المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني
القسم التاريخ و الاجتماع
العدد التسلسلي2
التوضيح
متى طرح بحث الشورى عند فقهاء الإماميّة وكيف عمل به؟ ما هي أهميّتها وضرورتها وكيف نثبت مشروعيّتها؟ وما هي شروط تطبيقها لتحقيق غرضها؟ وماذا جرى في التاريخ عند عدم الالتزام بشروطها؟ وحول أيّ الأمور يعمل بها؟
تعرّض المحاضر رضوان الله عليه لهذه الأبحاث ضمن ثلاث محاضرات من سلسلة شرح حديث عنوان البصري من 59 إلى 61، وذلك عند شرحه لفقرة أن لا يدبّر العبد لنفسه تدبيرًا مع تناوله خلالها لمواضيع أخرى، ومزجه للإجابات على تلك الأسئلة بعضها مع بعض بما يناسب أسلوب المحاضرة، وقد عملت الهيئة العلميّة في مدرسة الوحي على ترتيب المضامين المتناسبة تحت عنوان واحد ضمن أربع مقالات مع المحافظة على كلام المحاضر بحرفيته والإشارة إلى مصدره لتخرج في بنائها العام بما يشبه المقالة العلميّة وإن كان أسلوب الكلام فيها أسلوب محاضرة. وكان المحاضر أثناء المحاضرة قد أبدى رغبته بكتابتها. وتمثّل هذه المقالة الثانية منها وتجيب على السؤال الثالث حول شروط تطبيقها.
هو العليم
الشورى شروطها وكيفيّتها
مقالة حول الشورى – المقالة الثانية
بحث منتخب من محاضرات
آية الله الحاج السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهراني
قدّس الله سرّه
.
أعوذ بالله من الشّيطان الرّجيم
بسم الله الرّحمن الرّحيم
الحمد لله ربّ العالمين
وصلّى الله على سيّدنا ونبيّنا وحبيب قلوبنا وطبيب نُفوسنا
أبي القاسم محمّد وعلى آله الطّيّبين الطّاهرين
واللعنة على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين
«ولا يدبر العبد لنفسه تدبيرًا»
قال إمامنا الصادق عليه السلام لعنوان البصري: «أن لا يرى العبد لنفسه فيما خوله الله ملكًا لأن العبيد لا يكون لهم ملك، يرون المال مال الله يضعونه حيث أمرهم الله به ولا يدبر العبد لنفسه تدبيرًا».
فيجب أن لا يدبّر العبد لنفسه وأن لا يسعى إلى تنظيم الأمور على أساس كيفيّة أفكاره والوصول إلى نواياه وآماله.
تقدّمت بعض الأمور حول هذه الفقرة ووصل كلامنا إلى أنّ أوامر الإسلام والشرع في التطبيق الدقيق والتدبير لجميع الأمور الشخصية والاجتماعيّة والحركات الفرديّة والاجتماعيّة هو لأجل الوصول إلى نقطة الكمال الشخصي والكمال الاجتماعي. وقد ذكرنا بعض الأمور في التوفيق بين هذه الفقرة الشريفة وما لدينا حول التدبير من معطيات عقليّة وعرفيّة وشرعيّة.
وحديثنا الآن هو حول كيفيّة تنظيم الأمور الاجتماعيّة في الحكومة الإسلاميّة… وسنتحدّث على شكل فهرس وبالإجمال، وإن شاء الله إذا وفق الله لاحقًا سنكتب ذلك بشكل مفصّل۱.
