المؤلّف العلامة آیة الله السيد محمد الحسين الحسيني الطهراني
القسم القرآن والحديث والدعاء
المجموعة نور ملكوت القرآن
التوضيح
هذه المجموعة في القسم الأول من دورة أنوار الملكوت (الشاملة لنور ملكوت القرآن، نور ملكوت المسجد، نور ملكوت الصلاة، نور ملكوت الصيام، ونور ملكوت الدعاء).
وقد دونت مجموعة (نور ملكوت القرآن) في أربعة مجلدات، جرى البحث خلالها عن هداية القرآن إلى أفضل مناهج وسُبل السلام، خلود أحكام القرآن، عدم نسخ القرآن، التطبيق العملي لآحاد آيات القرآن في كل عصر، الرد على نظرية تحديد النسل، دور القرآن وموقعه بعنوان كتاب سماوي، نقد ومناقشة بعض الأفهام الخاطئة للآيات القرآنية الكريمة، والإشكالات الواردة على مقالة (بسط وقبض نظرية الشريعة) وكتاب (الفكر والقيم).
ومن العناوين الاُخرى لهذه المجموعة: منطق القرآن توحيديّ، بيان القرآن لأخطاء التوراة والإنجيل، أحكام القرآن في الجهاد، القتل، الاستعباد، والفدية، سير القرآن في آيات الأنفس والآفاق، بيان محكمات القرآن ومتشابهاته، كيفيّة قراءة القرآن في الصلاة وغيرها، تأثير القرآن في تربية الإنسان الكامل، عظمة أخلاق القرآن، بيان كيفية خلقة الإنسان والسيّارات في القرآن، دعوة الآيات الآفاقية إلى التوحيد ومكارم الأخلاق، العربية وإعجاز القرآن، لزوم التكلم بالعربية لجميع المسلمين والرد على مسألة إحياء اللغات الفارسية القديمة، عظمة القرآن الكريم وأصالته، تأثير القرآن في الحضارة العظيمة الإسلامية، تفوّق علوم الإسلام على اليونان، بيان كيفية كتابة القرآن وطباعته، تأريخ التوراة والإنجيل الحاليّين، قاطعية القرآن وشموله، عموميّة القرآن الكريم وامتناعه على التغيير، كيفية جمع القرآن وتدوينه.
البَحْثُ الرَّابعُ: القرآن تبيان لكل شيء، ثابت لا ينسخ وتفسير آية ﴿وَ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَ هُدىً وَ رَحْمَةً وَ بُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ﴾
أعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيطَانِ الرَّجِيم
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم
وَ صَلَّى اللهُ عَلَى سَيِّدنا مُحَمَّدٍ وَ ءَالِهِ الطَّيِّبِينَ الطّاهِرِينَ
وَ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى أعْدَآئِهِمْ أجْمَعِينَ مِنَ الأنَ إلى قِيامِ يَوْمِ الدِّينِ
وَ لا حَولَ وَ لا قُوَّةَ إلّا بِاللهِ الْعَلي الْعَظيم
قالَ اللهُ الحَكيمُ في كِتابِهِ الكَريم:
وَ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَ هُدىً وَ رَحْمَةً وَ بُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ.۱ و قد كان النصف الأوّل لهذه الآية:
وَ يَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَ جِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ.
كيف يُظهِر القرآن كلّ خفيّ و يحلّ كلّ مُعضل
يستفاد من ذيل هذه الآية المباركة أنّ القرآن الكريم هو الموضّح و المبيّن لكلّ شيء، و يمثّل بشكل مطلق الهداية و الرحمة و البشرى للمسلمين الحقيقيّين الذين اتّخذوا الإسلام ديناً و نظاماً، و صدّقوا بنبوّة الرسول الأكرم صلّى الله عليه و آله و سلّم أكرم الأنبياء من الأوّلين و الآخرين و الشاهد عليهم أجمعين، و آمنوا بهذا الكتاب السماويّ: القرآن.
و قد وردت أحاديث بهذا الشأن عن الأئمّة الطاهرين سلام الله عليهم في تفصيل هذه المسألة؛ فيروي محمّد بن يعقوب الكلينيّ بإسناده عن مرازم، عن الإمام الصادق عليهالسلام أنّه قال:
إنَّ اللهَ تعالى أنزل في القرآن تبيان كل شيء حتى و الله ما ترك الله شيئا يحتاج إليه العباد حتى لا يستطيع عبد يقول: لو كان هذا انزل في القرآن، إلا و قد أنزله الله فيه.۱
و يروي الكلينيّ أيضاً، بإسناده عن عمرو بن قيس، عن الإمام الباقر عليهالسلام، قال: سَمِعْتُهُ يقول: إن الله تعالى لم يدع شيئا يحتاج إليه الامة إلا أنزله في كتابه، و بينه لرسوله عليه السلام؛ و جعل لكل شيء حدا، و جعل عليه دليلا يدل عليه، و جعل على من تعدي ذلك الحد حدا.٢
و يروي الكلينيّ كذلك بإسناده عن مُعَلَّى بن خُنَيْس، قال: قال الإمام الصادق عليهالسلام: مَا مِنْ أمْرٍ يَخْتَلِفُ فِيهِ اثْنَانِ إلَّا وَ لَهُ أصْلٌ في كِتَابِ اللهِ؛ وَلَكِنْ لَا تَبْلُغُهُ عُقُولُ الرِّجَالِ.٣
و قد نقل المرحوم الجامع لجميع العلوم النقليّة و العقليّة المولى محسن الفيض الكاشانيّ رضوان الله عليه في المقدّمة السابعة من تفسيره الشريف المسمّى بـ «الصافي» عن بعض أهل المعرفة كلاماً دقيقاً و لطيفاً و واقعيّاً جدّاً و بأنّ القرآن تبيان لكلّ شيء، نورد خلاصته هنا:
إنّ العلم بالأشياء يمكن أن يحصل للناس عن طريقين:
الأوّل: عن طريق الإدراكات الحسّيّة، أي الحواسّ الموجودة في الإنسان، كسماع خبر و شهادة شاهد و رؤية شيء أو اجتهاد و تجربة أو نحو
ذلك. و هذا العلم جزئيّ و محدود لمحدوديّة و جزئيّة معلومه؛ و لأنّ معلومه جزئيّ و محدود و متغيّر فهذا العالم أيضاً سيفتقر إلى الثبات، و سيكون متغيّراً يطرأ عليه الفساد و الفناء، لأنّ هذا العلم إنّما يتعلّق بالشيء في زمان وجوده، معلوم أنّه قبل وجوده كان علماً آخر، و بعد فنائه و زواله سيتبيّن علم ثالث، لذا فإنّ مثل هذه العلوم التي تشكّل غالب العلوم البشريّة فاسدة و متغيّرة و محدودة.
الثاني: عن طريق العلم بأسباب و علل و غايات الأشياء، و هذا لا يتأتّى بالإدراكات الحسّيّة، بل هو علم كلّيّ بسيط و عقليّ، لأنّ أسبابه كلّيّة، و الغايات العامّة للأشياء غير محدودة و لا محصورة، و ذلك لأنّ لكلّ سببٍ سبب آخر، و لذلك المسبّب سبب آخر، إلى أن ينتهي إلى مبدأ المبادئ و مسبّب الأسباب، و هذا العلم يمكن أن يناله الشخص الحائز لعلوم اصول التسبيبات و مبدأ الأسباب، و هو على كلّيّ لا يتغيّر أو يزول، و يختصّ بالأفراد الذين نالوا العلم بالذات القدسيّة لواجب الوجوب و صفاته الكماليّة و و حجبه الجلاليّة و كيفيّة عمل و مأموريّة الملائكة المقرّبين المدبّرين للعالم و المسخّرين بالإرادة الإلهيّة لأغراض العالم الكلّيّة، و عرفوا كيفيّة التقدير و نزول الصور في عالم المعنى و فضاء التجرّد و الإحاطة و البساطة الملكوتيّة.
و على هذا فسيتّضح لهم سلسلة العلل و المعلولات، و الأسباب و المسبّبات، و كيفيّة نزول أمر الله في الحجب و شبكات عالم التقدير، و علائق موجودات هذا العالم مع بعضها.
فعلمهم محيط بالامور الجزئيّة و بأحوال هذه الامور و الآثار و اللواحق المترتّبة عليها، و هو علم ثابت و دائميّ خالٍ من التغيير و التبديل، فيصلون من الكلّيّات للجزئيّات و من العلل للمعلومات، و من ملكوت الأشياء
للجوانب المُلكيّة، و يعلمون من البسائط المركّبات.
و هم يطّلعون على الإنسان و حالاته، و على مُلكه و مَلكوته، أي على طبيعته و نفسه و روحه، و ما يُكملها و يُصعدها إلى عالم القدس و الحرم الإلهيّ و مقام الطهارة المطلقة، كما أنّ لديهم العلم الكلّيّ بما يدنسها و يلوّثها و يُرديها، و ما يسبّب شقاءها و يهوي بها إلى أظلَم العوالم، أي إلى سطح البهيميّة.
فيعلم جميع الامور الجزئيّة من مرآة تلك النفس الكلّيّة، و ينظر لجميع الموجودات المحدودة المتغيّرة من جانب الثبات و الكلّيّة، و يشاهد من عالم الثبات تدريج الزمان و تغيير الموجودات الزمانيّة المتغيّرة.
و هذا كعلم الله سبحانه و علم الأنبياء العظام و الأوصياء الكرام و الأولياء ذوي المجد و الملائكة المقرّبين بجميع الموجودات الماضية و المستقبلة و الكائنة، و هو علم حتميّ ضروريّ فعليّ لا يتجدّد بتجدّد الحوادث و لا يتكثّر بتكثّرها، بل هو علم بسيط و مجرّد و كلّيّ و محيط، يرفل دوماً في خلعة النور و التجرّد و الوحدة فيزين بها قامة الكلّيّة.
فمن حاز هذا العلم أدرك جيّداً معنى قول الله تبارك و تعالى في القرآن الكريم: وَ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ.
و هنا يفهم المرء جيّداً أنّ علوم القرآن كلّيّة لا تتغيّر و لا تزول بتغيّر الزمان و المكان و تجدّد الحوادث. و لا تزول أبداً، و لا تتبدّل بنشوء المسالك و الغايات و بظهور المدنيّات المختلفة أبداً، فيصدّق تصديقاً حقيقيّاً وجدانيّاً أنّه ما من أمرٍ من الامور إلّا و قد نُظر إليه في القرآن الكريم من جانب الكلّيّة و الثبات و بُيِّن ذلك تحت حكم و قانون عامّ.
فإن كان ذلك الأمر غير مذكور بعينه في القرآن الكريم، فمن المسلّم أنّ مقوّماته و أسبابه و مباديه و غاياته قد ذُكرت فيه. و هذه الدرجة من فهم
القرآن و عجائبه و أسراره و دقائقه و أحكامه المترتّبة على الحوادث لا ينالها إلّا أفراد خاصّين تجاوز علمهم المحسوسات و وصلوا إلى العلوم الكلّيّة الحتّمية و الأبديّة.
و في رواية مُعَلَّي بن خُنَيْس التي ذُكرت أخيراً ورد:
مَا مِن أمْرٍ يَخْتَلِفُ فِيهِ اثْنَانِ، إلَّا وَ لَهُ أصْلٌ في كِتَابِ اللهِ وَلَكِنْ لَا تَبْلُغُهُ عُقُولُ الرِّجَالِ.
و هذه الحقيقة مشهودة بشكل واضح و بيّن، فأوّلًا أن أصل و كلّيّة كلّ أمر موجود و مذكور في القرآن؛ و ثانياً أنّ علّة عدم بلوغ عقول الرجال هي عدم الوصول لذلك العلم الكلّيّ. أمّا الأولياء الخاصّون و المقرّبون للحضرة القدسيّة فلهم العلم بهذه الحقيقة۱ - انتهى حاصل كلام هذا العالم الجليل مع ما أضفناه من إيضاح.
و على هذا الأساس، فلو أراد جميع أفراد البشر، و جميع أفراد الجنّ، بل جميع الممكنات ذات الشعور الحسّيّ أن يأتوا بكتاب كالقرآن لما استطاعوا.
قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَ الْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَ لَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً.٢
و يتّضح ممّا بيّنا أخيراً سرّ هذا المعنى بوضوح تامّ و سبب عجز الجنّ و الإنس عن الإتيان بمثيل للقرآن، و إن اجتمعوا و تظاهروا و تعاضدوا عليذلك؛
تحدّى القرآن للبشر أن يأتوا بمثله، أو بعشر سور، أو بسورة واحدة
فالسبب هو أنّ علم القرآن كلّيّ؛ و جميع الجنّ و الإنس لم يدخلوا
مدرسة الكلّيّة و لم يطووا مرحلتها، فهم لذلك عاجزون عن درك المعاني الكلّيّة، و لا سبيل لهم إلى فهمها و إدراكها.
فهم ليسوا عاجزين فقط عن الإيتان بقرآن كامل، بل حتى عن الإتيان بعشر سور كسوره:
أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَ ادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ.
فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ.۱
فأنتم لا تعجزون فقط عن الإيتان بعشر سور، بل عن الإيتان بسورة واحدة كسور القرآن!
وَ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَ ادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ.
فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَ لَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَ الْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ.٢
و كذا الأمر في سورة يونس؛ فبعد أن تحدّى في مقام التعجيز جميع أفراد البشر ليأتوا بسورة مثله، يصرّح. أن ادعوا مِن دون الله مَن شئتم و استعينوه على هذا الأمر، لكنّكم لن تستطيعوا أبداً.
ثمّ يبيّن أنّ علّة تكذيب الكفّار و المتمرّدين بعدم إحاطتهم بحقائق القرآن و عدم إدراكهم و فهمهم لسرّ أمره.
لا يطّلع على حقائق القرآن و تأويله إلّا أولياء الله
و السرّ في ذلك هو أنّ كلام الله لا يمكن فهمه إلّا للّه، و لا يمكن
إدراكه بأيّ وجه من الوجوه إلّا الأولياء المقرّبين الذين فنوا في ذاته القدسيّة؛ و تقصر أفكار علماء العالم و مفكّريه - مهما حلّقت بنات أفكارهم - عن الرقيّ إلى ذروته المتسامية، لأنّهم لم يتخطّوا بعدُ حاجز العلوم التجريبيّة و لا يزالون أسرى سجن الحسّ و الطبيعة، فهم لا يطالون سموّه.
أولياء الله و مقرّبو الحريم الإلهيّ هم وحدهم الذين يطلّعون على حقائق القرآن و تأويله، لاتّصال وجودهم بوجود الحقّ تعالى و فناء علومهم في علم ذاته الأحديّة.
وَ ما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَ لكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَ تَفْصِيلَ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ.
أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَ ادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ.
بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَ لَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ.۱
فسيَفْهم هؤلاء المتمرّدون و المكذّبون أنّ القرآن كلام الله عزّ و جلّ عندما يأتيهم تأويله، أي حين يعبرون علوم الحسّ و يدركون الكلّيّات.٢
فهم لم يعدّوا أنفسهم لتلقّي هذا المعنى في هذه الدنيا، و لهذا فبعد
ارتحالهم من الدنيا و نسيانهم العلوم المادّيّة سيفهمون أنّ آيات القرآن كانت كلّها حقّاً، و كانت كلّيّة غير جزئيّة، لكن فهمهم لن يضيرهم في تلك الحال و لن ينفعهم شيئاً.
فليس هذا الكلام من عند رسول الله قد أعدّه و نطق به عن هوى نفسٍ، بل هو الوحي السماويّ قد أوحاه إليه الرسول الإلهيّ. جبرائيل ذو القوى الشديدة و الشوكة.
وَ ما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى.۱
فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ ، وَ ما لا تُبْصِرُونَ ، إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ، وَ ما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلًا ما تُؤْمِنُونَ ، وَ لا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ ، تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ ، وَ لَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ ، لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ، ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ ، فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ ، وَ إِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ ، وَ إِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ ، وَ إِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكافِرِينَ ، وَ إِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ ، فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ.٢
الآيات الدالّة على أنّ القرآن من قِبَل الله تعالى
و من بين الآيات الدالّة على نزول القرآن من جانب الله تعالى الآيات التي يشدّد فيها على نبيّه فيؤاخذه و يستنطقه، ممّا لا يترك شبهة لدى قارئ الآيات أنّ النبيّ عبدٌ و مولى للّه مطيع له مسلّم لأمره و نهيه، فالله سبحانه يرسل من مقامه الآيات، و على هذا المأمور أن ينفّذ ما امر به، فإن بدرت منه مخالفة أو عصيان - مهما صغر - فسيُحكم بالعذاب المحتمّ الأليم و النقمة الشديدة، كما في الآيات التي ذُكرت أخيراً: وَ لَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ
الْأَقاوِيلِ، إلى آخر الآيات.
و كالاية المباركة: وَ إِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ وَ إِذاً لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا.
وَ لَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا.
إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَ ضِعْفَ الْمَماتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً.۱
و قد أورد العلّامة آية الله الطباطبائيّ قدّس الله سرّه في التفسير كلاماً في أنّ المراد من الذي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هو القرآن، بما يشتمل عليه من التوحيد و نفي الشريك و السيرة الصالحة، و هذا يؤيّد ما ورد في بعض أسباب النزول أنّ المشركين سألوا النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم أن يكفّ عن ذكر آلهتهم بسوء و يبعد عن نفسه عبيدهم المؤمنين به و السقاط حتى يجالسوه و يسمعوا منه، فنزلت الآيات.
و المعنى: أنّ المشركين اقتربوا أن يزلّوك و يصرفوك عمّا أوحينا إليك لتتّخذ من السيرة و العمل ما يخالفه، فيكون في ذلك افتراء علينا لانتسابه بعملك إلى نا، و إذاً لاتّخذوك صديقاً.
و المراد من التَّثْبِيت كما يفيده السياق هو العصمة الإلهيّة، و المعنى. و لو لا أن ثبّتناك بعصمتنا دنوتَ من أن تميل إليه م قليلًا، لكنّا ثبّتناك فلم تدن من أدنى الميل إليه م فضلًا من أن تجيبهم إلى ما سألوا، فهو صلّى الله عليه و آله و سلّم لم يجبهم إلى ما سألوا و لا مال إليه م شيئاً قليلًا و لا كاد أن يميل.٢
و كالاية المباركة: وَ لَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنا وَكِيلًا.۱
و آية: فَلِذلِكَ فَادْعُ وَ اسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَ لا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَ قُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتابٍ وَ أُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنا وَ رَبُّكُمْ لَنا أَعْمالُنا وَ لَكُمْ أَعْمالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا وَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ.٢
خطبة أميرالمؤمنين عليه السلام في شموليّة القرآن
و لأميرالمؤمنين عليهالسلام خطبة في «نهج البلاغة» حول عظمة القرآن و خلوده، أوردناها في بداية هذا الكتاب، لذا نجد الآن وجوب الإرجاع لها.٣
و أوردوا له في «نهج البلاغة» أيضاً:
ثُمَّ اخْتَارَ سُبْحَانَهُ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ لِقَاءَهُ. وَ رَضِيَ لَهُ مَا عِندَهُ، وَ أكْرَمَهُ عَنْ دَارِ الدُّنْيَا؛ وَ رَغِبَ بِهِ عَنْ مُقَارَنَةِ البَلْوَى.
فَقَبَضَهُ اللهُ إليه كَرِيماً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ؛ وَ خَلَّفَ فِيكُمْ مَا خَلَّفَتِ الأنْبِيَاءُ في امَمِهَا إذْ لَمْ يَتْرُكُوهُمْ هَمَلًا بِغَيْرِ طَرِيقٍ وَاضِحٍ؛ وَ لَا عِلْمٍ قَائِمٍ. كِتَابَ رَبِّكُمْ فِيكُمْ؛ مُبَيِّناً حَلَالَهُ وَ حَرَامَهُ؛ وَ فَرَائِضَهُ وَ فَضَائِلَهُ؛ وَ نَاسِخِّهُ وَ مَنْسُوخَهُ؛ وَ رُخَصَهُ وَ عَزَائِمَهُ؛ وَ خَاصَّهُ وَ عَامَّهُ؛ وَ عِبَرَهُ وَ أمْثَالَهُ؛ وَ مُرْسَلَهُ وَ مَحْدُودَهُ؛ وَ مُحْكَمَهُ وَ مُتَشَابِهَهُ؛ مُفَسِّراً مُجْمَلَهُ وَ مُبِيِّناً غَوَامِضَهُ.
بَيْنَ مَأخُوذِ مِيثَاقٍ في عِلْمِهِ؛ وَ مُوَسَّعٍ عَلَى العِبَادِ في جَهْلِهِ. وَ بَيْنَ مُثْبَتٍ في الكِتَابِ فَرْضُهُ؛ وَ مَعْلُومٍ في السُّنَّةِ نَسْخُهُ؛ وَ وَاجِبٍ في السُّنَّةِ
أخْذُهُ؛ وَ مُرَخَّصٍ في الكِتَابِ تَرْكُهُ.
وَ بَيْنَ وَاجِبٍ بِوَقْتِهِ؛ وَ زَائِلٍ في مُسْتَقْبَلِهِ؛ وَ مُبَايَنٍ۱ بَيْنَ مَحَارِمِهِ، مِنْ كَبِيرٍ أوْ عَدَ عَلَيْهِ نِيرَانَهُ؛ أوْ صَغِيرٍ أرْصَدَ لَهُ غُفْرَانَهُ. وَ بَيْنَ مَقْبُولٍ في أدْنَاهُ مُوَسَّعٍ في أقْصَاهُ.٢
انقسام القرآن إلى حلال و حرام، و فرائض و فضائل، و ناسخ و منسوخ و غيرها
و قد عدّد أميرالمؤمنين عليهالسلام في هذه الخطبة، أقسام و أنواع آيات القرآن من جهات مختلفة.
حلال القرآن: كتناول الطيّبات و الأطعمة الزكيّة، و نكاح أربع نساء بالعقد الدائم:
وَ يُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ.۱
وَ إِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَ ثُلاثَ وَ رُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ.٢
حرام القرآن. كتناول الخبائث و الأشياء الضارّة، و كالزنا:
وَ يُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ.٣
الزَّانِيَةُ وَ الزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ وَ لا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ لْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ.٤
فرائض القرآن: كالصلاة، و الزكاة وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ آتُوا الزَّكاةَ وَ ارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ.٥
فَضَائِل القرآن: أي المستحبّات و النوافل الزائدة عن الفرائض، و الموجبة إعلاء درجة المؤمن، كصلوات النوافل، و صلاة الليل، وَ مِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً.٦
ناسخ القرآن: أي الآية التي نسخت و ألغت حكم ما قبلها و حلّت محلّها، كالحكم بقتل المشركين الوارد بعد الأمر بالمداراة و الصبر و تحمل الأذى منهم و المسايرة معهم.۷
فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَ خُذُوهُمْ وَ احْصُرُوهُمْ وَ اقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تابُوا وَ أَقامُوا الصَّلاةَ وَ آتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ.۱
منسوخ القرآن: أي الآيات التي انتهى مدّة حكمها، كحرمة بعض أنواع الطعام التي حرّمها الله على إليه ود جزاء لطغيانهم و ظلمهم:
وَ عَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَ مِنَ الْبَقَرِ وَ الْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَ إِنَّا لَصادِقُونَ.٢
رُخَص القرآن: أي الأشياء التي ابيح ارتكابها، كتناول الدم، و الميتة، و ما اهِلّ لغير الله به، و غيرها ممّا وردت حرمته في الآية الثالثة من سورة المائدة، ثمّ جاء في ذيل الآية أن:
فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
عَزَائم القرآن: و هي الأشياء التي يجب الإتيان بها حتماً، و لا رخصة في تركها، مثل:
وَ لا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَ إِنَّهُ لَفِسْقٌ.٣
خَاصّ القرآن: الأحكام التي تخصّ إنساناً معيّناً، كرسول الله
صلّى الله عليه و آله الذي ورد خطاب الله تعالى له بشأن تحريمه ما أحلّ الله له:
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ وَ اللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ.۱
عامّ القرآن: الأحكام التي لا تختصّ بشخص أو طائفة معيّنة. كوجوب اعتداد النساء و حرمة تزويجهنّ قبل انقضاء العدّة، مثل:
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَ أَحْصُوا الْعِدَّةَ وَ اتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ.٢
الأمثال و العبر، و المحكم و المتشابه، و المفسّر و المبيّن في القرآن
عِبَر القرآن: أي المطالب الواردة في القرآن الموجبة لِعبرة قارئه، كالحوادث الواقعة على الامم السالفة و نزول العذاب لتمرّدهم و تعدّيهم الحقّ و سلوكهم طريق الظلم و العدوان، كقصّة أصحاب الفيل و غيرها.
و العبرة من مادّة العبور، و هو الانتقال من مكان إلى مكان، و يقال للعبرة عبرة لأنّ الناظر يعطف نظره عنها فيعود لنفسه و يعتبر و يتّعظ، كقصّة فرعون التي بيّنها الله سبحانه في سورة النازعات، و ذهاب النبي موسى على نبيّنا و آله و عليهالسلام بأمر الله إليه لهدايته، فأراه الآية الكبرى، فكذّب و عصى، فجمع الناس و نادى. أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى، فأخذه الله بِيَدِ قدرته و أنزل به عذاب و نقمة الدنيا و الآخرة:
فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَ الْأُولى ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى.٣
أمثال القرآن: و هي الأمثال التي يضربها ليفهم الناس بالمثال الحقّ في الأمر الممثَّل، مثل:
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَ مَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَ جَهْراً هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ.
وَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَ هُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ أَيْنَما يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَ مَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ هُوَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ.۱
مُرْسَل القرآن: و هو المطلق بلا قيد، كتحرير العبد، مؤمناً كان أم كافراً:
وَ الَّذِينَ يُظاهِرُونَ٢ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ.٣
محدود القرآن: و هو المُقَيَّد، أي الحكم الذي يرد مع القيد و الحدّ؛ و استعمال لفظة محدود بدل مقيّد غاية في الفصاحة؛ و مثله تحرير عبد مؤمن و عدم كفاية العبد الكافر:
مَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَ دِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ.٤
محكم القرآن: الآيات التي لها دلالة صريحة على معناها، مثل الآية
الشريفة: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ.۱
متشابه القرآن: الآيات التي تحتاج دلالتها على المعنى الحقيقيّ إلى التأويل. كالآية الشريفة: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ ، إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ.٢
مجمل القرآن: الآيات المحتاجة إلى تفسير، كإقامة الصلاة، التي بيّن رسول الله كيفيّتها و قال: صَلُّوا كَمَا رَأيْتُمُونِي اصَلِّي٣، أمّا أصل التكليف في القرآن فمجمل، مثل: أَقِيمُوا الصَّلاةَ.
مُبَيَّن القرآن: الآيات التي لا تحتاج إلى تفسير في فهم معناها، كآية: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ.٤ و الآية الشريفة: وَ لِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ.٥
مَأخُوذُ المِيثَاقِ عِلْمُهُ في القُرْآنِ: و هو ما يتوجّب على الإنسان علمه، و يؤاخذ على جهله، كآيات التوحيد، و أحكام وَ إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ.٦
مُوَسَّعٌ عَلَى العِبَادِ جَهْلُهُ في القُرْآنِ: الآيات التي لا يؤاخذ الإنسان على جهلها، كمقطّعات السور مثل: كهيعص۷، و حم ، عسق،۸ و أمثالهما.
ثُبُوتُ القُرْآنِ وَ نَسْخُ السُّنَّةِ: و هو الحكم الذي ورد في القرآن، لكنّه
نُسِخَ في السنّة القطعيّة لرسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم، كعقوبة الزانية المحصنة التي أمر القرآن بإمساكها في البيت حتى تموت أو يجعل الله لها سبيلًا، و أمّا غير المحصنة فحكم بإيذائها حتى تعود و تتوب، أمّا في السنّة فقد جعل حكم الزانية المحصنة الرجم، و غير المحصنة الجلد، فنسخ أمر رسول الله الحكم الوارد في القرآن، و هو:
وَ اللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا.
وَ الَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما فَإِنْ تابا وَ أَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما إِنَّ اللَّهَ كانَ تَوَّاباً رَحِيماً.۱
و كان هذا مطبّقاً حتى أمر رسول الله برجم الزاني المحصن و بجلد الزاني غير المحصن، فنسخ حكم حبسهنّ في البيوت و حكم إيذائهنّ.
النسخ في الكتاب و الثبوت في السنّة، و النسخ في السنّة و الثبوت في الكتاب
نَسْخُ القُرْآنِ و ثُبُوتُ السُّنَّةِ: و هو عبارة عن حكم ورد في السنّة القطعيّة لكنّ القرآن ألغاه، كالصلاة إلى بيت المَقْدِس في بدء الإسلام التي كانت واجبة حسب السنّة القطعيّة إلى ما بعد هجرة الرسول إلى المدينة بعدّة سنوات، ثمّ نسخ القرآن الكريم هذا الحكم:
قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَ حَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَ مَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ.٢
حتّى يصل إلى هذه الآية فيقول أيضاً:
فى الواجبات المؤقّتة التي ينتفي وجوبها بعد مرور زمن معيّن
وَ مِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَ إِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَ مَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ.۱
ثم يقول تأكيداً، في الآية التي تليها:
وَ مِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَ حَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَ اخْشَوْنِي وَ لِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ.٢
الواجب المؤقّت في القرآن: و هو العمل الواجب في زمان معيّن، فإذا انقضى ذلك الزمن لم يعد واجباً، كحجّ بيت الله الحرام المتعيّن في عدّة أيّام من ذي الحجّة، و غير واجب بعدها.
وَ لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا.٣
المعصية الكبيرة في القرآن: و هي الذنب الذي أوعد القرآن على ارتكابه جهنّم، كقتل المؤمن عمداً:
وَ مَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها.٤
المعصية الصغيرة في القرآن: و هي الذنب الذي وعد على ارتكابه المغفرة إن لم يرتكب معه كبيرة:
الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَ الْفَواحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ
الْمَغْفِرَةِ.۱
مَقْبُولٌ في أدْنَى القُرْآنِ مُوَسَّعٌ في أقْصَاهُ: و هو العمل ذو المراتب و الدرجات، يقبل الله من المكلّف الدرجة الأدنى و يترك له حرية اختيار المراتب و الدرجات الأعلى و الأهمّ و الأصعب، مثل كفّارة إلى مين و هي إطعام عشرة مساكين وجوباً، و ترك اختيار الكفّارة الأشقّ و الأكثر مؤنة؛ أي كسوة عشرة مساكين أو عتقهم؛ لاختيار المكلّف نفسه.
لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَ لكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ وَ احْفَظُوا أَيْمانَكُمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ.٢
الروايات الواردة في أنّ القرآن تبيان لكلّ شيء
يروي محمّد بن يعقوب الكلينيّ في «الكافي» بسنده المتّصل، ضمن حديث أنّ رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم قال:
القُرآنُ هُدَى مِنَ الضَّلَالَةِ وَ تِبْيَانٌ مِنَ العَمَى؛ وَاسْتِقَالَةٌ مِنَ العَثْرَةِ؛ وَ نُورٌ مِنَ الظُّلْمَةِ؛ وَ ضِيَاءٌ مِنَ الأحْدَاثِ؛٣ وَ عِصْمَةٌ مِنَ الهَلَكَةِ؛ وَ رُشْدٌ مِنَ الغَوَايَةِ؛ وَ بَيَانٌ مِنَ الفِتَنِ؛ وَ بَلَاغٌ مِنَ الدُّنْيَا إلى الآخِرَةِ؛ وَ فِيهِ كَمَالُ دِينِكُمْ؛ وَ مَا عُدِلَ عَنِ القُرْآنِ إلَّا إلى النَّارِ.٤
و يروي الكلينيّ أيضاً، بإسناده عن سَماعة بن مِهران أنّ الإمام
الصادق عليهالسلام قال:
إنَّ العَزِيزَ الجَبَّارَ أنزَلَ عَلَيْكُمْ كِتَابَهُ، وَ هُوَ الصَّادِقُ البَارُّ؛ فِيهِ خَبَرُكُمْ وَ خَبَرُ مَن قَبْلَكُمْ؛ وَ خَبَرُ مَنْ بَعْدَكُمْ؛ وَ خَبَرُ السَّمَاءِ وَ الأرْضِ. وَ لَوْ أتَاكُمْ مَنْ يُخْبِرُكُمْ عَن ذَلِكَ لَتَعَجَّبْتُمْ.۱
لذا فمن اعتمد على القرآن فقد اعتمد على الحقّ و الواقع، فهو عزيز، أي مستقلّ و فاعل، و من لجأ إلى غيره فهو ذليل، أي منفعل بلا داع.
فالأوّل يمتلك بنفسه القاهرة حكومة على أي موجود، و أي علم، و أي مدرسة يرد عليها، فَيُلقّحها من قدرته الفعليّة و يؤثّر بها. أمّا الثاني، ذو النفس المقهورة المنفعلة، فمحكوم لأيّ علم و فكر - مهما كان باطلًا - يتلقّح منه و يأخذ عنه.
العامل بالقرآن في أمان و حصنٍ حصين، و غيره في خوف و قلقٍ و اضطراب.
و يروي الكلينيّ أيضاً بإسناده عن الإمام جعفر الصادق عليهالسلام، قال: كَانَ في وَصِيَّةِ أمِيرِالمُؤْمِنِينَ أصْحَابَهُ. اعْلَمُوا أنَّ القُرْآنَ هُدَى النَّهَارِ؛ وَ نُورُ اللَّيْلِ المُظْلِمِ عَلَى مَا كَانَ مِنْ جُهْدٍ وَ فَاقَةٍ.٢
أي أنّه عليهالسلام كان يوصي أصحابه باتّخاذ القرآن نهاراً مصباحاً للهداية، و برنامجاً للعمل، و قدوة و أسوة، و مفتاحاً لكلّ معضل و مشكل، و باتّخاذه نوراً لليل البهيم، حين يهجع الكلّ و ينامون، فيتلوه هؤلاء أحياناً في صلاة الليل بقراءة السور الطوال و الآيات العجيبة، و يقتحمون بقراءته
عالماً من نور و صفاء و سرور و بساطة و تجرّد، و يردون بقراءة كلّ آية على روضة خاصّة ذات أفنان، فتضيء لهم آيات القرآن كلّ عقبة و مرتفع تلفّه الظلمة، و تسطع بأنوارها الوهّاجة المحيّرة للعيون و الأبصار، ثمّ ينقضي الليل و يطلع بياض الفجر الصادق، و تطلّ أشعة الشمس من وراء الافق طلائع بشارةٍ بقدوم الشمس، لكنّ هؤلاء لم يكونوا في ظُلمة أبداً، و لم يحسّوا بافتقاد النور، مع أنّهم كانوا في درجة عالية من الفقر و الجهد و المشكلات المادّيّة، لأنّ باطنهم و ذهنهم مع هذا كلّه كان مضيئاً و منوّراً بأنوار آيات القرآن.
آنكه در خانهاش صَنم دارد | *** | گر نيايد برون چه غم دارد؟۱ |
و كذلك يحدّث الكلينيّ بإسناده. عن الزهريّ أنّه قال: سمعتُ عليّ بن الحسين عليهالسلام يقول:
آياتُ القُرْآنِ خَزَائِنُ العِلْمِ فَكُلَّمَا فَتَحْتَ خِزَانَةً، يَنْبَغِي لَكَ أنْ تَنْظُرَ مَا فِيهَا.٢
القرآن كتاب الحقيقة و كتاب معالجة الأفراد لإيصالهم إلى مقام الكمال و أوج درجات الإنسانيّة، و إخراجهم من مستوى البهيميّة إلى أعلى نقطة من ذروة الآدميّة.
فهو يشخّص المرض جيّداً، و يعالجه كلّيّاً، في سهولة و يسر و سرعة، فلا يخطئ في تشخيص الداء و وضْع يدِه على موطن العلّة، و لا في اسلوب العلاج و المداواة، و لا يستبدل دواءً بآخر، بل يصف الدواء و يشير على
موارد الاحتراز و الاجتناب بما يقتضي، دون زيادةٍ أو نقصان، و لا ينقض يده عن المعالجة و لا يوقفها حتى يشفي أفراد البشر من كلّ الأمراض المزمنة و الكامنة و الخفيّة و المضاعفة، و ذلك بوصفاته العلاجيّة المتعاقبة إلى أن يعطي أخيراً شهادة العافية و السلامة الشاملة.
فهو في أمره أشبه بجرّاح لا نظير له في العمليّات الجراحيّة، و كذا في قوّة التشخيص و المعالجة، و هو يلحظ على الفور النقطة السوداء الخطرة فيستأصلها من مكانها بأسرع وقت و يريح المريض منها، و يصف الدواء لمن لا يحتاج الجراحة و يعالجه حسب مزاجه و قابليّته.
و لأميرالمؤمنين عليهالسلام خطبة ورد في جملتها فقرة يشير فيها إلى حذاقة و مهارة رسول الله في علاج الأمراض الروحانيّة، و هي تصدق على القرآن و مهارته و حذاقته أيضاً: طَبِيبٌ دَوَّارٌ بِطِبِّهِ. قَدْ أحْكَمَ مَرَاهِمَهُ. وَ أحْمَى مَوَاسِمَهُ، يَضَعُ ذَلِكَ حَيْثُ الحَاجَةُ إليه مِنْ قُلُوبٍ عُمْي. وَ آذَانٍ صُمٍّ. وَ ألْسِنَةٍ بُكمٍ. مُتَّبِعٌ بِدَوَائِهِ مَوَاضِعَ الغَفْلَةِ وَ مَوَاطِنَ الحَيْرَةِ.۱
فالأدوية النافعة للقلوب العمي هي التي تعطي الفهم بكشف موانعه و توقظ الوجدان؛ و التي تنفع الآذان الصمّ هي الإنذار و الوعيد و الوعظ و التخويف و التحذير و الترغيب و التحريض؛ و ما ينفع الألسنة البكم هي تلك الأدوية التي تنطق اللسان و تجريه بذكر الله.
و قد ذكر المرحوم المولى فتح الله الكاشانيّ في «شرح نهج البلاغة» أنّ أميرالمؤمنين عليهالسلام أراد بقوله طَبِيبٌ دَوَّارٌ بِطِبِّهِ نفسه النفيسة،٢ لكنّ هذا بعيد كما هو ظاهر من السياق.
نعم، فكما كانت الروح المقدّسة لرسول الله؛ و التي هي حقيقة القرآن؛ طَبِيبٌ دَوَّارٌ بِطِبِّهِ، كان القرآن أيضاً طَبِيبٌ دَوَّارٌ بِطِبِّهِ، ينقذ البشر من الأمراض المهلكة المدمّرة للُاسر و البيوت.
القرآن يرفع الإنسان إلى أعلى درجات الإنسانيّة
كم هي قبيحة ظلمات النفس! و كم هو حسن و جميل الخروج منها! فالقرآن هو الذي يمدّ يده ليخرج البشر من ظلمات الباطن، و يعالج أمراضه الروحيّة و المعنويّة جميعاً فيصير الإنسان إذ ذاك إنساناً مستقيماً و بشراً سويّاً.
ففي الزوايا العميقة المتشابكة للنفس الأمّارة يجد الإنسان نفسه أمام ألف ألم و عقدة و محنة، و ألف خصلة سيّئة، و آلاف من الخواطر المشوّشة المضطربة؛ فكيف سيميّز الخلل و يضع يده على مكان الداء؟ و بما أنّه - على سبيل الفرض - في ظلام، فكيف سيشخّص طريق العلاج الناجع؟ أو كيف يعرف حقيقة أي خصلةٍ و صفة قد ألقته في معرض الردى و الهلاك؟
لكنّ بزوغ شمس القرآن ينير ساحة النفس، فيرى الإنسان عيوبه و نقائصه رأى العين، ثمّ لا يقرّ له قرار قبل استئصالها، لوجود باعث باطنيّ قويّ يدفعه ليعمل بتعاليم القرآن، فينتهي إلى مراده و يجني رغائبه و يصل إلى غاياته في الوصول إلى مقام الإنسانيّة و معرفة نفسه.
العلم بالنفس هذا و معرفتها هو نفسه معرفة المعبود تعالى، لأنّ: من عرف نفسه فقد عرف ربه.۱
و جليٌّ أنّ هذا هو الصراط المستقيم الذي يوصل الإنسان بأقصر فاصلة و سبيل و أقصر زمن و أقصر معالجة إلى هذا الهدف العالي و الغاية
السامية، لا أن يبطئ في معالجته و يتعثّر و يتكاسل حتى تطول الفترة، فيؤدّي ذلك إلى تشتّت قوي الإنسان و إضعافها، و وضعه على شفا الموت و الهلاك.
وَ إنَّهُو لَكِتَابٌ عَزِيزٌ، لَّا يَأتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَ لَا مِنْ خَلْفِهِ
وَ إِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ ، لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ لا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ، ما يُقالُ لَكَ إِلَّا ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَ ذُو عِقابٍ أَلِيمٍ ، وَ لَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْ لا فُصِّلَتْ آياتُهُ ءَ أَعْجَمِيٌّ وَ عَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَ شِفاءٌ وَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَ هُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ.۱
لقد وصفت هذه الآيات القرآن بالعزّة. وَ إِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ، و العزيز ضدّ الذليل؛ و الذليل هو القابل للتأثّر و الانفعال، و يقال لذلّة الحال التأثّرو الانكسار.
معنى عزّة القرآن عدم انفعاله بأيّ وجه، و امتناعه عن الخسران
القرآن عزيز، أي أنّ موضوعاته و أحكامه و محتوياته ليست في معرض الانكسار و البطلان و النسخ، و لن يمكن للعلوم البشريّة الانتقاص منه، و لن يعترى أحكامه و مواضيعه الوهن و لن يتسّرب إلى فرضيّاته الخلل و البطلان كما في بقيّة الكتب.
لا يأتيه الباطل من بين يديه. فما ورد عن السابقين من الأنبياء و المرسلين، و الأولياء المقرّبين، و الحكماء الإلهيّين، و العلماء و المؤرّخين، و الأطبّاء الروحانيّين و النفسانيّين، و الأطباء المادّيّين و الطبيعيّين، و الامم و الطوائف السالفة، و ما بيّنوه إلى زمن آدم أبي البشر؛ فقد وقف القرآن أمام كلّ ذلك ثابتاً دون تأثّر أو انفعال، و لن يتمكّن أيّاً
منهم من أن يوجّه له نقداً أو طعناً.
فلقد ورد على التوراة و الإنجيل الفعليّينِ مئات الانتقادات و الإشكالات العقليّة و النقليّة، أظهرت بوضوح تحريفها عن الوحي السماويّ الأوّل، بالشكل الذي عجز فيه حماتها و مدافعوها عن الإجابة، و تراجعوا أذلّاء أمام أسئلة السائلين التي بقيت تنتظر الإجابة.
لذا، فقد خرج هذان الكتابان فعلًا من المجتمعات العلميّة و البحث و الدراسة و التحليل، بحيث صارا منزويَين منعزلَين بين زوايا الصوامع و الكنائس.
لقد تخبّط الدين المسيحيّ في مسألة التثليث، و لم تذكر التوراة شيئاً عن المعاد، و عزت الفجائع و الدواهي إلى ساحة الأنبياء، و ابتُليت مطالبها الواقعيّة بانتقادات العلوم و الاكتشافات و إشكالاتها.
و يعدّ الإنجيل شرب الخمر حلالًا، لأنّه قد عبّر عنه بدم! و لا يمكن لمن سار على نهج التوراة و الإنجيل من الوصول إلى مقام التوحيد، لأنّ سيره هذا مخالف لبرنامج التوحيد و تعاليمه.
أمّا القرآن الكريم فهو كتاب عزيز، له مجد و عزّة و كرامة، يعامل و يواجه بالعظمة و السيادة، و ليس بإمكان أي كان أن ينقد حتى جزئيّات مضامينه و آياته و قصصه، أو أن يعثر في طيّاته على موضوع يخالف التأريخ و الاكتشافات و نتائج الحفريّات الأثريّة، أو يناقض العقل أو القواعد الرياضيّة و النجوم و الهيئة و أمثالها.
و لا يأتيه الباطل من خلفه؛ أي من زمن نزوله إلى يوم القيامة، فأيّ بشر شاء أن يرد ميدان المواجهة معه، في أي علم أو أي تجربة، فلا مناص له من التسليم بمقام عزّ القرآن، لأنّ أساسه متين و محكم لا يتغيّر، فُصِّل على أساس من الثبات و الاستقرار، لأنّ علومه لا تستند إلى الحسّ و الخيال
لتزول بزوال الحسّ و الخيال. و استناداً إلى هذا الأساس الذي بُيِّن فإنّه لم يستفد أحد لحدّ الآن من التقدّم العلميّ المادّيّ و الطبيعيّ و التجريبيّ في الهيئة و النجوم و الطبيعيّات، و تسخير النور و الأمواج الكهربائيّة، و فلق الذرّة، و الحركة إلى القمر، و بالاستمداد من التقدّم الصناعيّ و الطبّيّ المدهش، و من سائر العلوم، من الأبحاث النفسيّة و الحقوقيّة، و من العلوم الخارجة عن الطبع و الطبيعة، و بالاتّصال بعالم النفس، لم يمكنه بهذا كلّه أن يأتي بموضوع أسمى و أفضل من القرآن.
بل كان الكلّ خاضعين خاشعين و مسلّمين معترفين باحتياجهم للقرآن، و بأن لا فائدة من التقدّم في هذه العلوم المادّيّة و الطبيعيّة لنجاة البشريّة من سجن الجهل، إن تمّ ذلك بمعزل عن متابعة تعاليم القرآن السامية، بل سيزيد ذلك الطين بلّة و المشكلة تعقيداً.
و هذا هو معنى عزّة القرآن الذي يمثّل كلام الخالق، فهو لا يتراجع و لا يهتزّ أمام المنطق و الفرضيّات التي تواجهه، بل هو ثابت راسخ، قائم بنفسه، دائم على كرّ الدهور، مضيء كالمصباح المنير في سجن الجهل، و كالشمس التي تستوعب العالم و تنيره بأشعّتها و ضيائها، و هو معنى عدم ورود الباطل مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ لا مِنْ خَلْفِهِ.
و ليس من منهج القرآن تخويف الناس و إرعابهم باستمرار، فيدفعهم ذلك إلى حافّة القنوط، أو ترغيبهم حتى يصلوا إلى حافّة التمادي و الطغيان.
يقول الله سبحانه، بعد الآية السالفة:
ما يُقالُ لَكَ إِلَّا ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَ ذُو عِقابٍ أَلِيمٍ.
فلو جئنا بهذا القرآن بلغات مبهمة مضطربة غير مُبَيَّنة مليئة بالألغاز و الأحاجي، و لو جئنا به بلسان عييّ غير فصيح، أو بغير اللسان العربيّ
الفصيح، لتساءل المغرضون. لماذا ابهمت آياته! و لِمَ لَمْ يفصّل مطالبه و يبيّنها؟
و لقالوا: ما الفائدة من كتاب مجمل غير فصيح لُاناس فصحاء بلغاء؟ قل لهم أيّها النبيّ. كفّوا عن هذه المقولات! فلقد جئنا بكتاب لسانه عربيّ مبين، لا إبهام فيه و لا إيهام، و قد فصّلناه و بيّناه.
و هو كتاب للمؤمنين الذين فتحوا بصائر قلوبهم، كتاب هداية و إرشاد للغاية القصوى المنشودة إلى آخر منزل المقصود، و للوصول إلى أعلى درجات الإنسانيّة و نيل مقام التوحيد، و شفاء للأمراض العُضال المتراكمة.
أمّا الذين لم يؤمنوا به فقد صُمّت أسماعهم و عُميت قلوبهم و بصائرهم، فلم يعد يمكنهم سماع آيات الله أو مشاهدتها.
فما الذي يجنيه الكفّار بإعراضهم عن القرآن سوى صمم آذان القلوب، و عمى البصائر و عجزهما عن الإصغاء و الرؤية؟
اولئك هم الذين يُنادَون من مكان بعيد، نداء الهداية الإلهيّة يطرق أسماعهم من البعيد، و لا يعدو أن يكون لديهم إلّا همهمة غير مفهومة؛ على العكس من المؤمنين الذين عاشوا بانقيادهم و طاعتهم و تبعيّتهم للقرآن في حرم و حريم القرآن، يستمعون نداءه من مكان قريب، فيفهمون ألفاظه و كلماته و جملاته، فيأخذون جميع القرآن بحسّهم و عقلهم و وجدانهم و يدركونه و يفهمونه جيّداً.
يروي الكلينيّ بسنده عن سفيان بن عُيَينة، عن الزُّهريّ، قال: قَالَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ عليه السلام: لَوْ مَاتَ مَن بَيْنَ المَشْرِقِ وَ المَغْرِبِ، لَمَا اسْتَوْحَشْتُ بَعْدَ أنْ يَكُونَ القُرْآنُ مَعِي.
وَ كَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إذَا قَرَأ «مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ» يُكَرِّرُهَا حتى كَادَ أنْ
يَمُوتَ.۱
فالإنسان غنيّ بمعيّة القرآن لأنّه حقّ، و متحقّق بالحقّ، و معلّم العلوم الحقيقيّة الحقّة؛ و هو بدونه فقير و يبقى فقيراً و إن طالع جميع كتب مكتبات الدنيا، لأنّه قد حاد عن العلوم الحقيقيّة و الوجدانيّة، و ارتمى بين العلوم التخيّليّة.
و يروي الكلينيّ بسنده عن معاوية بن عمّار، قال: قال لي الإمام الصادق عليهالسلام: مَن قَرَأ القُرْآنَ فَهُوَ غَنِيٌّ وَ لَا فَقْرَ بَعْدَهُ، وَ إلَّا مَا بِهِ غِنَيً.٢
في تفسير. لَا يَمَسُّهُ إلَّا المطَهَّرُونَ
القرآن كتاب عميق له درجات و مراتب، يتزوّد منه الجميع كلٌّ بقدر فهمه، و يمتلك في الوقت نفسه ظاهراً واضحاً قابلًا لدرك عامّة الناس، و باطناً ذا منازل و درجات، فكلٌّ يمضي فيه إلى درجة و منزلة ما لا يعدوها إلى غيرها من منازل القرآن، و لا يفهم معانيه العميقة و بواطنه، مضافاً على ما يتطلّبه فهم باطن القرآن و حقيقته من التزكية و الطهارة؛ فحقيقة القرآن و عمقه و باطنه ليست ممّا يُنال بالمطالعة و القراءة فقط:
فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ ، وَ إِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ ، إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ ، فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ ، لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ ، تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ.٣
لذا، فعلى من ينشد الوصول إلى حقيقة القرآن و معانيه العميقة و أسراره الباطنيّة أن يصل أوّلًا إلى حقيقة الطهارة المطلقة، و ذلك بمتعابعة
و السير على نهجه و خطّه، و بعبور عالم النفس الأمّارة ليقع ناظره على جمال الحضرة الأحديّة و يصل إلى مقام التوحيد المطلق.
أي أنّ نفس القرآن و العمل به سيأخذان بيده شيئاً فشيئاً و درجة درجة إلى الأعلى ليفوز بالدرجة العليا و يحظى بالسهم الأوفى.
فالعلم بالقرآن يستوجب العمل به، و ذلك العمل يستلزم و يستتبع علماً أعلى، ثمّ إنّ ذلك العلم سيورث عملًا أعلى، و ذاك العمل الأعلى سيورث علماً أعلى، و هلمّ جرّا.
فكلّ مرتبة من مراتب العلم و العمل في المرتبة الأدنى تورث العلم و العمل في المرتبة الأعلى حتى يصلان به إلى العلم المطلق و العمل المطلق، أي العلم اللامتناهي و العمل الطاهر الخالص المحض الذي لا تشوبه شائبة من أنانيّة أو هوى أو نزوع إلى غير الله سبحانه.
و هذا هو مقام الفناء في الله تعالى الذي يحصل للعامل بالقرآن، و هنا تصبح حقيقة كتاب الله مشهودة و محسوسة و ملموسة، فينظر بالعين الإلهيّة إلى كتابه، و يسمع بالاذن الإلهيّة كلامه، و يقرأ باللسان الإلهيّ قرآنه، فهنا عبدٌ و لا ربّ، و هو لا يدّعي الربوبيّة و مقامها، بل هنا عبدٌ، هنا محوٌ و إطلاق، و لا شيء هنا غير الذات القدسيّة للحضرة الأحديّة.
قطره درياست اگر با درياست | *** | ورنه قطره قطره و دريا درياست۱ |
و هذا المقام مختصّ بالمقرّبين إلى مقام الحقّ تعالى، و السالكين الواصلين، و المحترقين الوالهين الحيارى؛ أمّا سائر الناس فكلٌّ سيستفيد من علوم القرآن بحسب فهمه و قدرته العقليّة، و كذلك بقدر تقواه و طهارته
المكتسبة؛ فمن حاز التقوى و الطهارة قوي عقله، و قاده القرآن و أرشده إلى درجة أفضل.
إنّ درجات و مراتب فهما لقرآن أشبه بدرجات سلّم البناء، فللوصول إلى الدرجة الأعلى لابدّ من عبور الدرجة التي تسبقها، و الدرجة الأدنى هي ممهّد و معدٌّ للصعود و الرقيّ إلى الدرجة الأعلى، وَ هَكَذَا إلى أنْ يَصِلَ السَّطْحَ فَهُوَ نُورٌ عَلَى نُورٍ.
يروي الكلينيّ بإسناده عن جابر، عن الإمام محمّد الباقر عليهالسلام أنّه قال:
يَجِيءُ القُرْآنُ يَوْمَ القِيَامَةِ في أحْسَنِ مَنْظُورٍ إليه صُورَةً، فَيَمُرُّ بِالمُسْلِمِينَ فَيَقُولُونَ. هَذَا الرَّجُلُ مِنَّا.
فَيُجَاوِزُهُمْ إلى النَّبِيِّينَ. فَيَقُولُونَ. هُوَ مِنَّا.
فَيُجَاوِزُهُمْ إلى المَلَائِكَةِ المُقَرَّبِينَ؛ فَيَقُولُونَ. هُوَ مِنَّا.
حَتَّى يَنتَهِي إلى رَبِّ العِزَّةِ عَزَّ وَ جَلَّ. فيقول:
يَا رَبِّ! فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ، أظْمَأتُ هَوَاجِرَهُ، وَ أسْهَرْتُ لَيْلَهُ في دَارِ الدُّنْيَا! وَ فُلانُ بْنُ فُلانٍ، لَمْ اظْمِئْ هَوَاجِرَهُ؛ وَ لَمْ اسْهِرْ لَيْلَهُ!
فَيَقُولُ تَبَارَكَ وَ تعالى. أدْخِلْهُمُ الجَنَّةَ عَلَى مَنَازِلِهِمْ!
فَيَقُومُ؛ فَيَتْبَعُونَهُ؛ فَيَقُولُ لِلْمُؤْمِنِ. اقْرَأ، وَ ارْقَهْ!
قال: فَيَقْرَا وَ يَرْقَى حتى يَبْلُغَ كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ مَنْزِلَتَهُ التي هي لَهُ فَيَنْزِلُهَا.۱
مجموع عدد الآيات القرآنيّة
و يستفاد من هذه الرواية، أوّلًا: أنّ منازل الجنّة تقع في درجات و مراتب متباينة، و أنّ عددها كثير، بعدد آيات القرآن التي ذكروا أنّها
- بأعلى التقديرات - ستّة آلاف و مائتان و ستّ و ثلاثون آية.۱
و ثانياً: أنّ هذه المنازل ليست في عرض بعضها، بل هي في طول بعضها البعض، فالوصول إلى الدرجة الأعلى يستلزم العبور من الدرجة الأدنى منها.
و ثالثاً، أنّ هذه المنازل مرتّبة طبقاً لآيات القرآن، فمن حاز حظّاً
أوفر من الفهم و العلم و الدراية و التلاوة عن تدبّر لآيات القرآن، كان نصيبه منزلًا أعلى و أرفع.
فقد وضع الله سبحانه رتب و درجات في الجنّة للعاملين بالقرآن و العالمين العاملين به.
لذا، فقد توجّب على المؤمن - مادام لم يصل إلى حقيقة القرآن و لم يدرك معانيه الباطنيّة - أن لا يهمل شأن قراءته و التدبّر و التفكّر في آياته، و أن لا يترك التزكية و تطهير النفس و العبادة الهادفة الموصلة، و العمل المنتج المثمر، لينال مراده و يدرك غايته.
يروي الكلينيّ بسنده عن الإمام جعفر الصادق عليهالسلام، قال: يَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ أنْ لَا يَمُوتَ حتى يَتَعَلَّمَ القُرْآنَ أوْ يَكُونَ في تَعْلِيمِهِ.۱
في معنى قول أميرالمؤمنين عليه السلام: إنَّ القرآن حمّالٌ ذو وجوه
نعم، يكفي في عظمة القرآن و كلّيّته أن يستدلّ به المستدلّون في كلّ عصر و زمان لإثبات ادّعاءاتهم و يوردونه شاهداً على صدق أقوالهم، مع تباين و اختلاف كلّ تلك الادّعاءات و المواضيع و المقاصد.
و قد أوصى مولى الموالي أميرالمؤمنين عليهالسلام عبدالله بن عبّاس حين بعثه للاحتجاج على الخوارج و إلزامهم أن:
لَا تُخَاصِمْهُمْ بِالقُرْآنِ! فإنَّ القُرْآنَ حَمَّالٌ ذُو وُجُوهٍ. تَقُولُ وَ يَقُولُونَ! وَلَكِنْ حَاجِجْهُمْ بِالسُّنَّةِ فَإنَّهُمْ لَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَحِيصَاً.٢
لقد استدلّ المحقّقون من علماء الرياضيّات و أهل الهيئة القائلون
بثبات الأرض و سكونها و دوران الشمس حولها، و المعتقدون بأنّ للسيّارات أفلاكاً و تداوير و ممثّلات، استدلّوا بالقرآن أنّ. وَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ.
و اليوم حيث تُعدّ حركة الأرض و سكون الشمس من البديهيّات فقد استدلّوا بنفس الآية أيضاً: وَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ.
قال القدماء. إنّ المراد بالفلك كرة مجوّفة، سطحها الخارجيّ يقابل السطح الداخليّ لكرة اخرى فوقها، و سطحها الداخليّ يواجه السطح الخارجيّ لكرة اخرى تحتها، و كلّ من السيّارات و القمر مُحكم ثابت في هذا الفلك، أي في سمكه، لا حركة له أبداً، بل إنّ جرم الفلك هو المتحرّك، و في النتيجة، فإنّ السيّارات التي هي ثابتة عليه تتحرّك بحركته و تدور.
و يقول المتأخّرون: إنّ المراد بالفلك هو نفس المدار الدائريّ الشكل، ولكنّ السيّارات و القمر هي نفسها في حركة، و ليس هناك أفلاك لها جرم غير نفس أجرام الكواكب؛ و إنّ القمر و الشمس و المرّيخ و زحل و المشتري و عطارد و الزهرة و يورانيوس و نبتون و بلوتون - حيث اكتشف هذين الأخيرين مؤخّراً - هي كواكب و كلٌّ منها يشبه كرة سابحة في الفضاء في مدار خاصّ بها، ليس لها وقوف و سكون و لو للحظة.
رسالة القرآن هي بناء الإنسان، لا حلّ المسائل العلميّة
لكنّ ما يراه هذا الحقير أنّ القرآن الكريم لم يأت في الأساس لحلّ مثل هذه الامور و المسائل، فهو كتاب تعليم و تربية و بناء الإنسان،
و ليس كتاب طبّ و تشريح و هيئة و نجوم، و لا كتاب طبيعيّات و رياضيّات و كيمياء و فيزياء.
و إذا ما أشار في مورد لإرائة الطريق و هداية البشر للصراط المستقيم في مثل هذه الامور، فمع أنّ قوله و بيانه عين الواقع و الصدق المطلق، فإنّه لا يشير للأمر بشكل يثير الاضطراب بين الناس و يسبّب الصخب و الغوغاء بين علماء العصر؛ و لم يبيّن ما يريد بيانه الّا بالاعتماد على القواعد العلميّة التي تؤيّدها التجارب الطويلة الموزونة، لاحتمال عدم قبول الناس لما لا تؤيّده التجربة في عصر ما بعد أن يحتاجوا لقبولها إلى البحث الطويل و التدقيق و التحقيق المتمادي؛ و قد يفتح القرآن الطريقَ في مثل هذه المواضيع، أو يشير إليها دون ذكر الأسباب و الدواعي بشكل صريح.
و قد كانت مسألة حركة الأرض من المسائل التي لا تزال مستعصية بالنسبة للكثيرين على الرغم من جميع الأدلّة و البراهين التي اقيمت عليها؛ إذ لم يتمكّنوا من الوصول بها إلى أبعد من مرحلة الفرضيّات، مضافاً على ذلك فإنّ سكون الأرض أمر وجدانيّ، و الكلّ يرى بالوجدان سكون الأرض و ثباتها.
فعلى افتراض أنّ عصر نزول القرآن كان بعد مرور ما يقرب من خمسمائة عام۱ على هيئة بطليموس، و كانت دنيا العلم آنذاك قد أقرّت بسكون الأرض و كونها مركز العالم، و أنّ الشمس و القمر و السيّارات تدور
حول الأرض؛ فلو قال القرآن صراحة؛ إنّ الأرض تدور حول الشمس، و إنّها متحرّكة، و إنّ السكون الذي ترونه ليس إلّا خيال و وهم، فمن الواضح أنّه لم يكن ليمكنه أن يُقيم دليلًا لهذا المدّعى من بندول فوكو۱ و من
الشواهد الاخرى، إذ إنّ ذلك ليس من صلب رسالته و مهمّته، فتكون النتيجة أن يثار الصخب و الضوضاء حول الرسالة من جرّاء هذه المسألة الصغيرة، فيؤدّي ذلك إلى عرقلة تطبيق النبيّ للأحكام الإنسانيّة لمئات السنين.
و على اساس هذا الأمر المهمّ و السرّ العظيم نرى في الأخبار و الأدعية و الروايات تذكيراً بحركة الشمس و سيرها؛ لأنّ من يفتح عينيه صباحاً سيرى بالبداهة طلوع الشمس من الشرق؛ ثمّ حركتها شيئاً فشيئاً حتى تصل إلى منتصف النهار، ثمّ حركتها تدريجيّاً نحو المغرب حتى تختفي أخيراً وراء افق الغرب.
و إنّما تستند هذا الروايات و الأدعية على المشاهدة الوجدانيّة و الإحساس الفعليّ، و إلّا فقد كان ينبغي أن يُعرض كلّيّاً عن باب الأدعية و بيان عجائب الشمس و حركتها في مدارها فلا يتفوّه بشأنها شيئاً، و هذا الأمر واضح و بيّن و معهود للدرجة التي نلاحظ معها أنّ علماء الرياضيّات الكبار و المنجّمين العظام الحاليّين الذين أثبتوا حركة الأرض قد اعتقدوا بذلك، و تراهم يتحدّثون عن حركة الأرض في الكتب و المجلّات، لكنّهم حين يريدون إلقاء كلمة أو التحدّث في محيط المنزل يقولون. جاءت الشمس، ذهبت الشمس؛ يقول أحدهم. اذهب إلى المدرسة يا بني حين ترتفع الشمس عن الافق مقدار قامة، و لا يقول: اذهب إلى المدرسة حين تدور الأرض من جهة الغرب إلى الشرق بمقدار قامة! لأنّه لو تفوّه بشيء
من ذاك لضحكوا منه.
فبيان الصيغ و المعادلات و الاسلوب العلميّ شيء، و الكلام مع الناس، مع الأب و الامّ و الابن شيء آخر. لذا تدعى حركة السماء بهذه الكيفيّة بالحركة الظاهريّة.
و على هذا فقد جاء في دعاء الصباح مثلًا.۱ وَ أتْقَنَ صُنْعَ الفَلَكِ الدَّوَّارِ في مَقَادِير تَبَرُّجِهِ.٢
و نستنتج من هذا. أوّلًا: أن لا نتساءل. لماذا لم يرد ذكر الأمر
الفلانيّ في القرآن؟ و لِمَ لَمْ يُبحث في القرآن عن حركة السفينة الفضائيّة؟ و عن فلق الذرّة؟ أو عن المثلّثات الكرويّة؟
ليس من الصحيح تطبيق الآيات القرآنيّة على العلوم العصريّة
و ثانياً: أنّ الذين بذلوا الجهود المضنية في هذا المجال محاولين تطبيق آيات القرآن على العلوم العصريّة، كالمرحوم آية الله السيّد هبة الدين الشهرستانيّ في كتاب «الهئية و الإسلام» و الشيخ طنطاوي الجوهريّ في تفسير «الجواهر» لم يسلكوا سبيلًا صحيحاً و صائباً.۱
بما أنّ علوم العصر ليست علماً قائماً على برهان قويم، فلا يمكن أن تكون مبيّنة لحقائق الدين و معارفه، و لا تستطيع أن تكون سدّاً في طريق الدين و حائلًا دون مسيرته، لذا فإنّ من مصلحة هذه العلوم و حامليها أن توظّف في طريق الدين و خدمته.
افتقار النظريّات إلى الثبات، و ارتباطها بنظريّات اخرى
و ما هذه العلوم إلّا نظريّات و فرضيّات و آراء قد اخذت من تجارب ناقصة و استقراء ناقص غير كامل، و هي تعليلات تختلف باختلاف الآراء و وجهات النظر، ينشئونها أحياناً و يرفعونها كما يفعل البنّاء ثمّ يضيفون عليها، و أحياناً اخرى ينقضونها فيهدمونها؛ يثبّتونها و يحكمونها ثمّ يعودون فينقضونها من أساسها. فهي تمثّل في زمن عنفوانها و قبولها أفضل المطالب التي يستشهد بها الناس، ثمّ يُعدل عنها و يُنكص عن الإيمان بها في الأزمان التالية، مثلها في ذلك مثل الحرب و الصلح بين طائفتين، تغلب اليوم هذه فيُدقّ طبل أمجادها و علوّها إلى عنان السماء، و تغلب في غد تلك فتمرّغ انوف دولة خصومها و منافسيها القدماء في تراب الذلّ و الهوان.
نعم، فلقد كان لكلٍّ من التعليلات و الأسباب الكامنة لنظام الكون و عالم الوجود عصر تتسلّط فيه و تحكم على الأفكار السائدة فيه، فتغلب غيرها من الفرضيّات و النظريّات، و يتّفق أصحاب النظر و المتخصّصون في ذلك الفنّ أن لا بديل لهذه النظريّة و لا منازع؛ و لأنّ الناس تابعون للعلماء في كلّ زمان فإنّهم يعتقدون أنّ هذا الاكتشاف و الرأي الجديد من الحقائق الثابتة التي لا تزول أبداً، و أنّ العقول لن تتمخّض عن أفضل منها و أحسن، فهي أمر ثابت و خالد أبد الدهر.
و لكن بمرور زمن غير طويل ترى كوكب ذلك الاكتشاف و الرأي
يأفل، و تألّقهما يخبو وراء الافق، و حكومتهما و سطوتهما تنهار، و عند ذلك تحلّ محلّها فرضيّة و نظريّة جديدة. و هذه الاخرى لها كسابقتها كرّ و فرّ إلى حين، وصولة في الميدان، تصول وحيدة فريدة حتى تخرّ فجأة إلى الأرض بالسيف القاطع لنظريّة و فرضيّة ثالثة.
لقد كان نظام سكون الأرض حركة الأفلاك مورد قبول و إجماع العلماء ما يقرب من ألفَي سنة، و كان معدوداً من العلوم الواضحة و من الأوّليّات و يعتبرون منكره كمنكر و جاحد البديهيّات.
و لقد كُتِبَ في هذه المدّة المديدة عدد لا يُحصى من الكتب بهذا الشأن، في أوضاع الفلك و كيفيّتها و عدد المدوّرات و ممثّلاتها، و دُرِّسَ و بُحث في المدارس العلميّة، لكنّ عصره انقضى و انهار و جاء بعده نظام حركة الشمس حول الأرض و حركة السيّارات حول الشمس، و لم تمضِ مدّة طويلة حتى انهار هو الآخر و جاء نظام حركة الأرض و جميع السيّارات حول الشمس، و الله هو العالم ما هي الفرضيّة التي ستحلّ فيما بعد محلّ هذه الفرضيّة السائدة اليوم؟۱
سيطرة فرضيّة بطليموس ألفي سنة على عقول منجّمي العالم
لقد كان بطليموس٢ أو بطليموسPetolemee عالماً رياضيّاً كبيراً
و منجّماً يونانيّاً مشهوراً عُرِف بالمصريّ لتوقّف والده في مصر، و قد عاش حتى سنة ۱٣٩ ميلاديّة، و كان يعتقد بسكون الأرض و ثباتها و كونها مركزاً لجميع العالم من شمس و ثوابت و سيّارات و أفلاك.
و كان يقول: إنّ الشمس و السيّارات في حالة دوران حول الأرض بشكل دائرة؛ و لأنّه قد لاحظ بمرصده اختلافات في حركة الكواكب السيّارة - من ثبات و إقامة و رجعة - لا تنسجم مع فرضيّة كون الأفلاك دائرة، فقد كان مجبراً على افتراض أفلاك مختلفة اخرى داخلها باسم تدوير، ثمّ بافتراض أفلاك داخل التداوير باسم ممثّل، و بهذه الفرضيّة فقد استطاع بحساب دقيق رصد و تصحيح الحركة الدوريّة للأفلاك و حركاتها غير المنظّمة و تباطؤها و رجوعها، و دوّن ذلك في زيجه المسمّى بـ «المَجَسطيّ».
لقد قام بطليموس برصد ۱٢٢٢ نجماً، و أثبت الطول و العرض الفلكيّ لكلٍّ منها في كتابه «المجسطيّ»، و كانت هيئة بطليموس مورد قبول علماء النجوم و الهيئة لغاية أربعمائة و خمسين سنة قبل الآن.
و قد استمرّ ذلك حتى جاء نيقولا كوپرنيك (Nicolas Copernic)، المولود سنة ۱٤۷٣ و المتوفّى سنة ۱٥٤٣ م، و هو من منجّمي بولونيا المهمّين و تابع نظريّة بطليموس و دقّته الكبيرة التي بذلها في «المجسطيّ» فعجز أخيراً عن تصوّر أفلاك متعدّدة، و قال بحركة الأرض حول الشمس و نقض اصول هيئة بطليموس كلّيّاً؛ لذا يعدّ واضع و مؤسّس الهيئة الجديدة، لأنّه أوّل القائلين بحركة الأرض في القرون الأخيرة.
و كان سبب توجّه كوبرنيك لحركة الأرض هو رصده الحركات المتضادّة التي كان يلحظها في السيّارت، لأنّه طبقاً لُاصول هيئة بطليموس فقد كان يفترض لكلّ حركة يراها في السيّارات فلكاً خاصّاً معزولًا، حتى صار إثبات و تسجيل حركة الأفلاك بالنسبة له عملًا شاقّاً جدّاً؛ و كان يرجع في نفس الوقت إلى نظريّد فيثاغورس في الحركة الوضعيّة للأرض فتولّدت لديه شيئاً فشيئاً فكرة إمكان حركة الأرض و السيّارات حول الشمس في مدارات دائريّة.
لكنّه واجه صعوبة لأنّ ما كان يستخرجه بالحساب لا ينسجم مع نتائج رصده، و كان هناك اختلاف بين ما هو محسوب و ما هو مرصود.
و عليه فقد بقيت مسائله حول السماء مستعصية عليه حتى فارق الدنيا، و ذلك بسبب تصوّره أنّ المدارات دائريّة، كما كان يعتقده القدماء.
و قد استمرّ ذلك و دام حتى جاء المنجّم الدنماركيّ تيخو براهه (Tycho-Bhear)، المولود سنة ۱٥٤٦ و المتوفّى سنة ۱٦۰۱ ميلاديّة، و شرع بعد كوبرنيك بالتحقيق فعرف خطأ سلفه، و اعتقد أنّ مدار السيّارات لم يكن في الأصل دائريّاً، بل شبيهاً بالبيضويّ، أي كدائرة مدّت فنجم لها مركزان.۱
و بهذا الأمر فقد اقتربت حساباته مع نتائج الرصد و تقارب عنده المحسوب و المرصود؛ لكنّ تيخو براهه ارتكب خطاً آخر في اعتقاده كبطليموس بسكون الأرض، و وضعه لذلك اصولًا في الهيئة ليست كاصول بطليموس و لا كاصول كوبرنيك.
اختلاف نظر المنجّمين في اصول علم الهيئة في القرون الأخيرة
تقول اصول هيئة بطليموس إنّ الأرض هي مركز العالم، و إنّ بقيّة السيّارات كالقمر و الزهرة و عطارد و الشمس و المريخ و المشتري و زحل هي بالترتيب أفلاك دائريّة الشكل تدور حول الأرض. و تقول اصول هيئة كوبرنيك إنّ الشمس هي مركز العالم، و الزهرة و عطارد و الأرض و المريخ و المشتري و زحل هي بالترتيب مدارات دائريّة الشكل تدور حول الشمس.
لكنّ تيخو براهه كان يعتقد أنّ الأرض هي مركز العالم، و أنّ القمر يدور حول الأرض، و عطارد و الزهرة تدور حول الشمس، و الشمس تدور حول الأرض، و المريخ و المشتري و زحل تدور حولها جميعاً.
و مع كلّ الجهود التي بذلها تيخو براهه في الإرصاد لكنّ حساباته لم تكن لتطابق مشاهدات الأرصاد السماويّة، و لم تكن المسائل السماويّة مكشوفة له بشكل تامّ حتى فارق الدنيا.
و قد جاء بعد تيخو براهه تلميذه المنجّم الألمانيّ المعروف جان كبلر (Jean Kepler)، المولود سنة ۱٥۷۱ و المتوفّى سنة ۱٦٣۰ ميلاديّة، فتابع جهود استاذه تيخو براهه و أنجز الكثير من التحقيقات.
و لأنّ كبلر قد لاحظ الفرق بين حساباته و بين مشاهداته الرصديّة فقد أوجد طريقاً ثالثاً بين نظريّة كوبرنيك و نظريّة تيخو براهه، فاعتقد أوّلًا بحركة الأرض حول الشمس، و بأنّ الشمس هي مركز المجموعة
الشمسيّة، و ثانياً أنّ مدار السيّارات حسب نظريّته كان بيضويّاً.۱
و قد وجد كبلر الذي كان يرصد كوكب المرّيخ أنّ له اختلافاً مع حساباته بمقدار ۸ دقائق؛ و لأنّه كان يثق بحساباته و يعتبر رصده صحيحاً فقد تحرّى سبب ذلك و اعتقد أخيراً أنّ ذلك الاختلاف يرجع إلى ظنّه أنّ المدارات دائريّة، فلو حسبها بيضويّة لزال الاختلاف و الفارق.
و على هذا، فقد وضع - بعد أن قضى عمراً في ذلك - ثلاثة قوانين مهمّة في علم الهيئة أحدها أنّ مدار السيّارات حول الشمس بشكل بيضويّ تقع الشمس في إحدى بؤرتيه.۱
و قد حاز كبلر على نجاحات في حلّ المسائل السماويّة المستعصية و كانت اصول هيئة هي نفسها اصول هيئة كوبرنيك مع إضافة هذه القوانين الثلاثة لها.
و دام هذا حتى مجيء إسحاق نيوتن (Isaac Newton)، المولود سنة ۱٦٤٢ و المتوفّى في ۱۷٢۷ ميلاديّة، المنجّم و العالم الفيزيائيّ الإنجليزيّ الذي أثبت عن طريق الجاذبيّة الحركة الوضعيّة و الانتقاليّة للأرض.
و قد كان لكوبرنيك حدس بقوّة الجاذبيّة؛ و أحسّ بها من المتقدّمين
آناكزاغور (Anaxagore)، و إبيكور(Epicour)، الذي عاش بين سنة ٣٤۱ حتى سنة ٢۷۰ قبل ميلاد المسيح، و هو من فلاسفة إلى ونان المعروفين الذي كتب ما يزيد على ثلاثمائة كتاب، لكنّ اكتشاف الجاذبيّة كان من نصيب نيوتن.
و معروفة هي قصّة جلوس نيوتن في حديقة مفكّراً في سبب عدم ثبات النجوم السماويّة و علّة حركتها، ثمّ سقوط التفّاحة من إحدى الأشجار إلى الأرض، فظلّ يفكّر. لماذا سقطت التفّاحة إلى الأرض و لم تذهب إلى الجانب الآخر؟ أو أن تظلّ بعد انقطاعها من الشجرة ثابتة في مكانها؛ ثمّ توصّل بعد مدّة إلى علّة سقوط الأجسام إلى الأرض، أي اكتشاف الجاذبيّة الأرضيّة، و طبّق ذلك على النجوم السماويّة، فعلم أنّ سبب حركتها هي قوى الجاذبيّة التي تجذبها.
نعم، لا عجب أنّ الإفرنج يفتخرون بنيوتن، لأنّه فكّر في تجاذب أجزاء العالم فيما بينها، لكنّ العجب أنّ الشرقيّين يُباهون به و يعتبرونه قمّة الرقى مع أنّ قانون جاذبيّة الأجسام ليس من مكتشفاته؛
اكتشاف الجاذبيّة الأرضيّة حصل قبل نيوتن بألف سنة تقريباً
فقد كان للطبيب الشهير و الفيلسوف عديم النظير. ثابت بن قُرّة نفس هذه العقيدة قبلألف و مائة و خمسين سنة.۱ يقول الحكيم المتألّه الصمدانى الحاجّ المولى
...۱
أعلمتَ مَن حملوا على الأعوادِ | *** | أرأيتَ كيف خَبَا ضياءُ النادي |
جبلٌ هوى لَوْ خرّ في البحر اغتدى | *** | من ثقله مُتتابع الأزبادِ |
ما كنتُ أعلمُ قبل حطّك في الثرى | *** | أنّ الثرى يعلو على الأطوادِ |
و لقد أتاني مِنْ مصابك طارقٌ | *** | لكنّه ما كان كالطرّاقِ |
ما كان للعينينِ قبلك بالبكا | *** | عهدٌ، و لا الجَنبينِ بالإقلاقِ |
و أطقتُ حملَ النائبات و لم يكن | *** | ثقلٌ بِرزئك بيننا بِمُطاقِ |
هادي السبزواريّ قدّس الله سرّه في كتابه في شرح دعاء الجوشن الكبير، في شرح فقرة: يَا مَنِ اسْتَقَرَّتِ الأرَضُونَ بِإذْنِهِ.۱ المراد من الاستقرار سكون الأرض في الوسط (في المركز)، وَ سَبَبُهُ مَيْلُ أجْزَائِهَا الثَّقِيلَةِ مِنْ جَمِيعِ الجَوَانِبِ إلى المَرْكَزِ، فَتَتَقَاوَمُ وَ تَتَدافَعُ وَ تَتَعَادَلُ مِنْ جَمِيعِ الجِهَاتِ فَسَكَنَتْ في الوَسَطِ.
إلى أن يصل الحكيم السبزواريّ قدّس الله نفسه إلى القول: وَ قَالَ ثَابِتُ بْنُ قُرَّةَ. سَبَبُهُ طَلَبُ كُلِّ جُزْءٍ مَوْضِعَاً يَكُونُ فِيهِ قُرْبُهُ مِنْ جَمِيعِ الأجْزَاءِ مُتَسَاوِيَاً. إذْ عِنْدَهُ مَيْلُ المَدَرَةِ إلى السِّفْلِ لَيْسَ لِكَوْنِهَا طَالِبَةً لِلْمَرْكَزِ بِالذَّاتِ. بَلْ لأنَّ الجِنْسِيَّةَ مَنْشَا الانْضِمَامِ. فقال: لَوْ فُرِضَ أنَّ الأرْضَ تَقَطَّعَتْ وَ تَفَرَّقَتْ في جَوَانِبِ العَالَمِ؛ ثُمَّ اطْلِقَتْ أجْزَاؤُهَا، لَكَانَ يَتَوَجَّهُ بَعْضُهَا إلى بَعضٍ وَ يَقِفُ حَيْثُ يَتَهَيَّا تَلَاقِيهَا.٢
و على هذا فإنّ قانون نيوتن لم يكن بالأمر البعيد عن أفكار حكمائنا و فلاسفتنا، أو أنّهم لم يكتشفوا قانون الجاذبيّة العامّة بعد.
فما أقبح للرجل أن يجلس للأكل على مائدة قوم، ثمّ يقدّم الشكر و الامتنان لغيرهم! فيقول في مقالته:
إشكال علماء الطبيعة بعد نيوتن على عموميّة قانونه في الجاذبيّة
لقد كان نيوتن الفارس الأوحد لميدان التحقيق، و نابغة التأريخ النادر، سخّر عقول و أذهان العلماء و الحكماء قرنينِ كاملينِ، و أجبر العلماء الرياضيّين و التجريبيّين و الفلاسفة و العرفاء على الجلوس لتعلّم الأبجديّة في مدرسته، و على كنس أرض القصر الرفيع لمعرفته، هذا هو اعتراف جان لوك الفيلسوف الانجليزى.
لكنّ عقيدة نيوتن لم تكن بمنأى و منجى من الانتقاد و الطعن، فقد أورد علماء الطبيعة بعد نيوتن إشكالًا على عموميّة قوّة الجاذبيّة التي صاغها بشكل قانون، و اعتقدوا أنّ الجسم لا يمكنه التأثير في جسم آخر من مسافة بعيدة، جذباً كان ذلك التأثير أم غيره.
فقال فراداي. كلّ جسم يوجِد أمواجاً في محيطه، تكون دائرته الاولى بقدر محيط الجسم، و كلّما ابتعدت عنه زادت اتّساعاً، و تدعى تلك الأمواج بـ جوّ الجذب؛ و هذه الأمواج كالنور و الكهربائيّة، فهي تستقلّ بعد تولّدها و تنفصل عن الجسم، فإن انعدم الجسم و زال أو انتقل إلى محلّ آخر فإنّ جوّ الجذب سيبقى موجوداً لمدّة قصيرة.
أي لو تضاعفت المسافة بين الجسمين فإنّ قوّة الجاذبيّة ستتضاءل إلى الربع.
اعتراض اينشتَين على عموميّة دليل جاذبيّة نيوتن
و قد أخضع ألبرت أينشتَين (Albert Einstein) المحقّق الألمانيّ، المولود سنة ۱۸۷٩ و المتوفّى سنة ۱٩٥٥ ميلاديّة، جوّ الجذب حسب مقولة فراداي لقانون النسبيّة.
و كتب أينشتَين نفسه في كتابه «النسبيّة و مفهوم النسبيّة» في الفصل الثلاثين تحت عنوان. إشكالات معرفة الدنيا في نظريّة نيوتن، يقول: إنّ مشكلًا رئيسيّاً يواجه الميكانيك السماويّ التقليديّ (الكلاسيكيّ)، و على ما أعلم فقد بحث ذلك لأوّل مرّة من قبل زلّيجِر (Seeliger) المنجّم، و هو أنّ العالم غير متناه بلحاظ الفضاء و الزمان، فالنجوم موجودة في كلّ مكان بالشكل الذي يجعل كثافة المادّة بشكل متوسّط واحداً في جميع الأمكنة بالرغم من كونه متغيّراً جدّاً في الجزئيّات.
و بعبارة اخرى: فكلّما ابتعدنا في الفضاء أكثر فأكثر فإنّنا سنواجه دوماً مجاميع رقيقة من النجوم لها نفس النوع و الكثافة تقريباً.
و لا تنسجم هذه النظرة مع نظريّة نيوتن التي تستوجب أن يكون للعالم نوع مركز تزداد فيه كثافة النجوم قياساً للأمكنة الاخرى، و كلّما ابتعدنا عن هذا المركز فإنّ كثافة مجاميع النجوم ستقلّ، حتى نصل أخيراً في الفواصل البعيدة جدّاً إلى منطقة خالية لا متناهية، فينبغي لعالَم النجوم أن يكون كالجزيرة المتناهية في محيط الفضاء اللامتناهي.۱
و لا يبدو هذا الاستنباط في حدّ ذاته كافياً و مقنعاً؛ و الأبعد منه قبولًا هو أنّ النور المنبعث من النجوم و كذلك كواكب مجموعة النجوم تنتظمّ حسب رأي نيوتن داخل الفضاء اللامتناهي، فلا تعود مرّة اخرى و لا تتبادل التأثير مع الأشياء الاخرى في الطبيعة؛ و مصير عالم مادّيّ متناه و محدود كهذا هو الفراغ و الخلو قليلًا قليلًا و بشكل منتظم.
