المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني
القسم السير الذاتية والتراجم
التاريخ 1435/06/27
التوضيح
مقالة مختصرة كتبها سماحة آية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني قدس سره كبيان مختصر لمباني والده سماحة العلامة الحاج السيد محمد الحسين الحسيني الطهراني قدس سره في مجال العرفان و السير و السلوك و كذلك في المجال الاجتماعي و السياسي.
هو العليم
سناءُ الأبَديّةِ
بيانٌ إجمالي للمباني العرفانية و الاجتماعية للعلامة الطهراني
سماحة آية الله
السيّد محمّد محسن الحسيني الطهراني
قدس الله سره
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
يقوم نظام عالم الوجود على أساس الحقّ والإتقان، ويتمتّع النظام الوجودي للإنسان -من بين سائر مخلوقات اللَه- بمميّزات النظام الأكمل، ولذا استحقّ أن يلبس خِلعَة خليفة اللَه، وأن يحوز على مرتبة الفعلية التامّة في الوجود، يعني: ظهور جميع الأسماء والصفات الإلهيّة الكليّة لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ في أَحْسَنِ تَقْويم.
وبناءً على هذا، ينبغي أن يقوم النظام التربوي والسلوكي للإنسان على النظام والأسلوب الذي يمكن أن يكون الأكثر إتقانًا والأشدّ متانةً واستحكامًا وأصالةً في عالم الوجود والتصوّر، بحيث يكون ذلك النظام قادرًا على أن يتكفّل بهذه المهمّة وأن يُنجِح هذه الوظيفة والمسؤوليّة. وقد أنيطت هذه المهمّة على عهدة الأنبياء الإلهيّين، وجعلت هذه المسؤولية في أعلى وأرقى مراتبها الممكنة بعهدة الأئمة المعصومين عليهم السلام؛ ومن خلال الاهتداء بتعاليمهم وأوامرهم والاتباع لمنهجهم فإنّ هذا الأمر سيتحقّق بالتأكيد.
يُقسِّم أمير المؤمنين عليه السلام جميع أفراد الناس إلى ثلاث مجموعات:
المجموعة الأولى: العالم الربّاني الذي يشعر بحقائق عالم الوجود ويُدرك حوادثه بعين الشهود وبصيرة القلب بالعلم الحضوري والشهود العيني. وفي هذه المرتبة من العلم لا سبيل له للرجوع إلى آراء الآخرين والكتب والمجلات والجرائد والأخبار وغيرها، وليس لكلام الآخرين وفهمهم أي تأثير على فهم وإحساس هكذا إنسان، وبتعبير آخر: تمسّكوا بجملة الإمام: «وباشروا روح اليقين».
وأهل هذه المجموعة هم الأنبياء الإلهيّون، وعلى رأس الجميع الأئمّة المعصومون عليهم السلام، وكذلك العرفاء باللَه؛ ولهذا السبب صار اتّباعهم واجبًا عقلًا وشرعًا.
المجموعة الثانية: وهم الأفراد الذين أطاعوا وانقادوا في المسير المجموعةَ الأولي، وكانوا يتقبّلون بقلوبهم وأرواحهم كلّ ما يصل إلى سمعهم وبصرهم منهم، ويعودون لهم في مقام العمل. وقد عبّر عنهم عليه السلام بأنهم: «متعلمٌ على سبيل نجاة». ويرى هؤلاء بأنّه الطريق للفلاح في الدنيا والآخرة منحصرٌ في اتباع العالم الربّاني بالبيان الذي ذُكر، وألزموا أنفسهم بذلك.
وأمّا المجموعة الثالثة: فهم سائر الناس والفرق على اختلاف أشكالهم وأصنافهم وجماعاتهم، وقد قسّم أمير المؤمنين عليه السلام هذه المجموعة إلى قسمين: البعوض المتحيّر، والذباب الحائر الطائر في الهواء۱؛ فهم كذلك تائهون في حركتهم ومسير حياتهم، مبتلون بالشكّ والحيرة في ممشاهم وطريقهم، هائمون على وجوههم، مضطربون قلقون، لا يجدون طريقًا أو سبيلًا للهداية إلى عالم النور.