شروط الشورى المشروعة والمحقّقة للغرض
۱. أن تكون عند عدم وجود الإمام عليه السلام أو الإنسان الكامل
فما دام المعيار هكذا فهل يجب في زمان رسول الله أو في زمان الإمام أيضًا أن يراعى ذلك [ويعمل بالشورى]؟ فلو طرح رسول الله أمرًا فهل يجب أن تقولوا لا بدّ من الشورى والعمل برأي الأكثريّة أم لا؟ كلاّ لماذا؟ لأنّ المعيار للشورى ليس هو كثرة الناس وتقديم الخطّة، الآن في هذا المجلس مثلاً مائتا إنسان، ثلاثمائة إنسان ونريد أن نتشاور في أمر ما، فهناك مائتا إنسان يدلون بآرائهم فلو صاروا أربعمائة فما هو الفرق؟ ولو صاروا ألفًا فبماذا يختلف الأمر؟ هل كثرة الآراء هي المهمّة أم الوصول إلى المطلوب والوصول إلى النتيجة هو المهم؟ إن كان الوصول إلى المطلوب والنتيجة هو المهمّ فسؤالي هو هذا: لو فرضنا أنّ المعلّم يطرح بين تلامذة الصف الأول أمرًا فيه مصلحتهم ويرتبط بحياتهم وخصوصيّاتهم كما لو كان هناك مثلاً ثلج يتساقط في الخارج، الثلج يتساقط في الخارج فيقول: أيّها الأولاد هل ندرس أو نخرج ونلعب بالثلج؟ فكم واحدًا سيقول نبقى في الصفّ؟ لا أحد. الجميع يقولون: فلنذهب لنلعب بالثلج. الآن يريد المعلّم أن يعمل، جميعنا نقول: كلا. لماذا كلا؟ لأجل عقل هذا المعلم وتجربة المعلم وتقدُّم هذا المعلم في العمر على أفكار هؤلاء الأولاد الطفوليّة. لو سألنا طفلاً تريد أن تدرس أو تلعب؟ سيقول: أريد أن ألعب من الصباح حتّى المساء. لكنّ أبويه يقولان: كلاّ ويشجّعانه أن اذهب وادرس اذهب. ويأتون له بالألعاب، اللعب إلى جانب الدرس حتّى يترقّى شيئًا فشيئًا فيلتفت إلى أنّ الحقّ كان مع أبويه.
لو عملنا الآن وفقًا لرأي الطفل: هل تريد الذهاب إلى المدرسة أم تريد اللعب في المنزل؟
ـ لا، أريد أن ألعب. حسنًا، إلعب هذا العام.
في العام الثاني: هل تريد اللعب أم...؟
ـ لا، ما زلت أريد اللعب. عندما يكبر هذا الطفل هو نفسه سيديننا ـ أرجو الالتفات، فهذه مسألة مهمّة جدًّا ـ هذا الطفل نفسه سيديننا أمام وجدانه وأمام الناس أن لماذا تركتموني عندما لم يكن عقلي مدركًا ولم أكن أعرف مصلحتي ومفسدتي، لماذا تركتموني؟ ألم تكن أبي؟! ألم تكن مسؤولاً عني؟! ألم تكن مسؤولاً عن أموري، فلماذا فعلت هذا؟
ومهما يقول الأب: لقد فعلتُ ما تريد. سيقول: عبثًا فعلتَ ما أريد! وليس للأب جواب على هذا السؤال. وليس هذا الطفل وحده بل المجتمع يدينه، والحكيم يدينه أيضًا، كما يدينه الشرع والتكليف والله، وعليه أن يجيب يوم القيامة. يقول الله: لماذا لم تدع هذا الطفل يدرس؟! لماذا؟! يقول: لقد كانت هذه رغبته.
ـ كانت هذه رغبته! فلماذا جعلتُك وليّه! لماذا جعلتُك كفيلاً له، لماذا جعلتُك مسئولاً عن شؤونه! فقط لتجلس وتشاهد؟!
عقل رسول الله وفهم رسول الله فهم أرفع من البشر. ولو جاء العالم كلّه يقول: نختار هذا الطريق، ويقول رسول الله: لا بل ذاك الطريق. فسيكون حرامًا أن يرجّحوا رأيهم على رأي رسول الله، فهو محرّم قانونًا ومحرّم عقلاً. فبما أنّي أدركت أنّ رسول الله هو رسول من عند الله وقوله {فصل وما هو بالهزل}۱، ولا يتكلم عبثًا وهو مشرف على الناس مطّلع على القضايا الاجتماعيّة، مطّلع على المصالح، ومطّلع على المستقبل، عندما يكون هذا هو الحال فلا أستطيع أن أعمل خلاف رسول الله، رغم أنّ قلبي يسير في اتّجاه آخر. فلو ذهبت وعملت فسيكون الحال كقضيّة الحركة الدستوريّة؛ الناس يخرجون من بيوتهم ويطالبون بالإسلام فمتى إذن؟ لأيّ زمان كنّا نقول هذا إذن؟ لأي زمان كنّا نقول هذه الأمور؟ هؤلاء الناس يأتون. سيّدي، انظر وانظر! الحشود تأتي وتأتي٢.