و للخلاص من هذا اللغز فقد اقترح زلّيجر تعديلًا في قانون نيوتن، و افترض أنّ قوّة الجاذبيّة بين كتلتين تفصل بينهما مسافات شاسعة ستضعف بشكل أسرع ممّا في قانون نيوتن؛ أي مقلوب مربّع المسافة؛ و في هذه الحالة يمكن لمعدّل كثافة المادّة أن يبقى ثابتاً في كلّ مكان، حتى في اللانهاية دون أن تنشأ ميادين جذب كبيرة إلى ما لا نهاية. و بهذا الاقتراح فإنّنا سنتخلّص من شرّ التصوّر المزعج في عالم مادّيّ له شيء من نوع المركزيّة.۱
و واضح أنّ انتقاد أينشتَين لنيوتن هو في فرضه عدم تناهي الفضاء؛ فهو يعود إلى شرح مبسّط في الفصل الحادي و الثلاثين تحت عنوان. إمكان
قبول العالم المتناهي ولكن غير المحدود، يقول في آخره:
«و يُستنتج ممّا قيل أنّه يمكن تصوّر وجود فضاءات مغلقة لكنّها بدون حدّ و غاية، و بين هذه الفضاءات فضاء كرويّ (و بيضويّ) يمتاز ببساطته، لأنّ جميع نقاطه في عرض بعضها البعض.
و ينشأ من هذا البحث سؤال يستلفت انتباه المنجّمين و علماء الفيزياء، و هو. هل العالم الذي نعيش فيه غير محدود؟ أو أنّه بشكل عام كرويّ محدود متناه؟
إنّ تجربتنا لا تكفي بأيّ وجه من الوجوه للإجابة على هذا السؤال بدرجة تبعث على الاطمئنان. و بهذه الطريقة يُجاب على الإشكال الذي اشير له في الفصل الثلاثين».
اعتراف أينشتَين بعدم وجود دليل نظريّ أو تجريبيّ على عدم تناهي الفضاء
و نلحظ هنا أنّ أينشتَين نفسه قد وقع في معضلة النتيجة الحاصلة من قانون الجاذبيّة العامّ.
و حسب طريقة و اسلوب علماء الطبيعة الإفرنج الذين يدّعون بلا دليل و لا برهان عدم محدوديّة الفضاء، و عدم وجود حدّ و نهاية لعالم الأجسام و الكرات السماويّة، فهو الآخر يريد الخروج من نتيجة قانون نيوتن و اعتبار العالم المادّيّ أبديّاً غير متناه تحت غطاء عدم محبوبيّة و استحسان تناهي الفضاء و محدوديّته، و عدم استحسان انهدام عالم المادّة و دماره؛ فيحاول إرضاء نفسه و الخلاص من شرّ العالم المحدود المتناهي و المقبل على النقصان باستناده لفرضيّة زلّيجر في إمكان عدم صدق قانون الجاذبيّة في المسافات البعيدة جدّاً، و لنظريّة النسبيّة العامّة التي يبقى صدقها هنا محلّ تأمّل و نظر.
و هذه في فلسفة الإفرنجيّين التي لا تقوم على البرهان و الدليل المتقن، فقبولهم أو إنكارهم الشيء إنّما يستند في النهاية على استحسان
القلب أو إنكاره.
لقد أثبت الشيخ الرئيس ابن سينا و سائر الحكماء ذوي العزّة و الاقتدار بالدليل العقليّ أنّ الفضاء ليس مطلقاً غير متناه، و أنّ هناك جسماً محيطاً بالعالم كلّه بمعنى الكرسيّ و العرش، ليكون لكلّ جسم مكانه الطبيعيّ، فوجود جسم بدون مكان طبيعيّ، و كذا بدون زمان هو أمر محال.
و قد اعترف أينشتَين نفسه أنّه ليس لدينا دليل تجريبيّ و لا دليل نظريّ لحلّ المشكلات الأساسيّة لعالم المادّة التي تجعله حسب قانون الجاذبيّة العامّ متناهياً و محدوداً و تسوقه إلى الزوال و الدمار. ثمّ يقول في آخر الفصل الثلاثين من كتابه السالف الذكر:
«و ليس لدينا أساس تجريبيّ و لا أساس نظريّ للخلاص من المشكلات الأساسيّة بالالتفات حول قانون نيوتن و تغييره، فإنّ قوانين كثيرة يمكن تصوّرها تقود إلى نفس النتيجة، و لا يمكن إيراد دليل على أرجحيّة أحدها على الباقي، لأنّ أيّاً من هذه القوانين لا يفترق عن قانون نيوتن بلحاظ الاستناد على اصول نظريّة أشمل».۱
و هناك في عصرنا مجموعة من خرّيجي الجامعات لم يمتلكوا ثقافة صحيحة، و لم يكن منهج دراستهم تحقيقيّاً، بل إنّهم يردّدون عقائد الغربيّين و أقوالهم بشكل سطحيّ كالببغاء، و لا يكفّون عن ذكر ديكارت و كانت.
فهم لا يفهمون من الفلسفة إلّا الاطّلاع على تأريخها و أسماء مشاهيرها و زمن ولادتهم و وفاتهم؛ و يصدّقون كلّ ما يقوله الطبيعيّون الاوروبّيّون و يظنّونه صحيحاً؛ و لا يقرّون مسألة المكان الطبيعيّ للأجسام،
و يقولون إنّ الفضاء غير محدود، و ينكرون العرش و الكرسيّ!
إنّ المراد من الكرسيّ كما جاء في عقائد الصدوق عليه الرحمة هو جملة جميع الخلق؛ أي الوعاء الذي توجد فيه جميع الأجسام بلا استثناء، و هو ما يدعى في اصطلاح الحكماء بـ مُحَدَّد الجِهَاتِ،۱ و باصطلاح بعضهم العرش الذي هو أكبر من الكرسيّ و الحاويّ له، فمحدّد الجهات الأصليّ هو في الحقيقة العرش. وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ.٢
أي أنّ البناء الوجوديّ لعالم المادّة و الأجسام، من الذرّة إلى المجرّات، و من الأرض إلى ما يتصوّر في السماوات فوق عالم الأجسام، كلّه في كرسيّ الله، أي أن ذلك الكرسيّ كبير لدرجة لا تبقى خارجة عنه أيّة ذرّة في السماوات أو في الأرض، بل تنضمّ داخله فيحيط بها و يشملها. أمّا العرش فأكبر منه، و هو عبارة عن بناء عالم لوجود بما فيه من مادّة و مجرّدات.
و الآية الكريمة: الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى٣ لها دلالة على أنّ عرش المُلك و الهيمنة، و أريكة القدرة و إنفاذ الأمر و النهي التكوينيّ، و إيجاد و إعدام جميع الأجسام و المادّيّات، و إنشاء جميع المجرّدات من
الأرواح و الملائكة و عوالم العقول و البسائط، كلّها من الله تعالى، لا شَرِيكَ لَهُ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ الصمد العليم القدير المهيمن على هذا العالم الواسع و مسلط و مسيطر عليه.۱
استعمال تعبير «الفضاء اللامتناهي» غير إسلاميّ
إنّ تعبير «الفضاء اللامتناهي» التي يلاحظ تكرارها هذه الأيّام في الكتب و المجلّات و الخطب ليس من الإسلام، بل من الغربيّين، أخذه عنهم شبابنا عديمو الخبرة و الدراية بلا تبصّر فدرجوا على استعماله.
و على المسلمين، بل على كلّ شخص حكيم يعمل على أساس البرهان و اصول الفكر الصحيح أن يستعملوا بدل هذا التعبير تعبير الفضاء الواسع، و الجوّ الرحب الكبير.
و نحن لا نعلم أكان أينشتَين معتقداً بعالم المجرّدات و سيطرة القوّة على المادّة و سيطرة عالم الأنوار على عالم حجاب المادّة، أم لا؟!
فقد قيل إنّ أصله كان نمساويّاً و من أتباع الدين إليه وديّ، و ما يُستخلص من عباراته أنّ له ميلًا كبيراً إلى عالم المادّة و علائقه، و إلى أحكام و قوانين عالم الطبيعة، فهو يعتبر علائق المادّة أصيلة للحدّ الذي لم يكن ليرتضي لهذا العالم بالترعزع و الانهيار حتى بعد ملايين السنين، و بأن تختلّ و تضطرب بعض قوانينه السارية الفعليّة.
و هذا الرأي هو من منظار المادّيّين القائلين بأصالة المادّة و أزليّتها و أبديّتها. لا الإلهيّين الذين يعتقدون بعالم أوسع و أرحب، و فضاء أهدأ و أجمل، و لا يمثّل عالم المادّة بأجمعه، بكلّ أحكامه و لوازمه و آثاره
و خصوصيّاته، و جميع قواعده و صيغه و فرضيّاته و قوانينه، مقابل ذلك العالم إلّا كأساور ملقاة في صحراء قاحلة بلا حدود.
في تفسير آية: ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ
و قد خاطب الله سبحانه تعالى نبيّه المصطفى في كتابه الكريم بشأن هذا النوع من أساليب التفكير:
فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَ لَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَياةَ الدُّنْيا ، ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى.۱
فكلمة بلوغ تعني الوصول إلى الغاية، و تمثّل نهاية القصد و الحركة. و يا له من تعبير عجيب جدّاً في بيان مراد الله المتعال في تعيين هويّة و ميزان اعتبار المادّيّين تعبير القرآن هذا ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ.
أي أنّ غاية و أقصى حدود مشاوراتهم العلميّة، و منتهى جهودهم و تحمّلهم المشاقّ وصولًا لأساس الفهم و العلم و الإدراك هو هذا العالم المادّيّ و الجسمانيّ، فأذهانهم لا تعرف إلّا الجسم و الطبيعة و المادّة، و كلّ لفظ يطرق أسماعهم يحملونه على المعنى المادّيّ، حتى لفظ الجلالة و الروح و النفس و المَلَك.
يقولون. إنّ ما يتبادر إلى ذهننا من هذه العبارات و الكلمات هو معانيها المادّيّة و الطبيعيّة.
نعم، فهذا التبادر يعود إلى الجهل و هو ليس بحجّة لإيصال المعنى الحقيقيّ، إذ هو كتبادر الماء الاجاج في ذهن من لم يذق الماء العذب الفرات من قبل.
سيكون مشهوداً للماديّين يوم القيامة أنّ جميع قوانين الطبيعة كانت
إنّما تنشأ أكثر اعتراضات و إشكالات و كفر و إلحاد الملحدين
و الجاحدين و المنكرين من هذا المنطلق؛ أي أنّهم يفهمون من كلّ شيء معناه المادّيّ المحسوس فقط، و ما يتبادر إلى ذهنهم هو الجسم و الطبيعة و المادّة لا غير، لذا فحين يرون أقوال ل% ۰۰۷ - ٣% الأنبياء لا تطابق الحسّ تراهم يعمدون إلى إنكارها و تكذيبها. فحين يسمعون مثلًا بعذاب القبر و سؤال منكر و نكير يتبادر إلى ذهنهم فوراً أنّه ينبغى للملائكة أن يكونوا مرئيّين، و أصواتهم مسموعة، فحين لا يرون و لا يسمعون شيئاً يقولون. ليس هناك من شيء، لأنّ غاية علمهم هي المادّة المحسوسة الملموسة.
أمّا العلماء و العقلاء فيعلمون أنّ هناك عالماً آخر وراء العالم المحسوس، فتراهم يعزون ما لا ينطبق من أقوال الأنبياء العظام و رسل الله على عالم المادّة حكاية عن ذلك العالم الغير محسوس.
و لقد كان أينشتَين متحمّساً لعالم المادّة، قلقاً لدماره و خرابه، لذا فقد عمد في هربه من التزلزل في أبديّة المادّة الذي استنتجه من قانون نيوتن إلى فرض النسبيّة في الموارد التي لا تصدق فيها، و قد أراح نفسه و أقنعها بتسليمه لأمر محال، و هو. عدم تناهي الفضاء و عدم تناهي الزمان.
و ليت قانون الطبيعة و المادّة المحسوسة و انطباق قانون النسبيّة في الفضاء اللامتناهي تماشيه و تسايره، و لكن هي هات؛ إذ ما العمل إذا سُمع نداء: إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ ، وَ إِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ ، وَ إِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ ، وَ إِذَا الْعِشارُ عُطِّلَتْ ، وَ إِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ ، وَ إِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ ، وَ إِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ ، وَ إِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ ، بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ ، وَ إِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ ، وَ إِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ ، وَ إِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ ، وَ إِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ ، عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ.۱
و سيُكوّر و يُجمع نور هذه الشمس الذهبيّة و ضياؤها الذي يعمّ العالم فتغدو مظلمة قاتمة، و ستنطفئ هذه النجوم الجذّابة التي تخطف الأفئدة، من ثوابت و سيّارات، و ستتحرّك هذه الجبال الثابتة الموطّدة و تُسيّر، و ستُشعل هذه البحار و تُسجّر، و ستُكشط هذه السماوات فتُزاح جانباً، و سيأتي نفخ إسرافيل في الصور أن:
إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ ، وَ إِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ ، وَ إِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ ، وَ إِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ ، عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَ أَخَّرَتْ.۱
فتنشقّ هذه السماء الزرقاء و تتناثر الكواكب ذات قوى الجذب و التنافر و تتبعثر كرمال الصحراء و تتشتّت بلا رابطة و لا علاقة، و ستنشقّ البحار و تتفجّر، و يخرج الناس من قبورهم و يُبعثون ليُروا جزاءهم، و عندها فسوف لن ينفع قانون جاذبيّة نيوتن و لا فرضيّة أينشتَين النسبيّة:
هُنالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ وَ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ وَ ضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ.٢
فلن يجدوا ثَمَّ من مادّة و لا أزليّتها و لا أبديّتها، و لا الطبيعة و العالم الحسّيّ و لا قوانينه و علائقة، و سيدركون هناك جيّداً أنّ الله مولاهم و وليّهم و حارسهم و مدبّرهم و راعيهم و المحيط بهم و المهيمن على جميع امورهم قد كان في جميع مدّة الدنيا المديدة حقّاً، و أنّ المادّة بجميع أحكامها المادّيّة، و الطبيعة و قوانين جاذبيّتها و تنافرها كانت تحت أمر و هي منة إرادة و علم و قدرة الحقّ تعالى، و هذا الأمر ليس كأنّه بل إنّه لحقّ.
و سيدركون أنّ تلك المدائح و التكريمات التي كالوها للمادّة، و الأيّام
و الليالي التي قضوها للحصول على صيغة جديدة و اكتشاف قانون جديد لها، بل إنّ ذلك العمر الذي قضوه في هذه المرحلة بعقد المؤتمرات و حضور الجلسات، و في المطالعة و التأليف، و في طيّ المراحل الجامعيّة، لم يكن حقّاً. و أنّ نسبة الثبات و الأصالة التي كانوا يفيضونها على المادّة كانت خطاً محضاً و حجاباً و عمى، و ها هي الآن قد ضاعت كلّها في موقف ظهور الحقّ هذا، و أنّ ما توهّموه علماً في الدنيا و ما كانوا يدَّعونه علماً قد اتّضح الآن أنّه لم يكن إلّا خيالًا و وهماً، ضاع بأجمعه و تلاشي.
و صار مشهوداً في هذا الموقف أن لم يكن في الطبيعة مع الله شيء آخر سواه، و أنّ ما كان جارياً هو الحقّ و إرادته المباشرة، لكنّ العين الحولاء كانت ترى الحقّ باطلًا و الباطل حقّاً.
نعم، لقد سقنا البحث إلى هنا ليُعلم كم طال اختلاف الآراء و النظريّات حول دوران الأرض و المدار السماويّ، و أين انتهى، و لسنا نعلم ما الذي سيأتي بعد من آراء لتنسخ آراء السابقين.
و نظير اختلاف الآراء حول دوران الأرض اختلافها في الحرارة المركزيّة للأرض، و التي ظلّ العلماء لمدّة مديدة يعزون السبب الوحيد للزلزلة و البركان في قمم الجبال إلى الحرارة المركزيّة للأرض، حتى جاء اللورد كِلْفين فعزى ذلك إلى شيء آخر و وافقه داروين على رأيه هذا.
اختلاف آراء الفلاسفة المادّيّين في حقيقة المادّة
و أعجب من هذا كلّه هو اختلاف الآراء و تباين النظريّات بشأن حقيقة المادّة؛ نعم هذه المادّة نفسها التي يحنون الرؤوس تعظيماً لها و يحصرون الموجودات فيها، فجعلوها مقابل الله الأزليّ الأبديّ عَلَماً يُثبتون لها أعلى صفات الالوهيّة من الأزليّة و الأبديّة، و لقد جهدوا في الكفر بالله الربّ الخالق و ساقوا أنفسهم أذلّاء تابعين لهذه المادّة الصمّاء عديمة الشعور.
لقد اتّفق رأي طبيعيّي العالم و ماديّيه و كلمتهم ابتداءً على أنّ المادّة لا تفنى و لا تضمحلّ، و كانوا يتمسّكون بهذا الرأي و يصرّون عليه لدرجة يعجب المرء منها و يحار؛ ثمّ أثبت جوستاف لوبون أنّ المادّة تفنى و تضمحلّ و تتحلّل، و أنكر هانس و مالبرانش و طومسون من الأصل تلك الذرّات الصغار و الجواهر الفردة التي اعتبرت المادّة مكوّنة من تركيبها، و قالوا إنّ حقيقة المادّة ليست أجزاءً صغاراً و ذرّات دقيقة مرتبطة و مركّبة ببعضها، بل هي نوع من الحركة في الأثير،۱ أو نوع من الاضطراب و الاهتزاز أو الأمواج التي توجد في الأثير.
و لقد نفى جوستاف لوبون حتى هذا النوع من الوجود للمادّة أيضاً، و كان رأيه أنّ المادّة هي مخازن للقوّة تتمكّن فيها لا غير، و اعتبرها اسبرن دينلدر عبارة عن خُلل و فتحات توجد في انتظام دقائق الأثير.
و قد أنكروا في الحقيقة بهذا النمط من الآراء و النظريّات وجود المادّة، و استنكفوا عن معبودهم الأزليّ، فوجّهوا وجوههم إلى قبلة اخرى هي الأثير، هذا الأثير الذي كانوا ابتداءً ينكرون أصل وجوده و تحقّقه، و لا يعرفون له وجوداً إلّا بمقدار ما تستخدمه المادّة و بمقدار الميدان لحركتها و مرآة تجلّي مظاهر قدرتها و قوّتها.
ثمّ بقي الأثير أيضاً مدّة ينتظر حلول يوم نحسه و إدبار حظّه لِينزلوا به ما أنزلوه بالمادّة، و ليهبطوا به من علياء عرشه و سلطان قوّته و اقتداره و يخلعوا عنه رداء الأزليّة و الأبديّة، و يعلّقونه قهراً و جبراً على خشبة إعدام التجزئة و التفرقة و الفناء و الاضمحلال و ينكرون أصل وجوده تماماً كما
فعل بوانكاره، حيث جاء و أبدل الأثير بآخر يحلّ محلّه و يقوم مقامه فأناطوا إلى الأمر و النهي. نعم؛ وَ كُلُّ آتٍ قَرِيبٌ.
و ها نحن بعد مرور مائة و خمسين ستة مرّت - من زمن أينشتَين حتى اليوم - لا نسمع عن الأثير شيئاً، بل و نرى علم الفيزياء يرفض الأثير و لا يقرّ به.
و كما حكم جماعة بفناء المادّة و اضمحلالها، فإنّ آخرين قد سلبوا عنها صفة بساطتها، فقالوا إنّ أجزاء المادّة و ذرّاتها الصغيرة التي تشكّل جوهرها ليست بسيطة، بل إنّ كلًّا من هذه الذرّات الصغيرة التي تدعى بالجزيئات تمتلك نواة مركزيّة تدعى البروتون و مركّبة من ألف جزء من الشحنة الكهربائيّة الموجبة، يدور حول هذه النواة دقائق تحمل الشحنة الكهربائيّة السالبة يُدعى كلُّ منها بـ الإلكترون.۱
ثمّ جاء بعد ذلك آخرون و قالوا إنّ المادّة ليست إلّا أمواجاً حركيّة، فلا شيء منها في العالم إلّا نفس الحركة، و إنّنا نشاهد اختلاف الصور و الأشكال و الأشياء في الخارج لاختلاف نوع الحركة التي نسمّيها أمواجاً.
فلو كان هذا الاختلاف في المادّة الذي أوجدوه يتعلّق بالمادّة نفسها لما كان مهمّاً، لكنّ هذه الآراء الأخيرة تسبّب تحطّم و انهيار أساس بحث و استدلال الفلاسفة المادّيّين لقرون متمادية و عصور طويلة.
و من بين المسائل التي صارت مورد بحث المحافل و المدارس هي مسألة أصل نوع الإنسان، و أنّه مِمَّ خُلق؟ فهل ولد من أب و امّ معيّنين؟ أم تدرّج من طبقات الحيوانات السابقة الواحدة تلو الاخرى حتى انتهى إلى نوع البشر؟!
القول بانتهاء الإنسان إلى آدم و حوّاء، و بانتهاء كلّ حيوان إلى أصله
و في هذا الشأن قولان:
القول الأوّل: إنّ أبوَي هذا النوع كانا آدم و حوّاء اللذان خلقهما الخلّاق العليم القدير بإرادته بنحو الإبداع و الإعجاز دفعة واحدة، بأن صيّر التراب طيناً فسوّى منه آدم، ثمّ نفخ فيه فصار بشراً سويّاً له عقل و ذكاء و إدراك.
و كذا الأمر بشأن أصل خلقة سائر أنواع الحيوان، حيث خلق لكلٍّ منها أصلًا من أب و امّ، البقر و الغنم، و الأسد و النمر، و الطيور و الحيوانات البرّيّة ...، كلٌّ خلق له أصلًا بنفس الاسلوب و أوجد فيه نفساً حيوانيّة خاصّة، فصارت اصول بداية خلقة الأجيال العديدة للحيوانات على ظهر البسيطة.
صار آدم أبا البشر، لأنّ بدنه يخلو من الشعر خلافاً لجميع الحيوانات،
لذا يقال للإنسان بشر، فالبشر جمع بشرة، و البشرة تقال للموجود الذي يخلو جلده من الشعر فتبدو بشرته؛ و هكذا صارت اصول الحيوانات أبا الفَرَس و أبا الغنم و أبا البقر و أبا الأسد و غيرها.
و أوجد كذلك للبناتات و الأشجار أصلًا من ذكر و انثى، فخلق أشجار الصنوبر، و السِّدر، و الأشجار المثمرة، و الأعشاب و الحنطة و العدس و الأرز و غيرها بهذا المنوال، و أوجد بصنعه البديع اصول الأشياء.
ثمّ أجرى بإرادته التامّة هذه الأنواع البديعة بالتناسل و التكاثر بالمثل في الإنسان و الحيوان و النبات، و هو الآن أيضاً كلّما شاء أن يوجد نوعاً بديعاً في أي وقت أوجده، و متى ما شاء أن يسبّب انقراض نوع ما و قطع نسله فَعَل، ثمّ أسند نوعاً آخر مكانه على كرسيّه.
كانت جميع الحيوانات ثابتة لا تتغيّر، تعود جميعاً إلى اصولها البديعة الإعجاز، المخلوقة دفعة واحدة؛ و ستستمرّ هكذا إلى الأبد أنواع النباتات بتكاثرها التناسليّ، و ستمضي أنواع الحيوان و أصناف الإنسان نحو الثبات و الاستقرار، فلا تبديل في العالم لنوع ما إلى نوع آخر، فجميع الأنواع ثابتة و العالم ثابت لا يتغيّر، و هو أشبه بنجوم السماء، و جميعها قد ملأت ساحة عالم الطبيعة بهذه الكيفيّة؛ و يُدعى هذا القول فيكْسِيسْم(Fixisme)، و القائلون به يدعون فيكْسِيست(Fixiste).
القول بانتهاء الإنسان و جميع أنواع الحيوان إلى نوع واحد
و القول الثاني: إنّ جميع الموجودات الحيّة، من حيوان و إنسان و نبات قد جاءت نتيجة التغيّر و التبدّل في الأنواع، و إنّ جميع الناس ينتهون إلى نوع من الحيوان جاء كسائر أقسام الحيوانات من نوع واحد، ثمّ تكاثرت على إثر تكامل الأنواع.
فهذه الكثرة الملحوظة فيها ترجع إلى تناسلها و تكاثرها و وجودها التكامليّ، و إلّا فكلّما توغّلنا نحو اصولها سنجد أنّ جميع الأنواع كانت
أبسط و أقلّ عدداً، حتى نصل إلى أنواع من الحيوانات الصحراويّة، و تلك تعود إلى أنواع من الحيوانات ذات الحياتين، و تلك ترجع إلى أنواع من الحيوانات المائيّة، و هذه الأخيرة أصلها في غاية البساطة و تنتهي أخيراً إلى الموجودات ذات الخليّة الواحدة التي توجد في المياه الراكدة الآسنة.
فقد نمت و تكاملت تلك الحيوانات ذات الخليّة الواحدة التي كانت في الماء بنحو تصاعدى و شطرنجيّ، أي أنّ ذلك الموجود ذا الخليّة الواحدة قد انقسم للوهلة الاولي من الوسط إلى نصفين، ثمّ نما النصفان، ثمّ انقسم النصفان و نميا، ثمّ صارا ثمانية فستّة عشر، و هكذا تضاعفت بنحو المتوالية الهندسيّة و ظهرت منها حيوانات أكبر بحريّة كانت تعيش في بداية أمرها في ذلك الماء الآسن و المستنقعات الراكدة، ثمّ جاءت إلى حافّة الماء فخرجت منه، و عادت إليه حتى صارت شيئاً فشيئاً ذات حياتين، ثمّ تطوّرت هذه الحيوانات ذات الحياتين تدريجيّاً فابتعدت عن الماء و نشأ منها الحيوانات الصحراويّة، ثمّ نشأ منها الطيور و الإنسان. فكان أوّل أمر الإنسان نوعاً من الحيوان، ثمّ سقط شعر جسمه و ذيله و قرناه على إثر التكامل فصار بشراً.
و قد وهب الله لهذا النوع عقلًا، و جعل أحده آدم و الآخر حوّاء، أمّا غيرهما من أفراد الإنسان الذين لم يمتلكوا العقل و الشعور فقد انقرض نسلهم من العالم بالتدريج؛ أو أنّهم هم أيضاً كانوا يمتلكون العقل و الإدراك، و قد أنعم الله على البشر من بينهم بخلعة النبوّة و العلم و المعرفة، فصار البشر يتكرّم عليها بقوّة العلم.
و يُدعى هذا القول ترانسفورميسم (Transformisme)، و يُدعى القائلون به ترانسفورميست (Transformiste).
إنّ اختلاف الإنسان عند القائلين بتكامل الأنواع (ترانسفورميست)
مماثل بعينه لاختلاف الأنواع في الحيوانات، فكما أنّ هناك أصنافاً مختلفة من الإنسان ترجع إلى اصول و أعراق مختلفة. الأصفر و الأسود و الأبيض و الأحمر، لكنّها ترجع إلى أصل واحد و تنتهي إلى إنسان واحد، و كذا الأمر بالنسبة لجميع أنواع الحيوانات، إذ إنّها تنتهي هي الاخرى إلى نوع واحد.
و ما العالم إلّا كنهر جار تسير فيه الأنواع إلى تكاملها فتتبدّل أنواعها إثر التغيّر التكامليّ فيها.
و ينطبق كذلك أصل هذه الفرضيّة على الحيوانات و النباتات، فآدم و حوّا لم يكونا الحلقة الاولى في هذه السلسلة، بل تمّ تحوّل الأنواع إلى نوع البشر بعد مرور ملايين من السنين، فتمّ انتخاب آدم و حوّاء، و على رأي البعض فقد استلزم ذلك مرور ثلاثمائة مليون سنة، و على رأي بعض آخر ستمائة مليون سنة، و بقول آخرين ثمانمائة مليون سنة، و قال آخرون بأكثر من هذا.
و السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو. ما هو نسل الحيوانات الذي كان قبل آدم و مثّل الحلقة التي سبق حلقة نسل البشر؟
قيل: تلك حلقة مفقودة؛ فجميع حلقات الحيوانات السابقة و الأنواع المختلفة التي تبدّلت و تطوّرت منها قد اكتُشف و صار معلوماً، و من المسلّم أنّ الإنسان ينتهي هو الآخر إلى تلك الأنواع؛ لكنّ بين الإنسان و تلك الأنواع السابقة حلقة وصل؛ فما هي حلقة الوصل تلك! و ظلّ هذا السؤال بلا إجابة. لذا فقد دُعيت تلك الحلقة بالحلقة المفقودة.
يقول داروين إنّه قد اكتشف الحلقة المفقودة، و تلك هي القرد!! لكنّ داروين لم يقدّم دليلًا على مقولته هذه، التي رفضها كبار القائلين بنظريّة تغيّر الأنواع ممّن جاء بعد داروين، كما أنّ دعاة هذه النظريّة بقوا لا يملكون أي دليل قاطع لرفض ما يستفاد من ظواهر الآيات القرآنيّة في
إنّ الله تعالى خلق البشر من الطين دفعة واحدة على نحو الإعجاز و الإبداع و نفخ فيه من روحه.
و لأنّ الحلقة المفقودة بقيت غير مكتشفة، فإنّ هناك في هذا المجال احتمالان من وجهة النظر العلميّة.
الأوّل: أنّ نسل البشر ينتهي إلى أنواع الحيوانات السابقة، مع احتمال تحقّق الحلقة المفقودة و التسليم بها.
و الثاني: خلق آدم دفعة واحدة بنحو الإعجاز، و في هذه الحالة فإنّ القائلين بتغيّر الأنواع سيتكلّمون في هذا الأمر وفق الظنّ و الحدس و التخمين، فهم يتشدّقون بأنّ أساس التكامل صادق في جميع الأنواع فلابدّ أن يكون الأمر كذلك بالنسبة للإنسان.
و هناك قول ثالث في هذا الشأن، و هو غير معروف طبعاً، و هو أن نقول بأنّنا نعتقد بالخلق الإعجازيّ دفعة واحدة بخصوص الإنسان، أي بنظريّة ثبات الأنواع، و نقول بالتبدّل و التكامل لسائر أنواع الحيوانات، أي بنظريّة تغيّر الأنواع و تكاملها. نعود ثانية إلى موضوعنا الأصليّ و نقول.
بالرغم من اعتقاد مؤلّف كتاب «خلق الإنسان»۱ بنظريّة تكامل الإنسان و إصراره الشديد على تطبيق آيات القرآن عليها، لكنّه يقول بصراحة.
«على فرض صحّة نظريّة داروين و قطعيّتها فهي لا تمثّل إلّا بياناً لعلّة التغيير التدريجيّ للموجودات الحيّة، لكنّ نظريّة كهذه ليست صادقة و لا تنطبق على ابتداء الخلقة حيث كان الأمر خالياً إذ ذاك من تنوّع و اختلاف الموجودات.
فلقد أثبتت العلوم الحياتيّة هذه الأيّام - مؤيّدة بالدلائل المكتشفة في علم طبقات الأرض - حدوث التنوّع و الاختلاف التدريجي في الموجودات الحيّة، فزادت أنواعها و كثرت، ممّا يؤيّد كون الحياة قد نشأت من مكان واحد.
أمّا كيفيّة نشوء الحياة من جسم ميّت و مادّة غير حيّة، فبالرغم من جميع الجهود العلميّة التي بُذلت لمعرفة ذلك فقد بقيت المسألة في حدود الفرضيّة و النظريّة و لم تكتسب صورتها القطعيّة إلى قينيّة.
فرضيّة القائلين بالتكامل، و عدم وجود الحلقة المفقودة
لقد واجهت نظريّة داروين الانتقادات (راجع كتاب «Bioligie Animale» تأليف Aron et Grasse، الصفحات ۱٣٣٤ إلى ۱٣٦٢، نشرMasson باريس، سنة ۱٩٦۰ م)، و لم تكتسب نظريّته شكلها و إطارها التامّ الخالي من الاستثناءات، لذا فإنّ استناد المادّيّين على فرضيّة داروين و الفرضيّات المتعلّقة بمنشأ الحياة سعياً لإنكار خالق العالم لن يصمد أمام المنطق العلميّ».۱
و يقول المؤلّف المذكور كذلك:
«لقد اعتقد العلماء السابقون في عصر المدنيّة إلى ونانيّة بالتغيير التدريجيّ للموجودات الحيّة مثل أناكسيماندير (Anaximander) و امبدوكليس (Empedocles). فأمبدوكليس مثلًا (القرن الخامس قبل الميلاد) قد اعتقد قبل داروين أن كيفيّة التنازع على البقاء و انتخاب الأصلح مؤثّر في تغيير الأنواع.
لم تتجاوز المعارف و المعلومات العلميّة العامّة في القرون الوسطي بشأن الموجودات الحيّة ما ذُكر في آثار الهنود و البابليّين، أو ما ورد في
التوراة، و مع ذلك فإنّ بعض كبار مفكّري المسيحيّة مثل غريغوربوس النيصي (Gregory Of Nissa) من الكنائسيّين إلى ونان و اغوستين المقدّس (Augusin) من الكنائسيّين اللاتينيّين اللذين عاشا في القرن الرابع و الخامس الميلاديّ كانا يعتقدان بتكامل العالم و تطوّره ضمن الإرادة الإلهيّة، و أكدّا في كتاباتهما أنّ الأقسام الجديدة للموجودات الحيّة قد خُلقت من التغيير التدريجيّ للأقسام السابقة تحت تأثير عوامل طبيعيّة ثانويّة».۱
و قال كذلك: «إنّ نظريّة تغيّر الأنواع (ترانسفورميسم) قد جرى بيانها قبل داروين من قبل بُوفُّون (Buffon ، ۱۷۰۷ إلى ۱۷۸۸ م)، و لامارك (Lamarek، ۱۷٤٤ إلى ۱۸٢٩ م)، و جيفرو سنتيللر (Etienne Geffroy Saint Hillaire، ۱۷۷٢ إلى ۱۸٤٤ م)، و قبل ذلك من قبل بعض العلماء المسلمين و العلماء إلى ونانيّين، و من المؤكّد أنّ العلماء المتأخّرين لم يكونوا بمعزل عن الاطّلاع على أفكار أسلافهم، لكنّ نظريّة داروين قد ترافقت مع تجارب و أمثلة كثيرة ممّا أدّى إلى القبول بها أكثر من سابقاتها، و إلى تركّزها في الأذهان.
لقد اعتقد داروين (Charles Robert Darwin، الذي عاش بين ۱۸۰٩ و ۱۸۸٩ ميلاديّة) بتأثير موضوع التنازع على البقاء في الانتخاب الطبيعيّ، و في نشوء أنواع جديدة و تكاثرها و تغييرها التدريجيّ. و كما قد اشير سابقاً فقد كان لداروين أسفار كثيرة للمطالعة و لإجراء التجارب بشأن نظريّته، و قدّم الأمثلة المتعدّدة لدعمها، لذا فقد أثارت نظريّته الاهتمام منذ
البداية.
لكنّ مطالعة الانتقادات التي وجّهت لها فيما بعد ستوضّح أنّ هذه النظريّة لم تكتسب صفتها القطعيّة، كما أجبر داروين نفسه على اعتبار عوامل ثانويّة اخرى مؤثّرة في التغيير التدريجيّ للأنواع».۱
مؤسّس التشريح التطبيقيّ (كوفيه الفرنسيّ) من مدافعي نظريّة ثبات الأنواع
و يقول كذلك. «بناء على نظريّة ثبات الأنواع (فيكِسيسم) فإنّ العلماء المهتمّين كانوا يعتقدون بعدم وجود رابطة و علاقة نسليّة بين أقسام الموجودات الحيّة. و كانت هذه العقيدة رائجة إلى أوائل القرن التاسع عشر للحدّ الذي كان العالم الفرنسيّ كوفيه(Cuvier) مؤسّس علم التشريح التطبيقيّ يكتشف بمطالعاته و أبحاثه الدقيقة الواسعة تشابه الهيكل التشريحيّ بين بعض الموجودات المختلفة ظاهريّاً ممّا يشير إلى ارتباطها و علاقتها، لكنّه كان واقعاً تحت تأثير نظريّة ثبات الأنواع و أحد المدافعين عنها، فاجبر في النهاية على إضافة وجهة نظر جديدة إلى نظريّة ثبات الأنواع تقول:
بالرغم من أنّ لأنواع الموجودات خلقة منفصلة و مستقلّة عن بعضها، لكنّ نظر الخلّاق في إيجادها لم يكن عشوائيّاً خالياً من النظام و التخطيط، و إنّ على علماء الطبيعة أن يكتشفوا و يتعرّفوا على هذا التخطيط المشترك الواحد الذي استُخدم في خلقة الموجودات، و هذا التخطيط المشترك المذكور إنّما هو الصفات الطبيعيّة المشتركة في أنواع الأحياء المختلفة».٢
و يضيف المؤلّف أيضاً:
«إنّ نظريّة داروين هي نظريّة لبيان العلّة (أو إحدى العلل) المؤثرة في
التغيير التدريجيّ للأنواع، و ليس في مسألة خلقتها التكامليّة، و كما أوضحنا سابقاً فإنّ داروين قد اعتبر في بداية الأمر الانتخاب الطبيعيّ للأنواع بواسطة عامل التنازع على البقاء هو المؤثّر الوحيد في تنوّع و تكاثر الموجودات.
و قد اعتبر علماء آخرون مثل بوفون و لامارك و سنتيلّر و إيزمان (Weismann الذي عاش بين ۱۸٣٤ إلى ۱٩۱٤ م) و دي فرايس(de Vries، ۱۸٤۸ إلى ۱٩٣٥ م) عوامل اخرى مثل تغيّر الظروف الطبيعيّة لمحيط العيش و استعمال أو عدم استعمال الأعضاء، و تغيير هي كل الخلايا الجنسيّة و التغيير السريع (Mutation) مؤثّرة في التغيير التدريجيّ للأنواع.
و لم تكن أيّاً من هذه النظريّات، بالرغم من التجارب الكثيرة التي اجريت بشأنها، متكاملة شاملة، فقد حفل كلٌّ منها بالنواقص و الإشكالات التي منعت من اعتبارها و النظر إليها كنظريّة عامّة قطعيّة في التغيير التدريجيّ لأنواع الموجودات. كما أيّد داروين نفسه في كتاباته الأخيرة مسألة تأثير ظروف محيط العيش على تكامل و نشوء أنواع جديدة، مضافاً إلى التنازع على البقاء (راجع كتاب «Cours elementaires de Zoologie» تأليف Remy Perrier، نشرMasson، باريس، ص ۱۰۰).
و كذلك اعتقادهم في النظريّة الداروينيّة الجديدة بأنّ عامل الوراثة و التغيير الدقيق للخلايا الجنسيّة منا لمؤثّرات في نشوء الأنواع الجديدة.
و على أيّة حال فلا يمكن لأيٍّ من العوامل المذكورة أن يكون لوحده عاملًا قطعيّاً و تامّاً للتغييرات التدريجيّة للموجودات في أي زمان و مكان، فهذه العوامل و أمثالها بأجمعها هي عوامل ثانويّة لعلّة أصليّة و غائيّة أدّت إلى تغييرات مستمرّة في عالم الوجود منظّمة و مثمرة و متناسبة مع بعضها و قابلة
للاستمرار».۱
كان داروين مسيحيّاً و مؤمناً بالله
نعم، لقد كان داروين الذي يمكن أن نعتبره المنشئ و البادئ بهذا الرأي التكامليّ في هذا العصر مسيحيّاً إنجليزيّاً متديّناً متمسّكاً بالمسيحيّة، و قد أمسك عند احتضاره بكتاب المسيحيّين المقدّس على صدره و ألصقه به بقوّة، لقد كان معتقداً بالله، لكنّ نظريّاته صارت بعد موته مورداً اسيء استخدامه و الاستفادة منه، فقد جعله المادّيّون و الملحدون سنداً و دسيسة لهم أثاروا لأجلها ضجّة و صخباً بالشكل الذي لم يكن داروين نفسه ليرضى به أو يريده.
و قد أثارت هذه النظريّة قلقاً و اضطراباً شديداً في محافل المسيحييّن الاوروبّيّين؛ مع أنّ الإنجيل يتطرّق إلى بدء خلقة الإنسان، لكنّه نصّ على صحّة مطالب التوراة بأجمعها و اعتبر اتّباعها في العقيدة و الأخلاق و العمل واجباً، كما أوجب على المسيحيّين العمل بكتاب التوراة مادام الدهر، و لم يعدّه منسوخاً باطلًا؛ لذا فحين تتعارض نظريّة داروين مع تصريح التوراة في الفصل الثاني من سِفْر التكوين بالقول بأنّ الله خلق آدم من الطين و خلق زوجه حوّاء من خَلْفِهِ، أي من أصغر أضلاع جنبه الأيسر،٢ فإنّها لهذا تتعارض بصراحة مع عقيدة و مذهب القساوسة النصارى.
لقد وردت في سفر تكوين التوراة مسائل مغايرة للحقيقة بشأن خلقة آدم و حوّاء و تفوّق الشيطان عليهما في أصل الخلقة تجعل تحريف هذا الكتاب الإلهيّ بِيَدِ البشر مسألة مسلّمة، و قد ورد في بعضها وصف الله بالكمر و الخداع و وصف الشيطان بالصدق!
و قد ألّف علماء الإسلام الأعلام كتباً لإبطال هذه الزخارف و الأضاليل التي تدلّ الأدلّة و الشواهد العقليّة و النقليّة على خلافها، كما فعل آية الله المعظّم الشيخ محمّد جواد البلاغيّ النجفيّ۱ في كتاب «الرحلة المدرسيّة أو المدرسة السيّارة» في ثلاثة أجزاء، و هو حقّاً كتاب نفيس ثمين.
أمّا مسألة خلق زوج آدم من ضلعه الأيسر، و ما هو مشهور من أنّ عدد الأضلاع إلى سري للرجل تنقص عن مثيلاتها في المرأة فكلام عار عن الحقيقة، لا واقع له في الخارج و لا دليل عليه من الآيات القرآنيّة.
و الاية المباركة: يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ
واحِدَةٍ وَ خَلَقَ مِنْها زَوْجَها،۱ تدلّ على أنّ الرجل و المرأة خُلقا من جنس واحد، و أنّ زوج آدم قد خُلقت من نفس المادّة التي خُلق آدم منها، و لفظة من: في خَلَقَ مِنْها زَوْجَها ليست تبعيضيّة، بل نشوئيّة تفيد ابتداء الغاية. و معنى النفس الواحدة هو الشيء الذي تقوم به إنسانيّة الشخص، و هو عبارة عن الروح و البدن في عالم الدنيا، و الروح فقط في عالم البرزخ، فالآية في مساق قوله تعالى:
وَ مِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَ جَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَ رَحْمَةً؛٢ و قوله تعالى: وَ اللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ وَ حَفَدَةً؛٣ و قوله تعالى: فاطِرُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَ مِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ؛٤ و نظيرها قوله: وَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ.٥
عدم اعتبار الروايات الدالّة على أنّ خلق حوّاء من ضلع آدم الأيسر
فما جاء في بعض التفاسير من أنّ المراد بالآية كون زوج هذه النفس مشتقّة منها و خلقها من بعضها وفاقاً لما في بعض الأخبار أنّ الله خلق زوجة آدم من ضلع من أضلاعه ممّا لا دليل عليه من الآية.٦
و في «نهج البيان» للشيبانيّ عن عمرو بن أبي أبي المقدام، عن أبيه، قال: سألتُ أباجعفر عليهالسلام: من أي شيء خلق الله حوّاء؟
فقال عليهالسلام: أي شيء يقولون هذا الخلق؟
قلتُ: يقولون: إنّ الله خلقها من ضلع من أضلاع آدم.
فقال: كذبوا، أكان الله يعجزه أن يخلقها من غير ضلعه؟!
فقلت: جعلت فداك، من أي شيّ خلقها؟
فقال: خَبَّرنِي أبي عَنْ آبائه قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ:
إنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَ تعالى قَبَضَ قَبْضَةً مِنْ طِينٍ، فَخَلَطَهَا بِيَمِينِهِ - وَ كِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ - فَخَلَقَ مِنْهَا آدَمَ؛ وَ فَضُلَتْ فُضْلَةٌ مِنَ الطِّينِ فَخَلَقَ مِنْهَا حَوَّاءَ.
و روى الصدوق عن عمرو مثله. و هناك روايات اخرى تدلّ على أنّها خلقت من خَلْف آدم و هو أقصر أضلاعه من الجانب الأيسر؛ و كذا ورد في التوراة في الفصل الثاني من سفر التكوين.
و هذا المعنى و إن لم يستلزم في نفسه محالًا إلّا أنّ الآيات القرآنيّة خالية عن الدلالة عليها كما تقدّم.۱
أمّا أنّ آدم قد خُلِق من الطين لا من الأجناس الاخرى التي كانت قبل آدم فهو صريح الآية القرآنيّة: إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ.٢
نقد أبي المجد لفلسفة داروين و مقولة شبلي شُميّل المصريّ
لذا فحين وصل صدى نظريّة داروين المخالفة للقرآن الكريم إلى الممالك الإسلاميّة و وصل تركيا (آسيا الوسطي) و مصر و العراق و إيران، فقد انبرى العلماء الكبار فألّفوا المؤلّفات لردّها، و من بينهم العالم الكبير و المجتهد و الفيلسوف الخبير آية الله المعظّم أبوالمجد الشيخ محمّد رضا الأصفهانيّ ابن آية الله الخبير و العارف البصير الشيخ محمّد حسين
مسجد شاهي۱ ابن آية الله الأعظم الشيخ محمّد تقيّ الأصفهانيّ صاحب الحاشية على المعالم باسم «هداية المسترشدين»، و هو أخ صاحب «الفصول» الشيخ محمّد حسين؛ فقد كتب ردّاً جامعاً في جزءين بالعربيّة، طبعه و نشره سنة ۱٣٣۱ هجريّة و قد طبع هذا الكتاب و اسمه «نقد فلسفة داروين» في نفس السنة في مطبعة الولاية ببغداد.٢
و قد طبع أبوالمجد الشيخ محمّد رضا كتابه باللغة العربيّة بسبب إقامته في النجف الأشرف و كربلاء المقدّسة، ثمّ ترجم هذا الكتاب إلى الفارسيّة أيضاً. و لقد شرع المتشبّهون بالإفرنج و ذوو ربطات العنق۱ بإثارة الضجّة و الضوضاء بمجرّد نشر فرضيّة داروين، بلا أدنى تحقيق أو تأمّل، و بلا مناقشة لصحّتها أو بطلانها؛ و لأنّ داروين كان إنجليزيّاً و من علماء الطبيعة فقد أطلقوا عليه لقب الفيلسوف و بدأوا بشنّ هجوم ساخر و لاذع على الدين و العقيدة في الصحف و المدارس الثقافيّة الاستعماريّة، و يا لها من سخرية حين قالوا.
قصّة آدم و حوّا كه دروغ است دروغ | *** | نسل ميمونم و از هر دو جهان آزادم٢ |
و لقد كان شِبْلي شُمَيِّل المِصْرِيّ، و هو مسيحيّ لبنانيّ سكن مصر، (ميلاده ۱۸٥٣ م = ۱٢٦٩ ه-، و وفاته ۱٩۱۷ م = ۱٣٣٥ هـ) من المادّيّين الملحدين في ذلك العصر، و دكتوراً محقّقاً في دنيا الطبّ، ينحو نحو الفلاسفة في أحاديثه و كتاباته، و كان أيضاً من المعتقدين بهذه النظريّة و من مؤيّدي داروين المتعصّبين، لكنّه خلافاً لداروين المؤمن بالله كان ملحداً منكراً للّه سبحانه.
وُلد شبلي في قرية كفر شيما في لبنان، و أكمل دراسته في الجامعة الأمريكيّة، ثمّ أقام في اوروبّا مدّة سنة، عاد بعدها إلى مصر فاستوطنها، و سكن بداية الأمر في الإسكندريّة، ثمّ في طنطا، ثمّ اختار السكن في القاهرة حيث وافته المنيّة إثر نوبة قلبيّة مفاجئة.
و كان شبلي شميّل يكتب مقالاته في المجلّات، فكتب رسالة في النشوء و الارتقاء و طبعها، ثمّ كتب رسالة باسم «مجموعة مقالات» كتبها في الجرائد و المجلّات و طبعت مستقلّة، ثمّ طبع رسالة اخرى باسم «آراء الدكتور شميّل»، و اخرى باسم «شرح بوخنر۱ على مذهب داروين»، و رسائل اخرى في الطبّ (حاشية على كتب الطبّ القديمة) و غيرها؛ و كان يقول الشعر أحياناً لكنّه لم يكن شاعراً، و كان متمرّساً بالفرنسيّة حاذقاً لدرجة عُدَّ معها من الكتّاب بالفرنسيّة.٢
و كان شبلي شميّل رجلًا صريح اللهجة عديم المحاباة و المجاملة،
فمع أنّه كان في الأصل مسيحيّاً ثمّ صار من أتباع النظريّة الداروينيّة، ثمّ زاد على ذلك فصار مادّيّاً؛ فهو في الحقيقة داروينيّ و مادّيّ معاً (Materialist ,Darwinist)، يعني أنّه من المجدّدين الذين عاشوا في الغرب و تربّوا تربية أمريكيّة،۱ و من المفكّرين المتعصّبين؛ لكنّه في نفس الوقت كان ينحني إجلالًا و تواضعاً و خضوعاً لنبيّ الإسلام الأكرم.٢
شعر شبلي شميّل في الرسول الأكرم
و لشميّل أبيات في شأن الرسول الأكرم صلّى الله عليه و اله و سلّم تستحقّ التأمّل.
دَعْ مِن مُحَمَّدَ في سَدَى قُرْآنِهِ | *** | مَا قَدْ نَحَاهُ لِلُحْمَةِ الغَايَاتِ |
إنِّي وَ إنْ أكُ قَدْ كَفَرْتُ بِدِينِهِ | *** | هَلْ أكْفُرَنَّ بِمُحْكَمِ الآيَاتِ |
أ وْ مَا حَوَتْ في نَاصِعِ الألْفَاظِ مِنْ | *** | حِكَمٍ رَ وَادِعَ لِلْهَوى وَ عِظَاتِ |
وَ شَرَائِعٍ لَوْ أنّهُمْ عَقَلُوا بِهَا | *** | مَا قُيِّدَ العُمْرَانُ بِالعَادَاتِ |
نِعْمَ المُدَّبِّرُ وَ الحَكِيمُ وَ إنَّهُ | *** | رَبُّ الفَصَاحَةِ مُصْطَفى الكَلِمَاتِ |
رَجُلُ الحِجَى رَجُلُ السِّيَاسَةِ وَالدُّهَي | *** | بَطَلٌ حَلِيفُ النَّصْرِ وَ الغَارَاتِ |
بِبَلَاغَةِ القُرْآنِ قَدْ غَلَبَ النُّهَى | *** | وَ بِسَيْفِهِ أنْهَى عَلَى الهَامَاتِ |
مِن دُونِهِ الأبْطَالُ مِنْ كُلِّ الوَرَى | *** | مِنْ غَائِبٍ أوْ حَاضِرٍ أوْ آتٍ۱ |
و يقول شبلي شميّل بشأن الإمام أميرالمؤمنين عليّ بن أبي طالب عليهالسلام:
الإمَامُ عَلِيُّ بْنُ أبِي طَالِبٍ، عَظِيمُ العُظَمَاءِ، نُسْخَةٌ مُفْرَدَةٌ لَمْ يَرَ لَهَا الشَّرْقُ وَ لَا الغَرْبُ صُورَةً طِبْقَ الأصْلِ؛ لَا قَدِيمَاً وَ لَا حَدِيثَاً.٢
يقول صاحب كتاب «سيرى در أنديشة سياسي عرب» (=جولة مع سياسة العرب الفكريّة). و لكنّنا من جهة اخرى نجد في الكثير من كتابات
شميّل إشارات على نزوعه إلى الدين، فنحن لا نعجب من كلامه في الدفاع عن المسيحيّة باعتباره مسيحيّ الأصل، لكنّ ما يدهشنا ثناؤه و مدحه لحقيقة التعاليم الإسلاميّة في مقالة بعنوان القرآن و العمران ردّ فيها على مقولة اللورد كرومر الحاكم الإنجليزيّ لمصر التي يتهجّم فيها على الإسلام.
و كان كرومر قد قال: «إنّ الإسلام لا يتلاءم بحكم ماهيّته مع التقدّم و الحضارة، لذا يجب البحث عن أساس تخلّف المسلمين في الإسلام نفسه».
و قد أثار كلام كرومر هذا حفيظة المصريّين و آثار غضبهم بشدّة ممّا دفع بالجرائد لنشر مقالات ضدّه. و قد جهد شميّل في ردّه على كلام كرومر لأن يشير إلى المماثلة بين الإسلام و المسيحيّة، فكتب يقول:
إنّ أغلب الأديان الكبيرة إنّما جاءت لتحرير الإنسان و نشر العدالة و المحبّة و المساواة بين الناس، فالإسلام و المسيحيّة كلاهما يسعى لتحقيق هذا الهدف.
فالإسلام يشارك المعدمين في أموال ذوي النفوذ و الثروة، و المسيحيّة تدعو الإنسان لنكران ذاته في خدمته لأقرانه في الإنسانيّة، فالإسلام دين الجدّ و الاجتهاد و المسيحيّة دين البصيرة و النظر، أوّلهما يولي عنايته للمحسوسات و ثانيهما للمجرّدات، لكن من العجائب أنّ الوضع قد انعكس، فأتباع الإسلام قد توقّفوا عن الجهد و السعي و التحرّك، و أتباع المسيحيّة قد لزموا جانب الإفراط في الحياة العمليّة.
و يستنتج شميّل من هذه النكتة أنّ حقيقة الأديان لا ترتبط بكيفيّة المدنيّة - أو حسب مقولته. بعمران مجتمع أتباعها - و أنّ اسلوب حياة أتباع الأديان لا يصحّ اعتبارها دوماً دليلًا على صواب عقائدهم الدينيّة أو بطلانها، و الحال فإنّ الانتقادات التي يوجّهها كرومر للإسلام ترتبط بسلوك
المسلمين تأريخيّاً و ليس بالإسلام نفسه.۱
فرضيّة داروين لا تستلزم إثبات نظريّة المادّيّين
نعم، لقد صار البحث على عدّة مراحل:
الأولى: أن نفترض صحّة فرضيّة داروين و نقول بأنّ أصل الإنسان من القرد، و أصل القرد من الحيوانات و الطبقات التي سبقته، و هكذا حتى نصل إلى الحيوانات المائيّة و الموجودات ذوات الخليّة الواحدة.
فنقول إنّها كانت منشأ الحياة و بدايتها، ثمّ سارت حياتها في طريق التكامل إثر تكامل المادّة حتى وصلت إلى الحياة الفعليّة التي نشاهدها في عالم البشريّة بصورته الحاليّة بعد مئات الملايين من السنين؛ فأيّ علاقة لهذا الأمر بمقولة المادّيّين الذين ينكرون وجود الله؟
إن كان أصل الإنسان من آدم فالخالق هو الله، سواء حصل ذلك في ذلك الزمن السالف أم تدرّجاً من ذلك الزمن إلى زمننا الحاليّ؛ و إن كان أصل الإنسان قرداً و هلمّ جرّاً إلى الطبقات السابقة و الموجودات ذوات الخليّة الواحدة، فالخالق هو الله أيضاً، سواء في ذلك الزمن، أم تدرّجاً من ذلك الزمن إلى زمننا، لأنّ إشكال المادّيّين إنّما ينحصر في مُنشئ الحياة و باعثها.
يقول الإلهيّون: إنّ المادّة عديمة الفهم و الشعور و لا يمكنها أن تنشئ الحياة التي هي قوّة مسيطرة على المادّة، و أن تخضعها لقوّتها و تهيمن عليها و توجدها و تفنيها. في حين يقول المادّيّون. إنّ الحياة معلولة للمادّة و أثرها الطبيعي و الطبعيّ.
فماذا سيضير في هذا النزاع و النقاش إن كان مبدأ الحياة نفخ الخالق تعالى في الحمأ المسنون ليكون مادّة نشأة آدم و زوجه، أو كان من
الموجودات ذات الخليّة الواحدة النامية في المستنقعات و المياه الآسنة؟!
لذا، فلا وجه لإسناد نزاع الإلهيّين و المادّيّين إلى فرضيّة الثبوت أو إلى نظريّة التكامل.
و الدليل المهمّ للإلهيّين ضدّ المادّيّين هو أنّ المادّة إن كانت منشأ الحياة فلن يتوجّب أن يسير العالم نحو التكامل، لأنّه لا ينبغي لتكاثر الخلايا و الكائنات الأوّليّة ذات الخليّة الواحدة أن يسبّب تصاعد القوّة و حركة المادّة بنحو تصاعديّ و هرميّ باتّجاه القدرة و العلم و الحياة.
فإن انقسمت الخليّة الأوّليّة من وسطها نصفين، و انقسم نصفاها إلى نصفين، ثمّ صار الأربعة ثمانية و هكذا وصولًا إلى خلايا بدن الإنسان التي تعدّ بالمليارات، فينبغي لبدن الإنسان بهذا الهيكل و الضخامة أن يكون تمثالًا كبيراً ليس إلّا. إذ مِن أين تؤتي له هذه القدرة و العظمة، و هذا الشعور و الإدراك، و خلايا الكلية و القلب و الكبد، و هذا الترابط و العلاقات المدهشة العجيبة، و هذا التوحّد و التكاتف المحيّر الذي يربط خليّة من خلايا العين بخلية من خلايا ظفر القدم، و يجعل هذه المليارات من موادّ الخلايا المنفصلة الثقيلة الكثيفة واحداً، و يعطيها الخفّة و يحرّكها بإرادة واحدة؟!
فخليّة واحدة تضاف إلى مائة مليار خليّة ستساوي مائة مليار خلية و خليّة واحدة، و من الخطأ أن نقول إنّها ستساوي نفسَ و قدرةَ و علم و حياة إنسان، و شخص ذي إرادة و اختيار يحرّك مليارات الخلايا هذه و ينقلها من مكان الآخر.
و بناء على هذا، فلا علاقة لفرضيّة داروين مع نظريّة المادّيّين، و أنّ محاولة المادّيّن الاستفادة منها ليس إلّا مغالطة في فنّ الحكمة و المنطق، و أنّ الصراخ و الضجيج لن يمكنه صياغة قواعد برهان تقوم علي المقاييس
الصحيحة.
الثانية: أنّ فرضيّة داروين لم تنتهِ بعدُ، فهي لا تزال في طور الفرضيّة و لم تأتِ كقانون و قاعدة. فقد وضع داروين فرضيّته في الانتخاب الطبيعيّ الحاصل علي إثر تنازع الموجودات الحيّة علي البقاء في محيط البيئة، لانعدام الغذاء و مستلزمات المعيشة و صغر المحيط اللازم لاستمرار حياتها.
و لم تحظَ هذه الفرضيّة بالقبول، بل كانت مورد انتقاد و إشكال علماء الطبيعة و خبراء علم البيئة و الحياة بشكل جعل داروين نفسه يتراجع في حياته فيعتبر بعض الأشياء الاخري من بين العوامل المؤثّرة في التكامل و التطوّر.
الثالثة: أنّ رجوع نسل البشر إلي القرد إنّما هو فرضيّة داروين و ليس فرضيّة علماء الطبيعة، فداروين قد اعتبر القرد الرابط بين البشر و الحلقات السابقة، و ذكر أدلّة علي هذا المعني، لكنّها لم تكن مقنعة لعلماء علم الحياة و البيئة، فاعتبروها أدلّة غير صحيحة و قالوا لذلك بـ الحلقة المفقودة، أي لا يمكن للقرد أن يكون حلقة الوصل، تلك الحلقة التي ظلّت مجهولة لدينا حتى اليوم.
و لأنّ آثار الحفريّات الأرضيّة من الفسائل و غيرها لم تكن ذات جدوي في إيضاح الأمر، فإنّ علينا حسب نظريّة التكامل أن نقول إنّ حلقة الوصل كانت موجودة في هذا العالم ثمّ فُقدت و فقد أثرها؛ أمّا ماهيّة تلك الحلقة، و أي حيوان كانت، و بأيّ صفات اتّصفت، فإنّ هذا ممّا لم يعرفه أحد و لم يدّعِ الشهادة عليه أحد.
لذا، فلا يمكن لعلماء البيئة أبداً تقديم نظريّة التكامل علي أنّها مسألة علميّة، ما لم يكتشفوا حلقة الوصل هذه و يثبتوا أنّها كانت الحلقة الرابطة بين البشر و سائر الطبقات، فما هو موجود حاليّاً إنّما يمثّل فرضيّة
فقط، فرضيّة يمكن أن تتحوّل إلي قانون التكامل التامّ لو تمّت حلقة الوصل و تشخّصت.
لا فرق في الحكمة المتعالية بين خلق الله للكائنات بسنّة التكامل أو غيرها
الرابعة: لو كانت حلقة الوصل الرابطة موجودة، فلا يمكن إثبات مسألة رجوع و انتهاء سلسلة نسل البشر إلي طبقات الحيوانات السابقة، لأنّ إثبات سلسلة النسب لتلك الموجودات ذات الخليّة الواحدة وفق رأي و نظريّة المادّيّين القائلين بعدم وجود الله العالم القدير الحيّ المهيمن بإرادته الفعليّة علي جميع العالم و تدبيره و تسييره كان تامّاً من قبل.
أمّا وفق نظريّة و فلسفة الإلهيّين فإنّ ذلك الإثبات لن يتمّ، لأنّهم يقولون بأنّ الله العليم القادر الحيّ الخالق قد أوجد العالم بإرادته و يسيّره الآن و يديره بحياته و علمه و قدرته و تدبيره.
و في هذه الحالة فإنّ جميع التغييرات في العالم، ما كان منها بحسب الأسباب الظاهريّة، كحركة الشمس و القمر، و حدوث الفصول المختلفة، و هطول المطر من السماء، و نموّ الأشجار الخضراء و الأعشاب و الحبوب و غيرها؛ أو ما لم يكن بحسب الأسباب الظاهريّة، كانشقاق القمر،۱ و تكلّم عيسى عليهالسلام عند ولادته،٢ و إحيائه الموتي و إبرائه الأكمه و الأبرص،٣ - الذي عجزت دنيا العلم عن معالجته - ثمّ ضرب الحجر بالعصا
لتنفجر العيون المتدفّقة منه،۱ و العبور من نهر النيل و انفراجه عن طريق يابس لعبور موسي و قومه ثمّ انضمامه علي فرعون و قومه و إغراقهم جميعاً،٢ و إراءة اليد البيضاء،٣ و كذلك سائر المعجزات و خوارق العادات التي ظهرت و تظهر من الأنبياء العظام و الأئمّة الكرام و سائر أولياء الحقّ ذوي العزّة و الاحترام، كلّها جميعاً كانت من الله وحده لا إله سواه.
فالأسباب الظاهريّة التي قيل عنها: أبَي اللهُ أنْ يُجْرِي الامُورَ إلَّا بِأسْبَابِهَا، بِيَدِ الله، فهو نفسه مسبّب الأسباب، أي المهيّئ لدواعيها و أسبابها؛ لا أن يكون سبحانه محكوماً و مغلوباً لسبب، فيعجز عن الإتيان بشيء إلّا عن سببه الخاصّ، فهذه عقيدة مخالفة للتوحيد تماماً. فما الذي يضير الخالق في هذه الحال أن يخلق أحداً عن طريق التوالد و التناسل أو عن طريق آخر كما فعل مع آدم و عيسى ابن مريم عليهما السلام؟ فالكلّ هو معجز، خَلْقُ الطفل عن طريق الاستيلاد، و نفخ الروح بواسطة جبرائيل في بطن مريم، أم بواسطة إرادته القاهرة في طين آدم، كلّها عنده علي حدٍّ سواء، فلا فرق بينها صعوبة أو سهولة، و هي كلّها علي وتيرة واحدة، و اسلوب و سُنّة واحدة، و لو بدت عند المحجوبين بمظاهر مختلفة.
و نسأل القائلين بفرضيّة التكامل. ما تقولون في ناقد صالح التي خرجت من الجبل و خُلقت في آنٍ واحد؟ أكان لديها أب و امّ فوُجدت عن
طريق التناسل لتضطرّوا في نسبتها إلي خلايا المياه الآسنة؟!
و ما تقولون في انبعاث عصا موسي ثعباناً يتعقّب فرعون و جنده؟ أكان لها هي الاخري أب و امّ فجاءت عن طريق التناسل ليتوجّب عليكم أن ترجعوها إلي ذوي الخليّة الواحدة؟!
إنّ واقع الأمر و حقيقته هي أنّ القائلين بالتكامل بهذا الشكل لا يختلفون عن المادّيّين، فاولئك ينكرون الله لفظاً، و هؤلاء ينكرونه معني، فيسقطون الباري من أثره و يهبطون به عن عرش عظمته.
فالقول بإله لا يمكنه الفكاك من نظام المادّة و آثاره و لوازمه التي لا ينفكّ عنها، و العاجز عن تجاوز هذا كلّه، هو نفس معني و مفهوم أصالة المادّة و الوهيّتها التي تقول بها المادّيّون، فالمادّيّون لا يقولون غير أنّ المادّة الأزليّة قد تحرّكت في نظامها الصحيح المتقن فأوجدت هذا العالم البديع المدهش، و هو عين كلام الذين يعتبرون الله مُجبراً محبوساً في إطار المادّة و أعمالها.
إنّ دين التوحيد يدعو الإنسان إلي الله المريد المختار الذي يخضع جميع نظام المادّة تحت سلطته و اقتداره و علي أساس علمه و قدرته، القادر بإرادته علي خلق العالم من جديد أو هدمه و تخريبه.
لكنّ البعض يأتي فيؤوِّل الآيات القرآنيّة النازلة بشأن معجزات الرسل الإلهيّين، و يفسّر الشيطان بالجرثومة!
أفاجبرتم أن تقولوا شعراً فتعجزوا عن إكمال قافيته؟!
أفكنتم مجبرين علي كتابة التفسير، لتأتوا فتفسّروا للبذوقكم و رأيكم و مزاجكم بلا قرينة أو شاهد خارجيّ، و تفسّروا معجزات الأنبياء كإحياء إبراهيم عليهالسلام الطير و غيرها برأيكم و وفق نظركم؟
أ يّ جواب لديكم إذا استوقفكم الله يوم القيامة فسألكم: بأ يّ دليل
غُرتم علي كتابي و عدّدتم معانٍ سخيفة كهذه علي أنّها معاني آياتي الكريمة؟!
نحن لا نقول بعدم إمكان أمر التكامل و سُنّته، بل بإمكان ذلك، لكنّ الفاعل يبقي - في حال تحقّقها و صدقها - هو الله سبحانه.
نحن نقول: إنّ حصر قدرة الله تعالى و تحديدها في سنة التكامل أمر خاطئ، فالله سبحانه يمكنه أن ينشئ عيسى في بطن امّه بلا أب، و يخلق آدم و حوّاء من الطين، و يمكنه كذلك أن يوجد ذلك عن طريق التكامل، فكلا الأمرين لديه سواء.
و الحال هذه فإن رأيتم الإمام عليهالسلام يشير بإرادته إلي صورة أسد علي الستارة فيصنع منها أسداً مفترساً و هيكلًا غاضباً خارجيّاً يهجم علي هارون و المأمون، فلا تقولوا إنّ هذه الروايات ضعيفة لأنّنا لم نعثر في علوم الحياة من مقارنة الفسائل، و في حالات علم الأجنّة و التشريح التطبيقيّ علي أسد ترجع سلسلة نسبه إلي ذوي الخليّة الواحدة للمياه الآسنة.
فكلّ الإشكالات أيّها العزيز إنّما تكمن في إرادتك حصر و تحديد قدرة الله تحت اسم السنّة السنيّة و النهج التكامليّ العجيب المدهش، فتشيح بوجهك عن قدرة الله و تتبع مدرسة المادّيّين التي يشكّل غالبيّتها علماء الحياة و الطبيعة العالميّين، و تردّد نفس كلامهم. لا مفرّ أبداً من هذه السنّة و النظام الذي حدّدناه و شخّصناه، فمن أراد الهرب بأيّ شكل من هذه العلوم فإنّه سيُجبر علي السقوط في أحضانها مرّة اخري؛ فهذه كلام خاطئ و منطق مغلوط، و الله سبحانه يخلق و يفني بإرادته القاهرة كلّ آن ثمانية عشر ألف عالم، بل ملايين العوالم؛ أفيعجز سبحانه بعد هذا عن خلق آدم من الطين، هذا الخلق الذي وجده السيّد داروين غير مستساغ في مذاقه؟!
و علينا و الحال هذه أن نتبع الدليل الإثباتيّ بعد إمكان الدليل الثبوتيّ فنقول. لو وُجدت الحلقة المفقودة أيضاً، و أثبت علماء علما الحياة بشكل قاطع (كما في ٢ × ٢ = ٤) أنّ حلقة كانت قبل الإنسان يمكن إثبات سلسلة نسل البشر بواسطتها إلي الحلقات السابقة؛ فكيف يمكن أن نعلم أنّ خلق آدم كان من سلسلة التوالد و التناسل القديم أم من نفخ روح الله في الطين، بعد أن قلنا و أثبتنا أن كلام الطريقينِ ممكن؟
فيمكن للناقة أن توجد عن طريق الولادة من حيوانين ذكر و انثي، و يمكن أن توجد و تكوّن بإرادة و إعجاز صالح النبيّ فتخرج و تتكوّن من الجبل.
هذان الطريقان لا يفترقان من وجهة نظر الحكمة المتعالية و الفلسفة التوحيديّة، فكيف يتسنّي لنا أن نقول. إنّ هذه الناقة ليست من الجبل، و إنّها لم تكن معجزة، و إنّها ولدت حتماً بطريق الولادة الطبيعيّة؟
هنا يظهر الفارق بين المنكر و المؤمن؛ و الكافر و الموحّد؛ و الملتزم و المتهوّر؛ فمن أصغي السمع لكلام النبيّ صالح فعدّها ناقَةُ اللَّهِ،۱ فهو موحّد حسن العاقبة؛ و من كذّب كلامه فعدّها في سائر النوق فهو مشرك و عاص يتنظر العذاب الإلهيّ.
افتراض العثور علي الحلقة المفقودة لا يكفي لإثبات سنّة التكامل
لقد كان كلامنا في افتراض وجود الحلقة المفقودة و إثبات انحدار نسل البشر إلى الطبقات السابقة و الحيوانات القديمة، حيث إنّ هذه الإثبات يبقى في دائرة الإمكان لا الوقوع الخارجيّ، لأنّ هناك طريقاً آخر يقابل
هذا الطريق المنتهي بسلسلة الأعقاب السالفة قبل الإنسان، و هو طريق ممكن الوجود من وجهة نظر البحث و الدراسة القديمة، و هو حدوث بداية نسل البشر من آدم و زوجه عن طريق تحقّق الإرادة القاهرة للربّ القدير العليم دفعة واحدة بنحو بناء وجودهما من التراب، بلا تغيّر من نوع لآخر. و مادام هذا الطريق ممكناً غير مُغلق فإنّ التقيّد و الالتزام بوجود آدم و حوّاء بداية سلسلة نسل بني آدم من أطوار الأنواع الماضية، سيبقى أمراً لا معنى له.
فطبقاً للُاصول العلميّة من جهة، و لتصريح الآية القرآنيّة من جهة اخرى،۱ بأنّ جميع سلسلة البشر الموجودين حاليّاً على سطح الكرة الأرضيّة يرجعون إلى رجل واحد و امرأة واحدة، لا دخل في بدء نسلهما الأوّلي لسائر الموجودات من ملائكة أو جنّ أو حيوانات، إذاً ينبغي القول بأنّه لو اكتملت أدلّة علماء الحياة، و على فرض وجود الحلقة المفقودة، فيمكن لتلك السلسلة من الإنسان أو الموجودات التي وُجدت بعد الحلقة الأخيرة أن تكون قد فنيت و انقرضت بواسطة الحوادث الخارجيّة التي وُجدت في الأرض طوال مئات الملايين من السنين، من براكين و سيول و طوفانات و زلازل عالميّة و أمثالها التي تحقّق أحد نظائرها و أمثلتها في طوفان نوح فاغرق جميع البشر على سطح الأرض عدا نوح و نسله؛ و أنّ هذه السلسلة البشريّة من بني آدم، المنتهين إلى آدم و حوّاء قد وُجدت دفعة واحدة بأمر الله؛ أو إذا كان هناك زمن و تدرّج لخلقهم من التراب، فمن المسلّم أنّهم لم يجيئوا من حيوان آخر على نحو التوالد
و التناسل.
و لا دليل لدينا لإبطال إمكان الوجود هذا (لا الوجود نفسه)، سواء في الفلسفة الكلّيّة أم في علم الحياة، و إذا ما كان لدى علماء الحياة ما يقولونه خلاف هذا فليدلو بدلوهم!
كلام ابن سينا في وجوب اعتبار ما لم يقم الدليل على بطلانه من الممكنات
يقول الشيخ الرئيس ابن سينا: كُلُّ مَا قَرَعَ سَمْعَكَ مِنَ الغَرَائِبِ فَذَرْهُ في بُقْعَةِ الإمكَانِ مَا لَمْ يَذُدْكَ عَنْهُ قَائِمُ البُرْهَانِ.۱
و يقول في آخر «الإشارات»:
إيَّاكَ أن يَكُونَ تَكَيُّسُكَ وَ تَبَرُّؤُكَ عَنِ العَامَّةِ، هُوَ أنْ تَنْبَرِيَ مُنْكِرَاً لِكُلِّ شَيءٍ. فَذَلِكَ طَيْشٌ وَ عَجْزٌ. وَ لَيْسَ الخَرْقُ في تَكْذِيبِكَ مَا لَمْ يَسْتَبِنْ لَكَ بَعْدُ جَلِيَّتُهُ، دُونَ الْخَرْقِ في تَصْدِيقِكَ مَا لَمْ تَقُمْ بَيْنَ يَدَيْكَ بَيِّنَةٌ! بَلْ عَلَيْكَ الاعْتِصَامُ بِحَبْلِ التَّوَقُّفِ.
وَ إنْ أزْعَجَكَ اسْتِنْكَارُ مَا يُوعَاهُ سَمْعُكَ، مَا لَمْ تَتَبَرْهَنِ اسْتِحَالَتُهُ لَكَ؛ فَالصَّوَابُ أنْ تَسْرَحَ أمْثَالَ ذَلِكَ إلى بُقْعَةِ الإمكَانِ، مَا لَمْ يَذُدْكَ عَنْهُ قَائِمُ الْبُرْهَانِ.٢
كان هذا دليلنا للإمكان الثبوتيّ لخلق آدم و حوّاء بدون أن يكون لهما أب و امّ من الطبقة السابقة.
خلقة عيسى كانت إعجازاً، كخلقة آدم من التراب
أمّا دليلنا الإثباتيّ في تحقّق هذا الإمكان فهو القرآن الكريم، حيث إنّ آياته لها ظهور قريب من النصّ في الدلالة على هذه الحقيقة؛ كالاية المباركة:
إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ.۱
فهذه الآية صريحة في الدلالة على خلق آدم من التراب، و تشبّه خلق عيسى في ولادته الإعجازيّة بلا أب بخلق آدم الإعجازيّ من التراب بمجرّد كلمة كُن الصادرة من ربّ العزّة.
أي لا دلالة لُالوهيّة عيسى لمجرّد أنّ خَلْقَه في بطن امّه مريم دون أن يمسّها بشر، فهو و أبوه آدم قد خُلقا من غير أب؛ و إذا كان فقدان الأب لعيسى دليلًا على الُوهيّته، فعليكم أن تقولوا بالوهيّة آدم المخلوق من التراب وحده بلا أب و بلا امّ أيضاً. لكنّكم لم تقولوا و لن تقولوا بالوهية آدم، فيجب إذاً أن لا تقولوا ذلك في عيسى أيضاً.
و قد تحدّثت الآيات التي سبقت هذه الآية مفصّلًا عن بشارة الملائكة لمريم بأنّ الله يهبها كلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم وجيهاً في الدنيا و الآخرة و من المقرّبين، يكلّم الناس في المهد و كهلًا و من الصالحين؛ فتتساءل مريم: يا الهي! أنّى يكون لي غلام و لم يمسسني بشر؟
فيردّ سبحانه. كذلك! إنّ الله يخلق ما يشاء، إنّما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون!
ثمّ يعدّد القرآن هنا معجزات عيسى على نبيّنا و آله و عليه الصلاة و السلام واحدة واحدة، ثمّ يخاطب نصارى نجران الذين ادّعوا الوهيّة عيسى فيقول بعد الآية السالفة:
فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَ أَبْناءَكُمْ وَ نِساءَنا وَ نِساءَكُمْ وَ أَنْفُسَنا وَ أَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ.۱
أي أنّه نفى ادّعاءهم في عيسى و حذّرهم و دعاهم إلى المباهلة و الملاعنة مبيّناً بإجمال ما سبق أن أوضحه مفصّلًا من الخلق الإعجازيّ لعيسى، الشبيه بخلق آدم، و ذلك ليتمّ الحجّة عليهم بعد فقدانهم الحجّة و البرهان في ردّهم، و على هذا فسيكون معنى الآية. أنّ كيفيّة خلق عيسى هي نظير كيفيّة خلق آدم، فقد جُمعت أجزاؤه من التراب، ثمّ قال لها. كُن فَتَكوّنت بشراً كاملًا بلا أب.
و ينقسم هذا البيان إلى حجّتين، تكفي كلُّ منهما لوحدها لنفي الوهيّة المسيح:
الأولى: أنّ عيسى مخلوقٌ للّه، خَلَقَهُ بهيئة البشر و إن كان بلا أب، و من كانت حاله هكذا فهو عبدٌ للّه، و ليس إلهاً.
الثانية: أنّ خلق المسيح لا يزيد شيئاً عن خلق آدم، فإن اقتضت سنخيّة خلقته أن يقال بالوهيّته، لَوَجَب أن يكون هذا الداعي و المقتضي في خلقة آدم كذلك؛ في حين أنّ النصارى لم يكونوا ليعتقدوا في آدم هذا الاعتقاد، لذا فإنّ عليهم - للمماثلة و المشابهة بين الحالتين - أن يكفّوا عن عقيدتهم هذه في عيسى.
و نلحظ في الآية. أنّ خلق عيسى كخلق آدم، و هو الخلق الطبيعيّ في العالم، و لو أنَّه خارق للسنّة الجارية في النسل حيث يحتاج الطفل في وجوده إلى أب.
و يستفاد من كلمة فَيَكُونُ إرادة الحكاية عن حال الماضي؛ و لا منافاة بين هذه الجملة المضارعة مع كلمة كن الدالّة على عدم التدريج، لأنّ جميع الموجودات - تدريجيّة الوجود كانت أم دفعيّة الوجود - هي مخلوقات الله سبحانه و قد تكوّنت بأمره، أي بنفس كلمة كُن، كما يقول سبحانه. إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ.۱
و من الواضح أنّ التدريج يتحقّق في الكثير من الأشياء تدريجيّة الوجود، قياساً و نسبةً لخصوص أسبابها التدريجيّة الحصول، و إلّا فإنّ قسنا هذه الامور التدريجيّة بالباري تعالى في ذلك المقام الرفيع فلا مهلةَ و لا تدريج، كما يقول سبحانه.
وَ ما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ.٢
و استناداً إلى هذا البيان فإنّ كلمة فيكون لا تختلف أبداً عن كلمة كان، فكمة كُنْ تدلّ على أنّ الله سبحانه لا يحتاج في خلقه الأشياء إلى أسباب ليختلف عنده حال ما يريد خلقه؛ قياساً لذاته القدسيّة؛ بإمكان و استحالة و سهولة و صعوبة، و قرب و بُعد، لاختلاف الأسباب و العلل الدخيلة في إيجاد ذلك الشيء.
فالشيء الذي يريد الله خلقه يقول له كُنْ فيصبح كان، أي أنّ وجوده الخارجيّ قد تحقّق بلا حاجة للأسباب العاديّة التي لها دخل في وجوده.
و هذه الآية للجهتين الآتيتينِ صريحة في خلقة آدم أبي البشر من التراب دفعة واحدة، و إعجازاً بدون العلاقة التناسليّة عن طريق الأب و الامّ.
الجهة الاولى: من منظار معنى و مفهوم نفس الآية، لأنّ وجه تشبيه عيسى بآدم في هذه الآية المباركة ينحصر في جملة خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ؛ و لأنّنا نعلم أنّ عيسى لم يُخلق دفعة واحدة من التراب، و أنّ الله لم يخلق تمثالًا له ابتداءً ليتكوّن و يوجد بنفخ روحه فيه بكلمة كُنْ، بل إنّ امّه مريم عليها السلام قد ولدته بطريقة طبيعيّة بالحمل في البطن و بألم المخاض؛ لذا، فمن المسلّم القطعيّ أن يكون التشبيه بآدم في خلقته الترابيّة هو اللازم الأكيد للخلق من التراب دفعة، و هو فقدان الأب.
أي أنّ عيسى يماثل أيضاً في هذه الخلقة الاستثنائيّة و الخلق بدون أب آدمَ الذي خُلق من تراب بلا أب، فقد خُلقا بأمرٍ حتميّ و كلمة كُن فظهرا على مسرح الوجود.
الجهة الثانية: كان احتجاج و استشهاد القرآن بهذه الآية في معرض الردّ على النصارى المتوهّمين في عيسى المولود بلا أب مرتبة تفوق مرتبة البشريّة، و القائلين له بمرتبة تعادل الالوهيّة.
ردّ الآيات القرآنيّة على الطوائف المسيحيّة الثلاث المعتقدة بالوهيّة المسيح
و قد انقسم النصارى وفق الآيات القرآنيّة إلى ثلاث فرق، و هي مرفوضة من وجهة نظر العقائد التوحيديّة.
الفرقة الاولى: اولئك القائلون بأنّ عيسى المسيح أحد الاصول الثلاثة القديمة الأقانيم الثلاثة، فكانوا يظنّونه ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ؛ كما تشير الآية: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ.۱
أي اولئك القائلون بالاصول القديمة الثلاثة، أوّلها الذات التي يعبّرون عنها بـ الأب. و ثانيها: الحياة التي يعبّرون عنها بـ رُوحُ القُدُسِ. و ثالثها: العِلم الذي يعبّرون عنه بـ الابن.
فكانوا يدعون كلًّا من هذه الاصول الثلاثة بـ الاقْنُوم، الأب و الابن و روح القدس التي يعتبرونها الله و الأصل و القديم، و هم معروفون و مشهورون في اعتقاداتهم باسم. الأب و الابن و روح القدس.
و يقول في القرآن الكريم في ردّهم و نهيهم:
وَ لا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ.۱
الفرقة الثانية: اولئك القائلون إنّ عيسى ابن مريم هو الله نفسه؛ فيردّ القرآن عليهم: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ.٢
و الفرقة الثالثة: القائلون بأنّ المسيح ابن الله، كما يقول القرآن الكريم: و قالت إليه ود عزير ابن الله و قالت النصارى المسيح ابن الله.٣
و بناء على هذه الاعتقادات الثلاثة التي يعتقدها المسيحيّون في عيسى فإنّهم ينقسمون إلى ثلاث طوائف: المَلْكَائِيّة، و النَّسْطُورِيَّة، وَ إلى عْقُوبِيَّةِ.
و لأنّ هذه العقائد كفر بأجمعها وفق المنطق القرآنيّ، و لأنّ النصارى الذين يحملون أمثال هذه العقائد في المسيح يستدلّون عليها بانعدام وجود أب له، فيقولون: إنّ جميع أفراد البشر يولدون من أب، لكنّ عيسى جاء إلى الدنيا بغير أب، فمن الواضح أنّه ليس من سنخ البشر، بل هو من عالم
الربوبيّة و اللاهوت؛ فقد وجّه القرآن هذه الآية في ردّ هذه الطائفة، ثمّ قال:
الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ.۱
ثمّ دعاهم القرآن بعد هذه الآية إلى المباهلة و الملاعنة بآية:
فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ.
فيمكن الردّ بآية: إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ، على النصارى في هذه الاحتجاج و الاستشهاد فيما إذا كان المراد من خلقة آدم من التراب في هذا الوجه من المشابهة هو عدم ولادة آدم من أب. فيقول: إنّ عيسى و إن اختصّ بخلقه و تكوينه في مجيئه إلى مسرح الظهور بلا أب، لكنّ هذا التكوّن الخاصّ لا يستلزم ارتفاعه إلى مرتبة الالوهيّة و الربوبيّة، لأنّ آدم أيضاً يماثله في الخلق و الوجود الخاصّ و ولادته من التراب بلا أب و بلا امّ أيضاً، لذا فإنّ عليكم إمّا أن تقولوا بالوهيّة آدم أيضاً - في حين أنّكم لا تفعلون ذلك - أو أن تقولوا ببشريّة عيسى.
آيات القرآن تبطل نظريّة المعتقدين بتغيّر الأنواع بشأن آدم
لكنّ القائلين بتكامل الأنواع و تطورّها، و المعتبرين آدم مولوداً من أب و امّ عن طريق التناسل يقولون في شأن هذه الآية الكريمة.
