعيان الشيعة»: و حين غادر رسول الله غار ثور سائراً إلى يثرب، كتب إلى على عليهالسلام مع أبي واقد الليثيّ يأمره بالمسير إليه، و كان أميرالمؤمنين عليه صلوات المصلّين قد أدّى أمانات رسول الله و فعل ما أوصاه به، فلمّا أتاه كتاب رسول الله ابتاع ركائب و تهيّأ للخروج و أمر مَن معه من ضعفاء المؤمنين أن يتسلّلوا ليلًا إلى ذي طُوي.
و خرج عليّ بالفواطم الثلاث، و زاد بعض المؤرّخين فيهنّ فاطمة بنت حمزة بن عبدالمطّلب، و تبعهم أيْمَن ابن امّ أيمن مولى رسول الله و أبوواقد الليثيّ، فجعل أبوواقد يسوق الرواحل سوقاً حثيثاً، فقال أميرالمؤمنين عليهالسلام له:
ارْفَقْ بِالنِّسْوَةِ يَا أبَا وَاقِدٍ، إنَّهُنَّ مِنَ الضَّعَائِفِ.
فجعل عليّ يسوق بهنّ سوقاً رفيقاً و هو يقول:
لَيْسَ إلَّا اللهُ فَارْفَعْ هَمَّكَا | *** | يَكْفِيكَ رَبُّ النَّاسِ مَا أهَمَّكَا |
ممانعة قريش لحركة أميرالمؤمنين و الفواطم صوب المدينة
و لمّا وصلت هذه القافلة الصغيرة ضجنان أدركه الطلب، و هم ثمانية فرسان ملثّمون معهم مولى لَحْرب بن اميّة اسمه جَنَاح.
فقال أميرالمؤمنين عليهالسلام لأيمن و أبي واقد: أنيخا الإبل واعقلاها، و تقدّم فأنزل النسوة، و دنا القوم فاستقبلهم أميرالمؤمنين عليه السلام منتضياً سيفه، فقال الفرسان: ظننتَ أنّك يا غدّار ناجٍ بالنسوة؟ ارْجِعْ لَا أبَا لَكَ.
قال عليّ عليهالسلام: فإن لم أفعل؟
قالوا: لترجعنّ راغماً أو لنرجعنّ بأكثرك شَعراً و أهون بك مِن هالك، و دنوا من المطايا ليثوّروها، فحال عليّ عليهالسلام بينهم و بينها، فأهوى له جناح بسيفه فراغ عن ضربته و ضرب جناحاً على عاتقه فقدّه نصفين حتى وصل السيف إلى كتف فرسه (و ذلك أنّ عليّاً كان راجلًا و جناح فارساً، و الفارس لا يمكنه ضرب الراجل بالسيف حتى ينحني ليصل سيفه إلى الراجل، فلمّا انحنى جناح لم يُمهله عليّ حتى يعتدل، بل عاجله بأسرع من لمح البصر و هو منحنٍ بضربة على عاتقه، و لو لمْ ينحنِ جناح لما وصل سيف على إلى عاتقه).
نعم، لقد قدّ عليّ عليهالسلام جناحاً نصفَين و شدّ على أصحابه و هو على قدميه شدّة ضيغم و هو يقول:
خَلُّوا سَبِيلَ الجَاهِدِ المُجَاهِدِ | *** | آلَيْتُ لَا أعْبُدُ غَيْرَ الوَاحِدِ |
فتفرّق القوم عنه، و قالوا: احبس نفسك عنّا يا ابن أبي طالب.
قال: إنِّي مُنْطَلِقٌ إلى أخِي وَ ابْنِ عَمِّي رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ؛ فَمَنْ سَرَّهُ أنْ أفْرِي لَحْمَهُ وَ أرِيقَ دَمَهُ فَلْيَدْنُ مِنِّي!
ثمّ أقبل عليّ على أيمن و أبي واقد و قال لهما. أطلِقا مطايا كما؛ ثمّ سار ظافراً قاهراً حتى نزل ضجنان فلبث بها يومه و ليلته، و لحق به نفرٌ من المستضعفين من المؤمنين فيهم امُّ أيْمَن مولاة رسول الله.
و بات عليهالسلام ليلته تلك هو و الفواطم في حالٍ عجيب، طوراً يصلّون و طوراً يذكرون الله قياماً و قعوداً و على جنوبهم حتى طلع الفجر، فصلّى بهم صلاة الفجر، ثمّ سار لا يفتر عن ذكر الله هو و من معه حتى قدموا المدينة.
و قد نزل الوحي قبل قدومهم بما كان من شأنهم و أحوالهم في صلاتهم، و ذِكرهم الله قياماً و قعوداً و على جنوبهم و تأمّلهم في خلق السماوات و الأرض، و نظرهم إلى نجوم السماء و تلألؤها و وميضها، في قوله تعالى: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ ... حتى يصل إلى قوله تعالى: الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَ قُعُوداً، و ينتهي إلى الآيات الخمس السابقة، فيستجيب الله لهم، و يبيّن أجر و ثواب قيام الليل و التأمّل و قراءة القرآن في الأحوال المختلفة، و التفكّر في عالم الخلقة و ارتباط هذه الموجودات الحسّيّة المادّيّة بعالم التجرّد و المعنى بهذه العبارات:
فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هاجَرُوا وَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَ أُوذُوا فِي سَبِيلِي وَ قاتَلُوا وَ قُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَ لَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ثَواباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَ اللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ.۱
و كان النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم يتلو هذه الآية: وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ
يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ وَ اللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ.۱
و جاء في «السيرة الحلبيّة» عن كتاب «الإمتاع» للمقريزيّ. لمّا قدم عليّ عليهالسلام من مكّة، كان يسير الليل و يكمن بالنهار حتى تفطّرت قدماه، فاعتنقه النبيّ صلّى الله عليه [و آله] و سلّم و بكى رحمةً لما بقدميه من الورم، و تفل في يديه و أمرّهما على قدميه، فلم يشكهما بعد ذلك.٢
و أورد ابن الأثير الجزريّ في تأريخه:
و أمّا عليّ عليهالسلام فإنّه لمّا فرغ من الذي أمره به رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم في مكّة، هاجر إلى المدينة، فكان يسير الليل و يكمن النهار حتى قدم المدينة و قد تفطّرت قدماه، فقال النبيّ صلّى الله عليه [و آله] و سلّم، و كان قد نزل بقبا: ادْعُوا لِي عَلِيَّاً.
قيل: لَا يَقْدِرُ أنْ يَمْشِيَ.
فَأتَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ [وَ آلِهِ] وَ سَلَّمَ وَ اعْتَنَقَهُ وَ بَكَى رَحْمَةً لِمَا بِقَدَمَيْهِ مِنَ الوَرَمِ وَ تَفَلَ في يَدَيْهِ وَ أمَرَّهُمَا على قَدَمَيْهِ؛ فَلَمْ يَشْتَكِهِمَا بَعْدُ حتى قُتِلَ.٣
و ينبغي العلم أنّ الرواحل التي اشتراها أميرالمؤمنين عليهالسلام كانت لركوب النساء، أمّا هو فكان يسير على قدميه، و كانت فاطمة بنت أسد من النساء - كما نقلوا - تؤثر راحلتها أحياناً لبعض الضعفاء ممّن رافقهم فتسير على قدميها حتى وصلت المدينة و قد تورّمت قدماها المباركة
و تقرّحت.
و كان رسول الله يعطف عليها و يدعوها بامّي، و كان لفاطمة بنت أسد مقامٌ شامخٌ في الإسلام.
كيفيّة أداء رسول الله صلاة الليل و تلاوة القرآن
أورد الشيخ الطبرسيّ أنّ الثعلبيّ روى في تفسيره بإسناده عن محمّد ابن الحنفيّة، عن عليّ بن أبي طالب عليهالسلام، أنّ رسول الله كان إذا قام من الليل استاك ثمّ نظر إلى السماء، ثمّ يقول: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ ... إلى آخر الآية الخامسة إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ.
و قد اشتهرت الرواية عن رسول الله أنّه قال: وَيُلٌ لِمَنْ لَاكَهَا بَيْنَ فَكَّيْهِ وَ لَمْ يَتَأمَّلْ مَا فِيهَا۱.
فقد قصد بذلك أنّ القراءة ليست هدفاً في حدّ ذاتها، كما في الصوت الذي يخرج من الحنجرة و يتبدّل تحت الأسنان و الفكّ إلى حروف و كلمات، بل إنّ الهدف و الغاية من القراءة هو التدبّر و التأمّل في هذه الخلقة العجيبة المحيّرة.
و قد ورد عن أئمّة أهل البيت من آل محمّد صلوات الله عليهم أجمعين الأمر بقراءة هذه الآيات الخمس عند القيام لصلاة الليل، و عند الاضطجاع على الجنب بعدها، و بعد ركعتَي نافلة الفجر.
و روى محمّد بن عليّ بن محبوب، عن العبّاس بن معروف، عن عبدالله بن المغيرة، عن معاوية بن وهب قال: سمعتُ الإمام أبا عبدالله الصادق عليهالسلام يذكر حالات رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم يقول: إنّ النبيّ كان يؤتى بطهور فيخمّر عند رأسه و يوضع مسواكه تحت
فراشه، ثمّ ينام ما شاء الله، فإذا استيقظ جلس ثمّ قلّب بصره إلى السماء وتلا الآيات من آل عمران إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ الآيات؛ ثمّ يستنّ و يتطهّر، ثمّ يقوم إلى المسجد فيركع أربع ركعات على قدر قراءته، ركوعه يركع حتى يُقال: متى يرفع رأسه؟ و يسجد حتى يُقال: متى يرفع رأسه؟ ثمّ يعود إلى فراشه فينام ما شاء الله، ثمّ يستيقظ فيجلس فيتلو الآيات من آل عمران و يقلّب بصره في السماء، ثمّ يستنّ و يتطهّر و يقوم إلى المسجد فيوتر و يصلّي ركعتين، ثمّ يخرج إلى الصلاة.۱
في الصلوات الواجبة و المستحبّة ينبغي القراءة من أي موضع من القرآن
و يرد الأمر في القرآن الكريم للنبيّ لينشغل بتلاوة القرآن في صلاته قدراً من الليل يقرب من نصفه:
إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَ نِصْفَهُ وَ ثُلُثَهُ وَ طائِفَةٌ
مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَ اللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى وَ آخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَ آخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ آتُوا الزَّكاةَ وَ أَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً وَ ما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَ أَعْظَمَ أَجْراً وَ اسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ.۱
و المقصود بعبارة فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ، و فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ، قراءة القرآن في الصلاة، فالله سبحانه يأمر بوجوب قراءة الإنسان القدر الممكن من القرآن في صلاة الليل، بقرينة قوله: إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ، لأنّ القيام في هذه الآية الكريمة المباركة هو القيام للصلاة، و باعتبار وجوب قراءة القرآن في الصلاة، فقد عبّر عن الصلاة بقراءة القرآن.
و نظير هذه الآية قوله تعالى:
أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَ قُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً.٢
فالمراد هنا بتعبير وَ قُرْآنَ الْفَجْرِ - حسب تفسير المفسّرين - هو صلاة الصبح، فقد عبّر عنها بقرآن الفجر بلحاظ أنّ قوام الصلاة بقراءة القرآن. فهذه الصلاة التي هي قرآن الفجر تُقام وقت طلوع الفجر حين تعرج ملائكة الليل و تهبط ملائكة النهار فتتبادل أماكنها، فتكون مشهودة لهاتين الطائفتين من الملائكة.
و لم يكن المؤمنون في صدر الإسلام، و في الأزمنة التي تلته، يقرؤون في صلواتهم السور القصار فقط، بل كانوا يقرؤون - تبعاً لأمر النبيّ الأكرم صلّى الله عليه و آله و سلّم - في صلواتهم الواجبة سوراً أطول، ففي صلاة الظهر و العصر كانوا يقرؤون السور القصيرة كالقَارِعَة و الزِّلْزِلَة و أمثالهما، و يتلون في صلاة المغرب أمثال سور الشَّمْس و الأعْلَى، و في صلاة العشاء سور النَّبَأ و النَّازِعَات و المُرْسلات و أمثالها، و في صلاة الصبح أمثال سور المُزَّمِّل و المُدَّثِّر و الحاقَّة و الطُّور و ن وَ القَلَم،۱ و يُستحبّ للإنسان قراءة سورة قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ مرّة واحدة على الأقلّ كلّ يوم و عدم تركها بالمرّة.
أمّا في الصلوات المستحبّة، و خاصّة في صلاة الليل، فيُقرأ من السور الطُّوَل كسورة النِّسَاء و المَائِدَة و أمثالهما، و يمكن بالطبع تقسيم سورة معيّنة و قراءتها في عدّة صلوات بعد سورة الحمد، أو قراءة مقدار من آيات سورة معيّنة و لو بغير إتمامها.
و من المستحسن كثيراً قراءة سورة يس و الصافَّات و ص و مَرْيَم و الكَهْف و الإسْرَاء، و إبْرَاهِيم و أمثالها، و لو بتجزئتها في صلاة الليل، فما
يهدف إليه الشرع هو زيادة قراءة القرآن في الصلوات، بل إنّ القوام الأساسي للصلاة في القراءة من أي موضع في القرآن، كما أنّ أساس التوصية بقراءة القرآن هي قراءته في الصلاة.
