المؤلّفمدرسة الوحي
القسم الاخلاق والحکمة والعرفان
المجموعةمقالات الورد والذكر
العدد التسلسلي2
التوضيح
ما تأثير الذكر؟ وكيف يؤدّي إلى تغيّر القلب وسرّ الإنسان وتحوّلهما؟ وما الهدف والغاية منه؟ أسئلة تجيب عنها هذه المقالة الثانية من سلسلة مقالاتٍ حول الذكر والورد في السير والسلوك.
وجدير بالذكر أن هذه المقالات قد استفادتها الهيئة العلمية لموقع مدرسة الوحي من محاضرات شرح رواية عنوان البصري لسماحة آية الله السيّد محمد محسن الحسيني الطهراني رضوان الله عليه
هو العليم
تأثير الذكر وكيفيّة هذا التأثير
المقالة الثانية من سلسلة مقالات حول
الذكر والورد في السير والسلوك
بالإفادة من محاضرات شرح رواية عنوان البصري
لسماحة آية الله السيّد محمد محسن الحسيني الطهراني رضوان الله عليه
تمهيد الهيئة العلمية
بين يديك أخي القارئ بحث حول الذكر والورد في السير والسلوك، مستفاد من محاضرات سماحة آية الله الراحل السيّد محمّد محسن الحسيني الطهراني رضوان الله عليه حول الذكر في شرح فقرة: «مَعَ ذلكَ لي أورادٌ في كُلِّ ساعَةٍ مِن آناءِ اللَيلِ والنَّهارِ، فَلا تشغلني عَن وِردي وخُذ عَن مالكٍ واختَلِف إليهِ كَما كُنتَ تَختَلِفُ إليه» من رواية عنوان البصريّ، والتي شملت المحاضرات من الثامنة إلى الثامنة عشرة من سلسلة شرح تلك الرواية.۱
ويقع البحث ضمن فصول يصلح كلّ منها مقالة مستقلّة صغيرة:
المقالة الأولى: حقيقة الذكر والورد
المقالة الثانية: تأثير الذكر وكيفيّة هذا التأثير (وهي هذه المقالة التي بين يديك)
المقالة الثالثة: ضرورة الذكر ومشروعيّته
المقالة الرابعة: اختلاف الأذكار باختلاف الأحوال والأوقات والمراتب
المقالة الخامسة: الظروف المحيطة بالذكر النافع
المقالة السادسة: أسئلة وملاحظات ترتبط ببعض جوانب الذكر
أعوذُ باللهِ منَ الشّيطانِ الرّجيم
بسمِ الله الرّحمنِ الرّحيم
الحمدُ لِلّه ربِّ العالمينَ و الصّلاةُ و السّلامُ على أشرفِ المرسلينَ
وخاتمِ النّبيّينَ أبي القاسمِ محمّدٍ و على آلِهِ الطّيّبينَ الطّاهرينَ
واللعنةُ على أعدائِهم أجمعين
ما تأثير الذكر؟
وكيف يؤدّي إلى تغيّر القلب وسرّ الإنسان وتحوّلهما؟
وما الهدف والغاية منه؟
المقدّمة الأولى: انغماس الإنسان في عالم الكثرة
لا شكّ أنّ كلّ واحد منّا أسير مرتبة من مراتب الكثرة والجهل، وكلّ إنسان يعرف خصوصيّات نفسه وصفاتها خيرًا من معرفة الآخرين به. في حين أنّ عالم التوحيد هو عالم الوحدة وانعدام الألوان وسيطرة اللون الواحد، عالم النور وانعدام الكدورة والظلمة، عالم انعدام الأنانيّة ومحوريّةِ الذات والكثرةِ، عالمُ البهجة والتوحيد وطردِ أيِّ نوع من الحيثيّة والشأنيّة الاستقلاليّة المنتسبة إلى الكثرة، عالم الكمال والبهاء المحض. في حين أنّنا في مرتبة الأنانيّة ومحوريّة الذات والاستقلال وتحصيل المصالح الشخصيّة، وإبعاد المنفعة عن الآخرين، والتكبّر والترفّع، وكلّ ذلك هو في الجهة المقابلة للتوحيد. وبعبارة أخرى، كل ما يمكن أن يلاحظ من حقائق وخصوصيّات التوحيد، يلاحظ ضدّه في عالم الدنيا والكثرة حسب قابليّات الناس. ففي عالم التوحيد كلّ المنافع والآثار مندكّة في ذات واحدة وهي التي تقسّمها.