إنّ المراد من خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ليس الخلق الإعجازيّ لآدم من تمثال من الطين على هيئة آدم، بل إنّ المراد هو أنّ أصل جميع الأشياء من التراب، فالأغذية و الأطعمة و اللحوم و الفواكه و الخضروات التي تسبّب تكوّن النطفة من التراب، لذا فإنّ خلقة آدم من التراب أيضاً، و أنّ الله يريد في هذه الآية بيان هذا القدر فقط؛ أنّ عيسى ابن مريم أيضاً قد خُلق من
التراب على مثال آدم الذي كان من التراب.
و لقد كانت خلقة عيسى حسب المنوال الطبيعيّ و لم تكن خرقاً للعادة، فقد اتّضح من وجهة نظر علوم الحياة أنّ بعض النساء يقمن بإنتاج الحيامن و البويضات في نفس الوقت.
فيريد أن يقول الله هنا إنّ خلقة عيسى لم تكن خارجة عن سير الطبيعة و العادة، مثله كآدم الذي وُجد من التراب بواسطة الأصل الكلّيّ للتوالد و التناسل.
و قالوا بشأن كلمة كُن فَيَكُونُ إنّ معناها أنّ الله قال لآدم صفوته. كن عالماً؟ أو كن نبيّاً! أو كن موجوداً منتخباً من بين الأنواع! فكان هكذا، كما قال لعيسى. كن عالماً! و كن نبيّاً! و كن ذا معجزة! فَنادى امّه حين وُلد. أن ألّا تحزني قد جعل ربّك تحتك سريّاً.
و في هذا التفسير إشكالان:
الإشكال الأوّل: إنّ وجه تشبيه عيسى بخصوص آدم أمر خاطئ، إذ بناء على هذا التفسير في أنّ ترابيّة آدم من جهة أنّ أصله كان من مادّة التراب فإنّ جميع أفراد البشر هم من هذا القسم. و ينبغي على هذا أن يقول: إنّ مثل عيسى عند الله كمثل سائر الناس.
فالقرآن كلام الله، و قوله فصل ليس بالهزل، فإنّه إن جاء و خصّص في قوله آدم بهذا التشابه بالرغم من وجود الاشتراك في وجه الشبه في جميع بني آدم و جميع الناس من زمن آدم إلى قيام القيامة، فلا يُحمل ذلك إلّا على الخطأ و الاشتباه، و لن يمكن تصوّر محمل آخر له.
و على هذا فإنّ تشبيه عيسى بآدم، أي الاسم الخاصّ و العَلَم لرأس سلسلة نسل البشر - لا اسم الجنس كلفظ إنسان و بشر الذي يُطلق على جميع الأفراد - لا يمكن أن يكون له وجه إلّا الخصوصيّة التي كانت في آدم
نفسه، لا في سائر الأفراد، و لا يمكن لتلك الخصوصيّة أن تكون غير خلقه الإعجازيّ من التراب بدون وساطة الأب.
الإشكال الثاني: كانت هذه الآية - كما هو الحال في الآيات التي سبقتها و التي بعدها و التي ذكرنا أيضاً مفهومها هنا - ردّاً على المسيحيّين الذين اعتقدوا لعيسى - من وجهة عدم وجود أب له - مرتبة أعلى من البشريّة و صعدوا به إلى عالم الالوهيّة، و في هذه الحالة و بناء على هذا التفسير فلن يكون هناك ردّ عليهم.
فالمسيحيّون يقولون. بما أنّ المسيح يمتلك خلقاً استثنائيّاً، و قد جاء ظهوره بدون أب، فهذا الظهور هو ظهور الله؛ و إذا ما قيل في جوابهم إنّ خلقته عاديّة و غير استثنائيّة، و إنّه جاء كسائر بني آدم بالطريق الطبيعيّ فإنّهم لن يقبلوا بذلك، أي أنّ هذا المنطق لن يغلق أمامهم طريق الاستدلال.
فمقولة المسيحييّن هي أنّ عيسى لا يشبه سائر أفراد البشر، لذا فهو إله، و إذا ما قلنا في جوابهم إنّه يشبه سائر أفراد البشر و هو ليس بدليل، لأنّه سيكون نفياً لادّعائهم بلا دليل، أي أنّه سيكون مصادرة بالمطلوب.
و يتّضح هنا أنّ ما جرت مناقشة في كتاب «خلقت انسان» (=خلق الإنسان) حول هذه الآية، و ما سعى إليه المؤلّف، سواء في متن الكتاب أو في البحث و التوضيح الإضافيّ الذي الحق به، في إسقاط هذه الآية من الظهور في خلقة آدم من التراب بلا أب و بشكل إعجازيّ، كان غير موفّق و غير تامّ.۱
و الأعجب من هذا فقد ادّعى المؤلّف صراحة أنّ جميع الآيات القرآنيّة المتعلّقة بالخلقة من التراب و الطين و أمثالهما ترجع إلى لفظ إنسان، و هو اسم عامّ، أمّا ما يخصّ آدم، أي الاسم الخاصّ، فليس لدينا أبداً في القرآن آية ذات دلالة على أنّه خُلِق من التراب.۱
و لست أدري كيف تغافل عن عبارة كمثل آدم خلقه مِن تُرَابٍ مع أنّه أورد الآية مورد البحث في موضعين في كتابه.٢
و يتّضح من هذا البيان أيضاً أنّ ما بُحث في كتاب «تكامل در قرآن» (=التكامل في القرآن) لتفسير عقيدة التكامل من هذه الآية ليس تامّاً، فقد جاء في هذا الكتاب. أنّ الآية المبحوث عنها هنا تكفي في ردّهم و تخطئة أوهامهم بالإشارة إلى تشبيه عيسى بآدم، و مفادها أنّه كما خلق الله آدم من تراب ثمّ قال له كن، فكذلك خلق عيسى من تراب ثمّ قال له كن، فلو كان هذا النحو من الخلقة مقتضياً للُالوهيّة لكان آدم أيضاً إلهاً، بل كان كلّ من يشترك معه في التكوّن من تراب إلهاً أيضاً - انتهى.٣
و ورد كذلك. أنّ المعتقدين بالتكامل يقولون أن لا إشكال في مماثلة
عيسى لآدم في التكوّن من تراب و غذاء و نطفة و علقة إلى الولادة فما بعدها، و لا إشكال أيضاً في أنّ الله قد وهب لعيسى العقل و العلم و الإدراك، أو وهب تلك الامور مع النبوّة في أوائل تولّده على نحو الإعجاز و الخرق لناموس التكوين، كما أعطى لآدم كذلك العقل أو العلم و النبوّة بنفس الطريقة، فوجه الشبه في الآية هو المماثلة في الخلقة و العلم، و معنى قوله كن أي كن عاقلًا عالماً أو عالماً نبيّاً - انتهى.۱
دلالة آية «وَ بَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ» على فطرة آدم من الطين
و من جملة الآيات التي لها دلالة على أنّ مبدأ خلقة الإنسان (آدم) كان من الطين هذه الآيات الثلاث:
الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَ بَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ ، ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ ، ثُمَّ سَوَّاهُ وَ نَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَ جَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَ الْأَبْصارَ وَ الْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ.٢
يقول في «مجمع البيان». السُّلَالَةُ الصَّفْوَةُ التي تَنْسَلُّ أي تُنْزَعُ مِنْ غَيْرِهَا، وَ يُسَمَّى مَاءُ الرَّجُلِ سُلَالَةً لَانْسِلَالِهِ مِنْ صُلْبِهِ٣.
قال العلّامة الطباطبائيّ قدّس الله سرّه. في هذه الآية وَ بَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ، المراد بالإنسان النوع، فالمبدو خلقته من طين هو النوع الذي ينتهي أفراده إلى مَن خُلق من طين من غير تناسل من أب و امّ كآدم
و زوجه عليهما السلام، و الدليل على ذلك قوله من بعده: ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ، فالنسل الولادة بانفصال المولود عن الوالدين، و المقابلة بين بدء الخلق و بين النسل لا يلائم كون المراد ببدء الخلق بدء خلق الإنسان المخلوق من ماء مهين، و لو كان المراد ذلك لكان حقّ الكلام أن يقال: ثُمَّ جَعَلَهُ سُلَالَةً مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ، فَافْهَمْهُ.۱
و كان مقصوده بهذا البيان. أنّ مجيء كلمة نسل هنا بشكل حتميّ تدلّ على مغايرة كيفيّة خلقة بدء الإنسان مع كيفيّة خلقة ذرّيّته و أولاده، لذا لا يمكن اعتقاد بدء خلق الإنسان من نوع آخر بالتوالد والتناسل و النطفة التي هي سلالة من ماء مهين. و هو يردّ بهذا البيان على تفسير و تعبير الذين يعتبرون البشر نوعاً مبتذلًا من أنواع اخرى.
يقول الحقير: و مضافاً إلى ذلك و أكثر، فإنّ هذا البيان ردّ على الذين حملوا هذه الآية على مبدأ خلقة الإنسان و بقيّة الموجودات من الطين الأوّل، أي من تلك الخلايا و الموجودات ذوات الخليّة الواحدة.
و المراد بنسله عندهم نُطَفُ أنواع الحيوانات و الناس السابقين قبل ولادة آدم، و حملوا تسويته على خلقة الإنسان الكامل من جميع الجهات كآدم، التي اكتسب بها قابليّة السمع و البصر و الفؤاد و صار لائقاً لمقام العلم و المعرفة و شكر الخالق.
يقولون: إنّ هذه الآيات الثلاث تبيّن بالترتيب ثلاث دورات مختلفة لنشوء الإنسان:
الدورة الاولى: حين كان الإنسان طيناً، و لم تكن الموجودات ذوات الخلايا الواحدة قد ظهرت: وَ بَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ.
الدورة الثانية: حين نشأت الخلايا و بدأت بالتكاثر، فظهرت أنواع بعد أنوع اخرى بالتكاثر في النسل: ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ. أي أنواع النطف، إذ من غير ذوي الخلايا الواحدة فإنّ الجميع يحتاج في تكاثره إلى ذكر و انثى و فعل و انفعال.
آية «ثُمَّ سَوَّاهُ وَ نَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ» لا تدلّ على عقيدة التكامل
الدورة الثالثة: تسوية الإنسان الكامل و منحه من بين جميع طبقات الحيوانات السابقة هيكلًا بدنيّاً قابلًا من الناحية الفسلجيّة للأعضاء السمعيّة و البصريّة و القوى الفكريّة.
ثُمَّ سَوَّاهُ وَ نَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ.۱
أقول: يجعل التفسير بهذا النمط كلمة نَسْلَهُ زائدة و غير ضروريّة، لأنّ الله قد خلق مبدأ الإنسان من طين، ثمّ جعله يتقلّب بهيئة النطف المختلفة في العصور و الدهور حتى سوّاه و نفخ فيه من روحه؛ أي أنّ هذا التفسير سيجعل كلمة نَسْلَهُ زائدة لا مكان لها، لذا فبعد أنّ التفت المؤلف إلى هذا التزاحم، ترجم عبارة ثم جعل نسله من ماء مهين بهذه الصورة. (سپس او را از عصارهاي از آب ناچيز قرار داد).٢
و ما أيّده هو و صاحبُ كتاب «التكامل في القرآن» أكثر هو مجيء لفظ ثُمَّ فِي الآية التاسعة: ثُمَّ سَوَّاهُ وَ نَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ، لأنّ ثُمَّ في اللغة تفيد التعاقب مع التراخي و الفاصلة، و لو تركنا هذا اللفظ بهذا المعنى فسيلزم أن تكون التسوية و نفخ الروح في آدم أبي البشر بعد نشوء ذرّيّته
و أولاده، على ما يقتضيه سياق الآية الثامنة: ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ ... ثُمَّ سَوَّاهُ وَ نَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ، و إن سلخنا لفظ ثمّ عن هذا المعنى و أخذناه بمعنى واو العطف، أو اعتبرناه للتراخي في حكاية الحال، لكنّا قد عملنا في هذه الحالة خلاف الظاهر و خلاف الأصل.۱
أقول: يَرِد هذا الإشكال في حالة رجوع ثُمَّ سَوَّاهُ وَ نَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ إلى المطلب الأوّل في الآية الثامنة، أمّا إذا كانت راجعة لكلتا الآيتين و كلا المطلبين، فالمعنى صريح جدّاً و واضح. و الظاهر أنّه يجب اعتباره مرتبطاً بكلتا الآيتين، فيكون المعنى. ثمّ بدأ خلق الإنسان الذي كان مبدأ خلقته من الطين و نسله من سلالة من ماء مهين فسوّاه و نفخ فيه من روحه.
و على هذا فإنّ تسوية الإنسان و نفخ الروح فيه بعد خلق الإنسان من الطين في آدم أبي البشر، و بعد جعل نسله بشكل نطفة، و طيّ مدارج الحمل من العلقة و المضغة و العظام و إكساء العظام لحماً في أولاد آدم و ذرّيّته. و هذا هو التفسير الذي قال به العلّامة قدّس الله سرّه.٢
آيات سورتي المؤمنون و السجدة تدلّان على خلق آدم من الطين
و ينبغى العلم أنّ التفسير الذي بيّنه العلّامة قدّس الله سرّه هنا في شأن هذه الآية الكريمة: وَ بَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ ، ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ، هو عين التفسير الذي أورده للآيات الواردة في سورة المؤمنون:
وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ، ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ ، ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ
الْخالِقِينَ.۱
فقد أورد العلّامة في تفسير هذه الآيات أنّ السُّلَالَة اسم لِما يُسلّ من الشيء، كالكُساحة اسم لِما يُكسح. و ظاهر السياق أنّ المراد بالإنسان هو النوع، فيشمل آدم و من دونه، و يكون المراد بالخلق الخلق الابتدائيّ الذي خلق به آدم من الطين ثمّ جعل النسل من النطفة، و تكون الآية و ما بعدها في معنى قوله: وَ بَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ ، ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ،٢ و يؤيّده قوله بعده: ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً، إذ لو كان المراد بالإنسان ابن آدم فحسب و كان المراد بخلقه من طين انتهاء النطفة إلى الطين، لكان الظاهر أن يقال. ثُمَّ خَلَقْنَاهُ نُطْفَةً كما قيل: ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً، إلى آخره.
و بذلك يظهر أنّ قول بعضهم إنّ المراد بالإنسان جنس بني آدم، و كذا القول بأنّ المراد به آدم عليهالسلام غير سديد.
و أصل الخلق؛ كما قيل؛ التقدير، يقال خَلَقْتَ الثَّوْبَ إذَا قِسْتَهُ لِتَقْطَعَ مِنْهُ شَيْئاً مِنَ اللِّبَاسِ، فالمعنى. وَ لَقَدْ قَدَّرْنَا الإنْسَانَ أوَّلًا مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ أجْزَاءِ الأرْضِ المَخْلُوطَةِ بِالمَاءِ.٣
و على هذا التفسير فإنّ ما يستفاد من كلامه أنّ سرّ هذا التفسير يكمن في المجيء بكلمة جَعَلَ بدل كلمة خَلَقَ في الآية ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ. أي أنّنا جعلنا الإنسان بعد خلقه البَدْويّ في رحم امّه بصورة نطفة،
و لم يقل ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ. أي أنّنا كوّنّا الإنسان بعد خلقه البدْويّ في رحم امّه نطفة و أبدلناه في سيره التكامليّ بنطفة.
فالفرق بين كلمة جَعَلَ و خَلَقَ أنّ الجعل مجرد الوضع و الإقرار، أمّا الخلق فعبارة عن الإبداع و الإحداث، و هو تسديد الشيء من قياساته و أبعاده و تبديل ماهيّته و صورته الأوّليّة.
فإن كان المراد من الآية تطوّر حالات الإنسان من بداية المرحلة الترابيّة من عصارة و سلالة الأرض في الفواكه و الخُضَر و الحبوب و اللحوم و الدسوم التي ستتبدّل من ثَمّ في بدن الإنسان إلى دم و من ثمّ تتبدّل إلى نطفة، فيجب أن يقول إنّنا جعلنا بدء خلق الإنسان من سلالة الطين، ثمّ خلقناه و بدّلناه بصورة و ماهيّة نطفة في رحم امّه، كما هو الأمر في السير التكامليّ بعد النطفة، أي الإنشاء و الخلق الجديد في حالات النطفة و تطوّراتها، كما قال: ثُمَّ خَلَقْنَا و بدّلنا النُّطْفَةَ بصورة و ماهيّة العلقة فَخَلَقْنَا و بدّلنا العَلَقَةَ بصورة و ماهيّة المضغة فخلقنا العلقة مضغة، لأنّه يبيّن فقط في هذا الفرض التطوّرات و الحالات المختلفة لسلالة التراب التي طوتها من بدء خلقتها حتى صيرورتها إنساناً كاملًا خَلْقًا بَعْدَ خَلْقٍ و تبديلًا بعد تبديلها السابق حيث طوت مراحل و منازل معيّنة، و على هذا الفرض فإنّ الإتيان ابتداءً بعبارة الخلق: وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ و ذِكْر التطوّرات بعد النطفة بعبارة الخلق أيضاً: ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً، ثمّ العدول بين هاتين الفقرتين من كلمة خَلَقَ إلى جَعَلَ و القول: ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ سوف لن يُحمل إلّا على اللغو و الخطأ و عرض المقصود بعبارة تدلّ على خلافه وَ حَاشَا لِلْقُرْآنِ أن يَكُونَ فِيهِ بَاطِلٌ وَ هَزْلٌ «إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ ، وَ ما هُوَ بِالْهَزْلِ».
آية «ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً» تدلّ على خلقة آدم من سلالة الطين
و هذا دليل قطعيّ على أنّ الإنسان المراد به في هذه الآية ليس نوع بني
آدم، و لم يكن المقصود من الآية هو السير التكامليّ في الحالات المختلفة، بل إنّ الإنسان بما هو إنسان عموماً من آدم و بني آدم، و المراد من خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ابتداؤه، أي آدم، فهو الذي خلقه الله من سلالة من طين. و المراد من ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ نشوء الإنسان بعد آدم، و المتحقّق من النطفة عن طريق التوالد و التناسل.
و المراد بالسلالة هنا العصارة و الخلاصة و الجوهرة المستخلصة من الأرض، لا الحيوانات الأوّليّة و ذوي الخلايا الواحدة؛ و على هذا فإنّ مفاد هذه الآية التي وردت فيها عبارة سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ لا يختلف عن مفاد آية السجدة التي وردت فيها عبارة بَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ. بل هو مفاد واحد.
و سيظهر الفرق بين سلالة من طين و نفس الطين فيما لو أخذنا المراد بالسلالة تبعاً لتفسير القائلين بتكامل الخلايا الأوّليّة و الأنسجة المفردة.
و على هذا، فقد كان ينبغي للآية أن تشير إلى مسارها بإراءة المسير التكامليّ للإنسان، و بيان الحالات و التطوّرات الحاصلة في الموجود الواحد، و هو ما يتنافى و استعمال كلمة ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً التي كان ينبغي أن يكون بدلها ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً، أي أنّنا خلقنا الإنسان أوّلًا من نسيج مفرد و خليّة حيّة موجودة في المستنقعات و المياه الآسنة و الحمأ المسنون الناشئ فوق الأرض من الطين و الماء، ثمّ بدّلنا تلك الخليّة و النسيج بعد تطوّرات و تغيّرات أنواع في الماهيّة و الموجوديّة نطفة في الرحم، ثمّ خلقنا و بدّلنا النطفة أيضاً في ماهيّة و موجوديّة العلقة.
لكنّ معنى الآية ليس هكذا، بل إنّ معناها أنّنا خلقنا الإنسان من سلالة الطين، ثمّ جعلناه بشكل و صورة نطفة في الرحم؛ و الجعل غير الخلق. فتعبير و تفسير العلّامة، و النكتة البديعة الدقيقة التي أفادها من الآية
في خلق آدم من الطين أو من سلالة الطين، و كذلك عين عباراته التي أوردناها و التي استُفيدت نكاتها جميعاً من الفرق بين لفظ جَعَلَ و خَلَقَ، إنّما تشهد جميعها على دقّة النظر و طريق سدّ الشبهات.
استدلال بعض القائلين بالتكامل بآيات القرآن يفتقر إلى الأساس و البرهان
و يعترض في كتاب «التكامل في القرآن» على العلّامة بعد بيان تفسيره لنشوء آدم من الطين في هذه الآية: وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ، فيقول: العجب منه كيف ألغى في تفسيره الآية معنى السلالة بالكلّيّة مع أنّه قد نقل عن «مجمع البيان» معناها قبيل هذا الكلام، لكنّه أسقطها في إيضاح معنى الآية فأوجب الخلط و التغيير في معنى الآية.۱
و الجواب: أنّ العلّامة لم يسقط كلمة سلالة حين التفسير، ولكن بما أنّ فقرة ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً التي جاءت بـ جَعَلْناهُ و لم تأتِ بـ خَلَقْنَاهُ، فقد عدّ الآية ذات مفاد واحد مع الآية: وَ بَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ، لذا فإنّ مجيء جَعَلْناهُ بدل خَلَقْنَا دليل على منعنا من عدّ الآية في سياق بيان مدارج الإنسان التكامليّة، بل ينبغي عدّها في معرض بيان خلقته الأوّليّة، أي خلقة آدم من الطين و خلقة نسله من النطفة. و في هذه الحال فما الفرق بين أن نقول إنّه خُلِقَ من الطين، أو من سلالة الطين؟ فكلاهما له نفس المفاد و المفهوم.
أمّا إذا أخذنا سُلالَةٍ بمعنى الخليّة الأوّليّة؛ كما استند في كتاب «التكامل»؛ فبالرغم من أنّ سلالة من طين ستعطي مفهوماً مغايراً لمفهوم نفس الطين حيث غفلوا عن استعمال عبارة ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً و أخذوا في السياق معنى جَعَلْنَا بمعنى خَلَقْنَا، ثمّ أنهى البحث بهذا الترتيب، فتأمّل!
و قد سار مؤلّف كتاب «خلقت إنسان» على هذا النهج فاعتبر كلمة سُلالَةٍ في هذه الآية بمعنى الخليّة الأوّليّة، ثمّ توسّع في ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً
و اعتبر هذه النطفة التي جاءت نكرة علامة إبهام ذات مفهوم كلّيّ، فهي تشمل جميع نطف الحيوانات من الأنواع السابقة التي تمثّل بنظره حلقات في سلسلة آباء و أجداد آدم.۱
و كان هذا دليلًا في نظره على نشوء الإنسان و ارتقائه و تكامله من الخليّة الواحدة الموجودة أوّل الخلقة، و بما أنّه كان يريد استنتاج التكامل ضمن بحث طويل، فقد تشبّث بمطالب غير محكمة من جهة فنّ الأدب و العربيّة و البرهان.٢
و قد غفل في هذا الاستدلال أيضاً عن عبارة ثُمَّ جَعَلْناهُ.
و يتّضح ممّا أوردنا في هذا البحث عن الاستاذ العلّامة أنّ استدلال صاحب كتاب «خلق الإنسان» لم يستند على أساس معيّن، إذ إنّ رمز التفسير
الصحيح لهذه الآية هو التوجّه إلى كلمة جَعَلْناهُ، كما أنّ رمز التفسير الصحيح للآية السابقة هو التوجّه إلى لفظة نُسْئَلُ الذي جيء به معطوفاً على الخلقة الاولى للإنسان. ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ.
علماء طبقات الأرض لا يملكون دليلًا على اتّصال هذا النسل بالامم
إنّ الآية الدالّة على أنّ جميع أفراد البشر على الكرة الأرضيّة يرجعون إلى نفس الأب و الامّ على طول سلسلة التوالد و التناسل هي آية: يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَ خَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَ بَثَّ مِنْهُما رِجالًا كَثِيراً وَ نِساءً وَ اتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَ الْأَرْحامَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً.۱
فخطاب الآية عامّ لجميع الناس: يا أَيُّهَا النَّاسُ، و قد عدّهم مخلوقين من أب واحد و امّ واحدة، بالنحو الذي بثّ على الأرض منهما الكثير من الرجال و النساء.
فيستفاد أوّلًا: أنّ جميع الناس، من أيّة طائفة و أصل كانوا، و على أيّة بقعة يعيشون - في وسط المعمورة أم في أقصاها، و في جزر أمريكا الشماليّة أم الجنوبيّة التي تفصل بينهما المحيطات المائيّة - إنّما يرجعون إلى زوجين اثنين كانا على رأسهم و السبب في ظهورهم و نشأتهم، ثمّ حدثت هذه الفاصلة بواسطة الحوادث الجويّة و الأرضيّة، من الصواعق و العواصف و السيول طوال مدّة عمر الأرض المديدة التي لا يعرف قدرها تحديداً، فسبّب انفصال و افتراق هاتين المجموعتين عن بعضها.
و مع أنّنا نمتلك حاليّاً تأريخ ستّة الآف سنة فقط، لكنّ علماء طبقات الأرض و علماء الفسائل قد ذكروا أنّ عمر الإنسان على الأرض يزيد على خمسمائة ألف سنة.
قال الاستاذ العلّامة الطباطبائيّ قدّس الله سرّه:
و ظاهر السياق أنّ المراد بالنفس الواحدة آدم عليهالسلام، و من زوجها زوجته؛ و هما أبوا هذا النسل الموجود الذي نحن منه و إليه ما ننتهي جميعاً على ما هو ظاهر القرآن الكريم، كما في قوله تعالى: خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها۱ و قوله تعالى: يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ٢، و قوله تعالى حكاية عن إبليس. قالَ أَ رَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا.٣
ثمّ يقول في بحث مستقلّ في عمر نوع الإنسان و الإنسان الأوّليّ بعد بسط القول في كلام علماء طبقات الأرض المعتقدين بأنّ عمر هذا النوع من الإنسان يزيد على ملايين السنين، و قد وجدوا من الفسائل الإنسانيّة و الأجساد و الآثار ما يتقدّم عهده على خمسمائة ألف سنة على ما استظهروه. فهذا ما عندهم غير أنّه لا دليل معهم يقنع الإنسان و يرضى النفس باتّصال النسل بين هذه الأعقاب الخالية و الامم الماضية من غير انقطاع. فمن الجائز أن يكون هذا النوع ظهر في هذه الأرض ثمّ كثر و نما و عاش ثمّ انقرض ثمّ تكرّر الظهور و الانقراض، و دار الأمر على ذلك عدّة أدوار، على أن يكون نسلنا الحاضر هو آخر هذه الأدوار.
أمّا القرآن الكريم فإنّه لم يتعرّض تصريحاً لبيان انحصار ظهور هذا النوع في هذه الدورة التي نحن فيها أو أنّ له أدواراً متعدّدة نحن في
آخرها، و لو أنّه يمكن استشمام هذا المعنى من قوله تعالى: وَ إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَ تَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَ يَسْفِكُ الدِّماءَ،۱ حيث يمكن الاستشمام من هذه الآية بسبق دورة اخرى للإنسانيّة تقدّمت على دورتنا، و قد تقدّمت الإشارة إلى هذا المعنى في تفسير الآية.
نعم، في بعض الروايات الواردة عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام ما يثبت للإنسانيّة أدواراً كثيرة قبل هذه الدورة.٢
الروايات الواردة في أنّ الله خلق قبل آدم دورات من البشر
و أورد في البحث الروائيّ: ورد في كتاب «التوحيد» عن الصادق عليه السلام، قال: لَعَلَّكَ تَرَى أنَّ اللهَ لَمْ يَخْلُقْ بَشَرَاً غَيْرَكُمْ؟ بَلَى وَ اللهِ لَقَدْ خَلَقَ ألْفَ ألْفَ آدَمَ؛٣ أنْتُمْ في آخِرِ اولَئِكَ الآدَمِيِّينَ.
و نقل ابن ميثم في «شرح نهج البلاغة» عن الباقر عليهالسلام ما في معناه، و أورده الصدوق في «الخصال» أيضاً.
و ورد في كتاب «الخصال» عن الصادق عليهالسلام، قال:
إنَّ اللهَ تعالى خلق اثني عشر ألف عالم كل عالم منهم أكبر من سبع سماوات و سبع أرضين ما يرى عالم منهم أن لله عز و جل عالما غيرهم.
و ورد في «الخصال» عن الباقر عليهالسلام أنّه قال:
لقد خلق الله عز و جل في الأرض منذ خلقها سبعة عالمين ليس هم
من ولد آدم خلقهم من أديم الأرض فأسكنهم فيها واحدا بعد واحد مع عالمه ثم خلق الله عز و جل آدم أبا البشر و خلق ذريته منه – (الحديث).۱
و قال أيضاً: هناك آثار أرضيّة كثيرة تدلّ على تغييرات هامّة في سطح الأرض بمرور الدهور من تبدّل بحر إلى برّ و بالعكس، و سهل إلى جبل و بالعكس، و ما هو أعظم من ذلك كتبدّل القطبينِ إلى منطقة البروج على ما تشرحه علوم طبقات الأرض و الهيئة و الجغرافية. ثمّ يقول بعد ذكر آيات من القرآن مرّت في مطاوي بحثنا.
فإنّ الآيات كما ترى تشهد بأنّ سنّة الله في بقاء هذا النسل أن يتسبّب إليه بالنطفة، لكنّه أظهره حينما أظهره بخلقه من تراب، و أنّ آدم خلق من تراب، و أنّ الناس بنوه، فظهور الآيات في انتهاء هذا النسل إلى آدم و زوجته ممّا لا ريب فيه و إن لم تمتنع من التأويل.
المراد من آدم في القرآن آدم الشخصيّ لا آدم النوعيّ
و قال البعض: إنّ المراد بآدم في آيات الخلقة و السجدة لآدم. النوعيّ دون الشخصيّ، كأنّ مُطلق الإنسان من حيث انتهاء خلقه إلى الأرض و من حيث قيامه بأمر النسل و الإيلاد سُمّي بآدم، و ربّما استظهر ذلك من قوله تعالى: وَ لَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ،٢ فإنّه لا يخلو من إشعار بأنّ الملائكة إنّما امروا بالسجدة لمن هيأه الله لها بالخلق و التصوير، و قد ذكرت الآية أنّه جميع الأفراد لا شخص إنسانيّ واحد معيّن حيث قال: وَ لَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ إلى آخر الآية، و هكذا قوله تعالى:
قالَ يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ - إلى أن قال: قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَ خَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ إلى أن قال: قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ، إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ.۱
حيث أبدل ما ذكره مفرداً أوّلًا مثل خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي إلى الجمع ثانياً مثل لَأُغْوِيَنَّهُمْ. و يردّه مضافاً إلى كونه على خلاف ظاهر ما نقلناه من الآيات ظاهرُ قوله تعالى بعد سرد قصّة آدم و سجدة الملائكة و إباء إبليس في سورة الأعراف:
يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما،٢ فظهور الآية في شخصيّة آدم ممّا لا ينبغي أن يرتاب فيه، و كذا قوله تعالى: وَ إِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قالَ أَ أَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً.
قالَ أَ رَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا،٣ فواضح في هذه الآية بعد ذكر آدم الشخصيّ أنّ الشيطان يريد إغواء ذرّيّته من ولد آدم. و كذا الآية المبحوثة. يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَ خَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَ بَثَّ مِنْهُما رِجالًا كَثِيراً وَ نِساءً إلى آخر الآية بالتقريب الذي مرّ بيانه.
فالآيات - كما ترى - تأبى أن يسمّى الإنسان آدم باعتبار و ابن آدم باعتبار آخر، و كذا تأبى أن تنسب الخلقة إلى التراب باعتبار و إلى النطفة
باعتبار آخر، و خاصّة في مثل قوله تعالى: إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ، و إلّا لم يستقم استدلال الآية على كون خلقة عيسى استثنائيّة ناقضة للعادة الجارية. فالقول بآدم النوعيّ في حدّ التفريط؛ و الإفراط الذي يقابله قول بعضهم إنّ القول بخلق أزيد من آدم واحد كفر. ذهب إليه زين العرب من علماء السُّنّة.۱
و يستفاد ثانياً: أنّ الطبقة الاولى من الإنسان كانت عبارة عن آدم و زوجه، اللذين تكاثرا عن طريق التزواج فأولدا بنين و بنات؛ و الكلام هنا في كيفيّة تكاثر نسل هؤلاء الأولاد مع أنّهم كانوا كلّهم إخوة و أخوات. فهل تحقّق ذلك فيما بينهم؟! أو تمّ بطريقٍ آخر؟
ظاهر القرآن أنّ نكاح أولاد آدم كان فيما بينهم
يشير ظاهر الآية المذكورة: وَ بَثَّ مِنْهُما رِجالًا كَثِيراً وَ نِساءً، إلى اتّصال هذا النسل الموجود بآدم و زوجه بلا مشاركة من الغير، ذكراً كان أم انثى، لأنّ القرآن حين عبّر بـ بَثَّ لانتشار ذلك النسل فإنّه لم يُشِر إلى غير ذينك الشخصين، فلو كان قد شاركهما في هذا النسل غيرهما، لقال: وَ بَثَّ مِنْهُمَا وَ مِنْ غَيْرِهِمَا، أو عبارة اخرى تشبهها.
و حين نعتبر مبدأ التوالد و التناسل منحصراً في آدم و زوجه فيستوجب أن يكون التزاوج قد حصل بين البنين و البنات. و قد ورد في هذا الخصوص من جهة دلالة الروايات مضمونان متفاوتان، الأوّل: أنّ التزواج حصل - كما تفيد الآية - بين الإخوة و الأخوات، و هو أمر لا يستلزم إشكالًا، لأنّ حرمة نكاح الاخت إنّما تكون بتشريع الله سبحانه، في حين لم يكن للناس قبل نوح على نبيّنا و آله و عليهالسلام شريعة، فقد كان نوح عليهالسلام أوّل الأنبياء ذوي العزم الذي كان لهم شريعة و كتاب. فلم يكن
للناس قبل زمن نوح مجتمع و مدنيّة، و كانوا يعيشون بشكل بدائيّ بسيط. و إذا كان قد جاءهم أنبياء من قِبَل الله تعالى إلى حكم ما، فقد كان ذلك منحصراً بالاعتقاد بالتوحيد و الأحكام العقليّة المستقلّة و بعض الأحكام البسيطة العامّة، كالدعوة للصدق و عبادة ربّ العزّة عن رغبة و لهفة و أمثال ذلك، و إذا ما كان آدم نبيّاً أيضاً فإنّ تعاليمه و أحكامه لنسله ستكون بهذا المقدار.
و هذه المجموعة من الروايات قابلة للأخذ و الاعتبار، لأنّ مضمونها يوافق كتاب الله و ينسجم معه.
و الثاني: أنّ الله تعالى قد أنزل من الجنّة غلماناً و حوريّات ليتزوّجوا بأولاد آدم و بناته ذوي السيرة الحسنة، و أرسل من الجانّ ليتزوّجوا بأولاد آدم ذوي السيرة السيّئة، و قد انقسم الناس لهذا السبب إلى مجموعتين. و جاء في بعض الروايات أنّه أرسل حوريّة من الجنّة إلى هابيل و جنيّة إلى قابيل، فحسد قابيلُ هابيلَ و انتهى به الأمر إلى قتله. و ورد في بعضها ما يشبه ذلك بمضامين اخرى.
و هذه الروايات بالرغم من أنّ بعضها صحيح السند، لكنّها مرفوضة جميعاً و غير قابلة للعمل بمقتضاها، لمخالفتها ظاهر كتاب الله تبعاً للأدلّة الاصوليّة التي تدرّس في اصول الفقه؛ لذا فإنّ المتّبع هو تلك المجموعة الاولى من الروايات الموافقة لظاهر كتاب الله.
حرمة نكاح الأخوات غير فطريّ، بل حسب مصالح المجتمع
و قد قال الاستاذ العلّامة قدّس الله سرّه بعد البحث بشأن هذه الآية و عدم مشاركة غير الإنسان في بقاء نسل بني آدم.
«و أمّا الحكم بحرمة نكاح الأخوات في الإسلام و كذا في الشرائع السابقة عليه على ما يُحكى، فإنّما هو حكم تشريعيّ يتبع المصالح و المفاسد، لا تكوينيّ غير قابل للتغيير، و زمامه بِيَدِ الله سبحانه يَفْعَلُ مَا
يَشَآءُ وَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ، فمن الجائز أن يبيحه يوماً لاستدعاء الضرورة ذلك ثمّ يُحرّمه بعد ذلك لارتفاع الحاجة و استيجابه انتشار الفحشاء في المجتمع. و القول بأنّه على خلاف الفطرة و ما شرعه الله لأنبيائه دين فطريّ قول فاسد؛ قال تعالى:
فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ.۱
فإنّ الفطرة لا تنفيه و لا تدعو إلى خلافه من جهة تنفّرها عن هذا النوع من المباشرة (مباشرة الأخ مع الاخت)، و إنّما تبغضه و تنفيه من جهة تأديته إلى شيوع الفحشاء و المنكر و بطلان غريزة العفّة بذلك و ارتفاعها عن المجتمع الإنسانيّ، و من المعلوم أنّ هذا النوع من التماسّ و المباشرة إنّما ينطبق عليه عنوان الفجور و الفحشاء في المجتمع العالميّ اليوم، و أمّا المجتمع يوم ليس هناك بحسب ما خلق الله سبحانه إلّا الإخوة و الأخوات و المشيّة الإلهيّة متعلّقة بتكثّرهم و انبثاثهم فلا ينطبق عليه هذا العنوان.
و الدليل على أنّ الفطرة لا تنفيه من جهة النفرة الغريزيّة تداوله بين المجوس أعصاراً طويلة (على ما يقصّه التأريخ) و شيوعه قانونيّاً في روسيا (على ما يُحكي) و كذا شيوعه سفاحاً من غير طريق الزواج القانونيّ في اوروبّا.٢
و قد قال مونتسكيو في كتاب «روح القوانين» [إنّ هذا العمل مخالف
للقوانين الطبيعيّة، و هي التي تجري في الإنسان قبل عقده المجتمع الصالح لإسعاده، فإنّ الاختلاط و الاستيناس في المجتمع المنزليّ يبطل غريزة التعشّق و الميل الغريزيّ بين الإخوة و الأخوات] و هو قولٌ فاسد، لأنّه ممنوع كما تقدّم أوّلًا، و مقصور في صورة عدم لحاجة الضروريّة ثانياً، و مخصوص بما لا تكون القوانين الوضعيّة غير الطبيعيّة حافظة للصلاح الواجب الحفظ في المجتمع و متكفّلة لسعادة المجتمعين، و إلّا فمعظم القوانين المعمول بها و الاصول الدائرة في الحياة اليوم غير طبيعيّة».۱
ردّ العلّامة الطباطبائيّ قدّس الله نفسه على فرضيّة تغيّر الأنواع
نعم، فبعد بحث مفصّل للُاستاذ حول انتهاء نسل جميع البشر إلى امّ واحدة و أب واحد و وقوع التوالد و التناسل بعد ذينك الأبوين بين أولادهما بلا تدخّل من موجود آخر، عقد بحثاً مستقلًا تحت عنوان. إنّ الإنسان نوع مستقلّ و ليس متحوّلًا من نوع آخر، جدير بالاهتمام و التأمّل.
«إنّ الآيات السابقة تكفي مؤونة هذا البحث فإنّها تنهي هذا النسل الجاري بالنطفة إلى آدم و زوجته و تبيّن أنّهما خلقا من تراب، فالإنسانيّة تنتهي إليه ما و هما لا يتّصلان بآخر يماثلهما أو يجانسهما و إنّما حدثا
حدوثاً.
و الشائع اليوم عند الباحثين عن طبيعة الإنسان أنّ الإنسان الأوّل فَرْدٌ تكامل إنساناً، و هذه الفرضيّة بخصوصها و إن لم يتسلّمها الجميع تسلّماً يقطع الكلام، و اعترضوا عليها بامور كثيرة مذكورة في الكتب، لكنّ أصل الفرضيّة و هي أنّ الإنسان حيوانٌ تحوّل إنساناً ممّا تسلّموه و بنوا عليه البحث عن طبيعة الإنسان. فإنّهم فرضوا أنّ الأرض - و هي أحد الكواكب السيّارة - قطعة من الشمس مشتقّة منها، و قد كانت في حال الاشتعال و الذوبان ثمّ أخذت في التبرّد من تسلّط عوامل البرودة، و كانت تنزل عليها أمطار غزيرة و تجري عليها السيول و تتكوّن فيها البحار.۱
ثمّ حدثت تراكيب مائيّة و أرضيّة فحدثت النباتات المائيّة ثم حدثت بتكامل النباتات و اشتمالها على جراثيم الحياة السمك و سائر الحيوان المائيّ، ثمّ السمك الطائر ذو الحياتين، ثمّ الحيوان البرّي، ثمّ الإنسان، كلّ
ذلك بتكامل عارض للتركيب الأرضيّ الموجود في المرتبة السابقة يتحوّل به التركيب في صورته إلى المرتبة اللاحقة، فالنبات ثمّ الحيوان المائيّ ثمّ الحيوان ذو الحياتين ثمّ الحيوان البرّيّ ثمّ الإنسان على الترتيب هذا.
كلّ ذلك لما يشاهد من الكمال المنظّم في بُنيتها و نظم المراتب الآخذة من النقص إلى الكمال و لما يعطيه التجريب في موارد جزئيّة التطوّر، و هذه فرضيّة افترضت لتوجيه ما يلحق بهذه الأنواع من الخواصّ و الآثار من غير قيام دليل عليه بالخصوص و نفي ما عداها مع إمكان فرض هذه الأنواع متبائنة من غير اتّصال بينها بالتطوّر، و قصر التطوّر على حالات هذه الأنواع دون ذواتها و هي التي جرى فيها التجارب، فإنّ التجارب لم تتناول فرداً من أفراد هذه الأنواع تحوّل إلى فرد من نوع آخر كقردة إلى إنسان و إنّما يتناول بعض هذه الأنواع من حيث خواصّها و لوازمها و أعراضها. و استقصاء هذا البحث يُطلب من غير هذا الموضع، و إنّما المقصود الإشارة إلى أنّه فرض افترضوه لتوجيه ما يرتبط به من المسائل من غير أن يقوم عليه دليل قاطع، فالحقيقة التي يشير إليها القرآن الكريم من كون الإنسان نوعاً مفصولًا عن سائر الأنواع غير معارضة بشيء علميّ».۱
و يستفاد من بيان الاستاذ أنّ ما قالوه و أثبتوه و تسالموا عليه في بحوث علم الحياة و علم الأجنّة و علم الفسائل التي يشكّل مجموعها علم الطبيعة هو تطوّر الأنواع فقط لا تبدّلها و تغيّرها.
فالتطوّر في الأنواع يعني التغييرات في الآثار و الخواصّ و العوارض الداخليّة لذلك النوع، كالتغييرات و التحوّلات الحاصلة في نوع الحصان، أو نوع الفيل، أو نوع الغنم؛ و التي طوت في مسير تكاملها مدارج و مراحل معيّنة.
و التبدّل في الأنواع يعني تغيّر و تبدّل نوع لنوع آخر، كأن يتغيّر فرد أو أفراد من نوع الحصان إلى فرد أو أفراد من نوع الفيل، و كتغيّر أحد أفراد النسناس و القرود إلى فرد من البشر.
و ما جرى إثباته في علم الطبيعيّات هو التطوّرات في الأنواع، أمّا تبدّلها فلم يقم عليه الدليل العلميّ أبداً، و لم يثبت بالتجربة؛ و خلاصة الأمر لم يتمّ إراءة دليل نظريّ أو تجربيّ عليه، و لو تمّ ذلك لصار بشكل قانون و قاعدة. و كان كلّ ما قيل و كتب و بُحث بشأن تبدّل الأنواع عبارة عن فرضيّة تحقّق ذلك، و لا تصلح الفرضيّة لأن تكون دليلًا على موضوع معيّن، لذا ففرضيّة تبدّل الأنواع بشكل عامّ لا تستند إلى دليل علميّ.
و قد وافق الاستاذ قدّس الله سرّه على مسألة التطوّر في الأنواع و أثبت على أساسها أنّ اختلاف دماء البشر الموجب لاختلاف ألوانهم (الأبيض و الأسود و الأحمر و الأصفر) لا يوجب و لا يبرّر اعتبارنا البشر منقسمين لأربعة أنواع مستقلّة، لأنّ الأبحاث الطبيعيّة مبنيّة على فرضيّة التطوّر في الأنواع.
«و مع هذا البناء كيف يمكن الاطمئنان بعدم استناد اختلاف الدماء فاختلاف الألوان إلى وقوع التطوّر في هذا النوع؟
مع أنّنا نعلم أنّهم جزموا هذه الأيّام بوقوع تطوّرات كثيرة في الأنواع الحيوانيّة كالفرس و الغنم و الفيل و غيرها. و قد ظفر البحث و الفحص بآثار أرضيّة كثيرة تكشف عن ذلك، على أنّ العلماء اليوم لا يعتنون بهذا الاختلاف كثيراً.»۱
ردّ العلّامة الطباطبائيّ على كتاب «خلقت انسان» في نظريّة تغيّر الأنواع
و بعد أن أورد الاستاذ قدّس الله سرّه بحثاً وافياً حول هذه المسألة في الجزء الرابع من تفسيره، حيث استفدنا من مقدار منه، يبدو أنّه عثر على كتاب «خلقت انسان» الذي حاول مؤلّفه فيه بإصرار إثبات التبدّل و التغيّر في الأنواع استناداً إلى آيات القرآن فعدّ العلّامة مطالبه مرفوضة بأجمعها،
و ردّ عليها جميعاً في الجزء السادس عشر ضمن بحث في ستّة صفحات بعنوان: كلام في كينونة الإنسان الاولى،۱ دون أنه يشير إلى اسم الكتاب أو مؤلّفه، و قد أدّى ذلك إلى قيام مؤلّف الكتاب المذكور بإلحاق عدّة صفحات في آخر كتابه تحت عنوان بحث و توضيح إضافيّ ليكون - في نظره - قد أجاب على ردّ الاستاذ.
و قد استدلّ الحقير في البحث السابق على انسجام الآيات القرآنيّة مع النهج التفسيريّ و بيان الاستاذ، في حين كانت مطالب كتاب «خلقت انسان» غير صحيحة من وجهة نظر الاستدلالات القرآنيّة.
و نطرح بعض أقوال الاستاذ الواردة في هذا الجزء من التفسير، التي تردّ على كتاب «خلقت انسان»؛ ثمّ نعرض رأينا ليتّضح صواب كلام الاستاذ و خطأ كلام مؤلّف كتاب «خلقت انسان» و مخالفته للصواب.
قال الاستاذ: «و أمّا القول بانتهاء النسل إلى فردين من الإنسان الكامل بالكمال الفكريّ من طريق التوالد، ثمّ انشعابهما و انفصالهما بالتطوّر من نوع آخر من الإنسان غير الكامل بالكمال الفكريّ، ثمّ انقراض الأصل و بقاء الفرع المتولّد منهما على قاعدة تنازع البقاء و انتخاب الأصلح، فيدفعه قوله تعالى: إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ، على التفسير المتقدّم و ما في معناه من الآيات.
على أنّ الحجّة التي اقيمت على هذا القول قاصرة عن إثباته، فإنّها شواهد مأخوذة من التشريح التطبيقيّ و أجنّة الحيوان و الآثار الحفريّة الدالّة على التغيّر التدريجيّ في صفات الأنواع و أعضائها، و ظهور الحيوان تدريجاً آخذاً من الناقص إلى الكامل، و خلق ما هو أبسط من الحيوان قبل
ما هو أشدّ تركيباً.
و فيه أنّ ظهور النوع الكامل من حيث التجهيزات الحيويّة بعد الناقص زماناً لا يدلّ على أزيد من تدرّج المادّة في استكمالها لقبول الصور الحيوانيّة المختلفة، فهي قد استعدّت لظهور الحياة الكاملة فيها بعد الناقصة، و الشريفة بعد الخسيسة، و أمّا كون الكامل من الحيوان منشعباً من الناقص بالتولّد و الاتصّال النسبيّ فلا و لم يعثر هذا الفحص و البحث على غزارته و طول زمانه على فرد نوع كامل متولّد من فرع نوع آخر، على أن يقف على نفس التولّد دون الفرد و الفرد.
وَ مَا وُجِدَ فِيهَا شَاهِداً عَلَى التَّغَيُّرِ التَدرِيجِيِّ فَإنَّمَا هُوَ تَغَيُّرٌ في نَوْعٍ وَاحِدٍ بِالانْتِقَالِ مِن صِفَةٍ اخْرَى لَا يَخْرُجُ بِذَلِكَ عَنْ نَوْعِيَّتِهِ وَ المُدَّعَى خِلَافُ ذَلِكَ. فالذي يُتسلّم:
إنّ نشأة الحياة ذات مراتب مختلفة بالكمال و النقص و الشرف و الخسّة، و أعلى مراتبها الحياة الإنسانيّة ثمّ ما يليها ثمّ الأمثل فالأمثل، و أمّا أنّ ذلك من طريق تبدّل كلّ نوع ممّا يجاوره من النوع الأكمل فلا يفيده هذا الدليل على سبيل الاستنتاج. نعم يوجب حدساً ما غير يقينيّ بذلك؛ فالقول بتبدّل الأنواع بالتطوّر فرضيّة حدسيّة تبتني عليها العلوم الطبيعيّة اليوم و من الممكن أن يتغيّر يوماً إلى خلافها بتقدّم العلوم و توسّع الأبحاث».۱
الردّ الواهي لمؤلّف «خلقت انسان» على مقولة الاستاذ في نظريّة تغيّر الأنواع
و قد ردّ مؤلّف كتاب «خلقت إنسان» (=خلق الإنسان) على هذا البيان بقوله. نذكر في جوابنا لهذا الرأي مطلبينِ.
«أوّلهما: أنّ الأمثلة و الشواهد التي أوردناها في القسم الأوّل من كتاب «خلقت إنسان» (=خلق الإنسان) من العلوم العصريّة للحياة و لطبقات
الأرض و ذلك لزيادة اطّلاع مَن لا عهد لهم بمثل هذه الأبحاث و لا تمثّل إلّا جزءاً من كلّ، و عشراً من معشار الأمثلة و الموارد التي جرى بحثها و تجربتها في كلٍّ من فروع العلم المذكورة.
و يمكن اعتبار النتائج الإيجابيّة الحاصلة في القسم العمليّ و التطبيقيّ للعلوم المذكورة؛ كتحسين الاصول و الأنواع النباتيّة و الحيوانيّة و مسائل الصحّة الإنسانيّة أو اكتشافات الحفريّات؛ مؤيّدة لهذه الأبحاث في مسألة التكامل و ارتباط سلسلة الموجودات الحيّة.
و لو كان كلّ ما ذُكر من شواهد لبيان ارتباط و قرابة الموجودات فيما بينها ناقصاً غير مدعوم، فكيف تمّ الوصول إلى النتائج المدهشة في مسائل الطبّ الحاضرة مثلًا؟ أو في الاستفادة من المنابع الطبيعيّة؟
و كيف يمكن الاستناد على بحث فلسفيّ واحد هو أنّ المادّة لا تتقبّل عند كمالها الصور الحيوانيّة المختلفة أن يغضّ النظر عن النتائج العمليّة و الملموسة الأخيرة؟
فهناك في العلوم التجريبيّة نظريّات و فرضيّات هي غير القوانين و القواعد، فالاولى متغيّرة و غير قطعيّة، و الثانية ثابتة و لها جانب قطعيّ، ففي علوم الحياة مثلًا ليس للنظريّة العائدة إلى العلّة أو العلل المؤثّرة في التغيّر التدريجيّ للصفات الطبيعيّة لأنواع الموجودات و انشعاب مجموعة من مجموعة اخرى شكلًا قطعيّاً و ثابتاً، لكنّ مسألة الظهور التدريجيّ للموجودات، و ارتباطها فيما بينها، و وجود اسس و قوانين عامّة في هيكلها الجسميّ، من قبيل وجود محور عظميّ و عصبيّ ظهريّ، و جهاز الدورة الدمويّة المغلقة في جميع الحيوانات يعدّ أساساً و قانوناً عامّاً.
و ما يستفاد منه في العلوم الطبيعيّة التجريبيّة و ما يشكلّ أساس الاكتشاف و اكتساب المعلومات الجديدة هي هذه القواعد و الاسس،
لا النظريّات و الفرضيّات القابلة للتغيير، و التي أشار إليها في السطرين ٥ و ٦ من صفحة ٢۷٣.
نقد كتاب «خلق الإنسان» للُاستاذ اعلّامة نقدٌ واهٍ و لا أساس له
و ثانيهما: أنّنا نذكّر مرّة اخرى أنّ ما بُحث و استنتج في كتاب «خلقت انسان» قد استند إلى الآيات القرآنيّة فقط، و لم يستفاد في الاستنتاج المذكور من أي من البحوث العلميّة و التكامليّة؛ و على هذا فلو فرضنا محالًا بعدم وجود شواهد من علوم الحياة و طبقات الأرض في إثبات مسألة التكامل و الانشعاب التدريجيّ للموجودات، فإنّ ذلك لن يشكّل خللًا و لا إيراداً على ما كتبنا و بحثنا في الكتاب سالف الذكر».۱
و في رأيى فإنّ منشأ الخطأ للمؤلّف المذكور و من ساوقه و شاكله في هذا النحو و الاسلوب هو الخلط بين الإمكان و الوقوع، و بعبارة اخرى: عدم التمييز بين القابليّة و الفعليّة.
فما ذُكر في علوم الحياة من الشواهد و الأمثلة لن يعطى نتيجة أبعد من إمكان سلسلة الاتّصال لا وقوع الاتّصال، و لو زادوا على الشواهد و الأمثلة عشرات بل مئات الأضعاف أمثالها.
إنّ الحكماء و الفلاسفة يفصلون بعمليّة التدقيق و التحقيق بين هاتين المسألتين، و لا يسمحون لمطلب ثبت إمكانه فقط أن يستفاد منه أحياناً في مرحلة الوقوع و الوجود الخارجيّ، ليمكن للخصم المجادل أن يستنتج - بدون الالتفات إلى التفاوت بين هاتين المرحلتين المختلفتين - وقوع و ثبوت شيء ما من مجرّد إمكان وجوده.
في حين لم يقدّم داروين و جميع أتباعه دليلًا أبعد من الإمكان، و عجزوا عن الإتيان بأكثر من ذلك الدليل، فكيف يتأتّى الآن لأتباع تلك
المدرسة أن يثبتوا الوقوع الخارجيّ بمجرّد إمكانه؟!
و من الطريف في الحكمة و الفلسفة أن يرى أحد حديداً احمي بالنار ثمّ يقول باعتقاد جازم إنّ هذا الحديد قد احمي بأشعة الشمس، و دليله في ذلك أنّ الحديد يمتلك قابليّة الإحماء لو بقي تحت أشعة الشمس مدّة طويلة.
و تماماً هذا هو كلام مؤيّدي تغيّر الأنواع الذين يريدون الحكم بوقوع التغيّر و التبدّل من المقارنة و اسلوب تحديد الفسائل، و من الحالات الجنينيّة المختلفة، و من تناسب الأنسجة الحيوانيّة، و أن يصبح هذا الإمكان الذي لا يعدو أن يكون فرضيّة، قانوناً و قاعدة، لكنّ الحكيم يقف بوجه مغالطتهم فيقول: هذه مغالطة و ليست برهاناً، فأنتم لم تبرهنوا على أبعد من الإمكان، أي أنّكم قدّمتم فرضيّة و نظريّة ليس إلّا، فَلِمَ تضعون اسمها قانوناً و قاعدة؟ و لِمَ تقولون في علوم الحياة إنّ ارتباط الموجودات من جهة علاقة الانشعاب و التولّد هو قانون و قاعدة؟
إن هو إلّا خطأ و تجانف عن الحقيقة ذلك الذي قلتم به، فالقابليّة غير الفعليّة، و الإمكان غير الوجود و التحقّق.
لذا، فإنّ ما تبحثون عنه في علوم الحياة، و تتخيّلونه قاعدة و أساساً مخدوش لدينا، لأنّه لا يعطي أبعد من إمكان شيء و فرض وجوده، فمهما سمّيتموه علماً فلن يكون بعلم، إن هو إلّا الحدس و الظنّ و الخيال.
يقول الحكيم: إنّ التكامل في النوع غير التبدّل في النوع، و ما ثبت بالتجربة و المشاهدة فعلًا هو التطوّر و التكامل الحادث في داخل كلّ نوع، لكنّكم لم تستطيعوا أن تشيروا إلى التبدّل و لو في مورد واحد، فضلًا عن تبدّل الحيوان إلى إنسان غير مفكّر، و تبدّل الإنسان غير المفكّر إلى إنسان عالم مفكّر.
و الإشكال الآخر: أنّه قال: كيف يمكن بالاستناد إلى بحث فلسفيّ واحد في أنّ المادّة لا تتقبّل عند كمالها الصور الحيوانيّة المختلفة أن يغضّ النظر عن النتائج العمليّة الملموسة المذكورة؟
و ينبغي أن نسأله. أين شاهدتم هذا البحث الفلسفيّ؟ و ممّن سمعتموه؟ فنحن لم نره حتى الآن في أي مكان، و لم نسمع به من أحد، وَ ما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ.۱
فما ورد عن الحكماء و الفلاسفة يخالفه و يعاكسه تماماً، فهم يقولون إنّ المادّة تتقبّل أيّة صورة من الصور الحيوانيّة، فتكون عند تكاملها قد طوت مراتب، و تشكّلت و تصوّرت بأشكال متفاوتة و صور مختلفة.
و قد كان إثبات الحركة الجوهريّة من قبل الحكيم الجليل و الفيلسوف النادرة، الذي فتح مغلّق الأبواب، و حلّ المعضلات الصعاب، و استحدث المسائل الجديدة في الحكمة المتعالية على أساس هذا المطلب؛ أنّ المادّة تتحرّك في جوهرها فتّتخذ بنفسها الصور المختلفة، ثمّ تظهر في النفس الناطقة و الروح المجرّدة الإنسانيّة، ثمّ تتحرّك من هناك أيضاً لتطوي آخر درجة من درجات التكامل.
أفلم تقرأوا بعدُ هذه الأشعار البديعة و اللطيفة و العميقة للملّا الروميّ، محمّد البلخيّ:
از جمادي مُردم و نامي شدم | *** | و ز نما مردم به حيوان سر زدم٢ |
مردم از حيواني و آدم شدم | *** | پس چه ترسم كي ز مردن كم شدم |
حملة ديگر بميرم از بشر | *** | تا بر آرم أز ملايك بال و پر |
و ز مَلَك هم بايدم جَستن ز جو | *** | كُلُّ شَيْءٍ هَالِك إلَّا وَجْهَهُ |
بار ديگر از مَلَك قربان شوم | *** | آنچه اندر وهم نايد آن شوم |
پس عدم گردم عدم چون ارغنون | *** | گويدم كإنَّآ إليه رَاجِعُونَ۱ |
و أمّا الإشكال الذي كان للُاستاذ العلّامة قدّس الله سرّه على كلامكم فهو: أنّ هذا الاستدلال لا يشير إلى أكثر من أنّ المادّة لا يمكنها في طيّ مراحل كمالها لقبول الصور الحيوانيّة المختلفة إلّا أن تخضع للتدرّج؛ فما علاقة هذا القول بعدم قبول المادّة للصور الحيوانيّة المختلفة؟
فكلام العلّامة راسخ لا غبار عليه، و هذا الكلام يعني أنّ المادّة - حسب قولكم - اتّخذت في تكاملها طريق التدرّج، و هناك في عالم الوجود تدرّج من الناقص إلى الكامل؛ و نحن لا اعتراض لدينا على هذا القول.
الإشكال الثالث: قوله: إنّ النظريّات و الفرضيّات في مجال العلوم التجريبيّة هي غير القوانين، فالاولى متغيّرة و غير قطعيّة، و الثانيّة ثابتة و لها جانب قطعيّ.
و جوابه: إنّ هذا لا يشمل العلوم التجريبيّة فقط، بل يجري و يصدق على جميع العلوم، يبقى أنّ مطلب النشوء و الارتقاء و الانتخاب الطبيعيّ و التغيّر في الأنواع يمثّل فرضيّة لا قانوناً، و أنتم الذين منحتموه جزافاً اسم القانون.
إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَ آباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ.۱
أزيحوا جانباً هذا الاسم الذي و ضعتموه خطأ أو تغافلًا، فلن يتبقَّ هناك من شيء إلّا النظريّة و الفرضيّة التي لا يعلم إلّا الله وحده كم جاء من أمثالها في الدنيا من نظريّات و أفكار ثمّ انطوت و تلاشت.
أخطأ كتاب «خلقت انسان» في الاستناد إلى آيات القرآن
الإشكال الرابع: قولكم. إنّ الاستناد إلى الآيات القرآنيّة مثّل محور رأينا في كتاب «خلقت إنسان»، و على هذا فإن لم تستطع شواهد و أدلّة علوم الحياة أن تصمد في إثبات مسألة التكامل و الانشعاب التدريجيّ للموجودات، فلن يشكّل ذلك خللًا في ما كتبنا و بحثنا في الكتاب المذكور.
و الجواب: إنّ أهمّ نقاط الخلل و الإشكال في كتابكم هو هذا الاستدلال بالآيات و ليس القسم الأوّل من الكتاب الذي أوردتم فيه الشواهد و الأمثلة؛ فقد تمثّل إشكال القسم الأوّل في أنّ كلّما أوردتم من شواهد فقد كان بخصوص تحوّل و تكامل النوع، و في تطوّر و اختلاف
حالات النوع ضمن النوع نفسه. محاولين أن تستنتجوا لتغيّر من هذا التطوّر. و لم نفهم كيف يعطي هذا البحث في التطوّر نتيجة التغيّر و التبدّل؟
أمّا بحثكم في الآيات القرآنيّة فقد لفّه الاضطراب و التشويش، و كان واهياً من جهة فنّ التفسير، و لا تخلو استدلالاته و عباراته من هفوات، و قد جرى في هذا البحث البيان الاستدلاليّ لقسم من تلك الأخطاء و الهفوات من الإشارة إلى مواقع الخلط و مواضع الخطأ.
و أمّا استدلالكم بالاية المباركة: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَ نُوحاً وَ آلَ إِبْراهِيمَ وَ آلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ،۱ بهذا التقريب. أنّ الاصطفاء هو انتخاب الشيء الجيّد و المرغوب، و هذا الانتخاب يصدق حين يكون هناك جماعة يتمّ من خلالهم اختيار و اصطفاء المنتخب الأفضل و الأشرف، كما اختار الله نوحاً و آل عمران آل إبراهيم من بين أقوامهم.
و يستلزم هذا أن يكون مع آدم قوم غيره ليصطفيه الله و ينتخبه من بينهم و يؤثره و يفضّله عليهم، و لا يمكن أن يكون أولئك القوم غير البشر البدائيين الذين سبقوا عصر آدم ممّن لم يجهّزوا بجهاز العقل، حيث انتخب آدم من بينهم فصار مجهزّاً بجهاز العقل الكامل.
و جوابه هو ما ذكره الاستاذ قدّس سرّه؛ «و هو أنّ الْعالَمِينَ في الآية جمع محلّى باللام، و هو يفيد العموم و يصدق على عامّة البشر إلى يوم القيامة، فهم مصطفون على جميع المعاصرين لهم و الجائين بعدهم، كمثل قوله: وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ.٢
فما المانع من كون آدم مصطفى مختاراً من بين أولاده ما خلا
المذكورين منهم في الآية؟ و على تقدير اختصاص الاصطفاء بما بين المعاصرين و عليهم، فما هو المانع من كونه مصطفى مختاراً من بين أولاده المعاصرين له؟ و لا دلالة على أنّ اصطفاء آدم أوّل خلقته قبل ولادة أولاده.
على أنّ اصطفاء آدم لو كان على الإنسان الأوّليّ كما يذكره المستدلّ، كان ذلك بما أنّه مجهّز بالعقل، و كان ذلك مشتركاً بينه و بين بني آدم جميعاً على الإنسان الاوّليّ، فكان تخصيص آدم في الآية بالذكر تخصِيصاً من غير مُخَصِّص».۱
الردّ الواهي لمؤلّف كتاب «خلقت انسان» على الاستاذ العلّامة
و قد ردّ مؤلّف كتاب «خلقت إنسان» فقال: «إذا كان المفهوم من عموميّة كلمة الْعالَمِينَ لتحليتها باللام هو إطلاقها على الجائين أيضاً، و اعتبار آدم مصطفى على جميع الجائين، غير الأفراد الذين وردت أسماؤهم في الآية لاستلزم أن يكون جميع الأفراد الذين ذكروا بالاسم أو بلفظ آل في الآية لم يكونوا في مرتبة واحدة، فلا يمكن تعميم مسألة الاصطفاء على أزمنة غير أزمنتهم، لأنّ القاعدة أن يُصطفى الأفضل من بين الآخرين.
و باعتبار اصطفاء هؤلاء الأنبياء جميعاً، فينبغي أن يكونوا إذن في مرتبة و درجة واحدة؛ لكنّ هؤلاء الرسل الإلهيّين لم يكونوا - للأدلّة التي سترد آنفاً - في مقام واحد، فلا يمكن اعتبار اصطفائهم كائناً في زمن غير زمانهم و في شريعة غير شرائعهم.
ثمّ شرع بعد هذا الكلام في الفقرتين ب و ج بإثبات أفضليّة بعض
الأنبياء على آدم بالدليل العقليّ و حسب الآيات القرآنيّة».۱ و لعلّ الإجابة على كلامه من البساطة للحدّ الذي ربّما سهل على الأطفال دركها؛ فحين نختار و ننتقي عدّة أشياء من بين أشياء مختلفة؛ فإنّ هذا الاختيار لا يستلزم أن تكون هذه الأشياء المنتخبة متماثلة و في نفس الرتبة؛ و إذا ما اختار مدير مدرسة يوماً من بين صفّ معيّن عدد من الطّلاب الممتازين، فإنّ اختياره لا يستلزم أن يكونوا جميعهم في الدرجة نفسها؛ و لو انتقي معلّم روضة أطفال يوماً للأطفال مجموعة لعب خاصّة من بين الدُّمي و اللعب، فلن يتوجّب من ذلك أن تكون تلك اللعب متساوية و متماثلة في المرغوبيّة؛ و إذا ما انتقي الفلّاح يوماً من جنينة الفواكه مجموعة من ثمار الكمّثري و الخوخ و الإجّاص، فنضّدها في طبق و قدّمها لصاحب الجنينة، فإنّ ذلك لا يستدعي أن يكون لهذه الثمار المنتقاة نفس الشكل، و نفس الخاصّيّة و الطعم و القيمة؛ و لو انتخب حاكم ما يوماً من بين وزراء و مدراء و موظّفي قسم معيّن جماعة، فإنّ ذلك لا يستلزم أن يكون المنتخب منهم وزيراً أو مديراً أو موظّفاً في نفس التقييم و الكفاءة، لأنّ انتخاب وزير في مرحلة، و اختيار مدير في مرحلة اخرى، و اصطفاء موظّف في مرحلة ثالثة لا علاقة لكلّ منها بالآخر بالرغم من اجتماع هؤلاء و اشتراكهم في معنى الاصطفاء و الانتخاب.
ثمّ أردف المؤلّف في الفقرة د لتأكيد مقولته:
«و إذا ما وسّعنا مفهوم كلمة الْعالَمِينَ لتحليتها باللام، و اعتبرناها ناظرة لجميع أدوار البشريّة، أفيمكننا إنكار أنّ نوحاً و كلًّا من أنبياء آل إبراهيم و آل عمران قد اصطفوا في زمانهم من بين قومهم الذين شاكلوهم في
الجسم؟ فإن كان ذلك حقّاً فكيف نستنبط معنى آخر من الآية التي ذكرت آدم كرديف لسائر الأنبياء بغير أن تذكر لن استثناءً و اختصاصاً، فنعتبره مخلوقاً من غير أب و امّ، و نعتبر اصطفاءه من بين البشر الذين سيجيئون فيما بعد؟».۱
و جوابه: أنّنا لم نستفد مسألة خلق آدم من غير أب و امّ من آية الاصطفاء في القرآن الكريم.
إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَ نُوحاً وَ آلَ إِبْراهِيمَ وَ آلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ.٢
فلقد ذكرت آيات اخرى هذا المعنى و تكفّلت بإثباته، و قد أوردناها بالتفصيل، كآية: إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ.٣
أمّا معنى الاصطفاء في آية الاصطفاء فهو واحد لجميع المذكورين فيها، أي آدم و نوح و آل إبراهيم و آل عمران، و كان ذلك هو الانتخاب و الاختيار من جهة النبوّة الممتازة و علوّ درجة الرسالة و المقامات التوحيديّة و غير ذلك.
فأين هو سعي الاستاذ قدّس الله سرّه لإثبات خلق آدم بغير أب و امّ اعتماداً على آية الاصطفاء، لتحاولوا منع هذا الإثبات و إبطاله؟ فهذا المعنى للاصطفاء (أي الخلق بغير أب و امّ) قد كان هنا من بنات أفكاركم، اختلقتموه من عند أنفسكم ثمّ عدتم فتعثرتم به و أشكلتم عليه!!
إنّ التردّد و الإشكال الأهمّ الذي يمسك بتلابيب مؤلّف الكتاب المذكور فلا يملك منه مناصاً هو إقراره بعَلَمِيّة لفظ آدم، حيث صرّح بذلك في مواضع عدّة من كتابه، أي أنّ لفظ آدم يمثّل الاسم الخاص لجدّ بني آدم، أي أبي البشر، و أنّ هذا الاصطفاء و الانتخاب في هذه الآية يرجع إلى نفس هذا الشخص المعيّن الخارجيّ أيضاً، و يصرّح بأنّ آية الاصطفاء و سائر الآيات الواردة في خصوص آدم ترجع إلى انتخاب هذا الفرد من بين جميع أمثاله في النوع ممّن عاصروه في ذلك الوقت و المفتقرين إلى جهاز العقل و الإدراك، حيث اختار الله تعالى من بين هذه الحيوانات، أو البشر فاقدي العقل و الإدراك فرداً بشراً؛ أي يمتلك بشرة و لا يكسو جسمه الشعر و ليس له ذنب أو قرون؛ فسمّاه آدم و خلع عليه خلعة العقل و الإدراك، و متّعه بمقام الاصطفاء و الانتخاب، فصار أولاده بعد ذلك بني آدم و سُمّوا بالبشر.
و نقول هنا: تبعاً لنظريّة النشوء و الارتقاء و الانتخاب الطبيعيّ، فإنّ لفظ آدم بعنوان الاسم الخاصّ و العلم الشخصيّ لا معنى له و لا معقوليّة بشكل كلّيّ؛ فأمّا أن تقولوا بآدم النوعيّ؛ أي أنّ المراد بآدم في القرآن نوع الإنسان، السابقون منهم و اللاحقون؛ في حين أنّكم لا تقولون بهذا المعنى،۱ و قد رفض الاستاذ العلّامة قدّس الله نفسه في تفسيره مسألة اعتبار آدم نوعيّاً، و اعتبره يمثّل اسماً لفرد معيّن محدّد؛ أو أن تنصرفوا - في حال التزامكم بآدم الشخصيّ طبق آيات القرآن - عن نظريّة التبدّل في الأنواع و تقولوا بخلق آدم الدفعيّ و الإعجازيّ من الطين.
فالإشكال يتمثّل في أنّ عمر الإنسان حسب نظريّة الخلق الدفعيّ
لا يتجاوز عدّة آلاف من السنين، لكنّ عمر العالم حسب نظريّة التكامل في الأنواع ينبغي أن يزيد على مئات الملايين من السنين، فقد قال البعض. إنّ الحياة بدأت على ظهر البسيطة قبل مائتي مليون سنة، و قال آخرون. قبل ثلاثمائة، و أربعمائة، و حتى ثمانمائة مليون سنة.
إذ يجب مرور ملايين السنين - طبقاً للانتخاب الطبيعيّ - ليتبدّل نوع إلى نوع آخر؛ فعمليّة التغيّر تحدث في رأي علوم الحياة بشكل بطيء و تدريجيّ، إلى الحدّ الذي يستغرق تبدّل و تغيّر جزئيّ في نوع ما ضمن نفس النوع - كتبدّل بعض الأصابع، أو اختفاء أرجل الحرباء - ألفاً أو آلافاً من السنين.
و قد ظلّ داروين قلقاً بعد تقديمه فرضيّته في أنّ عمر الدنيا ثلاثمائة مليون سنة، لأنّ هذا المقدار إن لم يثبت فإنّ فرضيّته ستفقد أثرها و قيمتها، لذا فقد سُرّ أيّما سرور عندما ثبت اعتماداً على تقدير عمر النظائر المشعّة في أعماق الصخور أنّ عمر الدنيا يزيد على هذا المقدار.
و تبعاً لهذه النظريّة فإنّ الفترة الزمنيّة لتبدّل إنسان غير عاقل إلى بشر عاقل و مدرك بصورته الفعليّة ستستغرق مليون سنة، ليمكن خلالها لهذا الإنسان المفكّر أن ينفصل عن الإنسان فاقد العقل. و بناء على عقيدة داروين في أنّ النوع الذي سبق الإنسان كان هو القرد، و على عقيدة الآخرين في أنّه يمثّل الحلقة المفقودة؛ فإنّ زمان التحوّل يجب أن يمتدّ بالقدر الذي يتطلّبه تحوّل قرد نحاول اليوم - على سبيل المثال - أن نصيّره إنساناً.
و على هذا فإنّ القول بآدم الشخصيّ، و بانتخاب فرد خاصّ و وضع تاج و عَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها على رأسه غير معقول أبداً وفق هذه
النظريّة،۱ و ذلك ممّا يستلزم مضافاً إلى ما سبق أن نعتبر قصّة آدم و حوّاء و خلقهما في جنّة الاستعداد، و أمر الملائكة بالسجود لآدم، و عصيان إبليس، و سلطانه على بني آدم، و إخراج آدم و زوجه من الجنّة، و ما إلى ذلك من الخصوصيّات التي بيّنها القرآن الكريم؛ فتصبح مجرّد قضايا تمثيليّة و أساطير خياليّة قد ذُكرت لبيان المطلب و تقريبه، و هو خلاف منحى التفسير و منهجه.
ثمّ ما يدرينا أنّ بقيّة القصص القرآنيّة ليست من هذا القبيل؟ يضاف إلى ذلك أنّنا إذا رفعنا اليد عن ظهورات القرآن، بل عن نصوصه في هذه الموارد، بالرغم من استغراقها للقسم الأعظم من الآيات، فإنّ ظهور سائر الآيات في معانيها سيزول، و ستبطل حجّيّة القرآن في بيان و إفادة معانيه و مفاهيمه؛ و خلاصة الأمر فإنّ هذا الكتاب المبين المتين الإلهيّ الذي ينبغي الاستفادة من كلّ كلمة منه سيصبح كتاب لغو لا ثمرة فيه و لا فائدة. و حاشا أن يؤول إلى هذا الوضع و يظهر بهذه الكيفيّة كتاب الله القويم و حجّته على البشر إلى يوم القيامة، و أحد الثَّقَلَيْنِ المتبقّيين عن رسول الله، و كتابٌ هو الفصل و ليس بالهزل، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه و من خلفه.
كان هذا بحثنا حول الآيات القرآنيّة الكريمة، و علمنا بحمد الله أنّه يعطي نتيجة تخالف عقيدة كتاب «خلقت انسان» (=خلق الإنسان).
حصول التحريف في التوراة، لكنّها ليست بالكامل محرّفة
و أمّا تصريحه في موضعين من كتابه أنّ. القول بخلق آدم دفعة واحدة من الطين إنّما هو من أساطير و خرافات الأوّلين، و من مطالب التوراة المحرّفة التي لا يمكن الوثوق بها و الركون إليها؛ فيجدر بنا أن نورد
عين عبارته التي ذكرها في مقدّمة كتابه قبل تفصيل البحث بشأنها.
فهو يقول: «إنّ مطالب التوراة، مع كلّ التحريف الذي لزمها، تظهر أحياناً في قالب المعتقدات الدينيّة لسائر الأديان، و من جملتها، فإنّ التعبيرات المختلفة لهذا الكتاب لم تخلُ من تأثير في تفسير آيات القرآن، و من ثَمَّ في العقائد الإسلاميّة.
فمع ما في القرآن الكريم من بيانات واضحة و محكمة في آيات عديدة حول خلق الإنسان، لكنّ بعض المفسّرين قد ذكروا تعبيرات تقارب مطالب التوراة حول نشأة آدم متأثّرين بالتلقين الحاصل من الإسرائيليّات المتبقّية، دون الالتفات إلى مفهوم الكلمات و معاني الآيات، كاعتبارهم نوع البشر من نسل آدم، و قولهم إنّ آدم هو مخلوق متميّز و مستقلّ عن جميع الموجودات الحيّة الاخرى، فقد أظهروا في بياناتهم أنّ الله صنع هيكلًا من طين، ثمّ نفخ فيه فخلق منه آدم أبا البشر.
و لقد كان رواج و شيوع تعبيرات كهذه عن آيات القرآن للحدّ الذي لم يستطع حتى المفسّرون الجدد - عدا قلائل منهم ممّن يمتلكون اطّلاعاً على العلوم الحديثة و يتحلّون بذهنيّة منفتحة لاكتساب الحقائق - أن يبقوا بمعزل عن التعبيرات القديمة، و أن يبيّنوا و يفسّروا آيات الكتاب الإلهيّ بنظر أوسع و أرحب و بدون رأي مسبق، بعيداً عن الخواطر التلقينيّة و الموروثة».۱
و لقد خبط المؤلّف فيما نقلناه عنه خبط عشواء، إذ لم تنحصر أخطاؤه و هفواته في كلّ سطر من كلامه، بل تعدّت ذلك إلى كلّ عبارة و جملة.
فَأوّلًا: إنّ كتاب التوراة من الكتب السماويّة النازلة على موسى، على نبيّنا و آله و عليهالسلام، و كلّه صحيح و مبارك عدا موارد تُعدّ على الأصابع جرى تحريفها و تغييرها، و هي موارد مشخّصة و معيّنة، أوّلها المطالب المخالفة للعقل المستقلّ، لأنّها تنسب الخطأ إلى الله، و تحكي غلبة الشيطان على الله في خلق آدم، لأنّه بيّن لآدم ما أراد الله إخفاءه عنه،۱ و أمثال ذلك.
و ثانيها المطالب التي وردت في القرآن الكريم و أشارت إلى بعض مطالب التوراة المحرّفة، و ما خلا ذلك فإنّ جميع مطالب التوراة حقّ و صدق و نور، و ما ورد فيها موافقاً للقرآن الكريم مثل أصل نشوء آدم من الطين فكلّه صحيح و صواب.
فالقرآن الكريم يعدّ التوراة حكم الله و هدى و نور يحكم بها
النبيّون:
وَ كَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَ عِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَ ما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ ، إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَ نُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَ الرَّبَّانِيُّونَ وَ الْأَحْبارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللَّهِ وَ كانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَ اخْشَوْنِ وَ لا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ.۱
و نلحظ في هذه الآيات مدى القيمة التي عدّها الله سبحانه للتوراة و ذمّ مخالفيها؛ ثمّ يقول سبحانه بعد بيان عدّة آيات:
وَ لَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَ الْإِنْجِيلَ وَ ما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ.٢
ثمّ يأمر سبحانه نبيّه الكريم بعد تلك الآية أن يخاطب أهل الكتاب:
قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَ الْإِنْجِيلَ وَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَ لَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَ كُفْراً فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ.٣
و ثانياً: لقد قلتم إنّ بعض المفسّرين - تبعاً لتلقين الاسرائيليّات - كانوا يقولون بصنع مثال آدم من الطين؛ ثمّ قلتم. إنّ رواج و شيوع تعبيرات كهذه عن آيات القرآن كان للحدّ الذي عجز حتى المفسّرون الجدد - عدا عدّة منهم ممّن يمتلكون اطّلاعاً على العلوم الحديثة و يتحلّون بذهنيّة منفتحة
لاكتساب الحقائق - أن يبقوا بمعزل عن التعبيرات القديمة.
و ينبغي الإشارة هنا إلى التناقض الصريح في كلامكم ففي قولكم، أوّلًا: بعض المفسّرين، ثمّ إضافتكم ثانياً بأنّ ذلك شاع حتى لم يبقَ إلّا قليل من المفسّرين الجدد بمعزل و منجى منه.
و مضافاً إلى ذلك فإنّ جميع المفسّرين الجدد و القدماء ممّن يمتلكون مقاماً في التفسير و يصحّ إطلاق اسم المفسّر عليهم يقولون بخلق آدم من الطين دفعة واحدة؛ ولدى الحقير حاليّاً ما يقرب من خمسين دورة تفسير من الشيعة و العامّة من صدر الإسلام و حتى الآن لم نعثر في شيء منها على قائل بخلق آدم من أب و امّ و إمضاء لقول تبدّل الأنواع.
أمّا المفسّرون الجدد الذين ذكرتموهم و قلتم إنّهم يمتلكون اطّلاعاً على العلوم الحديثة فليتكم أشرتم إليه م بأسمائهم.
و بغضّ النظر عن ذلك فإنّ هناك الآن من يمتلكون اطّلاعاً واسعاً على العلوم الحديثة و لهم أيضاً اليد الطولي و الباع الطويل في تفسير القرآن بحيث يصحّ إطلاق لقب مفسّر لكلّ منهم، لكنّهم يرفضون مع ذلك فرضيّة تبدّل الأنواع و يعتبرون البحث عنها العوبة في يد القاصرين، و يعتقدون جادّين بإعجاز الخلق الدفعيّ لآدم، أي ما ندعوهم اليوم بـ فيكسيزم مائة في المائة لا ترانسفورميزم.
ثالثاً: لقد عددتم القائلين بإعجاز خلق آدم استدلالًا من الكتاب الإلهيّ من وارثي خواطر التلقين و التعبيرات الموروثة، فكيف لم تعدّوا أنفسكم و مَن شارككم هذا النهج من مولودي خواطر التلقين و الإلقاء، و من وارثي الفرضيّات و النظريّات الفعليّة، مع أنّها لا تمثّل إلّا وهماً و حدساً و ظنّاً.
رابعاً: لقد صرّحتم أنّ التوراة قد ظهرت في قالب العقائد الدينيّة
لسائر الأديان، و أنّ التعبيرات المختلفة لهذا الكتاب لم تخلُ من تأثير في تفسير آيات القرآن، و من ثَمَّ في العقائد الإسلاميّة.
إنّ تفاسيرنا للقرآن بشأن خلق آدم قد اعتمدت على ما جاء في صدر الإسلام، كما ورد عن أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليهالسلام و تلميذه البارع في التفسير ابن عبّاس و سعيد بن جبير و أمثالهم، لذا فإن لم نقل تحقيقاً إنّ هذا التفسير كان مؤثّراً في التوراة و اسلوبها التفسيريّ، فلا يمكننا القول إنّ مطالب التوراة قد تركت تأثيراً في الاسلوب التفسيريّ للقرآن الكريم، و ليست الروايات الواردة في التفسير منحصرة بكعب الأحبار و أبي هريرة و عبدالله بن سلام ليمكن الطعن في أصالتهم و إيجاد الشكّ في تفسير حقائق القرآن.
و خامساً: لقد قلتم. لقد ذكر بعض المفسّرين مع ذلك متأثّرين بما تبقّي في أذهانهم من تلقين الإسرائيليّات تعبيرات مقاربة لهذه المطالب حول نشأة آدم.
معنى الإسرائيليّات و إقحام مقولة خلق آدم من الطين دفعةً واحدة في التفسير
و نجد أنفسنا مجبرين هنا على بيان معنى الإسرائيليّات ليتّضح من ذلك أن لا علاقة و لا رابطة أبداً للروايات الواردة في التفسير و لا لاستناد المفسّرين في المنهج التفسيري بالإسرائيليّات، حيث إنّ تعبير إسرائيليّ بالخصوص قد اسيء إستخدامه هنا.
تُطلق الإسرائيليّات على الروايات التي رواتها من إليه ود الذين اختاروا الانضمام إلى الإسلام، و يشاهد ضمن رواياتهم في تفسير القرآن، أو في الأحكام و العقائد مطالب تطابق ما جاء في العهد القديم للتوراة من قصص الأنبياء و تخالف مدلول القرآن أو الأحاديث الصحيحة المسندة المعتبرة، أو أن يكون رواتها غير يهود لكنّهم اقتبسوا تلك المطالب المطابقة لحكايات التوراة و أحكامها عن إليه ود و تمسّكوا بها لفهم و تفسير
بعض آيات القرآن المستعصية عليهم، ثمّ نسبوا هذه الروايات كذباً و افتراءً إلى النبيّ الأكرم صلّى الله عليه و آله و سلّم أو إلى أحد الأئمّة عليهم السلام، لتكون مقبولة لعامّة المسلمين و المعتقدين بالقرآن.