و عليه، فلا ينبغي للإنسان الاكتفاء بسورةٍ خاصّة كسورة التوحيد أو القدر أو النصر في جميع الصلوات، فهو ما يسبّب تضييع القرآن و هجرانه.
إن المقدار الذي يتحمّله كلّ مسلم من القرآن يتمثّل في المقدار الذي يستظهره منه، لا المقدار الذي يمكنه مراجعته في المصحف و قراءته منه؛ و حين يكتفي المسلمون بقراءة سورة قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، و سورة إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ في صلاتهم، و يحفظون هذا المقدار فقط لا أكثر، فإنّهم سيحملون من القدر بقدر تلك السورة فقط و يُحرمون من الاستفادة من باقي القرآن.
إن مَن يعجز عن حفظ القرآن و استظهاره، أو يفتقد الفرصة لذلك، أو مَن يمتلك الفرصة و القدرة لكنّه لم يحفظ منه حتى الآن، يمكنه أن يقرأ من المصحف من أي موضعٍ شاء. و تعدّ قراءة القرآن في الصلاة اليوميّة الواجبة من المصحف أمراً مشروعاً، و قد وردت روايات بجوازها، و هي أفضل و أولى من الاكتفاء بسورة التوحيد في جميع الصلوات.
إن سورة التوحيد تعدّ أرقى سورة في القرآن الكريم من جهة المعنى و المراد، و حسب قول بعض أصحاب القلوب (العرفاء) فإنّها تكشف الستار عن هويّة الباري في الأصل و النسب و المحلّ و سائر صفاته الاخرى.
فهذه الهويّة و سجلّ الأحوال هي كالآتي: أنّ الله - و هو ذات غيب الغيوب - أحدٌ يتّصف في ذاته بالوحدانيّة و التوحّد، و صمدٌ غير أجوف، فهو عزيزُّ و حكيمٌ ذو استقلالٍ و إرادة، و ليس ذليلًا و قائماً بغيره و لا حادثاً
كما هي صفات الأجوف غير الصمد.
لم يلد، بل إنّ هذه الموجودات و الممكنات التي وجدت بإرادته، لا انفصال لها عن حقيقته، و إلّا لكان هذا الانفصال عنه هو الولادة منه؛ و لم يولد، فهذه المظاهر التي هي جميعاً أسماؤه و صفاته و تجلّياته قائمة بذاته هو لا انفصال لها و لا بينونة، و لو لا ذلك لكانت تلك الأصالة مستقلّة عن المبدأ الأصيل، و لتحقّقت الولادة و التولّد.
فذاته واحد، أحد، قيّوم، عليم، و حيّ و قدير مع صفاته و شؤونه، فهي جميعاً متوحّدة أصيلة قديمة، لا انفكاك و افتراق بينها أبداً، لا الذات عن الصفات، و لا الصفات عن الذات.
و لا شريك له، و لا زوجة له، و لا صاحبة له و ولد، بل هو قائمٌ بذاته فقط.
فهذه هي الهويّة و الوثيقة الشخصيّة و ورقة التعريف و أمثالها.
ولكن، و مع أهمّيّة هذه السورة، يجب أن لا نترك سائر سور القرآن و نهجرها، لأنّ ذلك سيؤدّي إلى تضييع القرآن و محوه.
و في كتاب «من لا يحضره الفقيه» رواية عن الفضل بن شاذان - ضمن بيان العلل - عن الإمام الرضا عليهالسلام قال:
إنَّمَا امِرَ النَّاسُ بِالقِرَاءَةِ في الصَّلَاةِ لِئَلَّا يَكُونَ القُرْآنُ مَهْجُوراً مُضَيَّعاً؛ وَ لِيَكُونَ مَحْفُوظاً مَدْرُوساً. فَلَا يَضْمَحِلُّ وَ لَا يُجْهَلُ. وَ إنَّمَا بُدِئَ بِالحَمْدِ دُونَ سَائِرِ السُّوَرِ؛ لأنَّهُ لَيْسَ شَيءٌ مِنَ القُرْآنِ وَ الكَلَامِ جُمِعَ فِيهِ مِن جَوَامِعِ الخَيْرِ وَ الحِكْمَةِ مَا جُمِعَ في سُورَةِ الحَمْدِ. ثُمَّ شَرَعَ عَلَيْهِالسَّلَامُ في تَفْسِيرِ سُورَةِ الحَمْدِ إلى آخِرِهَا۱.
لقد كان المؤمنون مع النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم يقرؤون السور الطُّوَل في صلاة الليل، و يقرؤون في النوافل السور و الآيات الطويلة الكثيرة، أمّا في الصلوات الواجبة التي يصلّونها جماعةً مع رسول الله، فقد كان النبيّ يقرأ الآيات الكثيرة بعد الحمد، أو يقسّم سورةً ما إلى نصفَين مثلًا، فيقرأ كلّ نصف في ركعة، كأمثال سور ق و الفتح و الحديد و الحشر.
إشراف عبّاد بن بشر على الموت في غزوة ذات الرقاع و عدم قطعه تلاوته
و كان لهذا النوع من تلاوة القرآن، الذي يمثّل كيفيّة ارتباط العبد بربّه و خالقه بهذه الكلمات الإلهيّة و العبارات السبحانيّة؛ و خاصّةً للناطقين بالعربيّة أو لمتعلّميها؛ عالَمٌ من الانس و اللذّة و الوحدة و التكلّم مع الله سبحانه، فيغرقون في البهجة و السرور في فضاء من التجرّد و الفناء عن النفس و البقاء بالله تعالى، كصلاة عُبَّاد بن بِشْر الذي عُهد إليه مع عَمَّار بن يَاسِر حراسة الشِّعْب ليلًا، فانهمك عبّاد في الصلاة، و كانت سهام العدوّ تصيب بدنه فيكاد يموت، لكنّه لم يقطع السورة التي كان مشغولًا بقراءتها في الصلاة.
فقد نقل الواقديّ في «المغازي» أنّه بلغ المسلمين في المدينة أنّ الأعراب من طائفة أنْمار و ثَعْلَبَة قد جمعوا لهم المجموع و استعدّوا لغزو المدينة، و من العجيب أنّ المسلمين لم يكونوا يعلمون بذلك.
و حين بلغ الخبر رسول الله صلّى الله عليه [و آله] و سلّم، خرج في أربعمائة من أصحابه للدفاع، حتى سلك على المَضيق،۱ ثمّ أفضى إلى وادي الشُّقْرَة فأقام به يوماً، و بثّ السرايا فرجعوا إليه مع الليل و خبّروه أنّ الأعراب قد فرّوا و ذهبوا إلى رؤوس الجبال و هم مطلّون على النبيّ
صلّى الله عليه [و آله] و سلّم. و لأنّ المشركين كانوا قريباً منهم فخاف المسلمون أن يُغيروا عليهم، فقد صلّى رسول الله بالمسلمين صلاة الخوف، فكانت أوّل صلاة للخوف هي في هذه الغزوة التي دُعيت بغَزْوَة ذَاتِ الرُّقَاع، اقيمت حسب نزول جبرئيل و آيات القرآن، و قد أقامها رسول الله بالمسلمين جماعة.
و كان المشركون الذين فرّوا إلى رؤوس الجبال قد خلّفوا في محالّهم نسوةً وقعن في أيدي المسلمين، و كان في السبي جارية وضيئة، فلمّا انصرف رسول الله صلّى الله عليه [و آله] و سلّم راجعاً إلى المدينة حلف زوجها ليطلبنّ محمّداً و لا يرجع إلى قومه حتى يصيب محمّداً أو يهريق فيهم دماً، أو تتخلّص صاحبته.
فبينا رسول الله في مسيره عشيّةَ ذات ريح، فنزل في شِعبٍ استقبله فقال: مَنْ رَجُلٌ يَكْلَؤُنَا اللَيْلَةَ؟!
فقام رجلان: عَمَّارُ بنُ يَاسِر و عُبَّادُ بنُ بِشْر، فقالا. نحن يا رسول الله نكلؤك. و جعلت الريح لا تسكن.
و جلس الرجلان على فم الشِّعب، فقال أحدهما لصاحبه. أي الليل أحبّ إليك، أن أكفيك فتكفيني آخره؟ قال: إكفِنِي أوّله.
فنام عَمَّار بن يَاسِر و هو من المهاجرين، و قام عُبَّاد بن بِشْر الأنصاريّ يصلّي، و أقبل عدوّ الله يطلب غِرّة و قد سكنت الريح، فلمّا رأى سواد عبّاد علم أنّه ربيئة القوم، فأراد رميه بسهم حتى إذا انفتح طريق الشِّعب حمل على المسلمين النائمين داخله في ظلام الليل، ففوّق له سهماً فأصابه. فانتزع بشر السهم و رمى به. ثمّ رماه بآخر فأصابه، فانتزعه و رمى به. ثمّ رماه بالثالث فأصابه، فلمّا غلب عليه الدم ركع و سجد، ثمّ قال لصاحبه عمّار. اجلس فقد جاء العدوّ.
فنهض عمّار، فلمّا رأى الأعرابيّ أنّ عمّاراً قد قام علم أنّهم قد نذروا به، فقال عمّار. أي أخِي! ما منعك أن توقظني في أوّل سهمٍ رمى به؟!
أجاب عبّاد: كُنْتُ في سُورَةٍ أقْرَؤُهَا وَ هِيَ سُورَةُ الكَهْفِ، فَكَرِهْتُ أنْ أقْطَعَهَا حتى أفْرَغَ مِنْهَا. وَ لَوْلَا أنِّي خَشِيتُ أنْ اضَيِّعَ ثَغْراً أمَرَنِي بِهِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ [وَ آلِهِ] وَ سَلَّمَ مَا انْصَرَفْتُ وَ لَوْ اتِيَ على نَفْسِي.
و يُقال إنّ الرجل الأنصاريّ كان عِمَارَة بن حَزْم. قال ابن واقد: و أثبتهما عندنا عمّار بن ياسر.۱
هكذا كان انس المسلمين بالقرآن، فقد كانوا في خلوتهم مع الله، و بتلاوة كتاب الله، يغرقون في عوالم المعاني فيرضون أن يهبوا أرواحهم و لا ينصرفون عن لذّة المكالمة.
و لقد كان أميرالمؤمنين عليهالسلام يمتلك حواريّين كهؤلاء، يعشقونه في المجالسة و المؤانسة و الذِّكر و الفكر، و كان يئنّ لفقدهم و موتهم و يذرف الدموع سخاناً و الآهات حرّي، نِعْمَ الإمَامُ وَ نِعْمَ المَأمُومُ.
آخر خطبة لأميرالمؤمنين عليهالسلام و ذكره لإخوانه الشهداء
و لقد خطب عليهالسلام في آخر اسبوع من عمره الشريف خطبةً كانت آخر خطبه، قال فيها:
أيْنَ إخْوَانِي الَّذِينَ رَكِبُوا الطَّرِيقَ، وَ مَضَوْا على الحَقِّ؟ أيْنَ عَمَّارٌ؟ وَ أيْنَ ذُو الشَّهَادَتَيْنِ؟ وَ أيْنَ ابْنُ التَّيِّهَانِ؟ وَ أيْنَ نُظَرَاؤُهُمْ مِنْ إخْوَانِهِمُ الَّذِينَ تَعَاقَدُوا على المَنِيَّةِ؟ وَ ابْرِدَ٢ بِرُؤُوسِهِمْ إلى الفَجَرَةِ؟!
ثُمَّ ضَرَبَ على لِحْيَتِهِ الشَّرِيفَةِ، فَأطَالَ البُكَاءَ؛ ثُمَ قَالَ عَلَيْهِالسلام:
أوْهِ على إخْوَانِي الَّذِينَ تَلَوُا القُرْآنَ فَأحْكَمُوهُ؛ وَ تَدَبَّرُوا الفَرْضَ فَأقَامُوهُ، أحْيَوُا السُّنَّةَ وَ أمَاتُوا البِدْعَةَ. دُعُوا لِلْجِهَادِ فَأجَابُوا وَ وَثِقُوا بِالقَائِدِ فَاتَّبَعُوهُ.
(ثُمَّ نَادَى بِأعْلَى صَوْتِهِ): الجِهَادَ الجِهَادَ عِبَادَ اللهِ. ألَا وَ إنِّي مُعَسْكِر في يَوْمِي هَذَا فَمَنْ أرَادَ الرَّوَاحَ إلى اللهِ فَلْيَخْرُجْ.
قَالَ نَوْفٌ: وَ عَقَدَ لِلْحُسَيْنِ عَلَيْهِالسَّلَامُ في عَشْرَةِ آلَافٍ، وَ لِقَيْسِ بْنِ سَعْدٍ رَحِمَهُ اللهُ في عَشْرَةِ آلَافٍ، وَ لأبِي أيُّوبَ الأنْصَارِيِّ في عَشْرَةِ آلَافٍ، وَ لِغَيْرِهِمْ على أعْدَادٍ اخَرَ، وَ هُوَ يُرِيدُ الرَّجْعَةَ إلى صِفِّينَ.
فَمَا دَارَتِ الجُمُعَةُ حتى ضَرَبَهُ المَلْعُونُ ابْنُ مُلْجَمٍ لَعَنَهُ اللهُ. فَتَرَاجَعَتِ العَسَاكِرُ فَكُنَّا كَالأغْنَامِ فَقَدَتْ رَاعِيهَا تَخْتَطِفُهَا الذِّئَابُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ.۱
و كان عمّار بن ياسر من أجلّة كبار صحابة رسول الله و أميرالمؤمنين عليهما الصلاة و السلام، و من كبار الفقهاء و الزهّاد و أهل البصيرة و الولاية، امتلك ضميراً مُضاءً، و قلباً منيراً متوهّجاً، و فكراً عميقاً، و عقلًا صائباً، و اسلوباً متيناً، و حزماً راسخاً صحيحاً.
