المؤلّفالهیئة العلمیة لموقع مدرسة الوحي
القسم العقائد
التوضيح
أهم محتويات المقالة:
- تفسير قوله تعالى: يا أبت إني قد جاني من العلم ما لم يأتك ...؛
- ثمرتان لبرهان الآية: ضرورة رجوع العاميّ إلى الأعلم، وضرورة الرجوع إلى الإمام لكونه الأعلم؛
- جواز الرجوع إلى غير الأعلم عند ضعف احتمال مخالفة الواقع؛
- إمامة الجواد عليه السلام وهو ابن سبع سنين؛
- وقفة مع كثرة الأحاديث حول ضرورة الإمام الحيّ والميتة الجاهليّة بغير معرفته؛
- ظهور علوم الإمام الجواد عليه السلام مع سياسة المأمون؛
- شهادة الإمام الجواد عليه السلام بسمّ المعتصم.
هو العليم
ضرورة معرفة الإمام الحيّ ووجوب تقليد الأعلم
من خلال سيرة الإمام الجواد عليه السلام وكلماته
بحث منتخب من آثار سماحة العلاّمة
آية اللـه السيّد محمد الحسين الحسيني الطهراني
رضوان اللـه عليه
إعداد: الهيئة العلمية في موقع مدرسة الوحي
أعوذ باللـه من الشيطان الرجيم
بسم اللـه الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين
والصلاة والسلام على سيّدنا ونبيّنا أبي القاسم محمد
وعلى آله الطيبين الطاهرين
واللعنة على أعدائهم أجمعين
تفسير قوله تعالى: يا أبت إني قد جاني من العلم ما لم يأتك ...
قال الله الحكيم في كتابه الكريم:
{يَا أبَتِ إنِّي قَدْ جَآءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأتِكَ فَاتَّبِعْنِي أهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا}.۱
مفاد هذه الآية هو محادثة إبراهيم عليه السلام لمربّيه آزر الذي كان عابدًا للأصنام ومشركًا بالله تعالى، واحتجاجه عليه.
ولمّا أناطت الآية وجوب الاتّباع بعلم إبراهيم وعدم علم آزر، فيستفاد منها ـ إذن ـ أنَّ على كلّ جاهلٍ اتّباع العالم. أي أنَّه يقدِّمُ رأيَ العالمِ وإرادَتَه على رأيه وإرادته الشخصيّة في شؤونه، ويجعل ذلك بديلًا عن طموحاته ورغباته الخاصّة. وفي هذه الحالة فإنَّه يتلذّذ ويتنعّم بسبب اتّباعه للعالم ويتمتّع بالمواهب الإلهيّة المعروضة للإنسان في الصراط المستقيم.
يقول الكبار من أهل العلم إنَّه تمّ التصريح بسبب الاتّباع في هذا الكلام، وإنَّ أمر إبراهيم مقرونٌ بالدليل والبرهان، وهو قوله: {جَآءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأتِكَ}، فما عليك إلاّ الاتّباع حتّى أهديك إلى طريق السعادة وكمال الإنسانيّة وظهور المواهب الكامنة. وهذا أمر يرتكز على الفطرة وحكم العقل برجوع الجاهل إلى العالم في شؤونه المختلفة.
ثمرتان لبرهان الآية: ضرورة رجوع العاميّ إلى الأعلم، وضرورة الرجوع إلى الإمام لكونه الأعلم
يمكننا أن نقتطف من كلّيّة هذا البرهان ثمرتين:
الأولى: رجوع العامّيّ إلى العالِم، ووجوب تقليده في المسائل الشرعيّة الفرعيّة، بل وجوب رجوع العامّيّ إلى الأعلم. هذا مع أنَّي لحدّ الآن لم أجد أحدًا من العلماء الكبار قد استدلّ في الكتب الأصوليّة في مسائل الاجتهاد والتقليد بهذه الآية على لزوم تقليد الأعلم.