على ضوء هذا التقسيم الحصري، فإنّ الفرد الذي يجد سبيلًا إلى فضاء الحقيقة والشهود العيني، هو الذي أدرك حقيقة التوحيد وعرفها حقّ المعرفة من خلال السير والسلوك في المنازل والعوالم الربوبيّة بقلبه وضميره (وليس بالمطالعة والتفكر والدرس والتحقيق). وأمّا في غير هذه الحالة، فإنّ على الإنسان إمّا أن يجعل خطواته تبعًا لهَدى هذا العالم الربّاني وينقاد له، ويحصر توجّه وعمله بأوامره وتكاليفه؛ وهذا الإنسان سيوفّق للوصول إلى نفس تلك المرتبة من الفلاح والهداية، وإمّا أن يستنكف الإنسان عن طاعة شخصٍ كهذا ويستنكف اتّباعه، ويرفض ذلك -سواءً كان من الذين حازوا على مرتبة من مراتب العلميّة والظاهريّة، أم كان من المنغمسين في الجهل وعدم الاطلاع على العلوم والفنون- فإنّ كلا القسمين سيكونون مندرجين تحت المجموعة الثالثة.
من الواضح جدًّا، بأنّ اشتغال الإنسان بالعلوم والفنون الظاهريّة من دون مراعاته للتهذيب والتزكية، ومن دون طي المراتب السلوكيّة، والاستفادة من الأنوار والنفحات القدسيّة الربّانية؛ لن يُكسبه إلّا تكديس حفنة من المعلومات والمحفوظات؛ وسيبقي الإنسان على حاله في حالة من الحيرة والشك والجهالة في مسير حياته.
إنّ الهداية في ثقافة الشريعة الإلهيّة وقاموسها تعني الوصول إلى حاقّ الواقع، وظهور الحقيقة والواقعيّة؛ وليس مجرّد العمل بالحكم والتكليف الظاهري من دون الأخذ بعين الاعتبار الوصول للواقع وانكشاف سرّ وباطن حقائق عالم الوجود؛ ولذا فإنّ العلماء والأفراد المطّلعين على العلوم والرسوم الظاهريّة، والذين بنوا أفكارهم وآرائهم على أساس المسموعات والمجرّبات الظاهريّة والمطالعات اليوميّة وعلى أساس غلبة التخيلات التي نتجت عن الشائعات، إنّ هؤلاء لا يُمكننا عدّهم من زمرة العلماء الربّانيين؛ لأنّ آراءهم وأحكامهم التي يصدرونها تتشكل بناءً لِلمسموعات وإعمال السلائق الفرديّة؛ بل كثيرًا من الأحيان ما تكون ناشئة من الأغراض النفسانيّة سواء في أنفسهم أم في أنفس المحيطين بهم؛ فهؤلاء ليس لهم أي نصيبٍ من الأمور الراسخة في عالم الواقع والحقيقة.
ومن هنا، لا يمكن للإنسان أن يتّخذ أمثال هؤلاء أسوةً يقتدي بهم ويطيعهم.
ولهذا السبب يجد الإنسان في آراء هؤلاء الأشخاص وأفعالهم ومواقفهم اختلافًا وتناقضًا وتضادًا، ويري تغير الأنظار وإظهار الندم منهم.
إنّ العلّامة الحاجّ السّيد محمّد الحسين الحسيني الطهراني -رضوان اللَه عليه- يُعدّ حقّاً من مصاديق المجموعة الأولى، بل إنّه يحتل مقامًا مبرّزًا ومنزلةً خاصّةً بين الأولياء الإلهيّين والعلماء باللَه والعرفاء بأمر اللَه، حتّي أنّ مقامه أعلى وأعظم من الكثير منهم.