قال رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم فيه: عَمَّارٌ مَعَ الحَقِّ وَ الحَقُّ مَعَ عَمَّارٍ حَيْثُ كَانَ. عَمَّارٌ جِلْدَةٌ بَيْنِ عَيْنِي وَ أنْفِي تَقْتُلُهُ الفِئَةُ البَاغِيَةُ.٢
و نُقل عن «صحيح البخاريّ» أنّ عمّار كان عند بناء مسجد النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم يحمل ضعف ما يحمله غيره من الأحجار، فيحمل عنه و عن رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم، و كان رسول الله ينفض الغبار عن عمّار و يقول:
وَيْحَ عَمَّارٍ! تَقْتُلُهُ الفِئَةُ البَاغِيَةُ؛ يَدْعُوهُمْ إلى الجَنَّةِ وَ يَدْعُونَهُ إلى النَّارِ.
و كذلك قال عنه رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم:
أبْشِرْ يَا أبَا اليَقْظَانِ! فَإنَّكَ أخُو عليّ عَلَيْهِالسَّلَامُ في دِيَانَتِهِ وَ مِنْ أفَاضِلِ أهْلِ وِلَايَتِهِ وَ مِنَ المَقْتُولِينَ في مَحَبَّتِهِ. تَقْتُلُكَ الفِئَةُ البَاغِيَةُ، وَ آخِرُ
زَادِكَ مِنَ الدُّنْيَا ضِيَاحٌ۱ مِنَ اللَّبَنِ٢.
و في الوقت الذي ينقل فيه مخالفونا و رواة العامّة في كتبهم من فضائل عمّار على لسان رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم بالقدر الذي يُثير الدهشة و العجب، نرى عثمان يضربه زمن خلافته حتى يغشى عليه، ثمّ يأمر غلمانه فيوثقوا يَدَيْهِ و رِجلَيه ثمّ يضربه برِجليه و هما في الخفّين على مذاكيره فيصيبه الفتق و يُكسر ضلع من أضلاعه!
قالوا إنّ رسول الله قال فيه: عَمَّارٌ مُلِئَ إيمَاناً حتى أخْمَصَ قَدَمَيْهِ؛ وَ إنَّ مَنْ عَادَاهُ عَادَاهُ اللهُ؛ وَ إنَّ مَنْ أبْغَضَهُ أبْغَضَهُ اللهُ. وَ إنَّ الجَنَّةَ مُشْتَاقَةٌ إلَيهِ.٣
شهادة عمّار بن ياسر في معركة صفّين
و لقد سقط عمّار في معركة صفّين شهيداً، و كان يقول فيها:
وَ اللهِ لَوْ ضَرَبُونَا بِأسْيَافِهِمْ حتى يُبْلِغُونَا سَعَفَاتِ٤ هَجَرٍ لَعَلِمْنَا أنَّا على الحَقِّ وَ أنَّهُمْ على البَاطِلِ.٥
و لقد جاء عمّار في معركة صفّين إلى أميرالمؤمنين عليهالسلام، فقال: يَا أخَا رَسُولِ اللهِ! أتَأذَنُ لِى في القِتَالِ؟!
فقال عليهالسلام: مَهْلًا رَحِمَكَ اللهُ!
فلمّا كان بعد ساعة، أعاد عليه الكلام، فأجابه بمثله، فأعاده ثالثاً، فَبَكَى أمِيرُالمُؤْمِنِينَ عَلَيْهِالسَّلَامُ، فَنَظَرَ إلَيْهِ عَمَّارٌ، فَقال: يَا أمِيرَالمُؤْمِنِينَ! إنَّهُ اليَوْمُ الذي وَصَفَ لِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ.
فَنَزَلَ أمِيرُالمُؤْمِنِينَ عَلَيْهِالسَّلَامُ عَنْ بَغْلَتِهِ، وَ عَانَقَ عَمَّاراً وَ وَدَّعَهُ، ثُمَّ قال:
يَا أبَا اليَقْظَانِ! جَزَاكَ اللهُ عَنِ اللهِ وَ عَنْ نَبِيِّكَ خَيْراً؛ فَنِعْمَ الأخُ كُنْتَ وَ نِعْمَ الصَّاحِبُ كُنْتَ، ثُمَّ بَكَى عَلَيْهِالسَّلَامُ وَ بَكَى عَمَّارٌ؛ ثُمَّ بَرَزَ إلى القِتَالِ.
و كان لعمّار آنذاك أربع و تسعون سنة، و خلال المعركة الملتحمة بينه و بين عدوّه طعنه أبوالعادية برمحٍ في جنبه فهوى عمّار على الأرض.
قَالَ أبُوالبُخْتَرِيّ: اتِي عَمَّارٌ يَوْمَئِذٍ بِلَبَنٍ فَضَحِكَ، ثُمَّ قال: قال رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم: آخِرُ شَرَابٍ تَشْرَبُهُ مِنَ الدُّنْيَا مَذَقَةٌ مِنْ لَبَنٍ حتى تَمُوتَ۱.
فلمّا وقع عمّار على الأرض بطعنة رمح أبي العادية أكبّ عليه ابن جوي السَّكْسَكِيّ و احتزّ رأسه، فأقبلا إلى معاوية يختصمان، كلٌّ يقول مفتخراً. أنا قتلتُه!
فَقَالَ عَمْرو بن العاص اللعين:
وَ اللهِ إنْ يَخْتَصِمَانِ إلَّا في النَّارِ!
و بكى أميرالمؤمنين عليهالسلام لقتله. فَلَمَّا كَانَ اللَيْلُ طَافَ
أمِيرُالمُؤْمِنِينَ عَلَيْهِالسَّلَامُ في القَتْلَى فَوَجَدَ عَمَّاراً مُلْقيً فَجَعَلَ رَأسَهُ على فَخِذِهِ، ثُمَّ بَكَى وَ أنشَأ يقول:
أيَا مَوْتُ كَمْ هَذَا التَّفَرُّقُ عَنْوَة | *** | فَلَسْتَ تُبْقِي لِي خَلِيلَ خَلِيلِي |
ألَا أيُّهَا المَوْتُ الذي لَيْسَ تَارِكِي | *** | أرِحْنِي فَقَدْ أفْنَيْتَ كُلَّ خَلِيلِي |
أرَاكَ بَصِيراً بِالَّذِينَ احِبُّهُمْ | *** | كَأنَّكَ تَمْضِي نَحْوَهُمْ بِدَلِيلِي |
ثُمَّ قال: إِنَّا لِلَّهِ وَ إِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ. إنَّ امْرَءاً لَمْ يَدْخُلْ عَلَيْهِ مُصِيبَةٌ مِنْ قَتْلِ عَمَّارٍ فَمَا هُوَ في الإسْلَامِ مِنْ شَيْءٍ. ثُمَّ صَلَّى عَلَيْهِ.۱
صَلَّى اللهُ عَلَيْكَ يَا أمِيرَالمُؤْمِنِينَ، وَ يَا يَعْسُوبَ المُسْلِمِينَ، وَ يَا إمَامَ المُوَحِّدِينَ، وَ يَا قَائِدَ الغُرِّ المُحَجَّلِينَ، وَ يَا سَيِّدَ الوَصِيِّينَ، وَ يَا حَامِلَ أسْرَارِ رَبِّ العَالَمِينَ. وَ يَا تَأوِيلَ القُرْآنِ الحَكِيمِ وَ رَحْمَةُ اللهِ وَ بَرَكَاتُهُ.
اى علَم ملّت و نفس رسول | *** | حلقه كش علم تو گوش عقول٢ |
اى بتو مختوم كتاب وجود | *** | وى بتو مرجوع، حساب وجود |
داغكش نافة تو مشك ناب | *** | جزيه ده ساية تو آفتاب |
خازن سبحانى و تنزيل وحى | *** | عالم ربّانى و تأويل وحى |
آدم از اقبال تو مسجود شد | *** | چون تو خَلَف داشت كه مسجود شد |
تا كه شده كُنْيَتِ تو بوتراب | *** | نه فلك از جوى زمين خورده آب۱ |
عَلِيُّ الدُّرُّ وَ الذَّهَبُ المُصَفَّي | *** | وَ بَاقِي النَّاسِ كُلُّهُمُ تُرَابُ |
وَ على أهْلِ بَيْتِكَ الطَّاهِرِينَ، الوارثين مقام الولاية حقّاً، و المكمِّلين حقيقة الشريعة، و الحاملين روح القرآن و حياته في كلّ زمان و مكان، سيّما بقيّة الله تعالى أرواحنا فداه.
بِآلِ مُحَمَّدٍ عُرِفَ الصَّوَابُ | *** | وَ في أبْيَاتِهِمْ نَزَلَ الكِتَابُ |
وَ هُمْ حُجَجُ الإلَهِ على البَرَايَا | *** | بِهِمْ وَ بِجَدِّهِمْ لَا يُسْتَرَابُ |
البَحْثُ السَّابِعُ: ثَمَرَةُ القُرْآنِ تَرْبِيَةُ الإنْسَانِ الكَامِلِ و تفسير آية ﴿فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ ، وَ إِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ ، إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ ، فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ ، لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ ، تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ﴾
أعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيطانِ الرَّجِيمِ
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
و صلَّى اللهُ على سَيِّدِنا مُحَمَّدٍ و آلِهِ الطَّيِّبِينَ الطَّاهِرِينَ
و لَعْنَةُ اللهِ على أعْدَائهِمْ أجْمَعِينَ مِنَ الآنَ إلى قِيامِ يَوْمِ الدِّينِ
و لَا حَولَ و لَا قُوَّةَ إلَّا بِاللهِ العَلِيِّ العَظِيمِ
قال الله الحكيم في كتابه الكريم:
«فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ ، وَ إِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ ، إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ ، فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ ، لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ ، تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ.۱
التنزيل في القرآن المفصّل، و النزول في القرآن المحكم
للقرآن الكريم مرحلتان و موقعان:
المرحلة و الموقع الأوّل: حقيقته في عالم التجرّد و المعنى و الملكوت الأعلى، فهو مجرّد و بسيط و مُحكم؛ و المرحلة و الموقع الثاني. نزوله في عالم الكثرة و التلبّس بلباس الصور، و التشكّل بأشكال السور و الآيات بالشكل المعيّن المعهود.
فذاك القرآن الذي عند الربّ لا حجم له و لا زمان، بل هو كتابٌ سماويّ أنزله الأمين جبرئيل من ربّ العزّة على القلب المبارك لمحمّد بن عبدالله صلّى الله عليه و آله و سلّم دفعةً واحدة، و هو النزول الحاصل في شهر رمضان:
شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَ بَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَ الْفُرْقانِ.۱
و قد عبّر في سورة الدخان عن نزول هذا القرآن بأنّه كان في ليلةٍ مباركة:
حم ، وَ الْكِتابِ الْمُبِينِ ، إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ.٢
و عيّنت هذه الليلة المباركة في سورة القدر بأنّها هي ليلة القدر:
إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ.٣
و بضمّ هذه الآيات الثلاث إلى بعضها، يستفاد أنّ ذلك القرآن المحكم، البسيط و المجرّد؛ الذي نزل في آنٍ واحد دفعةً واحدة على صدر النبيّ، و ذلك في لحظة واحدةٍ لا أكثر - و التعبير باللحظة الواحدة تبعاً للمسائل العلميّة و الفلسفيّة من باب ضيق العبارة - كان أوّلًا في شهر رمضان لا في سائر الشهور. و كان ثانياً في ليلة القدر - و هي الليلة المباركة - لا في سائر الليالي.
و عليه، فإنّ القرآن قد انزل على النبيّ في ليلة القدر من شهر رمضان.
و الشاهد على هذا النزول الدفعيّ على القلب المبارك للنبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم أو إلى السماء الدنيا، التعبير عنه بكلمة الإنزال التي تتحدّث في جميع الآيات القرآنيّة عن النزول الدفعيّ، فهذه الصيغة
تستعمل في اللغة العربيّة في موارد النزول الدفعيّ.
أمّا المرحلة و الموقع الثاني للقرآن فنزوله التدريجيّ منجّماً و تدريجيّاً على رسول الله خلال ثلاث و عشرين سنة إبتداءً من زمن البعثة إلى زمن رحيل الرسول الأكرم، حسب المقتضيات و المصالح و الحاجة إلى الأحكام و التشريع، عند ظهور و نشوء الموضوعات و المتعلّقات و الاحتياجات التدريجيّة، و هذه الحقيقة مشهودة في كيفيّة التعبير عنها بعبارة التنزيل في الآيات التالية:
إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا ، فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَ لا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً.۱
وَ نُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَ رَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَ لا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً.٢
و تستعمل صيغة التنزيل في اللغة العربيّة للنزول التدريجيّ، و عليه فإنّ الفرق بين المرحلة و الموقع الأوّل للقرآن مع مرحلته و موقعه الثاني هو الفرق بين الإجمال و التفصيل:
كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ.٣
و يتّضح من هذه الآية أنّ للقرآن جهتَين. محكمٌ و مفصَّلٌ، فالمحكم هو جهة الإجمال التي لا صورة و لا شكل تفصيليّ لها، فهو واحد و بسيط لا يتجزّأ و لا ينقسم بكلّ ما في الكلمة من معنى. و المفصَّل هو جهة التفصيل التي كان لها صورة و شكل، فهي قد خرجت من الإجمال إلى
التفصيل.
إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ، وَ إِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ.۱
و هذه الآية توضّح نكات و دقائق كثيرة في إفادة ما ذكرناه، فأوّلًا أنّ كتاب القرآن هذا - أي السور و الآيات القرآنيّة - قد جُعل قابلًا للقراءة، و جُعل عربيّاً فصيحاً ليفهمه الناس.
و ثانياً: أنّ هذا القرآن هو في امّ الكتاب، حيث وَ عِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ،٢ في عالمٍ له في البساطة و التجرّد و العلوّ و النور عند الله حكم الامّ و المنشأ لجميع العوالم.
نفس رسول الله متّحدة مع القرآن السامي و المحكم
و ثالثاً: أنّه هناك ليس في هيئة سُوَر و آيات، بل حقيقةٌ مُحكمة و متعالية ذات مقام سامٍ و درجة رفيعة، ليس فيه جانب من التجزئة و التفرقة و التفصيل، لا تناله أفكار المفكّرين، و لا ترتفع إلى ذروة ساحة قدسه الأوهام المحلّقة في الشواهق، و تزيغ و تتهاوى و تضمحلّ دون الوصول إلى عزّ ذلك المقام المنيع.
المطهّرون فقط، هم الذين يصلون ذلك المقام و يدركون تلك الحقيقة المجرّدة، إذ. لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ. فغير المنزّهين و المطهّرين من الرذائل و هوى النفس، و العابرين من درجة الإخلاص، و الفائزين بمقام الصِّدِّيقين و المخلَصين الذين لم يبق في وجودهم و عقولهم و سرّهم أبداً شائبة من البينونة و الأزدواجيّة، لا يمكنهم الوصول إلى ذلك المقام و حيازة تلك الذروة الرفيعة السامية.
فهذا القرآن النازل مفصّلًا و مبيّناً موجود على نحو أعلى و أكمل في ذلك القرآن العالي و العليّ المُحكم المُنزل عنه، كأنّ ذلك القرآن كان نبعاً من الماء يفور الماء منه على الدوام، فاعطيَ منبع الفوران و النبع ذلك دفعةً إلى النبيّ، ثمّ منح صلوات الله عليه و آله و سلّم تدريجيّاً هذا الفوران المستمرّ المتوالي من مياه الرحمة التي شملت أرجاء العالم.
أو كمثل مَلَكة الرسم و الخطّ و مَلَكات سائر الحِرَف و الصنائع التي يوجد أصلها في الشخص الواجد لها، فهي موجودة لديه بلا شكل أو أبعاد أو زمان أو ما شابه، و بواسطة تلك المَلَكة البسيطة المجرّدة يقوم صاحبها تدريجيّاً بإنزال ملكاته بصورة محدودة و معيّنة إلى عالم الفعل و الخارج و يلبسه لباس التحقّق و الفعليّة، كما يفعل الرسّام برسم اللوحات المختلفة الهيئة و الكيفيّة، و كما يفعل الخطّاط بخطّ الخطوط المختلفة، و كما يفعل سائر أصحاب الصنائع و الحِرَف.
و هكذا، فقد كان ذلك القرآن المُحكم - الذي نزل دفعةً - حقيقة متعالية؛ و كان هذا القرآن المفصّل في ثلاثين جزءاً و مائة و أربع عشرة سورة، و النازل تدريجيّاً بأشكال مختلفة و مطالب متنوّعة من التوحيد و المعارف و القصص و الأحكام و غيرها؛ بحسب المقتضيات المحدودة المتميّزة ليس إلّا ذلك القرآن العالي. لا فرق بينهما إلّا في التفصيل و الإجمال، فإن رُفع هذا القرآن إلى الأعلى لصار ذاك، و إن انزل ذاك صار هذا.
ذلك القرآن هو حقيقة نفس رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم، و هذا القرآن هو أخلاقه و مَلَكاته و أعماله.۱
و تتضّح بهذا البيان كيفيّة اتّحاد نفس رسول الله و الأئمّة الطاهرين صلوات الله و سلامه عليهم أجمعين مع القرآن المحكم العالي، و اتّحاد فكر و ذهن و أبدان وجوداتهم القدسيّة مع هذا القرآن المفصّل العربيّ المبين.
و كما أنّ بعثة خاتم الأنبياء لا تختصّ بزمان أو مكان معيّنين، إذ: وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ؛۱ وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ،٢ فإنّ القرآن الكريم الذي يمثّل وحي الله هو الآخر مرسل لجميع العوالم إلى يوم الجزاء، فلا اختصاص له بزمان أو مكان معيَّنَين:
قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ يُحيِي وَ يُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَ كَلِماتِهِ وَ اتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ.٣
يمتلك حملة القرآن أشرف مكارم الإنسانيّة
و هذه الآية الأخيرة، و التي تعلن نداء شمول الرسالة لجميع سكّان العالم إلى يوم القيامة، قد تلت هذه الآية:
الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَ الْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ يُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَ يُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَ يَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَ الْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَ عَزَّرُوهُ وَ نَصَرُوهُ وَ اتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ.۱
حيث إنّها تشخّص في هذه الآية المباركة كيفيّة دعوة رسول الله و موارد مهمّته و رسالته بالنور الذي انزل معه، أي القرآن.
فالقرآن كنفس رسول الله، هو أفضل و أعلى من جميع الكائنات.
قال رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم: مَا مِن شَفِيعٍ أفْضَلَ مَنْزِلَةً عِنْدَ اللهِ يَوْمَ القِيَامَةِ مِنَ القُرْآنِ؛ لَا نَبِيٍّ وَ لَا مَلَكٍ وَ لَا غَيْرِهِ.٢
و روى أيضاً عن رسول الله: إنَّ القُلُوبَ تَصْدَا كَمَا يَصْدَا الحَدِيدُ.
فَقيل: يَا رَسُولَ اللهِ وَ مَا جَلَاؤُهَا؟! فَقال: تِلَاوَةُ القُرْآنِ وَ ذِكْرُ المَوْتِ.٣
فالقرآن مرهم لجراح النفس، لذا يجلو صدأ القلوب و يصقلها فتصبح
معدّةً لعكس الأنوار الإلهيّة و التجلّيات السبحانيّة، و في هذه الحالة فإنّ جميع الصفات الحسنة و مكارم الأخلاق ستنشأ في تالي القرآن.
و القرآن يهدي إلى مقام عزّ الربوبيّة، و هو شرف الإنسان و فيه صفاته الحميدة في الاستقامة و العفّة و العبوديّة و العِلم و الحلم و الإيثار و غيرها.
لو اعطي القرآن لأحد لنال أعظم المواهب الالهيّة
يروي الكلينيّ بإسناده المتّصل عن الإمام جعفر الصادق عليهالسلام أنّ رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم قال:
إن أحَقَّ النَّاسِ بِالتَّخَشُّعِ في السِّرِّ وَ العَلَانِيَةِ لَحَامِلُ القُرْآنِ. وَ إنَّ أحَقَّ النَّاسِ في السِّرِّ وَ العَلَانِيَةِ بِالصَّلَاةِ وَ الصَّوْمِ لَحَامِلُ القُرآنِ.
ثُمَّ نَادَى بِأعْلَى صَوْتِهِ: يَا حَامِلَ القُرْآنِ! تَوَاضَعْ بِهِ يَرْفَعْكَ اللهُ! وَ لَا تَعَزَّزْ بِهِ فَيُذِلُّكَ اللهُ! يَا حَامِلَ القُرْآنِ! تَزَيَّنْ بِهِ لِلَّهِ يُزَيِّنْكَ اللهُ [بِهِ]، وَ لَا تَزَيَّنْ بِهِ لِلنَّاسِ فَيُشِينَكَ اللهُ بِهِ.
مَنْ خَتَمَ القُرْآنَ فَكَأنَّمَا ادْرِجَتِ النُّبُوَةُ بَيْنَ جَنْبَيْهِ وَلَكِنَّهُ لَا يُوحَى إلَيْهِ وَ مَنْ جَمَعَ القُرْآنَ فَنَوْلُهُ لَا يَجْهَلُ مَعَ مَنْ يَجْهَلُ عَلَيْهِ؛ وَ لَا يَغْضَبُ فِيمَنْ يَغْضَبُ عَلَيْهِ. وَ لَا يَحُدُّ فِيمَنْ يَحُدُّ؛ وَلَكِنَّهُ يَعْفُو وَ يَصْفَحُ وَ يَغْفِرُ وَ يَحْلُمُ لِتَعْظِيمِ القُرْآنِ.
وَ مَنْ اوتِي القُرْآنَ فَظَنَّ أنَّ أحَداً مِنَ النَّاسِ اوتِيَ أفْضَلَ مِمَّا اوتِي فَقَدْ عَظَّمَ مَا حَقَّرَ اللهُ وَ حَقَّرَ مَا عَظَّمَ اللهُ.۱
و يُلاحظ في هذا الحديث المبارك ما لأصحاب القرآن و حملته من ملكات سنيّة، من التخشّع و الصلاة و الصيام و الوقار و الهدوء و السكينة عند مواجهة الجهلة، و كسر سَوْرة الغضب و كظم الغيظ و العفو و الإغضاء عن الخاطئ، و الحلم و التحمّل و الصبر، و أعظم من هذا كلّه أنّ مقام النبوّة كأنّه قد ادرج بين جَنْبَيْهم، يُضاف إلى ذلك إدراكهم و معرفتهم حقيقة الأحكام و المعارف.
و جُعل ذلك من شمائل الذين يجلسون في مقام الخضوع و التذلّل أمام عزّة القرآن و شموخه، فتكون حال قلوبهم في انعطافها و استعدادها سبباً لقبول تلقّي الآيات. أمّا الأفراد الذين ينتابهم الشعور بالعزّة أمام القرآن، و الذين يحسبون أنّ علومهم و كمالاتهم تمثّل شيئاً مقابل القرآن، فلن يعود عليهم من القرآن شيء، حيث من الواضح أنّ المراد بالذلّة مقابل القرآن، ليست الذلّة الظاهريّة في تقبيل القرآن و احترامه، بل التسليم و الذلّة الباطنيّة الحاصلة بتسليم النفس و اعتبارها أنّ علومها و كمالاتها ليست شيئاً أمام عظمة القرآن و كماله، و هذا يحصل بانعطاف القلب و استعداده الذي
ينتج القبول و التلقّي، كما أنّ انعطاف القلب ينشأ بدوره إثر تعظيم و توقير القرآن و إجلاله.
يروي الكلينيّ بسنده، عن الزهريّ، عن الإمام عليّ بن الحسين عليهما السلام قال:
سَألْتُهُ. أي الأعْمَالِ أفْضَلُ؟ قال: الحَالُّ المُرْتَحِلُ.
قلت: و ما الحال المرتحل؟
قال: فَتْحُ القُرْآنِ وَ خَتْمُهُ؛ كُلَّمَا جَاءَ بِأوَّلِهِ ارتْحَلَ في آخِرِهِ.
وَ قال رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم: مَنْ أعْطَاهُ اللهُ القُرْآنَ فَرَأى أنَّ رَجُلًا اعْطِيَ أفْضَلَ مِمَّا اعْطِي فَقَدْ صَغَّرَ عَظِيماً وَ عَظَّمَ صَغِيراً۱.
و قد أوردنا في هذه الأبحاث القرآنيّة في الجزء الأوّل٢ رواية في
تفسير الآية المباركة: خُذِ الْعَفْوَ وَ أْمُرْ بِالْعُرْفِ وَ أَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ؛۱ و بحثنا في مفهومها و معناها، و نكتفي هنا بذكر كلام الزمخشريّ بهذا الشأن الذي أورده في تفسير ذيل الآية المباركة.
يقول هذا المُفَسِّرُ المُتَضَلِّعُ في «الكَشَّاف»:
العَفْو ضدّ الجَهْد، أي. أيّها النبيّ خُذ ما عفا لك من أفعال الناس و أخلاقهم و ما أتى منهم، و تسهّل من غير كلفة و لا تداقّهم و لا تطلب منهم الجهد و ما يشقّ عليهم حتى لا ينفروا، كقوله صلّى الله عليه [و آله] و سلّم: يَسِّرُوا وَ لَا تُعَسِّرُوا.
قال الشاعر:
خُذُي العَفْوَ مِنِّي تَسْتَدِيمِي مَوَدَّتِي | *** | وَ لَا تَنْطِقِي في سَوْرَتِي حِينَ أغْضَبُ |
و العُرف. المعروف و الجميل من الأفعال، و معنى وَ أَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ: و لا تُكافئ السفهاء بمثل سفههم و لا تمارهم و احلم عنهم و أغِضَّ على ما يسوؤك منهم.
و قيل: لمّا نزلت هذه الآية سأل رسول الله جبرئيل فقال: لا أدري حتى أسأل، ثمّ رجع فقال:
يَا مُحَمَّدُ! إنَّ رَبَّكَ أمَرَكَ أنْ تَصِلَ مَنْ قَطَعَكَ، وَ تُعْطِي مَنْ حَرَمَكَ، وَ تَعْفُو عَمَّنْ ظَلَمَكَ!