أمّا رجوع العامّيّ إلى العالم فسببه أنَّ العامّيّ لا يعلم والعالم يعلم ولذلك فرض إبراهيم على مربّيه اتّباعه.
وأمّا رجوع العامّيّ إلى الأعلم، فلأنَّ الأعلم أفضل الموجودين اطّلاعًا وتبحّرًا، وأكثرهم علمًا وقدرةً على الاستنباط في جميع المسائل. فالعالم أقلّ من الأعلم علمًا واطّلاعًا وقدرةً، فهناك جوانب وزوايا في جميع المسائل قد وصل إليها الأعلم واكتشفها بَيدَ أنَّ العالم لم يصل إلى تلك الدقائق ولم يتمكن منها، فإذا رجع العامّيّ إلى العالم ولم يرجع إلى الأعلم، فإنَّه يكون قد اتّبع غير العالم في تلك الجوانب والمسائل الدقيقة، وأمّا إذا رجع إلى الأعلم في خصوص هذه المزايا وخواصّها، فإنَّما يكون قد اتّبع العالم الذي هو نفسه الأعلم، وبالتالي فإنَّه قد رجع إلى العالم في جميع الخصوصيّات التي يجهلها، سواء كانت تلك الخصوصيّات ممّا يعلمها العالم والأعلم كلاهما، أو كانت ممّا يعلمها الأعلم فقط. وقد ألزم إبراهيم آزر أن يتّبعه بوصفه عالمًا في جميع الجوانب والخصوصيّات التي لا يعلمها بشكلٍ مطلق.
الثانية: وجوب اتّباع الإمام، وأنَّ الإمام ينبغي أن يكون أعلم الجميع وأفضلهم، ولو تساوى علمه مع البعض فرضًا أو كان علمه أقلّ منه، فإنَّه سوف لن يعدّ إمامًا بالنسبة إلى ذلك البعض. وفي الحالة الأولى سيكون ترجيحًا بلا مرجّح، وفي الحالة الثانية سيكون ترجيحًا لمرجوح. لذلك فإنَّ على جميع أفراد الأمّة أن يتّبعوا الإمام؛ لأنَّ لديه علمًا لم يتيسّر لأحدٍ منهم؛ وفي ضوء هذا المعيار، أمر إبراهيم مربّيه آزر أن يتّبعه.
فإنَّ مسألة رجوع الجاهل إلى العالم مسألةٌ فطريّةٌ وعقليّة، والناس جميعهم يحتاجون إليها في شؤون الحياة كلّها. فالمريض ينبغي له أن يراجع الطبيب المتخصّص، وإلاّ فسوف يدركه الموت. والبنّاء مع عمّاله ينبغي لهم أن يراجعوا المهندس المعماريّ الخبير، وإلاّ فالخلل والدمار سيكونان حليفا بنائهم.۱
ولأجل بيان هذه المسألة نقول:
لا ريب بأنّ المِلاك في حُجّية أيّ فعلٍ أو قولٍ: هو انطباقه على حاقّ الواقع ونفس الأمر، وإلاّ فذلك القول بحدّ ذاته لا يختلف في شيء عن بقيّة الأقوال والعبارات. وهذه المسألة فطريّةٌ وعرفيّةٌ وشرعيّةٌ ومنطقيّة. ففي العرف لا يُنظر عند تمييز الكلام الصحيح عن السقيم إلى المنزلة الاجتماعيّة والاعتبارات الدنيويّة، بل يكون النظر منصبًّا على القرائن والشواهد التي ترفع من درجة وثاقة الكلام في ارتباطه بحاقّ الواقع، حتّى لو لم يكن المتكلّم حائزًا على شأنٍ أو منزلةٍ خاصّتين؛ ولهذا يُقال: إنّ الكلام الأوّل للأطفال وحديثهم الابتدائي يكون حجّةً؛ إذ الطفل لا يتفوّه أبدًا بما يُخالف الواقع وما شاهده، اللهمّ إلاّ أن يتعرّض بعد ذلك لإغواء الآخرين من خلال التهديد أو التطميع.