إنّ تميّز العلامة الطهراني ليس من جهة اطّلاعه وتسلّطه على العلوم والفنون الظاهريّة المتعارفة من قبيل الفقه والأصول والفلسفة والعرفان النظري وغيرها؛ فإنّ مثل هذه العلوم كانت حاصلةً عند العديد من الأفراد، فقد كان لأعاظم العلماء الشيعة من أمثال الفارابي وابن سينا وصدر الدين الشيرازي والشيخ الطوسي والشيخ الأنصاري والعلامة الحلّي مقاماتٍ عظيمةً ومنزلةً راقيةً في هذه العلوم.
ولكنّ الخاصيّة التي تُميّز العلّامة الطهراني هي إشرافه واطّلاعه على الأمور والحقائق التي لا يُمكن أن يحصّلها الإنسان من خلال هذه العلوم والدراسات الرسميّة، بل تحتاج إلى المراقبة السلوكيّة والسير والسلوك إلى اللَه والوصول إلى مقام القرب والتجرّد، والارتواء من نبع الماء المعين والأنوار الجمالية والجلالية للذّات الربوبيّة المقدّسة.
بناءً على هذا، ينبغي أن يكون محور الحديث عن شخصيّة العلّامة الطهراني -قدّس اللَه سرّه- ومقامه مُنْصبًا على مراتب التوحيد والتجرّد وعرفان الحقّ التي بَلغها، وعن إحاطته بالحقائق الربوبيّة، لا على المراتب العلميّة والفنون الرسميّة المتعارفة التي حصّلها؛ وذلك لأنّه في هذا المجال كسائر الأفراد من العلماء العظام فقد مرّ بمراحل من التغيّر والتطوّر في أفكاره وفهمه في العلوم والفنون وحصل له تبدّلٌ في آرائه الفقهيّة وغيرها. وهذه مسألة طبيعيّةٌ وعاديّةٌ؛ فكم يتفق أن يكون له رأي وفتوي في مسألةٍ معيّنة في سنين شبابه وما بعدها، ثمّ يتغيّر رأيه في ذلك الموضوع في أواخر عمره، كما هو مشهود بوضوح في رسالة صلاة الجمعة التي ألّفها.
إنّ الغفلة عن هذه النقطة المهمّة جدًا والحيويّة للغاية هي التي سببت الانحراف في فهم الكثير من الأفراد ومعرفتهم لمنهج الأولياء الإلهيّين، وأوجبت الخطأ عندهم في تشخيص مباني العرفاء باللَه ومميّزاتهم، فتراهم يشتبهون بسبب الجهل والغفلة عن هذه المسألة فينسبون أمورًا إلى أولئك الأعاظم تكون بعيدة عن ساحتهم العلمية، ومُباينةً بل مناقضةً لإشرافهم النوري.
لا ريب ولا شك بأنّ العلّامة الطهراني في الرابعة والثلاثين من عمره يختلف اختلافًا جدّياً عنه في الستين والسبعين من عمره الشريف، فحتّي يتعرّف الإنسان عليه ويُعرّفه للآخرين، يجب أن يَصبّ بحثه وتحقيقه وتأمّله على شخصيّته وشاكلته الوجوديّة في السنين الأخيرة من عمره.
ومن الموارد التي يُمكن الإشارة إليها في مجال اختلاف رؤية سماحته مع سائر الأفراد من أهل العلم والاطّلاع بسبب معرفته وإشرافه النوراني مسألة الاغتيال والفتك، وذلك أنّ سماحته كان يخالف هذا الأمر بشدّة، وقد كرّر الحديث عن ذلك مرارًا في مجالسه قائلًا: لا يوجد اغتيالٌ في الإسلام، والإسلام قد حذف هذا الأمر وألغاه، وكان يستشهد في هذا المقام بالحديث المعروف: إنّ الإسلام قيّد الفتك۱. ولهذا السبب لم يُقدِم مسلم بن عقيل- سلام اللَه عليه- سفيرُ صاحب الولاية الإمام سيّد الشهداء - عليه السلام- على اغتيال عبيد اللَه بن زياد- لعنه اللَه- ولم يقتله في منزل هانئ بن عروة، وذلك لأنّ سفير الإمام المعصوم بواسطة اتصال نفسه بالإمام وإشراف المعصوم عليه لا يمكن أن يقوم بعمل مخالفٍ لرضا المعصوم وإرادته.