فقضيّة الإمام وقضيّة المعصوم مستثناة من موضوع الشورى… فمسألة طاعة رسول الله وطاعة الإمام المعصوم عليه السلام مستثناة من الشورى. لماذا؟ لأنّنا نريد من الشورى أن نصحّح الخطأ أو نقلّل من الخطأ، ولا خطأ في كلام المعصومين، فإذن الشورى منتفية، اثنان إلى اثنين أربعة٣.
فتارة نواجه أمرًا ولا يكون أمير المؤمنين بيننا، فهذا صحيح، وكلامنا عن الشورى هو في هذه الحالة… تارة لا يكون الإمام عليه السلام أمامنا، لا يكون الإمام المعصوم أمامنا، لا يكون النبيّ أمامنا، لا يكون هناك إنسان كهذا عندنا؛ وتارة يكون الإمام أو النبيّ، الإمام المعصوم أمامنا ويمكننا أيضًا الوصول إليه، فهو جالس هنا مثلاً، فهل نجتهد ونتكلّم في مقابل كلامه، فلو كان هناك اجتهاد مترسّخ في نفوسنا بعيدًا عن كلام الإمام، ورأينا أنّه مخالف لكلام المعصوم، فعلينا أن نجعله جانبًا، بكلّ بساطة، لماذا؟ لأنّ الله جعل لنا الإمام ميزانًا، وهذا الاجتهاد الذي تقوم به أنت الآن أليس هو في الروايات والسنن والأدلّة الفقهيّة المتقنة؟ فهذا الإمام جالس هنا، فنحن لو بذلنا قصارى جهدنا فإنّا نستفيد أمرًا ما من تلك الروايات الواردة عن الإمام عليه السلام، فنجتهد في تلك الروايات في النهاية، نجعل هذه الروايات بعضها إلى جانب بعض. يقولون الآن إنّ هذه الروايات ترجع إلى ما قبل ألف وأربعمائة سنة ولا بدّ من تركها جانبًا، هذه الروايات علينا أن نجعل بعضها إلى جانب بعض، ونستنبط منها حكمًا بعقلنا الناقص، هذا بحسب تعبيري أنا۱.
إذا قال أحد المدرّسين في الصفّ للأطفال: أشيروا عليّ ماذا نفعل اليوم؟
فإنّهم يقولون: دعونا نترك الدرس ونلعب. اذهب الآن إلى المدارس ولاحظ بنفسك. لقد كنّا نحن هكذا، كنّا إذا سألونا نقول: دعونا نرتع ونلعب. كانت أيّامنا السعيدة في المدرسة عندما تكون لدينا حصّة رياضة. لم نكن نحبّ الرياضيّات أو الإملاء أو الواجبات المنزليّة أو أيّ شيء من هذا القبيل، ولكن عندما كنّا نذهب إلى المدرسة كنّا نذهب حبًّا للرياضة التي ستكون بعد يومين. كنا نذهب حبًّا لذلك اليوم. حسنًا، ولو فعلوا تلك الساعة الواحدة يومًا كاملاً، فسيقيم الأطفال احتفالاً. ثمّ ماذا لو فعلوا ذلك اليوم أسبوعًا؟ أو لو صار ذلك على مدار السنة. فليشاوروا الأطفال في الصف الثالث أو الرابع من المرحلة الابتدائيّة، أو الأكبر منهم أو الأصغر مشاورة واحدة. ونحن جميعًا لدينا الشيء نفسه تقريبًا. فلا نضحك كثيرًا على ماضينا. ما زلنا كما في الماضي، لكن الصورة اختلفت. الصورة اختلفت، يقال إنّه عندما صوتوا لرئيس الجمهوريّة في إحدى الدول، فإنّ غالبيّة الناس وخاصّة بعض الطبقات المعيّنة قالت: إننا نرشّح ذاك المرشّح لأنه أفضل من الآخر من حيث المظهر. هل التفتّم؟ هذه هي مرحلة الطفولة بعينها. لم يختلف الحال. أو خذوا مثلاً من عندنا من إيران، لماذا نذهب بعيدًا؟ في إيران هذه، فمثلاً الغالبيّة الآن، أو لا نقول الغالبيّة، فوفقًا للإحصاءات فغالبية الناس أو نصفهم أو ما يقاربه هم من هؤلاء الشباب. والشابّ بطبيعته بماذا يهتم؟ إنّه يهتمّ بالألعاب والرياضة وما إلى ذلك. فلو ترشّح للرئاسة الآن أحد هؤلاء اللاعبين، والذين أنتم أعرف بأسمائهم منّي فأنا لم أشاهد هذه الألعاب ولا اطّلاع لي على شيء منها، كلّ ما أعرفه هو هذا: ففي الرحلة التي كانت قبل سنتين والتي تشرّفت فيها بزيارة مكّة برفقة الأصدقاء السيّد شرواني والسيّد خدابنده لو، كان الحديث هناك يدور حول لعبة إيران، وكان من الحجّاج الذين كانوا هناك من يقول فلان أفضل، وآخر يقول لا فلان أفضل. حتّى إنّ أحدهم جاء، جاء به السيّد شيرواني إلى غرفتنا، لنمزح قليلاً ونضحك، فقال: يا سماحة السيّد تعال إلى الأمجديّة. اسمها الأمجديّة صحيح؟ أم لها اسم آخر؟ سابقًا كانت في الأمجديّة. الحاصل تعال إلى الملعب لترى أنّ مشجّعي اللون الأزرق أو الأحمر ـ لا أدري ـ أكثر عقلاً من هؤلاء، كان يقول: أنا آتي وآخذك. قلت: حاضر بالخدمة، ولكن لا تنس بالتأكيد. هل التفتّم؟ حسنًا فهذه مثلاً جانب.