و عن جعفر الصادق: أمر الله نبيّه عليه الصلاة و السلام بمكارم الأخلاق و ليس في القرآن آية أجمع لمكارم الأخلاق منها.٢
و قد أوردنا في هذا الجزء من الكتاب رواية عن ابن أبي الحديد، عن ابن قتيبة، عن أميرالمؤمنين عليهالسلام، يروي الكلينيّ في «الكافي» رواية تقاربها مضموناً عن الإمام الصادق عليهالسلام، و كانت بعض عباراتها:
مَثَلُ المُؤْمِنِ الذي يَقْرَا القُرْآنَ كَمَثَلِ الاتْرُجَّةِ رِيحُهُا طَيِّبٌ وَ طَعْمُهَا طَيِّبٌ؛ وَ مَثَلُ المُؤْمِنِ الذي لَا يَقْرَا القُرْآنَ كَمَثَلِ التَّمْرَةِ طَعْمُهَا طَيِّبٌ وَ لَا رِيحَ لَهَا.۱
و يُستفاد من هذه العبارة أنّ المؤمن العالِم بالقرآن له نور و رشحات طيّبة، و هو عارف بطرق السير و السلوك، و سبل الوصول إلى المعبود، خبير بموانع و عقبات هذا الطريق و كيفيّة إزالتها و تخطّيها و الوصول إلى المقصود، و هي الخصوصيّة التي عبّر عنها عليهالسلام بالريح الطيّب، خلافاً للشخص الذي أوصله عمله و تلقّيه عن الإمام و الولي إلى مرحلة الإيمان فطابت روحه، لكنّ افتقاده معرفة سبيل السير و السلوك و طريق الوصول، و جهله كيفيّة رفع الموانع و الأخطار و الخواطر الشيطانيّة و كيفيّة التمييز بين النفحة الإلهيّة و نزعات إبليس، قد أبقاه قاصراً عن أن يفيد شيئاً أو يُعطي شيئاً، فهو لا يصلح - و الحال هذه - لقيادة جماعة و هدايتهم إلى الله.
و حاصل الكلام أنّ وجود هذا الشخص لازم غير متعدٍّ، و مع أنّه جيّد
و حسن إلّا أنّه في حدود نفسه هو لا يتعدّاها و لا يرشح عنها إلى غيرها.
لذا، عليه أن يتصفّح القرآن؛ و هو كتاب النفس البشريّة؛ فيبحث في صفاته كاملةً، و يشخّص جيّداً ما يُنجيه و ما يُهلكه، و يطّلع بشكل تامّ على جنود النفس الأمّارة و أتباع إبليس، و على طريق التغلّب عليها، و اسلوب تقوية تعديل و تقويم الغرائز الرحمانيّة و المواهب الإلهيّة.
القائد و الدليل إلى الله ينبغي أن يكون عارفاً بالقرآن
القرآن هو في الأساس كتابٌ للتعليم و التربية، و هو المنجي للبشريّة من عالَم البهيميّة إلى أعلى مراتب السمو بمقام القُرب و الإنسانيّة، لذا فإنّ العارف بالقرآن يمتاز بنوع من البصيرة و التربية التي يكون غيره فيها محروماً منها، من المؤمنين الذين لم يصلوا درجة اليقين و الخلوص.
و عليه، فقد عدّ أرباب السلوك و أساتذة مقام الطريقة أنّ العِلمَ بأحكام الشريعة و السنّة المحمّديّة من الشروط الحتميّة للُاستاذ و الدليل، و هو نفسه العلم بالقرآن المتجلّي في الأحكام و السنّة و الولاية.
و لأنّ الله العليّ الأعلى يريد لجميع أفراد البشر أن يمتلكوا خصوصيّة العرفان و التوحيد و المقامات الروحيّة و المعنويّة، فقد أمرهم جميعاً بقراءة القرآن و تلاوته، و بالتدبّر و التفكّر في الآيات الإلهيّة.
و قد ورد عن رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم: أفْضَلُ عِبَادَةِ امَّتِي قِرَاءَةُ القُرْآنِ. و عنه أيضاً: خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ القُرْآنَ وَ عَلَّمَهُ۱.
و ينقل في «الكافي» بإسناده عن فضيل بن يسار، عن الإمام الصادق عليهالسلام:
قال: مَا يَمْنَعُ التَّاجِرَ مِنْكُمُ المَشْغُولَ في سُوقِهِ إذَا رَجَعَ إلى مَنْزِلِهِ أنْ لَا يَنَامَ حتى يَقْرَأ سُورَةَ القُرْآنِ فَتُكْتَبُ لَهُ مَكَانَ كُلِّ آيَةٍ يَقْرَؤُهَا عَشْرُ
حَسَنَات، وَ يُمْحَي عَنْهُ عَشْرُ سَيِّئَاتٍ.۱
و يروى في «الكافي» عن عبدالله بن فضل النوفليّ، مرفوعاً، قال: مَا قَرَأتُ الحَمْدَ على وَجَعٍ سَبْعِينَ مَرَّةً إلَّا سَكَنَ.٢
و ورد في «الكافي» أيضاً، عن معاوية بن عمّار، عن الإمام الصادق عليهالسلام قال: لَوْ قَرَأتُ الحَمْدَ على مَيِّتٍ سَبْعِينَ مَرَّةً ثُمَّ رُدَّتْ فِيهِ الرُّوحُ مَا كَانَ ذَلِكَ عَجَباً٣.
مصطفى گفت خواجة دو جهان | *** | هست هر درد را دوا قرآن |
و كذلك يروي في «الكافي» بإسناده عن الإمام محمّد الباقر عليه السلام أنّ جابراً قال له: إنَّ قَوْماً إذَا ذَكَرُوا شَيْئاً مِنَ القُرْآنِ؛ أوْ حُدِّثُوا بِهِ صَعِقَ أحَدُهُمْ حتى يُرَى أنَّ أحَدَهُمْ لَوْ قُطِّعَتْ يَدَاهُ أوْ رِجْلَاهُ لَمْ يَشْعُرْ بِذَلِكَ!
فَقال: سُبْحَانَ اللهِ! ذَلِكَ مِنَ الشَّيْطَانِ مَا بِهَذَا نُعِتُوا! إنَّمَا هُوَ اللِينُ وَ الرِّقَّةُ وَ الدَّمْعَةُ وَ الوَجَلُ۱.
أي أنّ الله سبحانه لم يصف في قرآنه قرّاء القرآن بالصعقة، إذا ما حصلت لديهم حالة كهذه فهي لا ريب ناشئة عن عدم التحمّل، أي أنّ الشيطان غلب عليهم في تلك الحالة. و لقد وصف الله تعالى قرّاء كتابه بالعيون المغرورقة بالدموع، و بالدموع الجارية المنسكبة، و بخشية الله و باللين و الرقّة في القلب.
قصّة الشابّ الذي قال في المسجد لرسول الله. أصبحت مُوقناً
و في كتاب «الكافي» رواية عن إسحاق بن عمّار، قال: سمعتُ الإمام الصادق عليهالسلام يقول: إنّ رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم صلّى بالناس، فنظر إلى شابّ في المسجد وهو يخفق و يهوي برأسه مصفرّاً لونه قد نحف جسمه و غارت عيناه في رأسه.
فقال له رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم:
كَيْفَ أصْبَحْتَ يَا فُلَانُ؟!
قال: أصْبَحْتُ يَا رَسُولُ اللهِ مُوقِناً.
فَعَجِبَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ مِنْ قَوْلِهِ وَ قال: إنَّ لِكُلِّ يَقِينٍ حَقِيقَةً؛ فَمَا حَقِيقَةُ يَقِينِكَ؟!
فَقال: إنَّ يَقِينِي يَا رَسُولَ اللهِ هُوَ الذي أحْزَنَنِي وَ أسْهَرَ لَيْلِي وَ أظْمَأ
هُوَ اجِرِي؛ فَعَزَفَتْ۱ نَفْسِي عَنِ الدُّنْيَا وَ مَا فِيهَا كَأنِّي أنْظُرُ إلى عَرْشِ رَبِّي وَ قَدْ نُصِبَ لِلْحِسَابِ وَ حُشِرَ الخَلَائِقُ لِذَلِكَ وَ أنَا فِيهِمْ.
وَ كَأنِّي أنْظُرُ إلى أهْلِ الجَنَّةِ يَتَنَعَّمُونَ في الجَنَّةِ وَ يَتَعَارَفُونَ على الأرَائِكِ مُتَّكِئُونَ.
وَ كَأنِّي أنْظُرُ إلى أهْلِ النَّارِ وَ هُمْ فِيهَا مُعَذَّبُونَ مُصْطَرِخُونَ. وَ كَأنِّي الآنَ أسْمَعُ زَفِيرَ النَّارِ يَدُورُ في مَسَامِعِي.
فَقال رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم: هَذَا عَبْدٌ نَوَّرَ اللهُ قَلْبَهُ بِالإيمَانِ. ثُمَّ قَالَ لَهُ. إلْزَمْ مَا أنْتَ عَلَيْهِ!
فَقَالَ الشَّابُّ: ادْعُ اللهَ لِي يَا رَسُولَ اللهِ أنْ ارْزَقَ الشَّهَادَةَ مَعَكَ. فَدَعَا لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ؛ فَلَمْ يَلْبَثْ أنْ خَرَجَ في بَعْضِ غَزَوَاتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ فَاسْتُشْهِدَ بَعْدَ تِسْعَةِ نَفَرٍ؛ وَ كَانَ هُوَ العَاشِرَ.٢
و أوردوا في بعض الروايات أنّ اسم هذا الشابّ كان زَيْدَاً؛٣ يقول الملّا الروميّ في «المثنوي»:
گفت پيغمبر صباحي زيد را | *** | كَيْفَ أصْبَحْت أى رفيق با صفا٤ |
گفت. عَبْدَاً مُؤْمِنَاً بازاوش گفت | *** | كو نشان از باغ و ايمان گر شگفت؟۱ |
حتّى يصل إلى قوله:
جمله را چون روز رستاخير من | *** | فاش ميبينم عيان از مرد و زن |
هين بگويم يا فرو بندم نفس | *** | لب گزيدش مصطفى يعنى كه بس٢ |
هؤلاء كانوا المسلمين المؤمنين الموقنين حقّاً، الذين يتكلّمون مع الله سبحانه، و تستقرّ آيات القرآن في أرواحهم باعتبارها كلام الله، هؤلاء الذين يتردّد في بواطنهم و ضمائرهم آلاف المناجاة و عرض الحاجات و المكالمة و يسمع فيها الأزيز و الهدير.
قول قرّاء القرآن في جواب الله و في آيات السجدة
روى المحدِّث الكاشانيّ عن الإمام الصادق عليهالسلام: إذا مرَّ القارئ بـ «يا أَيُّهَا النَّاسُ»، «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا» قال: لَبَّيْكَ رَبَّنَا.
و إذا ختم سورة وَ الشَّمْسَ، قال: صَدَقَ اللهُ وَ صَدَقَ رَسُولُهُ.
و إذا قرأ: آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ، قال: اللهُ خَيْرٌ، اللهُ أكْبَرُ.
و إذا قرأ: ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ، قال: كَذِبَ العَادِلُونَ بِاللهِ.
و إذا قرأ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَ لَمْ يَكُنْ لَّهُ شَرِيكٌ في الْمُلْكِ، كَبَّرَ ثَلَاثَاً.
و إذا فرغ من الإخْلَاصِ، قال: كَذَلِكَ اللهُ رَبِّي.
و روى عند قوله تعالى: «فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ». اللهُ رَبُّنَا.
و عند قوله: «أَ أَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ». بَلْ أنْتَ اللهُ الخَالِقُ.
و عند قوله: «أَ لَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى». سبحانك، بلى.
و عند: «أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ». بَلْ أنْتَ اللهُ الزَّارِعُ.
و عند: «أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ». بَلْ أنْتَ اللهُ المُنْشِئُ.
وعند قوله عزّ و جلّ: «فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ». لَا بِشَيءٍ مِنْ آلآئِكَ رَبِّ اكَذِّبُ.
والظاهر جريانه على كلّ ما يناسب.۱
و نقل أيضاً المحدِّث الكاشانيّ عن «إحياء العلوم» أنّ حذيفة قال:
صلّيتُ مع رسول الله صلّى الله عليه [و آله] و سلّم فابتدأ سورة البقرة و كان لا يمرّ بآية عذاب إلّا استعاذ، و لا بآية رحمة إلّا سأل، و لا بآية تنزيه إلّا سبّح، فإذا فرغ قال ما كان يقوله صلوات الله عليه عند ختم القرآن:
اللَهُمَّ ارْحَمْنِي بِالقُرْآنِ، وَ اجْعَلْهُ لِي إمَاماً وَ نُوراً وَ هُدَى وَ رَحْمَةً.
اللَهُمَّ ذَكِّرْنِي مِنْهُ مَا نَسِيتُ، وَ عَلِّمْنِي مِنْهُ مَا جَهِلْتُ، وَ ارْزُقْنِي تِلَاوَتَهُ آنَاءَ اللَّيْلِ وَ النَّهَارِ، وَ اجْعَلْهُ حُجَّةً لِي يَا رَبَّ العَالَمِينَ٢.
و قال أيضاً: في القرآن خمس عشرة سجدة، أربع منها واجبة تسمّى العَزَائِم و البواقي مستحبّة. و في سورة الحجّ سجدتان. و أقلّه أن يسجد
بوضع جبهته على الأرض، و أكمله أن يراعي شرائط سجود الصلاة من ستر العورة، و استقبال القبلة، و طهارة الثوب و البدن من الخبث و الحدث، و أن يكبِّر و يسجد على الأعضاء السبعة، و يدعو في سجوده و يكبِّر عند الرفع منه.