ومن هنا، كان العلّامة الطهراني يعتقد اعتقادًا جازمًا بأنّ المتَصدّي والمسؤول في الحكومة لا بدّ أن يكون متّصلًا بمصدر الولاية ومرتبطًا بالإمام المعصوم عليه السلام، وحينئذٍ فإنّ ما يصدر منه من كلامٍ أو تصرّفات سيكون نابعًا من تلك العين الصافية وناشئًا منها.
في مدرسة التشيّع، تتبلور السياسة والحكم في ظلّ الإشراف على حقائق الأحداث والوقائع العالميّة من مقام الشهود المتولّد والناتج عن الاتّصال بالصقع الربوبي وذات الحقّ تعالى، والاطّلاع على عالم الغيب؛ ففي هذه الحالة فقط يُمكن الوقوف في وجه السياسات الاستعماريّة المعقّدة، والمخطّطات الشيطانيّة المزيّفة والمحتالة، والخدع والحيل المحوِّلة للأفكار والنفوس، والمسموعات والمكتوبات والمظاهر الخدّاعة والمكارة والمُغوية التي يستخدمها أعداء الإسلام، فلا يتأتّى لها أبدًا إيجاد أيّة ثغرةٍ في قرارات المتصدّي للزعامة والحكم وإرادته وعزمه المنبثقين من الشهود والإحساس اليقيني بحقّ اليقين، فلا تجد ذهنه وفكره يقفز في كلّ يومٍ وساعةٍ من قرارٍ إلى قرارٍ آخر، ومن رغبةٍ إلى رغبةٍ أخري؛ ولهذا، لا يكون فكر العارف ناتجًا أبدًا عن الوقائع والأحداث السياسيّة والاجتماعيّة، بل ينبغي أن تكون سياسته معلولةً ووليدةً لإشرافه الباطني وولايته على تلك الوقائع والأحداث.
ووفقًا لهذه الرؤية، يصوغ أفراد المجتمع قِيمهم وأصول نظامهم الاجتماعي والسياسي وفروعه اعتمادًا على محوريّة الحقّ والتوحيد، فلا يكونون خاضعين للظروف السياسيّة والاجتماعيّة، ولا يقيسون قيمة أعمالهم وتصرّفاتهم بتلك الظروف والمصالح.
وفي مدرسة التشيّع، يتبلور الفقه- أي التكاليف والأحكام الصادرة من الشرع- في ظلّ معرفة الحقّ تعالى بالشهود والتوحيد العينيّين، وينبغي على المتصدّي لمقام الإفتاء أن يكون واصلًا لهذه المرتبة من التوحيد والمعرفة الإلهيّة، حتّي يتسنّى له إصدار الحكم والفتوي في مجال أفعال المكلّفين والأحكام ذات الصلة بالمجتمع الإسلامي من إرادة وعزم منبثقين من مقام الشهود، والإشراف على الحقائق والقضايا الخارجيّة عن طريق الاتّصال بعالم الملكوت؛ ولهذا، كان المرحوم العلّامة الطهراني يقول: لا يجوز للمرجع إصدار فتوي واحدة عامّة تشمل جميع المكلّفين وتعمّ كافّة القضايا المتشابهة، بل ينبغي عليه أن يُصدر في حقّ كلّ فردٍ حكمًا خاصًّا يُناسبه، وذلك من خلال الاطّلاع على نفسه وخصائصه الوجوديّة وصفاته وشاكلته؛ وما أكثر ما كان إصدار الفتوي الواحدة موجبًا لهلاك أحد الناس وانحرافه!
وسعة الصدر هذه والشعور بالمسؤولية اتجاه جميع العباد والاهتمام بهداية وفلاح جميع الناس -والتي كانت بسبب معرفته التوحيديّة والشهوديّة - جعلته يعتقد بأنّه ينبغي على الرجل الإلهي والعارف باللَه والعالم بأمر اللَه ألاّ يجعل دائرة تبليغه مختصّة بأفراد محدّدين ومنطقةٍ معيّنةٍ، بل عليه أن يفتح باب الهداية والإرشاد والنصيحة أمام جميع أفراد الإنسان دون استثناء، بل حتّي رؤساء الدول والحكومات، وأن يعمل على طبق رسالة النبي والأئمّة المعصومين عليهم السلام في هداية جميع الناس.
