المؤلّفالهیئة العلمیة لموقع مدرسة الوحي
القسم العقائد
التوضيح
تهدف هذه المقالة إلى إثبات اختصاص مراسم الأربعين بسيّد الشهداء عليه السلام بالاستناد إلى المصادر التاريخيّة والروائيّة وسيرة أولياء الدين والأئمة المعصومين عليهم السلام. ومن أهمّ عناوينها:
• الأربعين شعار الشيعة
• العادات الخاطئة في إقامة مجالس العزاء في اليوم السابع والأربعين والذكرى السنوية للمتوفّى
• أدلّة اختصاص الأربعين بسيّد الشهداء عليه السلام.
هو العلیم
لماذا تختصّ مراسم الأربعين بسيّد الشهداء عليه السلام؟
إقامة ذكرى الأربعين للمتوفى
إعداد: الفريق العلمي في موقع مدرسة الوحي
بحث منتخب من كتاب: "الأربعين في التراث الشيعي" و "رسالة العمرة المفردة"
تأليف سماحة آية الله الحاجّ السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ
قدّس سرّه.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحيم
وَ صَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنا مُحَمَّدٍ وَ آلِهِ الطَّيِّبينَ الطّاهِرينَ
وَ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى أعْدائِهِمْ أجْمَعينَ مِنَ الآنَ إلَى قِيامِ يَوْمِ الدّينِ
وَ لا حَوْلَ وَ لا قُوَّةَ إلّا بِاللَّهِ الْعَليِّ الْعَظيم
الأربعين شعار الشيعة
في كتاب الإقبال للسيّد ابن طاوس، يروي بإسناده عن أبي جعفر الطوسيّ، و هو بإسناده عن الإمام الحسن العسكريّ عليه السلام أنّه قال:
«علامات المؤمن خمس: صلاة إحدى و خمسين (و هي مجموع الصلوات الواجبة و المستحبة طوال اليوم و الليلة)، و زيارة الأربعين (أي أربعين حضرة سيد الشهداء عليه السلام)، و التختّم باليمين، و تعفير الجبين (بالتراب)، و الجهر (في الصلاة) ببسم الله الرحمن الرحيم.»۱
فزيارة حضرة سيّد الشهداء في يوم الأربعين من مختصّات الشيعة، و قد طرحها الإمام الحسن العسكريّ عليه السلام بعنوان أنّها شعار و علامة للإنسان الشيعيّ، تماما كما أنّ تعفير الجبين بالتراب هو من علامات الشيعيّ، و كذلك الجهر بالبسملة، و القيام بالنوافل طبقا لتعاليم الأئمّة المعصومين عليهم السلام.٢
معنى «الشعار»
قد اتّضح من خلال بيانات اللغويّين و تتبّع موارد استعمال كلمة الشعار٣ أنّها تطلق على الخصوصيّات الثقافيّة و الآداب الخاصّة للأمّة التي تبرزها و تميّزها عن سائر الأمم.
فشعار الإسلام عبارة عن الأحكام و القوانين المدوّنة في هذا الدين الحنيف، و التي لا نظير لها في سائر الأديان، لأنّ شعار مذهب التشيّع هو الاقتداء بالإمام المعصوم عليه السلام و التسليم إليه و تفويض الاختيار و الإرادة الذاتيّة إليه، و إحكام إرادته و مشيئته في جميع زوايا الوجود، الأعمّ من التكوين والتشريع.
و من البديهيّ أنّه ما دامت الأقوام و الملل تحافظ على سننها و شعائرها و تتمسّك بها فإنّ هويّتها الثقافيّة سوف تظلّ محفوظة، و سوف يبقى الطريق مسدودا أمام تدخّل ثقافات سائر الأقوام الأخرى وغلبة سننها و أساليبها، و نفوذها إلى حريم دائرة اعتقاداتها و سلوكها؛ و أمّا إذا ما عمدوا إلى الإهمال والتسامح، و الافتتان بتقاليد الآخرين و الوله بها المؤدّي إلى التساهل، فسرعان ما يبلى أثر تلك الأمّة، و تضمحلّ هويّتها و يتلاشى كيانها، و بالتالي سوف تذوب و تنحلّ و تنصهر في عادات تلك الأقوام الأخرى و رسومها.
نعم، من الواضح جدًّا أنّه ليس كلّ أدب أو سلوك مرضيًّا و محمودًا، و عليه فإن لم يستطع الإنسان إخضاع آداب مجتمع ما و سننه، ضمن الموازين العقليّة و الشرعيّة، فعليه أن يتركها و يقلع عنها، و يتّبع السنّة العقلانيّة و السلوك الممضى من الشرع.
يقول رسول اللّه صلّى الله عليه و آله و سلّم:
«بعثت لأتمّم مكارم الأخلاق.»۱
يعني: إنّما بعثت لأتمّم الفضائل و المكارم و القيم الإنسانيّة الرفيعة، و أبلغ بها أوجها، و أمحو التقاليد و السنن الجاهليّة، و أستبدلها بالنهج الإلهي و الطريق القويم.
الولاية و الإمامة هي المحور الأصلي للمذهب الشيعيّ و شعاره
فالحقيقة التي لا يمكن إنكارها في مدرسة التشيّع هي محوريّة الولاية و إمامة المعصومين سلام الله عليهم أجمعين، فهي القاعدة و الأساس، و بعبارة أوضح: هي الفصل المنوّع و الصورة المحصّلة للدين الإسلاميّ المبين.