و وقته عند التلفّظ بموجبه،۱ و هو فوريّ و لا يسقط بالتأخير؛ و في الصحيح، عن الإمام الصادق عليهالسلام:
إنَّهُ سُئِلَ عَنِ الرَّجُلِ يَقْرَا السَّجْدَةَ فَيَنْسَاهَا حتى يَرْكَعُ وَ يَسْجُدُ؟ قال: يَسْجُدُ إذَا ذَكَرَ، إذَا كَانَتْ مِنَ العَزَائِمِ.٢
و السور الأربع التي قلنا إنّ فيها سجدة واجبة، و التي تدعى بالعزائم٣ هي:
۱ - الم السَّجْدَة: السورة الثانية و الثلاثون، و الآية هي الرابعة عشرة:
إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها خَرُّوا سُجَّداً وَ سَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَ هُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ.
٢ - حم فُصِّلَتْ: السورة الحادية و الأربعون، و الآية هي السابعة
و الثلاثون:
وَ مِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَ النَّهارُ وَ الشَّمْسُ وَ الْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَ لا لِلْقَمَرِ وَ اسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ.
٣ - وَ النَّجْم: السورة الثالثة و الخمسون، و الآية هي الثانية و الستّون:
فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَ اعْبُدُوا.
٤ - العلق: السورة السادسة و التسعون، و الآية هي التاسعة عشرة:
كَلَّا لا تُطِعْهُ وَ اسْجُدْ وَ اقْتَرِبْ.۱
و ليس هناك في هذه السجدة ذكر خاصّ، و الأفضل أن يقال:
لَا إلَهَ إلَّا اللهُ حَقَّاً حَقَّاً، لَا إلَهَ إلَّا اللهُ إيمَاناً وَ تَصْدِيقاً، لَا إلَهَ إلَّا اللهُ عُبُودِيَّةً وَ رِقَّاً؛ سَجَدْتُ لَكَ يَا رَبِّ تَعَبُّداً وَ رِقَّاً لَا مُسْتَنْكِفاً وَ لَا مُسْتَكْبِراً، بَلْ أنَا عَبْدٌ ذَلِيلٌ خَائِفٌ مُسْتَجِيرٌ.
و ينبغي العلم أنّ سجدة التلاوة هذه التي يأتي بها الإنسان في صلاته لا توجب بُطلانها، لأنّها من الزيادات التي ورد النصّ على جوازها، سواء كانت في الفريضة أم في النافلة، و سواء كانت من سجدات سور العزائم أم من السجدات المستحبّة.
و هي مسألة ذات لطافة عجيبة، خاصّة في صلاة الليل حين تُتلى هذه السور و الآيات، فيهوي المصلّي فجأة إلى التراب فيسجد، ثمّ ينهض فيستمرّ في صلاته من حيث قطعها.
و هكذا كان يفعل خواصّ أصحاب رسول الله و حواريّو أمير المؤمنين و سيّدالشهداء عليهم السلام، فقد كانوا أوّلًا يُكثرون من تلاوة القرآن في صلاتهم و يتلونه بحزن و لحن حسن، و ثانياً كان يُشاهد منهم نظير هذه المكالمات و المخاطبات مع الحقّ جلّ سبحانه، و نظير هذه
السجدات في أعلى الدرجات الروحيّة؛ و لا يعلم إلّا الله سبحانه ما كان في سرائرهم و أعماقهم من العلاقة و الرابطة مع الله تعالى:
اولئك الذين رفعوا راية الإسلام بهذا الإيمان و اليقين و الثروات الباطنيّة و عزّة النفس و الجهاد و المجاهدة في سبيل الله تعالى: و في الحقيقة فإنّ الإنسان لا يمكنه النفاذ إلى عمق المسألة و تصوّر عظمة و شموخ هذه النفوس الزكيّة المرضيّة التالية للقرآن و الحاملة له كما ينبغي تصوّرها.
و لقد سمعنا قصّة عمّار بن ياسر حامل القرآن و هو الشيخ ابن الرابعة و التسعين، و كيف كان يدور في عشقه و ولهه كالفراشة حول وهج شمع جمال أميرالمؤمنين عليهالسلام و نوره، و كيف هوى بدنه إلى الأرض صريعاً بسيف أعداء الحقّ.
قصّة قول سيّدالشهداء لحبيب بن مظاهر. للّه درّك يا حبيب!
و لقد كان حبيب بن مظاهر الأسديّ الكوفيّ الشيخ الكبير المتداعي، قارئ القرآن و فقيه أهل البيت، و حين سقط على الأرض في معركة كربلاء في سبيل إعلاء القرآن، قال الإمام الحسين عليهالسلام:
لِلَّهِ دَرُّكَ يَا حَبِيبُ! لقد كنتَ فاضلًا تختم القرآن في ليلةٍ واحدة.۱
و لقد كان هؤلاء بلا شكّ من واجدي بعض المراتب القرآنيّة العالية، و من الذين لمسوا حقائقه.
قال سيّدالشهداء الحسين عليهالسلام: كِتَابُ اللهِ تَعَالَى على أرْبَعَةِ أشْيَاءٍ. على العِبَارَةِ وَ الإشَارَةِ وَ اللَطَائِفِ وَ الحَقَائِقِ؛ فَالعِبَارَةُ لِلعَوَامِّ وَ الإشَارَةُ لِلْخَواصِّ وَ اللَطَائِفُ لِلأوْلِيَاءِ وَ الحَقَائِقُ للأنْبِيَاءِ٢.
و يروي محمّد بن يعقوب الكلينيّ في «الكافي» بإسناده عن الإمام
محمّد الباقر عليهالسلام أنّه قال: مَا يَسْتَطِيعُ أحَدٌ أنْ يَدَّعِي أنَّ عِنْدَهُ جَمِيعُ القُرْآنِ كُلَّهُ، ظَاهِرَهُ وَ بَاطِنَهُ، غَيْرُ الأوْصِيَاءِ۱.
و هم [الأوصياء] أميرالمؤمنين و أولاده الأحد عشر الذين تحمّلوا مقام الوصيّة، و كانوا حُماة القرآن و حرّاسه واحداً بعد واحد، إلى الإمام صاحب الزمان عجّل الله فرجه الشريف.
و أورد كذلك في «الكافي» عن الإمام الصادق عليهالسلام في تفسير هذه الآية المباركة: بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ:٢ هم الأئمّة (الطاهرين).
معنى و تفسير الروايات الواردة في أنّ القرآن بيان لحقيقة الإمام
و وردت رواية في «الكافي» عن الإمام الصادق عليهالسلام قال:
نَحْنُ الرَّاسِخُونَ في العِلْمِ؛ وَ نَحْنُ نَعْلَمُ تَأوِيلَهُ.٣
و في «الكافي» أيضاً رواية عن الإمام الصادق عليهالسلام، قال:
إن اللهَ جَعَلَ وِلَايَتَنَا أهْلَ البَيْتِ قُطْبَ القُرْآنِ وَ قُطْبَ جَمِيعِ الكُتُبِ، عَلَيْهَا يَسْتَدِيرُ مُحْكَمُ القُرْآنِ، وَ بِهَا نَوَّهَتِ الكُتُبُ؛ وَ يَسْتَبِينُ الإيمَانُ.
وَ قَدْ أمَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ أنْ يُقْتَدَى بِالقُرْآنِ وَ آلِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ وَ ذَلِكَ حَيْثُ قَالَ في آخِرِ خُطْبَةٍ خَطَبَهَا. إنِّي تَارِكٌ فِيكُمُ الثَقَّلَيْنِ. الثَّقَلَ الأكْبَرَ وَ الثَّقَلَ الأصْغَرَ.
فَأمَّا الأكْبَرُ فَكِتَابُ اللهِ، وَ أمَّا الأصْغَرُ فَعِتْرَتِي أهْلُ بَيْتِي، فَاحْفَظُونِي فِيهِمَا فَلَنْ تَضِلُّوا مَا تَمَسَّكْتُمْ بِهِمَا.٤
و هذه الحقيقة تستند إلى علم الأئمّة الأطهار سلام الله عليهم أجمعين بحقائق القرآن، و لورود أنفسهم الشريفة في عوالم الذات و الصفات و الأسماء و كيفيّة نزول الملائكة و التقديرات و التدبيرات في عوالم الكثرة على يدهم، و لِلَمْسِهِم هذه المعاني عياناً.
و لهذا فهم حقيقة القرآن. كما يحدِّث في كتاب «الأمالي» الشيخ الطوسيّ عن امّ سَلِمَة أنّها قالت. سمعتُ رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم يقول: إنَّ عَلِيَّاً مَعَ القُرْآنِ وَ القُرْآنَ مَعَ عليّ. لَا يَفْتَرِقَانِ حتى يَرِدَا عليّ الحَوْضَ.۱
آيات من القرآن و تأويلها بشأن الأئمّة
و يتّضح ممّا قيل معنى الأخبار الدالّة على و رود جميع القرآن فيهم و في أعدائهم.
و في الفرائض و السنن، كما نقل في «الكافي» بإسناده عن الأصْبغ بن نُبَاتة قال: سمعتُ أميرالمؤمنين عليهالسلام يقول:
نَزَلَ القُرْآنُ أثْلَاثاً. ثُلْثٌ فِينَا وَ في عَدُوِّنَا، وَ ثُلْثٌ سُنَنٌ وَ أمْثَالٌ؛ وَ ثُلْثٌ فَرَائِضٌ وَ أحْكَامٌ.٢
و المعنى به تأويلات القرآن التي نزلت في تلك الذوات المقدّسة لأهل البيت و في أعداء أهل البيت الذين هم في الحقيقة أعداء الحقّ و خصوم الإيمان و الإسلام.
و هذا المعنى يُستحصل حتماً عن طريق التأويل، و إدراك حقائق القرآن، و إرجاع ظواهر القرآن إلى بواطنها.
و هناك في هذا الشأن روايات جمّة، حتى أنّ جماعة من الأصحاب صنّفوا كتباً في تأويل القرآن جمعوا فيها الأحاديث التي وردت عن الأئمّة عليهم السلام في تأويل آية آية، أمّا بهم عليهم السلام أو بشيعتهم، أو بعدوّهم، على ترتيب سور القرآن و آياته.
يقول العلّامة المحدِّث الفيض الكاشانيّ أعلى الله مرتبته: و قد رأيتُ منها كتاباً كان يقرب من عشرين ألف بيت؛۱ و نبيّن عدّة موارد منها لتتّضح حقيقة الأمر.
فقد روى الكلينيّ في كتاب «الكافي» عن الإمام محمّد الباقر عليه السلام في قوله تعالى:
نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ ، عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ ، بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ.٢
قال: هِيَ الوَلَايَةُ لأمِيرِالمُؤْمِنِينَ عَلَيْهِالسَّلَامُ.٣
و في «تفسير العيّاشيّ» أيضاً، عن عمر بن حنظلة، عن الإمام الصادق عليهالسلام، يقول ابن حنظلة: سألتُه عن الآية:
قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ وَ مَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ.۱
قال: فَلَمَّا رَآنِي أتَتَبَّعُ هَذَا وَ أشْبَاهَهُ مِنَ الكِتَابِ، قال: حَسْبُكَ، كُلُّ شَيءٍ في الكِتَابِ مِنْ فَاتِحَتِهِ إلى خَاتِمَتِهِ مِثْلُ هَذَا فَهُوَ في الأئِمَّةِ، عُنُوا بِهِ٢.
و في «تفسير العيّاشيّ» رواية عن محمّد بن مسلم عن الإمام محمّد الباقر عليهالسلام: قال: يَا أبَا مُحَمَّدٍ! إذَا سَمِعْتَ اللهَ ذَكَرَ قَوْماً مِنْ هَذِهِ الامَّةِ بِخَيْرٍ فَنَحْنُ هُمْ؛ وَ إذَا سَمِعْتَ اللهَ ذَكَرَ قَوْماً بِسُوءٍ مِمَّنْ مَضَى فَهُمْ عَدُوُّنَا.٣
و روى الشيخ الطبرسيّ عن ابن عبّاس: لمّا نزلت الآية المباركة:
إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَ لِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ.٤
قال رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم: أنَا المُنْذِرُ، وَ على الهَادِي مِنْ بَعْدِي. يَا عليّ! بِكَ يَهْتَدِي المُهْتَدُونَ.٥
و عن أبي القاسم الحسكانيّ في كتاب «شواهد التنزيل» بإسناده عن إبراهيم بن حكم بن ظهير، عن أبيه، عن أبي بردة [برزة] الأسلميّ قال:
دَعَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ [وَ آلِهِ] وَ سَلَّمَ بِالطَّهُورِ وَ عِنْدَهُ عليّ بْنُ أبِي طَالِبٍ فَأخَذَ رَسُولُ اللهِ بِيَدِ عليّ بَعْدَ مَا تَطَهَّرَ فَألْزَمَهَا بِصَدْرِهِ، ثُمَّ قال: «إنَّمَا أنتَ مُنذِرٌ»؛ ثُمَّ رَدَّهَا إلى صَدْرِ عليّ، ثُمَّ قال: «وَ لِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ».
ثُمَّ قال: إنَّكَ مَنَارَةُ الأنَامِ وَ عَاقِبَةُ الهُدَى وَ أمِيرُ القُرَى! وَ أشْهَدُ على ذَلِكَ أنَّكَ كَذَلِكَ۱.