فلو حصل أن رشّح أحد هؤلاء لرئاسة الجمهوريّة، فإنّه سيفوز حتمًا بدون أيّ شكّ. لماذا؟ لأنّ مدركات الشابّ ومدركات الناس في حدود دائرة خاصّة. فتجارب إنسان عاقل، إنسان خبير، إنسان خبر الدنيا وذاق حلوها ومرّها، لا يملكها بالطبع شابّ يافع في السادسة عشرة أو السابعة عشرة، أو العشرين، ليس له اطّلاع على ما سيجري في المستقبل. إنّ رؤيته وإدراكه وبصيرته محدودة بالقياس إلى من حوله. فالأب عندما يشخّص، الكبير عندما يشخّص، فهؤلاء هم من يعلم أمور المستقبل، ويعلمون العواقب، ويعلمون الجوانب. هؤلاء يعلمون ما يجري. فأنت لمن تسلّم البلاد؟ فهل تسلّمها لإنسان كهذا؟ حسنًا على كلّ حال۱.
إنّ وضع الإمام عليه السلام مع مختلف الناس هو كحالة معلم الصفّ مع الأطفال. لا يستطيع المعلّم أن يطيع الأطفال. إذا أطاعهم وذهب هذا الطفل ليلعب بالثلج وسقط أو أصيب بالتيفوئيد ومات، فلن يُطرد المعلم غدًا من هذه المدرسة فحسب، بل سيدينونه أيضًا في المحكمة أن ماذا تفعل أنت هنا؟ لماذا جعلناك هنا؟ لئن أراد الأطفال ذلك لا بأس فليريدوا فهل عليك أن تطيع كلّ من تمنّى وأراد أمرًا ما؟ إذن لماذا لديك عقل ولماذا لديك تجربة؟ ما الهدف من هذا؟
وضع الإنسان الكامل مع الناس كوضع الإمام معهم
وينطبق الأمر نفسه على الإنسان الكامل، لقد وصل الإنسان الكامل إلى نقطة المعرفة، فهو يقيّم الأشياء من وجهة نظر الشهود وليس من وجهة نظر الظاهر. [فمثلاً يقول الإنسان العاديّ:]
ـ لقد قال فلان كذا اليوم، لذا دعني أفعل ذلك.
ـ حسنًا، غدًا سيتراجع عن كلامه، فماذا تفعل أنت؟
يقول: لقد قلت.
ـ غدا سيقول: لن أفعل، غدًا يتراجع عن كلامه.