وعليه، فإنّ القول بحتميّة حجّية كلام المعصوم ـ عليه السلام ـ في مقابل كلام بقيّة الناس (حتّى العلماء والفقهاء منهم) هو من هذا الباب، أي: مع وجود إنسانٍ عالمٍ وفقيهٍ في زمان المعصوم عليه السلام، فإنّ علمه يُعدّ جهلًا في قبال علم الإمام عليه السلام، والإمام أعلم بالنسبة إليه. والمنشأ في هذه الحجّية ليس هو عنوان الإمامة ولزوم المتابعة، بل المنشأ في ذلك هو إصابة علم الإمام ـ عليه السلام ـ لحاقّ الواقع، واحتمال إصابة غيره له.
وبعبارة أخرى: إنّ العصمة هي السبب وراء حجّية فعل المعصوم ـ عليه السلام ـ وقوله، وليس التعبّد؛ والتعبّد الذي هو أمرٌ اعتباريٌّ ناشئٌ من نفس هذه المسألة الفطريّة والتكوينيّة، وهذه المسألة هي المنشأ والمبدأ لإصدار الحكم بلزوم اتّباع المعصوم، خلافًا للأشاعرة الذين لهم معتَقدٌ آخر.
ولهذا ورد في القرآن الكريم: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذينَ يَعْلَمُونَ والَّذينَ لا يَعْلَمُونَ}۱، مع أنّ الخطاب موجّهٌ في هذه الآية إلى الكفّار والمشركين. أو مثلما جاء في موضع آخر: {أَفَمَنْ يَهْدي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلاَّ أَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ}٢، وخطاب إبراهيمُ لآزرَ في القرآن الكريم حيث قال: {يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَني مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْني أَهْدِكَ صِراطًا سَوِيًّا}٣ ، فآزر لم يحِر جوابًا أمام هذا الحكم الفطريّ والمنطقيّ الذي أتى به النبيّ إبراهيم ليقول مثلًا: حُجّية كلامك تعبّدية، وأنا لا أعتقد بمنشأ التعبّد الذي يعتمد عليه كلامك من الأساس، حتّى تصل النوبة إلى القبول به أو عدم القبول.
جواز الرجوع إلى غير الأعلم عند ضعف احتمال مخالفة الواقع
وبِما أنّ المِلاك ينحصر في التطابق مع الواقع، فمن الممكن ـ في الموارد التي يكون فيها احتمالُ عدم التطابق ضعيفًا جدًّا ـ أخذ الحكم والفتوى من غير الأعلم؛ كما كان عليه الحال في زمان المعصوم عليه السلام، حيث كان يُعمل بنفس هذا الأسلوب؛ فلم يكن الناس يرجعون إلى الإمام في كلّ مسألة، بل كانوا يرجعون إلى أصحاب الإمام وحواريّيه، وإلى الأشخاص الذين لهم اطّلاع على آراء الإمام ـ عليه السلام ـ وأقواله ويُعتبرون موضعًا لثقته ـ عليه السلام ـ وتأييده، وكان الناس يسألونهم عن الأحكام الشرعيّة في الحالة التي يكون معلومًا فيها أنّ علومهم مأخوذة عن الإمام عليه السلام.٤
إمامة الجواد عليه السلام وهو ابن سبع سنين