ففي هذه المدرسة، مع كون الإطاعة الحصريّة للإمام المعصوم عليه السلام أمرا ممضى و مقبولا و صحيحًا، و كون أخذ الأحكام من غير الإمام المعصوم عليه السلام باطلاً و مرفوضًا، إلّا أنّ ذلك غير مقيّد بخصوص دائرة الأحكام الشرعيّة الفرعيّة فقط، فأخذ الأحكام الشرعيّة عن الإمام المعصوم عليه السلام له مكانته، و لكنّ المسألة أعلى من ذلك، فالإمام في مدرسة التشيّع هو كلّ شيء بالنسبة للإنسان الشيعيّ، و بدون الإمام ليس هناك هويّة للمذهب أصلاً.
إنّ اختلاف الشيعة مع الإخوان السنّة، ليس لأجل تحديد المرجعيّة الفقهيّة و مركزيّة الحكم و تحديد منشئه، بحيث يأخذ أحدهم عن الإمام عليه السلام و الآخر يرجع إلى أبي حنيفة ـ علما أنّ أخذ الحكم من أبي حنيفة أمر باطل، و العامل على أساسه سوف يعاقب و يؤاخذـ بداهة أنّ الاختلاف في الأحكام أمر واقع و موجود بين أهل السنّة و كذلك بين فقهاء الشيعة و علمائهم، و قد يبلغ هذا الاختلاف ذروة التقابل و التنافر، و قد يؤدّي إلى وجود فتوايين متناقضين كما هو واضح جدا بأدنى تأمّل في تاريخ الفقه و كيفيّة اختلاف الفقهاء. وكذلك الأمر بالنسبة إلى أهل السنّة، فالاختلاف في الفتوى بينهم حاصل بشكل وفير، و ليس ذلك مدعاة لملامة أو توبيخ أحدهم للآخر.
إنّ حقيقة الاختلاف بين الشيعة و السنّة ترجع إلى أنّ رسول اللّه صلّى الله عليه و آله و سلّم قد نصّب أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب و أولاده الأحد عشر، بعنوان أنّ كلّا منهم وليّ، و أنّه صاحب الاختيار و التصرّف و الإرادة ـ بحيث تكون إرادته و اختياره و مشيئته و رغبته حاكمة و غالبة ومقدّمة على إرادتنا و رغبتنا ـ و قد بيّن حقيقة هذا التنصيب و سرّه بشكل واضح و جليّ بقوله:
«من كنت مولاه فهذا عليّ مولاه.»۱
رجوع الشيعة إلى الإمام المعصوم و تبعيتهم له ليست بعنوان أنّه مجرد عالم
فرجوع الشيعة إلى الإمام المعصوم عليه السلام ليس بعنوان أنّه مرجع في الأحكام و عالم بها، و ضليع بالفقه و التشريع ـ كما هو الأمر في رجوع المقلّد إلى مرجعه و أخذه عن رسالته العمليّة ـ و إنّما ذلك لأجل أنّ الإمام عليه السلام صاحب سرّ عالم الخلقة، وحقيقة الفيض الإلهيّ المتنزّل، و الواسطة بين الحقّ و الخلق في جميع المراتب الوجوديّة، و المتولّي لنظام عالم الكون، و مربّي النفوس نحو الكمال، و هو نقطة الاتّصال بيننا و بين الله. و لا بدّ من الفناء والانمحاء و التسليم بشكل كامل مقابل حقيقة كهذه، تماما كالعبد الذي ليس له أيّ اختيار من نفسه أمام المولى، و حقيقة الأمر كذلك.
و إذا نظر الإنسان إلى المعصوم على أنّه مجرّد مبيّن للأحكام التكليفيّة، و التي بدوره ينقلها عن النبيّ الأكرم صلّى الله عليه و آله و سلّم، حينئذ يكون قد نزّله منزلة الراوي للحديث، مع فارق هو أنّ الراوي للحديث قد يصدر منه الخطأ و السهو أثناء نقله للرواية، أمّا الإمام عليه السلام فإنّه لا يقع في السهو و النسيان في ذلك! و في الواقع، لا يمكننا تسمية صاحب هذه النظرة بأنّه شيعيّ.
و على هذا الأساس، فحتّى لو افترضنا أنّ أبا حنيفة يأتي و يبيّن المسائل و الأحكام دون الوقوع في الاشتباه، و بالتالي يجعل المسائل و المطالب العلميّة في اختيار الناس بشكل صحيح، و لكن من ناحية أنّه يأتي و يفتتح مجلس التدريس مقابل الإمام الصّادق عليه السلام، و يطرح نفسه في الطرف المقابل أمام وجود و حضور الإمام، فإنّه خارج عن زمرة الشيعة، و هو في صفّ المخالفين و المعاندين؛ لأنّه لم يعتقد بولاية الإمام الصّادق عليه السلام و التي هي أصل العبوديّة و أساس الدين.
و من ذلك نعلم أنّ ما نشاهده من الكثير من العبّاد و الزهّاد و أهل الصلاح، مع ما هم عليه من الزهد و التقوى الظاهريّين، و وجود آثار الصلاح في مسيرهم و نهجهم، كما هو في جناب السيّدة نفيسة خاتون، حيث أنّها قرأت ستّين ختم للقرآن على قبرها، و لكن بما أنّها لم تقبل ولاية الإمام الصّادق عليه السلام و رفضت إمامته، فلا نعدّها من زمرة أهل التشيّع، بل نكل أمرها إلى الله سبحانه.