المقدّمة الثانية: خصوصيّات وآثار التوحيد
أجل للتوحيد خصوصيّات وآثار، ولكن إذا أردنا أن ننظر إلى أنفسنا، نجد أنّنا نسير في الطريق المخالف، عندما نصل إلى منفعة نريدها لأنفسنا، وإذا أريد منّا أن نجعلها للآخرين لا نرضى، فيعلم من ذلك أنّا لم نصل إلى التوحيد.
فأنا من باب المثال لم أتزوّج ورفيقي الجالس قربي أيضًا لم يتزوّج، ولكن إذا رأينا امرأة جميلة أحبّ أن تكون زوجتي، هل فكّرنا في أنفسنا أنّ من الجيّد أن نقترح الزواج من هذه المرأة العفيفة النجيبة والحسناء ذات تلك الأخلاق والصفات أولاً على رفيقنا؟! إنّ عدم الالتفات إلى ذلك هو خلاف التوحيد.
أو لو طلب منّا فرضًا أن نقسّم مالاً فإنّا ندعو على الدوام أن تكون القرعة باسمنا، في حين أنّ من الممكن أن يكون رفيقنا أشدّ حاجة إليه، ولكنّا لسنا مستعدّين للتخلّي عن هذا المال، هذا خلاف التوحيد.
أو لو كان هناك منصب ومكانة يمكن أن تعطى لي ويمكن أن تعطى لإنسان آخر هو بيننا وبين الله أكثر لياقة منّي لها، ولكنّي لست مستعدًّا لأن أتنازل له عن هذا المنصب، هذا خلاف التوحيد.
فنحن في هذه الحالة والوضعيّة، فهذا جهلنا ومكانتنا في عالم الكثرة وهذا التوحيد وآثار التوحيد.
النتيجة: الذكر هو طريق الوصول إلى مرتبة التوحيد
والآن كيف يمكن أن نصل إلى هذه المرتبة؟
من جهة نرى أنّ الله قد جعل في وجودنا الاستعداد اللازم لرفع هذه النقائص والجهالات، وأرسل الأنبياء والأولياء وأمر بأوامر، فلو كان الإنسان فاقدًا للاستعداد لكان إرسال الرسل والشرائع لغوًا.
ومن جهة أخرى عندما نراجع عقلنا نجد أنّ عالم التوحيد عالم عجيب! عالم لا وجود فيه لـ "أنا" و"أنت" والجميع يجلسون على سفرة واحدة وصحن واحد، عالم مليء بالبهاء المطلق، والكمال المطلق، والجمال المطلق والعلم المطلق، في هذه الحالة لا عاقل يقول أنا أستاء من هذا العالم ومزاياه، فلو قال إنسان أنا لا أريد هذا المال الذي هو بكامله حلال وطيّب وطاهر فهو مجنون. كما أنّه لو كان في مكان ما علم وكمال عجيب ولم يرده الإنسان فهو مجنون.
فإذن من المعلوم أنّ الفطرة تقودنا دائمًا إلى العبوديّة ورفع الحجب وإزالة الأنانيّة وتسوقنا إلى عالم الإطلاق والتوحيد.
وبما أنّ الإنسان يمكنه أن يصل إلى مرحلة ليس فيها أيّ نوع من الأنانيّة والكثرة، وليس فيها إلا تجليّات حضرة الحقّ الذاتيّة، فهل يجلس الإنسان العاقل واضعًا يدًا على أخرى منتظرًا أم أنّه يبحث عن سبيل؟!