وهذه النقطة مهمةٌ جداً وجديرةٌ بالتأمّل، وهي كيف كان الفهم والعقل والفطرة هي الأصل والأساس في المعرفة الإنسانيّة والتكامل الذي يحصل للناس، بل هي أساس الأديان الإلهيّة والتزكية والتربية والسير والسلوك إلى اللَه، حتّى غدا السلوك من دون فهمٍ بمثابة دوران الحيوان حول محور لا يجعله يتغيّر أو يتبدّل، ولا تتدرّج نفسه في مدارج الكمال نحو عالم القدس. وكان دائماً عندما يسأل عن أحوال تلامذته وروحيّاتهم، فكان يقول: كم زاد فهمهم وإدراكهم، أنا لا أسأل عن مناماتهم ومكاشفاتهم وما تظهره أنفسهم!
وكان يؤكد كثيرًا على المطالب المحقّة للناس، وبالأخصّ جيل الشباب، فكان يقول: إنّ هؤلاء أقرب من سائر الناس إلى الفطرة الإلهيّة والصفات والخصال الربوبيّة التي استودعها اللَه تعالى في نفوس البشر، ولا يمكن للحكومة والمجتمع الإسلامي أن يهمّش أسئلتهم أو يهمل مطالبهم الحقّة.
حتّي أنّه كان يقول في حقّ أستاذه في العرفان والسير والسلوك المرحوم الحاجّ السيّد هاشم الحداد رضوان اللَه عليه بأنّي لم أرَ من هو أعقل منه في هذه الدنيا، وهذا الأمر عجيب جداً! بحيث إنّ المجتمع البشري لم يصل إلى هذه المسألة بعد، ويمكننا أن نلمس آثار ذلك في المجريات والحوادث الاجتماعيّة. ولهذا السبب قيل بالنسبة إلى زمن ظهور الإمام بقية اللَه أرواحنا فداه بأنّ ذلك الزمان موجب لكمال عقول الناس.
وبناءً على هذا التفكير العقلاني في تحديد ضوابط العمل في المسائل الاجتماعيّة وتربية السالكين، كان يعتقد بأنّه ينبغي على الإنسان أن يسعي للوصول إلى أعلى مرتبةٍ من مراتب الكمال في سيره الروحي وفي تكامل العلوم الظاهريّة، ولا يتنازل عن تلك المرتبة أبدًا.
قال لهذا الحقير يومًا: «يا فلان! أنا لا أقنع لرفقائي بأقل من مقام سلمان ومرتبته!».
وكان دائماً يحثّ تلاميذه للوصول إلى أعلى مرتبةٍ من الكمال، حتّي بالنسبة إلى العلوم الظاهريّة؛ كالطبّ والهندسة وغيرها من الأمور، وكان يُوصي الأشخاص بالذهاب إلى أفضل متخصّصٍ في أي تخصّصٍ يريدون الرجوع إلىه، وكان يَرجع في علاجه إلى أشهر وأفضل الأطبّاء الموجودين. وفي نفس الوقت كان ينهي وينتقد بشدّة الرجوع إلى الأطباء في بلاد الكفر والدول الأجنبيّة، وخصوصًا إذا كان الذي يرجع إليهم من العلماء ومبلّغي الشريعة، وكان يقول في ذلك: لماذا نمدّ يد الاستجداء للأجانب والكفار، في حين أنّه يوجد أفضل الأطباء وأحذقهم في البلاد الإسلاميّة، والحال أنّنا في شعاراتنا نطرح الفارق الكبير بين ثقافتنا وثقافتهم، لكن حينما نشعر ونتوهّم بالحاجة في المسائل الطبيّة إلىهم نسرع إلى بلاد الكفر، فكأنّنا نقول في ذلك بأنّ هذه الإعلانات وهذه الكلمات والادعاءات والشعارات التي نرفعها عبارةٌ عن طبلٍ كبيرٍ خالٍ من المحتوي، وأنّ كلامنا لا يرجع إلى أساسٍ واعتقادٍ عميقٍ، بل أطلقناها لأجل جذب الانتباه وتحريك الإحساسات ورعاية مصالحنا الشخصيّة والدنيويّة فقط لا غير.