و ينبغي - بناء على هذا - أن يكون رواة هذه الروايات إمّا من أهل السنّة الذين افتقدوا المنبع الصحيح للتفسير و لم يكن ماء معين الولاية في متناول أيديهم، فرأوا أيديهم خالية في التفسير، و اجبروا - كي لا يتخلّفوا عن جمع المفسّرين و المحدّثين و المؤرّخين - أن يتطاولوا بهذه الانحرافات؛ أو من أهل الكذب و الجعل و الدّس و الوضع الذين اختلقوا رواية و نسبوها إلى مصدر الوحي أو إلى المعصوم، فهم يروون الرواية في هذه الحال إمّا بلا واسطة، أو يختلقون لها حسب رأيهم وسائط من المعتبرين و الموثّقين و ينسبون سلسلة الرواية افتراءً بذكر الاسم و اللقب و الأشخاص.
طريق تشخيص الإسرائيليّات عن الروايات المعتبرة صحّة سند الرواية
و هذه الروايات تشخّص و تعيّن من قبل العالم و المجتهد الفقيه البصير بواسطة علم الدراية و الرجال، بالاستعانة بعلم اصول الفقه و البحث عن كيفيّة حجّية الخبر، و البحث عن التعادل و الترجيح، و كيفيّة تقديم بعض الروايات على بعضها الآخر؛ فالفقيه و المتبحّر المتخصّص في هذا الفنّ يفهم بمجرّد رؤية الرواية أهذا الحديث مقبول أم مرفوض؟ من الإسرائيليّات هو أو من غيرها؟
و كما قلنا فينبغي لراوي هذا النمط من الأحاديث إمّا أن يكون سنيّاً وضّاعاً و كذّاباً، لا سنيّاً موثّقاً (لأنّ الرجل السنّيّ المذهب إن كان عادلًا أو ثقة في مذهبه فإنّ روايته مقبولة عند الشيعة)، أو أن يكون مجهول الحال، أو إن كان شيعيّاً فينبغي أن يكون غير موثّق و لم يشهد رجال علم الحديث على صدقه.
و في كلّ من هذه الصور و الحالات فإنّ الرواية تُعدّ ضعيفة السند و يُعدّ راويها ضعيفاً، و تُعتبر الرواية غير صالحة للأخذ بها، لأنّ الشخص الأمين و العادل و الموثّق - طبق فرضنا - لا يكذب متعمّداً على النبيّ و الإمام.
و المتكفّل بتشخيص هويّة و شخصيّة و مذهب و اسم و عنوان الرواة و أوضاعهم واحداً واحداً هو علم الرجال؛ و قد كتب المجتهد الخبير و الفقيه البصير. المرحوم آية الله الحاجّ الشيخ عبدالله المامقانيّ تغمّده الله برحمته كتاباً جرى طبعه في ثلاثة أجزاء ضخمة، يُعدّ من أشمل و أنفع كتب الرجال من حيث المجموع من زمن النجاشيّ و الشيخ الطوسيّ و الكشيّ و العلّامة الحلّيّ إلى زماننا الحاضر، و سمّاه. «تنقيح المقال في علم الرجال».۱
و نورد في هذا المجال عدداً من الروايات المرويّة في شأن خلق آدم، من «نهج البلاغة» و «قصص العلماء» و «تفسير العيّاشيّ»، ممّا يعدّ سنادها في أعلى درجات الاعتبار، ليتّضح كم كان خلط مؤلّف كتاب «خلقت انسان» (=خلق الإنسان) مبحثَ الإسرائيليّات مع المقولة التي نحن بصددها مثيراً للعجب و الاستغراب.
لكأنّه فَهِم الرواية الإسرائيليّة على أنّها الرواية التي توافق مضمون مطالب التوراة، و هو فهم خاطئ و غير صائب، لأنّ الكثير من مطالب التوراة توافق القرآن، أفيمكن رفع اليد عنها؟!
كما أنّ كثيراً من روايات العامّة تتّفق و رواياتنا الصحيحة مفاداً و مضموناً، و لا تختلف في المحتوى، أفيمكن الإغماض عنها جميعاً؟!
كلّا بالطبع، فهذا نهج خاطئ لا يقرّه العقل و العلم، بل ينبغي تمييز الصحيح عن السقيم، ليؤخذ بالصحيح و يُعرض عن السقيم. فإذا ورد في التوراة أنّ الله واحد، و أنّ موسى نبيٌّ بالحقّ، أفعلينا أن نخالفه و نقول إنّ الآلهة اثنان، و موسى نبيٌّ كاذب؟! لا شكّ أبداً أنّ هذا الأمر غير وارد
إطلاقاً لا بالنسبة إلى التوراة و لا إلى أي كتاب آخر أو بحث و مطلب علميّ.
خطبة «نهج البلاغة» في خلقة آدم من الطين
أمّا رواية «نهج البلاغة»، فالخطبة الاولى التي وصف فيها أميرالمؤمنين عليهالسلام أوّل الخلق، فيقول بشأن صفة خلق آدم عليه السلام:
ثُمَّ جَمَعَ سُبْحَانَهُ مِنْ حَزْنِ الأرْضِ وَ سَهْلِهَا وَ عَذْبِهَا وَ سَبَخِهَا تُرْبَةً سَنَّهَا بِالمَاءِ حتى خَلَصَتْ؛ وَ لَاطَهَا بِالبَلَّةِ حتى لَزُبَتْ. فَجَبَلَ مِنْهَا صُورَةً ذَاتَ أحْنَاءٍ وَ وُصُولٍ؛ وَ أعْضَاءٍ وَ فُصُولٍ.
أجْمَدَهَا حتى اسْتَمْسَكَتْ؛ وَ أصْلَدَهَا حتى صَلْصَلَتْ، لِوَقْتٍ مَعْدُودٍ وَ أمَدٍ مَعْلُومٍ. ثُمَّ نَفَخَ فِيهَا مِنْ رُوحِهِ فَمَثُلَتْ إنْسَاناً ذَا أذْهَانٍ يُجِيلُهَا، وَ فِكْرٍ يَتَصَرَّفُ بِهَا، وَ جَوَارِحَ يَخْتَدِمُهَا، وَ أدَوَاتٍ يُقَلِّبُهَا، وَ مَعْرِفَةً يَفْرُقُ بِهَا بَيْنَ الحَقِّ وَ البَاطِلِ، وَ الأذْوَاقِ وَ المَشَامِّ وَ الألْوَانِ وَ الأجْنَاسِ.
مَعْجُوناً بِطِينَةِ الألْوَانِ المَختَلِفَةِ وَ الأشْبَاهِ المُؤْتَلِفَةِ وَ الأضْدَادِ المُتَعَادِيَةِ وَ الأخْلَاطِ المُتَبَايِنَةِ مِنَ الحَرِّ وَ البَرْدِ وَ البَلَّةِ وَ الجُمُودِ – (الخطبة).۱
و «نهج البلاغة» هو كلام معدن الحِكَم و العلم و باب مدينة العلم و الحكمة أفضل الكتب على الإطلاق بعد القرآن الكريم، كلّ خطبة و عبارة فيه تكفي لوحدها في الدلالة على صدوره عن مدرسة الوحي و العصمة و اليقين.
و أمّا رواية «قصص الأنبياء»، فيروي بإسناده عن الشيخ الصدوق، عن أبيه، عن سعد، عن ابن يزيد، عن ابن أبي عُمير، عن هشام بن سالم، عن الصادق عليهالسلام أنّه قال:
كَانَتِ المَلَائِكَةُ تَمُرُّ بِآدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ - أي بُصُورَتِهِ وَ هُوَ مُلْقَى في الجَنَّةِ مِنْ طِينٍ - فَتقول: لأمْرٍ مَا خُلِقْتَ؟!۱
و كتاب «قصص الأنبياء» للقطب الراونديّ، أي الشيخ و الإمام قطب الدين أبي الحسين بن سعيد بن هبة الله بن حسن الراونديّ المتوفّي سنة ٥۷٣ هجريّة. و هذا الرجل من أساطين و فحول علماء الشيعة و من أعاظم الرواة و أكابر الثقات السابقين، و باعتبار أنّ سلسلة سند روايته إلى المعصوم في هذا الحديث كانت صحيحة بأجمعها، فإنّ هذه الرواية تعدّ من الصحاح، و لا شكّ في إسنادها إلى المعصوم و في حجّيّتها.٢
و إن لم يكن «قصص الأنبياء» هذا لهذا الرجل الجليل، فهو بلا شكّ للسيّد الأجلّ الأكرم الأفخم السيّد ضياء الدين أبي الرضا فضل الله الراونديّ أحد تلامذة أبي عليّ ابن الشيخ الطوسيّ، و هو من أعيان و أعلام علماء الشيعة و الموثّقين الذين نزلوا راوند كاشان فاتّخذوها محطَّ رحالهم و دار سكناهم و إقامتهم.
و قد ذكر المرحوم السيّد جلال الدين المحدّث الأرمويّ ترجمته مفصّلًا في مجموعة أشعار له طُبعت ملحقة بكتاب «نَقْض» (=النَقْض)،
و نقل قصصاً من تبحّره و تضلّعه في العلوم و الأدب و العربيّة.
فإن كانت قصص الأنبياء المذكورة من تأليفاته أيضاً فإنّها ستكون كذلك في ذروة الإتقان، و ستكون الرواية الواردة في موضوعنا صحيحة السند.
و أمّا رواية العيّاشيّ عن سلمان الفارسيّ فهي أنّه قال:
إنَّ اللهَ لَمَّا خَلَقَ آدَمَ فَكَانَ أوَّلَ مَا خَلَقَ عَيْنَاهُ؛ فَجَعَلَ يَنْظُرُ إلى جَسَدِهِ كَيْفَ يُخْلَقُ؟ فَلَمَّا حَانَتْ وَ لَمْ يَتَبَالَغِ الخَلْقُ في رِجْلَيْهِ، أرَادَ القِيَامَ فَلَمْ يَقْدِرْ. وَ هُوَ قَوْلُ اللهِ. «خُلِقَ الإنْسَانُ عَجُولًا».۱ وَ إنَّ اللهَ لَمَّا خَلَقَ آدَمَ وَ نَفَخَ فِيهِ لَمْ يَلْبَثْ أنْ تَنَاوَلَ عُنْقُوداً فَأكَلَهُ.٢
و مع أنّ هذه الرواية مرسلة حسب اصطلاح أهل الحديث، لكنّ رواية العيّاشيّ لها في تفسيره يعدّ مهمّاً، فالعيّاشيّ أحد العلماء الكبار و من المفسّرين ذوي المنزلة العظيمة، حاز منتهى الثقة و الاطمئنان، حتى قدّمه بعض العلماء في الفضل و المنزلة على محمّد بن يعقوب الكلينيّ صاحب «الكافي».
إنّ الروايات الواردة في موضوعنا كثيرة، لكنّنا آثرنا ذكر هذا العدد من الروايات المعتبرة سنداً و دلالة ليتّضح عدم ارتباط مسألة الإسرائيليّات بما نحن بصدده.
ضعف استدلال كتاب «خلقت انسان» بآيات القرآن
و كانت هذه نكات مهمّة يلزم بيانها و التذكير بها لمطالعي كتاب «خلقت إنسان» (=خلق الإنسان)، و إلّا فإنّ أخطاءً كثيرة اخرى وردت في مطاوى الكتاب المذكور، من جملتها استنباطه وجود أب و امّ لآدم من لفظ خَلْق في الآيات:
خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ.۱
و. خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ.٢
و. إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ.٣
اعتبر فيها كلمة خلق بمعنى إيجاد شيء من شيء آخر، لا بمعنى الإيجاد و الإنشاء الابتدائيّ.٤
و من قبيل استفادته لهذا المعنى من لفظ صِهْر في الآية:
وَ هُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَ صِهْراً وَ كانَ رَبُّكَ قَدِيراً.٥
حيث استفاد من كلمة صِهْر أنّ تحقّق هذا المعنى في آدم أبي البشر نفسه يستلزم رابطة مصاهرته و ارتباطه مع أناس من معاصريه.٦
و كذلك الاتّهام الذي وجّهه للعلّامة الاستاذ قدّس الله سرّه، و نسب إليه في البحث و التوضيح الإضافيّ أنّه قال في المقالة مورد البحث، و بالإرجاع إلى تفسير الجزء الثامن بخصوص الآية ۱۱، من السورة ۷.
الأعراف الشريفة، و لأجل إزالة المدلول التكامليّ الجلي لتلك الآية:
إنّ حرف ثُمَّ فِي الآية ۱۱ من سورة الأعراف ليس حرف عطف ترتيبيّ يفيد التراخي، بل هو بمعنى الواو و العطف الكلاميّ.۱
و تمثّل هذه العبارات الأخيرة خطاً محضاً بيّناً، و أمراً لا يليق نسبته لمثل عبارات الاستاذ.
فما ذكره العلّامة قدّس الله سرّه في الجزء الثامن في تفسير الاية المباركة:
وَ لَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ.
دلالة «ثمّ» في الآية على التراخي عند العلّامة الطباطبائيّ
إنّ ثُمَ هنا بمعنى التراخي الحقيقيّ، و على هذا فالانتقال في الخطاب من العموم إلى الخصوص، أعني من قوله: خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ إلى قوله: ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ؛ و هو خطاب بخصوص آدم، أي أنّ الخطاب انتقل من جميع بني آدم إلى الملائكة و ذلك لبيان حقيقتين.
الأولى: أنّ السجدة التي أمر الله بها الملائكة كانت لجميع بني آدم، أي للنشأة الإنسانيّة و إن كان آدم عليهالسلام خصوصاً هو القبلة المنصوبة للسجدة، فهو عليهالسلام في أمر السجدة كان مثالًا يمثّل به الإنسانيّة مناب أفراد الإنسان على كثرتهم، لا مسجوداً له من جهة شخصه، كالكعبة المجعولة قبلة يتوجّه إليها في العبادات و تمثّل بها ناحيه الربوبيّة.
ثمّ أورد العلّامة لإثبات هذا المدّعى ثلاثة أدلّة من آيات القرآن الكريم قد تناولها بالتفصيل.
الثانية: أنّ خلق آدم عليهالسلام كان خلقاً للجميع؛ ثمّ يورد لإثبات هذا المدّعى آيتين من القرآن بعنوان دليل، و آيتين تأييد و إشعار.
ثمّ يقول في خاتمة بحثه و تفسيره:
و للمفسّرين في هذه الآية أقوال مختلفة؛ قال في «مجمع البيان». ثمّ ذكر سبحانه نعمته في ابتداء الخلق فقال: وَ لَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ. قال الأخفش. ثُمَّ ها هنا في معنى الواو؛ و قال الزَّجَّاج: و هذا خطأ لا يجوّزه الخليل و سيبويه و جميع مَن يُوثق بعلمه، إنّما ثُمَ للشيء الذي يكون بعد المذكور قبله لا غير.
ثمّ ذكر العلّامة بعد نقل هذا القول. العلّة التي أوردها الزجّاج لكلامه من أنّ عرب الجاهليّة يقولون. فعلنا بكم كذا و كذا، و هم يعنون أسلافهم.
و قد جاء في القرآن أيضاً: وَ إِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَ رَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ،۱ و كان الخطاب هنا ليهود زمان النبيّ بما فعله الله بأسلافهم من يهود النبيّ موسى، و على هذا فإنّ ثمّ ليست بمعنى الواو، و هي من هذا الطريق تعني التراخي؛ كان هذا كلام الزجّاج.٢
و قد رفض العلّامة لدليلين دليل الزجّاج على صحّة استعمال أمثال هذا الخطاب لإفادة معنى التراخي، لا أن يكون قد أثبت معنى الواو للفظ ثمّ. أي أنّه يقول: إنّ ثمّ لها معنى التراخي، و قد استعملت للتراخي للحقيقتين اللتين بيّنهما العلّامة، لا للعلّة التي ذكرها الزجّاج.
فالعلّامة في ردّه على الزجّاج لم يردّه في اعتبار ثمّ دالّة على التراخي ليثبت بذلك كلام الأخفش الذي عدّها بمعنى الواو، بل إنّه ردّ على تعليل الزجّاج في استعمال ثمّ للتراخي، ليثبت بكلامه - ببيان تلكما الحقيقتَين - استعمال ثمّ في التراخي.
و ما أورده العلّامة في الجزء السادس عشر في شأن هذه الآية هو:
و ربّما استدلّ بقوله في سورة الأعراف: وَ لَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ بناء على أنّ ثُمَ تدلّ على التراخي الزمانيّ، و يلزم أن يكون للنوع الإنسانيّ وجود قبل خلق آدم لتؤمر الملائكة بالسجود له. و فيه أنّ ثُمَ في الآية للترتيب الكلاميّ، و هو كثير الورود في كلامه تعالى، على أنّ هناك معنى آخر «ثُمَّ» للترتيب الحقيقيّ أشرنا إليه في تفسير الآية في الجزء الثامن من الكتاب.۱
و قد اتّضح بما أوردنا من بيان للحقيقة، و شرح لقول العلّامة في كلام الموضعين حجم الخطأ الذي ارتكبه مؤلّف «خلقت انسان» في نسبته للعلّامة صرف ثُمَّ و سلخها عن معنى التراخي و اعتبارها بمعنى الواو. و يبدو بنظر الحقير أنّه على الظاهر لم يفهم معنى كلام الاستاذ و مقصوده قبل أن يتصدّى للردّ عليه؛ فأجدر بالمرء التحرّز عن الخوض في فنّ لا يمتلك مفاتحه و فنونه، لأنّ البحث و التحليل و النقد و الاجتهاد و إظهار النظر في علم لا تخصّص للمرء فيه و لا مهارة لن يفضي بصاحبه عن القصد إلّا بُعداً، كمن سار في مفازة على غير هدى.
لقد استلفت نظر الحقير قبل أربعين سنة كتاب ما، فطالعته بدقّة حتى أتيتُ على آخره فهالني أنّ كاتبه، و هو امرؤٌ طيّب حقّاً و ليس بمُغرض، و قد بذل اهتماماً بالغاً ليطرح لطلبة الجامعة، و للمجتمع الإسلاميّ موضوعاً مهمّاً، و كان استنباطه للمطلب صحيحاً، و كتابه غير خال من فائدة؛ إلّا أنّه قد ارتكب في كتابه أخطاء و هفوات بيّنة و واضحة.
و كنت اتابع ذلك الوقت تحصيلي في الحوزة العلميّة المقدّسة في قم،
فأخذت الكتاب إلى الاستاذ العلّامة و ذكرتُ له أمره، فكتب رسالة أرسلها للمؤلّف بشأن بعض هذه الأخطاء.
و لم يكن للحقير توقّف في قم بعد تلك الرسالة، فقد شددت الرحال لإكمال التحصيل لأرض الغري، النجف الأشرف للإفادة من جوار و كنف مولى الموحّدين أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليهالسلام، و لم يتّضح لي بعد ذلك ما كان جواب الرسالة، لكنّي سمعت أنّ تلك الموارد قد تمّ إصلاحها في طبعات الكتاب اللاحقة.
و كان ذلك الكتاب يبحث حول سيرة الأنبياء و الهدف الغائيّ في تكامل البشر، و تنظيم أمر دعوتهم و هدايتهم؛ ثمّ كتب في خاتمة الكتاب بحثاً عن القيامة مع الاستفادة من آيات القرآن الكريم.
و لقد شكّلت العلوم الطبيعيّة المرتكز الأساس لأبحاث الكتاب، و خاصّة في بحثه النهائيّ عن القيامة، حيث استند إلى بحث المادّة و بقائها و آثارها و خواصّها المحيّرة للعقول. ثمّ واصل المؤلّف بحثه عن إثبات بقاء المادّة حسب قانون لافوازيه، و عن تبدّل أشكال الطاقة مع حفظ أصلها حسب القانون الأول للثرمو ديناميك، و عن استحالة نشوء وجود حيّ من مادّة غير حيّة، حتى أنّه استخلص من قانون لامارك و داروين علامات للقيامة، و اتّخذ من قانون لافوازيه طليعة بشارة لها ضدّ المادّيّين الطبيعيّين الذين ينكرون الخالق.
أخطأ مؤلّف كتاب «راه طي شده» في بعض مطالبه
لكنّ هذا البحث قد تضمّن إشكالات مهمّة عدّة:
الأوّل: الاعتقاد بأصالة المادّة و الالتفات الشديد إلى آثارها، لدرجة يصرّح معها في كثير من الموارد أنّه. على فرض إنكار الروح و بقائها فإنّ مطلبنا لن يتأثّر أو يتزعزع، بل سيبقى له أهمّيّته و قيمته. و في الحقيقة فإنّ كلامه كان بحثاً عن سيرة الأنبياء و حاصل أتعابهم و مجاهداتهم في إيصال البشريّة إلى الكمال، و في وجود المعاد و يوم الجزاء، لكنّ هذا البحث
لم يَعْدُ عن كونه بحثاً فيزيائيّاً و ميكانيكيّاً فقط، لم يتخطّ هذا الإطار المعيّن إلى خاتمته، ثمّ ينتهي بالاعتراف بالنتائج الحاصلة من هذه المادّة و علائقها العميقة الدقيقة.
الثاني: إنكار الروح المجرّدة، و بشكل عامّ إنكار جميع المجرّدات، فلم يأتِ في كتابه بذكر لِمَلَك مقرّب و لا لذكر العالم العلويّ، بل أنكر تصريحاً و تلميحاً عالم المعاني مقابل عالما لمادّة، و أنكر العالم العلويّ مقابل العالم السفليّ، و لم يميّز الروح عن الجسد،۱ و اعتبر الدعاء و التوسّل لغواً لا تأثير له، و الصحّة و السلامة مكفولة برعاية التعاليم الصحّيّة و الطبّيّة، سواء توسّل المريض بمريم أم بأبي الفضل العبّاس عليهما السلام أم لم يتوسّل.٢
و الثالث: اعتباره علم الحكمة و الفلسفة بشكل عامّ باطلًا لا فائدة ترتجى منه، و عدّ انتشارها في البلاد الإسلاميّة زمن الخلفاء العبّاسيّين ناشئاً من العداء لمدرسة أهل البيت عليهم السلام و محاولة جعلها سدّاً أمامهم.٣
و العجيب أنّه عدّ الحكمة بمعنى الفلسفة إلى ونانيّة! و فسّر الحديث
المروي عن الصادق عليهالسلام: الحِكْمَةُ ضَالَّةُ المُؤْمِنِ بمعنى مُضِلَّة المؤمن. و قال: و الظاهر أنّ قول الصادق. الحِكْمَةُ ضَالَّةُ المُؤْمِنِ كان في شأن هذه الفلسفة أو الحكمة إلى ونانيّة.
و قال في الهامش: إنّ البعض قد ترجم ضَالَّة المُؤْمِن بمعنى الشيء المفقود الذي يبحث عنه المؤمن، و ذلك دفاعاً منهم عن الحكمة إلى ونانيّة.۱ كما يقول في مكان آخر. لقد سِرنا منذ القدم الأوّل على طريق المتاهة فوصل بنا الأمر إلى السقوط في ضائقة كهذه! و لقد صدق إمامُنا حين قال: الحِكْمَةُ ضَالَّةُ المُؤْمِنِ.٢
الرابع: نسبته مطالب غير صحيحة للفلاسفة و الفقهاء المسلمين نتجت حسب رأيه إثر تماسّ و تلاقح الأفكار الفلسفيّة لحكماء إلى ونان الكبار مع أفكارهم و آرائهم. حتى يصل إلى القول (على لسانهم). ينبغى تقصّي منشأ أبسط حركة أو أثر حاصل في الأشياء أو الأشخاص في مشيئة العالم العلويّ، و بواسطة الأرواح اللطيفة من جنّ و مَلَك و غيره. فالسحب ترعد من لفح سياط الملائكة، و قوس قزح هو قوس أميرالمؤمنين، و الزلزلة و الصاعقة و السيل و القحط ليست إلّا بلاءً سماويّاً ينزل لتأديب العصاة، فإن تاب الناس و أقلعوا و رفعوا الأيدي مبتهلين متضرّعين بالدعاء فستتكاثف السحب بقدرة قادر و ستنهمر أمطار الرحمة.
أمّا سبب الأمراض و الأوبئة فهو غضب الله أو انتقام الجنّ للأضرار التي لحقت بهم، و السبيل إلى علاجها بشرب الماء الذي تُمتم عليه بدعاءٍ
ما، أو بالطلاسم و التمائم، أو بتسخير الأرواح.۱
الخامس: الاهتمام و العناية التامّة بمدرسة الغرب و العلماء الاوروبّيّين و علماء المسائل التجريبيّة و الطبيعيّة و الميكانيكيّة، و تجاهل علماء و فقهاء الإسلام و ذكرهم باسم المشايخ، و في صفّ القسسة،٢ و تقديمهم على أنّهم أفراد جامدون قصير و النظر ضحلو الأفكار؛ و التناسي الكلّيّ لخدمات نوابغ العلم و العلماء الحقيقيّين الذين غاصوا في متون الفكر و المعرفة؛ و الانشداد إلى مختبر فلان الفرنسيّ أو محلّ تجارب فلان الإنجليزيّ. و كان من بين مطالبه. «أنّ التقدّم العلميّ لم يجعل العالم المختصّ بالطبيعة موحّداً عمليّاً فقط، بل إنّه صار يدرك الصفات الثبوتيّة للّه أفضل بكثير من أمثال العلّامة الحلّيّ و الشيخ مرتضى الأنصاريّ؛ صحيح أنّه لا يتلفّظ بـ الله أكبر، لكنّ فهمه لعظمة الدنيا و سعتها، أي عن صنع الله، و إدراكه للقدرة الموجودة حتى داخل الذرّة الواحدة، يعادل ملايين المرّات ما افترضوه استناداً على الهيئة إلى ونانيّة».٣
نقد العلّامة الطباطبائيّ لكتاب «راه طي شده» الطريق المطويّ)
و ما يحضرني الآن أنّ العلّامة قدّس الله نفسه أشار في رسالته بإجمال - و كانت في حدود الصفحتين - إلى بعض المطالب التي ذكرناها، و ورد في جملتها أنّ الحكمة قد وردت في القرآن الكريم، و تعني المعرفة المتعالية و البناء الشامخ للفكر الواقعيّ طبقاً لإدراكات الإنسان الحقيقيّة؛ و قد امتدح الله تعالى نبيّه في موارد عديدة بأنّه وهبه الحِكْمَة، و لم يعدُ معناها في الروايات عن هذا المفهوم.
و أمّا ضَالَّة فمن مادّة ضَلَّ يَضِلُّ ضَلَالًا بمعنى الضياع، و هي فعل لازم ثلاثيّ مجرّد، و متعدّيه بمعنى الإضلال. أضَلَّ يُضِلُّ إضْلَالًا من باب إفعال ثلاثيّ مزيد.
و على هذا فإنّ ضَالَّةُ المُؤْمِن تعني أنّ علم الحكمة المفقود الوحيد للمؤمن، يشهد على هذا المطلب تتمّة الحديث. أيْنَمَا وَجَدَهَا أخَذَهَا، كالشخص الذي أضاع شيئاً فهو يبحث عنه، أينما بصر به أخذه.۱
و أمّا ما نسبتَ من رعد الغيوم جزّاء لفح سياط المَلَك، و تسمية قوس الله۱ بقوس أميرالمؤمنين و نظير هذه المسائل، فإنّ نسبة هذه المسائل إلى الفلاسفة المسلمين أمرٌ غريب جدّاً؛ و في أيدينا الآن جميع كتب الفلاسفة المسلمين من الطراز الأوّل مثل ابن سينا و الفارابيّ و صدر المتألّهين الشيرازيّ، و من الطراز الثاني كابن رُشد و بهمنيار و الخواجة نصيرالدين الطوسيّ، لكنّنا لم نَر و لم نسمع عن أحدهم شيئاً كهذا.
و أمّا إثبات عالم المجرّدات، و الروح المجرّدة، فلا ينافي حقيقة المادّة و آثارها، فلا بينونة و لا افتراق بينهما؛ فللمجرّدات تأثير في
المادّيّات هو عينه حكومة القوّة و أثرها في المادّة، لا فرق بينهما في هذا الأمر؛ و عالم المجرّدات هو في باطن و في طول عالم المادّة، لا في ظاهره و في عرضه. فمع وجود جميع الآثار التي تذكر للمادّة، و التي لا ينكر الحكماء و الفلاسفة أيّاً منها، فإنّ العالم العلويّ من المجرّدات و البسائط، و أخيراً من الصفات و الأسماء، و ذات الباري تعالى شأنه الذي لا شبهة في تجرّده تبعاً لقول الموحّدين مقابل المادّيّين، كلّها موجودة مع المادّة و الطبيعة، و لا يمكن تعقّل الانفكاك بينهما - انتهى ما بقي في ذاكرتنا من ردّ العلّامة بعد مرور هذا الزمن الطويل.
لقد كان المراد أنّ الإنسان حين يمتلك مهارة و تخصّصاً في فن معيّن، فإنّ عليه الاجتهاد في ذلك الفنّ فقط، و لا حقّ له في الدلالة في الفنون الاخرى بإظهار النظر و الحكم؛ و في غير هذه الحالة فإنّ مثل هذه الأخطاء و الهفوات ستكون من نصيبه.
و قد نشرت إحدى المجلّات أخيراً مقالة باسم «بسط و قبض تئوريك شريعت» (=انبساط و انقباض نظريّة الشريعة)، و عنونتها باسم «نظرية تكامل معرفت ديني» (=نظرية تكامل المعرفة الدينيّة).۱
و هذه المقالة مليئة بالأخطاء و العثرات، نشير فيما يلي إلى مواضع الخطأ حسب نظرنا.
الأوّل: بالرغم من تكرار الكاتب في عدّة مواضع من أنّ الشريعة كالطبيعة ثابتة لا تتغيّر، و أنّ ما يخضع للتغيير هو فهم الإنسان لهما، و تغيير الفهم الحاصل وفق ضرورات البيئة و نشوء العلوم و التفاعل سلباً و إيجاباً
بين المعلومات السابقة و النتائج الفعليّة، هو أمر حتميّ لا يمكن اجتنابه؛ لكنّه مع ذلك يستنتج في مقام التفصيل و البيان أنّ مجموعة معارف الإنسان في أي عصر، من فهم العلوم الحديثة و الاكتشافات المبتكرة و الفلسفات العصريّة، ينبغي فهمها بميزان و معيار فهم القرآن و السنّة، فما فهمه و استنبطه الفقه و الفقهاء و التفسير و المفسّرون و الحديث و المحدّثون فصار عماد عملهم يجب تحديثه وفق الاسلوب المعاصر، ليخرج باسلوب يقرّه العصر، و ليواكب و يماثل المدارس و الاتّجاهات العصريّة التي تعرض نتائج علومها و تحقيقاتها. و حاصل الأمر فإنّ على العالم و المفسّر و الفقيه أن لا يتّكل على أمر تعبّديّ أبداً، فيراعي في علمه و تفسيره و فتواه احتمال المراحل العالية و المنازل السامية التي لم ينلها، أو يضع القرآن و السنّة و الإسلام على محور الامور التعبّديّة؛ فما اعتمد عليه العلم العصريّ ينبغي أن يصبح هو المرتكز لهذا الامور، فذاك هو الاسلوب الوحيد الكفيل بتقدّم الفقه و العلم. و ردّاً على ذلك نقول.
بناء على هذا المنحى فلن يكون لدينا ثَمّة قرآن و لا سنّة، و لا فقه و لا تفسير، فإذا تقرّر إدخال العلوم البشريّة المتغيّرة في الغايات من العقائد و الأفكار و الأخلاق و العمل فسنكون قد سلبنا إلى الأبد من الدين و الشريعة ثباتهما، و مهما قلنا إنّنا نعتبر الدين و الشريعة محترمة و ثابتة، لكنّنا نكون من الناحية العلميّة قد وضعنا مفاتحها بأيدينا، فصرنا نحاول عند ظهور أي قانون و نظريّة أن نفسّرها و ندخل مستلزمات العصر في ثبات المذهب و أصالته، و في الحقيقة فإنّنا سنكون قد دققنا المسمار ليس في نعش الإسلام وحده، بل في نعوش جميع الشرائع.
و السرّ في ذلك أنّ العلوم البشريّة مهما سمت و علت و تكاملت فهي محدودة و مقيّدة، إذ يمكن أن يأتي علم أعلى منها و أسمى و يضع قدمه في
الميدان فيهدم ما بناه بالأمس.
و الشاهد على هذا أنّ جميع العلوم التي تعاقبت الواحدة بعد الاخرى فكلٌّ منها قد نسخ العلم الذي سبقه؛ كلُّ علم له مريدوه الذين يعتقدون - أوان ظهوره و بزوغ نجمه - أن لا علم أعلى منه و أسمى، و يعجز من أراد إلزامهم و إقناعهم بغير ذلك، لأنّه هو نفسه لم يصل إلى علم أعلى منه و أرقى؛ أمّا حين يُشرف نجم ذلك العلم على الغروب ليتوارى خلف الافق، و يظهر العلم الجديد الناسخ له، فإنّ القديم سيُعدّ في المسائل البالية الخرافيّة حتى عند أصحابه و أنصاره.
فالإلكترون الذي يُعدّ اليوم من بديهيّات علم الكيمياء و الفيزياء هو من علومنا و شؤوننا نحن، و في يومنا هذا لا في غدنا، و غداً حين يتوصّل البشر إلى اكتشاف أدقّ و أعمق، فينكر أصل الذرّات بهذه الكيفيّة و يزيح الستار لنا بالتجربة و الاختبار عن عجائب اخرى من الذرّة، عندها سنضحك على أفكار يومنا المنصرم، و نسخر من يقين و برهان و إصرار أمسنا.
إنّ الدين و الشريعة الإلهيّة الحقّة جاءت من عند الله تعالى، بأصالتها و واقعيّتها، و يقيناً أنّ تعبّديّاتها تفوق أوامرها و نواهيها البديهيّة بآلاف المرّات؛ و ليس للدين معنى غير نزوله من جانب العلم المطلق على الإنسان و البشر ذي العلم النسبيّ، و المرتقي يوماً بعد آخر من درجة القابليّة إلى الفعليّة، و سيبقى البشر في هذه الحالة مهما استعان بالعلوم و المعارف التجريبيّة؛ من ميكانيك و فيزياء و طبيعيّات، و من علم النفس و علم الاجتماع و علوم طبقات الأرض و النبات و الحيوان، و علم الحياة و الكيمياء المعدنيّة و الآليّة، و الهيئة و غيرها؛ قاصراً عن أن ينال بيده عالم الربوبيّة، أو يحيط بأسرار الخلقة و خفاياها التي لا تحصى و المحيطة به من كلّ جانب، و أن يزيح التعبّد عنه جانباً، إلّا أن نقول إنّنا قد فهمنا العالم
المطلق و اكتشفنا سرّه و لغزه، و هو قول جزاف خاطئ.
فجميع حكماء الأمس و اليوم غارقون في البحث الجادّ، و معترفون في الوقت نفسه أنّ يدهم لم تغترف من العلم شيئاً، و أنّهم بعدُ لم يرتووا من بحور الأسرار و العلوم قطرة!
إنّ أ وّل الأشياء التي تنكرها العلوم التجريبيّة الحاليّة هو وجود الملائكة و وجود الجنّ، فهم ينكرونها لجهلهم بها و عدم وصولهم لإدراكها، فيقولون: إنّنا لا نصدّق بشيء لا نراه و لا نحسّه، فإذا ما وُفّقت هذه العلوم التجريبيّة غداً لرؤيّة الملائكة و الشياطين فيومئذٍ سيحصل لهؤلاء اليقين و الإقرار.
الإيمان بالغيب و بملائكة العالم العلويّ شرط التقوى و الفلاح
أمّا الحكماء الإلهيّون و الربّانيّون المطّلعون على الحقائق و الأسرار، و العارفون بحريم قدس و أمان الله، فلهم بيانات كالشمس الساطعة عن وجود الملائكة و أشكالهم و شمائلهم و وظائفهم و تكاليفهم، و عن وجود الجنّ و أشكالهم و أصنافهم، كلّ ذلك اعتماداً و متابعة لآيات القرآن النازلة من المطّلع على الغيب بخفيّه و جليّه.
أفهل فقدنا رشدنا كي نعرض عن هذه الحقّائق صفحاً و نقول بأنّنا لا نعترف بالجنّ، لأنّ علم معرفة الجنّ لم يقرّر بعد في مناهج جامعات اوروبّا و أمريكا؟!
إنّ التوغّل و التعمّق في العلوم المادّيّة للحدّ الذي تعتبر المادّة عنده مع جميع آثارها و خواصّها المدهشة أزليّة أبديّة، و من ثمّ إنكار العالَم العلويّ و الملائكة و النور المطلق للخالق العالم الحكيم الواحد ذ ي الشعور المسيّر للعالم تحت هيمنته و إرادته و مشيئته الواحدة المباشرة، ليس إلّا عبادة المادّة و العكوف في محرابها؛ و عند الفلاسفة المادّيّين مدرسة في هذا الاتّجاه.
و لقد كرّر الطبيعيّون السابقون، و يكرّر المادّيّون اليوم هذه المقولة - عبر مدرستهم و اتّجاههم الفكريّ - مقابل الإلهيّين.
لكنّ القرآن، و هو الكتاب الحكيم المحكم، و لسان الخالق الناطق الحكيم بلا واسطة، اعتبر الإيمان بالغيب شرطاً لليقين و الفلاح:
أَ لَمْ ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ مِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ وَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَ ما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ.۱
فقد عدّ صراحة في هذه الآيات الإيمانَ بالغيب و العالم العلويّ و الآخرة و التعبّد المحض بما أنزل الله تعالى شرط السعادة الأبديّة، و عدّ بعدها مباشرة غيرهم من الأفراد كفّاراً، و حكم عليهم بالختم على القلوب و الأسماع، و بالغشاوة و الحجاب على الأبصار، و توعّدهم بالعذاب الأليم:
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَ أَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ، خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَ عَلى سَمْعِهِمْ وَ عَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ.٢
و كذلك فإنّ القرآن الكريم يعدّ من البرّ. الإيمان بالملائكة و العالم العلويّ، أي الإيمان بيوم الجزاء:
لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَ الْمَغْرِبِ وَ لكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ الْمَلائِكَةِ وَ الْكِتابِ وَ النَّبِيِّينَ.٣
و يعتبر إتقان و إحكام الكتاب الإلهيّ في خلوده و أبديّته، فمعانيه و مفاهيمه تبقى راسخة لا يزعزعها هبوب رياح الإلحاد و الكفر، و لا عواصف الزندقة و الشبهة، و يبقى في منأى عن عبث أيدي الملحدين أ ن تغيّر فيه و تهدم، و عن أن يستطيع الغبار المتكاثف و سُحُب النفوس الشيطانيّة الحالكة و وسوسة الإنس أن تنثر على طلعته المشعّة المنيرة هباء النسخ و البطلان.
فمعنى التصرّف في معاني الآيات القرآنيّة و رفع اليد عن ظهورها بلا قرينة يقينيّة نقليّة أو عقليّة هو الاجتهاد في اصول الدين، لا الاجتهاد في فروعه.۱
فالاجتهاد في اصول الدين خطأ، و الاجتهاد في فروع الدين ينبغي
أن لا يتخطّي الموازين الشرعيّة التي يختصّ بحملها الفقهاء.
أمّا التصرّف في مفاهيم الآيات القرآنيّة على أساس مناهج البحث و طرقه، و على أساس مفاهيم الإحياء و النهضة التي تستشمّ من المقالة المذكورة، فليس فقط نسخاً للقرآن، بل هو مسخ للقرآن.
و الإشكال الثاني: أنّ الفلسفة القديمة في نظر صاحب المقالة منزوية معزولة، قد نسختها الفلسفة الجديدة، حيث وصف الأخيرة بأنّها مفتاح طريق السعادة البشريّة إلى جادّة الرقيّ و التكامل.
و نجد لزاماً قبل البحث و الدخول في صلب الموضوع و التعمّق فيه و البحث في مواضع الخطأ و مواقع الهفوات، أن نذكّر بهذه النكتة.
إنّ إطلاقهم لفظ القديم و الجديد على أي فلسفة أو علم أو دين أو اتّجاه أو مدرسة يعبّر عن نواياهم بوأد القديم منذ الخطوة الاوّلى، و لتوجيه السامع نحو هذا الجديد مهما كان.
و هذا الاسلوب من أنجح أسلحة الاستعمار و أكثرها فعّاليّة، فهو يحاول منذ الوهلة الاولى باستعمال عنوان القديم و القدم، المتضمّن لمعاني التهرّؤ و التآكل و الرثاثة، أن يخطر ذلك المعنى و المحتوى و يرسّخه في ذهن السامع، ليبعد القديم عنه إلى الأبد و يُهيل عليه تراب النسيان، و لئلّا يدور في خلده يوماً حتى مجرّد الرغبة في رؤيته و التطلّع لمنظره الظاهريّ الخارجيّ.
و نلحظ تسميتهم مدارس طلبة العلوم الدينيّة و المعارف الإسلاميّة بالقديمة، و الجامعات السائرة على المنهج و الاسلوب الاوروبّيّ بالجديدة، فيكونون بعملهم هذا قد مهّدوا للقضاء على العلم و المعرفة و الدين و الحقيقة و الشرف و الإنسانيّة و الرسول و الإمام و الملك و الحديث و القرآن؛ و في المقابل فقد روّجوا للمادّيّة و ابّهتها و مظاهرها الخلّابة، و صادقوا على كيفيّة
تنشئة الجيل الجديد ليكونوا عبيداً و أسرى للثقافة المنحطّة و الأخلاق المشؤومة لُامم إليه ود و النصارى من الشرق و الغرب.
أي أنهم بقولهم إنّ هذه الدراسة جديدة و تلك قديمة قد قطعوا نصف الطريق، بل ثلثيه وصولًا إلى أهدافهم المشؤومة الشرّيرة. فالله سبحانه أقدم من كلّ قديم، و هو أجدّد من كلّ جديد، يستوي عنده القدم و الحداثة، فهو موجود دوماً، و حيّ و عالم و محيط دوماً، لأنّ له أصالة و ثباتاً، مقابل زوال و اضمحلال ما سواه.
إنّ نبيّ الإسلام، و دراسة القرآن، و البحث في التأريخ الإسلاميّ، و الفلسفة و العلوم الإسلاميّة، و حكمة الإسلام و عرفانه، وصولًا إلى جميع الفنون المتفرّعة عن شريعته المقدّسة، من علم التفسير و علم الحديث، و حتى العلوم التمهيديّة كالمنطق و العربيّة و الأدب العربيّ الذي يسلّط الضوء على لسان و لغة هذا النبيّ العظيم و هذه الآية الإلهيّة العظمى، هي كلّها جديدة ذات غضارة و نضارة، أشبه ببرعم غضّ فتح للتوّ أكمامه في جنينة الورد ذي العبير الفوّاح، تتأبّى القدم و الاندراس.
أمّا تلك العلوم التي تبحث أصالة عن المادّة أو تؤول إلى التوسّع المادّيّ و المأكل الجيّد و الاجترار الجيّد، الخاوية من آثار الإنسانيّة و الكمال و الحكمة الإلهيّة و العرفان الإلهيّ، فهي من المخلّفات و البقايا العتيقة المندرسة للُامم و الأقوام الهمجيّة و إنسان الغاب الحيوانيّ الذي تلبّس بالطراز الحديث، فصارت و حشيّته و همجيّته القديمة حديثة.
فهم يسقون شبابنا الصاعد باسم المدنيّة و التكامل نفس الوساوس و الأفكار الشيطانيّة، و يضعون في رقابهم نير العبوديّة (عبوديّة النفس)، و يحرمونهم من جميع مزايا الإنسانيّة باسم و عنوان جديد و ضمن قالب
و اسلوب حديث.۱
و ينبغي لهذا الأمر أن تُستبدل كلمة قديم التي استعملت للفلسفة و المدارس بكلمة أصيل.
و أمّا إشكالنا و بحثنا في اعتبارهم الفلسفة قديمة معزولة منزوية فهو إنّ علم الفلسفة الذي يُدعى بالحكمة و صاحبه بالفيلسوف و الحكيم، من أشرف العلوم التي حصل عليها الإنسان في تأريخ البشريّة إلى الآن من بين جميع العلوم، لأنّه علم بناء الإنسان ضمن قدرات البشر و طاقاته. و لقد جاء ذكر الحكمة في موارد عديدة من القرآن الكريم، وصف فيها الباري تعالى شأنه نبيّه الكريم في مقام امتداحه له بأنّه يعلّم الناس الحكمة:
هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَ يُزَكِّيهِمْ وَ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ إِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ.٢
و نلحظ هنا أنّ الله سبحانه يعدّ تعليم علم الحكمة وظيفة و واجب نبيّه الكريم، و جليّ أنّ هذه الحكمة غير القرآن، لأنّها وردت قسيماً لكلمة الكتاب و معطوفة عليها؛ و يعتبر الناس قبل البعثة في ضلال مبين لافتقادهم علم الحكمة و الرشد و التكامل الإنسانيّ.
و يذكر كذلك دعاء إبراهيم و إسماعيل عليهما السلام خلال بناء الكعبة أن. رَبَّنا وَ اجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَ أَرِنا مَناسِكَنا وَ تُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ.۱
و بعد ذلك يدعو الأب و الابن صاحبا الشأن العظيم و عبدالله المخلصان هذان ربّهما بهذا الدعاء: رَبَّنا وَ ابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ يُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ.٢
و نرى هنا أنّ أفضل دعاء و ابتهال لهذين النبيّين الجليلين؛ في ذلك الموقع الحسّاس و تلك اللحظات العظيمة في بناء الكعبة و رفع جدار قبلة المشتاقين لسلوك طريق المحبوب، و مَن شدّهم الوجد للقاء المعشوق، و المتلهّفين لاجتياز المادّيّات الملوّثة للطبيعة فانشغلوا بقطع الدنيا و هم فيها إلى ماورائها من عوالم؛ هو أن يبعث في هؤلاء القوم نبيَّ آخر الزمان.
مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِاللهِ ليعلّمهم الكتاب و الحكمة، فيخرجهم من زمرة البهيميّة، و يربيهم و يهديهم للتكامل و لبلوغ أوج كمال الإنسانيّة.
فكم هو قيّم جليل علم الحكمة ليدعو به إبراهيم و إسماعيل واضعا الحجر الأوّل في بناء التوحيد و شريعة الإسلام المقدّسة، ليكون من نصيب الثمرة الوحيدة التي تمخّض عنها علّام الوجود، و ثمرة فؤادهما الذي تمثّلت فيه أرقى و أسمى نماذج الحياة.
ثمّ يقول بعد ذلك بلا فصل:
وَ مَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ.۱
و يُستكشف من هذه الآية أوّلًا: أنّ السفهاء و المتخلّفين فقط هم الذين يُعرضون و يرغبون عن ملّة إبراهيم و سنّته.
و ثانياً: حسب قاعدة عكس النقيض، فإنّ: كل من لم يسفه نفسه، يرغب في ملة إبراهيم، أي أن. كل عاقل يرغب في ملته.
و بناء عليه فإنّ الحكماء و الفلاسفة الإلهيّين الذين تبعوا هذا النهج و السنّة هم العقلاء وفق المنطق القرآنيّ، أمّا المعرضون عن الحكمة فهم السفهاء الجهلة.
احترام الإسلام لحكماء إلى ونان و نزول سورة لقمان
و لقد مُنح علم الحكمة مضافاً إلى رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم للكثير من الأنبياء الإلهيّين، كداود عليهالسلام،۱ و عيسى ابن مريم عليه السلام،٢ بل يستفاد من إحدى الآيات الشريفة أنّ الحكمة قد وُهبت لجميع الأنبياء عليهم السلام؛٣ مضافاً إلى أنّ الله سبحانه يؤتي علم الحكمة لعباده المصطفين و المباركين الذين هم مورد لطفه و مشيئته، و قد عدّ ذلك من الخير الكثير:
يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ وَ مَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً.٤
و قد أورد الله سبحانه اسم أحد حكماء إلى ونان في القرآن و أنزل سورةً باسمه يذكر فيها كثيراً من كلماته و مواعظه و أحاديثه الحكميّة كدرس و قدوة خالدة للبشريّة.
و هذا الرجل هو لُقْمَان،٥ و سميّت السورة القرآنيّة باسمه. سورة
«لُقْمَان»:
وَ لَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَ مَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَ مَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ.۱
و في سورة الإسراء حيث يعدّد سبع عشرة آية في التوحيد و في الحدّ الأعلى من مكارم الأخلاق يقول بعدها مباشرة:
ذلِكَ مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَ لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً.٢
و مع أنّ كلمة الحكمة التي استعملت في هذه الآيات و نظائرها لم تكن لتعنى خصوص الحكمة إلى ونانيّة، و ذلك أوّلًا: باعتبار أنّ الحكمة وردت بمعناها الكّلّي و العامّ، و هو بمعنى علم معرفة الإنسان، و موقعه من خالقه و علاقته بالعالم و بالآخرين، و مراتب علاقة الجسم و روحه و تأثيرها المتبادل فيما بينها، و برنامج ضمان خيره و سعادته المطلقة، أي أنّه فُسِّر بعبارة موجزة بالعلم بحقائق الأشياء حسب إمكان البشر و قدرتهم.
و ثانياً: أنّ الفلسفة و الحكمة إلى ونانيّة التي رُغّب فيها متكفّلة ببيان
هذه المطالب، ممّا يمكن اعتبار أنّ هناك ارتباطاً وثيقاً لحقيقة الحكمة مع الحكمة إلى ونانيّة، و قد جاء في الروايات الواردة عن أئمّة أهل البيت مدح الحكماء الإلهيّين إلى ونانيّين و الثناء عليهم.
وقوف الفلاسفة الالهيين إلى ونانيّين بوجه الماديّين
و في الحقيقة فإنّ لهم الحقّ و الفضل العظيم على المجتمع البشريّ و عالم الإنسانيّة و الموحّدين و أصحاب الفضائل و المكارم، فقد نهض العلماء العظام المرموقون الموحّدون في إلى ونانيّون في وقت طغت فيه فلسفة السوفسطائيّين و بثّت الشكّ في كلّ أمر بديهيّ، و ساقت البشريّة إلى عالم الموهومات و التفكّك، و انتشرت و طغت فيه فلسفة الكلبيّين و أدّت إلى نهب أموال الناس و أطعمتهم، فقام هؤلاء العلماء إلى ونانيّون الموحّدون العظماء فشمّروا عن هممهم و أنجبوا - بالمجاهدات العظيمة و تشكيل حلقات الدرس و المدارس التوحيديّة على أساس البرهان و الشهود - التلامذة العظماء، و هزموا الاتّجاه المادّيّ في إلى ونان بالرغم من كلّ المشاكل و المرارة و تحملّ المصائب و الشدائد التي صُبّت عليهم و استلزمتها مجاهداتهم.
فقد ابتدع المادّيّون تبعاً لأبيقور (أبيكور) فلسفة هي أساس المذهب الحسّيّ، قالوا فيها إنّ سعادة الإنسان تكمن في لذّاته النفسيّة التي لا يمنع منها إلّا الحياء و العفّة و نظائرها من الأوهام التي أثقل الإنسان بها نفسه و سمّاها بالفضائل، لذا يلزم الإنسان أن يتخلّص من هذه الفضائل لينال سعادته، و هكذا صار، فكان هؤلاء كلّما عرفوا بوجود وليمة و مأدبة انقضّوا عليها و أكلوا كلّ الغداء الموجود عليها فلم يدعوا له باقية.
و كان تحمل هذا الأمر صعباً على أشراف إلى ونان، الذين عزّ عليهم أن تُنتهب أمام أعينهم المآدب التي أعدّوها لضيوفهم، و لم يروا بدّاً من استئجار أفراد خاصّين في منازلهم يقفون متأهّبين و النعال في أيديهم
لينهالوا بها ضرباً على رؤوس هؤلاء.
و كان الفلاسفة المادّيّون، و من بينهم أبيقور نفسه، كلّما أحسّوا أنّ النعال ستنهال عليهم لجأوا إلى الهرب، و إلّا فإنّهم كانوا يهجمون فينهبون و لا يدعون لصاحب البيت شيئاً.
و كان اسلوب الكلبيّين هو هذه الطريقة المادّيّة المحضة و الإلحاد الصرف، الذي يرتضيه كلّ شخص ملحد و لا يتعدّاه قيد انملة، لأنّ هذه الفلسفة لا ترى معنى للحسن و القبح و الحلال و الحرام، فلا زاجر و لا رادع للنفس عمّا تشتهيه و تطمع فيه، و هذه هي الفلسفة الشيوعيّة.
و إذا ما لاحظ الإنسان أنّهم يستنكفون عن بعض الأعمال الوضيعة، أ و يستعملون عبارة الحياء و العفّة في كلامهم، فهم إمّا أ ن يلفظوها نفاقاً و رياءً و تظاهراً، أو أن يكون ذلك من رواسب بعض التعاليم الدينيّة الممتزجة في نفوسهم مضافاً إليها عدم وضوح مستلزمات نهجهم و فكرهم لديهم بالقدر الكافي.۱
و لقد قام سقراط الحكيم، و تلميذه العظيم أفلاطون الحكيم، و تلميذ تلميذه. أرسطو أو أرْسطاطاليس في تدوينهم علم المنطق و الحكمة بهدم اسس و كيان فلسفة المادّيّين و آثارها، فدوّنوا فلسفة الإلهيّين على أساس الحقّ و الواقع، و استدلّوا على احتياج عالم الطبيعة إلى ربّ ذي شعور حكيم و حيّ و أزليّ و أبديّ و قادر، هو مسبّب الأسباب و علّة العلل، و بنوا حكمتهم على أساس مكارم الأخلاق و الفضيلة و عالم ماوراء الطبيعة الذي بُرْهِن
عليه في البرهان الأرسطيّ و في المشاهدات الإشراقيّة الأفلاطونيّة.
و قد جرى تدريس كتب أفلاطون و أرسطو في اوروبّا، ثمّ قام روجر بيكون و من بعده فرنسيس بيكون في نهايات القرون الوسطى (القرنين الرابع عشر و الخامس عشر الميلاديّ) و من بعدهم ديكارت في القرن السابع عشر الميلاديّ، بهدم أساس الفلسفة الأرسطيّة، و استمرّ ذلك لغاية المائتى سنة الأخيرة عند ظهور نيوتن، ثمّ تبعه أينشتَين في عالم الفيزياء، حيث انصرف اتّجاه عامّة الناس عن التوحيد و المعارف و الأخلاق و الفضائل، و عاد إلى المادّيّة و حياة التجمّل و امتطاء الشهوات و عدم إدراك الشخصيّة الإنسانيّة، و انتهى العمل بتلك المدرسة فلا يُري في اوروبّا و أمريكا اليوم فيلسوف إلهيّ يقوم بتعليم و تنشئة تلامذة أخلاقيّين ملتزمين، أو بتدريس كتب أفلاطون و أرسطو؛ و هو خسارة بل فاجعة كبرى حلّت بتلك الامم، فلقد صار الإنسان الذي يتحرّى شخصيّته في اتّباع التعاليم المنقذة للمسيح على نبيّنا و آله و عليهالسلام، يحثّ الخطى مسرعاً تجاه التمدّن الآليّ و علوم الميكانيك و الطبيعة، بشكل نسي معه نفسه و شخصيّته و إنسانيّته و شرفه و عزّته، فلم يتمتّع بالدنيا، بل صار كالآلة و الأداة المسخّرة بِيَدِ الميكانيك، و هذه هي عاقبة ترك تدريس الحكمة إلى ونانيّة في اوروبّا.
مقولة الِكسيس كارل حول أضرار المدنيّة و الثقافة الجديدة علي
يقول الدكتور الكسيس كارل في مقدّمة كتابه «انسان موجود ناشناخته» (=الإنسان ذلك المجهول):
فليس في مقدور الإنسان الاستمرار في متابعة التمدّن الآليّ في الطريق الذي سلكه، لأنّه يؤدّي و يسوق إلى الانحطاط، فلقد بهرته علوم المادّة بجمالها حتى سلبت عقله و شغفت لبّه، و صار جسمه و روحه يخضعان لقوانين معقّدة هي أشبه بقوانين عالم النجوم التي لا تتغيّر
و لا تتبدّل، و لا يمكنه تخطّيها بدون التعرّض لخطرها و أضرارها.
لذا فإنّ من الضروريّ التعرّف على العلائق التي تربط الإنسان قهراً بالعالم و بأمثاله من البشر، و التعرّف على الروابط بين أنسجته و روحه.
و في الحقيقة فإنّه ينبغي أن يُقدَّم الإنسان على كلّ شيء آخر، لأنّ جمال التمدّن سيزول بانحطاط الإنسان، بل و حتى عظمة عالم النجوم، و قد الّف هذا الكتاب من أجل هذا الأمر.۱
و كان فردريك كودر الذي شمل نظره الصائب اوروبّا عبوراً من أمريكا، هو الباعث و المحرّك لتأليف هذا الكتاب. و بكلّ تأكيد فإنّ كثيراً من الامم ستسير في الطريق الذي خطّته و بدأته أمريكا الشماليّة، لأنّ جميع الممالك قد قبلت بروح المدنيّة الصناعيّة و طرقها بلا تبصّر، و ستواجه
إنجلترا أو روسيا، ألمانيا أو فرنسا نفس المخاطر التي تواجه أمريكا حاليّاً.
ينبغي لاهتمام الإنسانيّة و توجّهها أن يتحوّل عن الآلة و المادّة إلى جسم الإنسان و روحه، و أن يعطف على الكيفيّات البدنيّة و المعنويّة التي بدونها لن يكون للآلات و لعالَم نيوتن و أينشتَين من وجود.
إنّنا نفهم تدريجيّاً ضعف تمدّننا، و هناك الكثير ممّن يتمنّون اليوم النجاة و الخلاص من قيود أسر المجتمع الحالي، و هم الذين الّف هذا الكتاب من أجلهم، و كذلك من أجل المفكّرين المتطرّفين الذين يعتقدون ليس فقط بوجوب إحداث تغييرات في الشؤون السياسيّة و الاقتصاديّة، بل بوجوب انقلاب و تغيير جذريّ في اصول المدنيّة الصناعيّة، و يتمنّون طريقاً آخر للرقيّ الإنسانيّ.۱
و كان مستر فرنكل و هو من رجالات الإنجليز يتأسّف على إلغاء تدريس الفلسفة إلى ونانيّة في اوروبّا، فيقول:
بالرغم من أنّ المتأخّرين عنّا قد وصلوا للدرجة العليا من العلوم و الصناعات، لكنهم لم يصلوا إلى عُشر ما وصل إليه إلى ونانيّون، لذا فلو كانت تلك الكتب باقية إلى اليوم، و اضيفت علوم إلى ونان إلى علوم الناس الحاليّة، فستصبح دنيا اليوم جنّة، لا يمكن أن نجد فيها شبراً واحداً إلّا و هو معمور بأنواع العلوم و الفضائل.٢
لقد عاش أفلاطون قبل بعثة عيسى ابن مريم على نبينا و آله و عليه
السلام بخمسمائة عام، و قد نُسب إليه افتراءً أنّه قال: إنّ شريعة عيسى وُضعت لضعفاء العقول، لكنّي - و قد لمستُ الحقيقة - لن أخضع لهذه الشريعة؛ فقد عاش كما ذكرنا قبل بعثة السيّد المسيح، و كان استاذاً لأرسطو، و كان أرسطو بدوره استاذاً و وزيراً للإسكندر المقدونيّ، حيث إنّ زمن الإسكندر المقدونيّ مدوّن في صفحات التأريخ. و كان لأفلاطون حكمة الإشراق، و هو على رأس سلسلة الرواقيّين، و كان يحصل له كشف الحقائق و المعارف الإلهيّة بالرياضات و المجاهدات الباطنيّة عن طريق تصفية الباطن، في حين كان أرسطو تلميذ أفلاطون يمتلك حكمة المشّائين، و لم يكن ليعتني بالباطن أو يعتمد عليه أبداً، بل اسّس المسائل الحكميّة من وجهة نظر البرهان فقط.
و قد بنى الإسكندر بعد فتحه بلاد المشرق ميناء الإسكندريّة في مصر و أسّس فيها مدرسة قام تلامذة أفلاطون بالتدريس فيها، و دُعيت طريقتهم بـ الطريقة الأفلاطونيّة الجديدة لضمّها بعض قوانين أفلاطون إلى جنب بعض الإضافات الجديدة الاخرى، حيث بقي هذا المذهب إلى زمن فتح الإسكندريّة على يد المسلمين زمن عمر فانهار بعدها، و كان أحد كبار هذا المذهب يدعى ثاميطورس و قد أسلم و دُعي بعدها باسم يحيي النحويّ.
أمّا كتاب الاثُولوجيا،۱ و هو كتاب مختصر و نافع، فقد الِّف على أساس الحكمة الإشراقيّة من قبل أفلوطين - أحد أتباع هذا المذهب - و نسبه البعض خطاً إلى أرسطو.
و قد تُرجمت كتب إلى ونان في الطبّ و الفلسفة و الهيئة و الهندسة إلى العربيّة زمن الإمامَين الرضا و الجواد عليهما السلام من قبل حُنين العباديّ، و قد حرّر ثابت بن قُرَّة اصول أقليدس و كان أوّل من هذّبه و حلّ مشكلاته و معضلاته.
و بالرغم من ترجمة هذه الكتب إلى العربيّة من قبل الخلفاء العبّاسيّين و بأمرهم، ولكن لا يوجد هناك أي دليل على أنّ ذلك قد حصل لمعارضة الأئمّة عليهم السلام و الوقوف بوجههم.
ذلك لأنّ الطبّ و الفلسفة و الهندسة و أمثالها من العلوم لا تخلو فقط من معارضة مدرسة أهل البيت، بل إنّها كانت موافقة لها، فالبرهان و المنطق يوضّحان بصورة أفضل الأقوال الحقّة لأئمّة الدين، و لم يكن مدّعاهم خاطئاً ليخشوا و يقلقوا من المنطق و القياس.
و كان جمع من تلامذة الإمام الصادق عليهالسلام، أمثال محمّد بن النعمان المعروف بالأحول و مؤمن الطاق و هشام بن الحكم من أهل الجدل و البرهان، و الحاصل من شرح حالات هشام بن الحكم على وجه خاصّ أنّه قد عرف الفلسفة و درسها؛ و كان هؤلاء يصرّون بمنطقهم و برهانهم القويّ القويم على إشاعة مدرسة الولاية و إثبات حقّانيّتها.
و لقد بقيت حكمة المشّائين و كتب أرسطو تُبحث و تُدرّس بشكل مستمرّ في المدارس و المساجد حتى ألّف المعلّم الثاني الفارابي، و الشيخ الرئيس ابن سينا كتباً مستقلّة في الفلسفة، و ظهر علماء، جيلًا بعد جيل و عصراً بعد عصر، من أمثال ابن فهد، و ابن مسكويه، و ابن رُشد، و الخواجة نصيرالدين الطوسيّ۱، و مير فندرسك، و الميرداماد الذين أوضحوا و بيّنوا
...۱
خجسته رهنموني ذو فنوني | *** | كه در هر فنّ بود چون مرد يك فنّ |
في كلّ فنٍّ بارِع كأنّه | *** | لم يتّخذ سواء إلّا فنّه |
و يا عجباً منّي أحاول وصفَه | *** | و قد فنيت فيه القراطيس و الصحفُ |
كتاب فضل ترا آب بحر كافي نيست | *** | كه تركني سر انگشت و صفحه بشماري |
عالم الإسلام و التوحيد و النبوّة و الإمامة و المعاد و الأخلاق و مكارم الفضائل بنور معارفهم في تفسير القرآن و بيان حقائقه العلميّة و الفلسفيّة، حتى وصل الأمر إلى أفضل الحكماء و أشرف الفلاسفة الأقدمين من المتقدّمين و المتأخّرين، صاحب مدرسة الإشراق و حائز معارف المشّائين، الجامع بين العرفان و البرهان، و بين صفاء الباطن و قوّة البرهان و المنطق:
صدر المتألّهين الشيرازيّ أعلى الله درجته و جزاه الله عن الإسلام و المسلمين و عن التفقّه و الفكر و العلم خير جزاء المُعَلِّمين. فقد عاش عمراً في الزهد و العرفان مع ذكائه و مواهبه الفريدة و نبوغه الذاتيّ المكتسب؛ جمع في اسلوبه بين مدرسة المشّائين و الإشراقيّين و أهل التفسير و الحديث، و خطى خطواته في ساحة المجاهدة و الشهود مع احترامه و إكرامه لصاحب الشريعة و القرآن و مقام الولاية الكبرى لحلّ المعضلات
من الروايات، و التفسير المشكل من الآيات، و للوصول إلى أعلى درجات اليقين و الورود إلى مقام الصدّيقين، محلّقاً بجناحَي العلم و العمل، فحلّ مسائل الفلسفة ببرهانه المتين، و أضاف خمسمائة مسألة مبتكرة على مسائل الحكمة إلى ونانيّة التي لم تتجاوز اصولها المائتي مسألة، فأوصل مسائل الحكمة إلى سبعمائة مسألة.
وجوب إحياء تدريس «الأسفار الأربعة» في الحوزات العلميّة
و لقد هدم صدر المتألّهين اصول الفلسفة إلى ونانيّة و صار بنفسه مؤسّساً لفلسفة جديدة و معجون يلائم الطبع من حكم الفطرة و حكم العقل و حكم الشرع، صاغه بفكره الصائب من بين آلاف الكتب في الفلسفة و الحديث و التفسير، فسقى منه عشّاق العرفان، و مشتاقي الاستدلال و البرهان، و المتلهّفين من المتشرّعين و أهل الإيمان، ثمّ بتأليفه العديد من الكتب التي كان من أهمّها كتاب «الأسفار الأربعة»، فقد بعث حياة جديدة في العلم و البرهان، و في اليقين و العرفان، و في الشرع و الإيقان، و صار ملجأ و مأوى للحكماء الصادقين في دفع و ردّ شبهات المنكرين و الملحدين من المادّيّين و الزنادقة و المنحرفين عن الولاية المطلقة الكلّيّة؛ و سنداً و ناصراً للقرآن بالشكل الذي صار الكلّ في السنين الأربعمائة الأخيرة يجلس إلى مائدته و يرتوي من شرابه المعين، و يستفيد و يستنشق من بركات أنفاسه القدسيّة و رحمات كتبه المؤلّفة السنيّة؛۱ و لا زال هذا الكتاب
صدرا جاهت گرفت باج از گردون | *** | اقرار به بندگيت كرد افلاطون |
در مكتب تحقيق نيايد چون تو | *** | يك سر ز گريبان طبيعت بيرون |
افلاطون زمان استاد عالم | *** | كه با او دل نيارد ياد عالم |
جهان فضل را مهد دل افروز | *** | شب جهل از فروغش طلعت روز |
چو او در مُلك دانش صدر گرديد | *** | هلال دانه دانش بدر گرديد |
به يُمن نسبت او خاك شيراز | *** | بهاي خون صد يونان دهد باز |
نيارد مثل او در دانش و هوش | *** | فلك گو تا أبد ميگرد و ميكوش |
آنانكه ره دوست گزيدند همه | *** | در كوي شهادت آرميدند همه |
در معركة دو كون، فتح از عشق است | *** | هر چند سپاه او شهيدند همه |
رائجاً مستعملًا في الحوزات المقدّسة العلميّة لطلبة العلوم الدينيّة، و ما برح هذا السِّفر العظيم و الرسالة المبينة التي ترتكز على أصالة التوحيد تُبحث و تُدرّس و يزداد رونقها يوماً بعد يوم بحمد الله و منّه حيث تُظهر عقم الفلسفة الغربيّة الخاوية برغم أنف أنصار المدرسة المادّيّة و أتباع الزندقة
و المبهورين بفلسفة الغرب. فالحوزات العلميّة منهمكة بتدريس هذا الكتاب، سواء في النجف الأشرف أم في بلدة قم الطيّبة، أم في دار العلم أصفهان، أم في المشهد الرضوي المقدّس و سائر أمكنة العلم و مراكز المعرفة، ممّا أعمى أبصار الخفافيش من معاندي الإسلام!
ألا يحزّ في النفس ان نتمنّى زوال بحث و تدريس هذا السفر الجليل في الحوزات العلميّة تحت مبرّر الفلسفة القديمة،۱ و نتشدّق بالحديث عن العالم الفارغ لبيكن و الفلسفة الخاوية لكانت و ديكارت؟! أو أن نبحث عن العون في ملاقحة الفقه مع الفلسفة الجديدة من أفكار فرويد و برتراند راسل؟! فنُجيز عمل اللواط و نهج قوم لوط الذين يندى لذكر قبائحهم جبين تأريخ البشريّة؟! أو نتابع مجلس الأعيان الإنجليزيّ فنوقّع علناً على شرعيّة
اللواط؟!
أ وَ ليس «انبساط و انقباض نظريّة الشريعة» يرتوي من ذاك النبع؟
أفهل يتمخّض دخول الفلسفة الحديثة في الحوزة العلميّة، و إلغاء تدريس الفلسفة المانحة للحياة و السعادة و حاصل ألف سنة من أفكار علماء مثل ابن سينا و الفارابيّ و الميرداماد في القالب الفكريّ البكر الفريد للملّا صدرا الشيرازيّ عن غير هذه النتيجة؟
لقد قال المرحوم آية الحقّ و سند الفلاسفة الحكيم الأعظم آية الله المفخّم الحاجّ الميرزا مهدي الأشتيانيّ أعلى الله درجته، و كان فيلسوفاً عظيماً و نابغة في الحكمة و الفلسفة عند عودته إلى طهران بعد سفره للمعالجة و إجراء عمليّة جراحيّة في ألمانيا: حين رقدتُ في المستشفي في ألمانيا جاء جميع الفلاسفة هناك لرؤيتى بسبب شهرتي لديهم، و قد بحثتُ معهم في اصول مسائل الفلسفة، فشاهدتُ حقّاً أنّ معلوماتهم تقلّ عن معلومات أحد الطلبة المبتدئين في حوزاتنا.۱
أمّا قول القائلين بأنّنا لا نحتاج إلى العلوم العقليّة و الحكمة، فما ورد من العلوم العقليّة في أخبار الأئمّة عليهم السلام، فنستفيد منه و ما لم يرد فيها فلا حاجة لنا به؛ فيماثل كلام عمر حين كتب إلى عمرو بن العاص حاكمه في مصر.
وَ أمَّا الكُتُبُ التي ذَكَرْتَهَا فَإنْ كَانَ فِيهَا مَا وَافَقَ كِتَابَ اللهِ، فَفي كِتَابِ اللهِ عَنْهُ غِنَى. وَ إنْ كَانَ فيهَا مَا يُخَالِفُ كِتَابَ اللهِ، فَلَا حَاجَةَ إليه. فَتَقَدَّمْ بِإعْدَامِهَا فَشَرَعَ عَمْرُو بْنُ العَاص في تَفْرِيقِهَا عَلَى حَمَّامَاتِ الإسْكَنْدَرِيَّةِ وَ إحْرَاقِهَا في مَوَاقِدِهَا.۱
فهذه المقولة بمثابة سدّ باب التحقيق و التدقيق و نشر علوم و ثقافة الدنيا و الآخرة، و هي ذات قول عمر: حَسْبُنَا كِتَابُ اللهِ.
فلو لم يكن هناك مفسّر و حارس للقرآن كالعترة، فإنّه سيصبح وسيلة لكلّ جانٍ يحتجّ و يستشهد بآيات القرآن على حكومته الجائرة؛ و كذا الأمر في فهم روايات الأئمّة عليهم السلام باعتبارها ليست في مرتبة واحدة، و لاستناد الكثير منها على علوم دقيقة عقليّة، فإن لم يُستعن بالعلوم العقليّة في حلّ تلك الدقائق و المعارف العظيمة فإنّ عاقبتها ستكون الجمود على الظواهر، نظير التشبيه و التعطيل و التجسيم و الجبر و التفويض، أو كالشيخيّة و الأخباريّين في فهمهم المعاني السخيفة و المتدنّية من كتاب الله، و استنباطهم المفاهيم السطحيّة التافهة من الروايات، و حاشاه و حاشاهم عن مثل ذلك.
اهتمام حوزة النجف الشديد بتدريس الفلسفة و العرفان
لقد كتب آية الله الشهيد الحاجّ السيّد محمّد علي الطباطبائيّ القاضي رضوان الله عليه في تعليقة على كتاب «الفِرْدُوسُ الأعْلَي» لآية الله المعظّم الحاجّ الشيخ محمّد الحسين كاشف الغطاء مطالب في مقدّمتها
نوردها هنا، حيث كانت جامعة النجف في كلّ الأزمنة مركزاً للبحوث و التحقيقات العلميّة و الفلسفيّة و الذبّ عن حريم الإسلام المقدّس. «و ليعلم إخواننا بالقطع و اليقين أنّ من نيّات أعداء الدين و خصماء المذهب من الامم الأجنبيّة و من مكايدهم الممقوتة، هدم أساس هذه الجامعة و محوها و إبادة مجدها و عظمتها و حطّها عن مقامها الشامخ في عالم التشيّع و نسف حضارتها العلميّة و نزعاتها الدينيّة، و لهم السعي البليغ في تهيئة أسباب ضعفها و سقوطها و اضمحلالها و إرجاع الناس إلى غيرها و ترغيبهم إلى سواها في أمر التقليد و الفتوى، و تحكيم الجمود على أفرادها و سوقهم إلى نبذ أغلب العلوم إلى ورائهم ظهريّاً، و الاكتفاء ببعض العلوم التي لا تكفي في قلع أساس الأباطيل و الأضاليل و قمع جرثومة الزندقة و الإلحاد، كما فعلوا ذلك كلّه بالنسبة إليها بعد أوائل هذا القرن، و شاهدنا ذلك في السنين الأخيرة و في أثر ذلك توقّف جمع من الأساتذة في هذه الجامعة عن دراسة بعض العلوم، وَ صَارَ هَذَا الأمْرُ مِنَ الجِنَايَاتِ التي لَا يَسُدُّهَا شَيءٌ إلَّا التَّيَقُّظُ وَ سَدُّ هَذِهِ الثُّلْمَةِ بِالحُرِّيَّةِ التَّامَّةِ في تَحْصِيلِ العُلُومِ بِشَتَّى أنْوَاعِهَا».۱
و يقول المرحوم كاشف الغطاء في هذا الكتاب:
وَ الظَّاهِرُ بَلِ اليقين أنَّ أقْوَى المُسَاعِدَاتِ وَ أعَدَّ الأسْبَابِ وَ المُوجِبَاتِ لِلْوُصُولِ إلى مَقَاصِدِ امَنَاءِ الوَحْي وَ كَلماتِ الأنْبِيَاءِ وَ الأوْصِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ إنَّمَا هُوَ فَهْمُ كَلِمَاتِ الحُكَمَاءِ المُتَشَرِّعِينَ.۱
و قد كتبتُ رسالة مختصرة لم تطبع حتى الآن في وجوب الاهتمام بتعلم الحكمة و العرفان، دوّنتُ فيها أسماء جمع كثير من جهابذة العلماء و أساطين الفقاهة الشيعيّة من صدر الإسلام إلى الآن ممّن كان لهم اهتمام أكيد بعلم الفلسفة و العرفان، و كانوا بالرغم من حيازتهم مقامات عالية في الفقه و الحديث يعدّون من المدرّسين الأجلّاء لهذه العلوم.٢
عبارات مقالة «بسط و قبض تئوريك شريعت» في الرّد على الفلسفة
و يلزم الآن و قد بانت الضرورة الأكيدة لتدريس و تعلّم الحكمة
المتعالية و الفلسفة السامية، و تحصيل العرفان، و الارتباط بعالم الربوبيّة عالم ماوراء الطبيعة، و لقاء الحضرة الأحديّة، و لزوم المشاهدة و المعاينة و البرهان إلى يقينيّ على ربط القديم بالحادث، و إحاطة وهيمنة الله الخالق الحكيم العليم، في الحوزات العلميّة المقدّسة التي تمثّل جامعات بناء الإنسان و تربية الآدميّين، و مدرسة لتعليم القرآن و تعلّمه، و إشاعة روح و سرّ النبيّ و مقام الولاية؛ يلزمنا أن ننقل نصّ عبارات من كاتب مقالة «بسط و قبض تئوريك شريعت» (=انبساط و انقباض نظريّة الشريعة» لتتّضح أكثر فأكثر مواضع الخطأ و مكامن الاشتباه فيها مضافاً إلى ما ذكر، فقد قال:
هل يمكن الاعتقاد بعلم النفس القديم و الاعتماد على تلقينه و تكراره في الوقت الحاضر مع إهمال الطبيعيّات الحديثة (أي علوم وظائف الأعضاء و الأنسجة و الكيمياء الحيويّة و الأجنّة و ...)؟
و هل يمكن تعريف موجود غير مادّيّ بدون معرفة أفضل للمادّة؟
إنّ كلّ القدرات التي كشفت حاليّاً في المادّة و أنواع تركيباتها تدعونا لفهم جديد للُامور غير المادّيّة، و نتساءل. ألم يكن تضخيم القدماء لمسائل ماوراء الطبيعة في الحقيقة جزءاً من جهالتهم؟
و يمكن التوسّع أكثر في هذا السؤال، فنسأل. ما الذي حصل هذه الأيّام فدعى حوزات العلوم الدينيّة إلى إخراج الطبيعيّات القديمة في تكتّم و هدوء من ساحة الفلسفة و إلغاء تدريسها، و القبول إلى حدّ ما، بالعلوم الحديثة، لكنّ غياب علوم الطبيعة القديمة تلك لم يضرّ ما بعد الطبيعة و لم يُحزنها بشيء؟!
أفيمكن فكّ ارتباط إلهيّات الفلسفة مع الطبيعيّات بشكل كامل، كي تبقى الإلهيّات محتفظة بهيئتها و قوامها السابق؟
أفلم تكن مسائل ما بعد الطبيعة قد صُمّمت ليمكنها ضمّ تلك
الطبيعيّات و احتوائها داخلها؟
أو هل ولد و نشأ ذينك الاثنان بلا ارتباط و تناسب بينهما؟
أ وَ هَلْ يمكن اليوم أن يُقبل بالطبيعيّات الحديثة (العلوم التجريبيّة الحديثة) مع ترك الفلسفة محفوظةً يجري تدريسها بدون أن تمسّها يد؟
لقد كانت تلك الإلهيّات هي الموجّه و المكمّل و المبرّر لتلك الطبيعيّات، و كان بناء المعرفة الشامخ ذاك ذا طابقينِ لا غرفتينِ، أفيمكن لانهيار أحد الطابقين أن يترك الآخر بلا ضرر أو تأثّر؟
إنّ الاضطراب و التشويش المشاهَد هذه الأيّام في كلمات أعلام الدين في رفع تعارض العلوم البشريّة مع معارف الوحي ناشئ من إنّ علماء المعرفة و الطبيعة القديمين لم يخليا مكانهما بشكل كامل لعلمَي المعرفة و الطبيعة الحديثينِ.
و لا يزال علم الكلام الإسلاميّ و فهم الشريعة غير متلائم و لا منسجم بعدُ مع المعارف الجديدة، و لم يتّخذ مكانه المناسب في الهندسة الجديدة للمعرفة. لذا فإنّهم يجهدون، اعتماداً على علم المعرفة القديم (بدون لحاظ ظرائف الأبحاث الجديدة في الفلسفة و اسلوب المعرفة العلميّة) ليحكموا على المكتسبات العلميّة الجديدة و يَزِنُوا معارضتها أو موافقتها للمعارف الدينيّة.۱
حتّى يصل إلى القول:
و يجب الإذعان إنّ شيئاً لم يبق على سابق عهده، لا أدبنا و لا فلسفتنا و لا كلامنا و لا عرفاننا، فلقد وقع فيها جميعاً الانبساط و الانقباض، فمن أين يتأتّي الادّعاء بأنّ فهم الشريعة يمكنه أن يبقى في منأيً عن رياح التغيير، و أن لا يتضرّر أو يربح في معاملته معها أخذاً أو
عطاءً؟۱
إلى قوله:
و لهذا السبب فإنّ فلسفتنا لماوراء الطبيعة، و قد انعزلت منذ القدم بعيداً عن المعرفة العلميّة الطبيعيّة، لم تتضرّر بنفسها و تتضاءل، بل إنّ الفلاسفة هم الذين تضرّروا لهذا السبب، فلم يقدّر لهم أن يروا وجه الفلسفة كما ينبغي أن يكون عليه و ضّاءً مشرقاً.٢
إلى قوله:
و لا نظنّ أيضاً أنّه يمكن تصديق أنّ علم النجوم القديم قد انفصل عن الفلسفة، لكنّ فلسفة ماوراء الطبيعة بقيت على حالها، إذ إنّ تلك الفلسفة صمّمت لتضمّ علم النجوم ضمنها، و إنّ الانقلاب و التحوّل الكامل لهذا العنصر و لعناصر اخرى غيره مع بقاء الإطار السابق سالماً أمرٌ لا يقرّه العقل و لا يتحمّله.
فلقد بدت علائم تحوّل ماوراء الطبيعة، و على الفلاسفة إلى قظين أن يكونوا جادّين في النظر إليه ا، و أن يَزِنُوا منظومة المعرفة الفلسفيّة من جديد، فالمعرفة التجريبيّة في العصر الجديد قد جاءت متحدية داعية للمنازلة، أمّا ماوراء الطبيعة فليس لها فلسفة علميّة موزونة و راسخة، و هي لا تستمدّ العون من بحث المعرفة، فهي بمجموعة من الأقوال المتناثرة أشبه منها بمنظومة متّسقة من الآراء المرتبطة ببعضها.٣
لا علاقة ببحث الالهيّات و فلسفة ماوراء الطبيعة مع بحث الطبيعيّات
و يُقال في الإجابة على هذه المطالب. ينبغي القول لجميع هذه الاحتمالات و الإشكالات التي وردت بصورة استفهام في المجموعة
المذكورة إنّها ليست إلّا مطالب لا دليل لها، و مدّعى خالياً من البرهان، و خطابة نظّمت بلا مطالعة و تحقيق، و شعراً قيل بلا فهم و تدقيق.
فأوّلًا: ما هي علاقة فلسفة ماوراء الطبيعة و الإلهيّات بالمعنى العامّ و الخاصّ بالفلسفة و العلم الطبيعيّ؟
ينبغي أن يكون ارتباط العلوم فيما بينها أو عدم ارتباطها إمّا في الموضوع أو في الحكم، و بعبارة أشمل. من جهة المسائل أو من جهة الغاية و الهدف.
إنّ الحكمة الإلهيّة و فلسفة ماوراء الطبيعة لا ترتبط أبداً في أي من هذه الجهات مع المسائل الطبيعيّة الواردة في العلوم التجريبيّة مع ملاحظة توسّعها.
فهناك في الحكمة الإلهيّة البحث عن العلّة و المعلول، و التقدّم و التأخّر، و الوحدة و الكثرة، و الوجود و الماهيّة، و الجوهر و العرض و أمثال ذلك، و كذلك عن إثبات القادر الحيّ الأزليّ الأبديّ السرمديّ الشاعر الحكيم العليم القدير المختار ذي المشيئة و الإرادة، من الطرق المختلفة لإبطال الدور و التسلسل، و عينيّة العلّة مع المعلول في الوجود و اختلافها حسب التنازل و التصاعد و غيرها.
أمّا الطبيعيّات فيُبحث فيها عن الحركة و الزمان و المكان و المادّة و القوّة و تكوّن الأرض و السماء و الأنهار و الأشجار و الأحجار و الشمس و القمر، و عن ظهور المعادن، و عن بدن الإنسان، و الطبّ و الهيئة و النجوم و مسائل الفيزياء و الكيمياء و أمثالها.
فقولوا لنا: أهناك تماسّ و اشتراك بين هذين العلمينِ في موضع معيّن ليسبّب ضمور أحدها تضخّم الآخر و نموّه؟ في الموضوعات، أو الأحكام، أو الغايات؟!
إنّ الحكمة الإلهيّة و فلسفة ماوراء الطبيعة تقوم بإثبات معيّة الذات القدسيّة للحيّ المتعال مع جميع الموجودات، و تشاهد تجلّي الله العالم القدير في جميع الأشياء، و تبرهن على ربط الحادث بالقديم، و تبحث عن إثبات العلل المتوسّطة كالمُثل الأفلاطونيّة مثلًا، أو بتعبير القرآن الملائكة المجرّدة فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً،۱ سواءً في ذلك دارت الأرض حول الشمس أم دارت الشمس حول الأرض، و سواءً كان القمر من أقمار الأرض و توابعها أم من المجموعة الشمسيّة، و تكوّن بدن الإنسان من الأخلاط الأربعة (الصفراء، السوداء، البلغم، الدم) أم من موادّ سمّيت بمسمّيات اخرى، أم كانت حقيقتها خارجة أيضاً عن هذه الأربعة (كالاوكسجين و الهيدروجين و النتروجين و الكلور و الفسفور و غيرها)، و لا فرق عندها سواء اعتبرت العناصر البسيطة منحصرة في أربعة لا تتجاوزها (التراب، الهواء، النار، و الماء) أم اعتبرت البسائط متجاوزة لمائة و عشرين، و قِسْ عليه فَعْلَلَ و تَفَعْلَلَ.