ماذا على الإنسان أن يصنع لكي يبلغ تلك المرتبة؟ وبأيّة وسيلة يتوسّل؟
إنّ ما يقطع الإنسان عن عالم الكثرة ويوصله إلى عالم الوحدة هو أن يذكر دائمًا الحبيب والمطلوب في وجوده حتّى يطرد بذلك ذكرى الكثرة.
منزل۱ دل نیست جای صحبت اغیار٢ | *** | دیو چو بیرون رود، فرشته درآید٣ |
يقول: ليس منزل القلب مكانًا لحديث الأغيار *** فإذا خرجت الشياطين حلّت الملائکة
إنّ ذكر الله يبدّل القلب والفكر، ويؤدّي إلى غياب ذكر الكثرة، ويبدّله إلى ذكر الله.
هذا هو الذكر، وهذا معنى: ﴿أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾۱ و ٢
أمّا أنّ الذكر كيف يؤثّر فهذا ما سنتحدّث عنه٣ [في النقطة التالية:]
كيفيّة تأثير الذكر
يقول أمير المؤمنين عند تلاوة الآية الشريفة ﴿رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله﴾٤: إنّ الله سبحانه جعل الذكر جلاء للقلوب.٥
وتوضيح سبب كون الذكر جلاء للقلوب متوقّف على مقدّمات:
المقدّمة الأولى: حقيقة القلب وقدرته على قبول تجليّات الذات
إنّ القلب هو تلك الحقيقة المنطوية في وجود الإنسان، وهو دائمًا مرتبط بمبدئه وبالحقّ تعالى. وقد شوّشنا ولوثّنا وكدّرنا نحن هذه الحقيقة الشفّافة النورانيّة التي هي محلّ نزول فيض الله، وذلك بواسطة أمور لا تناسبها أبدًا. فالله تعالى يقول: إنّ قلب المؤمن هو المكان الوحيد للتجليّات الذاتيّة الإلهيّة: لا يسعني أرضي ولا سمائي ولكن يسعني قلب عبدي المؤمن٦. وقد مزجنا هذا القلب الذي هو مكان الله بالنفس والرغبات النفسيّة.
ينبغي ألاّ نقارن سعة قلب المؤمن بسعة الكرة الأرضيّة والقمر وزحل والمشتري والمجرّات؛ وذلك لأنّ الأرض الواسعة هي من هذا التراب الذي نأخذ قبضة منه، وأصل جميع الكرات والكواكب والمجرّات هو من المادّة، وعالم المادّة والطبع هو أدنى مرتبة من المراتب الوجوديّة لحضرة الحقّ المتعال. والأكثر من هذا أنّ المراد بالسماء في عبارة لا يسعني أرضي ولا سمائي ليس مجرّد السماء الدنيا، بل يشمل أيضًا سماوات الغيب.
وبناء على ذلك فإنّ معنى الحديث هو أنّ سمائي بكافّة مراتبها وخصوصيّاتها لا يتّسع شيء منها لتجليّاتي؛ فسواء عالم المادّة أو عالم الملكوت والجبروت واللاهوت كلّها لا تتّسع، ولكنّ قلب عبدي المؤمن لديه قابليّة تلقّي تجليّاتي الذاتيّة.
ولكن ماذا نصنع نحن بهذا القلب الذي هو محلّ الله؟ إنّ تعلّقنا بالرئاسة والموقع والمقام والتعلّق بدراهم الدنيا ودنانيرها، والعلاقات مع الناس، أدّت أن يخرج الله من قلوبنا بشكل كامل.