وكان مراراً يدخل المستشفى بسبب الأمراض التي كان يُبتلي بها؛ من قبيل تمزّق شبكيّة العين، وانسداد مجاري الصفراء، ومرض القلب وديسك الظهر وغيرها من الأمراض، وكان بعض معارفه -بل حتّي الأطبّاء- يوصونه بالذهاب إلى الخارج والتداوي هناك، فكان يجيبهم ويقول:
بماذا أجيب رسول اللَه يوم القيامة إذا سألني: لماذا مددت يد الاستجداء للأطباء الأجانب، مع وجود الأطباء المسلمين الجيّدين والمتخصّصين، وأنّك بهذا العمل أرقت ماء وجه الدين الحنيف والشريعة المحمّديّة، وعملتَ على إذلال الإسلام وإظهار التفوق الظاهري والعلمي لهم؟
لقد كان العلامة الطهراني دقيقًا جدّاً في المسائل الاجتماعيّة، ومن الطبيعي أنّ هذه المرتبة من النبوغ والتفوّق يمكن أن تكون ناشئة من إشراف نفسه الملكوتيّة وإحاطته الغيبيّة بالعوالم الربوبيّة.
وكانت حساسيته بارزةً جدّاً من عملية رفع الكلمات العربيّة من الثقافة الفارسية واستبدالها بكلماتٍ فارسيّة الأصل؛ من قبيل رفع كلمات (مراسم، وتجليل، ومجالس الترحيم والمغفرة، وتحقيق، وغيرها ...)، واستبدالها بكلماتٍ فارسيّة تحمل هذه المعاني؛ حتّي غدت هذه الكلمات البديلة رائجة في الأوساط الحوزويّة أيضًا.
كما عمل على التأكيد الكبير على ترسيخ التاريخ الهجري القمري والقضاء على العادات الجاهلية؛ كمسألة النيروز، واستبدالها بالمناسبات الإسلاميّة والمراسم والسنن الإلهيّة الأصيلة؛ من قبيل إحياء عيد الأضحى وعيد الفطر والغدير ويوم المبعث ومولد صاحب الولاية الكبرى الإمام الحجّة ابن الحسن أرواحنا فداه، بالإضافة إلى سائر الأعياد والمناسبات المرتبطة بالمعصومين عليهم السلام. وكان هذا الأمر مشهودًا وواضحًا لدي الجميع.
وكان المرحوم العلامة الطهراني يعتقد بأنّ حقيقة الدين وأساس الشريعة يتمثّل في ولاية أولياء اللَه؛ أصحاب الولاية الكبرى الأئمّة المعصومين عليهم السلام، وأنّ الشريعة من دون الولاية عبارة عن ثمرة لا لبّ فيها. وكان جميع همّه منصبًا على بيان هذه المسألة والتبليغ لها وشرحها، وكان يقول: لم تطرح مسألة الإمامة والولاية في مجتمعنا بالشكل الذي ينبغي أن تطرح به.
في حين أنّنا نلاحظ أنّ اطّلاع الناس على خصوصيّات هذه القضيّة وحقيقتها قليلٌ جدّاً، وأنّه لا معرفةَ لهم بمنزلة ومكانة أئمّة الهدي صلوات اللَه عليهم أجمعين، لذا ابتعدوا عنهم في حياتهم وممشاهم.
كما كان العلامة الطهراني يُبدي حساسيةً عالية اتجاه استخدام العبارات والأوصاف الخاصّة بالمعصومين عليهم السلام في غيرهم، ولم يكن يسمح بذلك أبدًا، وإذا شاهد خلاف ذلك في موردٍ من الموارد كان ينزعج كثيرًا.