فلقد كان عبدة المادّة في فلسفة الطبيعيّين يقولون. إنّ جميع هذه العناصر الأربعة، و الأخلاط الأربعة، و الأفلاك لا معلولًا و لا علّة حيّة أزليّة، و هم الآن يقولون. إنّ العناصر البسيطة، و حركة الإلكترونات، و هذا الدوران للعالم الدوّار، و حركة الأمواج، و النور و الكهربائيّة ليست معلومة بعلّة أزليّة حيّة.
و كان المادّيّون في كِلا الزمانين ينكرون الصانع العليم القدير، في حين كان الإلهيّون بدورهم على نهج واحد يثبتون الصانع العليم القدير في كِلا الزمانين.
فحيثما يبدأ البحث الإلهيّ في الفلسفة عن الماهيّة و الوجود، فماذا يضير أن نطلق اسم الماهيّة على الجسم و العناصر التي تتشكّل منه، أو على الموجودات الحيّة الناشئة من الكيمياء الحياتيّة مثلًا؟ فالماهيّة تمتلك في كلّ الأحوال معنى يقابل معنى الوجود، و لا يمكن إنكار هذا الكلام و ردّه.
فلو قلنا بأصالة الوجود فسيكون البحث واحداً عن كلا الطريقين، في الطبيعيّات. الطبيعيّات القديمة أو العلوم التجريبيّة الحاليّة؛ و لو قلنا بأصالة الماهيّة، فسيكون البحث في كلا الطريقين واحداً أيضاً، و لا فرق هناك أبداً.
و لهذا فإنّ الكلام في أنّ إزالة و حذف بحث الطبيعيّات القديمة سيوجد خللًا في بحث الفلسفة الميتافيزيقيّة (ماوراء الطبيعة) هو قول مهزوز تماماً و ليس له ما يعضده و يسنده.
و يرجع ذلك إلى أنّ الإلهيّات قد وضعت على أساس قواعد منطقيّة يتكفّل علم الميزان بصحّتها و استقامتها؛ و علم الميزان كالقواعد الرياضيّة ثابت لا تغيّر فيه، و لا يمكن إنكار القياسات الاقترانيّة و الاستثنائيّة، و إفادة الأشكال الأربعة بشروطها الخاصّة، و ترتيب الصغرى و الكبرى؛ فيبقى المطلب في فلسفة ماوراء الطبيعة غير مقبول ما لم يصل إلى مرحلة البرهان، فالخطابة و الجدل و الشعر و المغالطة و المسائل التي شكّلت إحدى مقدّماتها من هذه الامور غير مقبولة، و النتيجة تتبع أخسّ المقدّمتين، لذا ينبغي لمقدّمتي القياس أن تكونا مبرهنتين.
و لقد وضعوا لهذا الأمر المهمّ علم المنطق، و كتب ابن سينا منطق «الشفاء» الباهر، و ألّف الخواجة نصيرالدين الطوسيّ كتاب «أساس الاقتباس»، ذلك الكتاب الضخم في المنطق، و لا تزال دراسة علم المنطق جارية و معهودة في الحوزات العلميّة حتى يومنا هذا.
أمّا الطبيعيّات فهي بجميع شؤونها و جميع فروع مسائلها، من الطبّ و النجوم و الهيئة، و مسائل الأرض و السماء، غير مرتكزة و غير معتمدة على البرهان، بل تعدّ مسائلها استقرائيّة، حيث استبدلوا أخيراً كلمة الاستقراء بالتجربة. و لقد قالوا و كتبوا جميعاً مكثرين. إنّ المسائل الاستقرائيّة لا تورث القطع و اليقين، بل هي مسائل ظنّيّة تماثل المسائل الحدسيّة و الفرضيّة الحاليّة، عدا الاستقراء التامّ الذي يورث العلم و اليقين.
فنسبة المسائل الطبيعيّة الاستقرائيّة إلى الإلهيّات البرهانيّة كنسبة فرضيّة حركات الأفلاك و التداوير المفروضة، و ثبوت السيّارات داخل جرمها، و فرضيّة حركة السيّارات في مداراتها الخاصّة بلا فلك قد سُمّرت في جُرمه، إلى نتيجة حسابات عالم رياضيّ و منجّم مختصّ قاس و أجرى بصورة دقيقة حساب حركة و زمان أوج و انحطاط الشمس أو ما شاء من سيّارات، و زمن خسوف القمر و كسوف الشمس وفق القواعد الرياضيّة.
فحسابات المنجّم و العالم في الهيئة واحدة في كلّ الصور و الحالات، لأنّها كانت مستندة على قواعد رياضيّة ثابتة و غير متغيّرة، سواء أخذنا الأرض كمركز للعالم حسب هيئة بطليموس و اعتبرنا الشمس و جميع الثوابت و السيّارات تدور حولها، أم اعتبرنا الشمس مركزاً و السيّارات و الأرض تدور حولها حسب هيئة كوبرنيك.
فمع أنّ هاتين الفرضيّتين مختلفتان بالطبع، لكنهما لا تؤثّران أبداً على نتيجة حسابات المنجّم، لأنّ الاهتمام الرئيسيّ للمنجّم و نظره ليس لحركة هذه أو تلك، بل بمقارنة البعد و الاقتراب، و هو أمر لا اختلاف فيه و لا تفاوت.
فلو كانت الفاصلة بيننا و بينكم مائة فرسخ و لابدّ لنا من طيِّ خمسين ساعة لنصل إلى بعضنا، فما الفرق للمحاسب الذي سيجري الحساب فيقول
إنّ كلّ فرسخينِ ينبغي طيّهما في ساعة واحدة، أن نكون نحن ثابتين و أنتم المتحرّكون نحونا، أو تكونوا أنتم الثابتين و نحن المتحرّكون نحوكم، فالأساس هو صحّة المحاسبة و صوابها، لا حركة هذا و سكون ذاك؛ فإنّ (۸) مضروبة في (٢) تساوي (۱٦)؛ و (٢) مضروبة في (۸) تساوي (۱٦) أيضاً.
فمسألتا الضرب هاتان مع اختلافهما في المحتوى، أي في المضروب و المضروب فيه و بيانهما لمعنيين و كيفيّتين، لكنّ نتيجة الضرب واحدة.
كان هذا مثالًا لنعلم أنّ مسائل الإلهيّات أيضاً غير قابلة للتغيّر و التبدّل، لأنّها كالقواعد الرياضيّة و المثلّثات معتمدة على أساس البرهان، أمّا الطبيعيّات فتغيّرها ممكن و وارد طبقاً للفرضيّات المتفاوتة و تبعاً للاكتشافات المختلفة.
لذا فليست مسائل ماوراء الطبيعة مع الطبيعيّات كبناء ذي طابقين أو غرفتين، بل كبناء خرسانيّ مسلَّح محكم و متين مقابل بناء منفصل آخر يواجهه.
الاعتراض على المقالة في الفصل بين وظائف الطبيعة و ماوراء الطبيعة
و لربّما خُيّل لكاتب المقالة أنّ مسائل ماوراء الطبيعة و أحكامها و وظائف مأموريها وصولًا إلى الله الواحد القهّار في معزل عن مسائل الطبيعة، بمعنى إنّ أي أثر نعتبره للمادّة و الطبيعة، لن يكون من عالم ماوراء ذلك و آثار عالم الطبيعة منحصرة به بآثار لا يد للطبيعة فيها، لذا فإنّ هزال و تضخّم الطبيعة و المادّة هو على العكس من العالم الذي وراءها، أي عالم الحياة؛ أي أنّ هزال الطبيعة يستتبع ضخامة عالم الحياة، و ضخامة عالم الحياة يستلزم هزال عالم الطبيعة.
و هذا التصوّر خاطئ و مخالف لُاصول التوحيد و مباين لمنطق القرآن
و البرهان، و ما نُسب في كتاب «راه طي شده» (=الطريق المطويّ) إلى الموحّدين و القائلين بعالم الحياة من الفلاسفة خطأ و مخالفة للصواب، إلّا إذا كان مراد من الفلاسفة علماء الغرب الذين لم يتذوّقوا طعم التوحيد.
فتبعاً للحكمة المتعالية فإنّ جميع أفعال المادّة و الطبيعة هي أعمال ماوراءها، فلا يمكن وجود ذرّة واحدة و آثارها و لوازمها في جميع عالم المادّة إلّا و هي تحت سيطرة و هيمنة عالم الروح، و إحاطة و معيّة عالم ماوراءها؛ و تفكيك الأعمال الطبيعيّة و غير الطبيعيّة، و القول بقطب مستقلّ لكلّ منهما هو خلاف برهان التوحيد.
أو لعلّه ظنّ أنّ المراد من عالم النفس الروح، و ماوراء الطبيعة الملائكة، و أخيراً فإنّ قدرة الواحد العليم الحكيم هي تلك الظاهرة الحاصلة من المادّة و نتيجة جهاز حركة المادّة في عالم الطبيعة، أو النظام المتقن المتين الذي جرى علم الطبيعة على أساسه منذ الأزل في مسير واحد و نهج مستقيم بلا أدنى تخلّف، و سيبقى في جريانه على هذا المنوال أيضاً حتى الأبد؛ و بالطبع فتبعاً لهذا التصوّر فإنّ ضعف الطبيعة يستلزم ضعف هذا المعنى، و قوّتها تستوجب قوّة هذه الحقيقة، و لذا فإنّ تضخّم و هزال المادّة سيوجب تضخّم و هزال ماوراءها مباشرة بشكل معادلة مستقيمة طرديّة لا عكسيّة.
و هذا التصوّر هو تصوّر خاطئ أيضاً، لأنّ إتقان النظام و الحياة الواحدة الحاكمة على العالمين، و على جميع عالم الوجود، من فعل الربّ تعالى، لا نفس ذاته القدسيّة.
ففوق هذا الفعل، و هذا النظام الواحد المتين الراسخ الحاكم على العالم، هناك ذات بسيطة و مجرّدة و واحد و قهّار و عليم و قدير ابتدع هذا العالم بإرادته الأزليّة، و أداره و يديره، و مفيضاً عليه ليس فقط في ابتداء
الخلق، بل كلّ لحظة و إلى الأبد؛ فإحاطته به ليست إحاطة علميّة فقط، بل إنّ له معيّة معه في وجوده و ذاته، و جميع هذا العالم هو عِلمه الحضوريّ.
فالإله المتحرّك الجاري الذي له كلّ يوم ظهور و تجلٍّ جديد في المادّة ليس هو الله، بل مأمور و محكوم لحكم الله تعالى.
علماء الإسلام هم أبرز العلماء، و آباء العلوم الطبيعيّة
و ثانياً: إنّ علم الطبيعيّات لم يُلْغَ تدريسه في الحوزات العلميّة، فهم الآن يدرسون مع الإلهيّات مباحث الطبيعيّات أيضاً، و لقد كان علماء الإسلام الحقيقيّون هم واضعي الحجر الأساس للمدنيّة الغربية، و امتلكوا في جميع الفنون الطبيعيّة المقام الشامخ الذي لا نشاهد له نظيراً و شبيهاً في الغرب.
فأمّا بشأن علم الكيمياء: فهم يقولون اليوم إنّ اختلاف الأجسام و العناصر المادّيّة، كالحديد و الذهب و الكاربون و الاوكسجين عن بعضها مسبّب عن اختلاف عدد الإلكترونات الدائرة حول النواة، و مرتبط بكيفيّة ترتيبها أيضاً، فإذا أمكننا أن نغيّر هذا النظام في مادّة ما إلى نظام مادّة اخرى فسنكون قد أوجدنا تلك المادّة الثانية؛ و من جهة اخرى فإنّه يمكن إطلاق أشعة إكس و الطيف الضوئيّ نتيجة تغيير الترتيب الإلكترونيّ.
و قد أجرى رجلان إنجليزيّان هما والتون و كاسرافت هذا العمل لأوّل مرّة بشأن عنصر الليثيوم فأبدلوه إلى عنصر الهيليوم.
و قد وصل قدماؤنا إلى مراحل أبعد من هذه، و لم يزل العلم الحديث عاجزاً عن الوصول إلى اكتشافاتهم؛ فلقد اعتبروا الفلزّات قابلة للحياة و ممتلكة لنوع من الحياة و الموت (و الفعّاليّة)، و قالوا بإمكان توليدها المثل، فسعوا على هذا الأساس إلى تبديل بعض الفلّزات إلى فلزّات اخرى، و خاصّة إلى الذهب. و لم يختصّ هذا التفكير بالمسلمين فقط، بل
بقيت آثاره من قديم الأيّام من زمن أفلاطون.۱
و النتيجة المستحصلة من هذه النظريّة هي أنّ الكيميائيّين و المحقّقين قد سعوا في مجال التحقيق. فقاموا في أبحاثهم باختراعات و اكتشافات و اختبارات كثيرة، و ظهر في هذا العلم أمثال جابر بن حيّان المعروف بالصوفيّ و هو أحد تلامذة الإمام جعفر الصادق عليهالسلام،٢و ذو النون
كلام عبدالحليم الجندي حول تأسيس الإمام للعلوم الإسلاميّة (ت)
جابر بن حيّان و ذوالنون المصريّ و أبوزكريّا الرازيّ مؤسّسو علم(ت)...۱
...۱المصريّ، و أبوزكريّا الرازيّ٢ و غيرهم.
و قد اكتشف أبوزكريّا الرازيّ الكحول الذي يدعونه اليوم بنفس الاسم (ALCOHOL) من تقطير الموادّ السكّرية و النشاء، و فتح - كما تعلمون - بكشفه لهذه المادّة فصلًا جديداً في الطبّ و الصيدلة.
و اكتشف كذلك جوهر الكبريت (أي. حامض الكبريتيك) من تجزئة الزاج الأخضر أي كبريتات الحديد المتبلورة؛ و تعلمون أنّ هذه المادّة صارت امّ الصنائع، و سميّت ب-. زيت الزاج و. امّ الصنائع.٣
و لقد حصل علماؤنا بأجهزة التقطير القرع و الإنبيق و بأحجار الكلس على الكثير من الموادّ الكيميائيّة من قبيل نترات الفضّة (حجر جهنّم) و كلوريد الزئبق المشبّع، و البوتاسيوم، و أملاح النُّشادِر، و جوهر الملح (حامض الهيدروكلوريك)، و الملح، و كاربونات الصوديوم (القلياء)، و الأنتيمون و عشرات الموادّ الاخرى التي تعدّ في الكيمياء الحاليّة من الاسس و الموادّ المهمّة.٤
و قد عدّوا - عند اكتشافهم لهذه الموادّ - أنّ صنع الفضّة و الذهب أمر ممكن، و قد كتب محمّد بن زكريا الرازيّ كتاباً باسم. «إنّ صناعة الكيمياء إلى الوجوب أقربُ منها إلى الامتناع». يقول ابن جُلجل في «طبقات الأطبّاء و الحكماء». لقد أجرى محمّد بن زكريّا الرازيّ تحقيقات في صناعة الكيمياء و ألّف أربع عشرة مقالة في علم الكيمياء.
و يشاهد في فهرس مصنّفات الرازيّ اسم ثلاثة كتب ر دّ فيها على عقيدة يعقوب بن إسحاق الكنديّ۱ في بطلان صنعة الكيمياء.
و كان للكثير من المتصوّفة اشتغال بهذا العمل، حيث يتكرّر ذكر أسماء. جابر بن حيّان۱ و ذي النون، و الجنيد البغداديّ، و محيي الدين عربي، و شمس التبريزيّ، و جلال الدين الروميّ، و السيّد نعمة الله ولي، و نور علي شاه.
هذه هي عظمة و تقدّم علم الكيمياء أحد فروع الطبيعيّات، و بالطبع فإنّ هذا العلم. علم الكيمياء هو عبارة عن تركيب موادّ خاصّة في شروط خاصّة لصناعة الذهب. و أما الإكسير الذي يقال له أيضاً. الكبريت الأحمر فهو علم يُحصل به على شيء يمكنه تبديل النحاس و الفضّة بالمسّ إلى ذهب، و هو أهمّ كثيراً من الكيمياء.
بروز أبي ريحان البيرونيّ في مسائل الفيزياء و الهيئة و النجوم
أمّا بشأن علم الفيزياء: فقد برع العلماء و المفكّرون المسلمون في هذا الفنّ و برزوا في كثير من مجالاته، سواءً ما تعلّق بحسابات جرّ الأثقال، أم بأبحاث النور و انكسار الأشعّة و المرايا، أم في كثير من الصناعات المعتمدة على القوانين الفيزيائيّة.
فاكتشافات أبي ريحان البيرونيّ في الفلكيّات و الرياضيّات و الميكانيك و الهيدروستاتيك (ضغط و توازن السوائل) حساب ثقل و ضغط السوائل و توازنها، و ارتفاع مياه إلى نابيع و الفوّارات، و قياس محيط الأرض بالطريقة التي دعاها الغربيّون بقاعدة البيرونيّ، و اختراعه لبعض أنواع
الاسطرلاب، و الكتب التي ألّفها في الآلات الفلكيّة، و النجوم المذنّبة، و الظواهر الجوّيّة، و المدّ و الجزر، و إيجاد الوزن الخاصّ للأجسام، و الحدس بحركة الأرض، و احتمال وجود قارّة اخرى في سائر نقاط الربع المسكون كقارّة أمريكا، و كثير آخر من أمثال هذه المسائل، تعدّ بأجمعها من المسائل المهمّة التي وُضعت عليها علوم الفيزياء و الرياضيّات الحاليّة.
و قد جاء في مقدّمة كتاب «التفهيم لأوائل صناعة التنجيم» أنّ أبا ريحان قد اخترع ميزاناً جديداً لتعيين الوزن و الحجم الخاصّ للأجسام دعاه بـ ميزان أبي ريحان و عيّن بواسطته الوزن الخاصّ (النوعيّ) لعدد من الأجسام في حدود ۱٦ فقرة يُطابق آخر ما وصلت إليه تحقيقات العلماءالحاليّين، و كان ميزان أبي ريحان في نظر أهل الفنّ و الخبرة أدقّ من ميزان أرخميدس.
و هناك رسالة مذكورة في فهرس مؤلّفاته في النسبة بين الفلزّات و الجواهر المعدنيّة كتبها بالفارسيّة؛ و قد عيّن بشكل خاصّ في كتاب «الجَمَاهِر» الوزن الخاصّ (النوعيّ) للفلزّات و لبعض الأحجار الكريمة.۱
بحوث أبي ريحان البيرونيّ حول الآبار الارتوازيّة و قانون خاصّيّة الأواني المستطرقة
البئر الارتوازيّة: و قد أورد في «نامة دانشوران» (=رسالة الحكماء) أنّ هناك بعض المطالب المذكورة في كتاب «الآثار الباقية» لأبي ريحان اقيم على اسسها و نظمها في كتب حكماء اوروبّا، و ذكر من جملتها شروحاً لارتفاع الماء من بعض العيون ذكره بعينه الحكيم الطبيعيّ المسيو زله في باب «پي آرت زين».
و سنورد بعد انتهاء مسائل و مطالب أبي ريحان تلك المسألة و سائر المسائل و قواعد رسم الخرائط المعهودة عند حكماء اوروبّا ليتّضح أنّ أبا
ريحان كان له توارد خواطر مع أغلب حكمائهم، أو أنّهم ظفروا بمؤلّفاته فاقتبسوا تلك القواعد منه.۱
يقول في «الآثار الباقية»: تنقسم المياه التي تتجمّع في قعر البئر إلى قسمين. منها ما يترشّح أحياناً من أطراف البئر و يتجمّع، فيكون سطح تلك المادّة مع سطح الماء المجتمع في مستوى واحد، و هذا القسم لا يمكن بأيّ تدبير أن يرتفع إلى الأعلى، لأنّ الفتور و الضعف الذي فيه لا يتلائم مع ذلك القصد.
و يحدث أحياناً أن يفور الماء في قعر البئر بقوّة لأنّ منبعه و مادّته مرتفعة ينحدر منها بشدّة و يخرج من المنافذ، و هذا القسم يمكن رفعه بالآلات العاديّة المعهودة مثل الفوّارات العالية و الأنابيب، للقدر الذي يصبح فيه أعلى ارتفاع لماء الفوّارة موازياً و مساوياً لسطح المادّة الأصليّ، و هذا الماء قد يصل أحياناً إلى مستوى القلعة و المنارة.
و قال أبوريحان في ذيل ذلك المطلب أيضاً.
و لقد حصل كثيراً في إلى من، عند حفرهم الآبار، أن ينتهوا في حفرهم إلى صخرة، فيعرف قوم تلك الديار، حسب فراستهم في هذا الأمر، من صوت الصخرة كمّيّة الماء المخزون في تلك المنطقة، فيعمدون بما في أيديهم من الآلات إلى إيجاد ثقب ضيّق في تلك الصخرة، فإن فار منها الماء بسلامة قاموا بتوسعة ذلك المجرى، و إن شوهد في الماء آثار الطغيان عمدوا إلى ذلك الثقب فسدّوه بالتراب و الجِير لئلّا ينبعث منه سيل مهيب.
و هناك بحيرة واقعة في أعلى جبل بين مدينتي طوس و أبر شهر تدعى ببحيرة برزود، يبلغ محيطها مائة فرسخ، لا يظهر في مائها الجزر و المدّ الذي يظهر في مياه البحار الاخرى، و ذلك لأنّ مستوى المخزن المائيّ الذي يمدّها يوازي سطح البحيرة، أو أنّه يرتفع عنه، لكنّ مقدار الماء الذي يجفّ بالتبخّر الحاصل من أشعة الشمس يعادل المقدار الوارد
من المنبع، لذا انعدمت الزيادة فيه أو النقصان.
حتّى يصل إلى القول:
و قد أورد الحكيم المسيو زله في كتابه في علم الطبيعة بشأن بئر جرْنل۱ الواقعة في باريس فصلًا مشبعاً، و ذكر في بيان علله و أسبابه الطبيعيّة شرحاً يوافق تحقيقات أبي ريحان تماماً.
و على كلّ حال فإنّ تلك البئر تقع في منطقة باريس بعمق خمسمائة و ثمانية و أربعين متراً و يرتفع ماؤها عن الأرض بواسطة أنابيب ارتفاعها ثمانية و ثلاثون متراً.
و لقد كان بحر الخزر مورد حيرة حكماء اوروبّا، إذ تصبّ فيه كلّ تلك الأنهار في حين ليس هناك من ممرّ و مخرج للماء منه، لذا فقد اعتقدوا إلى ما قبل مائتي سنة٢ أنّ للبحر المذكور مجريين سفليّين، أحدهما تحت كرجستان و القفقاس و الآخر من جهة ممالك إيران و هوانق، فما يرد فيه من تلك الأنهار يذهب في المجرى الأوّل إلى البحر الأسود، و في الثاني إلى الخليج الفارسيّ، و لو لا ذلك فإنّ طغيان الماء الناتج من تجمّع الأنهار العظيمة سيغطّي سواحل إيران و حاج طرخان، بل سيغطّي خوارزم و جميع آسيا.
لكنّهم قالوا في مسألة ذلك البحر؛ استناداً إلى علوم الكيمياء و الطبيعة التي تكاملت منذ التأريخ المذكور إلى الآن؛ بنفس القول الذي
نقلناه عن الاستاذ أبي ريحان، و تيقّنوا أنّ الكمّيّة التي تجفّ من المياه بأشعّة الشمس تعادل الكمّيّة الواردة في ذلك البحر، و قد أمعن جمع من المهندسين الروس في التحقيق و البحث بشأن هذه المسألة خاصّة، فاستنبطوا بعد تتبّع زائد ما يطابق رأي أبي ريحان الذي ذكره في «الآثار الباقية».۱ و يُعرَف كشف أبي ريحان هذا اليوم في الفيزياء بـ قانون خاصّيّة الأواني المستطرقة.
و قد كان لأبي ريحان تحقيقات عميقة أيضاً بشأن حركة النور و الصوت، و أنّ حركة الصوت أبطأ من النور.٢
و من بين المسائل الفيزيائيّة التي يدين بها الاوروبّيّين للمسلمين هي مسائل النور و المرايا، و من أرقى الكتب التي دوّنت في هذا الموضوع كتاب «تنقيح المناظر لذوي الأبصار و البصائر» تأليف العلّامة كمال الدين أبي الحسن الفارسيّ، كتبه قبل سبعمائة سنة، و هو كتاب في جزءين يقرب من ألف صفحة.٣
و أمّا بشأن علم النجوم و الهيئة، فإنّ علماء الهيئة الحقيقيّين بالرغم من عدم امتلاكهم لوسائل العمل و مستلزماته، و افتقادهم المنظار (التلسكوب)، قد عملوا في حساب قواعد حركات السيّارات و قربها و بعدها و أماكنها و مواضعها في الفلك، و تعيين أماكن الثوابت و السيّارات و صناعة الكرات الفضائيّة و الاسطرلابات و الخرائط الجوّيّة و الأرضيّة، فأوصلوا البحث في هذه العلوم طبق القواعد الرياضيّة الدقيقة و الحسابات الاستدلاليّة و الجبر و المقابلة و المثلّثات و قواعد الظلّ و الظلّ تمام و الجيب و الجيب تمام إلى ما لا يتصوّر فوقه.
نبوغ أبي ريحان في الفلكيّات و علم النجوم
فلقد كتب أبوريحان البيرونيّ؛ و كان متخصّصاً في علم الفلك ماهراً فيه حتى لكأنّ السماء في قبضة يده؛ كتاب «قانون المسعوديّ» في ثلاثة أجزاء، و كتاب «في تحقيق ماللهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة»، و هو حاصل أربعين سنة من السفر و التوقّف في الهند، و كتاب «التفهيم في أوائل صناعة التنجيم»، و «الآثار الباقية»، و كتباً و رسائل جمّة ذُكرت أسماؤها في عداد مؤلّفاته، ففاق بألف ضعف الاوروبّيّين الذين شاهدوا و رصدوا مراكز النجوم بالنواظر المكبّرة؛ في جهوده و نتائج فكره البِكر التي قدّمها إلى دنيا العلم و العلماء.
يقول في «نامة دانشوران ناصري» (=رسالة العلماء الناصريّين). لقد حاز مقاماً سامياً في أنواع الصناعات و فنون الرياضة و أصناف العلوم، و اتّفق فضلاء العالم و سلّموا على أنّه في مسائل النجوم متفرّد كالشمس، لم يُرَ له نظير، و لم يطرق الأسماع اسماً لصنوٍ له في منزلته أو شبيه، فهو في الحقيقة درّة يتيمة انطوت على الكمالات و الفضائل.۱
حتّى يصل إلى القول: و يتّضح من كتاب «الاستيعاب في صنعة الاسطرلاب»۱ و سائر مؤلّفاته، إنّ ذلك الاستاذ الكامل كما تسلّمَ تفوّقه في المعقول و المنقول، و اشتهرت مهارته في المحسوسات و المصنوعات،
فإنّه وصل في إبداع الصنائع العمليّة إلى حيث تركت مهارته في اختراع طبقات الأفلاك و خرائط النجوم عدّة صفحات بالغ في إيضاحها حتى كأنّ الألواح الفلكيّة قد اندمجت في صفحات خياله، و الصور الثمان و الأربعين قد ارتسمت في لوح صدره، و عموماً فقد كان في جودة الذهن و حُسن القريحة لدرجة كان يشرع معها بنفسه بالابتكار في صناعات الخرائط و الآثار الجغرافيّة، و قد ابتدع عدّة قواعد ظلّ الاوروبّيّون يجلّون واضعها كلّما شاهدوها و طالعوها، كذلك فإنّ أغلب خرائطهم في هذا العصر مبتنية و مرتكزة على الاصول و القوانين التي ابتكرها.
كيفيّة تسطيح سطح الكرة الأرضيّة في الخرائط الجغرافيّة المستوية.
هي من بنات أفكار و إبداعات ذلك الفاضل المتفرّد، و قد أوجد قوانين و أطلق مسمّيات لبعض المسائل الطريفة و المطالب الدقيقة بحس قريحته و فكره البعيد الثاقب الفقدان الوسائل و نقص الآلات، و يرى مَنْ تأمّلها بعين الإنصاف مدى علميّته و قدر فضله؛ و من بينها الاصول و الضوابط التي أوردها في مطاوي مؤلّفاته في تسطيح الكرة الأرضيّة و رسم الخرائط الجغرافيّة، و بالرغم من أنّ حكماء اوروبّا قد أوصلوها - لتوفّر الأسباب و تهيّؤ الأدوات - إلى أعلى درجات الكمال، لكنّهم كلّما سمعوا هذه العبارات و شاهدوا هذه الإشارات كانوا يجلّونه و يعتبرونه لائقاً لكلّ ثناء حسب قاعدة الفَضْلُ لِلْمتَقَدِّمِ.
و لأجل الإيضاح المحض لتلك الرموز، و كشف تلك الكنوز، فسنورد حاصل ما ذكره في «الآثار الباقية» في باب رسم الخرائط الجغرافيّة؛ ثمّ يشرع ببيان كيفيّة تسطيح الكرة الأرضيّة الذي أورده في «الآثار الباقية»،
و ذلك في ثلاث صفحات كاملة.۱
و كان أبوريحان؛ خلافاً لجميع المتقدّمين القائلين بسكون الأرض حسب هيئة بطليموس؛ ذا قريحة جيّدة في مسألة حركة الأرض، يعلم مَن تأمّل فيها أنّ له في اختيار ذلك المذهب و الطريقة كمال الرغبة، فيقول في كتاب «الاستيعاب في عمل الاسطرلاب الزورقيّ»:
وَ قَدْ رَأيْتُ لأبِي السَّعِيدِ السَّجْزِيِّ اسْطُرْلَاباً مِنْ نَوْعٍ وَاحِدٍ بَسِيطٍ، غَيْرَ مُرَكَّبٍ مِنْ شِمَالِيٍّ وَ جُنُوبِيٍّ؛ سَمَّاهُ الزَّوْرَقِيَّ.
فَاسْتَحْسَنْتُهُ جِدَّاً لِاخْتِرَاعِهِ إيَّاهُ عَلَى أصْلٍ قَائِمٍ بِذَاتِهِ مُسْتَخْرَجٍ مِمَّا يَعْتَقِدُهُ بَعضُ النَّاسِ مِنْ أنَّ الحَرَكَةَ المَرْئِيَّةَ مِنَ الأرْضِ دُونَ الفَلَكِ.
وَ لَعَمْرِي هُوَ شُبْهَةٌ عَسِرَةُ التَّحْلِيلِ؛ صَعْبَةُ المَحْقِ؛ لَيْسَ لِلْمُعَوِّلِينَ عَلَى الخُطُوطِ المَسَاحِيَّةِ مِنْ نَقْضِهَا شَئٌ. أعْنِي بِهِمْ المُهَنْدِسِينَ وَ عُلَمَاءَ الهَيْئَةِ. عَلَى أنَّ الحَرَكَةَ سَوَاءً كَانَتْ لِلأرْضِ أمْ كَانَتْ لِلسَّمَاءِ؛ فَإنَّهَا في كِلْتَا الحَالَتَيْنِ غَيْرُ قَادِحَةٍ في صِنَاعَاتِهِمْ. بَلْ إنْ أمْكَنَ نَقْضُ هَذَا الاعْتِقَادِ وَ تحْلِيلُ الشُّبْهَةِ فَذَلِكَ مَوْكُولٌ إلى الطَّبِيعِيِّينَ مِنَ الفَلَاسِفَةِ.٢
و قد بحث أبوريحان في مشكلة حركة الأرض أيضاً في كتاب «تحقيق ماللهند».
اكتشافات أبي ريحان الجديده في المسائل الرياضية و الهيئة
استخراج جيب الدرجة الواحدة:
يعدّ استخراج جيب الدرجة الواحدة من المسائل الرياضيّة الدقيقة التي لم يوفّق العلماء الذين سبقوا أبا ريحان لكشفها؛ و كان أبوريحان أوّل العلماء الذين وفّقوا لذلك، حيث أورد شرحها في الباب الرابع من المقالة الثالثة في «قانون المسعوديّ» ج ۱، ص ٢٩٢، فقد طرح من عنده ابتداءً اثنتي عشرة مقدّمة، أي اثنتا عشرة قضيّة رياضيّة، و برهن عليها، ثمّ استنتج مقصوده و استنبطه منها.
و كان لاثنين من معاصري أبي ريحان من أعاظم علماء الرياضيّات؛ أحدهما أبوسهل بيزن بن رستم كوهي و الآخر أبوالجود محمّد بن ليث السمرقنديّ؛ جهود و محاولات في هذا الشأن، لكنّها لم تثمر شيئاً.
و هناك مسائل اخرى كان للبيرونيّ نظره الخاصّ فيها قام بنفسه بقياسها وفق الحسابات الرياضيّة الدقيقة و الأرصاد، مثل قياس مساحة محيط الكرة الأرضيّة و قطرها، و مسارات الكواكب، و القاعدة النجوميّة لتسوية البيوت، و الطول و العرض الجغرافيّ، و جهة قبلة المدن؛ و قاعدة جديدة لاكتشاف جهة القبلة و بناء محراب المساجد؛ و رصد الميل الكلّيّ و الميل الأعظم؛ و الحركة الخاصّة الوسطيّة للشمس، و حركة أوج الشمس؛
و المقدار الدوريّ لحركة الثوابت؛ و كثير من المسائل الاخرى التي يطول المقام بشرحها واحدة فواحدة، و قد ذكر البيرونيّ هذه المسائل بالتفصيل في «قانون المسعوديّ» و «تحديد نهايات الأمكان» و «الآثار الباقية»، و «كتاب الجَمَاهِر».۱
و من بين علماء الهيئة و الرياضيّات و النجوم الذي يدين لعلمه و فضله و كماله جميع أصحاب التقاويم و الحسابات من زمنه حتى يومنا هذا، و يشيرون إليه في أغلب الكتب بألقاب:
أفضل المتكلّمين، سلطان الحكماء و المحقّقين، استاذ البشر، علّامة البشر، العقل الحادي عشر. العلّامة الخواجة نصيرالدين محمّد بن محمّد بن الحسن الطوسيّ.۱
فإنّه بتأسيسه مرصد مراغة و جمعه علماء الرياضيّات و فضلائها و هيئة العلماء و المتخصّصين من الطراز الأوّل لمدّة ستّ عشرة سنة، فقد قام بترتيب و تدوين الزيج الإيلخانيّ. ثمّ ألّف بعده أحد معاونيه في تنظيم
الزيج،۱ اسمه غياث الدين جمشيد الكاشانيّ كتاباً في إكمال الزيج
...۱
...۱
...۱الإيلخانيّ للخواجة الذي ظلّ ناقصاً، و سمّاه بالزيج الخاقانيّ.
و قد كتب الخواجة في خاتمة عمل الرصد كتاب الزيج الإيلخانيّ باسم هولاكوخان، و أضاف إليه عدّة جداول لم تكن في الأزياج السابقة، فحاز لهذا السبب اعتباراً أكمل.
و قد ترجم و نشر مؤرّخو اوروبّا أيضاً؛ حسب النقل المعتبر؛ سنة ألف و ثلاث و ستين للهجرة التي توافق سنة ألف و ستمائة و اثنين و خمسين ميلاديّة في مدينة لندن جدولًا لعرض البلاد و طولها اعتماداً على هذا الزيج الإيلخانيّ.۱
و من بين كتب الخواجة نصيرالدين الطوسيّ في علم السماء كتاب «التذكرة النصيريّة في الهيئة»، و هو كتاب مختصر إلّا أنّه جامع لمسائل هذا الفنّ، و من الشروح المشهورة على هذا الكتاب شرح الفاضل شمس الدين محمّد بن أحمد الحفريّ أحد تلامذة سعدالدين، و هو شرح ممزوج سمّاه «التكملة»، و فرغ من تأليفه في شهر محرّم الحرام لسنة ٩٣٢ هجريّة.٢
و يعدّ علم الهيئة أيضاً من العلوم التي يجري تدريسها في الحوزات العلميّة، و كان العلّامة آية الله الطباطبائيّ قدّس الله نفسه استاذاً في هذا الفنّ و قادراً على استخراج التقويم، و قد حضرتُ دورة في علم الهيئة في محضره المبارك.
و أمّا علم الطبّ و الصيدلة:
فيكفي في عظمة تدريسه و تعليمه و شهرته أنّ الطبّ كان حتى السنين
الأواخر منحصراً إمّا حسب طبّ خمسة إلى ونانيّ، أو حسب طبّ أبي زكريّا الرازيّ؛ و لم ننسَ بعدُ ما كان لدينا من حكماء و أطبّاء متبصّرين، حاذقين، خبيرين و مشهورين في كلّ مدينة و محلّة و شارع، من المشتغلين بمعالجة الأمراض حسب نظام مشخّص و طريقة معيّنة تبعاً لكتب الأدوية مثل «قرابادين الكبير» و سائر الكتب المتخصّصة في هذا الشأن، و ذلك بالأدوية إلى ونانيّة، حسب نوع المرض المشخّص، أي بالعقاقير و الأدوية العشبيّة و تعديل المزاج بالمُنضج ثمّ المُسهل.
و كان كتاب «القانون» لابن سينا، من الكتب المعروفة التي ينبغي في هذا المجال مطالعتها؛ و كان لكلّ استاذ - مضافاً إلى ذلك - طريقته الخاصّة في العلاج و تلامذة خاصّون يقوم بتعليمهم و تدريسهم كتاباً آخر وفق المنهج الذي اختطّه، يُضاف إلى ذلك مجيئه بالتلاميذ من أوّل العمل إلى مطبه و إراءتهم - عمليّاً - أنواع و أقسام الأمراض و طرق معالجتها و مقدار الدواء الموصوف لكلّ حالة؛ و قد بقي كتاب «القانون» يدرّس حتى السنين الأواخر لتلامذة الطبّ في اوروبّا.
فوائد علم الطبّ القديم و أضرار الطبّ الحاليّ
و لقد تغيّر الاسلوب اليوم، فجعلوا الأدوية عبارة عن موادّ كيميائيّة ذات صيغ و تركيبات خاصّة، و صيّروها بشكل أقراص أو حُقَن، لتكون سهلة الحمل و النقل، و للاستفادة منها بالمقادير المعيّنة حسب الحاجة من جهة، و لتكون أدوية جاهزة يمكن إيصالها أفضل و أسرع ليد المريض، و أكثر انسجاماً مع وضع التقدّم التَّقنيّ الحاكم على الدنيا حاليّاً من جهة ثانية، و ليمكن من جهة ثالثة تجزئة العقاقير للتخلّص من الموادّ المضرّة و السمّيّة الموجودة فيها و الحصول على الدواء الخاصّ المطلوب بتركيب و خلط النافعة لعدّة أنواع من الأدوية. و على الرغم من امتلاك هذه الطريقة للمنافع العديدة، إلّا أنّ لها أضرارها أيضاً.
أوّلًا: لأنّ الأدوية الصناعيّة تفسد و يعروها التلف بسرعة، و ينبغي اتخاذ تدابير خاصّة للمحافظة عليها من التلف لمدّة معيّنة، و تلك التدابير التي تتّخذ للدواء إمّا بواسطة عمل كيميائيّ أو عمل فيزيائيّ لن تبقى بدون تأثير في بدن المريض، حيث يسبّب الترسّب التدريجيّ للموادّ الضارّة، و ردّ فعل خلايا البدن لورودها سوق البدن تدريجيّاً للضعف؛ في حين أنّ الأدوية الطبيعيّة و الأعشاب الطبّيّة خالية من الضرر، و لا يعروها الفساد و التلف و تبقى مدّة طويلة.
و ثانياً: فاستعمال زرق الحُقَن - أي إدخال موادّ خارجيّة دفعةً واحدة في شريان القلب أو العضلة - سيسبّب إيجاد ردّ فعل غير مطلوب، إذ ينبغي لعموم الأغذية و الأدوية أن تدخل البدن من المجاري الطبيعيّة كالمعدة و الرئة.
و ثالثاً: فإنّ هذه المركّبات هي أدوية توصف لجميع أنحاء العالم بما فيها من مناطق باردة و حارّة و معتدلة، و لكلّ أنواع الأمزجة و لكلّ الأقوام بصفاتهم و أنواعهم المتباينة، فكما أنّ ملاحظة وضع الماء و الهواء و البيئة الجغرافيّة مؤثّرة في أصل صحّة الإنسان و طبيعته، فهي كذلك مؤثّرة في كيفيّة المعالجة و تعيين نوع الدواء.
و على هذا الأساس يقول ابن سينا في كتاب «القانون»:
وَ كُلٌّ يُدَاوَي عَلَى نَبْتِ بَلَدِهِ. أي ينبغي معالجة كلّ مريض بالأعشاب التي تنمو في بلده، لا بأعشاب بلد آخر.
و هذا الأمر قد جرت رعايته في الطبّ القديم، و كانت الأدوية التي يصفها الحكماء عبارة عن جذور العقاقير أو الأعشاب التي تؤخذ غالباً من نفس البلد أو البلاد المجاورة.
و رابعاً: فإنّ تلك الأدوية العشبيّة هي موادّ معلومة و مجرّبة، فهي
تؤخذ من النباتات أو الحيوانات المحلّلة كزيت السمك، أمّا الأدوية الكيميائيّة الحاليّة التي تُجلب من بلاد الإفرنج فلا ضابط و لا قيود هناك في عملية انتخابها؛ فهم هناك يعدّون الكلب و الخنزير و الضفدع و السرطان البحريّ و الأفعى و السحلية و العقرب و كلّ ما يتصوّره الإنسان محلّلة، فيأكلونه و يستخرجون أدويتهم منه ما صلح لذلك، من زيت سمك محرّم، أو معدة و كبد خنزير!!، و من غدّة بنكرياس كثير من الحيوانات المحرّمة، أو حتى من عصارة فضلات الكلب.۱
فحقن التستوفيرون (Testowiron) التي يصفونها لبعض أنواع الضعف الجنسيّ يستخرجونها من خصية القرد، لذا تكون غالية القيمة، كذلك فهم يعدّون الكحول و الخمر حلالًا، و يعدّونه في الصيدلة كأحد الموادّ الرئيسيّة.
أمّا الشرع الإسلاميّ المقدّس، فحين يعتبر هذه الموادّ حراماً، فليس ذلك فقط للأمر التعبّديّ، بل للأضرار الجسميّة و الروحيّة التي تنطوي عليها أيضاً. لذا نشاهد أنّ هذا النوع من المعالجات بالموادّ الكيميائيّة و تركيبات الموادّ الصناعيّة غير الطبيعيّة تخفِّض بشكل عامّ معدّل العمر الطبيعيّ للإنسان؛ أي أنّ تناول هذه الموادّ ينطوي على إدخال سموم و موادّ ضارّة إلى البدن، بالرغم من عدم تسبيبها للموت السريع الآنيّ دفعةً واحدة، إلّا أنّها تبعث نوعاً من الموت البطيء التدريجيّ؛ و يقال إنّ هذا النوع من الأدوية و المعالجات يخفِّض معدّل الأعمار الطبيعيّة بما يقرب من عشر سنوات.
يقول الدكتور الِكسيس كارل. و يجب من جهة اخرى أن نسأل أنفسنا: ألا يسبّب انخفاض إصابات الأطفال و الشباب و وفيّاتهم إشكالًا جديداً؟ فالأطفال العاجزين و المعوّقين تجري حمايتهم في المدينة الحديثة فلا يجري انتخاب الأصلح كما كان يحصل في السابق.
و إنّ أحداً لا يعلم أين سيؤول مستقبل نسل تجري حماية موجوداته العليلة و الناقصة بواسطة الموازين الطبّيّة و الصحّيّة. لكنّنا نواجه أمامنا مسألة معضلة اخرى يجب أن نجد لها حلًّا سريعاً، ففي الوقت الذي تزول فيه شيئاً فشيئاً أمراض الالتهابات كالجدري و الحصبة و الخناق و السلّ و الطاعون و الإسهال المعديّ للأطفال و غير ذلك من الأمراض، ممّا يقلّل من ميزان الخسارة في الأطفال، فإنّنا نلاحظ في المقابل أنّ عدد المصابين
بالأمراض النفسيّة يزداد يوماً بعد آخر، ففي بعض المناطق يزيد عدد المرضى المجانين في مستشفيات الأمراض العقليّة حتى على عدد جميع المرضى الآخرين الذين تجري معالجتهم.
و مضافاً إلى ذلك فإنّه ينبغي الاهتمام بمسألة زيادة الاختلالات و الأعراض العصبيّة، التي هي بنفسها أحد الأسباب الرئيسيّة لكآبة الأفراد و تشتّت العائلات، و التي تمثّل خطراً على مستقبل البشريّة و المدنيّة أهمّ بكثير من أمراض الالتهابات التي يخصّص الطبّ الحاليّ كلّ هذا الوقت و الجهد لدراستها و مكافحتها.۱
و الأمر اليوم شبيه أيضاً بالقرن السابق، فالرجل الذي عمره (٤٥) سنة لا يمتلك الأمل الكبير في أن يصل إلى سنّ الـ (۸۰) سنة، و مع أنّ متوسّط عمر الأفراد قد زاد بكثير على السابق إلّا أنّه يحتمل أن تكون الأعمار قد قصرت.٢
و تبعاً لهذا الأمر فإنّ الكثير من العلماء و الأجلّاء يتأسّفون لاندثار الطبّ إلى ونانيّ، فليس لدينا حاليّاً من اولئك الأطبّاء في إيران إلّا واحد أو اثنان،٣ و سيضيع بذهابهم تعليم هذا النوع من الطبّ و تتشتّت علومه، فقد
آل أمر هذه الطبابة بيد العطّارين و باعة الأعشاب الذين لا شأن لهم بالطبابة و لا مهارة، و لا تعود مراجعتهم على المريض المبتلى إلّا بالأذى و الخطر.
و يقال: إنّ هناك بعض الأطبّاء في ألمانيا يقومون بمعالجة المرضى حسب نهج الطبّ إلى ونانيّ فقط، و لهم صيدليّات خاصّة تباع فيها الأدوية التقليديّة القديمة و العقاقير، و تصرف فيها و صفاتهم الطبّيّة، فيضع أصحاب هذه الصيدليّات لافتات في واجهتها كُتب فيها.
Herbalist Medcine Shop.
لكنّ الأمر يختلف في أمريكا، فهناك توجد دكاكين تباع فيها الموادّ الغذائيّة الصحّيّة فقط، مثل ال - «آب نبات»۱ و الأعشاب و العقاقير و الأقراص و الأدوية التي لا يحتاج استعمالها إلى وصفة طبيب، و تعلو واجهاتها لافتات. (محل الموادّ الغذائيّة الصحّيّة) Health Food Shop ٢
و نحن الآن بانتظار ظهور طبابة و أطبّاء بهذه الكيفيّة، يمتلكون التخصّص و المهارة في ذلك الفنّ مضافاً إلى المزايا الإيجابيّة النافعة للطبّ العصريّ، كالعمليّات الجراحيّة و غيرها.
و يقال إنّ الطبّ الحديث يقوم على ثلاثة أركان. ابن سينا، العمليّات الجراحيّة، الترياق؛ و مع امتلاكنا بحمد الله و منه هذه الأركان الثلاثة فإنّ
بإمكاننا تأسيس دراسة الطبّ العالي الذي يمتلك ميزات الطبّ الحديث و يفتقد أضراره، ليمكن معالجة المرضى بالنحو الأحسن أوّلًا، و ليتمّ تخصّص الأطبّاء و نيلهم المهارة بشكل أفضل ثانياً.
أضرار الأجهزه الطبّيّه الحديثة على مهارة الطبيب
و من أضرار الطبّ الحالي هو عدم تنميته لفهم و شعور الأطبّاء الذين يقوم بتخريجهم؛ إذ لم يدع استعمال ميزان الحرارة (Thermometer) مجالًا للطبيب لأخذ نبض المريض و كيفية ضرباته التي كان الطبّ القديم يقسّمها إلى (٣٢) نوعاً من الضربات، يشخّص الأطبّاء من كيفيّة كلّ نوع من الضربات مرضاً خاصّاً في المريض المبتلى؛ و وصل الأمر إلى الحدّ الذي تمّ أخيراً اختراع جهاز يمكن بواسطته تشخيص الغدّة الواقعة في الرأس فوراً و تعيين محلّها، فيقوم معاونو الطبيب بهذا العمل قبل معاينة الطبيب، فيقدّمون المريض إلى الطبيب و بمعيّته وصف للغدّة و كيفيّتها. و بالرغم من مزيّة هذا العمل إلّا أنّ قوّة الابتكار و البحث و كيفيّة تشخيص الغدّة و العثور عليها، من الطرق المتعدّدة التي يسلكها الأطبّاء عادةً لذلك، ستنتفي بهذا العمل.
و خلاصة الأمر أنّه كلما اتّسعت دائرة اختراع و اكتشاف مثل هذه الأجهزة و الوسائل لتشخيص الأمراض، هبط معها بنسبة معكوسة قابليّة الأطبّاء و مهارتهم، و هذا الأمر بنفسه من الآفات التي تواجه الطبّ الحديث، لأنّه لا يربى أطبّاء حاذقين متمرّسين في تشخيص الأمراض، بل يجعل الأطبّاء أشبه بالمأمورين في ماكنة فيزيائيّة أو محرّك كهربائيّ لاستبدال المسامير اللولبيّة (البراغي) و الصامولات.
لقد كانت هذه هي الإجابة على الإشكال الثاني لمقولة صاحب المقالة، بسطنا القول فيها مجبرين لتتّضح أطرافها و جوانبها، و ذلك لتصبح عظمة علم الحكمة و الفلسفة الإسلاميّة واضحة مشهودة أوّلًا، و ليُبرهن على
حقارة الفلسفة الحديثة بما فيها من إلهيّاتها و طبيعيّاتها أمام تلك الفلسفة ثانياً:
الإشكال الثالث: أساس الحوزات العلميّة على القرآن و العرفان
و كان الإشكال الثالث هو: إظهاره الأسف لعدم تدريس الدروس الحديثة و العلوم التجريبيّة في الحوزات العلميّة، و عدم وجود تخصّص لدى الطلبة و الفقهاء و الفضلاء في علوم الطبيعة و العلوم البشريّة الحديثة كما ينبغي، و نورد هنا نصّ مقولته لتّتضح جوانب الإشكال فيها جيّداً.
لا يتكوّن أي فهم دينيّ بمعزل عن نظرة كونيّة دينيّة و مستقلّة مُسبقة، و لا يبقى أي فهم دينيّ أيضاً على وضعه السابق عند تغيّر تلك النظرة الكونيّة، لذا فإن أعطت فتوى العرب رائحة العرب، و أعطت فتوى العجم رائحة العجم فلا عجب في ذلك.
و معنى هذا الكلام أنّه بدون الاجتهاد في الاصول (و بالمعنى الأعمّ في علم الكلام و معرفة العالم و ...) فإنّ الاجتهاد في الفروع لن يكون متيسّراً أو ناجحاً و مفيداً. فالإنسان لا يمكنه النظر (و لا ينظر) في الدين بدون أن يكون له مبني و فلسفة نظريّة، و لن يعود النظر ينفع بدون تنقيح للمنظر؛ و ما يُفتح باب التحوّل و التغيّر في المبادئ فستبقى المسائل في منأى عن التغيير.
و لهذه الجهة فإنّ الإعراض، بل الجفاء الذي أولته و توليه حوزاتنا الدينيّة العلميّة للعلوم و المعارف الجديدة مثير للأسف و ليس له أبداً ما يبرّره، بحيث يتّخذ الدفاع معه عن الدين لون الدفاع عن النظرة الكونيّة و العلوم الإنسانيّة القديمة. لكأنّ الدين لا ينمو و لا يبقى في غير تلك الجغرافية المعيّنة، فلا وزن لعلم التأريخ (و هو المدخل، بل الأساس لدراسة العلوم الإنسانيّة) ليتّخذ مقام الصدارة، و لا شيء هناك من علم الطبيعة و العلوم الإنسانيّة و علم الاجتماع و علوم المعرفة الحديثة، بل لا زالوا يدرسون حتى يومنا هذا علم الأخلاق المعتمد على علم النفس
القديم.۱
و يلزم قبل الإجابة عليه أن نورد نصّ كلام استاذنا الأكرم العلّامة آية الله الطباطبائيّ قدّس الله سرّه، الذي أورده في كتابه النفيس «قرآن در اسلام» (=القرآن في الإسلام)، ثمّ نشرع في البحث.
القرآن الكريم هو الكتاب الوحيد الذي يساوي بين الحياة الإنسانيّة السعيدة و الحياة الفطريّة النزيهة أوّلًا، و هو بعكس جميع المناهج يجمع بين البرنامج الدينيّ و برنامج الحياة ثانياً؛ فله رأيه الخاصّ في جميع شؤون الفرد و المجتمع، و يصدر تعاليمه بما ينسجم مع النظرة الواقعيّة (معرفة الله تعالى - النظرة الكونيّة)، و في الحقيقة فإنّه يودع الأفراد بيدِ العالَم، و العالم بِيَد الأفراد، و يودعهما معاً بيد الله سبحانه.٢
و نشرع الآن في جوابه و الردّ عليه بالتفصيل:
ينبغي العلم أوّلًا: ما هو المراد من العلم الذي جرى التأكيد و الترغيب على تعلّمه في الإسلام و القرآن و الروايات المستفيضة، بل المتواترة في سنّة رسول الله و أئمّة الهدى عليهم صلوات الله؟
و ثانياً: على أي أساس من اسس التعليم و التربية وُضعت رسالة الحوزات العلميّة الدينيّة و واجباتها؟
و ثالثاً: ما هو الهدف الغائيّ لمثل هذه الحوزات؟ و ما هي المزايا و الخصوصيّات التي ينبغي توفّرها في الأفراد الذين يتخرّجون منها؟ و بعبارة اخرى. ما هو انتظار و توقّع القرآن، و رسول الله، و إمام الزمان
عجّل الله فرجه الشريف، و المسلمين الذين يدفعون بعرق الجبين و كدّ اليمين نفقات الحوزة من مصارف سهم الإمام؟۱
العلم الذي أوصى الإسلام بتعلّمه
أمّا البحث عن المسألة الاولى و هي المراد من العلم الذي عُدّ من أهمّ الفرائض، و الذي أكّد عليه رسول الله إلى ذلك الحدّ، فقال لربيبه الوحيد و وصيّه بلا فصل و خليفته في الأرض:
يَا عَلِيُّ! إذَا رَأيْتَ النَّاسَ يَتَقَرَّبُونَ إلى خَالِقِهمْ بِأنْوَاعِ البِرِّ، تَقَرَّبْ إليه بِأنْوَاعِ العَقْلِ تَسْبِقْهُمْ!٢
هل المراد منه جميع العلوم الحديثة: الفيزياء و الكيمياء و الطبيعيّات و الرياضيّات و الطبّ و الطبّ البيطريّ و الزراعة و تربية الدواجن، أم المراد منه علم خاصّ حثّ عليه و أكّد على تعلّمه؟
وجوب تحصيل العلوم الأهمّ و ترك العلوم المهمّه لضرورات ضيق
ممّا لا ريب فيه أنّ دائرة العلوم قد اتّسعت إلى حدّ كبير و هائل، و أنّ فرصة تعلّمها و اكتسابها من قبل الإنسان ضئيلة و محدودة جدّاً؛ فلو صرف الإنسان جميع عمره في اكتساب فنٍّ واحد، للدرجة التي يطّلع فيها عليه تحقيقاً و يصبح استاذاً أخصّائيّاً فيه، فلا ضامن له في وصوله للإحاطة التامّة بجميع أطرافه و جوانبه و دقائقه، فضلًا عن أن يحاول التخصّص في فنّين أو أكثر.
لذا فإنّ على الإنسان أن يوازن بين مدّة عمره الصالحة للتعلّم، و بين احتياجه من ذلك العلم النافع الذي يرغب في اكتسابه، فيصرف الساعات و الأيّام في تعلّمه ليحصل على الغاية التي يتوخّاها؛۱ أمّا لو جدّ الإنسان و اجتهد، فاكتسب بالمشاقّ و المتاعب و السهر العلومَ المختلفة التي لا تنفعه، فلن يكون نصيبه إلّا الوبال و الخسران و الندم، فتكون حاله كمن قضى العمر ببناء البيوت و العمارات الكثيرة على أمل أن يُعمَّر، و كلّما فرغ من عمارة لم يستفد منها و لم يسكن فيها، بل شدّة الأمل و الحرص يدفعانه إلى بناء بناية اخرى، حتى يأتيه الموت فجأة فيخطفه، لا مَالًا حَمَلَ وَ لا بناءً نَقَلَ.٢
مَا حَوَي العِلْمَ جَمِيعاً أحَدٌ | *** | لَا وَلَوْ مَارَسَهُ ألْفَ سَنَة |
إنَّمَا العِلْمُ بَعِيداً غَوْرُعه | *** | فَخُذُوا مِنْ كُلِّ شَيءٍ أحْسَنَه |
و هكذا شأن هذا الرجل الذي تعلّم العلم لكنّه رحل عن الدنيا و لم يجن من عمله إلّا الضرر و الخسران، فلقد أضاع بإرادته و اختياره عمره الشريف الذي يعدّ أثمن رأسمال له، و خسر حياته الحاضرة بلا عوض، و كان في هذا الدنيا التي تعدّ محلّ اكتساب العلم النافع و تحصيل العقل الكامل و التجرّد الخالص مسربلًا بمسكنة العلم، صفر اليدين من الكمالات النفسيّة، حتى رُحّل عنها حائراً ذليلًا و سيق إلى سرادق النور بأعين عمياء و آذان صمّاء.
لذا فقد كان خاتم الرسل، النبيّ الأكرم صلّى الله عليه و آله و سلّم يستعيذ بالله من علومٍ غير نافعة كهذه، فيدعو ربّه و يسأل حاجته من ساحة قُدسه: اللَهُمَّ إنِّي أعُوذُ بِكَ مِنْ عِلْمٍ لَا يَنْفَعُ.۱
و قد أشار معجزة رسول الله الباقية. القرآن الكريم إلى هذه النكتة الدقيقة و نبّهنا إليها حيث يقول:
فَبَشِّرْ عِبادِ ، الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ وَ أُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ.۱
و يقول سيّد الوصيّين أميرالمؤمنين عليه السلام: العِلْمُ كَثِيرٌ فَخُذُوا مِنْ كُلِّ شَيءٍ أحْسَنَهُ.٢
و يقول أيضاً في وصيّته للإمام الحسن عليهالسلام: فَإنَّ خَيْرَ القَوْلِ مَا نَفَعَ. وَ اعْلَمْ أنَّهُ لَا خَيْرَ في عِلْمٍ لَا يَنْفَعُ؛ وَ لَا يُنْتَفَعُ بِعِلْمٍ لَا يَحِقُّ تَعَلُّمُهُ.٣
و للراغب الأصفهانيّ كلام في هذا المقام يستحقّ المدح، فهو يقول:
مَن كان قصده الوصول إلى جوار الله و التوجّه نحوه، كما قال تعالى: فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ؛٤ و كما أشار إليه النبيّ الأكرم صلّى الله عليه و آله و سلّم
بقوله: سَافِرُوا تَغْنَمُوا، فحقّه أن يجعل أنواع العلوم كزادٍ موضوع في منازل السفر، فيتناول من كلّ منزل قدر البلغة و لا يعرج على تقصّيه و استغراق ما فيه، فإنّه لو قضى الإنسان جميع عمره في فنّ واحد لم يدرك قعره و لم يسبر غوره.۱
و يقول كذلك: العلم أكثر من أن يحوي فخذوا من كل شيء أحسنه!٢
وَ قِيلَ. حَلِّ طَبْعَكَ بِالعُيُونِ وَ القَفْرِ؛ فَالشَّجَرَةُ لَا يَشِينُهَا قِلَّةُ الحَمْلِ إذَا كَانَتْ ثَمَرَتُهَا نَافِعَةً.٣
وَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا. العِلْمُ كَثِيرٌ فَارْعَوْا أحْسَنَهُ؛ أمَا سَمِعْتُمْ قَوْلَ اللهِ تعالى: «فَبَشِّرْ عِبادِ ، الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ»؟٤
قَالَ الشَّاعِرُ:
قَالُوا:
خُذِ العَيْنَ مِنْ كُلٍّ فَقُلْتُ لَهُمْ | *** | في العَيْنِ فَضْلٌ وَلَكِنَّ نَاظِرَ العَيْنِ أفْضَلُ۱ |
و قيل كذلك: قِيلَ: ازْدِحَامُ العِلْمِ في السَّمْعِ مَضَلَّةٌ لِلْفَهْمِ.
وَ قِيلَ: إذَا رَأيْتُمْ رَجُلًا يُرِيدُ تَعَلُّمَ أنْوَاعِ العُلُومِ فَدَاوُوهُ.٢
وَ قِيلَ: مَنْ رَامَ أنْ يَنْتَحِلَ فُنُونَ العِلْمِ اسْتَخَفَّ بِنَحِيزَتِهِ وَ وَقَفَ النَّاسَ عَلَى غَمِيزَتِهِ؛ قَالَ الشَّاعِرُ.
تَعَلَّمْتَ حتى مِنْ كِلَابٍ عَواءَهَا | *** | لَعَمْرِي لَقَدْ أسْرَفْتَ في طَلَبِ العِلْمِ٣ |
و من العجب أنّ نفس هذا المطلب قد نقل عن أينشتَين، و ليس معلوماً أكان ذلك مجرّد توارد خواطر، أم أنّ أينشتَين قد نقل عن كتاب الراغب؟
يقول أينشتَين: إنّ الإفراط في القراءة يسلب قوّة الابتكار من العقل بعد بلوغ سنّ معيّنة؛ فمن أفرط في القراءة و أقلّ من اعتماده على فكره فإنّ
فكره سيصاب بالخمول و العجز.۱
و قد أورد ابن أبي الحديد في آخر «شرح نهج البلاغة» كلمات قصار لأميرالمؤمنين عليه السلام غير تلك التي في «النهج»، من جملتها:
٦۰ - العُمْرُ أقْصَرُ مِنْ أنْ تَعَلَّمَ كُلَّ مَا يَحْسُنُ بِكَ عِلْمُهُ. فَتَعَلَّمِ الأهَمَّ فَالأهَمَّ.٢
و نلحظ أنّ الإمام عليهالسلام ينبّه على مطلب أسمى و أدقّ، و هو أنّ ليس على الإنسان أن لا يضنّ و يبخل بعمره عن إهدار عمره في اكتساب العلوم الغير نافعة فحسب، بل عليه أيضاً مراعاة الأهمّيّة في سعيه لاكتساب العلوم المقبولة النافعة، فيقدّم الأهمّ على المهمّ حسب الأولويّة؛ أي أن يقلّل الاشتغال بالامور الدنيويّة ليحصل على حصّة و سهم أوفر لتحصيل العلوم الاخرويّة و المعنويّة و الروحيّة، و قد حكى في «سفينة البحار» مقولة بديعة عن بعض الأفاضل:
قال الله تعالى: ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ.
وَ الفِكْرَةُ مَتَى تَوَزَّعَتْ تَكُونُ كَجَدْوَلٍ تَفَرَّقَ مَاؤُهُ. فَيَنْشَفُهُ الجَوُّ وَ تَشْرَبُهُ الأرْضُ فَلَا يَقَعُ بِهِ نَفْعٌ، وَ إذَا جُمِعَ بَلَغَ بِهِ المَزْرَعُ فَانْتَفَعَ بِهِ.٣
و علينا الآن أن نرى أ يّ علم نافع من هذه العلوم رُغبّ في اكتسابه و شُجّع على تعلّمه من قبل الشارع الأكرم فعُدّ من أهمّها؟
أيّ علم قال عنه رسول الله: اطْلُبُوا العِلْمَ مِنَ المَهْدِ إلى اللَّحْدِ.۱
ذاك الذي قال عنه رسول الله: اطْلُبُوا العِلْمَ وَلَوْ بِالصِّينِ.٢
و فرضَ طلبه على الناس بقوله: طَلَبُ العِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ.٣
المراد من العلم النافع، و العلم الذي يرغِّب به الشارع
روى محمّد بن يعقوب الكلينيّ عن محمّد بن الحسن و علي بن محمّد، عن سهل بن زياد، عن محمّد بن عيسى، عن عُبيدالله بن عبدالله الدهقان، عن دُرُسْت الواسطيّ، عن إبراهيم بن عبدالحميد، عن أبي الحسن موسى الكاظم عليهالسلام أنّه قال:
دَخَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ [وَ آلِهِ] وَ سَلَّمَ المَسْجِدَ؛ فَإذَا جَمَاعَةٌ قَدْ أطَافُوا بِرَجُلٍ، فَقَالَ: مَا هَذَا؟ فَقِيلَ: عَلَّامَةٌ. فَقَالَ: وَ مَا العَلَّامَةُ؟!
فَقَالُوا لَهُ: أعْلَمُ النَّاسِ بِأنْسَابِ العَرَبِ وَ وَقَائِعِهَا، وَ أيَّامِ الجَاهِلِيَّةِ وَ الأشْعَارِ العَرَبِيَّةِ.
قَالَ: فَقَالَ النَّبي صَلَّى اللهُ عَليهِ [و آلِهِ] وَ سَلَّمَ: ذَاكَ عِلْمٌ لَا يَضُرُّ مَنْ جَهِلَهُ، وَ لَا يَنْفَعُ مَنْ عَلِمَهُ.
ثُمَّ قَالَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَليهِ [و آلِهِ] وَ سَلَّمَ: إنَّمَا العِلْمُ ثَلَاثَةٌ. آيَةٌ مُحْكَمَةٌ، أوْ فَرِيضَةٌ عَادِلَةٌ، أوْ سُنَّةٌ قَائِمَةٌ؛ وَ مَا خَلَاهُنَّ فَهُوَ فَضْلٌ.۱
و يقول المجلسيّ رضوان الله عليه في «مرآة العقول» في شرح هذا الحديث. قوله صلّى الله عليه و آله مَا هَذَا؟. و لم يقل. مَنْ هَذَا تحقيراً أو إهانةً أو تأديباً له. و قوله صلّى الله عليه وآله: وَ مَا العَلَّامَةُ؟ أي ما حقيقة علمه الذي به اتّصف بكونه علّامة؟ و هو أي نوع من أنواع العلّامة؟ و التنوّع باعتبار أنواع صفة العلم، و الحاصل. ما معنى العلّامة الذي قُلتم و أطلقتم عليه؟
ثم يشرع المجلسيّ في شرح معنى هذه الامور الثلاثة، و يقول في حاصلها .... أو أنّ المراد بالآية المحكمة البراهين العقليّة المستنبطة من القرآن على اصول الدين، فإنها محكمة لا تزول بالشكوك و الشبهات؛ و بالفريضة ساير الأحكام الواجبة، و بالسنّة الأحكام المستحبّة سواءً أخذنا
من القرآن أو من غيره، لأنّها محكمة تقابل المتشابه؛ و يقال للآية محكمة إذا كانت واضحة الدلالة على المراد و لا تحتاج في دلالتها إلى تأويل، فالعقائد و الاصول التي تتّصف بهذه الصفة تكون محكمة و راسخة؛ و أمّا العلّة في وصف الفريضة بالعادلة، لأنّها اخذت من الكتاب و السُّنّة بلا إفراط و لا تفريط.۱
فالمراد من هذه العبارات هو العلم بعقائد الدين و اصوله الحاصلة باليقين، و العلم بالواجبات و الفرائض، و العلم بالمستحبّات، و ما خلا هذه العلوم الثلاثة ففضل و زيادة لا حاجة إليها.
أشرف العلوم و أفضلها، علم معرفة الله تعالي
فالعلم باصول الدين و التوحيد و المعارف الإلهيّة يوجب حياة النفس الإنسانيّة، و العلم بالواجبات و المستحبّات بما فيها من العبادات و المعاملات و الإيقاعات و الأحكام و السياسات يوجب العمل الصحيح لإيصال الإنسان للمعارف الحقيقيّة و هو أمر ضروريّ لكلّ بشر.
أمّا أصناف العلوم التي لا ينبغي عدّها علوماً فهي الفنون التي دعتها الرواية فضلًا و زيادة، لا فضيلةً، إذ الفضيلة تتضمّن قدراً من الكمال.
و هذا العلم الواجب هو الذي اعتبره القرآن الكريم الغاية من خلق السماوات السبع و الأرضين السبع و تنزّل أمر الله بينهنّ:
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَ مِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً.۱
و هو العلم النافع الذي عدّه أميرالمؤمنين عليهالسلام في خطبة همّام من جملة صفات المتّقين: وَ وَقَفُوا أسْمَاعَهُمْ عَلَى العِلْمِ النَّافِعِ لَهُمْ.٢
و يستنتج ممّا قيل أنّ أشرف العلوم هو علم بناء الإنسان:
وَ قَدِ اتَّفَقَ العُلَمَاءُ أنَّ شَرَفَ كُلِّ عِلْمٍ بِشَرَفِ المَعْلُومِ. وَ كلُّ عِلْمٍ
يَكُونُ مَعْلُومُهُ أشْرَفُ المَعْلُومَاتِ يَكُونُ ذَلِكَ العِلْمُ أشْرَفَ العُلُومِ.
فَأشْرَفُ العُلُومِ العِلْمُ الإلَهِيُّ، لأنَّ مَعْلُومَهُ وَ هُوَ اللهُ أشْرَفُ المَوْجُودَاتِ.
يقول الخواجة شمس الدين محمّد حافظ الشيرازيّ:
اي دل به هرزه، دانش و عمرت به باد رفت | *** | صد مايه داشتي و نكردي كفايتي۱ |
و يقول الحكيم ميرفندرسكي في قصيدته الحكميّة المعروفة:
هر چه بيرون است از ذاتت نيايد سودمند | *** | خويش را كن ساز اگر امروز اگر فرداستي٢ |
و ما أبدع بيان الحكيم السنائيّ حين يقول:
اي هواهاي تو هوي أنگيز | *** | وي خدايان تو خدا آزار٣ |
چرخ با اين اختران، نغز و خوش و زيباستي | *** | صورتي در زير دارد آنچه در بالاستي |
صورت زيرين اگر با نردبان معرفت | *** | بر رود بالا همان با اصل خود يكتاستي |
ره رها كردهاي از آني گم | *** | عزّ ندانستهاي از آني خوار |
علم كز تو تو را نه بستاند | *** | جهل از آن علم به بود صد بار |
غول باشد نه عالم آنكه ازو | *** | بشنوي گفت و نشنوي كردار |
دِه بود آن نه دِل كه اندر وي | *** | گاو و خر باشد و ضياع و عقار |
كي در آيد فرشته تا نكني | *** | سگ ز در دور و صورت از ديوار؟ |
أفسري كان نه دين نهد بر سر | *** | خواهَش أفسر شمار و خواه أفسار |
قائد و سائقِ صراط الله | *** | به ز قرآن مدان و به ز أخبار۱ |
و كم هو جميل و وافٍ و متسامٍ شعر العارف الروميّ الملّا جلال الدين البلخيّ حيث يقول:
او ز حيوانها فزونتر جان كند | *** | در جهان باريك كاريها كند |
مكر و تلبيسي كه او تاند تنيد | *** | آن ز حيوان دگر نايد پديد۱ |
جامههاي زركشي را بافتن | *** | دُرّها از قعر دريا يافتن |
خرده كاريهاي علم هندسه | *** | يا نجوم و علم و طبّ و فلسفه |
كان تعلّق با همين دنييستش | *** | ره به هفتم آسمان بر نيستش |
اين همه علم بناي آخور است | *** | كه عِمادِ بود گاو و اشتر است |
بهر استبقاي حيوان چند روز | *** | نام آن كردند اين گيجان رموز |
علم راه حقّ و علم منزلش | *** | صاحب دل داند آن را با دلش٢ |
فالعلوم الطبيعيّة و المعارف التجريبيّة تعُدّ لهذا جزءاً من العلوم الدنيويّة لا العلوم الإنسانيّة، إذ ليس من شأنها صناعة و بناء الإنسان بالرغم
من كون بعضها مفيداً للبشر، لكنّ هذه الفائدة تنحصر في بدنه و طبيعته، كالعلوم التي تمتلكها الحيوانات فتستفيد منها لإدامة حياتها.
فكلّ حيوان يعلم ماذا ينبغي أن يأكل، و ماذا ينبغي له أن يصطاد، و كيف يتوارى عن أعدائه، و كيف يتناسل للحفاظ على بقاء نوعه؛ فهذه العلوم ليست علوماً عقليّة، بل هي علوم حسّيّة مدبّرها القوى الخياليّة الموجودة في جميع الحيوانات.
فالإنسان الذي ينحصر همّه و سعيه في الحصول على العلاقات المادّيّة و حلّ المسائل الرياضيّة و التحقيق المعمّق في الفيزياء و الكيمياء و الفيزياء الكيميائيّة و علوم الحياة و الاجتماع و الطبّ، من أجل تأمين صحّته و المحافظة على سلامة بدنه، فيجول لأجلها البلدان و يطوي القارّات، و يذهب إلى الجامعات فيستفيد من علومها و مكتباتها؛ إنّما يسعى وراء العلوم الخياليّة التي تشاركه الحيوانات في امتلاكها؛ و تغيير مستوى و كيفيّة هذه العلوم لدى الإنسان لن يغيّر حقيقته و لن يميّزه عن صفّ الحيوانات.۱
و باعتبار أنّ هدف و غاية هذه العلوم ليس كمال الإنسان و نفسه الناطقة، فيمكن تسميتها جميعاً بعلوم البطن و المعلف،٢ كما صرّح ذلك
مولانا في الأبيات السابقة؛ و يقول كذلك:
علمهاي أهل حسّ شد پوزبند | *** | تا نگيرد شير ز آن علم بلند۱ |
و قد أثار الإعجاب حقّاً في هذا البيت لما فيه من حسن بيان و طراوة و جزالة معنى، فأعطى الموضوع حقّه بشكل رائع.
يقول: كما أنّهم يضعون على فم العجل و صغار الأغنام كمّامة تمنعها رضاع امّهاتها، فإنّ العلوم التي يكتسبها الناس لأجل الدنيا، و التي لا أثر لها في تكامل و رقيّ أنفسهم و لا في تحرير البشر من رقّ عبوديّة المادّة و الطبيعة، و سَوْقه إلى العالم الواسع الفسيح للتجرّد و التقرّب و عرفان المعبود، هي كذلك كمّامات وُضعت على الأفكار و الآراء و العقول لتحدّها و تمنعها و تكبحها عن الانطلاق و الاستفادة من المعارف الحقيقيّة و العلوم
السرمديّة، و ارتضاع ماء الحياة المعنويّة و لبن العلوم الحقيقيّة، و تصدّها عن الانكباب حتى الارتواء على ثدي علوم العالم العلويّ التي تتكفّل ببناء الإنسان و تربية البشريّة.
التوسّع في العلوم التجريبيّة بدون الارتباط بالله تصبّ في ضرر البشريّة
و حريٌّ هنا ذرف الدموع علي الحظّ التعس لأمثال لافوازيه و نيوتن و أينشتَين و من جاراهم، و على جميع أتباع مدرسته و مدّاحيه؛ البكاء عليهم فيمَ صرفوا أعمارهم و أهدروها، و أي نفع من الإنسانيّة اكتسبوه؟
و مضافاً إلى ذلك فلم يقدّر لهذه الاكتشافات أن تعود على الإنسانيّة بنفع، بل كانت سبباً لإيقاع الضرر بها؛ فلم ينسَ أهالي طهران بعد تلك الأصوات المهيبة المفزعة، و الخرائب و الحرائق و اهتزاز الأرض تحت أقدامهم لأكثر من شهر جرّاء الصواريخ التي صبّها عليهم النظام العراقيّ، و التي بلغ عددها المائتي صاروخ!! فما الذي مثّلته هذه الصواريخ غير قانون لافوازيه و القانون الأوّل الثرموديناميكيّ، و الحسابات الدقيقة لجاذبيّة نيوتن، و تصحيح نسبيّة أينشتَين؟
لقد أظهر أينشتَين أسفه على ما اخترعه في آخر سنيّ حياته في المؤتمر الذي كُرِّس لتعظيمه في أمريكا، و قال:
لم يكن ليخطر ببالي أنّ الدول الظالمة ستسيء الاستفادة من هذا الاكتشاف إلى هذا الحدّ، فيصنعون من فلق الذرّة الصواريخ العابرة للقارّات و يسحقون بها المرأة و الطفل و الرجل العجوز فيدفنونهم تحت أطنان الأنقاض و يجعلونهم طعمة للحرائق.
لقد كانت هذه النتائج السيّئة هي الأشياء التي تحقّقت في حياته، ناهيك عمّا تحقّق بعد وفاته.۱
باش تا صبح دولتت بدمد | *** | كاين هنوز از نتايج سحر است۱ |
و نرى من المناسب أن نورد مطلباً نقلًا عن الدكتور كارل، هذا الرجل الأجنبيّ المسيحيّ الملتزم الذي لازم الصواب في الكثير من المطالب، فهو يرى رأي العين أنّ هذه المدنيّة العجيبة لم تقدّم من هديّة للمجتمع البشريّ إلّا المتاعب و المشكلات و إهدار الطاقات الإنسانيّة؛ يقول:
لو كان غاليلو،٢ و نيوتن،٣ و لافوازيه،٤ قد صرفوا قواهم الفكريّة في المطالعة بشأن بدن الإنسان و روحه، فلربّما اختلفت دنيانا اليوم عن أمسها.
يجهل رجال العلم و أتباع طريق الفكر ما ستؤول إليه أبحاثهم ابتداءً، و ما هي النتائج التي سيحصلون عليها، و ما يسوقهم في مسيرتهم هو الصدفة و التعقّل و بعض وضوح البصيرة.
لكأنّ كلًّا منهم له عالمه الخاصّ الذي يُدار بقوانينه الخاصّة، فهم يرون أحياناً بوضوح المسائل التي تبدو لغيرهم غامضة عويصة؛ و عموماً فقد جاءت اكتشافاتهم دون أي تصوّر مسبق لعواقبها و نتائجها، ولكنّ النتائج هي التي عكست صورتها عمليّاً على المدنيّة الحديثة.
لقد اخترنا و انتقينا من بين الاكتشافات العلميّة الكثيرة، لكنّنا لم نُعنَ
في اختيارنا أو نلحظ المصالح السامية للإنسانيّة، بل تبعنا فقط منحدر رغباتنا و هوسنا، و كان همّنا الدائميّ الربح الأوفر بالجهد الأقلّ و السرعة في العمل و تلوّن الحياة و تنوّعها.۱
نعم. كانت هذه المطالب في شأن العلم و حقيقته، و الفرق بين العلم و الفنّ، و بين العلوم الحقيقيّة و التصوّرات الحسّيّة و الوهميّة و الخياليّة؛ و عظمة العلم الحقيقيّ و حقارة العلوم و التصوّرات الحسّيّة و الوهميّة و الخياليّة. و قيمة الإسلام و القرآن في العلوم الأصيلة لا العلوم الحسّيّة و الخياليّة.
علّة تشكيل الحوزات العلميّة، الوصول للأهداف القرآنيّة السامية
و أمّا المطلب الثاني، و هو الأساس الذي شكّلت عليه الحوزات العلميّة الدينيّة، فالمقصود بالحوزة العلميّة. الدراسة العلميّة و العمليّة
للقرآن الكريم، و فهم القرآن و العمل به.
و لتحقّق هذا الهدف يجب اكتساب علوم المعارف بالمستوى الرفيع، و اكتساب العقائد و الأخلاق بالمستوى الجيّد اللائق؛ و ينبغي - وصولًا لذلك - الاستعانة بعلم تفسير القرآن، و الحديث، و الدراية، و الرجال.
إنّ سبيل الوصول للعلم الصحيح و العمل الصحيح هو علم الفقه، و من لوازمه علم الاصول و الكلام و الحكمة و العرفان؛ و لا تتحقّق هذه المعاني إلّا حين يكون لدينا فهم و اطّلاع كامل و صحيح بلسان القرآن و لسان النبيّ الأكرم و أوصيائه الكرام عليهم الصلاة و السلام، و الوقوف على السيرة و السنّة و الاسلوب العلميّ و العمليّ لهم.
لذا، ينبغي أن نمتلك اطّلاعاً واسعاً على علوم العربيّة و آدابها من الصرف و النحو و اللغة و الاشتقاق و المعاني و البيان و البديع و المحاورات النثريّة و الشعريّة، و عن سيرتها و تأريخها؛ و هذه الفروع السابقة بأجمعها مهمّة جدّاً، و لابدّ أن يلمّ بها المرء جميعها بشكل جيّد ليمكنه من الوصول إلى الاجتهاد الصحيح، و إلّا فالنتيجة تتبع أخسّ المقدّمتين، و سيصبح عملًا مقلِّداً بالرغم من ادّعائه الاجتهاد.
لقد كان لكلٍّ واحد من علمائنا الأجلّاء من صدر الإسلام و حتى يومنا هذا مقامه في عالم العقل و العلم و الدراية، فقد نشأوا في هذه الحوزات و أناروا مساحات واسعة بأنوارهم - في حياتهم و بعد مماتهم - ولكي يصبح الطالب عالماً أو أخصّائيّاً في العلوم التي ذكرناها فعليه بالجدّ الدؤوب. و على ذي الفهم و الاستعداد و الذكاء الجيّد و القوى الفكريّة و الذاكرة الجيّدة أن يقضي عمراً لينال هذه الدرجة بشغف و رغبة و قّادة للتعلّم، و بالصبر و الثبات أمام المشكلات، و بالتوجّه إلى الله تعالى و الاستعانة بفيوضاته الربّانيّة.
على الطالب أن يحلّق بجناحَي العلم و العمل و يسمو على الدنيا الدنيّة الفانية، و أن يخنق في المهد حبّ الرئاسة و السيادة و الاستعلاء في كيانه، و أن يدير ظهره لجميع الاعتباريّات و التعيّنات المانعة من وصول الغاية، ليصل بحول الله و قوّته لتلك التطلّعات.
على أنّ أفراداً قلائل من بين عشرات و مئات الطلبة سيمكنهم طيّ هذا الطريق إلى نهايته و الفوز بالجامعيّة و الكمال.
كما ينبغي لمدارس العلوم الدينيّة أن تكون بعيدة عن الضوضاء و الصخب و جلبة الأسواق و طلّاب الدنيا، و بعيدة عن مظاهر الحياة و ظواهرها و ترفها و عن النزوع إلى الراحة و قضاء الوقت، ليتيسّر للطلبة أجواء دراسيّة مناسبة.
و قد اختاروا لهذه الأسباب مدن النجف الأشرف و كربلاء المقدّسة و الكاظميّة و سامراء و مشهد المقدّسة و قم المقدّسة لتُقام فيها مثل هذه المدارس، و سعوا أن تكون قريبة من الصحن المطهّر ليمكن للطلبة، بقربهم من المركز المعنويّ و الروحيّ، أن يستمدّوا الفيض منه بنحو أفضل.
و في الحقيقة فإنّ من يسعى لتكون دراسته أساسيّة و اصوليّة متينة، لن يمتلك في اليوم الكامل فراغاً لخمس دقائق يُطالع فيها الكتب الخارجة عن متن الدروس أو ينشغل بأعمال اخرى، و إلّا صار درسه سطحيّاً و مهزوزاً غير أصيل.
لذا فلن يكون من عوائد إدخال دروس جديدة في الحوزة العلميّة أو ضمّ الفلسفة الغربيّة إلى الحكمة الإسلاميّة الأصيلة إلّا الضرر و الفساد.
فمن أين يتأتى لهذا الطالب الذي لا يكاد وقته يسعه لدروس المتن، أن يهتمّ في هذه الدروس الإضافيّة؟! الدروس التي صيغت على أساس
التخيّلات و التصوّرات مقابل الأفكار الحقّة الواقعيّة، و التي لا تمتلك من المعنويّات إلّا قليلًا؟
و سيبقى الطالب في هذه الحال لا ظهراً أبقى و لا أرضاً قطع، و ستؤول علومه حفظاً سطحيّاً لا ثراء فيه؛ و عندها ستعجز الحوزات عن إنجاب العلماء المحقّقين، و عن تربية و تنشئة الأساطين، كما هي الحال فعلًا في الجامعات، التي نرى عدم تنشئتها للمحقّقين من ذوي الخبرة و البصيرة، فأيّة خسارة عظيمة هذه!! و أنّ كبار المحقّقين المقتدرين، الذين كان كلٌّ منهم مفخرة من مفاخر الإسلام، و ممّن سطعت أنوارهم في عالم التشيّع في الفترة الأخيرة، كالشيخ جواد البلاغيّ النجفيّ، و السيّد شرف الدين من جبل عامل، و السيّد محسن العاملي، و العلّامة الشيخ عبدالحسين الأمينيّ، و العلّامة الشيخ آغا بزرك الطهرانيّ، و المحدِّث الكبير الشيخ عبّاس القمّيّ، و سماحة استاذنا آية الله العلّامة الطباطبائيّ قدّس الله أسرارهم جميعاً، قد كانوا ممّن تربّوا في هذه الحوزات، و كانوا أصحاب نظر و تحقيق في الفنون و العلوم التي برعوا فيها.