هويّة المذهب الشيعيّ متقوّمة بالانقياد المطلق للإمام المعصوم
لأجل ذلك، فإنّ هويّة مذهب التشيّع و كيانه، متقوّمان بالتسليم و الانقياد المطلق للإمام المعصوم عليه السلام؛ بحيث لا يلحظ الإنسان أيّ وجود أو أثر مقابل وجود الإمام و آثاره، و يرجّح الإنسان ولايته و مشيئته على سليقته و اختياره الخاصّ في جميع زوايا وجوده، و يجعل نفسه فانية و مندكّة في ولاية الإمام و سلطته؛ فلا يرى وجودا سوى وجوده، و لا يكون لديه إرادة سوى إرادته و اختياره، وعليه أن يستفيد من كلّ فرصة سانحة كي يحكم العلاقة و يوثق الصلة بين نفسه و إمامه، ليكون الإمام عليه السلام هو المحور في صميم وجوده، فيطرد الأغيار و لا يدع لهم محلّا في قلبه. و حينئذ سوف تتجلّى حقيقة التشيّع في قلب هذا الشخص، و بذلك سوف يعدّ من زمرة شيعة الإمام عليه السلام، و يدخل في الحريم القدسيّ و الملكوتيّ للإمام، و سيرتوي من زلاله و عينه المعين؛ و إلّا فلو لم تتحقّق في النفس مثل هذه الحالة، بأن كان متّبعا لأهوائه و معتمدا على سليقته و آرائه الشخصيّة ـحتّى و إن كانت موجّهة و موافقة للشرع بحسب الظاهرـ فسيمضي عمره بالبطلان و الهلاك و الضياع، و ستقصر يده عن بلوغ أذيال عناية حضرة ال حقّ و ألطافه، ﴿وَ هُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ﴾.۱
بناء على هذا، فإنّ من الواجب و اللازم على كلّ شيعيّ أن يظهر شعار التشيّع و يوضّح المميّزات النفيسة و الحيويّة لهذا المذهب بالشكل الأتمّ و الأكمل.
مثلا، عليه أن يقوم بتعظيم و تجليل واقعة الغدير، التي تمثّل يوم تتويج أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام بتاج الولاية و الإمامة، و لا يقصّر في الإعلان عنها و إبرازها و الدعوة إليها، و تشكيل المحافل و إقامة مجالس السرور و الوعظ و الإرشاد، و تقديم الهدايا و التحف للأقارب و الأصدقاء، ولا يكتفي بيوم واحد أو ليلة واحدة، بل عدّة أيّام يخصّصها لهذا الموضوع الهامّ. و كذلك بالنسبة إلى إقامة مجالس مواليد الأئمّة المعصومين عليهم السلام و استشهادهم، فيبذل في ذلك الجهد الجهيد، ويستفيد من أيّة فرصة لإحياء ذكر أولئك العظام، و تبليغ مرامهم و تجديد ذكرهم و ذكراهم.
إقامة «الأسابيع» و «الأربعين» و «الذكرى السنويّة» للمتوفّى من العادات الخاطئة
و من المؤسف أنّه في الوقت الحاضر، قد استقرّت العادة على إقامة «ذكرى الأربعين» و «الأسبوع» و «الذكرى السنويّة» للأموات، و ليس الداعي لذلك إلا رعاية الشئون و الشخصيّة و المصالح الخاصّة، و ملاحظة المنافع الدنيويّة لأولياء الميّت أو الأفراد المستفيدين من هذه المناسبات.
و الحال أنّ ما خلّفه لنا رسول اللّه صلّى الله عليه و آله و سلّم و أوصياؤه المبجّلون كسنّة لنا، هو تشكيل مجالس الفاتحة إلى ثلاثة أيّام، لا أكثر!
و الذي يبدو و يظهر، هو أنّ تجديد انعقاد الذكرى السنويّة للميّت كلّ سنة من خلال المجالس المملوءة بالمظاهر البرّاقة و البهرجة، و الإعلانات المضحكة، و إيجاد الضجيج الصاخب، فهو ـزائدا على كونه وسيلة لاستجلاب الترحّم و الغفران لذاك الشخصـ وسيلة و سبب لإبراز الحياة الشخصيّة لأقرباء الميّت و المنتسبين إليه و المتعلّقين به و استمرارها، و إظهار شئونهم الدنيويّة. فذاك المتوفّى المسكين منهوك في ذلك العالم بالحساب على أعماله و تصرّفاته، و هؤلاء المساكين مشغولون في هذه الدنيا باكتساب الجاه، و تثبيت شأنيّتهم بواسطة وجاهة الميّت الخاوية و الاعتباريّة! و توضيح المطلب بهذا المقدار كاف ..و العاقل تكفيه الإشارة.
ذكرى «الأربعين» من مختصّات سيّد الشهداء
إنّ إحدى الشعائر الخاصّة بالمذهب الشيعيّ ـو التي لا نظير لها عند أهل السنّةـ ثورة سيّد الشهداء و استشهاده عليه السلام، فشهادة ابن رسول اللّه إنّما افتعلت على يد أسفل و أرذل خليفة في الأمّة الإسلاميّة، الذي كان قد نصّب نفسه خليفة مكان رسول اللّه، و كان يفتخر و يتباهى بهذه الجناية بكلّ وقاحة و دون أيّ خجل .. و هو الخليفة الذي كان موضع قبول و وثوق من قبل طبقة كبيرة من الأمّة الإسلاميّة، يعني أهل السنّة، حيث يعتبرونه من زمرة الخلفاء الإلهيّين و الأمراء الواجبة طاعتهم و أنّه أحد أولي الأمر!