المقدّمة الثانية: المحاسبة والحفاظ على القلب
روي أنّ الإمام الصادق عليه السلام قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: أفّ لرجل لا يفرّغ نفسه في كلّ جمعة لأمر دينه فيتعاهده ويسأل عن دينه.۷ والمراد من أفّ لرجل هو أنّي لا أريد أصلاً أن أرى إنسانًا كهذا، وهو ليس إنسانًا. على الإنسان أن يجلس على الأقلّ ساعة من يوم الجمعة أو من الأيّام الأخرى ويتفرّع لنفسه، لا أن يجعل فكره يجول هنا وهناك بحيث لا يجد مجالاً للتفكّر في نفسه! إن كان هذا الأسبوع قد مضى فإنّ الأسبوع الآخر سيمضي، وكذلك الأسابيع الأخرى، ففي النهاية متى تريد أن تفكّر في نفسك وأن تمرّ في خاطرك الحقائق والواقعيّات التي تأخذ بتلابيبك؟
نحن نخطّط من الآن لمعاملة ربّما تحصل بعد شهرين، فنقول: علينا أن نقوم بهذا العمل وبتلك المقدّمة ونرى فلانًا وفلانًا، ولكن هل فكّرنا يومًا بتلك المعاملة التي لنا مع الله والتي وُظّفنا بها بوظيفة في مقابل اليومين اللذين أعطيناهما من العمر؟!
وهنا ندرك حقيقة وعمق كلام أمير المؤمنين عليه السلام حين يقول:
"ولَألفَيتُم دُنياكُم۱ هذهِ أزهَدَ عِندي مِن عَفطَةِ عَنزٍ."٢
أجل هذا كلام أمير المؤمنين عليّ عليه السلام الذي كان كلّ قلبه موضعًا لله، وكان ارتباطه بالله قد بلغ مرحلة الكمال، وكان سرّه قد اتّحد بالله! ولو مضت علينا مائة سنة أيضًا فلا شكّ أنّنا لن نصل من حيث المعرفة إلى غبار أقدام أمير المؤمنين عليه السلام ولا بدّ أن نجعل غبار نعله كحلاً لعيوننا، ولكن والله لو أعطينا مثقال ذرّة من معرفة أمير المؤمنين عليه السلام لقلنا نحن أيضًا هذا الكلام ولنظرنا إلى الدنيا هذه النظرة!
النتيجة: السبب في كون ذكر اللهِ علاجًا للاهتمام بالدنيا وعلّة لصفاء القلب هو كون الله تعالى ثابتًا
إنّ القلب الذي هو مكان لتجلّي الرحمن قد لوّثناه بزعامات الدنيا والتجمّل والتخيّل والأمر والنهي، والافتراء على هذا وذاك، وعدم الاجتناب عن الأعمال التي تخطر في بالنا، كما دسنا هذا القلب بأرجلنا. إنّ العاقل هو من يدرك هذه المسائل حقّ الإدراك ويرتّب عليها أثرًا، ويكون مشغولاً بالتفكير بشقائه ومسکنته.
والآن ولكي نترك التوجّه إلى الدنيا، ولكي ترجع القلوب إلى صفائها السابق ذاك، نحتاج أن نضاعف من التوجّه إلى المبدأ في أنفسنا. وبعبارة أخرى، إنّ دواء التوجّه إلى الدنيا هو ذكر الثابتات، وليس هناك ثبات واستقرار وإتقان أكثر من ثبات حضرة الحقّ، حتّى النبيّ الأكرم والأئمّة عليهم السلام الذين هم وسيلة حركتنا نحو حضرة الحقّ، وهذا ما يجب ألاّ يغيب عن بالنا أبدًا.
بناء على ذلك فإنّ مراد أمير المؤمنين عليه السلام من قوله "إنّ الله تعالى جعل الذكر جلاء للقلوب" هو أنّه كلّما أوجد التوجّه إلى الدنيا صدأ في قلب المؤمن، فإنّ ذكر الله والتوجّه إلى المبدأ الذي هو ضدّ الدنيا يجلو هذا الصدأ، وتلك هي فائدة الذكر التي أكّد عليها في الروايات كثيرًا.٣
خلاصة واستنتاج
[تأثير ذكر الله وفائدته بالنسبة إلى المبتدئ هو صرف الإنسان عن عالم الكثرة وإعادته إلى عالم الوحدة والتوحيد الأمر الذي يهبه الطمأنينة والصفاء والطهارة، وأمّا بالنسبة إلى الواصل فهو حصول التجليّات.
السبب في كون ذكر الله مورثًا للطمأنينة والصفاء هو أنّ المذكور ثابت في حين أنّ كلّ ما سواه زائل متغيّر. ]