و كان العلّامة الطباطبائيّ محقّقاً عظيماً و صاحب نظر في الفقه و التفسير و الفلسفة، و كان يناقش آراء السابقين و يحقّق فيها، ثمّ يبدي نظره الخاصّ. و كان ينظر إلى كتاب «الحكمة المتعالية» للملّا صدرا باحترام و إجلال، لكنّه - مع كلّ ذلك - كان يرفض بعض ما فيه و يعطي نظرته تجاهه. أمّا أساتذة الجامعات الذين انصرفوا إلى ترجمة كتب الأجانب و من ثمّ تدريسها للطلاب، فهل شاهدتم فيهم استاذاً قد أجرى تحقيقاً في تلك المطالب، و توصّل إلى اكتشاف ما؟ و هل شاهدتم فيهم من كان له في مجال الطبّ رأياً خاصّاً يخالف آراء تلك الكتب؟ أو هل شاهدتم أحداً يبدي رأيه في الفيزياء بخصوص قاعدة نيوتن للجاذبيّة؟ أو
يعترض على آراء أينشتَين؟ أو يتوصّل إلى اكتشاف بديع أو اختراع جديد في العلوم الطبيعيّة و الحياتيّة؟ أبداً، أبداً! فليس في الجامعة من حديث عن اكتشاف أو اختراع جديد أو متابعة لهذه الامور، بل ينحصر الكلام في قاعات الدرس في بيان اختراعات الأجانب و اكتشافاتهم و الحديث عنها يوميّاً.
لا نريد أن نقول: إنّ إيران خالية من النبوغ و التحقيق، فهي مشحونة بذلك أكثر من غيرها، إذ ألم يكن أمثال أبي ريحان البيرونيّ و زكريّا الرازيّ و ابن سينا و العلّامة الطباطبائيّ إيرانيّين؟ بل نريد القول بأنّ الاستعمار في حالة تأهّب و لا يريد للجامعات أن تربّي طلبة محقّقين، و لذلك فقد وضع اسلوب تعليم و تعلّم و تربية الأساتذة في الجامعات الأجنبيّة على نحو لا يربّي محقّقين ذوي نظرة مستقلّة، و لهذا السبب، فقد اكتفى بهذه الدروس السطحيّة المحفوظة التي تعتمد على ترجمة الكتب الأجنبيّة.
لقد عمد الاستعمار؛ من أجل دحر حركة العلم و التحقيق إلى فتح الجامعات في مقابل المدارس العلميّة، و عمد في محاولته لاقتلاع جذور التحقيق إلى إغلاق المدارس العلميّة من جهة، و إلى إشغال طلبة الجامعات بحفظ الصيغ و كتابة الكرّاسات على أيدي أساتذة غير أخصّائيّين، بهدف الحصول على الشهادة الجامعيّة لا أكثر، و قد اسّس أمثال كلّيّات الآداب و الإلهيّات و الفلسفة و معهد التعليم العالي بهدف تخريب الحوزات وصولًا إلى صرف الشباب عنها، و السيطرة الفكريّة عليهم و تغذيتهم بالأفكار المنحرفة تحت غطاء الفلسفة و الأدب الإيرانيّ، و سوق أفكارهم بعيداً عن أصالة القرآن و الإسلام إلى النزعات القوميّة و الوطنيّة و حبّ إيران باسم مواجهة العرب، و ليس هذا في الواقع إلّا مواجهة للإسلام.
و لقد أسّسوا كلّيّة باسم كلّيّة الوعظ و الخطابة لتخريج علماء تابعين للنظام مؤتمرين بأمره، ثمّ سمّوها كلّيّة المعقول و المنقول، و منعوا الكلامَ من على المنابر لغير علماء هذه الكلّيّة، ثمّ رأوا انتفاء الحاجة إلى المعقول و المنقول بعد تشكيل كلّيّة الإلهيّات و الفلسفة فعمدوا إلى إلغائها.
فماذا يُنتظر من كلّيّة الإلهيّات و الفلسفة حين يُسمح لأساتذتها و إن كانوا من الشيوعيّين و الاشتراكيّين و الماركسيّين؟ فالشرط الوحيد الذي كان يشترط في هؤلاء المدرّسين أن لا يكونوا مسلمين حقيقيّين ملتزمين!
و ندرك هنا جيّداً كلام المرحوم السيّد حسن المدرّس رحمة الله عليه حين سأله المرحوم آية الله البروجرديّ رضوان الله عليه. ما الذي ينبغي عَلَيّ عمله لتكون خدمتي للدين مؤثّرة؟
فأجابه و هو يرفع سبّابَتي يديه إلى الأعلى ثمّ ينزلهما إلى الأسفل مراراً. اصنع طلبة! فالاستعمار لا يخشى من أيّة قوّة ولكن يخشى هؤلاء الطلبة ذوي القامات المنتصبة.
و لقد أظهر التأريخ بجلاء أنّ المعاهدات الاستعماريّة و الامتيازات و الاتّفاقات المجحفة التي كانت في صالح أعداء الإسلام و في ضرر الشعب الإيرانيّ المسلم، من زمن الاستعمار الإنجليزيّ ثمّ الأمريكيّ، سواء في العهد القاجاريّ أم في النظام البهلويّ، قد أمضاها و مرّرها دعاة الثقافة من المتربّين في الغرب، و المهندسون و الأطبّاء المبهورون بأضواء الغرب و مباهج الكفر؛ أوَ رأيتم أنّ واحداً منها قد نفّذ على يد عالم دينيّ؟!
و نفهم جيّداً؛ من هذه الامور؛ السبب في الخراب الذي كان يتسرّب زمن الطاغوت إلى المدارس الدينيّة فتغلق غرفها، أو تصبح أقساماً داخليّة لطلبة الجامعات، أو مخازناً لأمتعة الدكاكين المجاورة للمدرسة، أو حتى محلًّا للأزبال و القمامة.
لقد أسقط جمال عبدالناصر الحكم الملكيّ للمَلِكَين فؤاد و فاروق، و هيمن على مصر و أخضعها لنفوذه، فكانت باكورة أعماله أنّه بني في جوار الجامع الأزهر كلّيّة باسم جامعة الأزهر بطراز حديث و جميل ذات طوابق متعدّدة، و شجّع الطلّاب على الانتماء إليه ا، و أضاف دروس الفيزياء و الكيمياء و اللغة الإنجليزيّة و غيرها من الدروس الحديثة إليه ا.
و مضافاً إلى ذلك سمح للطالبات بالانتماء إليه ا، فجعل صفوفها مختلطة للجنسين؛ في حين بقي الجامع الأزهر الواسع ذاك على حاله، إذ لم يكن في الوسع تخريبه باعتباره بأجمعه من الآثار القديمة، لكنّ عبدالناصر ببنائه جامعة الأزهر (كلّيّة الأزهر) هذه فقد أمات كيان جامع الأزهر و جعله مجرّد أثر من الآثار القديمة.
فلقد استخدموا منصّة الخطابة في هذه الجامعة الحديثة بدلًا من المنبر، و كان لديهم صالات و قاعات دراسيّة مجهّزة حديثة بدل المسقّفات الدراسيّة؛ و كان هذا ما يتمنّاه الاستعمار و يسعى إليه، و هذا هو الاسلوب المقبول و المرضي لديه، فلقد ازيح القرآن جانباً وفق هذه الخطّة بشكل واضح و علنيّ، و حلّت الفيزياء و الكيمياء و اللغة الإنجليزيّة محلّ بعض الدروس التفسيريّة و الحديثيّة.
لقد وضع غلادستون رئيس وزراء بريطانيا الإنجليزيّ إليه وديّ ذو النزعة الصهيونيّة، الذي بعث الروح في الاستعمار الإنجليزيّ، القرآن بقوّة على منصّة الخطابة في مجلس الأعيان في غضب و قال: مادام هذا القرآن موجوداً في أيدي المسلمين فلن يستطيع الاستعمار الإنجليزيّ السيطرة على البلاد الإسلاميّة، و لا أن يكون نفسه في أمان.۱
فالقضاء على القرآن ليس بإحراقه أو إغراقه، و لم يفعل ذلك الإنجليز و تحاشوه، بل بعزله عن التأثير و ذلك بعدم تعلّمه و تعليمه، و إهمال تلاوته، و عدم الرجوع إلى تفسيره، و ترك العمل بأحكامه، و لقد وفّقوا في هذا العمل أيّما توفيق، و أزاحوا القرآن خارجاً عن ساحة العمل و التأثير.
فإذا ما شاهدنا اليوم أنّ هناك في الحوزات مثلًا قدراً من الإغراق الزائد في دراسة أبحاث الاصول، فينبغي أن نستبدل بعض ذلك بدرس التفسير، و درس «نهج البلاغة» و درس المعارف العالية بشكل رسميّ منتظم، لا أن نستبدله بعلوم الحياة و الطبيعة و اللغة الأجنبيّة؛ إذ إنّ علينا أن نكون متمرّسين في العربيّة للحدّ الذي تصبح فيه كأنّها لغتنا الامّ؛ و على هذا فكم هو جميل أن نضع درساً للبحث و التدقيق في لغات القرآن و «نهج البلاغة»، و نخرج القرآن إلى حيّز العمل، فهذه هي الطريقة المثلى للرقيّ و التكامل.
و إلّا نكون قد فعلنا كما فعل عبدالناصر حين بنى جامعة الأزهر، و درّس الطلبة الفيزياء و الكيمياء في صفوف مختلطة و هو ذات ما يطمح
إليه غلادستون، و لو كنّا عنه غافلين.
ماذا تنتظر الحوزة العلميّة من أساتذتها و القائمين على إدارتها؟
و أمّا المطلب الثالث و هو: ماذا تنتظر الحوزة العلميّة من الخرّيجين و المجتهدين و الأساتذة و القائمين على إدارتها؟ و ما الذي ينبغي أن يكون عليه نهجهم و مستواهم العلميّ و العمليّ ليمكنهم النهوض بأعباء هذه المسؤوليّة الخَطيرة؟
و الجواب على هذا السؤال يسير غير عسير، لأنّ توقّع الناس من بائع الخضر أن لا يعرض الخضر التالفة الفاسدة للبيع، و أن يأتيهم بها طريّة سالمة؛ و توقّعهم من الشرطة أن تعيّن لحفظ أعراض الناس و أموالهم الحرّاس النشطين المتديّنين الواعين ... و هكذا.
فهم يتوقّعون كذلك من الحوزة التي تمثّل الروحانيّات و المعنويّات و الحافظة لحياة و أعراض و أموال الناس و كرامتهم، و دينهم و دنياهم، في بلد مسلم ينهل شعبه من معين مدرسة التشيّع؛ أن تخرّج طلّاباً لائقين نزيهين ينعكس في سيمائهم مظهر القرآن و علائم روح رسول الله، و تتلألأ وجوههم من إشراق أنوار أئمّة الهدى عليها، طلبةً يمكنهم في زمن الغيبة هذا، حيث حُرم عامّة الناس من الاتّصال بإمام زمانهم المعصوم، أن يعملوا في حدودهم بذلك النهج و يقدّمونه للناس؛ طلبةً قادرين على أن يبيّنوا للناس المعارف الحقيقيّة الإلهيّة، و أن يكونوا مربّيهم و قادتهم في الأخلاق و العمل في طريق الوصول إلى قمّة التوحيد و أعلى ذروة كمال الشخصيّة الإنسانيّة؛ طلبةً يمكنهم إدارة دين و دنيا الناس، ليس فقط من الناحية الظاهريّة، بل بفهمهم لوجهة نظر الولاية الباطنيّة و إرشادهم الناس على ضوء هديها.
ينتظر الناس أن تقدّم لهم الحوزة اناساً يمكنهم فهم العلم الذي وصفه رسول الله بأنّه: آيَةٌ مُحْكَمَةٌ أوْ فَرِيضَةٌ عَادِلَةٌ أوْ سُنَّةٌ قَائِمَةٌ على
النحو الأحسن و الأكمل، ثمّ يقومون في المرتبة الثانية بتوسيع شعاع وجودهم فيقودوا معظم الطبقات من أتباعهم، بعيداً عن الغش و الغلّ، في موكب تلفّه السعادة و الظفر و العافية و النصر، ضاحكين مستبشرين، إلى الجنّة التي وعد المتّقون؛ فيكونوا قد عمروا دنياهم و آخرتهم.
و ينتظر الناس أن يكون هؤلاء أمينين مأمونين، مضحّين متفانين، متجرّدين عن العلائق مع غير الله عزّ و جلّ، يلفّهم سكون حرم العزّ و الوقار، و ينهض بهم النظر الثاقب و الهمّة العالية، شكورين صابرين قانعين متواضعين شجعان سمحاء، طووا مراحل العلم و مدارجه من فقه و اصول و حكمة و فلسفة و تفسير و حديث و تأريخ و غيرها، و تتلمذوا زمناً في المعارج العمليّة و العرفان الإلهيّ على يد استاذ موحّد فاهم واصل كامل، و تربّوا السنين الطوال في رعايته، فجمعوا بين الحكمة النظريّة و العرفان العمليّ، و صاروا في الفقه خبيرين بصيرين، و اطّلعوا الاطّلاع التامّ على سيرة رسول الله و نهج أئمّة الدين، و فهموا كتاب الله و قرآنه الكريم، و عرفوا شأن نزول آياته و تفسيرها، و حفظوا كلّ آياته أو معظمها.
أفيجوز لمن يعتبر نفسه إماماً في دين الله و دليلًا على الطريق إليه، أن يكون فاقداً لمعرفة الله، فيقول إنّ المعرفة إنّما هي المعرفة الإجماليّة بأنّ الله واحد و كفي! فما تلك الّا معرفة العجائز.
إنّ إمامنا الصادق عليهالسلام لم يقل هكذا؛
لابدّ للعلوم الدينيّة أن تصبّ في عرفان الله لتضاء بنور الله
فقد ورد في «الوافي» عن «الكافي» عن محمّد بن سالم بن أبي سلمة، عن أحمد بن ريّان، عن أبيه، عن جميل بن دُرّاج، عن أبي عبدالله الصادق عليهالسلام، قال:
لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا في فَضْلِ مَعْرِفَةِ اللهِ تعالى مَا مَدُّوا أعْيُنَهُمْ إلى مَا مُتِّعَ به الأعْدَاءُ مِنْ زَهْرَةِ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَ نَعِيمِهَا، وَ كَانَتْ دُنْيَاهُمْ أقَلَّ عِندَهُمْ مِمَّا يَطَؤُونَهُ بِأرْجُلِهِمْ وَ لَنُعِّمُوا بِمعْرِفَةِ اللهِ تعالى وَ تَلَذَّذُوا بِهَا تَلَذُّذَ مَنْ
لَمْ يَزَلْ في رَوْضَاتِ الجِنَانِ مَعَ أوْلِيَاءِ اللهِ.
إنَّ مَعْرِفَةَ اللهِ انْسٌ مِنْ كُلِّ وَحْشَةٍ؛ وَ صَاحِبٌ مِنْ كُلِّ وَحْدَةٍ؛ وَ نُورٌ مِنْ كُلِّ ظُلْمَةٍ؛ وَ قُوَّةٌ مِنْ كُلِّ ضَعْفٍ أوْ شِفَاءٌ مِنْ كُلِّ سُقْمٍ.
ثُمَّ قال: قَدْ كَانَ قَبْلَكُمْ قَوْمٌ يُقْتَلُونَ، وَ يُحْرَقُونَ، وَ يُنْشَرُونَ بِالمَنَاشِيرِ، وَ تَضِيقُ عَلَيْهمُ الأرْضُ بِرُحْبِهَا فَمَا يَرُدُّهُمْ عَمَّا هُمْ عَلَيْهِ شَيءٌ مِمَّا هُمْ فيهِ مِنْ غَيْرِ تِرَةٍ وَ تَرُوا مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ بِهِمْ، وَ لَا أذَى مِمَّا نَقَمُوا مِنْهُمْ إلَّا أنْ يُؤْمِنُوا باللهِ العَزِيزِ الحَمِيدِ.
فَسَلُوا رَبَّكُمْ دَرَجَاتِهِمْ! وَ اصْبِرُوا عَلَى نَوَائِبِ دَهْرِكُمْ تُدْرِكُوا سَعْيَهُمْ!۱
و نلحظ في هذه الرواية كيف يبيّن الإمام عليهالسلام همّة و ثبات العرفاء بالله، و كيف يدعو تلاميذه إلى الاستقامة و الصبر حفاظاً على العلم و الإيمان و معرفة الله.
هؤلاء هم الذين تعاقبوا في كلّ الأزمنة، و كانوا بطلوع و إشراق أنوار الحقّ و صفاته في قلوبهم حفظةً لدين الله و شريعته، و حماةً لقرآنه و كتابه.
خلق را چون آب دان صاف و زلال | *** | اندر او تابان صفاتِ ذو الجلال |
علمشان و عدلشان و لطفشان | *** | چون ستارة چرخ در آب روان٢ |
قرنها بگذشت و اين قرن نويست | *** | ماه آن ماهست و آب آن آب نيست |
عدل آن عدلست و فضل آن فضل هم | *** | ليك مستبدل شد آن قرن و امَم |
قرنها بر قرنها رفت أي همام | *** | وين معاني بر قرار و بر دوام |
آب مُبْدَل شد در اين جو چند بار | *** | عكس آن خورشيد دائم برقرار |
جهان مرآت حسن شاهد ماست | *** | فَشَاهِدِ وَجْهَهُ في كُلِّ مِرْءَاتِ۱ |
و اليوم و سيل طلبة العلوم الدينيّة يتدفّق على الحوزات العلميّة من كلّ صوب و حدب، فإنّهم إن لمسوا و أحسّوا في قرارة أنفسهم و أعماق وجودهم أنّ العلوم الدينيّة إن اتُّخذت وسيلة للعيش و نُظر إليها كثروة دنيويّة فقط، فإنّها لن تختلف عن سائر الحرف و الفنون، و لابدّ من اتخاذها طريقاً إلى الله و عرفانه و للكشف عن سرّ عالم الكون و نيل العلوم الحقّة.
قال مولانا في الدفتر الثاني من «المثنوي»:
هر كجا دردي دوا آنجا رود | *** | هر كجا فقري نوا آنجا رود |
هر كجا مشكل جواب آنجا رود | *** | هر كجا پستي است آب آنجا رود |
آب كم جو تشنگي آور بدست | *** | تا بجوشد آبت از بالا و پست |
تا سَقاهُمْ رَبُّهُمْ آيد خطاب | *** | تشنه باشد اللهُ أعْلَمْ بِالصَّواب۱ |
و قال أيضاً في الدفتر الثالث مع تكرار الأبيات الثلاثة الاولى:
هر چه روئيد از پي محتاج رُست | *** | تا بيابد طالبي چيزي كه جُست |
حقّ تعالى كاين سماوات آفريد | *** | از براي رفع حاجات آفريد |
هر كه جويا شد بيابد عاقبت | *** | مايهاش درد است واصل مرحمت |
هر كجا دردي دوا آنجا رود | *** | هر كجا فقري نوا آنجا رود |
هر كجا مشكل جواب آنجا رود | *** | هر كجا پستي است آب آنجا رود |
آب كم جو تشنگي آور بدست | *** | تا بجوشد آبت از بالا و پست٢ |
و كم هو جميل و معبِّر تعبير السنائيّ الحكيم عليه الرحمة و الرضوان حين صاغ هذا الواقع في قالب النظم:
دل آنكس كه گشت بر تن شاه | *** | بود آسوده ملك ازو و سپاه |
بد بود تن چه دل تباه بود | *** | ظلم لشكر ز ضعف شاه بود |
اين چنين پر خلل دلي كه تو راست | *** | دد و ديوند با تو زين دل راست |
پارة گوشت نام دل كردي | *** | دل تحقيق را بحِل كردي |
اينكه دل نام كردهاي به مجاز | *** | رو به پيش سگان كوي انداز |
از تن و نفس و عقل و جان بگذر | *** | در ره او دلي بدست آور |
آنچنان دل كه وقت پيچاپيچ | *** | اندرو جز خدا نيابي هيچ۱ |
و لهذا الأمر فقد عدّت أحاديث كثيرة العلمَ منحصراً بالعلم الحقيقيّ المستقرّ في القلب و الملازم للعمل.
و جاء في «مصباح الشريعة» قَالَ الصَّادِقُ عليه السلام: لَا يَحِلُّ الفُتْيَا لِمَنْ لَا يَسْتَفْتِي مِنَ اللهِ عَزَّ وَ جَلَّ بِصَفَاءِ سِرِّهِ؛ وَ إخْلَاصِ عَمَلِهِ؛ وَ عَلَانِيَتِهِ؛ وَ بُرْهَانٍ مِنْ رَبِّهِ في كُلِّ حَالٍ. لأنَّ مَنْ أفْتَى فَقَدْ حَكَمَ؛ وَ الحُكْمُ لَا يَصِحُّ إلَّا بِإذْنٍ مِنَ اللهِ وَ بُرهَانِهِ. وَ مَنْ حَكَمَ بِخَبَرٍ (بَالخَبَرِ - خ ل) بِلَا مُعَاينَةٍ فَهُوَ جَاهِلٌ مَأخُوذٌ بِجَهْلِهِ، وَ مَأثُومٌ بِحُكْمِهِ.
قَالَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: أجْرَؤُكُمْ عَلَى الفُتْيَا أجْرَؤُكُمْ عَلَى اللهِ عَزَّ وَ جَلَّ.
أوَ لَا يَعْلَمُ المُفْتِي أنَّهُ هُوَ الذي يَدْخُلُ بَيْنَ اللهِ تعالى وَ بَيْنَ عِبَادِهِ وَ هُوَ الجَائِزُ (الحَائِرُ - خ ل) بَيْنَ الجَنَّةِ وَ النَّارِ.۱
إنّ فقهاءً كهؤلاء يجمعون بين علم الظاهر و الباطن، و بين العلم و العمل، هم الذين ينبغي أن يعلّموا و ينشّئوا الطلبة و الحوزات، فهم يكتسبون العلم الحقيقيّ من جانب الربّ تعالى فيعكسونه و ينشرونه على المتعلّمين؛ و هم القائمون ليلًا في محراب العبادة، و الصافّون الأقدام في
الدعاء و التضرّع و التعظيم لمقام الربّ المعبود، قلوبهم مجذوبة للجذوات الإلهيّة و السبحات الربّانيّة، فيمنحون نهاراً ما اكتسبوه في المحراب ليلًا، و يسبحون في هذا العالم الواسع و يفيضون فيوضاتهم إلى العالم:
إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَ أَقْوَمُ قِيلًا ، إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلًا.۱
هذا السبح الذي تمنح فيه و تنفق و تفيض ممّا مُنحته ليلًا في محراب عبادتك.
العلم المجازيّ كالميزاب المفتوح، و العلم الحقيقيّ كماء الحياة
لذا فإنّ الاجتهاد القائم على القواعد فقط هو اجتهاد شكليّ ليس إلّا، و اجتهاد كهذا أشبه بالميزاب منه بماء الحياة، فلو فُرض أن جرى فيه الماء و انساب، و اتّفق مطابقة الحكم للواقع، فإنّه لن يكون إلّا وعاءً و وسيلة لعبور ماء الحياة و تدفّقه؛ و لو قدّر لا سمح الله أن كُسر هذا الميزاب أو أصابه العيب و الخلل، لأدّى ذلك إلى أضرار و مفاسد لا تُحصى. يقول مولانا في الدفتر الخامس للـ «مثنوي»
علم چون در نور حقّ پرورده شد | *** | پس ز علمت نور يابد قوم لُدّ |
كاسمان هرگز نبارد سنگ و خاك | *** | آسمان شو ابر شود باران ببار |
ناودان بارش كند نبود بكار | *** | آب اندر ناودان عاريّتي است |
آب أندر ابر و دريا فطرتي است٢ | *** | ... |
فكر و انديشه است مثل ناودان | *** | وحي مكشوفست ابر و آسمان |
آب باران، باغ صد رنگ آورد | *** | ناودان همسايه در جنگ آورد۱ |
و يقول كذلك في الدفتر الثاني:
علم تقليدي بود بهر فروخت | *** | چون بيابد مشتري خوش بر فروخت |
مشتري علم تحقيقي حق است | *** | دائماً بازار او با رونق است |
لب ببسته مست در بيع و شري | *** | مشتري بيحد كه اللهُ اشتَرَي |
درس آدم را فرشته مشتري | *** | محرم درسش نه ديو است و پري |
آدَم أنْبِئْهُمْ بأسْمَا درس گو | *** | شرح كن أسرار حق را مو به مو٢ |
روايات حول أصحاب العلوم الظاهريّة و المجازيّة
و قد وردت رواية عجيبة عن الصادق عليهالسلام توجب الحذر
و التيقّظ حقّاً:
في «الوافي» عن «الكافي»، عن محمّد، عن ابن عيسى، عن ابن فضّال، عن عليّ بن عقبة، عن عُمَر، عن أبي عبدالله عليهالسلام، قال الراويّ:
قَالَ لَنَا ذَاتَ يَوْمٍ. تَجِدُ الرَّجُلَ لَا يُخْطِئُ بِلَامٍ وَ لَا وَاوٍ خَطِيباً مِسْقَعاً۱ وَ لَقَلْبُهُ أشَدُّ ظُلْمَةً مِنَ الَّليَلِ المُظْلِمِ، وَ تَجِدُ الرَّجُلَ لَا يَسْتَطِيعُ تَعْبِيراً عَمَّا في قَلْبِهِ بِلِسَانِهِ وَ قَلْبُهُ يَزْهَرُ كَمَا يَزْهَرُ المِصْبَاحُ٢.
روى في «اصول الكافي» ج ٢، ص ٢۱٤ بإسناده عن ابن اذَيْنَة، عن الإمام جعفر الصادق عليهالسلام قال:
إنَّ اللهَ عَزَّ وَ جَلَّ خَلَقَ قَوْماً لِلْحَقِّ فَإذَا مَرَّ بِهِمُ البَابُ مِنَ الحَقِّ قَبِلَتْهُ قُلُوبُهُمْ وَ إنْ كَانُوا لَا يَعْرِفُونَهُ؛ وَ إذَا مَرَّ بِهِمُ البَابُ مِنَ البَاطِلِ أنْكَرَتْهُ قُلُوبُهُمْ وَ إنْ كَانُوا لَا يَعْرِفُونَهُ. وَ خَلَقَ قَوْمَاً لِغَيْرِ ذَلِكَ فَإذَا مَرَّ بِهِمُ البَابُ مِنَ الحَقِّ أنكَرَتْهُ قُلُوبُهُمْ وَ إنْ كَانُوا لَا يَعْرِفُونَهُ؛ وَ إذَا مَرَّ بِهِمُ البَابُ مِنَ البَاطِلِ قَبِلَتْهُ قُلُوبُهُمْ وَ إنْ كَانُوا لَا يَعْرِفُونَهُ.
و لقد كان لمرحوم صدر المتألهين قدّس الله سرّه يئنّ و يتألّم من أفراد كهؤلاء، من الأنانيّين و عبدة الدنيا و طلّاب الرئاسة فيقول:
وَ العَجَبُ أنَّهُ مَعَ البَلَاءِ كُلِّهِ وَ الدَّاعِ جُلِّهِ تَمَنَّي نَفْسُهُ العَثُورَ وَ تُدَلِّيهِ بِحَبْلِ الغُرُورِ أنَّ فيمَا يَفْعَلُهُ مُرِيدُ وَجْهِ اللهِ؛ وَ مُذِيعُ شَرْعِ رَسُولِ اللهِ؛
وَ نَاشِرُ عِلْمِ دِينِ اللهِ؛ وَ القَائِمِ بِكِفَايَةِ طُلَّابِ العِلْمِ مِنْ عِبَادِ اللهِ.
وَ لَوْ لَمْ يَكُنْ ضُحْكَةً لِلشَّيْطَانِ وَ سُخْرَةً لأعْوَانِ السُّلْطَانِ؛ لَعَلِمَ بِأدْنَى تَأمُّلٍ أنَّ فَسَادَ الزَّمَانِ لَا سَبَبَ لَهُ إلَّا كَثْرَةُ أمْثَالِ اولَئِكَ الفُقَهَاءِ المُحَدِّثِينَ المُحْدِثِينَ في هَذِهِ الأوَانِ الذين يَأكُلُونَ مَا يَجِدُونَ مِنَ الحَلَالِ وَ الحَرَامِ.
وَ يُفْسِدُونَ عَقَائِدَ العَوَامِّ بِاسْتِجْرَائِهِمْ عَلَى المَعَاصِي اقْتِدَاءً بِهِم وَ اقْتِفَاءً لآثَارِهِمْ فَنَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الغُرُورِ وَ العَمَى فَإنَّهُ الدَّاءُ الذي لَيْسَ لَهُ دَوَاءٌ.۱
و قد برهنتُ في مباحث الاجتهاد و التقليد على أنّ من الشروط الحتميّة للإفتاء و الحكم، العدول عن الجزئيّة و الارتباط و التعلّق بالكلّيّة، و أنّ هذا الشرط لا يتحقّق إلّا بتخطّي عالم النفس و معرفة حضرة الربّ تعالى. و قد أوردتُ في بحث ضمنيّ مسألة ولاية الفقيه بشكل مجمل في كتاب «الرسالة البديعة في تفسير آية: الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ»؛ و هذا المعنى مشهود في حديث «نهج البلاغة» و خطاب أميرالمؤمنين عليهالسلام لكميل، و في رسالته عليهالسلام إلى مالك الأشتر و شواهد اخرى جرى ذكرها هناك؛ لكنّ البحث المفصّل عن هذه المسألة يحتاج إلى كتاب مستقلّ في الاجتهاد و التقليد، و شروط المفتي و الحاكم، و هو منوط بمجال أوسع و توفيق أكثر و استعانة بحول الخالق المتعال و قوّته.٢
لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَ الْآخِرَةِ وَ لَهُ الْحُكْمُ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ.۱
و للخواجة حافظ الشيرازيّ غزل في هذا المقام يحوي عالماً من لطائف الإشارات:
مرا به رندي و عشق آن فَضُول عيب كند | *** | كه اعتراض بر اسرار علم غيب كند |
كمال سرّ محبّت ببين نه نقص گناه | *** | كه هر كه بي هنر افتد نظر به عيب كند |
ز عطر حور بهشت آن نَفَس بر آيد بوي | *** | كه خاك ميكدة ما عبير جَيب كند |
چنان بزد ره اسلام اسلام غمزة ساقي | *** | كه اجتناب ز صَهْبا مگر صُهَيب كند٢ |
كليد گنج سعادت قبول اهل دلست | *** | مباد كس كه در اين نكته شكّ و ريب كند |
شبان وادي أيمن گهي رسد به مراد | *** | كه چند سال به جان خدمت شعيب كند |
ز ديده خون بچكاند فسانة حافظ | *** | چون ياد وقت و زمان شباب و شيب كند۱ |
و الإشكال الرابع لصاحب مقالة «بسط و قبض تئوريك شريعت» (=انبساط و انقباض نظريّة الشريعة)، أي نظريّة تكامل المعرفة الدينيّة، هو أنّه قد اعتبر ضعف اهتمام الناس بالدين و توجّههم نحوه بعد النهضة الدستوريّة ناشئ من ضعف الاقتصاد المدوّن و الفقه و الحكمة، التي تراجعت أمام هجوم سيل الثقافة الغربيّة، و لم يكن بين العلم و الفلاسفة و كتبهم شيئاً مهمّاً يُعتني به، لذا فقد دُهشوا الناس لتلك المدنيّة و تبعوها مبهورين مسحورين؛ و يقول:
إنّ علينا أن لا نبتعد عن الإنصاف فنعترف أنّ جمعاً من المثقّفين الجُدد من دعاة الانفتاح، الذين كانت لهم في تأريخنا المعاصر آراؤهم القاسية بالنسبة للدين، لم يكن ذلك عداءً منهم له و حقداً منهم عليه؛ ولكنّ السبب يكمن في صورة الدين التي عُرضت عليهم و التي افتقدت الملاحة و الجمال و الجاذبيّة.
ففي أوان النهضة الدستوريّة تدفّق سيل المعارف الغربيّة على ديارنا، و ملأت فلسفتهم و علومهم و حقوقهم و سياستهم أذهان الشباب و المتلهّفين، و كانت الدهشة المهيبة و الحيرة تلفّ الجميع، و الانهزام النفسيّ و الاستسلام و الخضوع يلقّن للنفوس؛ و كان هيكل الفكر الدينيّ في ذلك الوقت مبتليً بالمحن و الأمراض المتكاتفة، و لم يكن ليمتلك إلّا عدّة آداب فقهيّة، فبأيّ شيء - يا ترى - كان يمكنه اجتذاب قلوب العقلاء و الأذكياء نحوه؟ لا اقتصاد مدوّن له، و لا سياسة مدوّنة، و لا حكمة بإمكانها وضع الحلول للمشاكل، و لا تحقيق نافع مُجدٍ.
فكيف نتوقّع من المشتغلين بالحكمة و الآداب أن يعرضوا عن الأفكار المنمّقة التي خلط فيها الإفرنج حقّاً و باطلًا، و أن يتمسّكوا بعدّة من الآراء المضطربة غير المتّسقة، و بالأدب الصارم الجاف؟
لم تكن تلك مؤامرة تأريخيّة، و لا مقتضى وجود موهوم اسمه الغرب، بل كانت نتيجة حتميّة لمواجهة الأقوياء المقتدرين مع الضعفاء العاجزين.۱
و الإجابة على هذا القول هي عين المطلب الذي أورده المهندس مهدي بازركان في كتاب «راه طي شده» (=الطريق المطويّ)، فقد قال:
و هناك مطلب يرد في هامش البحث الأصليّ و يشكّل بنفسه موضوعاً يستحقّ المطالعة و التأمّل على حدة؛ و هو تأثير خصائص المذهب المسيحيّ في اسلوب تفكير و طريقة انتقاد المعاصرين من مخالفي المذاهب.
و بالطبع فإنّ أغلب ما ينشر في بلدنا ضدّ الفكر الدينيّ ممّا يمتلك
وجهة علميّة، فإنّما هو ترجمة مباشرة أو اقتباس غير مباشر من كتابات و مقالات الاوروبيّين. فلو تأمّلتم بعناية في هذه الانتقادات للاحظتم أنّها تهاجم صراحةً أو تلميحاً الديانة المسيحيّة و رجال الدين المسيحيّين، و لا يقصدون غير ذلك، فبعض هؤلاء المنتقدين لا يمتلك أيّة معلومات عن الإسلام، أو أنّه يتجنّب إقحامه في هجومه و انتقاده، و البعض الآخر لم يتناوله بالنقد إلّا قليلًا، بالشكل الذي تبقى فيه هذه الانتقادات و المطالعات ناقصة تماماً و غير مجدية من وجهة نظر التحقيق الكامل.
و لكنّنا - بخلافهم - نعتبر عيسى عليهالسلام و تعاليمه مبعوثين من جانب الله عزّ و جلّ، و أنّ رسولنا كان مُصَدِّقَاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَ الإنجِيلِ؛۱ ولكن باعتبار تدرّج الأديان وفق السير التكامليّ للبشريّة، فإنّ على البشر كذلك أن يتابعوا السير التكامليّ للأنبياء عليهم السلام.
كما أنّ كثيراً من الانتقادات التي يوجّهها المنتقدون إلى الأديان قد استندت إلى التحريفات الواقعة في الديانة المسيحيّة بمرور الزمن، و لفقدان النسخة الأصليّة للإنجيل، أو للثغرات و النقائص فيها و التي عالجها الإسلام بالنحو الأفضل و الأكمل و وضَع لها الحلول الناجعة.
فلو امتلك هؤلاء المخالفون للدين التعمّق الكافي في الإسلام، و التحقيق الصحيح في شؤونه؛ و لو انفكّ الاوروبّيّون عن عبادة القديم و امتلكوا الانفتاح و التبصّر في الدين كما امتلكوا الانفتاح و التقدّم في باقي
شؤون حياتهم، لصاروا مسلمين مجدّدين، و لتحولّت الانتقادات حتماً إلى شكل آخر، و لصار للدنيا وجهاً غير ما هي عليه اليوم.۱
و هذا الكلام متين لا يرقى إليه الشكّ، فتأريخ النهضة الدستوريّة و الوقائع التي حصلت بعدها إلى بداية الثورة الإسلاميّة و تشكيل الحكومة الإسلاميّة مشهود أمامنا لا يلوح فيه إلّا السيطرة الثقافية و العسكريّة و السياسيّة و الاقتصاديّة الفارغة للغرب على الإسلام. فلقد كان دعاة الثقافة و الانفتاح المبهورون بالغرب هم اولئك الذين كانت لهم علاقات مباشرة بالغرب، و هم الذين كانوا يقدحون زناد الإلحاد و الابتعاد عن الدين و ينفخون في ناره لتستعر، و لقد سجّل التأريخ أسماء هؤلاء و أحوالهم و نهجهم واحداً بعد واحد.
و لقد كانت الثقافة الغربيّة تُنشر بين الناس بالقوّة، بالسياط و الحراب و الحبس و التعذيب و الإعدام، لكنّ الشعب بإسلامه الفطريّ لم يؤثر الغيّ على الهدى، فلم تتعدّ هذه الثقافة عن كونها ظواهر قشريّة خارجيّة، و لقد حافظ الشعب المسلم على ديانته مع تحمّله لكلّ أنواع الحرمان الاجتماعيّ، و كان على وعي كامل بدسائس و شيطنة و خيانة دعاة الانفتاح العملاء هؤلاء، مدركاً لطرق نفوذ تلك الثقافة التي لم تكن لتضمّ غير الألفاظ الفارغة الخاوية؛ و لم انجرّت تلك الحركات و ما أقدموا عليه إلى الخسائر و الموت، و اتّضح بحمد الله قيام أساس السياسة الأجنبيّة على المكر و الحيلة و الكذب و البهتان، و على استحلال إتلاف النفوس البريئة، و استمداد رونقها و ازدهارها من الامور سالفة الذكر.
و لقد كان لدينا في بداية النهضة الدستوريّة اقتصاد عالٍ متين يستند إلى فقه و مكاسب الشيخ مرتضى الأنصاريّ بدورته الكاملة في المعاملات و الشاملة لأدقّ و أعمق المسائل الاقتصاديّة؛ و كان لدينا فقه عالٍ و متين أيضاً، فقد تشكّلت الحوزات العلميّة الدراسيّة و انتشرت الكتب الفقهيّة المؤلّفة من قبل تلامذة الشيخ الأنصاريّ في النجف و سامرّاء، من أمثال آية الله الحاجّ الميرزا محمّد حسن الشيرازيّ و الآخوند الملّا محمّد كاظم الخراسانيّ، و الحاجّ الميرزا محمّد حسن النائينيّ و غيرهم، و لقد كان تدريس الحكمة في الحدّ الأعلى على يد أساتذة كالميرزا أبي الحسن جلوه الأصفهانيّ، و الآقا ميرزا طاهر التنكابنيّ، و الحاجّ الميرزا محمّد حسن الأشتيانيّ، حيث مثّل كلّ منهم عالماً في التحقيق، فقد عاصروا هذه المرحلة و لا زالت آثار هؤلاء العظماء موجودة الآن بين أيدينا، و يعجز دعاة التجديد الفعليّين عن فهمها و إدراك مسائلها المطروحة.
إنّ حقيقة الأمر هي أنّ المتلاعبين بالسياسة من الأجانب، قد عملوا بمعونة و ألاعيب دعاة التجدّد و الانفتاح من المنبوذين و المتنكّرين لوطنهم و شعبهم، متعاضدين على فتح أبواب البلد أمام رياح الوباء الصفراء العفنة الهابّة من الغرب، لتنشر عفونتها بين الناس، فعمّ الوباء و الخراب، و قضى الجميع عصراً قاتماً مظلماً.
و حين نقارن الآن الفقه و الاقتصاد و الحكمة و الأدب الإسلاميّ مع القوانين المنتزعة من فلسفتهم و أدبهم، نشاهد ضحالة و تفاهة مدرستهم جليّة لكلّ ذي عينين.
الإشكال الخامس: هو أنّه لم يفرّق بين الكلام المجازيّ و الكلام الكاذب، فتخيّل الكلام المجازيّ الذي ورد كثيراً في القرآن الكريم من جنس الكذب، ثمّ استعصى عليه درك بعض الآيات القرآنيّة و مفاهيمها
الصحيحة المتسامية؛ فقال: ينبغي إمّا أن لا نقبل بمجازات القرآن، أو أن نوسّع من معنى عدم ورود الباطل في القرآن و كونه فصلًا ليس بالهزل إلى الحدّ الذي لا يتنافى فيه مع هذه المجازات، ليمكن الإيمان بقرآن يحوي مجازاً - و كذباً في الحقيقة - كهذا.
و تثير هذه العبارات العجب و الاستغراب لإنبائها بالعجز عن إدراك مطالب بسيطة و أوّليّة دارجة بين الطلبة.
و نجد من الأفضل أن نورد نصّ عباراته لبيان نقاط ضعفها و تزييفها، ثمّ نشرع بالإجابة عليها؛ يقول:
و يكفي لمن يعتبر في علم الكلام أنّ المجاز و الكناية غير جائزة في كلام الباري أن يرى الآخرة مليئة بالولدان الهرمين. يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً - المزّمّل؛ و يشاهد الدنيا مليئة بالجدران ذات الإرادة: فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ - الكهف؛ و يكفي لمن يعتبره جائزاً أن لا يعدّ وجودها في القرآن باطلًا و لا هزلًا و لا لغواً، و هي منطقاً من جنس الكذب، و أن يؤمن في الوقت نفسه بمقولة: لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ، إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ ، وَ ما هُوَ بِالْهَزْلِ.۱
بحث بشأن المعنييْن الحقيقيّ و المجازيّ، و الصدق و الكذب
و الإجابة على ذلك: أنّ الكذب عبارة عن الإخبار عن شيء يخالف الواقع بلا نصب قرينة على مخالفة هذا الخبر للواقع؛ كأن يقول شخص مثلًا: جاء زيد، في حين لم يكن قد جاء بعد، أو. لم يأتِ زيد، في حين كان قد أتى فعلًا.
و المجاز عبارة عن استعمال لفظ في خلاف المعنى المفهوم
و المعهود عرفاً، مع نصب قرينة على أنّ هذا الاستعمال غير المعهود كان لجهة من الجهات؛ كأن يقول شخص مثلًا: رأيتُ أسداً منهمكاً برمي السهام، و مقصوده من لفظ الأسد ليس الأسد المفترس و الحيوان الصحراويّ، بل الرجل الشجاع الذي عبر عنه لشجاعته بالأسد، و ذكر قرينة في كلامه لهذا الاستعمال، و هي عنوان الرمي، فمعلوم أنّ الأسد الصحراويّ لا يرمي السهام، بل الرجل الشجاع هو الذي يفعل ذلك.
و مثل هذه الاستعمالات صحيحة جدّاً، بل هي أبلغ و أفضل في إيصال مراد المتكلّم بواسطة استعمال اللفظ في معناه الثانويّ، للعلاقة الموجودة بين المعنى المتعارف و المعنى الفعليّ الاستعماليّ؛ و يقال لمثل هذا الاستعمال:
الاستعمال المجازيّ؛ و العلاقة و وجه الارتباط بين المعنيينِ كثيرة و متعدّدة، كعلاقة الإشراف، و التشبيه، و الاستلزام، و سائر الأنواع و العلاقات و الروابط التي أوصلوها في بعض كتب إلى خمس و عشرين علاقة،۱ في حين يعتقد البعض أنّ هذه العلاقات غير محدودة، و أنّ ملاكها انتخاب و اختيار المتكلّم الذي استعمل على أساس ذوقه العرفيّ لفظاً له معنى خاصّ من جهة الوضع اللغويّ أو الوضع النَّقْليّ، في معنى مغاير مع حفظ هذه الرابطة، أو مع نصب قرينة على هذا الاستعمال.
و لا يختصّ استعمال اللفظ المجازيّ بالعربيّة، دون غيرها، لكنّه أكثر انتشاراً في اللغات التي تكون دائرة معاني مفرداتها و اشتقاقاتها و فصاحتها و بلاغتها أقوى، كما هو في العربيّة.
و لا ترقى جميع لغات الدنيا إلى قدرة العربيّة في اتّساع اللغة، و مصادر الاشتقاق، و في جهة لطف قريحة الكلام، و الفصاحة التامّة و البلاغة الكاملة، و قول الشعر بداهة، و بيان المعاني الكثيرة و المطالب المحتشدة و النكات الدقيقة بأوجز عبارة و أقلّ بيان.
و يرجع أصل اللغات السائدة و جذورها إلى أصلين. العربيّة و اللاتينيّة، و العربيّة أحكمهما و أمتنهما. كما أنّ بيان المراد و المقصود بالرعاية الدقيقة للنكات الأدبيّة، من الحقّائق و المجازات و التمثيلات و التشبيهات و الاستعارات دليل على كمال تلك اللغة و قوّتها، و في: إنَّ مِنَ الْبَيَانِ لَسِحْرًا إشارة إلى هذه النكتة. و لقد نزل القرآن الكريم. الكلام الإلهيّ المعجز، الذي يمثّل المعجزة الباقية لرسول الله إلى يوم القيامة، قد نزل بلسان العرب، أي بأكمل و أتمّ و أوسع و أبلغ الألسنة و اللغات، فهو قائد قافلة البشريّة بدقائقه البليغة، و مجازاته و استعاراته.
على أنّ اتّساع اللغة و آدابها، و استعمال المجازات و الاستعارات المختلفة۱ توجب اتّساع الفهم و حدّة الذكاء و نموّ الذهن، فما يشاهد في
ذكاء و فراسة و حضور البديهة و الخاطر في عرب الصحاري و البوادي الجافّة اللاهبة، لا يشاهد مثله في أرقى الامم المتمدّنة، و لا في سكنة المدن الآخرين، و تأريخ العرب شاهد على صدق كلامنا.
و لم يحصل هذا إلّا بانتشار العربيّة التي يتقنها العرب الأصليّين من سكنة البوادي الذين هم أفضل من سكنة المدن في هذا المجال، لذا فقد خشى على ضياع اصول و جذور هذه اللغة بعد ظهور الإسلام و الفتوحات الإسلاميّة التي أدّت إلى اندماج و اختلاط أقوام و شعوب غير عربيّة، كالأعاجم و النبط، مع العرب، فأمر خلفاء بني اميّة و بني العبّاس جماعات بالتطواف الدائم على سكنة البوادي و الصحاري و أخذ اصول اللغة و علامات المجاز و الكناية و الاستعارة عنهم. و قد الِّفَتْ الكتب في تدوين
علم النحو؛ بعد بيان اصوله من قبل مولى الموحدّين أميرالمؤمنين عليه السلام لأبي الأسود الدؤليّ؛ من قبل أمثال الخليل و سيبويه و يعقوب ابن السكِّيت.
فكتاب «العين» للخليل هو من أهمّ كتب اللغة المعتبرة التي يستفاد منها إلى يومنا هذا.
و «الكتاب» لسيبويه، من أنفس الكتب التي لم يؤلّف مثلها حتى الآن في نزاهتها و شمولها.
و مع أنّ كتباً كثيرة قد الّفت و دوّنت بعد ذلك، و كان بعضها أكثر تحقيقاً و أقرب للواقع و أكثر بعثاً على الاطمئنان، ك - «المصباح المنير» و «صحاح اللغة» و «لسان العرب»، و لكنّ «الكتاب» لسيبويه (في النحو) و كتاب «العين» للخليل (في اللغة) ظلّا يتربّعان على مقام الصدارة لكلّ الكتب.
إنّ المجيء بالقصد و المرام بلفظ المجاز من أفضل أنواع الكلام و المحاورة، لذا فقد قالوا: كَلَامُ البُلَغَاءِ مَشْحُونٌ بِالمُجَازَاتِ.
و قد زاد استعمال لفظ المجاز لدرجة قد ساوى في اتّساعه استعمال اللفظ الحقيقيّ في معناه؛ و قد كتب الزَّمَخْشَرِيُّ لهذا السبب كتاباً في اللغة سمّاه «أسَاسُ البَلَاغَة»، يتكفّل بتمييز و تشخيص المعاني الحقيقيّة عن المجازيّة، و نُظِّم حسب ترتيب الحروف الهجائيّة لكلّ مادّة، فهو يشرع بعدّ المعاني الحقيقيّة لها، ثمّ يعدّد تحت عنوان. و من المجاز جميع المعاني المجازيّة الواردة في كلام العرب و الأمثلة و الأشعار و القرآن الكريم.
كلمات أعلام المحقّقين حول مجازات القرآن
و كانت هذه اللطافة و العظمة لدقائق الاستعارة و المجاز قد صرفت عبدالله بن المقفّع الإيرانيّ - الذي تمرّس في العربيّة و برز حتى عُدّ في سعة علمه و اطّلاعه على آداب العربيّة فرداً لا نظير له - عن عزمه على
معارضة القرآن، و مرّغت أنفه في تراب الذلّ و الهوان.
فقد عزم مع جمع من أصحابه على معارضة القرآن، فراحوا يطالعون آياته، فوقعت أبصارهم على هذه الآيات:
وَ قِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَ يا سَماءُ أَقْلِعِي وَ غِيضَ الْماءُ وَ قُضِيَ الْأَمْرُ وَ اسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَ قِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ.۱
فقالوا لأنفسهم: ليس هذا بكلام بشر؛ و انصرفوا عن عزمهم.
و من الواضح البيّن أنّ هذه النكات الدقيقة، و استعمال ألفاظ الكناية و المجاز و الاستعارة هي التي سمت بالقرآن في افق متعالٍ تعجز الأفهام و الأنظار عن السموّ إليه، و تتصاغر عن مقابلته و معارضته.
يقول السكّاكيّ في مقدّمة كتاب «مفتاح العلوم»: ثم الصلاة و السلام على حبيبه محمد البشير النذير بالكتاب العربي المنير الشاهد لصدق دعواه بكمال بلاغته المعجز لدهماء المصاقع عن إيراد معارضته إعجازا أخرس شقشقة كل منطيق و أظلم طرق المعارضة فما و ضح إليها وجه طريق حتى أعرضوا عن المعارضة بالحروف إلى المقارعة بالسيوف و عن المقاولة باللسان إلى المقاتلة بالسنان بغيا منهم و حسدا و عنادا ولددا.٢
و هو كلام صائب في معرفة القرآن من هذا الرجل العالم بالأدب و العربيّة، فقد مرّ على مجيء القرآن حتى اليوم ألف و أربعمائة سنة، و هذا الكتاب بأيدي البشر يصرخ تحدّياً أن يأتي أحد بمثله؛ و كان أيسر لأعداء الإسلام و أقلّ مؤونة و جهداً لو جلسوا في البيوت الآمنة و الجامعات التي تناطح السحاب، و قبعوا في الكنائس و الصوامع و غيرها من المعابد المخالفة للإسلام، فدعوا إليه ود من حفظة التلمود، و النصارى المدافعين عن مذهب المسيحيّة، فعملوا كتاباً يماثل القرآن أو حتى سورة كسوره، ولو استغرق ذلك منهم قرناً من الزمن، أو قرنين، أو ألفاً من السنين؛ لكنّهم عدلوا عن هذا الطريق السهل إلى سير و تنكّبوا عنه، و توسّلوا بالحرب و القتل و النهب و الإغارة على المسلمين.
و ليست الحروب الصليبيّة إلّا نماذج لذلك، و كلّ هذا القتل الفجيع الذي يمارسه إليه ود و المسيحيّون اليوم بحقّ المسلمين إلّا نماذج اخر.
فلماذا تنكّبوا عن الطريق الأسهل؟ أي المجيء بمثل للقرآن؟
و عليه، فقد كان القرآن معجزة، و هو اليوم معجزة، و سيبقى غداً معجزة أيضاً.
هذا القرآن معجزة يُوصف بأنّه مليء بالمجازات التي انتظمت بين آياته من أوّله إلى آخره، للحدّ الذي دفع السيّد الرَّضيّ رحمة الله عليه - جامع «نهج البلاغة» - لتأليف كتاب مستقلّ في مَجَازَات القرآن جمع فيه كلّ الآيات التي استعملت في المجاز، و أوضح فيه النكات البديعة في استعمال هذه المجازات. و قد ألّف كذلك كتاباً مستقلًّا في مجازات الرسول الأكرم صلّى الله عليه و آله و سلّم دعاه بـ «المجازات النبويّة».
فاستعمال الكلمة المجازيّة جائز في اللغة، لأنّه أبلغ في إيصال المعنى من استعمال الكلمة الحقيقيّة، و لذا فقد قيل: الكناية أبلغ من التصريح،
و المجاز أبلغ من الحقيقة، و الاستعارة أبلغ من التشبيه.۱
و يتّضح ممّا قيل أنّ الاستعارة و المجاز ليست كذباً، بل عين الحقيقة و الصدق و الصواب، فلا طريق فيها للكذب و البطلان، و لا يمكن لأحد توهّم الكذب و البطلان فيها. يقول السكّاكيّ إمام المحقّقين في الأدب في «مفتاح العلوم»:
و الاستعارة لبناء الدعوى فيها على التأويل تفارق الدعوى الباطلة، فإن صاحبها يتبرا عن التأويل. و تفارق الكذب بنصب القرينة المانعة عن إجراء الكلام على ظاهره، فإن الكذاب لا ينصب دليلا على خلاف زعمه؛ و أنى ينصب و هو لترويج ما يقول راكب كل صعب و ذلول؟٢
و هو عائد للمعنى الكّليّ للكذب و المجاز بالتفصيل الذي ذكر، ممّا ينفي أي مجال لشبهة.
النسبة بين الحقيقة و المجاز مع الصدق و الكذب عموم و خصوص من وجه واحد
و يمكن بعبارة منطقيّة القول إنّ النسبة بين الحقيقة و المجاز، و بين الصدق و الكذب هي عموم و خصوص من وجه، يعني:
۱ - يمكن أن يكون الكلام حقيقة و صدقاً، كأن تقول: جاء الأمير، و قصدك بالأمير نفس الأمير لا وزيره أو وكيله، و يكون الأمير قد جاء
حقّاً.
٢ - و يمكن أن يكون الكلام حقيقة و كذباً، كأن تقول: جاء الأمير؛ و يكون مرادك بالأمير نفس الأمير لا وزيره، لكنّ الأمير لم يكن قد جاء بعد.
٣ - و يمكن أن يكون الكلام مجازاً و صدقاً، كقولك. جاء الأمير؛ و قصدك بالأمير وزيره لا نفسه، و يكون الوزير قد جاء فعلًا.
٤ - و يمكن أن يكون الكلام مجازاً و كذباً، كقولك جاء الأمير، و قصدك بالأمير وزيره لا نفسه، لكنّ الوزير لم يكن قد جاء بعد.
و ينبغي بالطبع نصب قرينة لفظيّة كلاميّة في الحالة الثالثة و الرابعة، أي في الاستعمال المجازيّ بصورتيه الصادقة و الكاذبة على إرادتك بلفظ الأمير وزيره، أي على صرفك اللفظ عن معناه الظاهريّ.
لقد اتّضح معنى المجاز جيّداً، و علمنا أنّ القرآن الكريم مليء بالمجازات و الاستعارات التي هي في الحقيقة مجازات أيضاً؛ و أنّ آية:
إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ ، وَ ما هُوَ بِالْهَزْلِ،۱ و آية: لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ لا مِنْ خَلْفِهِ٢ راسختان رسوخ الجبل لا تتزعزعان؛ و أنّ مجيء المجاز و الاستعارة في القرآن عين الصواب لا الباطل، و عين الجدّ و الإحكام لا الهزل؛ فلا حقّ للمتعلّم في علم الكلام أن يتمرّد كما يشاء و يبدي رأيه و بلا تفكير أو ملاحظة للّغة و المحاورة، و بلا حفظ لظهورات القرآن، و بلا أساس و دليل يستند عليه، فيُعلن - كما يحلو له - قبوله لهذا القسم و رفضه لذاك، فالقرآن ثابت و راسخ و محكم، تترافق معانية الحقيقيّة
و استعاراته و تتشاكل و تتعاضد، و كلّها حقّ و صدق.
و على المرء أن يتعرّف على «معالم الاصول» و «المطوّل» للتفتازانيّ كحدّ أدنى ليفهم معنى المجاز و لا يضعه في قالب الكذب و ينسب الكذب إلى الله سبحانه.
و أمّا آية: فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً.۱
فلا مجاز هناك أبداً، بل جعلُ الولدان شيباً كناية عن شدّة ذلك اليوم.
نعم، نسبة الاتّقاء إلى يَوْم مجاز عقليّ، و المراد هو اتّقاء العذاب الواقع في ذلك اليوم، لا نفس اليوم.
و أمّا آية: فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقامَهُ،٢ فنسبة الإرادة إلى الجدار مجاز، و قد ذكره الزمخشري أيضاً في «أساس البلاغة».٣
و كما بيّنّا مفصّلًا فإنّ معنى المجاز خلاف المعنى الحقيقيّ، فإرادة الجدار هنا إرادة لا كإرادة الإنسان، بل جاءت بمعنى إشرافه على السقوط، و هذه الكلمة يعبّر بها في كثير من الموارد التي يكون فيها الفعل على و شك التحقّق و الوقوع.
شواهد السكّاكيّ في استعمال الأفعال في المعاني المجازيّة. إرادة الإفعال
يقول السكّاكيّ: و من أمثلة المجاز قوله تعالى: فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ؛٤ استُعملت قَرَأتَ مكان أرَدْتَ القِرَاءَة، لكون القراءة مسبّبة عن إرادتها استعمالًا مجازيّاً بقرينة الفاء في فَاسْتَعِذْ، و السنّة المستفيضة بتقديم الاستعاذة. و لا تلتفت إلى من يؤخّر الاستعاذة فذلك لـ (ضِيق
العَطَن).
و قوله: وَ نادى نُوحٌ رَبَّهُ،۱ في موضع أرَادَ نِدَاءَ رَبِّهِ، بقرينة. فَقَالَ رَبِّ.
و قوله تعالى: وَ كَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها،٢ في موضع أرَدْنَا هَلَاكَهَا، بقرينة قوله بعدها فَجاءَها بَأْسُنا، و البأس الإهلاك.
و كذلك من أمثلة المجاز، قوله: وَ حَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها،٣ في موضع أرَدْنَا هَلَاكَهَا، بقرينة أنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ، أي عن معاصيهم للخذلان.
و منه: ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَ فَهُمْ يُؤْمِنُونَ،٤ أي أردنا إهلاكها، إذ معنى الآية. كلّ قرية أردنا إهلاكها لم يؤمن أحد منهم أفهؤلاء يؤمنون؟
و ما أدلّ نظم الكلام على الوعيد بالإهلاك. أما ترى الإنكار في جملة أ فهم يؤمنون؟ لا يقع في المحز إلّا بتقدير وَ نَحْنُ عَلَى أنْ نُهْلِكَهُمْ؛ و إنّما حملت الامتناع من أخذ قَرَأتَ في الآية المباركة فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ على المعنى الحقيقيّ على ضيق العطن، لأنّه متى جرى فيما هو أبعد جرياً مستفيضاً يكاد يريك من إذا تكلّم بخلافه كمن صلّى لغير قبلة. إلى س كلّ أحد يقول للحفّار. ضَيِّقْ فَمَ الرَّكِيَّةِ، و عليه فقس، و التضييق كما يشهد لك عقلك الراجح هو التغيير من السعة إلى الضيق، و لا سعة هناك إنّما الذي هناك هو مجرّد تجويز أن يريد الحفّار التوسعة فينزل مجوّز مراده منزلة
الواقع، ثمّ يأمره بتغييره إلى الضيق، أما يجب أن يكون في الأقرب أجرى و أجرى، و أمثال ذلك ممّا تعدّى الكلمة بمعونة القرينة عن معناها الأصليّ إلى غيره لتعلّق بينهما.۱
لقد توسّعنا في الإجابة عن هذا الإشكال مع إمكان الردّ المختصر عليه ليتّضح الأساس الفكريّ و القيمة العلميّة لأدعياء الفلسفة في جامعاتنا من المتربّين في اوروبّا، الذين يسعون بهذا المستوى من المعلومات السير في «انبساط و انقباض نظريّة الشريعة» و يجتهدون في أحكامها، و يستبدلون المعاني القويمة للقرآن الكريم بالمفاهيم السطحيّة و المبتذلة.
الإشكال السادس: تأييده لُاسلوب المرحوم الطالقانيّ في تفسير الآية الكريمة:
الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَ أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَ حَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ وَ أَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَ مَنْ عادَ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ.٢
حيث اعتبر آكلي الربا في هذه الآية المباركة كالمجانين و المصروعين يقومون و يسقطون متخبّطين، فعبّر عن يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِ بالجنون.
و كان المرحوم الطالقانيّ قد اعتبر مسّ الشيطان تمثيلًا عن الصرع و باقي الاختلالات العصبيّة و النفسيّة.
و قد نقل صاحب مقالة «انبساط و انقباض ...» عبارته، ثمّ نقل ردّ العلّامة الطباطبائيّ عليها؛ لكنّه مع ادّعائه أنّ كلامه في المقام من وجهة نظر المعرفة و أنّه لا يتطرّق إلى تعيين حقّانيّة أو بطلان رأي هذا المفسّر أو ذاك، و أنّ المعرفة الدينيّة تطابق رأي هذا المفسّر أو ذاك،۱ لكنّه في بيانه و تمجيده لعبارة المرحوم الطالقانيّ و انتقاده للعلّامة الطباطبائيّ قد أظهر تأييده لذلك الاسلوب في التفسير.
و سنورد في معرض الردّ عين عباراته لبيان موارد الإشكال و الاشتباه في ذلك الاسلوب، ثمّ نشرع بنقدها و الردّ عليها، فقد قال:
تفسيره و توجيهه لعبارة «يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ»
جاء في الآية ٢۷٥ من سورة البقرة: الذين يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ؛ حيث اعتبر المرحوم الطالقانيّ في تفسيره «پرتوي از قرآن» (=إشعاع من القرآن) أنّ الذي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِ٢ هو تمثيل المرض الصرع و الاختلالات العصبيّة و النفسيّة الاخرى، إذ إنّ العرب كانوا ينسبون هذه الأمراض إلى مسّ الجنّ، و يقال بالفارسيّة لذلك «ديوانه» أي المصاب بالجنّ.
و قد قال بعض المفسّرين الجدد إنّ مسّ الشيطان ربّما كان إشارة إلى الجرثومة (الميكروب) التي تنفذ إلى المراكز العصبيّة، و ربمّا كان إشارة إلى منشأ الوسوسة و إثارة الأوهام و التخيّلات ذلك.٣
و نسأل. لماذا أورد المرحوم الطالقانيّ احتمالات كهذه في تفسير
هذه الآية؟ أو ليس للجنون إثر مسّ الشيطان معنى صريحاً و صحيحاً؟ فما الذي أجبره على القول إنّ القرآن قد تكلّم هنا بلسان الأعراب و تماشى متساهلًا مع أوهامهم و عقائدهم و خرافاتهم؟ و لِمَ استعان بالعلم الحديث فأشار إلى تأثير الجراثيم (الميكروبات)؟
لا شكّ و لا ريب أنّ هناك علّة واحدة لكلّ هذه الامور، و هي ترافق و تصاحب فهمه و ثقافته الدينيّة للفهم و الثقافة العصريّة؛ فكيف يمكن لمن يعتقد أنّ الصرع أو الجنون مسبّب عن دلائل مادّيّة (طفيليّة أو دوائيّة أو مخّيّة أو إرثيّة ...) أن يتجاهل عقيدته هذه و يعارضها؟
فإمّا أن يفسّر الشيطان بمعنى الجرثومة (الميكروب)، أو أن يقول إنّ هذه الأقوال كانت زمن نزول الوحي لمماشاة ثقافة الأعراب من عبدة الخرافات و الشعوذة.
لكنّ قولًا كهذا - كما أوضحنا - يكشف عن استراتيجيّة معيّنة و لا ينحصر في الاطر و الحدود الضيّقة؛ فإنّ عليه لهذا أن يُعيد النظر أيضاً في معنى الصدق، الكذب، الجدّ، الهزل، الحسن و القبح. فيعتبر وجود هذه المعاني في القرآن رغم منافاتها للواقع جدّيّاً و صادقاً و حسناً.
و عليه أيضاً أن يوسّع مفهوم «نزول القرآن بلسان قوم» و يستبدله بمفهوم «نزوله وفق ثقافة قوم»، أي توسعة معنى «عربيّة» القرآن؛ و أن يجيز أيضاً استخدام هذا الاسلوب في القصص التأريخيّة و المطالب العلميّة القرآنيّة الاخرى، فيرفع كلّ تعارض ظاهريّ يجده مع المكتشفات البشريّة المتقنة بهذا الاسلوب.
و عليه أن لا يعدّ هذا الأمر نقصاً في الدين، بل أن يعتبر الاستعانة بالكذب و الخرافات جائزاً كلّما وجب ذلك لأداء القصد و بيان الغرض، و في الحقيقة فإنّ المرحوم الطالقانيّ قد نحى هذا المنحى في تفسيره لبعض القصص القرآنيّة؛ أي أنّ أمثال هذا التفسير الذي أورده لهذه الآية
لا تصدر إلّا عن افتراضات كهذه، فإن لم نُضف لها تلك المبادئ فإنّها لن تفيد تلكم المعاني، و بالطبع فإنّها كانت آراءً تفسيريّة مخلصة لا قصد فيها لتحريف كتاب الله العزيز.
كما ينبغي ملاحظة خلو عمله من التأويل، بل انصبّ على إعطاء قاعدة لحلّ المشكلات التفسيريّة عند التعارض مع الواقع، و تلك القاعدة و الأصل هي. أنّ القرآن كما ورد بلسان العرب فقد جاء في قالب ثقافة العرب و عقائدهم (الصحيحة أو الخرافيّة)، لذا فلا ينبغي علينا البحث عن المعنى الصحيح و الدقيق لأجزائه، بل يجب الأخذ بالقصد و الغرض منه بشكل مجمل بغضّ النظر عن انطباق الآيات بحذافيرها مع الحقيقة و الواقع.
حتّى يصل إلى القول:
إنّ اسلوب و نهج المرحوم الطالقانيّ مقبول و متّبع عند بعض المفسّرين من أهل السنّة.۱
و ينقسم إشكالنا على كلامه إلى عدّة جهات:
الجهة الاولى: إذا ما قال لنا طبيب ما. إنّ تمام أنواع الجنون مسبّبة عن العلل المادّيّة، بالشكل الذي لا تأثير معه للجنّ في أي من جهات تلك النفوس؛ أفيجب علينا أن نأخذ كلامه فنقبله على علّاته بلا تحقيق و بلا بحث مهما استلزم مخالفة ظاهر آية من كلام الله المجيد؟ أم أنّ ذلك لا ينبغي علينا لضعف هذا المنطق و عدم سلامته!
أوّلًا: لم يدّعِ أي طبيب حتى الآن أنّ جميع أنواع الجنون لها علل و أسباب طبيعيّة و جرثوميّة (ميكروبيّة)؛ و ما ادّعى في هذا المجال فقد كان
لبعض أنواع الجنون لا جميعها.
و ثانياً: هل تعتبر الاكتشافات الطبّيّة العلل الطبيعيّة للجنون منافية لتأثير و مسّ نفوس الشياطين؟ أو أنّ منتهى إدراك الطبّ في البحث عن هذا السبب هو إلى هذا الحدّ؟ و أنّي له القدرة على نفي أسباب ماوراء إحاطة علمه و معرفته، و الادّعاء أنّ غير هذه العلل من الأسباب و العوامل و الشروط الاخرى ليست مؤثّرة أبداً في ظهور الجنون؟
إنّ الآية المباركة مورد البحث كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِ توضّح إجمالًا أنّ بعض أنواع الجنون تنشأ بمسّ الشيطان، أي إنّ للنفوس الشرّيرة من طائفة الجنّ تأثير في النفوس الضعيفة المستعدّة من طائفة الإنسان، فتسوقها للانحراف عن سلوك طريق الاعتدال إلى القيام بالحركات المضطربة غير المنسجمة في الأقوال و الأفعال؛ هذا هو مفاد ظاهر الآية الشريفة.
صاحب تفسير «المنار» ينكر تأثير الجنّ في مرض الصرع
و لقد رفض الشيخ محمّد عبده في تفسير «المنار» ظاهر الآية هذا لمجرّد أنّ هذا الأمر مستحيل، فالعلوم الحديثة ترفض تأثير الجنّ في الجنون؛ و قد سار المفسّرون الآخرون على هذا النهج فتابعوه في رأيه و قوله.
فهو يقول: ثمّ إنّ التشبيه مبنيّ على أنّ المصروع الذي يُعَبَّر عنه بالممسوس يتخبّطه الشيطان، أي أنّه يُصرع بمسّ الشيطان له، و هو ما كان معروفاً عند العرب و جارياً في كلامهم مجرى المثل. قال البيضاويّ في التشبيه.
و هو وارد على ما يزعمون أنّ الشيطان يخبط الإنسان فيُصرع، و الخبط ضرب على غير اتّساق كَخَبْطِ العَشْواء.
و تبعه أبو السعود كعادته فذكر عبارته بنصّها في تفسيره.
فالآية على هذا لا تثبت أنّ الصرع المعروف يحصل بفعل الشيطان حقيقةً و لا تنفي ذلك. و في المسألة خلاف بين العلماء:
أنكر المعتزلة و بعض أهل السنّة أن يكون للشيطان في الإنسان غير ما يعبّر عنه بالوسوسة. و قال بعضهم إنّ سبب الصرع مسّ الشيطان كما هو ظاهر التشبيه، و إن لم يكن نصّاً فيه. و قد ثبت عند أطبّاء هذا العصر أنّ الصرع من الأمراض العصبيّة التي تعالج كأمثالها بالعقاقير۱ و غيرها من طرق العلاج الحديثة. و قد يعالج بعضها بالأوهام،٢ و هذا ليس برهاناً قطعيّاً على أنّ هذه المخلوقات الخفيّة التي يعبر عنها بالجنّ يستحيل أن يكون لها نوع اتّصال بالناس المستعدّين للصرع، فتكون من أسبابه في بعض الأحوال.
و المتكلّمون يقولون إنّ الجنّ أجسام حيّة خفيّة لا تُرى، و قد قلنا في تفسير «المنار» غير مرّة إنّه يصحّ أن يُقال إنّ الأجسام الحيّة الخفيّة التي عُرفت في هذا العصر بواسطة النظّارات المكبّرة، و تسمّى بالميكروبات يصحّ أن تكون نوعاً من الجنّ، و قد ثبت أنّها علل لأكثر الأمراض. قلنا ذلك في تأويل ما ورد من أنّ الطاعون من وَخز٣ الجنّ.
على أنّنا نحن المسلمين لسنا في حاجة إلى النزاع فيما أثبته العلم
و قرّره الأطبّاء، أو إضافة شيء إليه ممّا لا دليل في العلم عليه لأجل تصحيح بعض الروايات الآحاديّة فنحمد الله تعالى أنّ القرآن أرفع من أن يعارضه العلم.۱
ردّ العلّامة الطباطبائيّ على القائلين بأنّ إسناد جنون العبد إلى الله
و قد قال العلّامة آية الله الطباطبائيّ قدّس الله سرّه في تفسير هذه الآية: إنّ التشبيه في قوله يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِ لا يخلو من إشعار بجواز تحقّق ذلك في مورد الجنون في الجملة، فإنّ الآية و إن لم تدلّ على إنّ كلّ جنون هو من مسّ الشيطان، لكنّها لا تخلو عن إشعار بأنّ من الجنون ما هو بمسّ الشيطان، و كذلك الآية و إن لم تدلّ على أنّ هذا المسّ من فعل إبليس نفسه فإنّ الشيطان بمعنى الشرّير يُطلق على إبليس و على شرار الجنّ و شرار الإنس، و إبليس من الجنّ٢، فالمتيقّن من إشعار الآية أنّ للجنّ شأناً في بعض الممسوسين إن لم يكن في كلّهم.
و ما ذكره بعض المفسّرين أنّ هذا التشبيه من قبيل المجاراة مع عامّة الناس في بعض اعتقاداتهم الفاسدة حيث كان اعتقادهم بتصّرف الجنّ في المجانين، و لا ضير في ذلك لأنّه مجرّد تشبيه خالٍ عن الحكم حتى يكون خطاً غير مطابق للواقع، فحقيقة معنى الآية. أنّ هولاء الآكلين للربا حالهم حال المجنون الذي يتخبّطه الشيطان من المسّ؛ و أمّا كون الجنون مستنداً
إلى مسّ الشيطان فأمر غير ممكن، لأنّ الله سبحانه أعدل من أن يسلّط الشيطان على عقل عبده أو على عبده المؤمن. و هذا القول بتمامه محلّ للإشكال.
فأوّلًا: أنّه تعالى أجلّ من أن يستند في كلامه إلى الباطل و لغو القول بأيّ نحوٍ كان من الاستناد إلّا مع بيان بطلانه و ردّه على قائله، و قد قال تعالى في وصف كلامه. و إنه لكتاب عزيز، لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه.۱ و قال تعالى: إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ ، وَ ما هُوَ بِالْهَزْلِ.٢
و ثانياً: قولهم إنّ استناد الجنون إلى تصرّف الشيطان بإذهاب العقل ينافي عدله تعالى، ففيه أنّ الإشكال بعينه مقلوب عليهم في إسنادهم ذهاب العقل إلى الأسباب الطبيعيّة، فإنّها أيضاً هي الاخرى مستندة إلى الله تعالى مع إذهابها العقل.
و ثالثاً: على أنّه في الحقيقة ليس في ذهاب العقل بإذهاب الله إيّاه إشكال، لأنّ التكليف يرتفع حينئذٍ بارتفاع الموضوع، و إنّما الإشكال في أن ينحرف الإدراك العقليّ عن مجرى الحقّ و سنن الاستقامة مع بقاء موضوع العقل على حاله، كأن يشاهد الإنسان العاقل الحسن قبيحاً و بالعكس، أو يرى الحقّ باطلًا و بالعكس جزافاً بتصرّفٍ من الشيطان.
فهذا هو الذي لا يجوز نسبته إلى الله تعالى، و أمّا ذهاب القوّة المميّزة و فساد حكمها تبعاً لذهاب نفسها فلا محذور فيه سواء اسند إلى الطبيعة أم إلى الشيطان.
و رابعاً: على أنّ استناد الجنون إلى الشيطان ليس على نحو الاستقامة
و من غير واسطة، بل الأسباب الطبيعيّة كاختلال الأعصاب و الآفة الدماغيّة أسباب قريبة وراءها الشيطان، كما أنّ نوع الكرامات تستند إلى الملك مع تخلّل الأسباب الطبيعيّة في البين، و قد ورد نظير ذلك فيما حكاه الله عن أيّوب عليه السلام، إذ قال: أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَ عَذابٍ،۱ و إذ قال: أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَ أَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ.٢
و الضُّرُّ هو المرض و له أسباب طبيعيّة ظاهرة في البدن، فنسب ما به من المرض المستند إلى أسبابه الطبيعيّة إلى الشيطان.
و هذا و ما يشبهه من الآراء المادّيّة التي دبّت في أذهان عدّة من أهل البحث من حيث لم يشعروا بها، حيث إنّ أصحاب المادّة لمّا سمعوا الإلهيّين يسندون الحوادث إلى الله سبحانه، أو يسندون بعضها إلى الروح أو المَلَك أو الشيطان اشتبه عليهم الأمر فحسبوا أنّ ذلك إبطال للعلل الطبيعيّة و إقامة لما وراء الطبيعة مقامها، و لم يفقهوا أنّ المراد به تعليل في طول تعليل لا في عرض تعليل، و قد مرّت الإشارة إلى ذلك في المباحث السابقة مراراً.٣
كان هذا حاصل المطالب الواردة في «تفسير الميزان» و التي مثّلت حقّاً جواباً كافياً و شافياً لذلك الاحتمال غير الوجيه.
كلام مؤلّف «روح المعاني» بشأن مسّ الشيطان قريب من وجهة نظر
كما أنّ من بين المفسّرين الذين كان لهم قبله بحث مفيد عن تخبّط المجنون من مسّ الشيطان، السيّد محمود الآلوسيّ البغداديّ في تفسير «روح المعاني»، حيث قارب قوله قول العلّامة إلى حدّ كبير، فهو يقول:
المسّ أي الجنون، يقال: مَسَّ الرَّجُلَ فَهُوَ مَمْسُوسٌ إذا جُنّ، و أصله اللمس باليد، و سمّي به لأنّ الشيطان قد يمسّ الرجل و أخلاطه مستعدّة للفساد فتفسد و يحدث الجنون. و هذا لا ينافي ما ذكره الأطبّاء من أنّ ذلك من غلبة مرّة السوداء،۱ لأنّ ما ذكروه سبب قريب و ما تشير إليه الآية سبب بعيد، و علّيّة مسّ الشيطان للجنون ليست مُطَّرِدة و لا منعكسة، فقد يحصل مسّ و لا يحصل جنون، كما إذا كان المزاج قويّاً، و قد يحصل جنون و لم يحصل مسّ، كما إذا فسد المزاج من دون عروض أجنبيّ، و الجنون الحاصل بالمسّ قد يقع أحياناً، و له عند أهله الحاذقين أمارات يعرفونه بها، و قد يدخل في بعض الأجساد على بعض الكيفيّات ريح متعفّن تعلّقت به روح خبيثة تناسبه فيحدث الجنون أيضاً على أتمّ وجه، و ربّما استولى ذلك البخار على الحواسّ و عطّلها، و استقلّت تلك الروح الخبيثة بالتصرّف فتتكلّم و تبطش و تسعى بآلات ذلك الشخص الذي قامت به من غير شعور للشخص بشيء من ذلك أصلًا، و هذا كالمشاهد المحسوس الذي يكاد يعدّ منكره مكابراً منكراً للمشاهدات.
و قال المعْتَزِلَةُ و القَفَّالُ من الشافعيّة. إنّ كون الصرع و الجنون من الشيطان باطل، لأنّه لا يقدر على ذلك، كما قال تعالى حكاية عنه: وَ ما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ،٢ فالآية واردة هنا على ما يزعمه العرب و يعتقدونه من أنّ الشيطان يخبط الإنسان فيُصرع و أنّ الجّنيّ يمسّه فيختلط عقله و ليس
لذلك حقيقة؛ و ليس بشيء، بل هو من تخبّط الشيطان بقائله و من زعمه المردود بقاطعيّة أدلّة الشرع، فقد ورد: ما من مولود يولد إلا يمسه الشيطان فيستهل صارخا.
و في بعض طرق الروايات: إلا طعن الشيطان في خاصرته و من ذلك يستهل صارخا. إلامريم و ابنها لقول امها: «وَ إِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَ ذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ»؛۱ و قوله صلّى الله عليه [و آله] و سلّم: كُفُّوا صِبْيَانَكُمْ أوَّلَ العِشَاءِ، فَإنَّهُ وَقْتُ انْتِشَارِ الشَّيَاطِينِ.
و قد ورد في حديث المفقود الذي اختطفته الشياطين و ردّته في زمان رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم أنّه حدث من شأنه معهم قال: فَجَاءَنِي طَائِرٌ كَأنَّهُ جَمَلٌ قَبَعْثَرَي فَاحْتَمَلَنِي عَلَى خَافيةٍ مِنْ خَوافيهِ.٢
إلى غير ذلك من الآثار، و في كتاب «لَقَط المرجان في أحكام الجانّ» كثير منها.
و اعتقاد السلف و أهل السنّة أنّ ما دلّت عليه امور حقيقيّة واقعة كما أخبر الشرع عنها و التزام تأويلها كلّها يستلزم خبطاً طويلًا لا يميل إليه إلّا المعتزلة و من حذا حذوهم، و بذلك و نحوه خرجوا عن قواعد الشرع القويم فَاحْذَرْهُمْ قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ.٣
و أمّا الآية التي ذكروها في معرض الاستدلال على مدّعاهم فلا تدلّ عليه، إذ السلطان المنفيّ فيها إنّما هو القهر و الإلجاء إلى متابعته،
لا التعرّض للإيذاء و التصدّي لما يحصل بسببه الهلاك؛ و من تتبّع الأخبار النبويّة وجد الكثير منها قاطعاً بجواز وقوع ذلك من الشيطان، بل وقوعه بالفعل.
و خبر: الطَّاعُونُ مِنْ وَخْزِ أعْدَائِكُمُ الجِنِ صريح في ذلك، و قد حمله بعض مشايخنا المتأخّرين على نحو ما حملنا عليه مسألة التخبّط و المسّ حيث قال: إنّ الهواء إذا تعفّن تعفّناً خاصّاً مستعداً للخلط و التكوين، تنفرز منه و تنحاز أجزاء سمّيّة باقية على هوائيّتها أو منقلبة بأجزاء ناريّة محرقة، فيتعلّق بها روح خبيثة تناسبها في الشرارة و ذلك نوع من الجنّ، فإنّها على ما عُرف في الكلام أجسام حيّة لا تُرى، إمّا الغالب عليها الهوائيّة أو الناريّة.
و لها أنواع عقلاء و غير عقلاء، تتوالد و تتكوّن، فإذا نزل واحد منها طبعاً أو إرادة على شخص أو نفذ في منافذه، أو ضرب و طعن نفسه به يحصل فيه بحسب ما في ذلك الشرّ من القوّة السمّيّة و ما في الشخص من الاستعداد للتأثّر منه - كما هو مقتضى الأسباب العاديّة في المسبّبات - ألم شديد مهلك غالباً مظهر للدماميل و البثرات في الأكثر لسبب إفساده للمزاج المستعدّ، و بهذا يحصل الجمع بين الأقوال في هذا الباب، و هو تحقيق حسن لم نجده لغيره؛ كما لم نجد ما حقّقناه في شأن المسّ لأحد سوانا.۱
و على كلّ حال فطبقاً لمنطق القرآن الكريم و البحوث العقليّة في دورة معارف الإسلام و الحكمة المتعالية فإنّ كلّ المعلومات في عالم الطبع و المادّة مستندة إلى علّة في عالم ما بعدها، وصولًا إلى علّة العلل و مسبّب
الأسباب.
فالعلل الأعلى لا تبطل عمل المعلولات الأوطأ، بل هى حاكمة عليها، و تلك العلل نفسها هي الموجدة و المُظهرة للعلل الطبيعيّة، و الآية الكريمة: فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً۱ شاهد صادق لهذا الادّعاء.
و لقد برهنّا هذا الأمر بحول الله و قوّته في دورة العلوم و المعارف الإسلاميّة، قسم «معرفة المعاد»، الجزء الثالث، المجلس السابع عشر؛ و أوضحنا أنّ التعبير عن الجنّ بالجرثومة (الميكروب) ناشئ عن عدم التفقّه و التعمّق في المسائل العلميّة.