هذه الفاجعة التي يعترف بها جميع المؤرّخين، الموافقون و المخالفون، بل و سائر الأديان و الملل، يقرّون بأنّها أبشع صفحة و أظلم فجيعة في تاريخ الحياة البشريّة، قد بلغت من الفظاعة و الشناعة أنّ الكثير من علماء أهل السنّة قد أنكروا وقوع هذه الفاجعة بشكل تامّ، أو ناقشوا و شكّكوا في انتسابها إلى خليفة المسلمين!۱
و «أربعين» سيّد الشهداء عليه السلام سند و مدرك يثبت حقّانيّة الإمام و مظلوميّته، في دائرة الصراع بين الحقّ و الباطل. فتشكيل المجالس و إقامة المحافل السنويّة لأولياء الدين، مع كونه من أهمّ الأمور و أوجب الوظائف، إلّا أنّ مسألة «الأربعين» لا تشمل أيّا منهم؛ فهذا الشعار و هذا الرمز إنّما جعل و شرّع في مدرسة التشيّع فقط و فقط لسيّد الشهداء عليه السلام.٢
أدلّة اختصاص الأربعين بسيّد الشهداء
الدليل الأوّل: الخروج عن كونه شعارًا
و لو انجرّ الأمر إلى صيرورة إقامة مجالس الأربعين على الأموات بعنوانها سنّة و رسما ثابتا، فكيف يمكن حينئذ أن تكون شعارا و علامة و امتيازا لسيّد الشهداء!٣
وللأسف في هذا الزمان، لم تعد قضيّة أربعين سيّد الشهداء عليه السلام ذات اهتمام و امتياز خاصّ، فقد خسرت حيثيّة كونها شعارًا و علامة مائزة، و صارت في أوساط العوامّ و كأنّها أحد الشؤون العاديّة مثل سائر الأربعينيّات التي تقام على الأموات، و لم تعد محلّا لتوجّه المذاهب الأخرى و لفت نظرهم.٤
الدليل الثاني: الروايات والسيرة الدالة على انحصار العزاء بثلاثة أيّام
يستفاد من مجموع هذه الروايات٥، وكذلك السيرة المستمرّة من زمن رسول الله إلى ما بعده والمعمول عليها بين المسلمين، أنّه من المسلّم به دون ريبٍ هو أنّ سنّة نبيّ الإسلام والشرع المقدّس في موضوع التعزية وإقامة مجالس الترحّم على الميّت ثلاثة أيّام فقط لا أزيد! وقد هدّد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم المرأة التي تقيم العزاء على ميّتٍ لأكثر من ثلاثة أيّام. وهذه السنّة شائعة ورائجة، ولم يطرأ عليها شيءٌ من التغيير والتحوّل في زمان الأئمّة عليهم السلام.٦
و من هنا، حيث اتّضحت كيفيّة و حقيقة سنّة رسول اللّه صلّى الله عليه و آله و سلّم بالنسبة لانعقاد مجالس العزاء، نعلم أنّه ليس لدينا في الإسلام شيء يسمّى بـ الأسبوع أو الأربعين أو الذكرى السنويّة؛ لذلك يتّضح جليّا أنّ هذه المناسبات مخالفة لسيرة الإسلام و سنّته.
فأمّا «الأسبوع» و «الذكرى السنويّة»، فلم نلمح لهما أيّ اسم و لا ذكر في الإسلام قطعا. و مع الأسف، فقد أصبحت في الأوساط الشيعيّة ـ و بالخصوص لدى الإيرانيّين ـ سنّة خاطئة و جارية و شائعة، و كأنّها أمر لا غنى عنه و لا يترك و لا يقبل الخلاف و النقاش!!
فـ الذكرى السنويّة حسب التراث الشيعيّ الأصيل مختصّة فقط بالمعصومين عليهم الصلاة و السلام؛ و ليس لدينا أيّ مدرك تاريخيّ و لا روائيّ يثبت أنّ الأئمّة عليهم السلام أمروا بتشكيل مجالس «الذكرى السنويّة» لأحد من صحابتهم؛ فالذي ورد الحثّ و التأكيد عليه من تشكيل مجالس الذكرى، مختصّ بإحياء ذكرى أهل البيت فقط.
و من باب المثال: نجد أنّ الإمام الباقر عليه السلام قد أوصى بعد شهادته، أن يقام له في منى المآتم و يندب لمدّة عشر سنوات، و يتعرّض فيها إلى ما كان الخلفاء يوردونه على الإمام، و يتمّ توضيح ذلك للنّاس.۱
و كذلك فيما يتعلّق بحضرة سيّد الشهداء عليه السلام، فقد وردنا روايات كثيرة إلى حدّ التواتر٢. بل حتّى لو لم يتمّ التأكيد في الروايات على إقامة مجالس أهل البيت، فيجب علينا أن نحكم بوجوب إقامة هذه المجالس تمسّكا بعموم إحياء ذكر أهل البيت عليهم السلام، سواء مجالس المواليد أم الشهادات، و لا مجال لتطرّق الشكّ في ذلك من ناحية الثقافة الشيعية.