وفقًا لهذا، يتقدّم المرء إلى الأمام ثمّ يتراجع غدًا عن كلامه فيجد نفسه في طريق لا عودة فيه. هذا حال الإنسان غير الكامل، أأنت تعلم أنه سيتراجع غدًا؟!٢
٢. أن تكون عند عدم إمكان الوصول إلى الإمام في حال وجوده
إنّ المعيار والميزان في الحكومة الإسلاميّة وفي الأعمال الشخصيّة هو اتّباع الحقّ. هذا هو المعيار، وعند وجود الإمام عليه السلام فالمعيار هو الإمام نفسه. عندما يكون هناك إمام يتعامل معه الإنسان فإنّ كلامه هو المعيار. ليس لدينا ما هو أعلى من كلام الإمام. فالمعيار هو كلام الإمام، لكنّ النقطة المهمّة هنا هي أنّه هل هذا الإمام متاح لجميع الناس أينما كان عليه السلام؟ فنحن ليس لدينا عشرة أئمة معًا، ليس لدينا مائة إمام، الإمام هو رجل واحد له خصوصيّات ظاهريّة ويختار العيش في مكان واحد، إمّا في الكوفة، أو المدينة، أو في مرو، أو في بغداد، أو في سامراء، وليس هناك مكان آخر. حسنًا، ما دام الإمام عليه السلام في مكان واحد، فما هو واجب الآخرين في البلدان الأخرى في عهد الإمام عليه السلام؟ أولئك الذين لا يستطيعون الوصول إلى الإمام، لنفترض أنه إذا هاجم عدوٌّ أحد هذه البلاد عند حدود العدوّ، فستظهر لهم مشكلة، ولو واجهتهم مشكلة في قضيّة اجتماعيّة، فلو أرادوا أن يرسلوا إلى المدينة المنوّرة ويطلبوا من الإمام عليه السلام الحلّ سيكون الأمر قد انتهى برمّته، سيكون الأمر قد انتهى، أفهل يمكن الوصول إلى الإمام حتّى في زمان الإمام عليه السلام؟ حتى في زمان رسول الله لم يكن الوصول إلىه ممكناً، فرسول الله في المدينة المنوّرة، وعلى بعد أميال قليلة من المدينة المنوّرة لم يعد بالإمكان مقابلة رسول الله. الناس في البلدان الأخرى لا يستطيعون لقاء رسول الله. لم يكن دأب رسول الله والأئمة الذهاب إلى كلّ مكان عند أيّ مشكلة وتقديم الحلّ. لا. أين كانت أمثال هذه القضايا؟ متى جاء أمير المؤمنين عليه السلام بطرق خارقة للعادة وبيّن الأمر للناس؟ لم يفعل ذلك. نعم عن طريق الولاية وأمثال ذلك لا كلام فهذا في مكانه، ولكن حسب الظاهر كان أمير المؤمنين عليه السلام في الكوفة، فما هو تكليف الذين كانوا في خراسان في زمان أمير المؤمنين، في مصر، في اليمن، في البصرة، في الحجاز، لأنّ العاصمة في عهد علي عليه السلام كانت الكوفة، كانت مركز الحكومة الإسلاميّة. فلو حدثت مشكلة للنّاس في الحكومة الإسلاميّة فما هو التكليف رغم وجود الإمام المعصوم عليه السلام؟ يجلسون هكذا ويقضى عليهم ويحدث الفساد لأننا لا نستطيع الوصول إلى الإمام أم لا، فما العمل؟ يجب طرح القضية للتشاور.
ولذلك ذكرت أنّ مسألة الشورى {وأمرهم شورى بينهم} لا بدّ أن تعدّ مبدأ لا يمكن التخلّي عنه حتّى في زمان الإمام المعصوم عليه السلام، فكيف بزمان الغيبة، فكيف بسائر الأزمان والعصور، ففي زمان النبيّ رغم حكومته ونفوذه ورغم سلطته ونفوذ كلمته، لم يكن هناك إمكان للوصول إليه لمعرفة الأحكام، لم يكن من الممكن الوصول إليه لمعرفة أحكام الأحداث الاجتماعيّة التي تحدث، وفي زمان أمير المؤمنين عليه السلام ورغم وجود الخلافة الإلهيّة، لم يكن من الميسور أيضًا لجميع الناس الوصول إلى أمير المؤمنين عليه السلام، فماذا يصنع الناس؟ ماذا يصنعون في المشكلات التي تواجههم؟ هل يصبرون حتّى يرسلوا رسالة ورسولاً إلى المدينة؟ إنّه يرجع بعد ستّة أشهر فماذا يصنعون؟ {وأمرهم شورى بينهم}، يجب أن يتشاوروا وفي التشاور تتّضح الحقيقة. والأئمّة عليهم السلام كثيرًا ما كانوا بعيدين عن الأنظار، فموسى بن جعفر عليه السلام رغم كونه إمامًا كان في السجن لسنوات، لم يكن يلتقي بالإمام أحد. ولسنوات عديدة، كان الإمام الهادي عليه السلام والإمام الحسن العسكري بمعزل عن الناس، باستثناء ما كان يجري من خلال بعض الذرائع ليتمكّنوا من الوصول إلى الإمام عليه السلام. وعليه فإنّ موضوع الشورى والمشاورة في الأمر والمهامّ الاجتماعيّة والمشكلات التي تطرأ على المجتمع [أمر لا بدّ منه].