المراد بالصراط المستقيم، صراط عليّ بن أبي طالب عليهالسلام
و في «تفسير الصافي» رواية في تفسير الآية المباركة: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ عن كتاب «معاني الأخبار» للشيخ الصدوق، عن الإمام الصادق عليهالسلام قال:
هِيَ الطَّرِيقُ إلى مَعْرِفَةِ اللهِ؛ وَ هُمَا صِرَاطَانِ. صِرَاطٌ في الدُّنْيَا وَ صِرَاطٌ في الآخِرَةِ.
فَأمَّا الصِّرَاطُ في الدُّنْيَا فَهُوَ الإمَامُ المُفْتَرَضُ الطَّاعَة، مَنْ عَرَفَهُ في الدُّنْيَا وَ اقْتَدَى بِهُدَاهُ، مَرَّ على الصِّرَاطِ الذي هُوَ جِسْرُ جَهَنَّمَ في الآخِرَةِ؛ وَ مَنْ لَمْ يَعْرِفْهُ في الدُّنْيَا زَلَّتْ قَدَمُهُ عَنِ الصِّرَاطِ في الآخِرَةِ؛ فَتَرَدَّى في نَارِ جَهَنَّمَ.٢
و بهذا يستبين بوضوح مفهوم و مراد الأحاديث التي تقول بأنّ الصراط في الآية السابقة هو صراط عليّ بن أبي طالب، أو نفسه المقدّسة، أو إنّ الأئمّة هم الصراط المستقيم.
و قد ورد في رواية اخرى: نَحْنُ الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ.٣
و في بعض الأحاديث: هُوَ صِرَاطُ عليّ بْنِ أبِي طَالِبٍ.٤
و ورد عن الإمام الصادق عليهالسلام: إنَ الصِّراطَ أمِيرُالمُؤمِنِينَ عَلَيْهِ السَّلَامُ.٥
و لهذه الرواية معنى دقيق و عجيب، فهي لا تقول بأنّ الصراط هو صراط أميرالمؤمنين عليهالسلام، بل تقول إنّ الصراط أميرالمؤمنين،
أي أنّ نفسه المقدّسة و أفعاله و أقواله هي نفس الصراط.
و في «تفسير عليّ بن إبراهيم» رواية عن الإمام الرضا عليهالسلام في تفسير الآية المباركة: وَ السَّماءَ رَفَعَها وَ وَضَعَ الْمِيزانَ،۱ قال:
السَّمَاءُ رَسُولُ اللهِ، رَفَعَهُ اللهُ إلَيْهِ؛ وَ المِيزَانُ أمِيرُالمُؤْمِنِينَ صَلَواتُ اللهِ عَلَيْهِمَا، نَصَبَهُ لِخَلْقِهِ.
قيل: «أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ»؟! قال: لَا تَعْصُوا الإمَامَ!
قيل: «وَ لا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ»؟! قال: لَا تَبْخَسُوا الإمَامَ حَقَّهُ وَ لَا تَظْلِمُوهُ!٢
و في «الكافي» و «معاني الأخبار» رواية في تفسير الآية المباركة: وَ نَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً؛٣ عن الإمام الصادق عليهالسلام، أنّه سئل عنها، فقال: هم الأنبياء و الأوصياء.٤
و في روايةٍ اخرى: نَحْنُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ.٥
و عن الإمام الصادق عليهالسلام رواية في معنى الصِّراط، قال: إنَّ الصُّورَةَ الإنْسَانِيَّةَ هِيَ الصِّرَاطُ المُسْتَقِيمُ إلى كُلِّ خَيْرٍ وَ الجِسْرُ المَمْدُودُ بَيْنَ الجَنَّةِ وَ النَّارِ٦.
و يتّضح من هذين المعنيَين اللذين أوردناهما في تفسير الصِّراط و المِيزان، حقيقة معنى التأويل في جميع الآيات التي اوّلت فيهم و في أعدائهم. و عليه، فيلزم أوّلًا التأويل الحتميّ في الآيات، لأنّ التأويل هو
مرجع و مفاد المعنى الظاهريّ، و بدونه لا يُدرك المعنى و المراد بالآية.
و ثانياً: تحفظ الآيات به عموميّتها و كلّيّتها و شموليّتها، لتشمل كلّ ما فيه من شائبة في المعنى المؤَوَّل، و بهذا اللحاظ فلم يُصَرَّح باسم معيّن في آيات القرآن الكريم.
و صار جليّاً بهذا البيان كيف أنّ أميرالمؤمنين عليهالسلام هو حقيقة القرآن.
أبيات الازريّ في أنّ أميرالمؤمنين عليهالسلام حقيقة القرآن
و لكم أجاد الشيخ كاظم الازريّ في إنشاده قصيدته الألفيّة، رضوان الله الملك المتعال عليه:
يَابْنَ عَمِّ المُصْطَفَى أنْتَ يَدُ اللهِ | *** | التي عَمَّ كُلَّ شَيءٍ نَدَاهَا |
أنْتَ قُرْآنُهُ القَدِيمُ وَ أوْصَا | *** | فُكَ آيَاتُهُ التي أوْحَاهَا |
حَسْبُكَ اللهُ في مَآثِرَ شَتَّي | *** | هِيَ مِثْلُ الأعْدَادِ لَا تَتَنَاهَي |
إلى أن يقول:
أنْتَ بَعْدَ النَّبِيِّ خَيْرُ البَرَايَا | *** | وَ السَّمَا خَيْرُ مَا بِهَا قَمَرَاهَا |
لَكَ ذَاتٌ كَذَاتِهِ حَيْثُ لَوْلَا | *** | أنَّهَا مِثْلُهَا لَمَا آخَاهَا |
قَدْ تَرَاضَعْتُمَا بِثَدْيِ وِصَالٍ | *** | كَانَ مِنْ جَوْهَرِ التَّجَلِّي غِذَاهَا |
يَا عليّ المِقْدَارُ حَسْبُكَ لَا | *** | هُوتِيَّةٌ لَا يُحَاطُ في عُلْيَاهَا |
أي قُدْسٍ إلَيْهِ طَبْعُكَ يُنْمَي | *** | وَ المَرَاقِي المُقَدَّسَاتُ ارْتَقَاهَا |
لَكَ نَفْسٌ مِنْ جَوْهَرِ اللُّطْفِ صِيغَتْ | *** | جَعَلَ اللهُ كُلَّ نَفْسٍ فِدَاهَا |
هِيَ قُطْبُ المُكَوَّنَاتِ وَ لَوْلَا | *** | هَا لَمَا دَارَتِ الرَّحَى لَوْلَاهَا |
لَكَ كَفٌّ مِنْ أبْحُرِ اللهِ تَجْرِي | *** | أنْهُرُ الأنْبِيَاءِ مِنْ جَدْوَاهَا |
حُزْتَ مُلْكاً مِنَ المَعَالِي مُحِيطاً | *** | بِأقَالِيمَ يَسْتَحِيلُ انْتِهَاهَا |
إلى قوله:
يَا أخَا المُصْطَفَى لَدَيَّ ذُنُوبٌ | *** | هِيَ عَيْنُ القَذَى وَ أنْتَ جَلَاهَا |
كَيْفَ تَخْشَى العُصَاةُ بَلْوى المَعَاصِي | *** | وَ بِكَ اللهُ مُنقِذٌ مُبْتَلَاهَا |
لَكَ في مُرْتَقَى العُلَى وَ المَعَالِي | *** | دَرَجَاتٌ لَا يُرْتَقَى أدْنَاهَا۱ |
إن المراد بتأويل القرآن ليس المعنى البعيد المنفصل الذي يحتاج الإتيان به و تحصيله للتكلّف و التعسّف، بل هو المعنى الحقيقيّ الواضح الذي يشير إلى المتن و الحقيقة. فالمراد مثلًا من اولِى الأمْرِ في الآية المباركة: أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ،۱ هم أئمّة أهل البيت؛ و هذا المعنى و المراد يختصّ بهم عليهم السلام، و هو ما يُستنتج من لحن الآيات و من ضمّ بعض الآيات إلى بعضها.
أمّا اولئك الذين غصبوا الخلافة فلم يشاءوا القبول بهذا المعنى، لتضادّه و تعارضه الكامل مع خطّ سيرهم و مشيهم، و قد صرّحوا لهذا بأنّ القرآن يجب ألّا يُؤَوَّل للناس، و أنّه ينبغي ألّا يُفَسَّر أو تُبيَّن حقائقه و أهدافه، من أجل أن يبقى الناس يتخبّطون في دياجير عماهم و ضلالتهم، فيستطيع هؤلاء الوصول إلى أهدافهم و مقاصدهم في التسلّط عليهم. و عليه فقد منعوا الناس بقوّة و حزم من تفسير القرآن و بيان سبب نزوله و إيضاح مصاديق آياته.
و لقد نظرتِ الأخبار الواردة عن أهل البيت عليهم السلام في شأن
تحريف القرآن إلى هذا المعنى، ففي الرسالة التي كتبها الإمام محمّد الباقر عليهالسلام إلى سعد الخير و التي ذكرها الشيخ الكلينيّ، يقول في جملتها:
وَ كَانَ مِنْ نَبْذِهِمُ الكِتَابَ أنْ أقَامُوا حُرُوفَهُ وَ حَرَّفُوا حُدُودَهُ. فَهُمْ يَرْوُونَهُ وَ لَا يَرْعُونَهُ. وَ الجُهَّالُ يُعْجِبُهُمْ حِفْظُهُمْ لِلرِّوَايَةِ وَ العُلَمَاءُ يُحْزِنُهُمْ تَرْكُهُمْ لِلرِّعَايَةِ - (الحديث).۱
و تبيّن هذه الرواية بوضوح أنّ المقصود بالتحريف هو التحريف بالحدود لا التحريف بالحروف، و التحريف في الرعاية لا في الرواية.
لقد كان بنو اميّة - الذين تسلّطوا على الحكم - هم اولئك المشركين أنفسهم، و كان معاوية هو نفسه الذي وقف بوجه رسول الله في حرب بدر و احد و الأحزاب، لكنّه تستّر بعد بلباس الإسلام و ظاهره، و عقد العزم في الباطن على هدم الإسلام، فكان يقاتل حقيقة النبوّة و القرآن المتجلّية في الولاية، و كان يقول: لا تفسِّروا القرآن.
إن التفسير بيان معنى القرآن، فإن لم يتّضح معنى القرآن فما الذي سيفهمه الناس تُرى؟!، كما أنّ الإمام هو التحقّق الخارجيّ للقرآن، و الإمام هو معلّم القرآن، فما الفائدة من قرآنٍ بلا إمام و معلِّم؟!
القرآن بلا إمام و معلِّمٍ مدركٍ و محيط بأسراره و دقائقه، ليس إلّا صفراً، ذلك لأنّ الدين قائم على أساس من البصيرة و العمل، فكيف يمكن للإنسان بلا إمام أن يعمل بالقرآن؟ تماماً كوصفة دواء تأخذها من طبيب، فيفسّرها كلّ على ذوقه بدواء خاصّ و كيفيّة معيّنة، فهو عين الهلاك و الفَناء.
معنى كفانا كتاب الله. نقض كتاب الله و عدم القبول به
لقد قال النبيّ: إنِّي تَارِكٌ فِيكُمُ الثَّقَلَينِ. كِتَابَ اللهِ وَ عِتْرَتِي، وَ لَنْ
يَفْتَرِقَا حتى يَرِدَا عليّ الحَوْضَ.۱
فالإمام لا ينفك عن القرآن أساساً، كما أنّ القرآن لا ينفك عن الإمام، و مَن قال: كَفَانَا كِتَابَ اللهِ، لم يرمِ إلّا إلى نفي كتاب الله و نقضه،
لا إلى الأخذ به، لأنّ كتاب الله بدون الإمام ليس كتاب الله، بل كتاب الآراء و الأهواء و التأويلات المنحرفة.
أ وَ لم يكن الحجّاج بن يوسف الثقفيّ، الذي سوّدت جناياته صفحات التأريخ يقرأ كتاب الله؟! أوَ لم يكن يؤوّله على نفسه و لمصلحته؟ أوَ لم يعتبر نفسه أولى الأمر؟ لقد كان حافظاً للقرآن، و كان يعدّ نفسه اولى الأمر، و كان يستشهد و يستدلّ بكتاب الله على من يقتله.
فالقرآن بدون الإمام في حكم الأصفار الكثيرة المتراكمة جنب بعضها، هي جميعاً صفر و لا شيء، و لا تشكّل عدداً ما و لا تُظهر ميزةً أو خاصّيّة ما، لكنّها حين توضع جنب عدد (۱) تكتسب الحياة و الفعّاليّة، و تمتلك الميزة و الخاصّيّة، و تمثّل عدداً كبيراً و وزناً ثقيلًا.
لو وضعتم أصفاراً تتراكم على بعضها من سطح الأرض إلى سطح القمر لبقيت بلا أثر، أمّا لو وضع جنبها عدد (واحد) لصار لها كثرة، و أيّة كثرة! و أيّة قوّة، و أيّة شوكة! و أيّة تأثيرات خارجيّة!
فهذا هو معنى و خاصّيّة و أثر الإمام في تحقيق مفاد القرآن و مراده، و لذلك نقول بأنّ الإمام هو روح القرآن و حياته و حقيقته. القرآن بلا إمام كالجسد بلا روح، و كالقربة اليابسة بلا ماء؛ أمّا حين يمسك الإمام بالقرآن فيمنحه دوره في المجتمع، فإنّ الروح ستُنفخ في هذا الجسد الهامد، و سينساب ماء الحياة في هذه القِربة الخالية، و ستروى ظمأ العطاشي من معينها.