أمّا اليوم، فإنّنا نراهم يحيون «الذكرى السنوية» لسائر الأفراد، فيكرّرون ذلك كلّ سنة، حتّى و لو نخلت عظامه و استحالت ترابا، فإنّهم لا ينسون الميّت و لا يتركونه. نعم، من الواضح أنّ قلوب أصحاب هذه المجالس غير محترقة و لا مقروحة على الميّت، فهم يلاحظون استمرار منافعهم في هذه المجالس، و يرون أنّ حياتهم و بقاءهم مرهونين بانعقاد هذه المجالس، و يتصوّرون أنّهم بواسطة تعطيل هذه المجالس سيصبح الميت نسيا منسيا، و بالتّبع فإنّ الأفراد المرتبطين بهذا المتوفّى، سوف يكتسبون بهذه المجالس المنافع و المصالح الدنيويّة، و بدونها سوف ينسون أيضا، فيسعون جاهدين و بأيّة وسيلة أو حيلة، و بتحمّل العذاب و المشقّات أن يحفظوا اسم الميّت و يحيوا ذكره، بسائر الحجج و الحيل الواهية، و من خلال كلّ الظروف المتاحة لهم!
إنّ سورة التكاثر الشريفة التي ورد فيها: ﴿أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ ، حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ﴾۱ ناظرة إلى هذه الطائفة من الناس. فعلى الشيعيّ أن يحكم ثقافته على أساس سنّة رسول اللّه، كي يستفيد من بركات هذه التبعيّة و الاستنان به أولا، و ثانيًا كي لا يكون ألعوبة أو وسيلة بيد المخالفين و المواجهين للتشيّع، و لا يمكّنهم من الطعن و الاعتراض على التشيّع، و لا يكون مدعاة لتسليط أقلامهم و تصريحاتهم على التشيّع.
و أمّا مسألة «الأربعين»، فإنّها أشنع و أقبح من مسألة «الأسبوع» و «الذكرى السنويّة» قطعا؛ و ذلك لأنّه فضلا عن عدم وجود أيّ خبر أو أثر عن الأئمّة عليهم السلام يفيد إقامة ذكرى الأربعين عن روح الأموات، فإنّ مسألة الأربعين من شعائر التشيّع و خصوصيّاته، و هي مختصّة فقط و فقط بحضرة أبي عبد الله الحسين أرواحنا فداه، لا غير!٢
الدليل الثالث: انحصار مراسم الأربعين بسيّد الشهداء على مرّ التاريخ
بالنظر إلى أنّ المسألة الاجتماعية الأكثر شيوعًا هي هذا الموت والوفاة الذي سُجّل في التاريخ للأعاظم والصحابة والفقهاء والحكماء وأمثالهم، فلماذا لم يُذكر حتّى في مورد واحد أنّهم أقاموا ذكرى أربعين لشخصيّة ما، حتّى للنبيّ والأئمة عليهم السلام؟٣
مائتان وسبعون عامًا، ليس يومًا أو يومين؛ فقد عاش الأئمة عليهم السلام قرابة ثلاثة قرون مع هذه المسألة الشائعة بين الناس، في حين أنّهم لم يقيموا حتّى ذكرى أربعين واحدة لأنفسهم أو لأصحابهم أو لأرحامهم. فمن المؤكّد أنه لولا وجود كراهية في إقامة ذكرى الأربعين لغير سيّد الشهداء عليه السلام، لما اتّخذ الأئمة عليهم السلام مثل هذا المسلك؛ فكونهم لم يفعلوا ذلك يعني أن هذا العمل ليس موضع رضا من الله تعالى، وفيه إشكال من الناحية الشرعية، ومن يقول لا إشكال فيه، فقد أنكر البديهيات.
عندما سمعت أن بعض السادة قد قالوا: «إن ذكرى الأربعين كانت تُقام للنبيّ والأئمة عليهم السلام، ولكنّها اختفت ولم تبقَ الآن إلا للإمام الحسين»٤، تعجبتُ كثيرًا، وكتبتُ في رسالة:
إذا توصّلتم إلى أمور غير ما هو متوفّر في كتبنا، فيرجى تقديم دليلكم ليتمّ تصحيح الكلام في الطبعات اللاحقة.