يقول القرآن. الإنس و الجنّ طائفتان قابلتان للخطاب و لهما شعور
الجهة الثانية من جهات الإشكال: إنّ مسألة وجود الجنّ مسألة ثابتة لا تردّد فيها طبقاً للآيات القرآنيّة و الشواهد الخارجيّة، فقد قسّم القرآن الكريم المكلّفين إلى مجموعتين و فئتين. الإنس و الجنّ، و كان خطابه موجّهاً لكليهما معاً، كالآية: يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطانٍ ، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ.٢
و مثل آية: سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ ، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ.٣
و آية: وَ لَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَ لَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَ لَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ.٤
فالقرآن الكريم يعتبر الإنسان و الجنّ موجودينِ مادّيّينِ يمتلكان الشعور و الإدراك، و قابلينِ للأمر و النهي، و اعتبرهما في جنب بعضهما قابلينِ للخطاب و المفاهمة، خلق الربّ المتعال أوّلهما من الطين و ثانيهما من النار:
خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ ، وَ خَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ ، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ.۱
و تبعاً لذلك فأصل خلق الجنّ من النار و الغازات غير المرئيّة، و له نزوع إلى الأعلى، في حين أنّ أصل خلق الإنسان من الطين المرئيّ، و نزوعه إلى الأسفل. و لهاتين المجموعتين نبيّ إنسيّ مشترك هو خاتم الأنبياء مُحَمَّدُ بْن عَبْدِاللهِ صلّى الله عليه و آله و سلّم، فهو نبيّ للجنّ، كما هو نبيّ للإنس:
وَ إِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ قالُوا يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَ إِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ وَ آمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَ يُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ ، وَ مَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَ لَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءُ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ.٢
جميع أفراد الجانّ مكلّفون كالإنسان، جزاء عملهم الجنّة و النار
و هناك سورة في القرآن الكريم باسم سورة الجنّ جرى فيها بشكل
مفصّل بيان إيمان الجنّ برسول الله و انقسامهم إلى مجموعتين. صالحة و طالحة، مسلمة و متعدّية قاسطة، ثمّ بيان الثواب و العقاب الاخروي الذي ينتظرهم. و تحوي هذه السورة على دقائق بديعة و شرح حال الجنّ، إذ يأمر الله سبحانه نبيّه أن:
قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً ، يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَ لَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً ، وَ أَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَ لا وَلَداً ، وَ أَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا عَلَى اللَّهِ شَطَطاً ، وَ أَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَ الْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِباً ، وَ أَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً ، وَ أَنَّهُمْ ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَداً ، وَ أَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَ شُهُباً ، وَ أَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً ، وَ أَنَّا لا نَدْرِي أَ شَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً ، وَ أَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَ مِنَّا دُونَ ذلِكَ كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً ، وَ أَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَ لَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً ، وَ أَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً وَ لا رَهَقاً ، وَ أَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَ مِنَّا الْقاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً ، وَ أَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً ، وَ أَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً ، لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَ مَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذاباً صَعَداً ، وَ أَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً ، وَ أَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً.۱
أمّا بشأن إمكان معاشرة و اختلاط أي من طائفتي الجنّ و الإنس
ببعضهم ظاهراً أو باطناً، و إعانة بعضهم بعضاً في الإيمان و الكفر، و بإجمال. أن يكون لهم تأثير على بعضهم البعض مع حفظ إرادة و اختيار كلّ من هذين الطائفتين، فقد وردت بذلك آيات من القرآن الكريم في أنّ الله سبحانه يجمع يوم الجزاء طائفتي الإنس و الجنّ فيتمّ الحجّة عليهما أنّهما قد تنكّبا عن جادّة الصواب و تبعا بعضهما بلا إجبار و إلزام، بالرغم من إرساله الرسل و الأنبياء إليه ما لإنذارهما، فآل عاقبة أمرهما إلى الخسران و العذاب؛ فيقول:
وَ يَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَ قالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ وَ بَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا قالَ النَّارُ مَثْواكُمْ خالِدِينَ فِيها إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ، وَ كَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ ، يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ أَ لَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي وَ يُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا وَ غَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَ شَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ ، ذلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَ أَهْلُها غافِلُونَ ، وَ لِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَ ما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ.۱
فالله سبحانه يكلّف جميع أفراد الإنسان و الجانّ و يثيبهم حسب ذلك التكليف، أو يسوقهم إثر تجرّيهم و معصيتهم و إتمامه الحجّة عليهم إلى جهنم؛ فهو يعدهم العذاب الأليم و الخسران في عاقبة الأمر:
أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ
الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ.۱
وَ قَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ ما خَلْفَهُمْ وَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ.٢
وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانا مِنَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ.٣
وَ تَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَ النَّاسِ أَجْمَعِينَ.٤
وَ لكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَ النَّاسِ أَجْمَعِينَ.٥
وَ جَعَلُوا بَيْنَهُ وَ بَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً وَ لَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ ، سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ ، إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ.٦
فمن تأمّل أدنى تأمّل في هذه الآيات أدرك أنّ الجنّ خُلقوا مساوين للإنسان، فهم في التكليف و المؤاخذة و الاختيار و الإرادة و الثواب و العقاب و السَّوْق إلى الجنّة أو الهوى في جهنم على حدٍّ سواء. و بالطبع فإنّ وجودهم أضعف من الإنسان، كما أنّ أفراد الإنسان أنفسهم يتفاوتون بينهم قوّة و ضعفاً.
و باعتبار تفوّق الإنسان في القوّة على الجنّ، فقد كان نبيّ الجنّ من طائفة الإنس، لا من أنفسهم؛ فالآية المذكورة أَ لَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ تعني. رسل من جنس المادّة و الطبيعة، مقابل الملائكة الذين هم
موجودات ملكوتيّة.
فهؤلاء الأنبياء كانوا من جنس البشر؛ و البشر و الجنّ متجانسان، أي من مادّة و طبيعة واحدة؛ فالقول إنّ هؤلاء الأنبياء كانوا من جنس الجنّ هو قول صحيح و صائب.
و قد قال العلّامة الطباطبائيّ قدّس الله نفسه الزكيّة. و لقد سئل عن هذا الأمر من الجنّ أنفسهم. «ألم يأتكم رسل منكم»؟ أي من جنسكم، فقالوا في الإجابة. إنّ أنبياءنا من الإنس، و إنّا آمنّا بخاتمة الرسالات و أقررنا بالنبيّ خاتماً للرسل.
أفليس من المضحك و المثير للسخرية مع وجود هذه المطالب و هذه الآيات الجليّة أن يقول امرئ. إنّ الجنّ في القرآن بمعنى الميكروب. أو إنّ بعض أنواعهم ميكروبات؟ ذلك لأنّ الميكروب موجود حيّ و صغير و خفيّ. أفهل يحشر الله سبحانه هذه الميكروبات فيحاسبها و يعذّبها؟
أو أنّها تُلقى في جهنّم مع البشر رديفاً لهم؟
أو كانت هذه الميكروبات هي التي تشرّفت بالحضور عند رسول الله في مكّة فآمنت به، و حكى الله سبحانه أقوالهم في قرآنه؟
فمحلّ نزولهم في مكّة معين معروف، و قد سمّي بمسجد الجنّ، يقع قرب المسجد الحرام في شارع المسجد الحرام، حيث يستحبّ للحجّاج الذهاب إليه و الصلاة فيه ركعتينِ.
قال لي يوماً أحد المطّلعين في أحد مجالس طهران. أيّها السيّد! إنّ هؤلاء الأمريكان هم الجانّ أنفسهم، و إنّ من معجزات القرآن الكريم إخباره عن اكتشاف قارّة أمريكا؛ لأنّ الجنّ معناه الموجود الخفيّ الحيّ، و الأمريكان كانوا حتماً أحياء عند نزول القرآن و مخفيّين عن نظر جميع أفراد البشر.
فأجبته: إنّ الجنّ مقابل الإنس و عِدْله و مساويه، و هذه الحقيقة مشهورة في الخطابات القرآنيّة التي تَعِدّ الجنّ مع الإنس و ليس ضمنهم، و إنّ جميع أفراد البشر وُجدوا من أصل واحد هو آدم و زوجه، تبعاً للآية الكريمة الصريحة: يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَ خَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَ بَثَّ مِنْهُما رِجالًا كَثِيراً وَ نِساءً.۱
فحيثما وُجد البشر فهو إنسان من ولد آدم لا من الجنّ؛ لذا فإنّ جميع الرجال و النساء على ظهر البسيطة هم من آدم و حوّاء، و لا دخل للجنّ في هذا النسل، فالإنسان الإفريقيّ و الأمريكيّ و العنصر الأحمر هم كلّهم من طائفة الإنسان، و الإنسان غير الجنّ.
ينبغي لمفسِّر القرآن أن يكون عالماً بلسان القرآن
إنّ هؤلاء الأفراد الذين يقحمون أنفسهم في التفسير بدون أن يمتلكوا معرفة بالمنطق القرآنيّ، فيحاولون تفسير القرآن وفق علومهم و مدركاتهم، ستظهر منهم مثل هذه المطالب، فيدعون الميكروب شيطاناً و قصص القرآن تمثيلًا؛ و في الحقيقة فإنّهم سيعرضون أساطير و حكايات وهميّة من نسج خيالهم، و حاشا من كلامه العالي، و قد قال: إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ، وَ إِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ؛٢ أن يسقط إلى هذا الحدّ في المطالب السطحيّة و التخيّلات الوهميّة.
فلو فهم هؤلاء المفسّرون آية واحدة فقط من القرآن. و ما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا، لما حاولوا - إلى آخر حياتهم - أن يمسكوا بقلم التفسير و يقتحموا ميدانه.
فحين يدرك الإنسان ضحالة علمه، فسيدع جانباً المطالب القرآنيّة السامية و الراقية التي تقصر الأفكار عن بلوغها، و يسلك طريق البحث و التنقيب إلى آخر عمره ليتّضح الأمر لديه بدرجة كافية؛ لا أن يكرّر على الدوام هذه الصيغة المحفوظة التي استظهرها الجميع:
إنّ العلم لا يؤيّد هذا الأمر! إنّ التجربة لم تثبت ذلك!
إنّ علم وظائف الأحياء و علوم الحياة لم تفعل كذا و كذا ... إلى آخره. فما علاقة علم وظائف الأعضاء و علوم الحياة بكشف الجنّ و الشيطان، أو برؤية الملائكة؟
إنّ الاطّلاع على هذه الامور له طريق آخر إن لم يسلكه الإنسان فلا حقّ له في التدخّل و إظهار النظر، و هذا الأمر من الواضحات، إذ إنّ فروع العلوم كثيرة و متشعّبة، و كلّ منها يختصّ بموضوع معيّن، فاستخدام علم وظائف الأعضاء في الورود في علم كشف الحقائق و المخفيّات بما فيها الموجودات الملكوتيّة الرحمانيّة و الموجودات الجنّيّة الشيطانيّة، و السعي بتلك الأدوات و الوسائل للعثور على حلول لمسائل هذه العلوم هو كالوصول إلى بلاد الترك لمن كان يحثّ الخطى قاصداً مكّة!
لا ندّعي بوجوب حيازة المفسّر لروح ملكوتيّة، و لا نبغي ألّا يفسّر القرآن أحد. لكنّنا نقول ينبغي للمفسّر أن يلمّ بمعاني و مصطلحات القرآن، فيفسّر القرآن كما يريد القرآن، و بلسان القرآن، و إن لم يكن المفسّر مسلماً حتى، بل هو مسيحيّ أو يهوديّ، فالمهمّ في الأمر أن لا يتخطّى في تفسير القرآن المنطق القرآنيّ و الرؤية القرآنيّة، فيقول ما قاله القرآن بغضّ النظر عن اعتقاده الشخصيّ.
إنّ من أكبر الهفوات التي ارتكبها الشيخ محمّد عبده في تفسير «المنار» هو قلّة اهتمامه و عنايته في تفسيره بحقائق و معنويّات و اسس
العالم العلويّ و خلقة موجودات ماوراء هذا العالم، في حين عنى و اهتمّ باسس و علائق العلوم المادّيّة و التقدّم الطبيعيّ.
فهذا المنطق لا يمنح الروح البشريّة الارتواء، و لا يخمد عطشها الملتهب، لأنّ البشر مرتبط و متعلّق بعالم الغيب، فبدنه في عالم الشهادة لكنّ روحه و سرّه و كمون وجدانه في عالم الملكوت، فلا يمكن إرضاءه و إشغاله بهذه العلوم الفانية البشريّة. لكنّ تفسير «الميزان» على معلّمه آلاف التحيّة و الثناء و الرحمة الإلهيّة الموصولة، قد فتح هذا الباب في التفسير، فاعتبر الولاية هي حقيقة معاني القرآن، و قدّم العرفان على أنّه الطريق الوحيد للوصول إلى سرّ الملكوت. فقد استفاد في هذا التفسير من سنّة النبيّ الأكرم في إشباعه الأرواح الغرثى، و إروائه المتعطّشين للمعارف في دعوته إلى الله و وحدته الحقّة الحقيقيّة، و إلى عالم الروح و الملكوت، و إلى الوصول إلى مقام الولاية، و التزوّد من كِلا عالَمَي الملك و الملكوت.
شهرة العلّامة الطباطبائيّ في البلدان العربيّة تفوق شهرته في إيران
لذا، فقد لوحظ. أنّ تفسير العلّامة الطباطبائي قدّس الله سرّه الزكيّ قد حاز هذه الأيّام في مصر و لبنان و بعض البلاد الاخرى هذه الشهرة الفائقة؛ و مع أنّ مؤلّف «المنار» سنّيّ المذهب و من أهل تلك البلاد و الديار - أي مصر - لكنّ المعلّمين و خِرِّيجي المعاهد و الجامعات المصريّين و اللبنانيّين قد شغفوا بتفسير «الميزان» إلى الحدّ الذي لم نكن لنتصوّره أبداً.
لقد ذهبتُ خلال حلولي في مدينة مشهد المقدّسة لزيارة أحد علماء النجف الأشرف المقيمين حاليّاً في قم بعد تشرّفه بالقدوم للزيارة؛ و ذلك بعد مدّة قصيرة من كتابتي لرسالة «مهر تابان» (=الشمس الساطعة) كتخليد لُاستاذنا العلّامة، حيث طُبعت تلك الرسالة بسرعة؛ و كان مجلس ذلك العالم يضمّ جمعاً من أولاده و أصهاره، و قد تطرّق الحديث إلى رحلة العلّامة، و كان الحاضرون يدلون بأقوالهم، فسألني أحد أصهار هذا العالم،
و كان من مواليد النجف و من أصل عربيّ من أحفاد المرحوم الصدر. ألم تكتبوا هذه الرسالة بالعربيّة؟ فلقد كان حريّاً أن تُكتب بتلك اللغة.
فأجبته: لقد كان العلّامة من المتكلّمين بالفارسيّة، و إيران بلده و موطنه. و قد الّف هذا الكتاب للتعريف بأحواله، و من الواضح أنّ شهرة العلّامة في إيران أكثر من غيرها.
قال: إنّك على خطأ، فللعلّامة في البلاد العربيّة شهرة تفوق عشرات المرّات شهرته في إيران؛ فأساتذة الجامعات و أهل الفنّ و الاطّلاع، و حتى طلبة الجامعات يعتمدون على تفسير «الميزان»، و صار هذا الأمر عاديّاً معهوداً. فالكلّ يعتبر «الميزان» مصدراً أصيلًا للتحقيق، في حين تراجعت جانباً تفاسير «المنار» و «في ظلال القرآن» و أمثالها.
و كان يقول: لقد كنتُ بنفسي مقيماً هناك، و لمستُ هذا الأمر عن قُرب.
فقلت: ليس في الأمر من مشكلة، إذ يمكن لبعض أهل الخبرة ممّن لهم إلمام كامل بالعربيّة أن يترجم هذا الكتاب إليه ا. ليتّضح لهم الاسلوب الأخلاقيّ و السلوك الأدبيّ، و أيضاً علوّ همّة و إخلاص هذا الفقيد السعيد. رَحمةُ اللهِ عَلَيْهِ مَا بَقِيَتِ السَّمَاوَاتُ وَ الأرَضُونَ.
كما أنّ مسألة تأثير الجنّ في النفوس البشريّة هي إلى الحدّ الذي بيّن الله المتعال في قرآنه الكريم من باب سنّته القطعيّة في مسألة دعوة الأنبياء و المرسلين جَعْله أعداءً لهم من طائفة الإنس ليعاكسوا مسيرة الدعوة و يعرقلوا تبليغ الرسالات الإلهيّة و يختلقوا المشكلات و العقبات أمامها، و كذلك يجعل الله أعداءً من طائفة الجنّ لمثل هذا الأمر، فيعاضدون الأعداء الإنسيّين في إيجاد الموانع و العقبات أمام سبيل دعوة الأنبياء و إبلاغهم رسالات الله؛ كلّ ذلك لتكون دعوة الأنبياء مقرونة بالجدّ و الجهد، محفوفة
بالمشقّة و المجاهدة و التعب:
وَ كَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَ الْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَ لَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَ ما يَفْتَرُونَ وَ لِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَ لِيَرْضَوْهُ وَ لِيَقْتَرِفُوا ما هُمْ مُقْتَرِفُونَ۱
الاعتصام بالله من شرّ وساوس الجنّ و الإنس
فينبغي للإنسان، لهذا الأمر، أن يستعيذ بالله تعالى من شرّ شياطين الجنّ، كما يستعيذ به من شياطين الإنس.
فالشيطان بمعنى الموجود الشرّير، و ليس كلّ الجنّ شياطيناً، كما ليس كلّ الإنس شياطيناً؛ و الشيطان الجنّيّ هو ذلك الجنّيّ الكافر غير المسلم، الذي من دأبه الفساد و الشرّ و الشيطنة، كما أنّ من دأب الشيطان الإنسيّ، أي الإنسان غير المسلم، الإضرار و الإعاثة في الأرض فساداً.
فشياطين الجنّ تأنس بشياطين الإنس و تصحبها، كما أنّ مسلمي الجنّ هم في صدد إعانة و مساعدة مسلمي الإنس.
و يتمثّل عمل شياطين الإنس في الوسوسة الظاهريّة و الخارجيّة للإنسان، فهم يغرّونه و يحرفونه بكلامهم المعسول عن الصراط المستقيم، و يسوقونه إلى أهدافهم و غاياتهم الفاسدة التي تعقب الخسران و الندامة.
في حين يوسوس شياطين الجنّ إلى الإنسان من باطنه و داخله، فيوردون عليه الخواطر السيّئة و الأفكار الجاهلة و الآراء الكاسدة الفاسدة، ليبعثوه على ارتكاب الأعمال الشرّيرة و الخبيثة و يزيّنون له ذلك.
و الوسوسة هي حديث النفس بما ليس من مصلحة الإنسان فعله، بل بما يحيد به عن الاستقامة و النهج القويم.
و قد ورد في سورة الناس أنّ على الإنسان أن يستعيذ بالله و يحتمي به و يلتجئ إليه من هذه الوساوس التي يسوقها إليه كلّ من الجنّ و الإنس:
قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ ، مَلِكِ النَّاسِ ، إِلهِ النَّاسِ ، مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ الْخَنَّاسِ ، الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ ، مِنَ الْجِنَّةِ وَ النَّاسِ.۱
و قد نزل جبرائيل بهذه السورة مع سورة الفَلَق على رسول الله من قبل الله سبحانه، و ذلك حين حُمّ الحسنان عليهما السلام و مرضا، لتُقرأ عليهما فيشفيان. و معروف أنّ هاتين السورتين لم يضمّهما مصحف ابن مسعود، فهكذا ورد عن أهل البيت عليهم السلام، لأنّ ابن مسعود كان يعتقد أنّهما تعويذتان نزل بهما جبرائيل من السماء ليُعوّذ بهما الحسنان، و لقد عُلَّقتا عليهما و قُرِأتا فشفيا؛ أمّا الآخرون غير ابن مسعود فقد عدّوهما من سور القرآن.
و المراد بالمعوّذتين - بصيغة اسم الفاعل - سورتا قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ، و تتضمّن الاستعاذة بالله من كلّ شرّ روحيّ و وساوس باطنيّة؛ و سورة قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ و تتضمّن الاستعاذة بالله من كلّ شرّ بدنيّ و جسميّ و دنيويّ.
و قد روى المجلسيّ رضوان الله عليه عن رسول الله صلى الله عليه و آله و سلّم أنّه كان يقرأ آية الكُرْسِيِّ حين يأوي إلى فراشه، و يقول: إنّ جبرائيل جاءني فقال: يَا مُحَمَّدُ! إنَّ عِفْرِيتاً مِنَ الجِنِّ يَكِيدُكَ في مَنَامِكَ؛ فَعَلَيْكَ بِآيَةِ الكُرْسِيِّ.٢
و لقد أردنا أن نكتفي في هذه البحوث بآيات القرآن لتكون حجّة قاطعة على منكري وجود الجنّ و تأثيراتهم السيّئة، و إلّا فإنّ الروايات المستفيضة من الشيعة و السنّة قد فاقت حدّ الإحصاء، و يحتاج البحث فيها إلى كتاب مستقلّ.
أمّا من جهة المشاهدة الخارجيّة للجنّ، فلا نتطرّق إلى نقل ما جاء في الكتب و التواريخ من حكايات، بل نكتفي فقط بنقل عدّة فقرات من مشاهدات قد حصلت في زماننا منقولة عمّن يوثق بكلامهم.
فضمن بيان أنّ تقسيم الاية المباركة: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ في مربّعات إلى الحروف الأبجديّة مفيد لدفع الجنّ عن الأفراد المبتلين بالجنّ، قال الاستاذ العلّامة الطباطبائيّ قدّس الله سرّه الشريف.
لقد تطرّق الحديث يوماً في مجلس ما - و كنتُ حاضراً هناك أسمع و اشاهد - إلى موضوع أنّ الجنّ هل يستطيعون الدخول من الأبواب المقفلة، أو أن يستخرجوا أشياء من صناديق مقفلة أم لا؟ فقال أحد الحاضرين ممّن يدّعي تسخير الجنّ. نعم! يستطيع الجنّ أن يخرجوا الأشياء من الصناديق المغلقة و المقفلة.
و كان في ذلك المجلس صندوق كبير لحفظ الملابس موضوعاً في زاوية الغرفة، وُضعت فيه صرر الملابس، فجيء به إلى وسط الغرفة، و احكم إقفاله بأقفال متينة عديدة، و فوق ذلك فقد جلس رجل ثقيل ضخم الجثّة فوق ذلك الصندوق. و فجأةً شاهدنا عياناً أنّ صرر الملابس منضودة جميعاً على الأرض خارج الصندوق، فدهشنا لذلك. ثمّ نهض ذلك الرجل الضخم ذو البنية القويّة جانباً من على الصندوق، و فُتحت الأقفال و رُفع غطاء صندوق الملابس فرأيناه خالٍ من صرر الملابس!
قصّة إحضار الجنّ من قبل السيّد البحرينيّ في محضر العلّامة
و قال العلّامة أيضاً. لقد جاءني يوماً السيّد نور الدين (ولده الأصغر)
حين كنتُ في طهران فقال: أبي العزيز! إنّ البحرينيّ موجود في طهران حاليّاً، فتريدون أن أجيئكم به على الفور؟
و كان السيّد البحرينيّ أحد الأفراد المعروفين و المشهورين بإحضار الجنّ، و من المتبحّرين في علم الأبجد و حساب المربّعات.
قلتُ: لا مانع من ذلك.
فذهب السيّد نور الدين و عاد بعد ساعة أو ساعتين و بصحبته السيّد البحرينيّ، فجلس في المجلس، ثمّ جيء بعباءة و وضع طرفَي العباءة في يديّ، و أمسك طرفيها الآخرين بيديه، و كانت العباءة مرتفعة عن الأرض - و نحن نمسك بها - بحوالي شبرينِ.
ثمّ قام بإحضار الجانّ على هذه الحالة، فتصاعدت ولولة و همهمة شديدة تحت العباءة، و كانت العباءة تهتزّ بشدّة تكاد معها أن تفلت من أيدينا، و كنت امسك بها بقوّة، فرأيتُ تحت العباءة مخلوقات شبيهة بالآدميّين قصار القامة لا تتجاوز قاماتهم الشبرين مزدحمين بأعداد كبيرة يتحرّكون و يذهبون و يجيئون.
و لقد شاهدتُ بكمال الفراسة أنّ هذا المنظر كان خالياً من خداع الأعين و الأجواء المفتعلة، كلّا بالتأكيد، فلقد كان أمراً ذا وقوع خارجيّ مائة في المائة.
و في هذه الحال فقد رسم السيّد البحرينيّ مربّعاً ذا اثنين و ثلاثين قسماً، و لم أكن قد سمعتُ أو شاهدتُ قبلًا مربّعاً كهذا، لأنّ سير المربّعات أربعة في أربعة، أو خمسة في خمسة، و مهما تصاعدت كمربّع مائة في مائة فهي على هذا المنوال؛ لكنّ مربّعاً ذا اثنين و ثلاثين قسماً غير موجود في أ يّ كتاب. و كان السيّد البحرينيّ يطرح عَلَيّ أسئلة و يسجّلها ثمّ يجيب عليها، فأجاب عن بعض مشكلاتنا التي لم يطّلع عليها أحد بإجابات
صحيحة و صادقة.
و لقد امتلكني العجب ذلك اليوم كثيراً؛ كما هي الحال حين أحضر الأديب۱ - و كان من تلامذة أخي السيّد محمّد حسن - روح القاضي رحمة الله عليه و سأله عنّي فأجاب: إنّ سلوكه مقبول و جيّد جدّاً، و العيب الوحيد الذي فيه أنّ أباه غير راض عنه و يقول إنّه لم يُشركه معه في ثواب التفسير الذي كتبه.
و حين كتب إلى أخي هذا المطلب من تبريز قلتُ في نفسي. إنّني لم أكن أرى لنفسي ثواباً من التفسير كي اهديه لأبي، فيا إلهي! إن كنتَ بلطفك قدّرتَ لي ثواباً على هذا التفسير فاجعله من نصيب والديّ فقد أهديتهما ثوابه بأجمعه.
ثمّ وصلتني رسالة اخرى بعد عدّة أيّام من أخي يقول فيها. إنّه حين أحضر روح المرحوم القاضي قال له. الآن رضي أب السيّد محمّد حسين عنه، فهو سعيد لمشاركته إيّاه في الثواب. و لم يكن لأحد خبر عن إهداء الثواب هذا.
مشاهدة آثار الجنّ في مشهد المقدّسة من قبل آية الله الشيخ الدامغانيّ
و لقد قال آية الله الحاجّ الشيخ محمّد رضا مهدوي الدامغانيّ دامت بركاته، و هو من علماء مدينة مشهد المقدّسة البارزين: لقد غضب يوماً المرحوم الحاجّ الشيخ حسن على نخودكي الأصفهانيّ أعلى الله مقامه الشريف على أحد تلامذته و هو المرحوم السيّد أبوالحسن حافظيان إثر خطأ و اشتباه ارتكبه في أمر ما، فقال المرحوم الشيخ له. إمّا أن استعيد منك
إجازة إعمال جميع الأشياء التي أعطيتك، أو أن ابعدك من هنا.
فرضي المرحوم حافظيان بالإبعاد؛ فقال له الشيخ. ينبغي عليك الذهاب عشر سنين إلى الهند، على أن لا تقدم خلالها إلى مشهد مطلقاً، ثمّ تبقى هناك بعدها خمس عشرة سنة اخرى يحقّ لك فيها التردّد المحدود على مشهد، ثمّ إن شئت بعدها المجيء إلى مشهد و الإقامة فعلتَ.
و قد ذهب المرحوم حافظيان إلى الهند عشر سنين، ثمّ كان بعد ذلك يتشرّف بزيارة مشهد بين مدّة و اخرى؛ و اتّفق أن حدثت قصّة خلال إحدى سفراته إلى مشهد تدخّل بنفسه في حلّها، و قد شهدتُ تلك القضيّة بنفسي.
فلقد جاء يوماً أحد أهالي المنبر في كرمانشاه، و اسمه المرحوم صَدْر، و هو مقيم في مشهد منذ سنوات قلائل؛ جاء إلى والدي المرحوم آية الله الحاج الشيخ محمّد كاظم الدامغانيّ رحمة الله عليه و قال: إنّ الجانّ يؤذوننا في المنزل كثيراً، فهم يثيرون الصخب و لا يدعوننا ننام بسلام، فهم يوقظوننا بضجيجهم، فنشاهد بكرة البئر تدور و الماء يخرج من البئر ثمّ يُسكب فيه ثانية، لكنّنا لا نشاهد أحداً، و كلّ ما نشاهده حركة البكرة و دورانها.
فقال المرحوم أبي: أرغبُ كثيراً أن اشاهد بامّ عيني بعض هذه الأعمال التي يعملونها. فإن عملوا هذه المرّة شيئاً ممّا يمكن مشاهدته فتعال و أخبرنا.
و قد جاء المرحوم صدر إلى منزلنا يوماً فقال: لقد جاءوا و فتحوا غطاء صندوق الملابس و أخرجوا الملابس جميعاً و علّقوها على جدار الغرفة.
فذهب المرحوم والدي إلى هناك و كنت بمعيّته، فشاهدنا أنّهم
ألصقوا الملابس بصورة غير منتظمة بالحائط، و كانت الملابس معلّقة على الحائط بلا مسمار أو شيء يمسك بها، فما إن نمسّ أحدها إلّا و يسقط إلى الأرض. و كان هذا المشهد غريباً و محيّراً، و كان ذاك لأبي أمراً لم يعهده أو يره من قبل. و قد نقل المرحوم والدي هذه القضيّة إلى المرحوم حافظيان و كان عندها في مشهد، فأصدر أمراً أو فعل شيئاً ما كفّ بعده الجانّ عن التعرّض للمرحوم صدر بأيّ أذى.
حجّيّة الظهورات القرآنيّة وفق الأساس العقلائيّ غير قابلة للتشكيك
الجهة الثالثة من جهات الإشكال هي: هل يمكن تفسير القرآن و بيان معانيه وفق المعاني التي يرتضيها الإنسان و يستحسنها، أو ينبغي لذلك أن يخضع لضوابط و قواعد معيّنة بحيث يُعدّ التفسير في حال تخطّيها و عدم رعايتها تفسيراً خاطئاً سقيماً؟
إنّ القرآن الكريم يمتلك - كما في سائر الكتب السماويّة و غير السماويّة ذات اللغات المختلفة - ألفاظاً و كلمات تحكي عن معانٍ خاصّة و معيّنة، فما لم ترد قرينة قطعيّة على عدم إرادة تلك المعاني، فينبغي القول إنّ المراد بالكلام هو تلك المعاني الأوّليّة المتبادرة، سواء كانت دلالة الألفاظ على معانيها دلالة تخصيصيّة أم بالوضع التخصّصيّ.
و بعبارة اخرى فإنّ كلّ كلمة تمتلك عند نطقها دلالة على معنى خاصّ، و هو ما يدعي بالظهور؛ بحيث ينبغي حمل الكلمات على مفاهيمها الظاهريّة مادام القائل لم ينصب قرينة لفظيّة أو بالإشارة و الكناية أو قرينة خارجيّة على أنّ المراد من هذه الكلمات معانٍ اخرى غير تلك المتبادرة.
و يدعى هذا البحث ببحث حجّيّة الظواهر، و يُبحث مفصّلًا في علمي اصول الفقه و البيان.
و حاصل الأمر: أنّ الكلمات و الألفاظ في أي لغة و لسان كانت، - عربيّة، عبريّة، فارسيّة و أجنبيّة - فهي تمتلك حجّيّة في المحاورات
و المعاملات و الإقرارات و المحاكمات و غيرها، و تبعاً لهذه الظهورات يقوم حاكم المحكمة بالاستدلال على المدّعى، فيحكم لصالح المحكوم له، و ضدّ المحكوم عليه. فإذا ادّعى امرؤ مرّةً أنّ قصده لم يكن هذا المعنى اللغويّ الوضعيّ بل كان شيئاً آخر، فإنّ الحاكم و المحكمة، و التاجر و الزارع و الناكح و من معهم، و جميع الشؤون و العلاقات الاجتماعيّة المرتبطة بالمكالمات و المحاورات، سيردّون كلامه و يرفضونه، و سيعملون وفق أساس إرادة المعنى الظاهريّ في تفهيم المراد و القصد. و لا اختلاف في هذه المسألة أكان هناك مخاطب في الألفاظ و الكلمات الواردة في قالب جمل و عبارات أم لم يكن، أو كانت العبارات موجّهة لشخص حاضر أم غائب، حتى أنّ حجّيّة الظهورات لا تتغير من لغة إلى اخرى، و من المفاهمة إلى المشاهدة.
و حتى الكلمة الفارسيّة التي يكتبها شخص تركيّ في إحدى المجلّات التركيّة تكون حجّة هناك ما دامت تشير إلى معنى في اللغة التركيّة أيضاً.
و قد تحمّل على هذا الأساس أهل اللغة الأتعاب و المشاقّ في تدوين كتب اللغة، و في الفصل بين المعاني الظاهريّة و المعاني الاخرى. و يستدلّ في المحاكم بكتب اللغة هذه المنتزعة من الفهم العُرفيّ، و بالأقوال المتبادلة، و المخاصمات، و الشكايات و المنازعات بأدقّ الأساليب لتعيين المقاصد و المراد في العقود و غيرها.
و للقرآن الكريم، استناداً على هذا الأساس، ظهورات تعدّ حجّة، حيث يبيّن الباري تعالى مقاصده و مراده بهذه الظهورات، فإذا أراد أحياناً بكلماته مراداً و مقصوداً آخر، فإنّه ينصب قرينة لذلك لئلّا يختلّ أساس المفاهمة و المكالمة. و بغير ذلك فستنتفي الفائدة من إرسال الرسل و إنزال الكتب، و سينهار صرح الكلام و ترويج الدين و هداية البشريّة،
و ستضمحلّ آثار الحياة على هذه البسيطة.
فحجّيّة القرآن الكريم تستند على أساس حجّيّة الظهورات؛ أي لو اعطي للبشر الإذن في عدم حمل الكلمات على معانيها و مرادها الظاهر المتبادر، فلن تتلاشى عظمة القرآن فقط، بل إنّه سيصبح رديفاً لأبسط و أتفه الكتب المعهودة، و سيكون مثل كتب الأساطير و القصص الخرافيّة ك - «ألف ليلة و ليلة» و غيرها، على الرغم من كونه أسمى الكتب التي نزلت على أساس حجّيّة الظهورات من الملأ الأعلى إلى عالم الاعتبار.
فاعتبار الشيطان و الجنّ في القرآن الكريم بمعنى الجرثومة «الميكروب» يعدّ من أوضح و أجلى التخطّيات لهذا الأساس العامّ، و من أوضح مصاديق التفسير بالرأي المنهيّ عنه بشدّة على لسان رسول الله و أئمّة أهل البيت عليهم السلام.
الروايات الواردة في عدم جواز التفسير بالرأي فاقت حدّ التواتر
فقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه و آله و سلّم: مَنْ فَسَّرَ القُرْآنَ بِرَأيِهِ فَليَتَبَوَّأ مَقْعَدُهُ مِنَ النَّارِ.۱
و في حديث نبويّ آخر: مَنْ قَالَ في القُرْآنِ بَغَيْرِ عِلْمٍ فَلْيَتَبَوَّأ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ٢.
و في حديث نبويّ ثالث: مَنْ فَسَّرَ القُرْآنَ بِرَأيِهِ فَقَدِ افْتَرَى عَلَى اللهِ الكَذِبَ٣.
و في حديث نبويّ رابع عامّيّ: مَنْ فَسَّرَ القُرْآنَ بِرَأيِهِ فَأصَابَ فَقَدْ
أخْطَأ.۱
و روى عن رسول الله و أوصيائه الأئمّة الطاهرين:
إنَّ تَفْسِيرَ القُرْآنِ لَا يَجُوزُ إلَّا بِالأثَرِ الصَّحِيحِ وَ النَّصِّ الصَّرِيحِ.
و كذلك فقد روى عن «تفسير العيّاشيّ» عن الإمام الصادق عليه السلام، قال: مَنْ فَسَّرَ القُرْآنَ بِرَأيِهِ إنْ أصَابَ لَمْ يُؤْجَرْ؛ وَ إنْ أخْطَأ فَهُوَ أبْعَدُ مِنَ السَّمَاءِ.
و روى عن الإمام الرضا عليهالسلام عن أبيه، عن أبائه، عن أميرالمؤمنين عليهم السلام؛ قال:
قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيه و آله و سلّم: إنَّ اللهَ عَزَّ وَ جَلَّ قَالَ في الحَدِيثِ القُدْسِيِّ. «مَا آمَنَ مَنْ فَسَّرَ كَلَامِي بِرَأيِهِ. وَ مَا عَرَفَنِي مَنْ شَبَّهَنِي بِخَلْقِي وَ مَا عَلَى دِينِي مَنِ اسْتَعْمَلَ القِياسَ في دِينِي».٢
و ورد في «تفسير الإمام العسكريّ عليهالسلام» ضمن حديث عن رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم، قال: أتَدْرُونَ مَتَى يَتَوَفَّرُ عَلَى المُسْتَمِعِ وَ القَارِئِ هَذِهِ المَثُوبَاتِ العَظِيمَةِ؟ إذَا لم يَقُلْ في القُرْآنِ بِرَأيِهِ.
وَ لَمْ يَجْفُ عَنْهُ، وَ لَمْ يَسْتَأكِلْ بِهِ. وَ لَمْ يُرَاءِ بِهِ.
وَ قال: عَلَيْكُمْ بِالقُرْآنِ فَإنَّهُ الشَّافِعُ النَّافِعُ وَ الدَّوَاءُ المُبَارَكُ، عِصْمَةٌ لِمَنْ تَمَسَّكَ بِهِ. وَ نَجَاةٌ لِمَنِ اتَّبَعَهُ.
ثُمَّ قال: أتَدْرُونَ مَنِ المُتَمَسِّكُ بِهِ الذي يَتَمَسَّكُهُ يَنَالُ هَذَا الشَّرَفَ العَظِيمَ؟ هُوَ الذي يَأخُذُ القُرْآنَ وَ تَأوِيلَهُ عَنَّا أهْلَ البَيْتِ وَ عَنْ وَسَائِطِنَا
السُّفَرَاءِ عَنَّا إلى شِيعَتِنَا، لَا عَنْ آرَاءِ المُجَادِلِينَ.
فَأمَّا مَنْ قَالَ في القُرْآنِ بِرَأيِهِ فَإنِ اتَّفَقَ لَهُ مُصَادَفَةُ صَوَابٍ فَقَدْ جَهِلَ في أخْذِهِ عَنْ غَيْرِ أهْلِهِ. وَ إنْ أخْطَأ القَائِلُ في القُرْآنِ بِرَأيِهِ فَقَدْ تَبَوَّأ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ.۱
و يقول المرحوم استاذ الفقهاء و المجتهدين الشيخ مرتضى الأنصاريّ في كتاب اصوله «الرسائل»: إنّ الأخبار و الروايات الواردة في هذا الباب بالقدر الذي ادّعى مؤلّف «وسائل الشيعة» آية الله الشيخ الحرّ العامليّ رضوان الله عليه تجاوزها عن حدّ التواتر.٢
الجهة الرابعة من الإشكال هي: هل ستنتهي المسألة بعدم الاعتراف بالجنّ و تخبّط الشيطان في مسألة آكلي الربا و تأويل ذلك بمرض الصرع و الميكروب إلى هذا الحدّ. أم أنّها ستعمّ جميع الأشياء غير المرئيّة و غير المسموعة التي لا تتمكّن العلوم التجريبيّة و الطبيعيّة و الطبّيّة من إثباتها، كالملائكة و الروح، و وسائط العالم العلويّ، وصولًا إلى الجنّة و الجحيم و الميزان و الصراط و الموقف و الحشر و النشر و ذات الخالق المقدّسة؟
فإن قالوا: إنّهم يتوقّفون فلا يعمّمون ذلك و لا يتعدّونه إلى غيره، نقول. بأيّ دليل لا تعمّمون ذلك مع اتّحاد الملاك و المعيار و مناط عدم القبول في جميع هذه المسائل، و هو عدم إثباتها من قبل العلوم التجريبيّة؟!
و إن قالوا بأنّهم لا يتوقّفون، بل يعمّمون ذلك على جميع المسائل، فإنّنا لن نستطيع في تلك الحال إدراك الفرق بين هذه المدرسة التي تدّعي الإيمان بالله مع المدرسة المادّيّة. أيكفي في ذلك مجرّد القول بوجود إله،
ذلك الإله الموهوم؟!
و حاصل الإشكال هو: أنّ روح هذه النظريّة في اعتبار الشيطان و الجنّ ميكروباً يستمدّ جذوره من نفس مدرسة المادّيّين و الطبيعيّين الملحدين و منكري الروح و التجرّد، ذلك الاتّجاه الذي نسجتم شراكه و ألقيتموها بين أفراد البشر لعدّة آلاف من السنين.
فالإيمان بالغيب۱ و بالملائكة٢ و ما شابههما ممّا ورد في القرآن الكريم له موضوعيّة قائمة في أساس الإسلام، كما أن مسألة الموت و البرزخ و القيامة و الحياة الخالدة في الجنّة أو الجحيم، و مسائلة و مخاصمة أهل جهنّم مع أهل الجنّة، و الحور و القصور، و رضوان، و النار و دركاتها، و ملائكة الغضب و أمثال ذلك ممّا يشكّل معظم آيات القرآن، إنّما يمثّل صميم عقائدنا، فإن آل الأمر إلى مساواة ذلك كلّه بالتمثيلات الذهنيّة و التوجيهات التخيليّة، فما الفرق إذاً بين هذه الاصول و الاسس الواقعيّة المسلّمة مع أفكار المتمرّدين و المرتدّين من الطبيعيّين و المادّيّين الذين أعرضوا صفحاً عن جميع الاسس، فلم يؤمنوا إلّا بالمادّة و البطن و الفرج و الشبع و إطفاء الشهوات و إعمال الغضب و اتّباع القوى الوهميّة و التخيّلات
و التصوّرات التي جعلوها في رأس برنامج عملهم؟
جميع الحكمة و العرفان و الشرع من معين واحد، و تدّل على أمر واحد
لقد أجابت الفلسفة العالية و الحكمة المتعالية و الذوقيّات و الوجدانيّات العرفانيّة في مدرسة العقل و الإحساس عن جميع هذه المسائل، و أبانت عن كلام الصادع بالشريعة، الناضح من قلبه المنزّه و جبلّته المنيرة بالبرهان و العيان و المشاهدة كالشمس الساطعة في رابعة النهار.
فالشرع و العقل و المشاهدة قد توحّدت اليوم في اعتمادها على الأساس القويم الذي اختطّه ذلك الرجل الفريد الملكوتيّ، و الإنسان الجبروتيّ، و البشر اللاهوتيّ، الذي وضع رأسه في حريم الأمن و الأمان الأقدس الإلهيّ، و قدّمه على فرق عالم الناسوت و الطبيعة، أي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِاللهِ وَ خُلَفَاؤُهُ الحَقِيقِيُّونَ الاثْنَا عَشَر الذين حُفظت أقوالهم و أفعالهم و سُطِّرت في ثنايا الكتب.
فالفلسفة مقرونة بالعرفان، و كلاهما مؤيّد و مسدّد لشرعنا القويم، نحن الجهلة و العميان عن نشأة المادّة و المزاج هذه، و عن عالم الوجود و الفساد هذا، و صارا دليلنا و رائدنا إلى الحرم الأصليّ و الموطن الخالد، و الوصول إلى مقام عزّ الحضرة الأحديّة و علوّ السرمديّة.
إلهِي! هَبْ لِي كَمَالَ الانْقِطَاعِ إليك وَ أنِرْ أبْصَارَ قُلُوبِنَا بِضِيَاءِ نَظَرِهَا إلَيْكَ حتى تَخْرِقَ أبْصَارُ القُلُوبِ حُجُبَ النُّورِ فَتَصِلَ إلى مَعْدِنِ العَظَمَةِ وَ تَصِيرَ أرْوَاحُنَا مَعَلَّقَةً بِعِزِّ قُدْسِكَ.۱
كانت هذه الجهات الأربع هي الجهات المختلفة التي أوردناها لتوضيح و تشريح الإشكال السادس على صاحب مقالة «بسط و قبض تئوريك شريعت» (=انبساط و انقباض نظريّة الشريعة).
و ينبغي العلم أنّ صاحب المقالة لم يُقدم في مقالته على نفي هذه الامور، و أنّ ما أورده بعنوان الاسلوب التفسيريّ للمرحوم الطالقانيّ و مقارنته بالاسلوب التفسيريّ للمرحوم العلّامة الطباطبائيّ كان في الحقيقة صغرى القياس القائل. إذا تفاوتت المقدّمات العلميّة للمفسّر و معلوماته عن العلوم التجريبيّة أو العلوم العقليّة، فإنّ فهمه للكلام الإلهيّ سيتفاوت؛ لذا ينبغي القول أن ليس هناك من معنى للفهم الواحد و الثابت و الصحيح للقرآن و المتون الدينيّة. و هذا يمثّل أخطر فقرات كلامه و أشدّها تخريباً. أن يُنكر الفهم الصحيح للدين بدليل اختلاف الأفهام؛ لكنّه كان في نفس الوقت، و ضمن هذا الاستنتاج الخاطئ، يقوم بتأييد وجهة تفسير المرحوم الطالقانيّ، فلزم إيراد هذه الانتقادات لإبطال هذا النهج من التفسير.
الإشكال السابع: عدم إدراكه و استيعابه لمقولة الاستاذ آية الله العلّامة الطباطبائيّ قدّس الله سرّه الشريف في سرّ اتّخاذ العلل الطوليّة من جانب ربّ العزّة تعالى لإيجاد الامور الخارجيّة و الحوادث الكونيّة، في إثبات عدم تنافي إسناد الجنون إلى بعض الامور الطبيعيّة المحسوسة و إلى
بعض الامور الخفيّة.
فقد بيّن الاستاذ العلّامة هنا أعلى المطالب الفلسفيّة و العرفانيّة و القرآنيّة، أي وجود سلسلة العلل الطوليّة فيما بين الذات القدسيّة للحضرة الأحديّة، أي الواحد الأحد، ذاتاً و صفةً، و بين الموجودات و الحادثات الكثيرة و المختلفة لهذا العالم، و قدّم حلًّا لهذا الإشكال يتعذّر بدونه حلّ مسألة كيفيّة نشأة الكثرة من الوحدة، و الحادث من القديم، و المادّيّ من المجرّد، و الطبيعيّ من النور المحض.
فهذه كتب العلم و الفلسفة قديمها و جديدها في متناول أيدينا، كلُّها قد عجزت و تعثّرت في كيفيّة حدوث الحادث من المجرّد، و الاستناد إلى العلّة البسيطة، اللهمّ إلّا تلك الكتب التي نهجت نهج العلّامة و اختطّت اسلوبه.
فالمادّيّون الذين عجزوا عن الجمع بين علّتين مادّيّة و معنويّة، أراحوا أنفسهم تماماً و تنصّلوا من قبول إله قادر قاهر عليم حكيم مختار مريد، و أنكروا وجود الخالق العليم.
أمّا الإلهيّون فانقسموا مدارس و اتّجاهات مختلفة، فبعض أنكر العلل المعنويّة، و بعض حصر العامل بهذه العلل المادّيّة، و آخرون أنكرو العلل المادّيّة و اعتبروا أنّ العلل المعنويّة فقط هي المؤثّرة في العالم. و بقي اولئك القائلون بالعلل الطبيعيّة و العلل المعنويّة - كليهما - عاجزين عن بيان كيفيّة ارتباطهما و تأثيرهما على بعضهما، فبقيت مطالبهم مشتّتة و متفرّقة، لم يقدّموا نهجاً قويماً و لا سبيلًا متيناً عارياً عن التناقض في القول أو التهافت في الاستدلال.
أمّا القول بالعلل المادّيّة التي توجبها الضرورة و المشاهدة، و القول بتبعيّتها للعلل المعنويّة تبعاً لضرورة البرهان و ضرورة الكشف بالعيان،
وصولًا إلى الواحد الحيّ القيّوم الذي هو نفسه المبدئ و المنشئ و المُعيد و المَعاد، فهو أشبه بالماء الصافي الزلال البارد الهنيء الذي ينساب في حرّ تموز اللاهب على الأكباد الحرّي للباحثين عن وادي الرواء و كأس المعرفة، يحلّ جميع الإشكالات، و يبرهن بداهةً على الأشياء التي تبدو بعيدة عن التحقّق.
فهو من جهة يوافق على سلسلة العلّيّة بقوامها و استحكامها هذا و يعتقد بصحّتها، و من جهة اخرى يستدلّ و يبرهن على وحدة علّة العلل بتمام معنى الكلمة، سواء الوحدة في الذات أم في الصفات، أم في الأفعال.
لذا فإنّ القول بسلسلة العلل الطوليّة له ما يدعمه من الناحية الفلسفيّة و العرفانيّة و القرآنيّة، و هو الحلّ الأمثل لعُقَد المشكلات المستعصية و المسائل الغامضة العسيرة في باب الكلام و الحكمة، و لا مفرّ للشخص الباحث و لا مناص له من قبوله و التسليم به روحاً و قلباً كي يمكنه الوصول للحقائق.
فإن فصلنا بين تأثير الدواء و تأثير الميكروب و بين العلل الطبيعيّة لخالفنا الصواب، و إن أنكرنا تأثير الله سبحانه فيهما لخالفنا الصواب أيضاً.
أمّا لو قلنا إنّ تأثير الدواء و الميكروب من الله سبحانه، لصار منطقنا سليماً صائباً، سواء اعتبرنا بين الميكروب و الدواء و بين الله سبحانه واسطة مثل ملائكة الرحمة أو جانّ النقمة أم لم نعتبر. فالمهمّ في الأمر هو الاعتراف بطوليّة العلل، لأنّنا حين نعتقد بذلك فإن مسألة الملائكة و الجانّ ستثبت هي الاخرى و تصبح مسألة مقبولة.
ولكن لعدم إدراك صاحب المقالة لروح هذا المطلب، فقد أشكل على إسناد العلّامة بعض أنواع الصرع إلى الميكروب، و في نفس الوقت إلى الشيطان أيضاً. و يلزمنا - إيضاحاً للأمر - أن نورد عين كلامه ثمّ نتطرّق إلى
البحث عنه، فقد قال:
إشكال صاحب المقالة على قول الاستاذ العلّامة الطباطبائيّ قدّس سرّه
(و مضافاً إلى ذلك، فقد قال المرحوم الطباطبائيّ. أوّلًا: إنّ القدر المتيقّن من دلالة الآية هو أنّ بعض أنواع الجنون على الأقلّ مسبّب عن مسّ الجنّ. و ثانياً: إنّ إسناد الجنون و نسبته إلى علل معيّنة كمسّ الشيطان لا يستلزم إبطال العلل الطبيعيّة، بل إنّ تلك العلل غير الطبيعيّة أعلى و في طول العلل الطبيعيّة لا في عرضها.
و نلحظ كيف حُلّت مشكلة التعارض مع العلم الطبيعيّ بالتوسّل بعدّة قواعد فلسفيّة، و هي أوّلًا: أنّ أساس العلّيّة جارٍ في العالم، و ثانياً: أنّنا نمتلك عللًا طوليّة متدرّجة، و ثالثاً: أنّ العلل غير المادّيّة لا تحلّ محلّ العلل المادّيّة و الطبيعيّة، و أنّ الفعل يمكن أن يستند في آن واحد لكليهما. لذا يجب فهم الآية بالشكل الذي لا تعطي فيه معنى نفي العلل الطبيعيّة أو المسّ المادّيّ و المباشر للشيطان.
و هو معنى جديد و بالطبع معنى عميق متعال، لكنّه يمثّل فهماً
تحقّق في ضوء تلك الاسس الفلسفيّة (التي كانت من بين معتقدات العلّامة الطباطبائيّ و ليست أبداً من ضرورات الدين)؛ لكنّ نفي العلّيّة في العالم (على الأقلّ باسلوب الأشاعرة) أو عدم القبول بالعلّيّة الطوليّة، و اعتبارها أمراً لا يمكن إدراكه و تصوّره أصلًا، و كذلك القول بالتدخّل المباشر للموجودات المادّيّة في العالم (كما يرى الكثير من المتكلّمين)، أو عدم القول بالموجودات المادّيّة و المفارقة، و اعتبار الروح و إبليس و المَلَك - خلافاً للحكماء - مادّة لطيفة (كما يرى الكثير من المتكلّمين و المحدّثين)، كلّ هذه الامور تؤدّي إلى عدم إعطاء الآية معنى كما أراده المرحوم الطباطبائيّ).۱
و قوله هذا مخدوش من عدّة جهات:
الجهة الاولى: أنّه مع تصريحه و اعترافه أنّ تعليل العلّامة هذا هو معنى عميق متعال، أي أنّه لم يستطع الردّ عليه من جهة فنّ الاستدلال، لكنّه يقول إنّه كان من إيحاءات ذهن العلّامة و ليس من ضروريّات الدين، لأنّ الأشاعرة و الكثير من المتكلّمين و المحدّثين لا يقبلون به.
و ينبغي أن نسأل أوّلًا: أيتوجّب أن يكون ما يصوغه الشخص الحكيم و المحقّق في قالب البرهان، و يستدلّ عليه إثباتاً مقبولًا سائغاً للجميع، و لو كانت مقدّماتهم الاستدلاليّة فاسدة و مخدوشة؟
أكان يتوجّب أن لا يكون هناك مخالف لما برهن عليه ابن سينا أو الخواجة نصيرالدين أو صدر المتألهين في باب الإلهيّات؟ أو أن يقضي على جميع المادّيّين و الطبيعيّين في العالم؟
و أنّ علينا حين نرى حاليّاً وجود الكثير من أصناف المادّيّين أن نقول إنّ مقدّمات برهان اولئك الحكماء من أهل التوحيد كانت خاطئة، و إنّ ذلك يستتبع أن يكون أصل الاعتقاد بوحدة الحقّ تعالى أمر خاطئ؟!
و حين نقول إنّ الحقّ في الولاية كان لأميرالمؤمنين عليهالسلام، أفتستلزم واقعيّة هذا الأمر أن لا يكون هناك مخالف لهذه المسألة؟
أفإن علمنا أنّ أبابكر و عمر و أتباعهما لم يقبلوا بهذا الأمر في زمن حياة رسول الله، فإنّ علينا أن نقول إنّ أصل الولاية و الخلافة و الإمامة أمر مخدوش؟!
و إذا قلنا: إنّ النبيّ الأكرم محمّد بن عبدالله صلّى الله عليه و آله و سلّم كان آخر الأنبياء المرسلين بالوحي المنزل من قبل ربّ العزّة؛ أفيمكننا القول إنّ هذا الكلام سيكون مقبولًا إذا قبل جميع إليه ود و النصارى به، و بما أنّهم لم يقبلوا به فعلًا، و بما أنّ هناك ملايين من البشر المعادين
للإسلام في العالم. إذاً، الإسلام ليس آخر الأديان؟! و لا يكون نبينا الأكرم خاتم الرسل؟!
و أساساً، فما معنى أن يقول امرؤ إنّ الكلام - مهما كان - هو صحيح حين يقبل به الجميع فعلًا؟ فهذا الكلام غلط و خاطئ بتمام معنى الكلمة، بل إنّ الكلام صحيحاً حين يكون قابلًا للقبول، قد صُبّ على أساس المقدّمات البرهانيّة و الأوّليّات و المسلّمات و البديهيّات. فهو صحيح و متين في تلك الحالة، سواء قبله أحد بالفعل أم لم يقبل به.
و لقد كان هناك كلام صحيح كثير في هذا العالم لم يقبل به أحد، لأنّ القبول ينبغي أن يحصل عن حسن عقيدة و صفاء نفس السامع و إدراكه و تعقّله لذلك المطلب، و إلّا فإنّه سيرفضه.
أكانت صحيحة تلك الأقوال و الآراء التي أبداها الأشاعرة و الكثير من المتكلِّمين و المحدِّثين في هذا الباب و التي دوّنوها في كتبهم؟
لقد كان سيّدالشهداء عليهالسلام على الحقّ، مهما طيف برأسه من بلد إلى بلد، أو وُضع في محفل يزيد فاحتسى عنده الخمر، أو الّف في يومنا هذا في المملكة العربيّة السعوديّة كتاب باسم حقائق أميرالمؤمنين يزيد فدُرّس في المدارس!!
و عليه، فإن الكلام الراسخ و الصحيح هو القول القائم على أساس من البرهان القويم و البيّنة الإلهيّة، فهذه المقدّمات البرهانيّة تلزم البشر بالقبول و تدينه في محكمة العدل الإلهيّ، لا علاقة في الأمر بالقبول أو عدم القبول الفعليّ.
فحين يبيّن العلّامة مطلباً فيثبت فيه العلل الطوليّة المادّيّة و المجرّدة وصولًا إلى الحضرة الأحديّة، و ينشئ هذا المطلب على اسس البرهان و على أساس الاستفادة من صريح الآيات القرآنيّة المباركة، و يُظهر
كالشمس ضرورة هذه الحقيقة، فإنّ قوله راسخ و متين و قول سواه فاسد مهزوز، أشعرياً كان أم متكلّماً أم محدّثاً، و سواء كان مثل كانْت أم مثل ديكارت.
لقد كان جميع الفلاسفة السابقين هذا النهج، أن يرتّبوا تبعاً للنتائج الفكريّة التي يتوصّلون إليها مقدّمات معيّنة، و يؤلِّفوا في ذلك الكتب، فيقدّم كلّ منهم مطلباً على هذا الأساس، و للمخالف أن يشكّك فقط في مقدّماته البرهانيّة، أو أن يردّها إن قدر على ذلك، لا أن يتوقّف خلف متراس الجهل، فيعلن عدم قبوله.
القرآن يقول بالعلل الطبيعيّة للحوادث و يعتبرها جميعاً راجعة إلى الله تعالى
الجهة الثانية: لقد أثبت العلّامة في تفسيره مفصّلًا سلسلة العلل المادّيّة و ارتباطها بالعلل المجرّدة المعنويّة و النورانيّة و انتهاءها أخيراً إلى ذات الحقّ القدسيّة؛ فالقول بطوليّة العلل هي من ضروريّات برهانه المتين و دليله القويم.
و قد أوضح هذه الحقيقة بشكل ساطع في الجزء الأوّل من تفسير «الميزان» ضمن مقالة بشأن معنى المعجزة و كيفيّة تأثيرها في أبحاث سبعة، و أورد على ذلك شواهد من آيات القرآن لم تبقِ مجالًا للشكّ؛۱ فلمَ ندّعِ في هذه الحالة بأنّ القول بالعلل الطوليّة ليس من ضروريّات الدين؟ أو هناك أساس للدين غير الكتاب الإلهيّ؟
و إذا اتّضح هذا المعنى بربط و تفسير آيات القرآن، أفلا يكون بعدُ من ضروريّات الدين؟! فالقرآن يقول بوجود أسباب و علل للحوادث الطبيعيّة، و يقرّ قانون العلّيّة العامّ، كما أنّ العقل يثبت هذا المعنى، و التجربة تشير إلى أنّ أي احتراق أينما حصل فلابدّ من علّة تسبّبه، سواء
كانت تلك العلّة حركة أم احتكاكاً أم غير ذلك. لذا، فالكلّيّة و عدم تخلّفها من أحكام العلّيّة و المعلوليّة و لوازمها.
و لقد أفصح القرآن الكريم في أقواله و في سياق بيانه و اسلوبه في مسائل الحياة و الموت و الرزق، و نزول المطر و نشوء العشب و الزرع و الشجر، و جريان الماء، و أخيراً في جميع الحوادث السماويّة و الأرضيّة، عن روابط العلّيّة المادّيّة، و لو أنّه أسندها في الخاتمة على أساس مسألة التوحيد إلى الله المتعال.
كما فعل في آية: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَ النَّهارِ وَ الْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ وَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَ بَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَ تَصْرِيفِ الرِّياحِ وَ السَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ.۱
و كآية: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ وَ سَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَ سَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ.٢
حتّى أنّه يصرّح في موضعين من القرآن أنّ هذه الفُلك التي تحملكم على الماء بُنيت على هيئة جُعل فيها مقدّمها حادّاً قاطعاً ليمكنه بذلك شقّ الماء في سيره و جريانه في البحر؛ و قد استخدم هذا النوع من الهياكل للسفن و الطائرات تقليداً لُاسلوب خلقة الطيور التي يمكنها شقّ طريقها في الجوّ بسرعة لقلّة سطح تماسّها مع الهواء عند حركتها.
أي أنّ تأثير و دخل مَاخِرَة۱ (أي طراز و هيئة مقدّمة السفينة) يوجب حركة السفينة بيسر، فلم يكن القرآن الكريم ليدع بيان هذه العلّيّة أيضاً.
لقد جاء لفظ مواخر؛ أي جمع ماخرة؛ في موضعين من القرآن الكريم أوّلهما في سورة النحل: وَ تَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ وَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ.٢
و ثانيهما في سورة فاطر: وَ تَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَواخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ.٣
حتّى أنّه بين العلّة في خلق الجبال في أنّها كالأوتاد تثبّت الأرض و تمسكها عن التلاشي و الانهيار و المَيَدان:
أَ لَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً ، وَ الْجِبالَ أَوْتاداً.٤
وَ أَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَ أَنْهاراً وَ سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ.٥
القرآن يعتبر العلل الطبيعيّة تحت العلل المجرّدة و مستندة إليه ا
كان هذا كلّه راجعاً لتصريح القرآن الكريم بشأن العلل الطبيعيّة و المادّيّة، أمّا بشأن العلل المجرّدة و ماوراء عالم المادّة و الطبيعة، كوجود الملائكة الذين يمثّلون واسطة الفيض من جانب الحقّ تعالى في تدبير جميع امور عالم الخلق، فآيات القرآن واضحة في ذلك و يمكن عدّها من ضروريّات هذا الكتاب السماويّ، فسورة فاطر المباركة تبدأ بهذه الآية.
الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَ ثُلاثَ وَ رُباعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ۱
القرآن يعتبر الملائكة واسطة التدبير بين الله و عالم الخلق
الملائكة جمع مَلَك، و هم عبارة عن موجودات خلقهم الله سبحانه و جعلهم وسائط بينه و بين هذا العالم المشهود، و وكّلهم تدبير امور العالم التكوينيّة و التشريعيّة.
وَ قالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ ، لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَ هُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ.٢
و عبارة جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا بملاحظة أنّ الملائكة جمع محلَّى بالألف و اللام تبيّن أنّ جميع أفراد و مجاميع الملائكة هم رسل و وسائط بين الخالق و خلقه في إجراء الأوامر التي تُعهد إليه م، سواء في ذلك الأوامر التكوينيّة أم التشريعيّة.
و على هذا فلا موجب لتخصيص الآية بالملائكة النازلين على الأنبياء عليهم السلام و الحاملين للوحي بخصوص الأحكام و الشريعة؛ إذ مضافاً إلى إطلاق لفظ رُسُل، فإنّ لدينا آيات في القرآن الكريم عبّرت عن الرسل و الوسائط بين الله و خلقه بغير تعبير الملائكة، مثل آية:
حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا وَ هُمْ لا يُفَرِّطُونَ.٣
و آية: إِنَّ رُسُلَنا يَكْتُبُونَ ما تَمْكُرُونَ.٤
و آية: وَ لَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ
هذِهِ الْقَرْيَةِ.۱
و أجْنِحَة جمع جَنَاح، و هو من الطائر بمنزلة اليد من الإنسان ليتوسّل به إلى التحليق في السماء و النزول إلى الأرض و الطيران من مكانٍ لآخر.
بناء على هذا، فإنّ الملائكة مجهّزة بقوى و خصوصيّات كالطائر الذي يُحرّك جناحيه، و هي كذلك تحلّق من السماء إلى الأرض و تنتقل من مكان لآخر بواسطة هذه القوى و الأجنحة.
و قد سمّاه القرآن جَنَاحاً لترتّب القصد و الغاية من الجناح عليه، و هو الوصول للهدف و الغاية؛ فلا يلزم أن يكون من سنخ جناح الطير ذا ريش و زغب، إذ لا يستوجب مجرّد إطلاق لفظ جناح عليه أكثر من ذلك، و نظيره في ذلك كلمات. العَرْش و الكُرْسِيّ و اللَّوْح و القَلَم و أمثالها الكثيرة في القرآن الكريم.
و معنى أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَ ثُلاثَ وَ رُباعَ أنّ بعض أصنافها مجهّز بقوّتينِ و قدرتينِ من الحقّ تعالى، و بعض بثلاث قوى و بعض بأربع. و قوله بعد ذلك بلا فصل يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ مُشعر بحسب السياق أنّ بعض أصناف الملائكة مجهّز بأكثر من أربع قوى بما أراد الله لهم.
و للُاستاذ آية الله العلّامة الطباطبائيّ قدّس الله سرّه الشريف بيان في ذيل تفسير هذه الآية الكريمة المباركة بعنوان: كَلَامٌ في المَلَائِكَةِ، نجد من المناسب إيراده هنا:
«تكرّر ذكر الملائكة في القرآن الكريم، و لم يذكر منهم بالتسمية إلّا جِبرِيل و مِيكَال؛ و ما عداهما مذكور بالوصف، كملك الموت، و الكِرَامِ الكَاتِبينَ و السَّفَرَةِ الكِرَامِ البَرَرَة، و الرَّقِيب، و العَتِيد و غير ذلك.
جميع الامور و الحوادث هي تحت نظر و تدبير الملائكة بأمر الله تعالى
و الذي ذكره الله سبحانه في كلامه - و تشايعه الأحاديث السابقة - من صفاتهم و أعمالهم هو أوّلًا: أنّهم موجودات مكرمون، هم وسائط بينه تعالى و بين العالم المشهود، فما من حادثة أو واقعة صغيرة أو كبيرة إلّا و للملائكة فيها شأن و عليها ملك موكّل أو ملائكة موكّلون بحسب ما فيها من الجهة أو الجهات، و ليس لهم في ذلك شأن إلّا إجراء الأمر الإلهيّ في مجراه أو تقريره في مستقرّه، كما قال تعالى: لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَ هُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ.۱
و ثانياً: أنّهم لا يعصون الله فيما أمرهم به فليست لهم نفسيّة مستقلّة ذات إرادة مستقلّة تريد شيئاً غير ما أراد الله سبحانه، فلا يستقلّون بعمل و لا يغيّرون أمراً حمّلهم الله إيّاه بتحريف أو زيادة أو نقصان، قال تعالى:
لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ وَ يَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ.٢
و ثالثاً: أنّ الملائكة على كثرتهم على مراتب مختلفة علوّاً و دنوّاً، فبعضهم فوق بعض و بعضهم دون بعض، فمنهم آمر مطاع و منهم مأمور مطيع لأمره، و الآمر منهم آمر بأمر الله حامل له إلى المأمور، و المأمور مأمور بأمر الله مطيع له، فليس لهم من أنفسهم شئ البتّة، قال تعالى:
وَ ما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ.٣
و قال: مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ.٤
و قال: قالُوا ما ذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ.٥
و رابعاً: أنّهم غير مغلوبين، لأنّهم إنّما يعملون بأمر الله و إرادته. وَ ما كانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّماواتِ وَ لا فِي الْأَرْضِ.۱
و قد قال الله سبحانه. وَ اللَّهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ.٢
و قال: إِنَّ اللَّهَ بالِغُ أَمْرِهِ.٣
و من هنا، يظهر أنّ الملائكة موجودات منزّهة في وجودهم عن المادّة الجسمانيّة التي هي في معرض الزوال و الفساد و التغيّر، و من شأنها الاستكمال التدريجيّ الذي تتوجّه به إلى غايتها، و ربّما صادفت الموانع و الآفات فحُرمت الغاية و بطلت دون البلوغ إليها.
و من هنا يظهر أنّ ما ورد في الروايات من صور الملائكة و أشكالهم و هيئاتهم الجسمانيّة إنّما هو بيان تمثّلاتهم و ظهوراتهم للواصفين من الأنبياء و الأئمّة عليهم السلام، و ليس من التصوّر و التشكّل في شيء، ففرق بين التمثّل و التشكّل، فتمثّل الملك إنساناً هو ظهوره لمن يشاهده في صورة الإنسان، فهو في ظرف المشاهدة و الإدراك ذو صورة الإنسان و شكله، و في نفسه و الخارج من ظرف الإدراك ملك ذو صورة ملكيّة، و هذا بخلاف التشكّل و التصوّر، فإنّه لو تشكّل بشكل الإنسان و تصوّر بصورته صار إنساناً في نفسه من غير فرق بين ظرف الإدراك و الخارج عنه، فهو إنسان في العين و الذهن معاً. و قد تقدّم كلام في معنى التمثّل في تفسير سورة مريم.
و لقد صدّق الله سبحانه ما تقدّم من معنى التمثّل في قوله في قصّة
المسيح و مريم:
فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا.۱
و أمّا ما شاع من الألسن: أنَّ المَلَكَ جِسْمٌ لَطِيفٌ يَتَشَكَّلُ بِأشْكَالٍ مُخْتَلِفَةٍ إلَّا الكَلْبَ وَ الخِنزيرَ؛ وَ الجِنُّ جِسْمٌ لَطِيفٌ يَتَشَكَّلُ بِأشْكَالٍ مُخْتَلِفَةٍ حتى الكَلْبِ وَ الخِنْزِيرِ. فممّا لا دليل عليه من عقل و لا نقل من كتاب أو سُنّة معتبرة؛ و أمّا ما ادّعاه بعضهم من إجماع المسلمين على ذلك فمضافاً إلى منعه لا دليل على حجّيّته في أمثال هذه المسائل الاعتقاديّة.٢
القرآن الكريم ينسب إلى الملائكة تدبير الامور
و لقد أقسم الله سبحانه في مواضع من القرآن الكريم بالملائكة المأمورين بإنجاز وظائف خاصّة، كما فعل في الآيات الأوائل من سورة النازعات:
وَ النَّازِعاتِ غَرْقاً ، وَ النَّاشِطاتِ نَشْطاً ، وَ السَّابِحاتِ سَبْحاً ، فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً ، فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً.٣
و نلحظ في هذه الآيات أنّ الله تعالى قد بيّن أنّ تدبير جميع امور هذا العالم المشاهد المحسوس بواسطة هذه الملائكة، فجميع هذه الصفات من النزع و النشط و السبح و السبق و التدبير هي لنوع معيّن من الملائكة الذين ينزلون من ساحة الحقّ تعالى فيكون شأنهم و مأموريّتهم في مقامهم تدبير و إدارة امور هذا العالم.
تفسير «النَّازِعَاتِ غَرْقًا» و أصناف الملائكة الموكّلين بشؤون العالم المختلفة
و مع أنّ معنى النَّازِعَات و النَّاشِطَاتِ و السَّابِحَاتِ و السَّابِقَاتِ سيبدو لنا في الوهلة الاولى غير واضح و لا مشخّص، و مع أنّ المفسّرين قد ذكروا
لها في تفاسيرهم معانٍ مختلفة، إلّا أنّنا نستطيع إزالة الإبهام و الغموض عن الآية و اكتشاف معناها بوضوح حين نلحظ اسساً ثلاثة مهمّة:
الأوّل: وضوح معنى الْمُدَبِّرَاتِ أمْرًا، أي الملائكة المدبّرين للحوادث و الوقائع.
و الثاني: بلحاظ ارتباط المعنى و المراد بين هذه الطوائف و المجاميع الخمس التي بيّنت صفاتها في الآية.
و الثالث: بلحاظ إلغاء التفريعيّة الدالّة على التراخي في بداية المدبرات و السابقات، و عدم الإتيان بها في بداية المجاميع الثلاث التي سبقتها، أي النَّازِعَاتِ و النَّاشِطَاتِ و السَّابِحَاتِ.
و بيان ذلك أنّ فاء التفريع وردت في فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً فدلّت على تفرّع صفة التدبير من صفة السبق، و هكذا الأمر في فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً التي جاءت مع فاء التفريع الدالّة على تفرّع صفة السبق على صفة السَّبح و السرعة.
و نفهم من ذلك أنّ هناك مجانسة خاصّة بين المعاني المقصودة من هذه الآيات الثلاث، لأنّها تقول:
السَّابِحاتِ سَبْحاً ، فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً ، فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً
و مفادها هو تدبيرها الامور بعد أن سبقت إليه ا، و كان سبقها بعد أن سبحت و أسرعت إليها في وقت النزول.
و عليه فإنّ مفاد السَّابِحَاتِ و السَّابِقَاتِ هي نفس الملائكة الْمُدَبِّرَات التي وُصفت بهذه الصفات بلحاظ كيفيّة نزولها لتنفيذ ما اوكل إليها من تدبير الامور.
و يمكن بنظرة أوسع اعتبار مجموع هذه الآيات الثلاث موافقاً لمفهوم الآية الشريفة القائلة: لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ
خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ.۱
فالملائكة المأمورون بتدبير الامور للأشياء و الحوادث ينزلون، في حالٍ تكون معه أسباب و علل تلك الأشياء و الحوادث قد تجمّعت و تصارعت بينها للتأثير في وجودها و عدمها و في بقائها و زوالها و في أحوالها المختلفة، لكنّ الملك المأمور بتدبير الأمر المبرم المحتوم الإلهيّ المتعلّق بها ينزل بسرعة فيسبق بقيّة الأسباب و يتمّ ذلك السبب المقتضي تبعاً للإرادة و القضاء الإلهيّ، كي يتحقّق في النهاية ما في قضاء الحقّ تعالى و أمره المحتوم.
و الآن و قد استبان المراد من هذه الآيات الثلاثة المشيرة إلى سرعة الملائكة في نزولها لتنفيذ مهمّاتها، و سبقها في تدبيرها، فينبغي حمل آيَتَي: وَ النَّازِعاتِ غَرْقاً ، وَ النَّاشِطاتِ نَشْطاً على نزعها و خروجها من موقف الخطاب إلى مهمّتها و تدبير أمرها.
فنزوعها هو شروعها في الحركة و النزول إلى هدفها و غايتها، المتحقّق بشدّة و جديّة، و نشطها. خروجها من ذلك الموقف، كما أنّ سبحها هو سرعتها بعد الخروج، و يعقبه سبقها لتنفيذ الأمر، أي تدبيره بإذن الحقّ تعالى.
و على هذا، فتمثّل هذه الآيات الخمسة قَسَم الحقّ تعالى بالصفات المختلفة التي تتلبّس بها الملائكة لتدبير أمر من امور هذا العالم المشهود، من شروع نزولها إلى انتهاء أمر التدبير.
و أمّا إطلاق التدبير في هذه الآية و عدم تقييده بشيء، فمُشعر بأنّ المراد هو جميع أقسام التدبيرات في هذا العالم؛ و أمْرًا إمّا تمييز أو مفعول
للمدبّرات. أي أنّ الملائكة مدبّرة للأمر أو لهجة الأمر، و مطلق التدبير هو الشأن المطلق للملائكة، و لذا فإنّ المراد من المدبرات أمرا ينبغي أن يكون مطلق الملائكة.
أمّا التعبير عن الملائكة بصيغة التأنيث (في قوله: وَ النَّازِعاتِ فلا إشكال فيه، لأنّ موصوفها عنوان جماعة و تأنيثها لفظيّ، و يمكن أن يكون باعتبار الروح التي تنزل الملائكة معها، كما في قوله:
يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ.۱
و قوله: يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ.٢
و لهذه الآيات مشابهة تامّة بالآيات الأوائل من سورة الصافّات:
وَ الصَّافَّاتِ صَفًّا ، فَالزَّاجِراتِ زَجْراً ، فَالتَّالِياتِ ذِكْراً.
و بالآيات الأوائل من سورة المرسلات: وَ الْمُرْسَلاتِ عُرْفاً ، فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً ، وَ النَّاشِراتِ نَشْراً ، فَالْفارِقاتِ فَرْقاً ، فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً، التي كانت هي الأخرى في مجال بيان أوصاف الملائكة المأمورين بأمر الله سبحانه و الذين هم في مقام الامتثال و الطاعة، باختلاف أنّها تصف فقط الملائكة الحاملين للوحي، في حين كانت الآيات مورد البحث في مجال وصف مطلق الملائكة المدبّرة لُامور العالم الذين يتّصفون في تدبيرهم بإذن الله بتلك الصفات التي جرى ذكرها.
و حاصل البحث هو أنّه يمكن انطباق الصفات التي أقسم الله سبحانه بها في آيات سورة النازعات على صفات الملائكة في سعيهم و حركتهم
و امتثالهم لأوامر ساحة العزّ القدسيّة للباري، الصادرة إليه م و المتعلّقة بهم في تدبير امور هذا العالم المشهود، ليقوموا بإذن الحقّ تعالى بتدبيرها.
و لسماحة آية الله العلّامة كلام في ذيل تفسير هذه الآيات تحت عنوان: كَلَامٌ في إنّ المَلَائِكَةَ وَسَائِطٌ في التَّدْبِير، نورده هنا للمناسبة.
«الملائكة وسائط بينه تعالى و بين الأشياء بدءاً و عوداً على ما يعطيه القرآن الكريم، بمعنى أنّهم أسباب للحوادث فوق الأسباب المادّيّة في العالم المشهود قبل حلول الموت و الانتقال إلى نشأة الآخرة و بعده.
أمّا في العود، أعني حال ظهور آيات الموت، و قبض الروح، و إجراء السؤال، و ثواب القبر و عذابه، و إماتة الكلّ بنفخ الصور، و إحيائهم بذلك، و الحشر، و إعطاء الكتاب، و وضع الموازين، و الحساب، و السَوْق إلى الجنّة و النار، فوساطتهم فيها غنيّ عن البيان، و الآيات الدالّة على ذلك كثيرة لا حاجة إلى إيرادها، و الأخبار المأثورة فيها عن النبيّ الأكرم و أئمّة أهل البيت عليهم السلام فوق حدّ الإحصاء.
و كذا وساطتهم في مرحلة التشريع من النزول بالوحي و دفع الشياطين. عن المداخلة فيه، و تسديد النبيّ و تأييد المؤمنين و تطهيرهم بالاستغفار.
وجود الملائكة له عنوان الواسطة بين الله و الخلق
و أمّا وساطتهم في تدبير الامور في هذه النشأة فيدلّ عليها ما في مفتتح هذه السورة من إطلاق قوله: وَ النَّازِعاتِ غَرْقاً ، وَ النَّاشِطاتِ نَشْطاً ، وَ السَّابِحاتِ سَبْحاً ، فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً ، فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً بما تقدّم من البيان.
و كذا قوله تعالى: جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَ ثُلاثَ وَ رُباعَ الواردة في سورة فاطر، الظاهر بإطلاقه - على ما تقدّم من تفسيره - في أنّهم خُلقوا و شأنهم أن يتوسّطوا بينه تعالى و بين خلقه، و يرسَلوا لإنفاذ
أمره الذي يستفاد من قوله تعالى في صفتهم: بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ ، لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَ هُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ،۱ و قوله: يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَ يَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ،٢ و في جعل الجناح لهم إشارة إلى هذه الحقيقة.
فلا شغل للملائكة إلّا التوسّط بينه تعالى و بين خلقه بإنفاذ أمره فيهم، و ليس ذلك على سبيل الاتّفاق بأن يجري الله سبحانه أمراً بأيديهم ثمّ يجري مثله لا بتوسيطهم، فلا اختلاف و لا تخلّف في سنّته تعالى: إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ؛٣ و قال: فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَ لَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا.٤
و من الوساطة كون بعضهم فوق بعض مقاماً، و أمر العالي السافل بشيء من التدبير، فإنّه في الحقيقة توسّط من المتبوع بينه تعالى و بين تابعه في إيصال أمر الله تعالى، كتوسّط ملك الموت في أمر بعض أعوانه بقبض روح من الأرواح، قال تعالى حاكياً عن الملائكة: وَ ما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ.٥ و قال: مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ.٦
و قال: حتى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا ما ذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَ.۷
و لا ينافي هذا الذي ذكر من توسّطهم بينه تعالى و بين الحوادث، أعني كونهم أسباباً تستند إليها الحوادث استناد الحوادث إلى أسبابها القريبة
المادّيّة، فإنّ السببيّة طوليّة لا عرضيّة، أي أنّ السبب القريب سبب للحادث، و السبب البعيد سبب للسبب.
الملائكة هم واسطة محضة، و ليس لديهم في العمل أي استقلال و استنكاف
كما لا ينافي توسّطهم و استناد الحوادث إليه م استناد الحوادث إليه تعالى و كونه هو السبب الوحيد لها جميعاً على ما يقتضيه توحيد الربوبيّة، فإنّ السببيّة طوليّة كما سمعت لا عرضيّة، و لا يزيد استناد الحوادث إلى الملائكة استنادها إلى أسبابها الطبيعيّة القريبة، و قد صدّق القرآن الكريم استناد الحوادث إلى الحوادث الطبيعيّة كما صدّق استنادها إلى الملائكة.
و ليس لشيء من الأسباب استقلال قباله تعالى حتى ينقطع عنه، فيمنع ذلك استناد ما استند إليه إلى الله سبحانه ما يقول به الوثنيّة من تفويضه تعالى تدبير الأمر إلى الملائكة المقرّبين، فالتوحيد القرآنيّ ينفي الاستقلال عن كلّ شيء من كلّ جهة:
لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَ لا نَفْعاً وَ لا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَ لا حَياةً وَ لا نُشُوراً.۱
فمثل الأشياء في استنادها إلى أسبابها المترتّبة القريبة و البعيدة و انتهائها إلى الله سبحانه بوجهٍ بعيد كالكتابة التي يكتبها الإنسان بيده و بالقلم، فللكتابة استناد إلى القلم ثمّ إلى اليد التي توسّلت إلى الكتابة بالقلم، و إلى الإنسان الذي توسّل إليها باليد و بالقلم، و السبب بحقيقة معناه هو الإنسان المستقلّ بالسببيّة من غير أن ينافي سببيّته استناد الكتابة بوجه إلى اليد و إلى القلم.
و لا منافاة أيضاً بين ما تقدّم أنّ شأن الملائكة هو التوسّط في التدبير
و بين ما يظهر من كلامه تعالى أنّ بعضهم أو جميعهم مداومون على عبادته تعالى و تسبيحه و السجود له، كقوله:
وَ مَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَ لا يَسْتَحْسِرُونَ ، يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ لا يَفْتُرُونَ.۱
و قوله: إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَ يُسَبِّحُونَهُ وَ لَهُ يَسْجُدُونَ.٢
و ذلك لجواز أن تكون عبادتهم و سجودهم و تسبيحهم عين عملهم في التدبير و امتثالهم الأمر الصادر عن ساحة العزّة بالتوسّط، كما ربّما يومئ قوله تعالى: وَ لِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ وَ الْمَلائِكَةُ وَ هُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ».٣
وظائف و شؤون الملائكة السماويّين في تعبيرات القرآن الكريم
كانت هذه امور راجعة إلى تفسير الآيات الأوائل لسورة النازعات و بيان وظيفة و شأنيّة الملائكة الموكّلين بتمام الامور، و أمّا بشأن خصوص الملائكة الموكّلين بأمر الوحي و بيان صفات و كيفيّة إلقاء الوحي فقد ورد قَسَم الله تعالى بهم في موضعين من القرآن الكريم غير المواضع السابقة.
أوّلهما: في ابتداء سورة الصافّات حيث يقول:
وَ الصَّافَّاتِ صَفًّا فَالزَّاجِراتِ زَجْراً ، فَالتَّالِياتِ ذِكْراً ، إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ.٤
و هذه الآيات التي وردت بالقَسَم هي أوّل الآيات الواردة بالقَسَم في
القرآن الكريم، و يحتمل أن يكون المراد بهذه الطوائف الثلاث المذكورة طوائف الملائكة الذين ينزلون بالوحي على النبيّ الأكرم، و المأمورون بتأمين طريق الوحي و حفظه مصوناً و دفع الشياطين عن المداخلة في الوحي ثمّ إيصاله إمّا إلى مطلق الأنبياء أو إلى خصوص محمّد بن عبدالله صلّى الله عليه و آله و سلّم، كما يستفاد من قوله تعالى:
عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً ، إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ رَصَداً ، لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ وَ أَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ وَ أَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً.۱
و عليه، فسيكون معنى الآيات مورد البحث هو. اقسم بالملائكة الذين يصفّون في طريق الوحي صفّاً، فبالذين يزجرون الشياطين و يمنعونهم عن التدخّل في الوحي بعد صفّهم صفّاً، فبالذين يقومون بعد زجر الشياطين و طردهم بتلاوة الذكر على الأنبياء أو بتلاوة القرآن على خاتم الأنبياء.
و يؤيّد هذا التفسير تعبيره عنه بالتلاوة، و يؤيّده أيضاً ما ورد في هذه السورة بعد هذه الآيات من رمي الشياطين بالشهاب الثاقب.
و لا ينافي نزول القرآن بواسطة هؤلاء الملائكة المتعدّدين نزوله بواسطة جبرائيل وحده في قوله: مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ.٢
و قوله: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ ، عَلى قَلْبِكَ.٣
لأنّ هذه الصنوف من الملائكة إنّما هم أعوان جبرائيل في إنزال القرآن، فنزولهم به في الحقيقة هو نزوله. و قد قال تعالى:
فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ ، مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ ، بِأَيْدِي سَفَرَةٍ ، كِرامٍ بَرَرَةٍ.۱
و قال أيضاً: وَ إِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ ، وَ إِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ.٢
و قال حكاية عنهم: وَ ما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ.٣
فنوع و اسلوب نزول القرآن بوساطة الملائكة و بوساطة جبرائيل كالتوفّي و قبض الأرواح الذي ينسب أحياناً إلى الملائكة، كما في قوله تعالى: حتى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا.٤
و يُنسب أحياناً إلى مَلَك الموت و هو رئيسهم، في قوله تعالى:
قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ.٥
و ثانيهما في بداية سورة المرسلات، فيقول: وَ الْمُرْسَلاتِ عُرْفاً ، فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً ، وَ النَّاشِراتِ نَشْراً ، فَالْفارِقاتِ فَرْقاً ، فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً ، عُذْراً أَوْ نُذْراً ، إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ.٦
و يظهر من هذه الآيات أيضاً؛ لوضوح معنى فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً و هو تلقين الوحي، و لتفرّعه بفاء التفريع على فَالْفارِقاتِ فَرْقاً من الفصل و التمييز، و هذه بدورها مترتّبة بفاء التفريع على وَ النَّاشِراتِ نَشْراً من البسط و النشر؛ على أنّ هذه الصفات الثلاث هي صفات مجموعة واحدة
من الملائكة النازلين بالوحي على النبيّ أو على الأنبياء.