مات أبوالحسن الرضا عليه السلام، وأبو جعفر الجواد عليه السلام ابن سبع سنين٥؛ فتهافتت الشيعة عليه يستقون من سائغ نميره شأنهم مع آبائه. وما حالَ صغر السنّ دون ارتشافهم من غامر علمه؛ لأنّ الإمامة الإلهيّة لا فرق فيها بين ابن سبع أو سبعين مادامت منابعها تستمدّ من العلّام جلّ شأنه، كما هو شأن النبوّة؛ فهذا عيسى كلّم الناس وهو في المهد. وهذا يحيى أخذ الكتاب بقوّة وآتاه الله الحكم صبيًّا.٦
جاء في «بحار الأنوار» نقلًا عن كتاب «عيون المعجزات»۱ أنَّه لمّا قُبض الرضا عليه السلام كان سنّ أبي جعفر عليه السلام نحو سبع سنين، فاختلفت الكلمة من الناس ببغداد وفي الأمصار [حول إمامته]. واجتمع الريّان بن الصّلت، وصفوان بن يحيى، ومحمّد بن حكيم، وعبد الرحمن بن الحجّاج، ويونس بن عبد الرحمن، وجماعة من وجوه الشيعة وثقاتهم في دار عبد الرحمن بن الحجّاج في "بركة ذلول"٢ يبكون ويتوجّعون من المصيبة. فقال لهم يونس بن عبد الرحمن: دعوا البكاء. مَن لهذا الأمر؟ وإلى من نقصد بالمسائل إلى أن يكبر هذا؟ يعني أبا جعفر الجواد عليه السلام؟ فقام إليه الريّان بن الصّلت، ووضع يده في حلقه، ولم يزل يلطمه، ويقول له: أنت تظهر الإيمان لنا وتبطن الشكّ والشرك. إن كان أمره من الله جلّ وعلا فلو أنَّه كان ابن يوم واحد، لكان بمنزلة الشيخ العالم وفوقه. وإن لم يكن من عند الله، فلو عمّر ألف سنة، فهو واحد من الناس. هذا ممّا ينبغي أن يفكَّر فيه، فأقبلت العصابة عليه تعذله وتوبّخه.
وكان وقت الموسم فاجتمع من فقهاء بغداد والأمصار وعلمائهم ثمانون رجلًا فخرجوا إلى الحجّ وقصدوا المدينة ليشاهدوا أبا جعفر عليه السلام. فلمّا وافوا أتوا دار جعفر الصادق عليه السلام لأنَّها كانت فارغةً ودخلوها وجلسوا على بساط كبير. وخرج إليهم عبد الله بن موسى، فجلس في صدر المجلس، وقام مناد، وقال: هذا ابن رسول الله، فمن أراد السؤال، فليسأله. فسئل عن أشياء أجاب عنها بغير الواجب، فورد على الشيعة ما حيّرهم وغمّهم، واضطربت الفقهاء، وقاموا وهمّوا بالانصراف، وقالوا في أنفسهم: لو كان أبو جعفر عليه السلام يكمل لجواب المسائل، لما كان من عبد الله ما كان، ومن الجواب بغير الواجب.
ففتح عليهم باب من صدر المجلس ودخل موفّق [الخادم]، وقال: هذا أبو جعفر. فقاموا إليه بأجمعهم واستقبلوه وسلّموا عليه، فدخل صلوات الله عليه وعليه قميصان وعمامة بذُؤَابتين، وفي رجليه نعلان وجلس. وأمسك الناس كلّهم. فقام صاحب المسألة فسأله عن مسائله فأجاب عنها بالحقّ ففرحوا ودعوا له وأثنوا عليه وقالوا له: إنَّ عمّك عبد الله أفتى بكيت وكيت. فقال: «لَا إلهَ إلاّ اللهُ يَا عَمِّ! عَظِيمٌ عِنْدَ اللهِ أن تَقِفَ غَدًا بَيْنَ يَدَيْهِ فَيَقُولَ لَكَ: لِمَ تُفْتِي عِبَادِي بِمَا لَمْ تَعْلَمْ وَفي الأمَّةِ مَنْ هُوَ أعْلَمُ مِنْكَ؟!»