ومن الواضح أنّهم لن يجيبوا أبدًا؛ لأنه لا يوجد مثل هذا في التاريخ؛ فلماذا إذن يجب علينا أن نكذب على الناس ولا نُبيّن لهم الحقيقة؟! هل كانت مكانة الإمام الحسين أعلى حتى من مكانة النبيّ لكي تُنسخ ذكرى أربعين النبيّ وتَبقى للإمام الحسين؟! لو كان لرسول الله ذكرى أربعين، فلماذا كانت تُقام إلى ما يقرب من خمسين عامًا بعد استشهاده ثمّ بعد استشهاد الإمام الحسين عام واحد وستين يتوقّف كلّ شيء فجأة ولا يستمرّ؟! أليس هذا الكلام مثيرًا للضحك وعذرًا أقبح من ذنب، أليست هذه الأحاديث عليها مسؤوليّة وحساب في يوم القيامة؟! ألن يؤاخذنا سيّد الشهداء عليه السلام ويقول: إن كنتَ قد رأيتَ هذه المسألة في المصادر فائتِ بالسند، وإن لم تَرها فلماذا قلتَ مثل هذا الكلام؟!۱
لو كان الإتيان بها ممضى و مرضيّا من ناحية الشارع، لكان من المحتّم أن يصدر شيء يتعلّق بهذه المسألة طوال مدّة إمامة و ولاية المعصومين عليهم الصلاة و السلام، و لصدر منهم شيء من التوصيات و الأوامر فيما يتعلّق بها، و الحال أنّه لم يتّفق شيء من ذلك، بل لم يشر إلى مورد واحد لا تصريحا و لا كناية! و الحال أنّه لم يكن هذا الموضوع من الموضوعات المنحصرة بخصوص زمان تواجد المعصومين عليهم السلام فقط، بل هو على العكس من ذلك، فهو موضوع حيويّ و عامّ البلوى، و متجدّد في كلّ سنة و كلّ شهر و كلّ أسبوع بالنسبة لهم و أصحابهم و أقربائهم، و مع كلّ ذلك لم يصدر أيّ تشويق منهم أو حثّ أو ترغيب لأصحابهم، أو على الأقل صدور الإجازة بعقد هذه الذكرى، لأجل ذلك، يمكننا أن ندّعي ـ بضرس قاطع ـ أنّه لم يكن انعقاد مجلس «الأربعين» على الأموات مورد رضى للأئمّة المعصومين عليهم السلام، و أنّ نظرهم قائم على اختصاص «الأربعين» بحضرة أبي عبد الله الحسين عليه السلام.٢
طالما لا توجد ذكرى أربعين للإمام الحسن والسيدة الزهراء وأمير المؤمنين وحتّى للنبي صلوات الله عليه وعليهم أجمعين، فلماذا نقيم نحن ذكرى أربعين لأمواتنا؟! ألا يدلّ عدم التوصية بإقامة الأربعين للإمام السجاد والإمام الباقر عليهما السلام على كراهية هذا الأمر؟!
لو لم يكن هذا الاحتفال مكروهًا واعتُبر مباحًا، لكان من المفترض أن يقيم بعض الأفراد الأربعين دون أن يتعرضوا للاعتراض، وحيث أنّ هذه المجالس لم تُقم حتّى الآن، فهذا يدل على أنّها مكروهة ومخالفة للسنة.۱
لأجل ذلك، يمكننا أن ندّعي ـ بضرس قاطع ـ أنّه لم يكن انعقاد مجلس «الأربعين» على الأموات مورد رضى للأئمّة المعصومين عليهم السلام، و أنّ نظرهم قائم على اختصاص «الأربعين» بحضرة أبي عبد الله الحسين عليه السلام.٢
شبهات حول ذكرى الأربعين
الشبهة الأولى
من الممكن أن يقال: إنّ انعقاد مجالس الأربعين للأموات بغية طلب المغفرة و الرحمة لهم، هو في حدّ نفسه سنّة حسنة و مرضيّة، و أنّه لا يراد منها -لا قدّر الله- مواجهة أربعين سيّد الشهداء عليه السلام أو مقابلته؛ و عليه فما هو الإشكال في أن يقدم أولياء الميّت و يبادروا إلى إقامة هكذا مجلس، يتوخّى منه المغفرة و يهدى ثوابه إلى روح المتوفّى؟!
و حيث أنّه لم يردنا المنع عن هكذا مجالس من طرف الشرع المقدّس، فسوف تكون النتيجة هي أنّ الحكم الأوّليّ قائم على الجواز و عدم الممنوعيّة، تماما كما في سائر الموارد التي لم يرد فيها منع أو ردع بعينه من ناحية الشرع، و ذلك في ما لا يتنافى مع الأصول الكلّية و القواعد العامّة للمذهب، و مقتضى القاعدة حينئذ هو عدم الحذر و الإباحة الظاهريّة.
الجواب
و لكن جواب هذه الشبهة هو أن يقال: إنّ مقتضى الاحتياط في خصوص هذه المسألة و ما يشابهها من الموارد و المسائل، هو عكس الحكم بالإباحة و عدم الجواز، و هذه المسألة تختلف مع ما بيّن في تقرير الشبهة.
و توضيح المطلب في ما يلي:
قد دوّنت الأحكام الشرعيّة على أساس المصالح و المفاسد -النفس الأمريّة و الواقعيّة- و ارتكزت على أساس التربية، و إبراز فعليّة الاستعدادات البشريّة، فالملاك الذي يراعيه الشارع المقدّس في تشريعه للقوانين، هو توافق التكاليف الشرعيّة و انطباقها على الجهات التكوينيّة و الفطريّة للإنسان، و حتّى مع كون فعل الحقّ تعالى خارجا عن دائرة الموازنة و المقايسة مع المصالح و المفاسد -كما هو حاصل في أفعالنا و سلوكنا- إلّا أنّ ذلك لا يعني أنّ مشيئته و إرادته يمكن أن تتعلّق بأمر لغوي و عبثي، لأنّ حكمته البالغة تقتضي أن يكون فعل الله تعالى عين الصلاح، و يكون الصلاح عين فعله، و ذلك في مرتبة متأخّرة عن إرادته و مشيئته، لا في رتبة متقدّمة بعنوانها علّة غائيّة.