يرى العلامة الطهراني بأنّ حفظ دين الناس في المجتمع وتكاملهم في مسير الكمال من جملة الوظائف الهامّة والحساسّة للحكومة الإسلاميّة، يقول في هذا الصدد: إنّ وظيفة الدولة الإسلاميّة أن تهيّئ وسائل تكامل الناس في المجتمع وتَرقّيهم من جهة الأمور المعنويّة ومن جهة العلوم الظاهريّة، وعليها أن تؤمّن ذلك قدر المستطاع، بالإضافة إلى أنّه ينبغي على المسؤولين والمتصدّين للعمل أن يعملوا على تأمين العدالة الاجتماعيّة والرفاه المعيشي، وأن يحافظوا على دماء الناس ونفوسهم وأعراضهم. ولم يكن يري أي فرق أو اختلاف في هذه المسألة بين فرد من أفراد المجتمع؛ سواء كان متمكناً أم لا، بل يرى بأنّ جميع الناس متساوون في الحصول على المراتب العالية والضرورات الاجتماعيّة.
كان العلّامة الطهراني متواضعًا جدّاً أمام أساتذته في العرفان والسير والسلوك، وبالأخص أستاذه على الإطلاق والعارف الفريد المرحوم الحاجّ السيّد هاشم الحداد رضوان اللَه عليه؛ حيث كان يرى نفسه صفرًا أمامه، ولم يكن هذا الأمر منه تظاهرًا أو تصنّعاً، بل كان ينبع من إحساسه الواقعي وشعوره الحقيقي اتجاهه. وهنا لا بد من الإقرار بأنّ سرّ امتياز المرحوم العلّامة الطهراني عن سائر الفقهاء والعلماء الأعلام يكمن في تربيته السلوكيّة وكشف الحقائق الربوبيّة من قبل أستاذه المرحوم السيّد الحداد. وكان طوال ثمانية وعشرين عامًا منقادًا لأستاذه؛ بحيث أنّه إلى آخر لحظةٍ من حياة أستاذه كان يمتثل أمره في جميع أموره الاجتماعيّة وتصرّفاته، بل حتّي في مسألة هجرته إلى مشهد المقدّسة، وحالاته السلوكيّة، وتربيته للتلاميذ، وبطبيعة الحال لم يكن في هذه الحالة بحاجةٍ إلى ارتباطٍ ظاهري وتماسٍّ واضحٍ عبر إرسال الرسائل وغيرها.
لقد استطاع المرحوم العلّامة الطهراني- من خلال توفيقه بالسكن قرب العتبة المقدّسة لثامن الحجج على بن موسي الرضا عليهما السلام- أن يُدوِّن بعض المباحث الهامّة في الكلام والاعتقاد والاجتماع والسلوك بلغةٍ بسيطةٍ، يتمكن عامّة الناس من الاستفادة منها بسهولة، باسطًا مائدة الإنعام الإلهيّة للجميع، وقد قال مرارًا: كلّ من يقرأ هذه التأليفات بعنايةٍ وتأمّل، ويعمل بمضامينها فسوف يُفتح له الباب للسير نحو عوالم القدس قطعًا.
بناءً على ذلك، نوصي السائرين في وادي الأمان والباحثين عن مسير التجرّد والتوحيد بأن يطالعوا هذه الكتب ويستمعوا إلى التسجيلات ويدقّقوا فيها، ولا ينظروا إلى معاني ومفاهيم الآثار التي تركها هذا الشخص الإلهي نظرة تساهلٍ وتهاونٍ، وليعلموا بأنّ هذه الحقائق ليست كسائر الكتابات والمسموعات الناشئة من الأمور العاديّة والمتعارفة، بل ناشئة من الشهود وبصيرة القلب ونورانيّة الضمير والاتصال بالعوالم الربوبيّة، وهي مختلفةٌ اختلافًا جوهريّاً وماهويّاً عن سائر التأليفات والمصنّفات.
والسلام عليه يوم وُلدَ ويوم مَات ويوم يُبعث حيّاً
السيّد محمّد محسن الحسيني الطهراني
٢۷ جمادي الثانية سنة ۱٤٣٥ هـ.ق