وروي عن عمر بن فرج الرخجيّ قال: قلتُ لأبي جعفر: إنَّ شيعتك تدّعي أنَّكَ تعلم كلّ ماءٍ في دجلة ووزنه؟! وكنّا على شاطئ دجلة، فقال عليه السلام لي: يقدر الله تعالى أن يفوّض علم ذلك إلى بعوضةٍ من خلقه أم لا؟ قلتُ: نعم، يقدر. فَقالَ: «أنَا أكْرَمُ على اللهِ مِنْ بَعُوضَةٍ ومِنْ أكْثَرِ خَلْقِهِ.»۱
وقفة مع كثرة الأحاديث حول ضرورة الإمام الحيّ والميتة الجاهليّة بغير معرفته
إنَّ الأحاديث المأثورة عن رسول الله التي تدلّ على ضلال الناس بلا إمام كثيرة للغاية ولها مضامين متنوّعة. ونذكر هنا واحدًا منها يتّفق عليه الشيعة والسنّة ويقطعون بصدوره عن الرسول الأكرم، وهو قوله: «مَنْ مَاتَ ولَمْ يَعْرِفْ إمَامَهُ مَاتَ مِيتَةً جَاهِليَّةً».٢
أمّا عن طريق الشيعة فقد روي هذا الحديث بعبارات متعدّدة. في «روضة الكافي»٣ حديث واحد. وفي «بحار الأنوار» عن «محاسن البرقيّ»، و«رجال الكشّيّ»، و«إكمال الدين» للصدوق ستّة أحاديث بهذا المضمون:٤ «مَنْ مَاتَ وَلَيْسَ لَهُ إمَامٌ مَاتَ مِيتَةً جَاهِليَّةً».
وفي «بحار الأنوار» أيضًا عن «الكافي»٥ عن الإمام الصادق، عن الرسول الأكرم وعن «غيبة النعمانيّ»٦ عن الرسول الأكرم، وعن «عيون أخبار الرضا»،۷ فيما كتب الرضا للمأمون، ثلاثة أحاديث بهذا المضمون: «مَنْ مَاتَ وَهُوَ لَا يَعْرِفُ إمَامَهُ مَاتَ مِيتَةً جَاهِليَّةً».
وعن «ثواب الأعمال»۸ للصدوق حديث واحد بهذا المضمون: «مَنْ مَاتَ وَلَيسَ عَلَيْهِ إمَامٌ مَاتَ مِيتَةً جَاهِليَّةً».
وعن «المحاسن»٩ للبرقيّ حديث واحد بهذا المضمون «مَنْ مَاتَ وَلَيْسَ لَهُ إمَامٌ فَمَوْتُهُ مِيتَةٌ جَاهِليَّةٌ». وعنه أيضًا: «مَن مَاتَ بِغَيْرِ إمَامِ جَماعَةٍ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً».
و عن «الغيبة»۱۰ للنعمانيّ حديث واحد بهذا المضمون: «مَن بَاتَ لَيْلَةً لَا يَعْرِفُ فِيها إمَامَ زَمَانِهِ مَاتَ مِيتَةً جَاهِليَّةً».
وعن «عيون أخبار الرضا»۱۱ و«كنز الفوائد»۱٢ للكراجكيّ، عن الرضا، عن آبائه، عن عليّ عليه السلام عن رسول الله صلّى الله عليه وآله حديثان بهذا المضمون: «مَنْ مَاتَ وَلَيْسَ لَهُ إمَامٌ مِنْ وُلدِي مَاتَ مِيتَةً جَاهِليَّةً وَيُؤخَذُ بِمَا عَمِلَ في الْجَاهِلِيَّةِ وَالإسلامِ».