و على ذلك، و حسب مفاد الآية الشريفة: ﴿قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى﴾۱ فحيث أنّ خلقة الإنسان ناشئة عن الحكمة الإلهيّة البالغة، فلا بدّ و أن تكون الهداية و التربية أيضا مرتكزة على نفس ذاك الأساس، بوزان واحد و معيار و نسق واحد، كي لا يقع أيّ تضادّ أثناء الوصول إلى النتيجة و حصول الغاية المرجوّة.
و حيث أنّ خلقة الإنسان متنزّلة من أعلى رتبة من مراتب عالم الخلق و أحسنها و أسماها، كما في قوله تعالى: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ﴾٢، لأجل ذلك، ينبغي أن تكون أحكامه و تكاليفه الشرعيّة مبنيّة على أرقى ما يتصوّر من درجات التكليف و أحسنها، غاية الأمر أنّه هناك فارق بين الأمرين؛ فأصل تكوّنه و نشأته في أحسن تقويم يمكن تصوره، إنّما كان بدون إرادة الإنسان و دون اختياره، و أمّا الأحكام و القوانين المنزلة من عند الله، فإنّها مجعولة لتكون موضع اختيار البشر و إرادتهم، و لتنسج في عملهم، و لتكون سببا في تحقّق تكاملهم و إخراجهم من مرحلة الاستعداد إلى رتبة التحقّق بالفعليّة التامّة. و لهذا، سوف لا يكون هناك فرق
بين هذين الجانبين و هاتين الحيثيّتين بشكل مطلق، إلّا من نفس حيثيّة التكوين و حيثيّة التشريع؛ بحيث لو جوّز الشارع المقدّس أن يختار البشر العمل المرجوح و المفضول و لو بمقدار ذرّة واحدة، فسوف تكون هذه الرخصة منافية لحكمة الخلقة و التكوين و متعارضة معها!
و على هذا الأساس، سوف يكون الحكم الممضى من ناحية الشرع و المرضيّ له، هو خصوص الحكم المنسجم مع إرادة الشارع و مشيئته مائة بالمائة، دون أدنى اختلاف و دون إدخال المصالح الدنيويّة و الأذواق الشخصيّة و الأهواء النفسانيّة. و من هناك و حيث أنّ مشيئة الشارع هي تلك الملاكات و المصالح و المفاسد النفس الأمريّة، فإنّ تكليف الإنسان ينحصر في أن يطبّق أعماله و سلوكه بشكل تامّ على تلك الملاكات الكلّية، المبيّنة من ناحية الشارع و الموضّحة من قبله. و من الطبيعيّ أن يكون للفعل الواحد -من جهة أبعاده المختلفة- أغراض و حيثيّات متفاوتة، و يمكن إدراجه تحت ملاكات و قواعد مختلفة، لذلك ففي مقام الترجيح و تطبيق الملاكات الكلّية على ذاك العمل الخارجيّ، لا بدّ و أن تلاحظ الوجوه المرجّحة، و لا بدّ
و أن تراعى قوّتها و ضعفها بشكل دقيق، إذ من الممكن أن يكون أحد الأفعال مستحسنا ضمن ظروف و شرائط خاصّة، و يكون بعينه قبيحا ضمن ظروف مغايرة و شرائط أخرى.
مع التوجّه إلى المطالب السابقة، يجب أن نلاحظ رأي الإسلام بالنسبة لمسألة «الأربعين» و نعرف أيّة سنّة طرحها الشارع المقدّس لإقامة مجالس العزاء و الترحّم، و بالخصوص رأيه و نظره بالنسبة إلى الأربعين؟۱
[و] حيث اتّضحت كيفيّة و حقيقة سنّة رسول اللّه صلّى الله عليه و آله و سلّم بالنسبة لانعقاد مجالس العزاء، نعلم أنّه ليس لدينا في الإسلام شيء يسمّى بـ الأسبوع أو الأربعين أو الذكرى السنويّة؛ لذلك يتّضح جليّا أنّ هذه المناسبات مخالفة لسيرة الإسلام و سنّته.٢
و لو كان هناك رجحان من قبل الشارع لإقامة ذكرى الأربعين لسائر الأفراد، فلما ذا لم نجد هذه المرغوبيّة بالنسبة لسائر الأئمّة عليهم السلام، بل و رسول اللّه صلّى الله عليه و آله و سلّم؟! و مع كون ذلك بالنسبة لهؤلاء العظماء أولى بهم و أجدر، بل و حتّى مع وجود كلّ هذا التأكيد على إقامة مناسبات أهل البيت عليهم السلام، و التشديد على الاستفاضة منها، فإنّنا مع كلّ ذلك لم نلحظ أيّ أثر من الأئمّة بالنسبة لإقامة الأربعين على غير سيّد الشهداء عليه السلام.
و هذه المسألة تكشف عن أنّ إقامة الأربعين لغير سيّد الشهداء عليه السلام غير مرضيّ لهم قطعا؛ بداهة أنّهم أمروا بإحياء ذكرهم، و حثّوا على تشكيل المجالس، إلّا أنّهم لم يتعرّضوا لمسألة الأربعين إلّا في خصوص سيّد الشهداء.