٣. أن لا تكون شكليّة ولإيهام الآخر باحترامه فحسب
فلكي نقلّل من احتمال الخطأ لا بدّ من طرح هذا الأمر كقانون عقلائي وكقانون اجتماعي وكعقيدة لا لكي يشارك الناس ولكي يعطَوا أهميّة واحترامًا؛ فهذا كلّه شكليّات، وهذا كله اعتبارات، فأنا شخصيًّا لا أريد أن يمنّوا عليّ بمنّةٍ كهذه وأن يعطوني قيمة وأن أكون طرفًا للمشاورة في أمر، كلا فلو كان هناك عمل صحيح فلنكن خارج الشورى مئة عام ليس مهمًّا، المهمّ أن يكون هناك عمل صحيح، هذا هو المهمّ. أما أن يُهتمّ بالإنسان ثمّ يذهب الطرف الآخر ويقوم بما يحلو له فما هذه المنّة التي يمنّ بها على الإنسان؟! فما هذا؟!
كان هناك في العهد السابق رجل يقول: إنّ فلانًا في أعماله التي يقوم بها يدعو جماعة ويطلب منهم المشورة. قلت له: كلا هذا كلّه تمثيل هذا كله...
قال لا أنا بنفسي كنت في مجلس كان هناك جماعة وكذا...
فقلت له: هل هناك مجلس آخر هذه المرّة؟
قال: نعم هناك مجلس آخر، ولحسن الحظ نحن مدعوون ويجب أن نذهب، فهناك أمر سيحدث. فقلت لذلك الرجل: حسنًا إذا ذهبت إلى ذلك المجلس فاسأله حول تلك المسألة التي ستحدث واطرح هذا الأمر بحماس فالمسألة مسألة حماس ـ وبالطبع فإنّ ذلك الرجل قد انتقل إلى رحمة الله منذ مدّة بعيدة، تقريبًا قبل أربعة عشر عامًا أو خمسة عشر عامًا أو ستة عشر عامًا ـ فقال: حسنًا هذه أيضًا واحدة من الأمور المهمّة. وعندما انعقد المجلس جرى الحديث حول بعض الأمور فاقترح هذا الرجل قائلاً: حول هذا الأمر الذي سيحدث دعونا نطرح الأمر وننظر ما هو رأي السادة قال: فجأة رأيت أنّهم حرفوا الكلام عن مساره إلى موضع آخر. فقلت مرة ثانية: ماذا حصل بهذا الأمر؟ في النهاية ماذا حصل؟ يجب أن نفكّر بهذا الأمر! فقلت له: آه هل رأيت؟ نعم نطرح مسألتين أو ثلاثًا من المسائل العادية المتداولة التي لا يختلف الحال فيها ثمّ نقول: لقد شاورنا في الأمور. فالشورى ليست هكذا، بل لا بدّ أن تطرح كأصل عقائدي وأنّه ما هو المعيار للشورى في الحكومة الإسلاميّة؟ المعيار هو الصون من الخطأ والزلل في تقديم الخطط الاجتماعيّة أو الوصول بهما إلى الحد الأدنى في البرامج الاجتماعية۱.
٢. عدم اعتبار رأي الأكثريّة فيها
المعيار للشورى ليس هو كثرة الناس وتقديم الخطّة، الآن في هذا المجلس مثلاً مائتا إنسان، ثلاثمائة إنسان ونريد أن نتشاور في أمر ما، فهناك مائتا إنسان يدلون بآرائهم فلو صاروا أربعمائة فما هو الفرق؟ ولوصاروا ألفًا فبماذا يختلف الأمر؟ هل كثرة الآراء هي المهمّة أم الوصول إلى المطلوب والوصول إلى النتيجة هو المهم؟٢
إنّ المعيار والأساس في قبول أمر ما عند التقييم والتحقيق هو الوصول إلى الحقّ. هذا هو معيار الحركة التكامليّة للإنسان، وليس كثرة الآراء والأذواق والأفكار المختلفة، المعيار هو الوصول إلى الحقيقة. وهذه قضيّة يفهمها الجميع ويدرك الجميع أهميّتها. فعندما لا تكون هناك دواعٍ نفسيّة وأغراض وأهواء شخصيّة، فالجميع يدركون هذا الأمر٣.