وعن كتاب «الغيبة» للنعمانيّ۱٣ أيضًا ثلاثة أحاديث: الأوّل: عن ابن أبي يعفور، والثاني: عن سماعة بن مهران، والثالث: عن حمران بن أعين، يقول هؤلاء الثلاثة باختلاف يسير في المضمون: قلنا للصادق عليه السلام: رجل يتولاّكم، ويبرأ من عدوّكم، ويُحلّل حلالكم، ويحرّم حرامكم، ويزعم أنَّ الأمر فيك لم يخرج منكم إلى غيركم. إلاّ أنَّه يقول: إنَّهم [المقصود أبناء السجّاد، والباقر وأبناء الحسن بشكل عام] قد اختلفوا فيما بينهم وهم الأئمّة القادة. وإذا اجتمعوا على رجل فقالوا: هذا، قلنا: هذا، فقال عليه السلام: «إنْ مَاتَ على هَذَا، فَقَد مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً».
وينقل أيضًا ثلاث روايات عن كتاب «الاختصاص».۱
الأولى: عن عمر بن يزيد، عن الإمام موسى بن جعفر عليهما السلام أنَّه « قال: سَمِعْتُهُ يَقُولُ: مَنْ مَاتَ بِغَيْرِ إمَامٍ مَاتَ مِيتَةً جاهِلِيَّةً، إمَامٍ حَيّ يَعْرِفُهُ قُلْتُ: لَمْ أسْمَعْ أباكَ يَذْكُرُ هَذَا. يَعْنِي: "إمَامًا حَيًّا"، فَقَالَ: قَدْ وَاللهِ قَالَ ذَلِكَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ. قالَ: وقَالَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عَليهِ وَآلِهِ وسَلَّمَ: مَنْ مَاتَ وَلَيْسَ لَهُ إمَامٌ يَسْمَعُ لَهُ وَيُطِيعُ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً».
الثانية: عن محمّد بن عليّ الحلبيّ أنَّه قالَ: قَالَ أبو عَبْدِ اللهِ عَلَيْهِ السّلامُ: «مَنْ مَاتَ وَلَيْسَ عَلَيْهِ إمَامٌ حَيّ ظَاهِرٌ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً».
الثالثة: عن أبي الجارود أنَّهُ: قَالَ: «سَمِعْتُ أبا عَبدِ اللهِ عَلَيْهِ السَّلامُ يَقُولُ: مَنْ مَاتَ وَلَيْسَ عَلَيْهِ إمَامٌ حَيّ ظاهِرٌ، مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً: قَالَ: قُلْتُ: إمَامٌ حَيّ جُعِلْتُ فِداكَ؟ قَالَ: إمَامٌ حَيّ، إمَامٌ حَيّ».٢
ظهور علوم الإمام الجواد عليه السلام مع سياسة المأمون
إنّ المأمون لا يجهل ذلك الشأن من الإمام ولا رأي الشيعة فيه؛ فاقتضت سياسته أن يرفع مكانة أبي جعفر عليه السلام ويعظّم شأنه ـ كما تظاهر قبل هذا مع أبيه أبي الحسن عليه السلام ـ فاستدعاه من المدينة مكرّمًا إلى بغداد، وأظهر له من العناية ما استفزّ بني العبّاس حتى خافوا أن يعهد إليه كما عهد إلى أبيه من قبل. ولكنّهم جهلوا ما يقصده وراء ذلك الإكرام، وجهلوا أنّ السياسة ألوان، وأنّ لكلّ عهدٍ عملًا ولونًا، فاستمرّوا في ملامته، واستمرّ في كيده حتى زوّجه بابنته أمّ الفضل، وهي التي قتلته بالسمّ بإشارة من المعتصم، فكأنّه ادّخرها للجواد لمثل هذا اليوم.
كثر إلحاح بني العبّاس على المأمون على أن يصرفوه عن تزويجه بابنته، وعن رفع مقامه وهو لا يعبأ بهم، فقالوا: دَعْهُ حتى يَتَأدَّبَ؛ فَإنَّهُ صَبِيّ! فأحضر له العلماء والفقهاء ليناظروه، فيظهر له من الفضل ما يقطع ألسنتهم. فكان من الجواد مع يحيى بن أكثم ما هو مسطور في كتب التأريخ والحديث والفضائل٣، وما هو قاطع للحجّة ولذارب الألسنة من بني العبّاس، وما بلغ أبو جعفر ذلك اليوم العاشرة.