الشبهة الثانية
و لو قيل: ما هو الإشكال في أن تقام مجالس الأربعين عن روح الأموات، بغية لطلب المغفرة و الرحمة، دون أيّ داع أو غرض آخر، و بعبارة أخرى: يكون الداعي لعقد الأربعين عن روح المتوفّى الجهة المعنويّة و العباديّة دون الاعتبارات و المنافع الدنيويّة -التي مرّ ذكرها- فأيّ إشكال في ذلك، و أيّ منع سوف يتوجّه من قبل الشارع في هذه الحالة؟
الجواب
فإنّ جوابه:
أولاً: ما هو الفرق بين الأربعين أو الثلاثين أو الخمسين و غيرها حينئذ؟ و لأيّ سبب يجب عقد مجلس الترحّم عن روح الميّت في رأس الأربعين؟! و لو كان من المقرّر أن ينعقد مجلس لذكرى الميّت، فلما لا يقيمونه بعد ثلاثين يوما أو خمسين؟!
ثانيًا: إنّ العبادة الصادرة من العبد، إنّما تقع مقبولة و مرضيّة فيما لو كانت متطابقة مع الأمر الإلهيّ، دون أن تصدر من تلقاء نفسه أو متأثّرة بمزاجه. فالشرط الأساسيّ في صحّة العبادة هو التقرّب و الانقياد؛ وهاتان المسألتان متفرّعتان على حيثيّة توقيفيّة العبادة و جهة تعبّديتها. و ما لم يصدر الأمر بالعبادة من الشارع، فسوف يكون الإتيان بها بدعة و ضلالاً و حرامًا؛ حتّى و إن قصدنا القربة و الرجاء ألف مرّة، فسوف لا يكون لهذا العمل أيّة قيمة و لا وزن من وجهة نظر الشارع.
نعم، لو كانت المسألة بحيث يكون رجحان الفعل محرزًا ـ من جهة معيّنة ـ بالنسبة للمكلّف، أو على الأقلّ محتملاً، و لم يكن هناك دليل قطعيّ على الرجحان۱ الشرعيّ، ففي هذه الحالة لا مانع من الإتيان بالفعل بداعي الثواب و رجاء التقرّب. و لكن ما نحن فيه فضلا عن عدم كونه واجدا للرجحان الاحتماليّ العقليّ، فإنّه و من خلال القرائن و الشواهد العقليّة و النقليّة مرجوح و مفضول، و في هذه الحالة لا مجال لداعي التقرّب و الإتيان به رجاء للثواب، و سوف يكون الإتيان به منافيًا لنظر الشارع ومخالفًا لرضاه، أو سيكون باطلاً و مكروهًا كراهة شديدة قطعًا.
والحقيقة أنّ مسألة «الأربعين» من هذا القبيل، حيث لو كان الإتيان بها ممضى و مرضيًّا من ناحية الشارع، لكان من المحتّم أن يصدر شيء يتعلّق بهذه المسألة طوال مدّة إمامة و ولاية المعصومين عليهم الصلاة و السلام، و لصدر منهم شيء من التوصيات و الأوامر فيما يتعلّق بها، و الحال أنّه لم يتّفق شيء من ذلك، بل لم يشر إلى مورد واحد لا تصريحًا و لا كناية! و الحال أنّه لم يكن هذا الموضوع من الموضوعات المنحصرة بخصوص زمان تواجد المعصومين عليهم السلام فقط، بل هو على العكس من ذلك، فهو موضوع حيويّ و عامّ البلوى، و متجدّد في كلّ سنة و كلّ شهر و كلّ أسبوع بالنسبة لهم و أصحابهم و أقربائهم، و مع كلّ ذلك لم يصدر أيّ تشويق منهم أو حثّ أو ترغيب لأصحابهم، أو على الأقل صدور الإجازة بعقد هذه الذكرى، لأجل ذلك، يمكننا أن ندّعي ـ بضرس قاطع ـ أنّه لم يكن انعقاد مجلس «الأربعين» على الأموات مورد رضى للأئمّة المعصومين عليهم السلام، و أنّ نظرهم قائم على اختصاص «الأربعين» بحضرة أبي عبد الله الحسين عليه السلام.
إلى هنا ننهي هذه الرسالة، و حتّى مع كون المسألة تحتاج إلى بسط أكثر، بلحاظ جهاتها المختلفة، إلّا أنّه مع ملاحظة الرغبة في عدم التطويل، نكتفي بما تمّ ذكره، آملين من أتباع مدرسة الولاية و مذهب التشيّع، أن يقلعوا عن هذا الرسم و هذه العادة الجارية المبغوضة لله، من قبل أولياء الدين، و يتأسّوا بالسنّة السنيّة لرسول اللّه و أئمّة الهدى صلوات الله عليهم أجمعين، و يكون هدفهم و غايتهم من كلّ أفعالهم و سلوكهم هو الانقياد و الإطاعة للممشى القويم و الصراط المستقيم لأئمّة الهدى عليهم السلام، الذين تنحصر الهداية و الفلاح في إطاعتهم و انتخاب دستوراتهم و أوامرهم فقط لا غير۱.
ربّنا و اجعلنا من شيعة أمير المؤمنين و الأئمّة المعصومين عليهم السلام و الذابّين عنهم، و لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنّك أنت التوّاب الرحيم، الحمد لله الذي هدانا لهذا و ما كنّا لنهتدي لو لا أن هدانا الله.
و السلام علينا و على جميع عباد الله الصالحين و رحمة الله و بركاته.
ليلة الجمعة، في الرابع عشر من صفر سنة ۱٤٢٦ هجريّة قمريّة
المشهد الرضويّ المقدّس على ثاويه آلاف التحيّة و السلام
السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهراني٢