الروايات الواردة في اتّحاد نفس النبيّ بأميرالمؤمنين في التحقّق
يقول رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم:
أنَا وَ عليّ مِنْ شَجَرَةٍ وَاحِدَةٍ وَ سَائِرُ النَّاسِ مِنْ شَجَرٍ شَتَّى.۱
و يقول أميرالمؤمنين عليهالسلام:
وَ أنَا مِنْ رَسُولِ اللهِ كَالصِّنْوِ مِنَ الصِّنْوِ وَ الذِّرَاعِ مِنَ العَضُدِ.۱
نعم، لقد كان الذين حملوا لواء الخلاف عليه هم مشركي الجاهليّة و عبدة الأصنام اولئك، تظاهروا بهذا الشكل و المظهر، و الذين رأوا حكومتهم و رياستهم المادّيّة و الشهويّة ضمن التلبّس بظاهر الإسلام و ردائه، لكنّهم كانوا كالذئاب التي ارتدت جلد الحمل، يملؤهم العزم و الإرادة على إفناء و تمزيق و هدم كيان الإسلام و ابتلاعه.
أ وَ لم نقرأ أنّ رسول الله قال: يَا عليّ! أنَا قَاتَلْتُهُمْ على التَّنْزِيلِ وَ أنْتَ تُقَاتِلُهُمْ على التَّأوِيلِ!٢
و لقد كان النداء الملكوتيّ لسيّدالشهداء الحسين بن عليّ عليهالسلام، الذي كان يبعث الحيويّة و النشاط في الأرواح، هو الذي أتى بالشيخ المتداعي الكوفيّ الأسديّ. حبيب بن مظاهر - و كان من القرّاء و الفقهاء المشهورين - إلى أرض كربلاء. أرض عشق الله و الشهادة في سبيله، فكان أمام أنوار إمامه القدسيّة التي تجلّت فيه من الذات الأحديّة، أشبه بأوراق الورود حين تتناثر، و صفحات المصحف حين تتفرّق عن بعضها، و في هذه الحال تهاوى على أرض المعركة.
لقد امتلك حبيب بن مظاهر روحاً ملكوتيّة لتشيّعه الأصيل، و لممارسته قراءة القرآن و انشغاله به، و لقد ظهرت فيه أسرار الحقّ، و كان له اطّلاع على الغيب، و أشبه قلبه مركز إشعاع اللمعات الإلهيّة.
يقول المحدِّث القمّيّ: وَ يَظْهَرُ مِنَ الرِّوايَاتِ أنَّهُ كَانَ مِنْ خَاصَّةِ أمِيرِالمؤْمِنِينَ عَلَيْهِالسَّلَامُ وَ حَمَلَةِ عِلْمِهِ.۱
و روى الشيخُ الكَشِّيُّ عن الفُضيل بن الزبير قال: مرّ ميثم التمّار - و هو من خواصّ أصحاب أميرالمؤمنين - على فرسٍ له، فاستقبله حبيب
ابن مظاهر الأسديّ عند مجلس بني أسد، فتحدّثا حتى اختلفت أعناق فرسَيْهما، ثمّ قال حبيب:
فَكَأنِّي بِشَيْخٍ أصْلَعَ ضَخْمِ البَطْنِ يَبِيعُ البَطِّيخَ عِنْدَ دَارِ الرِّزْقِ قَدْ صُلِبَ في حُبِّ أهْلِ بَيْتِ نَبِيِّهِ، وَ يُبْقَرُ بَطْنُهُ على الخَشَبَةِ.۱
فقال ميثم:
وَ إنِّي لأعْرِفُ رَجُلًا أحْمَرَ لَهُ ضَفِيرَتَانِ، يَخْرُجُ لِنُصْرَةِ ابْنِ بِنْتِ نَبِيِّهِ فَيُقْتَلُ وَ يُجَالُ بِرَأسَهِ في الكُوفَةِ.
ثمّ افترقا؛ فقال أهل المجلس: ما رأينا أكذب من هذين.
قال: فلم يفترق أهل المجلس حتى أقبل رُشَيْدُ الهَجَرِيُّ فطلبهما فسأل أهل المجلس عنهما، فقالوا: افترقا و سمعناهما يقولان كذا و كذا.
فقال رُشيد: رَحِمَ اللهُ مِيْثَماً، أنْسَى: وَ يُزَادُ في عَطَاءِ الذي يَجِيءُ بِالرَّأسِ مَائَةُ دِرْهَمٍ! ثُمَّ أدْبَرَ.
فقال القوم: هَذَا وَ اللهِ أكْذَبُهُم.
فقال القوم: وَ اللهِ مَا ذَهَبَتِ الأيَّامُ وَ اللَيَالِي حتى رَأيْنَا مَيْثَماً مَصْلُوباً على بَابِ عَمْرِو بْنِ حَرِيثٍ؛ وَ جِيءَ بِرَأسِ حَبِيبِ بْنِ مَظَاهِرٍ وَ قَدْ قُتِلَ مَعَ
الحُسَيْنِ عَلَيْهِالسَّلَامُ، وَ رَأيْنَا كُلَّ مَا قَالُوا.۱
و كان حبيب بن مظاهر من بين السبعين نفراً الذين استشهدوا في ركاب سيّدالشهداء عليهالسلام.
يقول أبُوعَمرو الكَشِّيُّ: وَ كَانَ حَبِيبٌ رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ مِنَ السَّبْعِينَ الرِّجَالِ الَّذِينَ نَصَرُوا الحُسَيْنَ عَلَيْهِالسَّلَامُ وَ لَقَوْا جِبَالَ الحَدِيدِ وَ اسْتَقْبَلُوا الرِّمَاحَ بِصُدورِهِمْ وَ السُّيُوفَ بِوُجُوهِهِمْ وَ هُمْ يُعْرَضُ عَلَيْهِمُ الأمَانُ وَ الأمْوَالُ فَيَأبَوْنَ وَ يَقُولُونَ. لَا عُذْرَ لَنَا عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ إنْ قُتِلَ الحُسَيْنُ وَ مِنَّا عَيْنٌ تَطْرَفُ! حتى قُتِلُوا حَوْلَهُ - انتهى.٢
حبيب بن مظاهر، قام يوم عاشوراء و هو يضحك، فقال له يَزِيدُ بْنُ حُصَيْنِ الهَمْدَانِيّ - و كان يُقال له سَيَّدُ القُرَّاءِ-: يَا أخِي لَيْسَ هَذِهِ سَاعَةُ ضِحْكٍ!
قَالَ حَبِيبُ: فَأيُّ مَوْضِعٍ أحَقُّ مِنْ هَذَا بِالسُّرُورِ؟ وَ اللهِ مَا هُوَ إلَّا أنْ تَمِيلَ عَلَيْنَا هَذِهِ الطُّغَاةُ بِسُيُوفِهِمْ فَنُعَانِقُ الحُورَ العِينَ.٣
و روى أبومخنف: لَمَّا قُتِلَ حَبِيبُ بْنُ مَظَاهِرٍ، هَدَّ ذَلِكَ حُسَيْناً وَ قَالَ عِنْدَ ذَلِكَ. أحْتَسِبُ٤ نَفْسي وَ حُمَاةَ أصْحَابِي!٥
حبيب بن مظاهر كان يختم القرآن كلّ ليلة
و جاء في بعض كتب المقاتل أنّ الحسين عليهالسلام قال: لِلَّهِ دَرُّكَ
يَا حَبِيبُ! لقد كنتَ فاضلًا تختم القرآن في ليلةٍ واحدة.۱
و حمل حبيب كالأسد الغضوب، و بعد أن اخترق سيفه وجه فرس الحصين بن تميم الذي سقط على إثرها إلى الأرض فأسرع إليه أصحابه لنجدته - و على رواية - أنّ حبيباً نال شرف الشهادة الرفيع بعد أن قتل منهم اثنين و ستّين رجلًا.
و لقد ثقلت شهادة هذا الشيخ الناسك، العابد الزاهد، الفقيه قارئ القرآن - الذي كان من أصحاب البلايا و المنايا و من خواصّ أصحاب أميرالمؤمنين عليهالسلام - على سيّدالشهداء عليهالسلام، فبان الانكسار في وجهه، فقال زُهَيْرُ بْنُ القَيْنِ. يَا أبَا عَبْدِاللهِ! أوَ لسنا على الحقّ؟ قال: بلي!
هؤلاء هم الصحابة الذين خطبهم الحسين عليهالسلام ليلة عاشوراء، فقال عنهم:
اللَهُمَّ إنِّي أحْمَدُكَ على أنْ أكْرَمْتَنَا بِالنُّبُوَّةِ وَ عَلَّمْتَنَا القُرْآنَ وَ فَقَّهْتَنَا في الدِّينِ وَ جَعَلْتَ لَنَا أسْمَاعاً وَ أفْئِدَةً، فَاجْعَلْنَا مِنَ الشَّاكِرِينَ.
أمَّا بَعْدُ؛ فَإنِّي لَا أعْلَمُ أصْحَاباً أوْفَى وَ لَا خَيْراً مِنْ أصْحَابِي، وَ لَا أهْلَ بَيْتٍ أبَرَّ وَ لَا أوْصَلَ مِنْ أهْلِ بَيْتِي؛ فَجَزَاكُمُ اللهُ عَنِّي خَيْراً.
و من هذا المنطلق هاجروا جميعاً كالعشّاق يوم عاشوراء، فنصبوا مخيّمهم و سرادقهم خارج هذا العالم، و بقي الحسين عليهالسلام وحيداً، لا ناصر له و لا معين، بقي متّكئاً على رمحه، فنادى في آخر لحظات الانقطاع و الوجد. يَا مُسْلِمَ بْنَ عَقِيلٍ! وَ يَا هَانِيَ بْنَ عُرْوَةَ! وَ يَا حَبِيبَ بْنَ
مَظَاهِرٍ!
حتّى يصل إلى هذه الجملة الخطابيّة: يَا أبْطَالَ الصَّفَا! وَ يَا فُرْسَانَ الهَيْجَاءِ! ما لي اناديكم فلا تجيبون؟ و أدعوكم فلا تسمعون؟ أأنتم نيام؟! أرْجُوكُمْ تنتبهون، أم حالت مودّتكم عن إمامكم فلا تنصروه؟
و لقد أثار قرّاء القرآن الشيوخ هؤلاء الاضطراب في ساحة كربلاء على قلّتهم، ممّا جعل الأرض تضيق برحبها على تلك الجماعة الكثيرة من الجيش المحارب للقرآن، مع أنّ هؤلاء كانوا اثنين و سبعين نفراً و اولئك ثلاثين ألفاً.
نقل ابن أبي الحديد في أ نّ أصحاب الإمام الحسين كانوا كالاسود الضارية
و قد نقل عن أبن أبي الحديد في «شرح نهج البلاغة» قال:
قِيلَ لِرَجُلٍ شَهِدَ يَوْمَ الطَّفِّ مَعَ عُمَرَ بْنِ سَعْدٍ. وَيْحَكَ! أقَتَلْتُمْ ذُرِّيَّةَ رَسُولِ اللهِ؟!
أجاب: عَضَضْتَ بِالجَنْدَلِ! لَوْ شَهِدْتَ مَا شَهِدْنَا لَفَعَلْتَ مَا فَعَلْنَا؛ ثَارَتْ عَلَيْنَا عِصَابَةٌ أيْدِيهَا في مَقَابِضِ سُيُوفِهَا كَالاسُودِ الضَّارِيَةِ، تَحْطِمُ الفُرْسَانَ يَمِيناً وَ شِمَالًا وَ تُلْقِي أنْفُسَهَا على المَوْتِ؛ لَا تَقْبَلُ الأمَانَ وَ لَا تَرْغَبُ في المَالِ، وَ لَا يَحُولُ حَائلٌ بَيْنَهَا وَ بَيْنَ الوُرُودِ على حِيَاضِ المَنِيَّةِ أوِ الاسْتِيلَاءِ على المُلْكِ.
فَلَوْ كَفَفْنَا عَنْهَا رُوَيْداً لأتَتْ على نُفُوسِ العَسْكَرِ بِحَذَافِيرِهَا؛ فَمَا كُنَّا فَاعِلِينَ لَا امَّ لَكَ؟۱
لِلَّهِ مِنْ فِتْيَةٍ في كَرْبَلَاءَ ثَوَوا | *** | وَ عِنْدَهُمْ عِلْمُ مَا يَجْرِي على القَدَرِ |
صَالُوا وَ لَوْلَا قَضَاءُ اللهِ يُمْسِكُهُمْ | *** | لَمْ يَتْرُكُوا مِنْ بَنِي سُفْيَانَ مِنْ أثَرِ |
سَلْ كَرْبَلَا كَمْ حَوَتْ مِنْهُمْ هِلَالَ دُجَىً | *** | كَأنَّهَا فَلَكٌ لِلأنْجُمِ الزُّهَرِ۱ |
***
اى حمد تو از صبح أزل هم نفس ما | *** | كوتاه ز دامن تو دست هوس ما |
ما قافلة كعبة عشقيم كه رفته است | *** | سر تا سر آفاق صداى جرس ما |
در پاى تو آلوده لب از مى چه بيفتيم | *** | رانند ملائك به پر خود مگس ما٢ |
لِلَّهِ دَرُّهُمْ مِنْ فِتْيَةٍ صَبَرُوا | *** | مَا إنْ رَأيْتَ لَهُمْ في النَّاسِ أمْثَالا |