و لا أدري كيف بلغ الجهل ببني العبّاس إلى ذلك الحدّ، فقد سبق من المأمون مع الرضا عليه السلام ومنهم في لومه ما دلّ على نجاحه في سياسته وكيده، وخطأهم في تأنيبه. فكيف عادوا إلى تفنيده حين عاد إلى إظهار الإعزاز لأبي جعفر عليه السلام؟! ولا أدري كيف لم ينتبهوا إلى مراميه في أعماله ولها أمثال سابقة؟! وكيف يأملون أن يكشف لهم عن نواياه في فعله؟! والسياسة إن ظهرت للعيان استفزّت من يراد به الكيد، ونبّهت مشاعره. وإذا أخذ الحيطة لنفسه، كيف تعمل فيه تلك المكيدة؟! (هذا على عكس منهج السياسة تمامًا. فقوام السياسة إخفاء المكر والخديعة). وإذا ظهر للعلويّة والشيعة القصد من مراميه في إجلاله لأبي جعفر عليه السلام لم يحتفلوا بما يصنع، فلا يثبّطهم عن الوثبة في وجهه.
شهادة الإمام الجواد عليه السلام بسمّ المعتصم
عاد الجواد عليه السلام إلى المدينة، وبقي بها مقصدًا لأوليائه إلى أن اعتلى المعتصم منصّة الحكم سنة ٢۱۸، فاستدعى الجواد ومعه زوجته أمّ الفضل، وقد علم بانحرافها عن أبي جعفر فأرادها ذريعة لنفوذ تدبيره في أبي جعفر. ولم يكن المعتصم شقيق المأمون في دهائه ولا رضيع لبانه في سياسته. ومن ثمّ انتفضت عليه كثير من البلاد، وخلعوا ربقة الطاعة، واستقلّوا بالأمر. فكان لقرب غوره يضيّق على الجواد مرّة، ويوسّع عليه أخرى، ويحبسه مرّة ويطلقه تارة.
و كان يجمع له العلماء ليحاججوه زعمًا منه أن يجد له زلّة يؤاخذه فيها أو يسقط مقامه بها. وزوّر عليه مرّة كتبًا تتضمّن الدعوة لبيعته، فلا يكون مغبّة ذلك إلّا إعلاء شأن أبي جعفر وإظهار الكرامة والفضل له.
فكان المعتصم لا يزداد لذلك إلّا حنقًا وغيظًا، ولا يقوى على كتمان ما يسرّه من الحسد والحقد، فحبسه مرّة. وما أخرجه من السجن حتى دبّر الأمر في قتله. وذلك أن قدّم لزوجته ابنة المأمون سمًّا، وحملها على أن تدفعه للإمام فأجابته إلى ما أراد.
فمات قتيلًا بسمّ المعتصم. وعندما شاهدت أثر السمّ قد بان في بدن الإمام، تركته وحيدًا في الدار، حتى قضى نحبه، واحتشدت الشيعة على الدار واستخرجوا جنازته، والسيوف على عواتقهم. وقد تعاقدوا على الموت، لأنّ المعتصم حاول أن يمنعهم عن تشييعه.۱
[ملاحظة: تمّ إعداد هذه المقالة من قبل الهئية العلميّة في مدرسة الوحي، وذلك من خلال ما ورد في كتاب معرفة الإمام لسماحة آية الله السيّد محمّد الحسين الحسينيّ الطهراني رضوان الله عليه، وفي تعليقات نجله سماحة آية الله السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهراني حفظه الله على كتاب الدر النضيد في الاجتهاد والتقليد والمرجعيّة. وقد تمّت مقابلة النصوص المترجمة بأصولها الفارسيّة وإجراء التعديل عند الضرورة]