و لقرينة اتحاد السياق بين جميع الآيات فإنّ المراد من المرسلات عرفاً و العاصفات عصفاً هذه المجموعة أيضاً. فهم يرسلون في الوهلة الاوّلى جماعات متتابعة، فيسرعون في سيرهم و حركتهم، فينشرون الصحف و يبسطونها، و يفرقون بين الحقّ و الباطل، و يقرؤون الصحف المكرّمة الإلهيّة على الرسول الأكرم أو على الرسل و يلقونها عليهم.
و عليه، فإنّ محطّ و متعلّق القسم خصوص ملائكة الوحي الذين يتّصفون بهذه الصفات الخمس.
أمّا الآيات التي وردت في القرآن الكريم في غير موارد القَسَم لبيان الأعمال المختلفة للملائكة فكثيرة، منها ما ورد في سورة آل عمران مثلًا في ذكر الملائكة الثلاثة آلاف الذين نزلوا في غزوة بدر الكبرى لنصرة المسلمين و إمدادهم، و التي بيّنت أنّه في حال صبر المسلمين و تقواهم فإنّ خمسة آلاف ملك سينزلون عليهم: إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَ لَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ ، بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَ تَتَّقُوا وَ يَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ ، وَ ما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرى لَكُمْ وَ لِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَ مَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ.۱
و لا منافاة بين نزول و نصرة الملائكة الثلاثة آلاف في هذه الآية مع نزول ألف ملك منهم كما ورد في سورة الأنفال، لأنّ نزول الألف ملك هنا قد قيّد بلفظ مُرْدِفِينَ، أي ألف ملك يردفهم ملائكة آخرون، و هي دلالة على أنّ الملائكة نزلوا في غزوة بدر على هيئة مجموعة من ألف ملك في
الوهلة الاولى أردفهم بعدهم الألفان الآخران؛ أمّا تعبير سورة الأنفال فقد كان:
إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ ، وَ ما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرى وَ لِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَ مَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ.۱
و كذلك فقد ورد في قضيّة إفشاء حفصة بنت عمر السرّ الذي أوصاها رسول الله بكتمانه، فباحت به إلى عائشة، ثمّ أفشتاه كلتاهما، فكانتا عاصيتين لأمر الرسول، أن هدّدهما القرآن إن تظاهرا على الرسول فإنّ الله و جبرائيل و أميرالمؤمنين سيحميانه و ينصرانه عليهما، و الملائكة بعد ذلك مُعين في هذا الأمر:
إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما وَ إِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَ جِبْرِيلُ وَ صالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ.٢
و قد ثبت وجود الملائكة ذوي النفوس المجرّدة بالأدلّة العقليّة، فالمُثل الأفلاطونيّة التي أحياها المرحوم صدر المتألّهين قدّس الله سرّه و أثبت وجودها إنّما هي ملائكة و المدبرات أمرا.
اختلاف كيفيّة تمثّل الملائكة باختلاف الأذهان
يرى أهل الكشف و الشهود الملائكة، بصورتهم التمثّليّة، لأنّ الملائكة كما ذكرنا مخلوقات مجرّدة لا يمكنها التلبّس بلباس المادّة، خلافاً للجنّ و الشيطان اللذان هما موجودان مادّيّان ناريّان لهما شكل و صورة، فهؤلاء الجنّ متشكّلون، أما اولئك الملائكة فمتمثّلون، أي أنّهم يظهرون في القوى الذهنيّة للإنسان بصورة مناسبة.
و لقد أحاطت حقيقة جبرائيل، ذلك الموجود المجرّد النورانيّ، حين ظهر لرسول الله على تلك الصورة، بمشرق العالم و مغربه، لكنّه كان يتمثّل أحياناً بصورة دِحْيَة الكَلْبِيّ، فكان رسول الله يراه في تلك الحال على حقيقته، و الآخرون يرونه و يتخيّلونه دحية، في حين أنّه لم يكن دحية بل متمثّلًا بمثال و صورة دحية في أنظار الناظرين.
يقول ابن الفارض المصريّ العارف الجليل:
وَهَا دِحْيَةٌ وَ افَي الأمِينَ نَبِيَّنَا | *** | بِصُورَتِهِ في بَدْءِ وَحْيِ النُّبُوَّةِ |
أجِبْرِيلُ قُلْ لِي. كَانَ دِحْيَةَ إذْ بَدَا | *** | لِمُهْدِي الهُدَى في هيئَةٍ بَشَرِيَّةِ |
وَ في عِلْمِهِ عَنْ حَاضِرِيهِ مَزِيَّةٌ | *** | بِمَاهِيَّةِ المَرْئِيِّ مِنْ غَيْرِ مِرْيَةِ |
يَرَى مَلَكاً يُوحِى إليه وَ غَيْرُهُ | *** | يَرَى رَجُلًا يُدْعَى لَدَيْهِ بِصُحْبَةِ۱ |
الجهة الثالثة: قوله بكلّ بساطة أن لا لزوم لتكلّف الإنسان في رفضه لآراء العلّامة الطباطبائيّ، لأنّ للعلّامة اصول مفروضة و مسلّمة لهذا المدّعى يكفي لردّها أن يرفض الإنسان - كما فعل كَانْت - اسس ماوراء الطبيعة، و حينئذٍ سينهار بناؤه و يتداعى.
و كانت عين عباراته هي:
و نضيف إلى ذلك بأنّ مسلّمات العلّامة الطباطبائيّ ليست هذه الاصول المعدودة المشهورة بأيّ وجه من الوجوه، فقد افترض أيضاً اسساً في علم المعرفة، مثل أنّ الإنسان يمكنه - خلافاً لرأي كانْت - أن يقيم فلسفة ماوراء الطبيعة، و أن يُثبت فيها آراءً بالقطع و اليقين، و أنّ رأي ماوراء الطبيعة يمثّل معنى و ليس بلا معنى - كما يزعم فلاسفة المذهب التحليليّ الجدد - و على هذا يكفي أن يتبنّى الشخص آراء كانْت، أو حتى
أقلّ من ذلك بأن يتبع مدرسة أهل الحديث، لتنهار مبانيه و تسقط، و يتّضح من هذه النماذج و الأمثلة جيّداً مزج الآراء الخارجيّة - بما فيها الفلسفيّة و التجريبيّة - مع الآراء الدينيّة، و تركيب هذين الاثنين لإنشاء فهم جديد.۱
و الجواب على هذه المقولة هو أنّ التعامل مع المطالب و الآراء الفلسفيّة قبولًا أو رفضاً يختلف عن التعامل مع المأكولات و المشروبات التي قد يسيغ المرء أحياناً نوعاً منها، و قد يختار نوعاً آخر أحياناً اخرى.
فالحكيم يرتّب مقدّمات معيّنة على أساس المنطق القويم و البرهان المتين ليحصل على نتيجة ما، فيُلزم العالم و يجبره على قبول رأيه و استنتاجه؛ فما علاقة كانْت و ديكارت بهذا الأمر؟! و ما علاقة الجهل و العمى حين يتعلّق الأمر بالعلم و البصيرة؟! و ما فائدة نسج الخرافات و الأباطيل أمام سطوع شمس العقل و الدراية؟!
و على مخالفي مقولة الحكيم أن يخرجوا ما في جعبتهم من دفاع، و ما يُخبّئون في أكمام أرديتهم من ردود لإبطال مقدّمات برهانه، أي إبطال صغرى المسألة أو كُبراها، أو التشكيك في قياسه الاستثنائيّ، فالغلبة ستكون لهم إن تمكّنوا من ذلك، و لا اعتراض لأحد في الأمر، كانْت أم غيره.
أمّا عند العجز عن التشكيك في الاصول العقليّة و المقدّمات البرهانيّة المسلّمة للحكيم، فما الذي يمكن أن ينطوي عليه الحديث عن هذا أو ذاك، و أتباع رأي هذه المدرسة أو تلك، غير الإقرار بالجهل و الإغراء به؟!
الإشكال الثامن على صاحب المقالة هو قوله: ينبغي اتّباع ما ورد في كتب عصرنا الحاضر باسم العلم، و الذي ابتُنِي على أساس الفرضيّات و النظريّات و عدّة من الامور إلى قينيّة، و اعتباره من المسلّمات، و لو خالف ظاهر القرآن الكريم، فإنّ العلم الذي هو في حال تحوّل و تغيّر دائميّ يستتبع تحوّل و تغيّر المعارف و الاستنباطات من الدين؛ خلافاً لنظرية پيردوئم الفيلسوف و الفيزيائيّ الفرنسيّ الذي يعتبر الفرضيّات العلميّة وسائل لتنظيم الحوادث، و يسمّى علمه صراحةً بالعلم اليقيني الإيجابيّ پُوزِتفسْتيك، و أخيراً فقد بنى نظريّته بحيث إنّ الفرضيّات العلميّة لا حظّ لها في إظهار الواقع، بل تنحصر في كونها أساليب لتنظيم و تنسيق الحوادث و جعلها قابلة للمحاسبات.
ثمّ انتقد العلّامة الطباطبائيّ قدّس الله سرّه في إظهاره ميلًا لهذا الاتّجاه في مقاطع من آرائه التفسيريّة، و اعتباره حفظ ظواهر الكتاب مستلزماً لاعتبار بعض الفرضيّات العلميّة كوسائل.
ثمّ يقول:
إنّ الإنسان ما لم يدوّن و ينقّح معارفه (و علومه الإنسانيّة و معرفته للعالم)، و ينزّه نفسه عن المخالفة غير المبرّرة، فإنّه لن يمتلك معرفة دينيّة عميقة ذات متانة و صلابة كافية.
و فوق هذا، فإنّ هذه المعارف البشريّة السيّالة ستجبر المعرفة الدينيّة أن تتوائم معها في السيلان و الجريان.
و لقد كتب في تفسير مطلع سورة النساء، «يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَ خَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَ بَثَّ مِنْهُما رِجالًا كَثِيراً وَ نِساءً». أنّ ظاهر الآية القريب من النصّ هو أنّ النسل الموجود من الإنسان ينتهي إلى آدم و زوجته، لم يشاركهما فيه غيرهما.
ثمّ ينقل نظريّة القائلين بالأنواع، و يضيف. أنّ هذه الفرضيّة قد افترضت لتبرير و توجيه ما يلحق بهذه الأنواع من الخواصّ و الآثار لا تطوّر ذواتها، من غير قيام دليل عليها بالخصوص و نفي ما عداها، فإنّ التجارب لم تتناول فرداً من أفراد هذه الأنواع تحوّل إلى فرد من نوع آخر، كتحوّل قرد إلى إنسان، و إنّما تتناول بعض هذه الأنواع من حيث خواصّها و لوازمها و أعراضها.
و لهذا السبب فإنّ الهدف من تلك الفرضيّة التي لم يقم دليل قطعيّ عليها هو توجيه و تبرير المسائل الخاصّة و المنحصرة بها. لذا فإنّ قول القرآن الكريم بأنّ الإنسان نوع مستقلّ عن سائر الأنواع غير معارض بأيّ كلام علميّ.۱
ثمّ يقول:
قارنوا كلام المرحوم الطباطبائيّ بكلام داروين حين يعتبر فرضيّته لدلائل خاصّة - كالقدرة مثلًا على تنظيم الظواهر و ظهور النماذج البديعة و غير المنتظرة - فرضيّة معتبرة و مدعومة، و في اعتباره تحوّل الأنواع أمراً نظريّاً علميّاً. و لاحظوا كذلك معيار العلّامة الطباطبائيّ حين يطلب مشاهدته رأي العين تحوّل قرد إلى إنسان لتصحّ عنده تلك النظريّة و تحوز رتبتها العلميّة، أي أنّه في النهاية ينهي المطلب و يجعله معتمداً على فلسفة العلم أو علم المعرفة.
ثمّ يقول:
و ليس واضحاً لي هل عمل المرحوم الطباطبائيّ على بسط نظره و تنميته في مجال امتحان و اختبار الفرضيّات العلميّة و رفضها أو قبولها، أم لا؟٢
أ وَ حَقّاً أنّه يعد شرط صدق النظريّات في كلّ مكان أن تشاهد مصاديقها النظريّة بشكل مباشر أم لا؟
أ وَ هل أقام بنفسه معرفة صحيحة و منقّحة أم لا؟
أ وَ هل يعتقد بهذا الرأي كذلك في باب نظريّة كوبرنيك مثلًا، فيطالب برؤية حركة الأرض حول الشمس، أو بمشاهدة سكون الشمس، و إلّا فإنّه لن يقبل بها؟
أ وَ يطالب في الكيمياء بمشاهدة جزيء كلوريد الصوديوم أو البنزين مباشرة؟
أ وَ يعتبر المشاهدة بالاستعانة بالآلات مشاهدة أيضاً أم لا؟
(كالمشاهدة من خلال الميكروسكوب أو التلسكوب).
أ وَ يعتبر الوسائل و الأدوات امتداداً للحواسّ البشريّة فقط أم يعدّها نظريّات مجسّمة؟
و هل يعدّ المشاهدة بلا نظريّة، و غير المسبوقة بفرضيّة ما أمراً ميسّراً أم لا؟
مهما كان الجواب فمن المسلّم أنّه ما لم يقدّم جواباً إجماليّاً أو تفصيليّاً لهذه الأسئلة فإنّ ذلك الحكم في باب فرضيّة التكامل و التطوّر، و ذلك المعيار لاختيار النظريّات العلميّة سيبقى ناقصاً غير كافٍ.۱
النظريّات التي لم تثبت بعد بالأدلّة المتقنة، هي فرضيّات لا قوانين
لقد أجبنا في هذا الكتاب على هذه المقولة بالنقوض و الإيرادات التي أوردناها على كتاب «خلقت انسان» (=خلق الإنسان)، و برهنّا هناك أنّ مسألة تغيّر و تطوّر الأنواع لا تعدو عن كونها فرضيّة ليس إلّا، و لا يمكن تسميتها قانوناً.
فالأفراد الذين يدلون بآرائهم في هذه القضيّة يستدلّون على وجوب التطوّر و التبدّل بوجود التكامل في الأنواع، و لا يملكون لقولهم هذا من برهان إلّا لفظ يجب.
إنّ الاستقراء الناقص الذي اجرى على الأنواع فأثبت وجود التكامل فيها لا علاقة له بمسألة تغيّر الأنواع و تبدّلها، فلا يمكن إثبات هذا الحكم بثبوت ذاك، و لا يمكن من ترتيب المقدّمات الظنّيّة الاستقرائيّة في الأنواع استخلاص نتيجة كلّيّة لجميع الأنواع، و حتى لتغيرها و تطوّرها، فكلمات داروين و أقواله مخدوشة، و قد الِّفت الكتب في مهاجمته و مهاجمة نظريّته، و قد انحسر اليوم اعتبار هذا الكلام و قيمته في محافل العلم، فلم يعد ذا أهمّيّة تُذكر.
و علينا حين نلحظ ظهور القرآن الكريم القريب من النصّ على أنّ ولادة جميع أفراد البشر من آدم شخصيّ واحد و زوجته، أن لا نرفع اليد عن هذا الظهور لمجرّد الحدس و التخمين، لقد نهى القرآن الكريم عن العمل بالظنّ، فلا حقّ للإنسان إلّا سلوك طريق العلم و القطع و اليقين.
فأيّ دليل قطعيّ و يقينيّ قد قُدّم على اتّصال البشر بالقرد؟!
لقد تصوّر داروين أنّ ذلك الاتّصال كان عن طريق القرد، و قد ردّ مقولته القائلون بتبدّل الأنواع لدلائل كثيرة، و صاروا يقولون بوجود حلقة مفقودة، فهم عنها يبحثون.
أمّا القائلون بثبات الأنواع (فيكسيزت) فيرفضون مطلقاً مسألة
التبدّل و التغيّر و يعدّونه منحصراً في داخل الأنواع، لا تغيّر نوع إلى آخر، أو تغيّر ماهيّة و تطوّرها إلى ماهيّة اخرى. فأيّ دليل يقينيّ و علميّ و تجريبيّ اقيم في علوم الحياة على قاطعيّة تغيّر الأنواع؟!
إنّ الحكيم و العالم لا يتكلّم إلّا عن طريق العلم، تاركاً المحتملات في بوتقة الاحتمال و في بقعة الإمكان.
و قد كان كلام العلّامة في باب تغيّر الأنواع من أعلى الأحكام و النتائج التي ينبغي أن تُستحصل، لأنّه يقول: لم يقم هناك دليل علميّ لتغيّر الأنواع فيُثبت الأمر باليقين و المشاهدة، فيبقى إذاً احتمال الرأي الآخر المقابل لهذا الكلام على قوّته و اعتباره، و لا يمكن رفع اليد عن ظاهر القرآن بدون حجّة عقليّة.
و لم يكن المقصود بالمشاهدة الرؤية، كي يحاول بزيادة الأمثلة و التشكيك رفضاً أو قبولًا افتعال أجواء معيّنة و توسعة ساحة المغالطة؛ بل كان المقصود بها اليقين و القطع، فالجميع يعلم أنّ المراد من مشاهدة التركيبات الكيميائيّة هو الفعل و الانفعال الحاصل بين شيئين ليحصل و ينتج منهما شيء ثالث، و المراد من مشاهدة حركة الأرض قاطعيّة ذلك على أساس قانون البندول و تجربة فوكو، لا الإحساس بحركتها شأن حركة مهد الطفل.
كانت هذه إجاباتنا على افتراض مجيء لفظ الرؤية أو المشاهدة في عبارة العلّامة قدّس الله نفسه، مع أنّ الأمر لم يكن كذلك، بل هو تحريف ظاهر واضح من صاحب المقالة لكلام العلّامة، فلقد كانت عباراته في تفسير «الميزان» لَمْ يَتَنَاوَل، و لا ربط لها بمعنى و مفهوم العلم و المشاهدة و الرؤية، و أعمّ و أشمل في معناها.
و ممّا يثير العجب الشديد أن يقول صاحب المقالة في انتقاده لكلمات العلّامة كما ذكرنا. «إنّ الإنسان ما لم يدوّن و ينقّح معارفه (و علومه الإنسانيّة و معرفته للعالم) و ينزّه نفسه عن المخالفة غير المبرّرة، فإنّه لن يمتلك معرفة دينيّة عميقة ذات متانة و صلابة كافية».
فما هذه الجرأة و الوقاحة في أن يمنح امرؤ نفسه الحقّ لمجرّد اكتسابه حظّاً من هذا الحبك المتشابك الذي يدعونه بالعلوم الإنسانيّة و علم المعرفة في أن ينسب اسطوانة العلم و الحكمة و الفضيلة الفريدة و مرجع المعارف الدينيّة في القرون الأخيرة باعتراف المؤالف و المخالف معاً إلى الضحالة و عدم الصلابة في المعرفة الدينيّة؟ إن هي إلّا الرذالة و السخافة و الدناءة:
هزارمرتبه شستن دهن به مشك و گلاب | *** | هنوز نام تو بردن كمال بي ادبي است۱ |
إنّ القطع و اليقين حجّة في ذاته و نفسه، و حجّيّته غير قابلة للجعل، لا إثباتاً و لا نفياً، أي لا يمكن إعطاؤه الحجّيّة أو سلب الحجّيّة عنه.
و تسمية القطع و اليقين بالحجّة ينطوي على مسامحة، لأنّ الحجّة تقال للشيء الباعث على اليقين و القطع بالمطلوب، فلا يمكن إطلاقها على نفس القطع و اليقين.
أمّا حجّيّة الأدلّة الظنّيّة، فباعتبار وقوعها في طريق الدليل القطعيّ و اليقيني و انتهائها إليه، و إلّا فإنّ كلّ ظنّ و حدس لا يمتلك حجّيّة بنفسه.
العقل حجّة قبل الشرع، و للّه تعالى حجّتان
أمّا اتّباع العلم و اليقين فهو ممّا يأمر به العقل قبل الشرع: وَ لا تَقْفُ ما
لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ،۱ و هي حقيقة فطريّة وجدانيّة، و عقليّة فكريّة، و إيمانيّة شرعيّة، خرقت طبقات الظلام كالشمس الساطعة، و تخلّصت من حجب الأوهام و الخيالات و الحدس و الظنّ، و كانت في سطوعها في سماء العقل و المعرفة البشريّة لألف و أربعمائة سنة هادياً و مرشداً، و دليلًا قاطعاً، و سنداً حيّاً، و شاهداً صادقاً على حقّانيّة القرآن.
فحجّيّة العقل سابقة على حجّيّة الشرع، لأنّ الشرع إنّما يثبت بالعقل، و الشخص المجنون الذي لا عقل له لا تكليف له؛ فإن لم يكن هناك حكم عقليّ على وجوب اتّباع النبيّ و الإمام، فكيف ستثبت حجّيّة أقوالهم؟
و أمّا القول بحجّيّة الشرع اعتماداً على الشرع فيستلزم الدور و التسلسل، فكيف سيمكن في غياب العقل تمييز رسول الله عن مسيلمة الكذّاب، أو تشخيص نبيٍّ إلهيّ عن مدّعٍ للنبوّة؟
لا ريب أنّ للعقل حكم المصباح الذي يمكن للإنسان أن يبصر بنوره جميع الأشياء، و يهتدي به إلى حلّ جميع المجهولات، و من بينها وجوب اتّباع الكتاب السماويّ و النبيّ و الإمام الحقيقيّينِ، لذا فإنّ اتّباع الإمام كان بواسطة العقل و هديه.
الروايات الواردة في تقدّم العقل على الشرع
يروي محمّد بن يعقوب الكُلَيْنيّ في كتاب «الكافي» بسنده المتّصل عن أبي يعقوب البغداديّ أنّه قال: قَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ٢ لأبِي الحَسَنِ عَلَيه
السَّلَامُ۱: لمَاذَا بَعَثَ اللهُ مُوسَى بْنَ عِمْرَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالعَصَا وَ يَدِهِ البَيْضَاءِ وَ آلَةِ السِّحْرِ؟! وَ بَعَثَ عيسى بِآلَةِ الطِّبِّ؟ وَ بَعَثَ مُحَمَّداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ عَلَى جَمِيعِ الأنْبياءِ بِالكَلَامِ وَ الخُطَبِ؟!
فَقَالَ أبُوالحَسَنِ عليه السلام: إنَّ اللهَ لَمَّا بَعَثَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ الغَالِبُ عَلَى أهْلِ عَصْرِهِ السِّحْرَ، فَأتَاهُمْ مِنْ عِنْدِ اللهِ بِمَا لم يَكُنْ في وُسْعِهِمْ مِثْلُهُ، وَ مَا أبْطَلَ بِهِ سِحْرَهُمْ، وَ أثْبَتَ بِهِ الحُجَّةَ عَلَيْهِمْ.
وَ إنَّ اللهَ بَعَثَ عيسى عَلَيْهِ السَّلَامُ في وَقْتٍ قَدْ ظَهَرَتْ فيهِ الزَّمَانَاتُ وَ احْتَاجَ النَّاسُ إلى الطِّبِّ، فَأتَاهُمْ مِنْ عِنْدِ اللهِ بِمَا لم يَكُنْ عِنْدَهُمْ مِثْلُهُ، وَ بِمَا أحْيَى لَهُمُ المَوْتَى، وَ أبَرَأ الأكْمَهَ وَ الأبْرَصَ بِإذْنِ اللهِ وَ أثْبَتَ بِهِ الحُجَّةَ عَلَيْهِمْ.
وَ إنَّ اللهَ بَعَثَ مُحَمَّداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ في وَقْتٍ كَانَ الغَالِبُ عَلَى أهْلِ عَصْرِهِ الخُطَبَ وَ الكَلَامَ - وَ أظُنُّهُ قال: الشِّعْرَ - فَأتَاهُمْ مِنْ عِنْدِ اللهِ مِنْ مَوَاعِظِهِ وَ حِكَمِهِ مَا أبْطَلَ بِهِ قَوْلَهُمْ وَ أثْبَتَ بِهِ الحُجَّةَ عَلَيْهِمْ.
قال: قَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ. تَاللهِ؛ مَا رَأيْتُ مِثْلَكَ قَطُّ! فَمَا الحُجَّةُ عَلَى الخَلْقِ اليوم؟!
قال: فَقَالَ عليه السلام: العَقْلُ يُعْرَفُ به الصَّادِقُ عَلَى اللهِ فَيُصَدِّقُهُ؛
وَ الكَاذِبُ عَلَى اللهِ فَيُكَذِّبُهُ.
قال: فَقَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ. هَذَا وَ اللهِ هُوَ الجَوَابُ.۱
و للمحقّق الفيض الكاشاني كلام في ذيل هذا الحديث المبارك بشأن معنى العقل الذي جعله الإمام عليهالسلام حجّة، قال:
«في كلام الإمام عليهالسلام تنبيه على ترقّي الاستعدادات و تلطّف القرائح في هذه الامّة، حتى استغنوا بعقولهم عن مشاهدة المعجزات المحسوسة، فإنّ الإيمان بالمعجزة دين اللئام و منهج العوامّ، و أهل البصيرة لا يقنعون إلّا بانشراح الصدر بنور اليقين:
أَ فَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ.٢
فالإنسان الصادق الذي تكون دلالته و حكايته من الله و للّه صادقة يمكن تشخيصه بالعقل، لأنّه بالعقل يمكن أن يُفهم علمه بكتاب الله و مراعاته له و تمسّكه بالسنّة و حفظه لها، و الكاذب على الله يمكن كذلك تشخيص جهله بكتاب الله و تركه له و مخالفته للسنّة و عدم مبالاته بها.
قال في «الاحتجاج»:
و قد ضمن الرضا٣ صلوات الله عليه في كلامه هذا أنّ العالم لا يخلو في زمان التكليف من صادق من قبل الله يلتجي المكلّف إليه في ما اشتبه عليه من أمر الشريعة، صاحب دلالة تدلّ على صدقه عليه تعالى يتوصّل المكلّف إلى معرفته بالعقل، و لولاه لما عُرف الصادق من الكاذب، فهو
حجّة الله على الخلق أوّلًا».
فالإمام عليهالسلام لم يكن ليريد في هذا الحديث الأفهام بأن حجّة الله اليوم هي العقل لا الإمام و النبيّ، و أنّ حجّته في الأزمنة السابقة المصحوبة بالمعجزات كانت الأنبياء لا العقل، لأنّ تلك المعجزات أيضاً لم تكن لتثمر شيئاً لولا وجود العقل.
أمّا في هذا الزمان فإنّ العقل لا يكفي لوحده، إذ لولا وجود صادق من جانب الله تعالى فإنّ الإنسان سيعجز بعقله عن معرفة مَنْ سيتبع و بمن سيقتدي.
لذا فإنّ أمس و اليوم كلاهما بحاجة إلى حجّة، كما يحتاجان العقل، ذلك العقل الذي أمكن لابن السكِّيت أن يدرك أنّ الهادي عليهالسلام هو الإمام الصادق، و أنّ المتوكّل هو الإمام الكاذب الزائف.
فلقد دعاه الإمام في تلك العبارات بأحلى بيان و أقوى برهان إلى الاعتقاد بإمامته عن طريق أدِلَّة قِيَاساتُهَا مَعَهَا و هي. أنّ لك عقلًا! فاكتشف بعقلك الطريق! و ميّز به القائد من السارق، و الدليل الهادي من قاطع الطريق! ثمّ تحرّك معه و اتبعه! و كان للإمام إشارة هنا إلى أنّ عقول الناس اليوم من القوّة ممّا لا حاجة معه لمعجزة، فقد كانت المعجزة لأصحاب الأبصار، أمّا أصحاب العقول و البصائر فيكتشفون قائدهم و إمامهم بانشراح الصدر و نور اليقين، فلا يدعون ملازمته حتى ينالوا مقصودهم و يتوصّلوا إلى غايتهم.
و قد روى المرحوم الكلينيّ في «الكافي» كذلك، بسنده المتّصل عن ابن أبي يعفور، عن مولى لبنى شيبان، عن أبي جعفر محمّد الباقر عليه
السلام قال: إذا قام قائمنا وضع الله يده على رؤس العباد فجمع بها عقولهم و كملت به أحلامهم۱.
العقل هو الحجّة الاولى بين الله و العباد
كما روى الكلينيّ بسنده المتّصل عن عبدالله بن سنان، عن الإمام الصادق عليهالسلام قال: حُجَّةُ اللهِ عَلَى العِبَادِ النَّبِيُّ؛ وَ الحُجَّةُ فيمَا بَيْنَ العِبَادِ وَ بَيْنَ اللهِ العَقْلُ.٢
يقول المحقّق الفيض في بيان و شرح هذا الحديث: يعني ما يقطع به عذرهم في تركهم لما يتوصّلون إلى سعادتهم و فيه نجاتهم هو النبيّ بعد تصديقهم بالله سبحانه، و ما يقطع به عذرهم في تركهم لمعرفة الله سبحانه و التصديق به قبل ذلك هو العقل.
و لمّا كانت الحجّة في الأوّل موصلة لهم إلى شيء آخر غير الله، أعني سعادتهم، و كانوا معتقدين لإلهيّته سبحانه، أضاف الحجّة إلى الله تعالى (حجّة الله)، و أورد لفظ عَلَى، و لما كانت الحجّة في الثانية موصلة لهم إليه تعالى و كانوا غير معتقدين بعد لإلهيّته، و هي قد تكون حجّة لهم و قد تكون حجّة عليهم لاختلاف مراتب عقولهم قال: فيما بينهم و بين الله.
ثمّ أورد شرحاً لُاستاذه في المعقول. صدر المتألّهين الشيرازيّ طيّب الله مضجعه، محصّله. أنّ الناس إمّا أهل بصيرة و إمّا أهل حجاب، و الحجّة للّه عليهم إمّا ظاهرة و إمّا باطنة؛ و يكفي لأهل الحجاب الحجّة الظاهرة إذ لا باطن لهم، لأنّهم عميان القلوب لا يبصرون بباطنهم شيئاً، لهم قلوب لا يفقهون بها، فالحجّة عليهم هو النبيّ مع معجزته، و هي الحجّة
الظاهرة.
و أمّا أهل البصيرة فالحجّة الظاهرة عليهم هو النبيّ، و الباطنة هو العقل المكتسب ممّا استفادوا من النبيّ.
ثمّ يقول: هذا تحقيق حسن إلّا أنّ إرادته من الحديث بعيدة.۱
رواية قيّمة للإمام موسى بن جعفر عليه السلام في حجّيّة العقل
و من بين الأحاديث في باب حجّيّة العقل و أفضليّته، رواية جليلة و نفيسة رواها في «الكافي» بسنده المتّصل عن هشام بن الحكم عن أبي الحسن موسى بن جعفر عليهما السلام تضمّ مطالب قيّمة و معارف عالية و دقائق و إشارات و لطائف تليق أن يؤلّف لكشف نكاتها العميقة كتاب مستقلّ، و باعتبارها مفصّلة فإنّنا نكتفي هنا بعدّة فقرات منها:
قَالَ عليه السلام: يَا هِشَامُ! إنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَ تعالى بَشَّرَ أهْلَ العَقْلِ وَ الفَهْمِ في كِتَابِهِ فقال: «فَبَشِّرْ عِبادِ ، الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ وَ أُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ».٢
يَا هِشَامُ! إنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَ تعالى أكْمَلَ لِلنَّاسِ الحُجَجَ بِالعُقُولِ وَ نَصَرَ النَّبِيِّينَ بِالبَيَانِ وَ دَلَّهُمْ عَلَى رُبُوبِيَّتِهِ بِالأدِلَّةِ.
يَا هِشَامُ! إنَّ العَقْلَ مَعَ العِلْمِ. فقال: «وَ تِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَ ما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ».٣
يَا هِشَامُ! إنَّ لُقْمَانَ قَالَ لِابْنِهِ. تَوَاضَعْ لِلْحَقِّ تَكُنْ أعْقَلَ النَّاسِ، وَ إنَّ الكَيِّسَ لَدَى الحَقِّ يَسِيرٌ.
يَا بُنَيَّ! إنَّ الدُّنْيَا بِحْرٌ عَمِيقٌ قَدْ غَرِقَ فيهِ عَالمٌ كَثِيرٌ فَلْتَكُنْ سَفينَتُكَ
فيهَا تَقْوَى اللهِ، وَ حَشْوُهَا الإيمَانَ، وَ شِرَاعُهَا التَّوَكُّلَ، وَ قَيِّمُهَا العَقْلَ، وَ دَلِيلُهَا العِلْمَ، وَ سُكَّانُهَا الصَّبْرَ.
يَا هِشَامُ! مَا بَعَثَ اللهُ أنْبِيَاءَهُ وَ رُسُلَهُ إلى عِبَادِهِ إلَّا لِيَعْقِلُوا عَنِ اللهِ! فَأحْسَنُهُمُ اسْتِجَابَةً أحْسَنُهُمْ مَعْرِفَةً؛ وَ أعْلَمُهُمْ بِأمْرِ اللهِ أحْسَنُهُمْ عَقْلًا.
وَ أكْمَلُهُمْ عَقْلًا أرْفَعُهُمْ دَرَجَةً في الدُّنْيَا وَ الآخِرَةِ.
يَا هِشَامُ! إنَّ لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حُجَّتَيْنِ. حُجَّةً ظَاهِرَةً وَ حُجَّةً بَاطِنَةً.
فَأمَّا الظَّاهِرَةُ فَالرُّسُلُ وَ الأنْبِيَاءُ وَ الأئِمَّةُ؛ وَ أمَّا البَاطِنَةُ فَالعُقُولُ.
يَا هِشَامُ! الصَّبْرُ عَلَى الوَحْدَةِ عَلَامَةُ قُوَّةِ العَقْلِ، فَمَنْ عَقَلَ عَنِ اللهِ اعْتَزَلَ أهْلَ الدُّنْيَا وَ الرَّاغِبينَ فيهَا وَ رَغِبَ فيمَا عِنْدَ اللهِ، وَ كَانَ اللهُ انْسَهُ في الوَحْشَةِ، وَ صَاحِبَهُ في الوَحْدَةِ، وَ غِنَاهُ في العِيلَةِ، وَ مُعِزَّهُ مِنْ غَيْرِ عَشِيرَةٍ.
يَا هِشَامُ! كَانَ أمِيرُالمُؤْمِنِينَ عَلَيْهِ السَّلَامُ يقول: مَا عُبِدَ اللهُ بِشَيءٍ أفْضَلَ مِنَ العَقْلِ، وَ مَا تَمَّ عَقْلُ امْرِئٍ حتى يَكُونَ فيهِ خِصَالٌ شَتَّى. الكُفْرُ و الشَّرُّ مِنْهُ مَأمُونَانِ، وَ الرُّشْدُ وَ الخَيْرُ مِنْهُ مَأمُولَانِ، وَ فَضْلُ مَالِهِ مَبْذُولٌ، وَ فَضْلُ قَوْلِهِ مَكْفُوفٌ، نَصِيبُهُ مِنَ الدُّنْيَا القُوتُ، لَا يَشْبَعُ مِنَ العِلْمِ دَهْرَهُ، الذُّلُّ أحَبُّ إليه مَعَ اللهِ مِنَ العِزِّ مَعَ غَيْرهِ، و التَّوَاضُعُ أحَبُّ إليه مِنَ الشَّرَفِ.
يَسْتَكْثِرُ قَلِيلَ المَعْرُوفِ مِنْ غَيْرهِ، وَ يَسْتَقِلُّ كَثِيرَ المُعْرُوفِ مِنْ نَفْسِهِ، وَ يَرَى النَّاسَ كُلَّهُمْ خَيْراً مِنْهُ؛ وَ أنَّهُ شَرَّهُمْ في نَفْسِهِ وَ هُوَ تَمَامُ الأمْرِ.
يَا هِشَامُ! لَا دِينَ لِمَنْ لَا مُرُوَّةَ لَهُ، وَ لَا مُرُوَّةَ لِمَنْ لَا عَقْلَ لَهُ.۱
شرح فقرات من الحديث المروي عن الكاظم عليه السلام بشأن العقل
يقول المحقّق الفيض الكاشاني في شرح و بيان فقرة تَوَاضَعْ لِلْحَقِّ تَكُنْ أعْقَلَ النَّاسِ. أي تواضع مع الناس للحقّ سبحانه لا لغرض آخر، فإنّ
من تواضع للّه رفعه الله كما ورد في الحديث.
أو نقول: التواضع للحقّ هو الإقرار به و الطاعة له و الانقياد، كما هو مقتضى العقل.
و قال استاذنا (صدر المتألّهين الشيرازي قدّس الله سرّه). هو أن لا يرى العبد لنفسه وجوداً و لا حولًا و لا قوّة إلّا بالحقّ تعالى و حوله و قوّته، فيرى أن لا حول و لا قوّة له و لا لغيره إلّا بالله.
و ورد في الحديث النبويّ: مَنْ تَوَاضَعَ لِلّهِ رَفَعَهُ اللهُ، فإذا فني عن نفسه بالموت الإراديّ قبل الموت الطبيعيّ يكون باقياً بالله.
ثمّ قال الملّا صدرا. و هو المراد بقوله: تَكُنْ أعْقَلَ النَّاس، فإنّ أعقل الناس هم الأنبياء و الأوّلياء ثمّ الأمثل فالأمثل.۱
و قال في شرح و بيان فقرة: فَمَنْ عَقَلَ عَنِ اللهِ اعْتَزَلَ أهْلَ الدُّنْيَا وَ الرَّاغِبينَ فيهَا: بلغ عقله إلى حدّ يأخذ العلم عن الله من غير تعليم بشر في كلّ أمر.
و معنى الاعتزال عن الدنيا و أبناء الدنيا. إذ لم يبقَ له رغبة في الدنيا و أهلها و إنّما يرغب فيما عند الله من الخيرات الحقيقيّة و الأنوار الإلهيّة و الإشراقات العقليّة و الابتهاجات الذوقيّة و السكينات الروحانيّة.
و في شرح و بيان فقرة: مَا عُبِدَ اللهُ بِشَيءٍ أفْضَلَ مِنَ العَقْلِ، قال: أي أفضل ما يتقرّب به العبد إلى الله هو تكميل العقل باكتساب العلوم الحقيقيّة الاخرويّة و المعارف إلى قينيّة الباقية المأخوذة من الله سبحانه دون غيره من الطاعات و العبادات البدنيّة و الماليّة و النفسيّة.
كما ورد عن النبيّ صلى الله عليه و آله و سلّم: يَا عَلِيُّ! إذا تَقَرَّبَ
النَّاسُ إلى خَالِقِهِمْ بِأنْوَاعِ البِرِّ، فَتَقَرَّبْ أنْتَ إليه بِالعَقْلِ حتى تَسْبِقَهُمْ۱.
نعم، حين نرى أنّ دين الإسلام القويم قائم على أساس العقل، و أنّ الآيات القرآنيّة تدعونا إلى العقل و التعقّل، و أنّ هذه الأحاديث المعتبرة من رسول الله و آله الميامين جاءت لتدعو إلى العقل؛ و حين نعلم أنّ للعقل حجّيّة قبل الشرع، و أنّه أحد حجّتي الله و برهانَيه الصادقينِ، و أنّ هذا العقل يدعونا للعلم و اليقين؛ و أنّ القرآن الكريم ينهانا عن اتّباع الظنّ و عن أي منهاج و هميّ لا ينتهي بالقطع و اليقين، فكيف يمكننا مع هذا كلّه أن نتمسّك بفرضيّة تفتقر الأساس العلميّ، و لم تصاغ على أساس البرهان و اليقين، و لم تكتسب حجّة يقينيّة و شهوداً وجدانيّاً، فنرفع لأجلها يدنا عن ظاهر الكلام الإلهيّ و الكتاب السماويّ؟!
إنّ الحكيم أو العالم لن ينحني أو يخضع أمام هذه التصوّرات و هذه المختبرات، و أمام تنظيم عدّة تماثيل و عظام مزوّرة و عدّة من الفسائل الطبيعيّة الناقصة و ذات الدلالة المبهمة الغامضة، فهو لا يبيع المحكمات بالمتشابهات.
أمّا أتباع الظواهر الذين تمركزت عقولهم في عيونهم فيحكمون فوراً بمجرّد التفرّج على عدّة فسائل لا تحكي إلّا التغيّر و التكامل داخل الأنواع على قضيّة أشمل و مطلب أوسع، فيقولون. الآن و قد ثبت التطوّر و الرشد و التغيّر داخل الأنواع، فإنّ علينا أن نعتبره أساساً عامّاً كلّيّاً فنطلقه إلى تبدّل الأنواع و تغيّراتها الخارجيّة، و نعتبر جميع الأنواع من أصل واحد و جرثومة واحدة.
بأيّ علّة؟ و بأيّ مناط؟ و بأيّ برهان؟
أيحمل قائل هذا الكلام في جعبته شيئاً غير خلط و مزج المطالب الحدسيّة و الوهميّة و غير الاستقراء الناقص؟ فليقدّمه و ليُشر إليه.
الإشكال التاسع على صاحب المقالة: هو عدم فهمه لمعنى الفطرة و فطريّة الأحكام، حيث أشكل تبعاً لذلك على العلّامة قدّس الله نفسه الشريفة بشأن عدم منافاة تزويج أولاد آدم أبي البشر و بناته للفطرة، ثمّ أورد مطلباً منه شفعه بأمثلة غير صحيحة من عنده، فأدغمها في كلام العلّامة و نسبها خطاً إليه، ثمّ أنهى كلامه بعد شرح مختصر.
و نجد أنفسنا مجبرين - إيضاحاً لحقيقة الأمر - على إيراد عين عبارته، ثمّ الإشارة إلى نقاط مغالطته و مواضع مكابرته الشاعريّة. يقول:
مضافاً إلى ذلك فإنّه يضع نفسه - بقبوله كون آدم و زوجه أباً و أمّاً لجميع نوع البشر - أمام سؤال عسير.
هل تزوّج أولاد و بنات آدم فيما بينهم؟ حيث أجاب على ذلك بالإيجاب. ثمّ أجاب بالنفي على السؤال الآخر. أو لا يتعارض زواج الأخ و الاخت مع الفطرة؟
و أورد كشاهد على تأييد عدم تعارض زواج الاخت و الأخ للفطرة قصصاً منقولة عن الإيرانيّين القدماء، و عن أعمال بعض الاوروبّيّين المعاصرين.
و نُعرض من جديد عن نفس الأسئلة و الأجوبة، و نلحظ فقط مستلزمات الكلام الأوّل، فقد رأى في معرض دفاعه عن وجهة نظره الاولى لزوم عرض ملاكٍ ما في باب موافقة الفطرة و معارضتها يثير بنفسه أسئلة جديدة و يستلزم أجوبة جديدة، و يشيد بشكل كلّيّ فهماً دينيّاً جديداً.
فلا جرم أنّ شرب الخمر، و الزنا، و اللواط، و الربا التي كانت سائدة و رائجة في الأقوام السابقة كما هي رائجة عند الاوروبّيّين المعاصرين، هي في نظره من الامور التي لا تخالف الفطرة، بل إنّها بحدّ ذاتها ليست حسنةً و لا قبيحة، و لا معنى لأن تحلّل في شريعة ما و تُحرّم في اخرى.
و لا جرم أنّ الدين - و خاصّة الدين الإسلاميّ - الذي يمثّل في نظره طريقاً لإيصال الفرد و المجتمع لكماله اللائق جميع أحكامه فطريّة بهذا المعنى،۱ سيكتسب وجهاً و مظهراً آخر، و سيتّضح أنّ كثيراً من أحكام الدين الإسلامى يمكن أن تكون بشكل آخر مع احتفاظها بفطريّتها.
و هذه كلّها نوع من المعرفة الدينيّة تتناسب مع نوع المعرفة الإنسانيّة و معرفة العالم، أي أنّ المفسّر إن لم يكن له إدراك و فهم خاصّ عن الإنسان و العالم، و عن مفهوم الحُسن و القبح، و عن الاحتياجات الإنسانيّة، فإنّه لن يستطيع الحكم أنّ زواج الاخت و الأخ فطريّ أحياناً و غير فطريّ أحياناً اخرى، أو أنّه أمر لا فطريّ و لا غير فطريّ.
و يتّضح من جديد أنّ موافقة أحكام الدين للفطرة أمر لا يمكن إثباته بالتجربة، كما لا يمكن نفيه بالتجربة، لأنّ زواج الاخت و الأخ - و هو أمر اعتباريّ لا حقيقيّ - كان في بدء خلق الإنسان مجازاً و مشروعاً في نظره، لأنّ غرض الشارع و مصلحة العالم كانت في تكثير نسل الإنسان، و الآن و قد انتفت هذه المصلحة فقد حُرِّم هذا الزواج.
إنّ هذا الكلام يسدّ بشكل كامل أمر إثباتنا لفطريّة الأحكام الشرعيّة أوّلًا، و باعتبار عدم معرفتنا لغرض الشارع من جعل الحكم الفلانيّ فإنّنا يمكن أن نعتبر أي حكم موافقاً للفطرة، لذا فإنّ الفطريّة و غيرالفطريّة ستفقد عمليّاً قيمتها الاستدلاليّة و روح معرفتها و إدراكها.
و ثانياً فلابدّ لإظهار ذلك النظر من أن تنشأ نظريّة أخلاقيّة خاصّة تقول بعدم وجود اعتبار لحُسن الأفعال و قبحها، و إنّ جوانب العلاقات الفرديّة و الاجتماعيّة (العلاقات الجنسيّة و علاقات الحكم و ...) ليست بذاتها حسنة و لا قبيحة، بل إنّ لحسنها و قبحها معنى و منشأ آخر، فيمكن أحياناً أن يصبح عمل ما لمصلحة معيّنة (كتكثير النسل) مشروعاً، و أن يصبح ممنوعاً أحياناً اخرى؛ و حين يكون هذا الأمر جائزاً في زواج الاخت و الأخ فَلِمَ لا يكون جائزاً في الموارد الاخرى؟! (و في الحقيقة فإنّ نظر المرحوم الطباطبائيّ في باب الأخلاق هو نفس هذه العقيدة، حيث أوردها بوضوح في المقالة السادسة۱ من كتابه «اصول فلسفه و روش رئاليسم» (=أسس الفلسفة و المذهب الواقعيّ)؛ و قد توسّل جماعة من المفسّرين تجنبّاً لهذه الصعوبات بأحاديث تحكي تزويج ابنَي آدم بجنيّةو حوريّة».٢
و علينا لبيان مواضع خطأ صاحب المقالة أن نورد بحثاً عن الفطرة و معناها ثمّ نعمد إلى ذكر الاشتباهات؛
معنى كون أحكام الدين الإسلاميّ المقدّس فطريّة
فلدينا في القرآن الكريم آية صريحة و واضحة تكشف عن أنّ الإنسان قد خُلق على أساس الفطرة، و تعدّ الدين الإسلاميّ المبين ديناً قائماً على أساس الفطرة:
فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها
لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ، مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَ اتَّقُوهُ وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ لا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ، مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَ كانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ.۱
تفسير آية: فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها
و قد قال العلّامة الطباطبائي في تفسير هذه الآيات:
الفطرة بناء نوع من الفطر بمعنى الإيجاد و الإبداع، و فِطْرَتَ اللهِ منصوب على الإغراء، أي الزم الفطرة، ففيه إشارة إلى أنّ هذا الدين الذي يجب إقامة الوجه له هو الذي تهتف به الخلقة و تهدي إليه الفطرة الإلهيّة التي لا تبديل لها.
و ذلك أنّه ليس الدين إلّا سنّة الحياة و السبيل التي يجب على الإنسان أن يسلكها حتى يسعد في حياته، فلا غاية للإنسان يتبعها إلّا السعادة، و قد هدى كلّ نوع من أنواع الخليقة إلى السعادة التي هي بغية حياته بفطرتهو نوع خلقته، و جهّز في وجوده بما يناسب غايته من التجهيز، قال تعالى: رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى.٢ و قال: الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى ، وَ الَّذِي قَدَّرَ فَهَدى.٣
فالإنسان كسائر الأنواع المخلوقة مفطور بفطرة تهديه إلى تتميم نواقصه و رفع حوائجه و تهتف له بما ينفعه و ما يضرّه في حياته، قال تعالى:
وَ نَفْسٍ وَ ما سَوَّاها ، فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَ تَقْواها.٤
و هو مع ذلك مجهز بما يتمّ له به ما يجب له أن يقصده من العمل،
قال تعالى: ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ.۱
فللإنسان فطرة خاصّة تهديه إلى سنّة خاصّة في الحياة و سبيل معيّنة ذات غاية مشخّصة ليس له إلّا أن يسلكها خاصّة، و هو قوله: فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها.
و ليس الإنسان العائش في هذه النشأة إلّا نوعاً واحداً لا يختلف ما ينفعه و ما يضرّه بالنظر إلى هذه البُنية المؤلّفة من روح و بدن، فما للإنسان من جهة أنّه إنسان إلّا سعادة واحدة و شقاء واحد، فمن الضروريّ حينئذٍ أن يكون تجاه عمله سنّة واحدة ثابتة يهديه إليها هادٍ واحد ثابت، وليكن ذاك الهادي هو الفطرة و نوع الخلقة، و لذلك عقّب قوله: فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها بقوله: لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ.
فلو اختلفت سعادة الإنسان باختلاف أفراده لم ينعقد مجتمع واحد صالح يضمن سعادة الأفراد المجتمعين، و لو اختلفت السعادة باختلاف الأقطار التي تعيش فيها الامم المختلفة، بمعنى أن يكون الأساس الواحد للسنّة الاجتماعيّة أعني الدين هو ما يقتضيه حكم المنطقة، كان الإنسان أنواعاً مختلفة باختلاف الأقطار، و لو اختلفت السعادة باختلاف الأزمنة، بمعنى أن تكون الأعصار و القرون هي الأساس الوحيد للسنّة الدينيّة اختلفت نوعيّة كلّ قرن وجيل مع من ورثوا من آبائهم أو أخلفوا من أبنائهم و لم يسر الاجتماع الإنسانيّ سير التكامل و لم تكن الإنسانيّة متوجّهة من النقص إلى الكمال، إذ لا يتحقّق النقص و الكمال إلّا مع أمر مشترك ثابت محفوظ بينهما.
و ليس المراد بهذا إنكار أن يكون لاختلاف الأفراد أو الأمكنة أو
الأزمنة بعض التأثير في انتظام السنّة الدينيّة في الجملة، بل إثبات أنّ الأساس للسنّة الدينيّة هو البنية الإنسانيّة التي هي حقيقة واحدة ثابتة مشتركة بين الأفراد، فللإنسانيّة سنّة واحدة ثابتة بثبات أساسها الذي هو الإنسان، و هي التي تدير رحى الإنسانيّة مع ما يلحق بها من السنن الجزئيّة المختلفة باختلاف الأفراد أو الأمكنة أو الأزمنة. و هذا هو الذي يشير إلى قوله بعد: ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ، و سنزيد المقام إيضاحاً في بحث مستقلّ إن شاء الله تعالى.۱
تفسير العلّامة الطباطبائيّ لمراحل الفطرة من السنّة الدينيّة
ثمّ يقول في فصل مستقلّ تحت عنوان: كَلَامٌ في مَعْنَى كَوْنِ الدِّينِ فِطْرِيَّاً في فُصُولٍ:
۱ - إذا تأمّلنا هذه الأنواع الموجودة التي تتكوّن و تتكامل تدريجيّاً، سواء كانت ذوات حياة و شعور كأنواع الحيوان، أم ذات حياة فقط كأنواع النبات، أو ميتة غير ذي حياة كسائر الأنواع الطبيعيّة - على ما يظهر لنا وجدنا كلّ نوع منها يسير في وجوده سيراً تكوينيّاً معيّناً ذا مراحل مختلفة بعضها قبل بعض، و بعضها بعد بعض، يرد النوع في كلّ منها بعد المرور بالبعض الذي قبله و قبل الوصول إلى ما بعده، و لا يزال يستكمل بطيّ هذه المنازل حتى ينتهي إلى آخرها و هو نهاية كماله.
نجد هذه المراتب المطويّة بحركة النوع يلازم كلّ منها مقامه الخاصّ به لا يستقدم و لا يستأخر من لدن حركة النوع في وجوده إلى أن تنتهي إلى كماله، فبينها رابطة تكوينيّة يربط بها بعض المراتب ببعض بحيث لا يتجافى و لا ينتقل إلى غير مكانه، و من هنا يستنتج أنّ للنوع غاية تكوينيّة يتوجّه إليها من أوّل وجوده حتى يبلغها.
فالجوزة الواحدة مثلًا إذا استقرّت في الأرض استقراراً يهيّؤها للنموّ على اجتماع ممّا يتوقّف عليه النموّ من العلل و الشرائط، كالرطوبة و الحرارة و غيرهما، أخذ لبّها في النموّ و شقّ القشر و شرع في ازدياد من أقطار جسمه، و لم يزل يزيد و ينمو حتى يصل إلى حدّ يعود فيه شجرة قويّة خضراء مثمرة، و لا يختلف حاله في مسيره هذا التكوينيّ و هو في أوّل وجوده قاصداً قصداً تكوينيّاً إلى غايته التكوينيّة التي هي مرتبة الشجرة الكاملة المثمرة.
و كذا الواحد من نوع الحيوان، كالواحدة من الضأن مثلًا، لا نشكّ في أنّها في أوّل تكوّنها جنيناً متوجّهة إلى غايتها النوعيّة التي هي مرتبة الضأنة الكاملة التي لها خواصّها، فلا تضلّ عن سبيلها التكوينيّة الخاصّة بها إلى سبيل غيرها، و لا تنسى غايتها يوماً فتسير إلى غاية غيرها كغاية الفيلة مثلًا أو غاية شجرة الجوز مثلًا، فكلّ نوع من الأنواع التكوينيّة له مسير خاصّ في استكمال الوجود ذو مراتب خاصّة مترتّبة بعضها على بعض تنتهي إلى مرتبة هى غاية النوع ذاتاً، يطلبها طلباً تكوينيّاً بحركته التكوينيّة، و النوع في وجوده مجهّز بما هو وسيلة حركته و بلوغه إلى غايته.
و هذا التوجّه التكوينيّ لاستناده إلى الله يسمّى هداية عامّة إلهيّة، و هي كما عرفت لا تضلّ و لا تخطئ في تسيير كلّ نوع مسيره التكوينيّ و سوقه إلى غايته الوجوديّة بالاستكمال التدريجيّ، و بإعمال قوّته و أدواته التي جهّز بها لتسهيل مسيره إلى غايته. قال تعالى: رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى.۱
و قال: الذي خَلَقَ فَسَوَّى ، وَ الَّذِي قَدَّرَ فَهَدى ، وَ الَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى ، فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى.۱
٢ - نوع الإنسان غير مستثنى من كلّيّة الحكم المذكور، أعني شمول الهداية العامّة له، فنحن نعلم أنّ النطفة الإنسانيّة من حين تشرع في التكوّن متوجّهة إلى مرتبة إنسان تامّ كامل له آثاره و خواصّه، قد قطع في مسيره مراحل الجنينيّة و الطفوليّة و المراهقة و الشباب و الكهولة و الشيب.
غير أنّ الإنسان يفارق سائر الأنواع الحيوانيّة و النباتيّة و غيرها فيما نعلم في أمر، و هو أنّه لسعة حاجته التكوينيّة و كثرة نواقصه الوجودية لا يقدر على تتميم نواقصه الوجوديّة و رفع حوائجه الحيويّة وحده، بمعنى إنّ الواحد من الإنسان لا تتمّ له حياته الإنسانيّة و هو وحده، بل يحتاج إلى اجتماع منزليّ، ثمّ اجتماع مدنيّ يجتمع فيه مع غيره بالازدواج و التعاون و التعاضد، فيسعى الكلّ بجميع قواهم التي جهّزوا بها للكلّ، ثمّ يقسّم الحاصل من عملهم بين الكلّ فيذهب كلّ بنصيبه على قدر زنته الاجتماعيّة.
و هذه المدنيّة ليست بطبيعيّة للإنسان، بمعنى أن ينبعث إليه من ناحية طبيعته الإنسانيّة ابتداءً، بل له طبيعة مستخدمة لغيره لنفع نفسه ما وجد إليه سبيلًا، فهو يستخدم الامور الطبيعيّة ثمّ أقسام النبات و الحيوان في سبيل مقاصده الحيويّة، فهو باستخدام فرد مثله أو أفراد أمثاله أجراً، لكنّه يجد سائر الأفراد أمثاله في الأميال و المقاصد و في الجهازات و القوي، فيضطرّ إلى المسالمة و أن يسلّم لهم حقوقاً مثل ما يراه لنفسه.
و ينتهي هذا التضارب بين المنافع أن يشارك البعض البعض في العمل التعاونيّ، ثمّ يقسّم الحاصل من الأعمال بين الجميع و يعطي منه لكلّ
ما يستحقّه. و كيف كان فالمجتمع الإنسانيّ لا يتمّ انعقاده و لا يعمّر إلّا باصول علميّة و قوانين اجتماعيّة يحترمها الكلّ، و حافظ يحفظها من الضيعة، و يجريها في المجتمع، و عند ذلك تطيب لهم العيشة و تشرف عليهم السعادة.
أمّا الاصول العلميّة فهي معرفته إجمالًا بما عليه نشأة الوجود من الحقيقة، و ما عليه الإنسان من حيث البداية و النهاية، فإنّ المذاهب المختلفة مؤثّرة في خصوص السنن المعمول بها في المجتمعات، فالمعتقدون في الإنسان أنّه مادّيّ ليس له من الحياة إلّا الحياة المعجلّة المؤجّلة بالموت، و أن ليس في دار الوجود إلّا السبب المادّيّ الكائن الفاسد ينظّمون سنن اجتماعهم، بحيث تؤدّيهم إلى اللذائذ المحسوسة و الكمالات المادّيّة ماوراءها شيء.
و المعتقدون بصانع وراء المادّة كالوثنيّة يبنون سننهم و قوانينهم على إرضاء الآلهة ليسعدوهم في حياتهم الدنيويّة. و المعتقدون بالمبدأ و المعاد يبنون حياتهم على أساس يسعدهم في الحياة الدينويّة ثمّ في الحياة المؤبّدة التي بعد الموت، فصور الحياة الاجتماعيّة تختلف باختلاف الاصول الاعتقاديّة في حقيقة العالم و الإنسان الذي هو جزء من أجزائه.
و أمّا القوانين و السنن الاجتماعيّة فلولا وجود قوانين و سنن مشتركة يحترمها المجتمعون جميعهم أو أكثرهم و يتسلّمونها، تفرّق الجمع و انحلّ المجتمع.
و هذه السنن و القوانين قضايا كلّيّة عمليّة صورها. يجب أن يفعل كذا عند كذا أو يحرم أو يجوز، و هي أيّاً ما كانت معتبرة في العمل لغايات مُصلحة للاجتماع و المجتمع تترتّب عليها تسمّى مصالح الأعمال و مفاسدها.
٣ - قد عرفت أنّ الإنسان إنّما ينال ما قدر له من كمال و سعادة بعقد مجتمع صالح تحكم فيه سنن و قوانين صالحة تضمن بلوغه و نيله سعادته التي تليق به، و هذه السعادة أمر أو امور كماليّة تكوينيّة تلحق الإنسان الناقص الذي هو أيضاً موجود تكوينيّ فتجعله إنساناً كاملًا في نوعه تامّاً في وجوده.
فهذه السنن و القوانين - و هي قضايا عمليّة و اعتباريّة - واقعة بين نقص الإنسان و كماله متوسطة كالعبرة بين المنزلتين، و هي كما عرفت تابعة للمصالح التي هي كمال أو كمالات إنسانيّة، و هذه الكمالات امور حقيقيّة مسانخة ملائمة للنواقص التي هي مصاديق حوائج الإنسان الحقيقيّة.
فحوائج الإنسان الحقيقيّة هي التي وضعت هذه القضايا العمليّة و اعتبرت هذه النواميس الاعتباريّة، و المراد بالحوائج هي ما تطلبه النفس الإنسانيّة بأميالها و عزائمها و يصدّقه العقل الذي هو القوّة الوحيدة التي تميّز بين الخير و النافع و بين الشرّ و الضارّ دون ما تطلبه الأهواء النفسانيّة ممّا لا يصدّقه العقل، فإنه كمال حيوانيّ غير إنسانيّ.
فاصول هذه السنن و القوانين يجب أن تكون الحوائج الحقيقيّة التي هي بحسب الواقع حوائج لا بحسب تشخيص الأهواء النفسانيّة.
و قد عرفت أنّ الصنع و الإيجاد قد جهّز كلّ نوع من الأنواع - و منها الإنسان - من القوى و الأدوات بما يرتفع بفعّاليّته حوائجه و يسلك به سبيل الكمال، و منه يستنتج أنّ للجهازات التكوينيّة التي جهّز بها الإنسان اقتضاءات للقضايا العمليّة المسمّاة بالسنن و القوانين، التي بالعمل بها يستقرّ الإنسان في مقر كماله مثل السنن و القوانين الراجعة إلى التغذّي المعتبرة بما أنّ الإنسان مجهّز بجهاز التغذّي، و الراجعة إلى النكاح بما أنّ الإنسان مجهّز بجهاز التوالد و التناسل.
الفطرة، و الإسلام، و دين الله، و سبيل الله عند العلّامة الطباطبائيّ
فتبيّن أنّ من الواجب أن يتّخذ الدين - أي الاصول العلميّة و السنن و القوانين العمليّة التي تضمن باتخاذها و العمل بها سعادة الإنسان الحقيقيّة - من اقتضاءات الخلقة الإنسانيّة و ينطبق التشريع على الفطرة و التكوين، و هذا هو المراد بكون الدين فطريّاً، و هو قوله تعالى:
فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ.
٤ - قد عرفت معنى كون الدين فطريّاً، فالإسلام يسمّى دين الفطرة لما أن الفطرة الإنسانيّة تقتضيه و تهدي إليه.
و يسمّى إسلاماً، لما أنّ فيه تسليم العبد لإرادة الله سبحانه منه، و مصداق الإرادة و هي صفة الفعل - لا صفة الذات - تجمّع العلل المؤلّفة من خصوص خلقة الإنسان و ما يحتف به من مقتضيات الكون العامّ على اقتضاء الفعل أو الترك. قال تعالى: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ.۱
و يسمّى دين الله، لأنّه الذي يريده الله من عباده من فعل أو ترك، بما مرّ من معنى الإرادة.
و يسمّى سبيل الله، لما أنّه السبيل التي أرادها الله أن يسلكها الإنسان لتنتهي به إلى كماله و سعادته، قال تعالى: الذين يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَ يَبْغُونَها عِوَجاً.٢
و أمّا أنّ الدين الحقّ يجب أن يؤخذ من طريق الوحي و النبوّة و لا يكفي فيه العقل، فقد تقدّم بيانه في مباحث النبوّة و غيرها من مباحث الكتاب.٣
و يتّضح جيّداً و بشكل مفصّل ممّا أوردناه من تفسير «الميزان» أنّ مراد العلّامة قدّس الله سرّه من فطرة الإنسان هو البنية الوجوديّة - بما يشمل الجسم و الروح - و ذلك الطريق و المسير الذي يوصله إلى غاية الخلقة و هدفها من الكمال المنشود و السعادة المطلقة.
و المراد بدين الفطرة تلك القواعد و الأحكام المؤثّرة في سير الإنسان باتّجاه سعادته و كماله، و هذه القواعد و القوانين و السنن بالرغم من أنّها أصبحت معتبرة باعتبار الشارع المقدّس، لكنّها كانت قائمة على أساس منطق العقل و وصول الإنسان إلى درجة الإنسانيّة، لا على أساس منطق الحسّ و الشهوة الذي يهبط به إلى مرتبة الحيوانيّة و البهيميّة.
إنّ السعادة للإنسان أمر حقيقيّ، و هذه السنن الفطريّة التي هي امور اعتباريّة، توجب حركته و سيره إلى مقام الكمال الحقيقيّ، فإذا ما انحرفت تلك السنن أحياناً في اعتبارها، فإنّ تلك السعادة الحقيقيّة و الكمال المنشود لن يكونا من نصيبه.
و مع أنّ أحكام الشرع و قوانينه التي وضعت على أساس الفطرة هي أحكام اعتباريّة وضعها منوط باعتبار الشارع، لكنّه اعتبار لا يتخطّى قيد شعرة مكانه الواقعيّ و الحقيقيّ، و قد استمدّ اعتباره هذا على أساس الاحتياجات التكوينيّة للإنسان و إيصاله إلى أعلى درجات الكمال الحقيقيّ و الوجوديّ، فلا معنى - على هذا - لأن يكون أمر ما حلالًا في شريعة معيّنة و حراماً في اخرى.
فالزواج و النكاح مثلًا هو أمر فطريّ أمضاه الشرع و أقرّه، و انسجم التشريع فيه مع التكوين.
اللواط مخالف لفطرة الإنسان و محرّم في جميع الشرائع
في حين أنّ العلاقة الجنسيّة بين الجنس الواحدأمر غير فطريّ، حرّمه الشرع و عين له العقوبة الصارمة، و نجد أنّ أمر التشريع - و هو الحرمة - قد انطبق على التكوين و هو المنع:
وَ لُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَ تَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ ، إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ.۱
وَ لُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ ، أَ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ وَ تَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَ تَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ.٢
وَ لُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَ تَأْتُونَ الْفاحِشَةَ وَ أَنْتُمْ تُبْصِرُونَ ، أَ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ.٣
فاللواط - و هو العلاقة الجنسيّة بين جنس الرجال - يوجب قطع سبيل الزواج، و المقت، و العدوان و الإسراف، لذا فقد عُدّ ممنوعاً و حراماً و قبيحاً في هذه الآيات، و لا اختصاص لهذا الأمر بشريعة دون اخرى، لأنّه مخالف لمسيرة التكوين و لمصالح الفرد و المجتمع، و مخالف للسنّة الإنسانيّة و القانون الفطريّ و الإلهيّ، لذا فقد اعتبر الشارع المقدّس حرمته بشكل عامّ و مطلق في كلّ مكان و زمان و في كلّ شريعة.
و هذا العمل هو من القباحة للحدّ الذي تمتنع منه الحيوانات، إذ لا يُشاهد مثيله في أحد منها، حتى القرد يهرب منه و يشمئزّ و ينفر، و ينبغي هنا ملاحظة درجة و مرتبة قبح و وقاحة لوردات مجلس الأعيان الإنجليزيّ - الذين يعتقد رئيسهم حسب نظريّة داروين أنّه من نسل القرد - في إعلانهم إباحة فعل قوم لوط الشنيع هذا بحيث لم يُعهد عن الأقوام التي
سبقت قوم لوط أن دنّسوا أنفسهم به؛ هذا المجلس الذي يفضّل الآراء المرفوضة لبرتراند راسل الذي سقط من المسيحيّة إلى حضيض الإلحاد، و آراء فرويد إليه وديّ على تعاليم السيّد المسيح على نبينا و آله و عليه السلام، فيصدر مصادقته على قانونه، ثمّ ينهمكون بارتكابه في مجالسهم و محافلهم المنكرة. قبحهم الله و ما عملوا و ما استنوا و لا يزال بنيانهم الذي بنوا قاطعا لنسلهم إن شاء الله تعالى.
يمنع في سنّة التكوين و الفطرة أي اتّصال جنسيّ بغير الزواج
إنّ فطرة الإنسان تستدعي زواج الرجل و المرأة اللذين ينجذبان إلى بعضهما وفق السنّة الإلهيّة المودعة في وجودهما، كما ينجذب قطبا الكهربائيّة الموجب و السالب أو مركزا الفعل و الانفعال لبعضهما، فتنعقد بالشرارة الإلهيّة النطفة في الرحم، و ينشأ منها إنسان هو خليفة الله فيطأ بقدمه ساحة الوجود الرحيبة.
فقولوا بربّكم وفق أيّة سنّة، و على أساس أيّة خاصّيّة يتمّ جماع الرجال للرجال، أو النساء للنساء؟ غير أن يشبها اجتماع قطبين موجبين أو قطبين سالبين، أو اجتماع نوعين للفاعليّة المحضة أو نوعين للقابليّة المحضة؟
و أي شيء سيوجب غير البُعد و الابتعاد عن بعضهما، و غير تسبيب النفور و الضجر و الملل و المفاسد و الأضرار الجانبيّة التي لا تعدّ و لا تحصى؟
و قد قال آية الله العلّامة الطباطبائيّ قدّس الله نفسه في المقالة السادسة من «اصول الفلسفة» تحت عنوان «الفطرة الإنسانيّة حكم يتكوّن بإلهام الطبيعة»:
٤ - إنّ حرّيّة الإنسان باعتبارها موهبة طبيعيّة هي في حدود هداية الطبيعة، و بالطبع فإنّ هداية الطبيعة مرتبطة بالتجهيزات التي تمتلكها البُنية
النوعيّة. و على هذا فإنّ هداية الطبيعة (الأحكام الفطريّة) ستحدّد بالأعمال التي تنسجم مع أشكال و تركيبات التجهيزات البدنيّة.
فنحن لا نجيز مثلًا أيّة رغبات جنسيّة تتمّ بغير طريق الزواج (سواء كانت بين رجل و رجل - امرأة و امرأة - رجل و امرأة من غير طريق الزواج - إنسان مع غير الإنسان - إنسان مع نفسه - تناسل من طريق غير طريق الزواج) و لن نشجّع التربية الاشتراكيّة للأطفال، و إلغاء النسب و الوراثة، و إبطال الاصول و الأعراق و غير ذلك، لأنّ البنية المرتبطة بالزواج و التربية تتعارض مع هذه المسائل.۱
عدم دلالة فَأتُوا حَرْثَكُمْ أنَّى شِئْتُمْ على وطء النساء من غير الفرج
و يتّضح من هذا البيان مدى الخطأ الفاحش الذي ارتكبه مَنْ عدّ الوطء مباحاً، كما فعل أتباع المالكيّة تبعاً لرأي إمامهم مالك بن أنس، و كيف انغمروا في ورطة مهلكة لمخالفتهم سنّة التكوين و الفطرة من جهة، و حكم الكتاب و الشريعة من جهة اخرى.
و قد نقل أحد الأحبّة و الأعزّة من العلماء الأعلام - لا يزال فعلًا على قيد الحياة - أنّه تباحث في المدينة المنوّرة مع بعض مشايخ المالكيّة بشأن هذا الموضوع (أي وطء الغلام) فاحتجّ بأنّ للآية الشريفة: وَ الَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ ، إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ٢ دلالة عليه.
فقلت: إنّ الغلام خارج عن مدلول هذه الآية بالإجماع.
أجاب: الإجماع لكم، أمّا نحن فلا إجماع عندنا! - انتهت مقولته.
أقول: إن قيل. إنّ أزواج جمع زوج بمعنى القرين، فهو يشمل كِلا الزوج و الزوجة؛ فإن تمسّكنا - على هذا - بإطلاق أوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ، فسوف لا يكون ثمّة إشكال في و طء النساء من قبل الغلمان الذين في ملك يمينهنّ؛ و لأنّ هذا الأمر يخالفُ بشكلٍ مسلّم عقائد الجميع - حتى المالكيّة - فإنّنا نقول. إنّ وطء الرجال للغلمان خارج بنفسه من الإطلاق بهذه الكيفيّة.
و نقول إنّ آية قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ، و آية إِلَّا الْمُصَلِّينَ تختصّ من جهة العبارة و الخطاب بالرجال، مع أنّها تشمل من جهة الملاك الرجل و المرأة.
لذا فإنّ هذه الجملة الاستئنافيّة إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ استثناء خاصّ بالرجال لا بالنساء.
و يمكن لهذا أن تقول المالكيّة إنّ استثناء ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ في هذه الآية المتعلّقة بالرجال استثناء مطلق يشمل الجارية و الغلام. و أمّا في الإجماع المنعقد على تساوي النساء و الرجال في الأحكام و في الخطابات فإنّ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ جارية أو غلاماً ليس خارجاً من الاستثناء بشكل مطلق، و حرام على المرأة المجامعة مع ما ملك يمينها من جوار أو غلمان،
و فقط إلَّا عَلَى أزْوَاجِهِمْ باقية بشأن النساء على عموميّتها، فوطء النساء من قبل أزواجهنّ حلال.
لذا فإنّ ما قلناه من التمسّك بالإجماع على حرمة وطء الغلام و تخصيص آية ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ لذلك لا يكفي لردّ المالكيّة الذين يرفضون الإجماع. و هناك في ردّهم الآيات التي ذكرناها بشأن قوم لوط، و التي تعلن بأعلى نداء و بيان بأنّ جماع الرجل للرجل فاحشة و منكر بشكل مطلق، سواء كان الغلام غلامه هو أم غلام غيره. إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ... وَ تَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ.
و سينفي عنوان المنكر و الفاحشة مع النهي الشديد و المنع الأكيد من هذا العمل أي مجال لشبهة و إشكال في حرمة وطء الغلام.
و يتّضح من هذا البيان أنّ مجامعة الرجال للنساء من غير طريق النكاح المعهود هو الآخر عمل قبيح جدّاً، أي أنّ جماعهنّ في الدبر لا في القبل، و هو المحلّ المعهود للنكاح و طريق التناسل و التكاثر، محلّ إشكال، و فقهاؤنا ما بين قائل بالحرمة أو قائل بالكراهة الشديدة الأكيدة المغلّظة التي تلي الحرمة و تقاربها في ميزانها و درجتها.
و قد ورد في رواية عن رسول الله صلى الله عليه و آله و سلّم أنّه قال: مَحَاشُّ النِّسَاءِ عَلَى امَّتِي حَرَامٌ۱.
...۱
و قد أرود السيوطيّ و ابن كثير في تفسيريهما أنّ أحمد بن حنبل، و عبد بن حميد، و الترمذيّ، و النسائيّ، و أبا يعلي، و ابن جرير، و ابن المنذر، و ابن أبي حاتم، و ابن حبّان، و الطبرانيّ، و الخرائطيّ في «مساوئ الأخلاق»، و البيهقيّ في «السنن»، و الضياء في «المختارة»، رووا عن ابن عبّاس أنّه قال:
جَاءَ عُمَرُ إلى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ [وَ آلِهِ] وَ سَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ؛ هَلَكْتُ!
قال: وَ مَا أهْلَكَكَ؟! قال: حَوَّلْتُ رَحْلِي اللَّيْلَةَ! فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ شَيْئاً، فَاوحَى اللهُ إلى رَسُولِهِ هذِهِ الآية: «نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ».۱
يقول: أقْبِلْ وَ أدْبِرْ وَ اتَّقِ الدُّبُرَ وَ الحَيْضَةَ.٢
و رووا كذلك عن أحمد بن حنبل، عن ابن عبّاس أنّ جماعة من الأنصار أتوا النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم فسألوه فنزلت هذه الآية:
نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فقال رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم: إئْتِهَا عَلَى
كُلِّ حَالٍ إذَا كَانَ في الفَرْجِ.۱
و بغضّ النظر عن الشرع و الشريعة، فإنّ مضار جماع النساء في الدبر قد ثبت في الطبّ أيضاً.٢
يقول الميرزا محمّد حكيم (ملك الأطبّاء). و من بين أنواع الجماع الذي ينبغي الاحتراز عنه اللواط بالنساء، فقد وجد بالتجربة أنّ أولاد شخص كهذا سيبتلون بالعلّة المعروفة،٣ و هناك جملة من الحكايات و الأخبار الطبّيّة في هذا الباب، ذكرها في هذه الرسالة مستوجب للإطالة.٤
و بغضّ النظر عن هذا كلّه، فإنّ مسائل العلاقات الجنسيّة بين الجنس الواحد، و شيوع هذا الفعل الشنيع اليوم في بلاد اوروبّا و أمريكا المتقدّمة قد أوجد الأمراض المهلكة للحدّ الذي سبب هستيريا أولياء أمُورهم؛ و ينبغي حقّاً تسمية هؤلاء بوحوش العالم، و تسمية تلك البقاع ببِركة السِّباع أو حديقة الحيوانات.
فعدا أمراض السفلس و السيلان و أشباههما، فإنّ مرض الإيدز قد خيم على الجميع كالغيوم السوداء المهولة و كالغول المهيب المفزع، و أنذر
الجميع بالموت المحتّم.
هذا الميكروب الخطر الذي لم يستطيعوا حتى الآن اكتشاف مصل مضادّ له لتطعيم الناس به، يبدأ فعّاليّته حال دخوله البدن، و تعجز كريّات الدم البيضاء عن مقاومته، لذا فهو يضعها على حافّة الموت و الهلاك خلال مدّة و جيزة.
و طبقاً لإحصائيّة أحد التقارير، فإنّ من كلّ ٩٥% حالة المرض الإيدز وجدت في مجاميع ستّ، فإنّ ٢/ ۷٢% منها كانت خاصّة بالرجال الذين لهم علاقات جنسيّة مع نفس جنسهم أو مع الجنسين كليهما نجمت من اللواط أو لعقد علاقات جنسيّة مع أزواج متعدّدة. و كانت المجاميع الخمس الباقية المسبّبة عن الاعتياد و نقل الدم و أمثالها ترجع أيضاً إلى خصوص مسألة اللواط.۱
فها هي مردودات البناء الشامخ للمدنيّة و الثقافة الجديدة و صرحها المشيد، فقد أعادت هؤلاء المساكين إلى مستوى أوطأ من قوم لوط و مرّغتهم في الرذيلة و الدناءة.
الغيرة على العرض و المحافظة على النساء و الحجاب من الأحكام
و مع أنّ الزنا ليس كاللواط في مجانبة سبيل البذر و التناسل - و لهذا السبب فإنّ عقوبته أخفّ من حدّ اللواط - لكنّه مع ذلك يمتلك قبحاً فطريّاً بلحاظ حفظ النسب و الأوّلاد، و تبعاً للغيرة التي وهبها الله للرجال على عرضهم و ناموسهم. و قد حُرّم الزنا في جميع الشرائع، بل إنّه كان بين الأقوام الهمجيّين و الصحراويّين قبل التشريع، بل و يعتبر من الامور الشنيعة و القبيحة حتى عند المادّيّين و الطبيعيّين من منكري الخالق
و منكري الوحي و النبوّة و الشرائع.
وَ لا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَ ساءَ سَبِيلًا.۱
و كان قبح هذا العمل إلى الحدّ الذي قرنه الباري في قرآنه بقتل النفس المحترمة. وَ لا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَ لا يَزْنُونَ.٢
و جُعل رديفاً للشرك بالله و السرقة التي كان رسول الله يبايع النساء أواخر زمان الهجرة بشرط اجتنابها، فيقبل منهنّ إسلامهنّ بهذه الشروط:
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَ لا يَسْرِقْنَ وَ لا يَزْنِينَ وَ لا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَ لا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَ أَرْجُلِهِنَّ وَ لا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبايِعْهُنَّ وَ اسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ.٣
كذلك فإنّ قبح هذا العمل و وقاحته كانت للحدّ الذي عُبر عنه في كثير من الآيات القرآنيّة بالفاحشة و الفحشاء، فيقول بشأن يوسف النبيّ الذي آثر السجن على الزنا مع زُلَيخا امرأة عزيز مصر: كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَ الْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ.٤
وَ اللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ.٥
وَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَ اللَّهُ أَمَرَنا بِها قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ.٦
و نلحظ هنا أنّ مشركي العرب كانوا ينسبون الأمر بالزنا إلى الله سبحانه، و ربّما كان معناه إرادة السنّة التكوينيّة، حيث ردّ الباري قولهم، و بيّن أن ليس هناك من عمل قبيح و فاحشة و زنا يصبح عملًا فطريّاً و سنّة إلهيّة.
إنّ شعور الغيرة على الانثى و حفظها و صونها من عبث العابثين و عن مسّ أيادي السوء أمر ملحوظ و مشاهد في كثير من الحيوانات التي يصل بها الأمر إلى إيثار الموت و التضحية بالروح حفظاً للناموس.
فالديك مثلًا له عشق و علاقة حميمة بانثاه، فهو يقاتل و يُقتل من أجل منع تعدّي ديك آخر على بيته و حرمه، في حين يمتاز الخنزير من بين الوحوش بفقدانه الغيرة على انثاه، فيُقال إنّه إن شاء مجامعة انثاه فإنّه يصوّت بصوته فيدعو باقي الخنازير إليه ا، حتى يجامعها قبله سبع مرّات خنازير آخرون، ثمّ يشرع بنفسه في مجامعتها.
و لذا فقد حُرّم لحم الخنزير، إذ إنّ الآثار النفسيّة و الروحيّة للخنزير تنتقل بتناول لحمه إلى الشخص الآكل، و هكذا فإنّ أحد الأسباب المهمّة لفقدان الاوروبّيّين و الأمريكان للغيرة هو تناولهم لحوم الخنازير، حيث تنتقل هذه الروحيّة مع انتقال خلايا بدن الخنزير إلى أبدانهم، فيبدأ مفعولها بالظهور آنيّاً، ثمّ يصبح إثر التكرار و المداومة على الأكل ملكةً عندهم تستأصل الغيرة و الحميّة من نفوسهم.
لكنّ الرجال المسلمين و المؤمنين يصونون نساءهم في ستر الحجاب تبعاً لتعاليم القرآن، كي لا تلحظها نظرات الخيانة و التطفّل، و لئلّا تتناثر أزهار حياتهنّ و عفّتهنّ و عصمتهنّ و تقواهنّ أو تتلاشي في مهبّ عواصف الشهوات.
و قد أجاد الشاعر الوافي العراقيّ في شعره العفيف عند وصف فوائد
غيرة الرجال و حجاب النساء:
معنى ناموس چيست؟ روي نهان داشتن | *** | پردة عفّت زدن، عالَم جان داشتن |
عصمت و ناموس ما، به مسلك هوشمند | *** | گنج بود گنج را به كه نهان داشتن |
أي كه تو را آرزوست به كشف ناموس خويش | *** | پرده دري نارواست، پردگيان داشتن |
مگر كمي از وحوش، نگر به سوي طيور | *** | پند بگير از خروس ز ماكيان داشتن |
حافظ شيرين لبان، مقنعة عصمت است | *** | تلخ بود بي نقاب، روي زنان داشتن |
قصة ناموس و غير، چه برق با خرمن است | *** | خرمن خود را مخواه برقِ يَمان داشتن۱ |
تا نگماري نظر، دل نكند آرزو | *** | گرسنه چشمي دهد، ديده به نان داشتن |
آينة بي حجاب، به طبع گيرد غبار | *** | خوش بود آئينه را پرده بر آن داشتن |
منع تماشاچيان، گر نكند باغبان | *** | مي نتواند به باغ نخل روان داشتن |
گر بگشائي دري ز خانه بر مفلسان | *** | دگر مدار اين اميد، به خانه خوان داشتن |
غنچه به باغ ايمن است تا بود اندر حجاب | *** | آفت جان و دل است چهره عيان داشتن |
مرد و زن اجنبي، چه آتش و پنبه است | *** | جمع به يكجا دو ضدّ، نميتوان داشتن |
كشف حجاب زنان، باري باشد گران | *** | دور ز غيرت بود، بار گران داشتن۱ |
كمانِ ابرو متاب، خدنگ مژگان بپوش | *** | نيست به دوران شاه، تير و كمان داشتن |
وافي اگر گشته پير، طبعي دارد جوان | *** | خوش است پيرانه سر، طبع جوان داشتن۱ |
أمّا السادة الذين يعتبرون أنفسهم من نسل القرود، فقد أرخوا لجام الشهوات، و سخروا بالنكاح المشروع، و سعوا إلى إيجاد العلاقات الجنسيّة مع كلّ رجل و امرأة، لكنّهم جهلوا أنّ هذه الحيوان البريء (القرد) من أهل الغيرة و له سُنّة زواج و حسّ غيرة في حفظ انثاه و حراستها، لذا ينبغي اعتبارهم أكثر وضاعة و رذالة من القرد، فالقرد البريء يأنف أن يُنسب إليه أراذل كهؤلاء أنفسهم، فهم الذين تصدق عليهم حقّاً الآية الكريمة:
أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ.٢
يقول الدميريّ في «حياة الحيوان»: وَ يَأخُذُ نَفْسَهُ بِالزَّوَاجِ وَ الغَيْرَةِ عَلَى الإنَاثِ.٣
شرب الخمر يخالف حكم الفطرة و العقل المستقلّ و الشرع القويم
كما أنّ استعمال الخمر و المسكر رجس أيضاً و من عمل الشيطان، فكيف يمكن أن يكون حلالًا في شريعة ما و حراماً في اخرى؟!
أيمكن إباحة المسكرات التي تزيل العقل فتجعل الإنسان في صفّ المجانين؟!
إنّ الناس يفضّلون الابتلاء بأشدّ الأمراض كالسلّ و السرطان و البرص و الجذام و العمى و الشلل على الإصابة بالجنون، فإنسانيّة الإنسان بعقله لا بشيء آخر، و الإنسان بلا عقل أسفل و أرذل من جميع الحيوانات و الوحوش.
كما أنّ تأثير المسكر على الإنسان هو سوقه إيّاه للجنون، فما الفرق بين الجنون الدائميّ و الجنون المؤقّت؟
أفيمكن في هذه الحالة اعتبار المسكر خارجاً عن شروط الحلّيّة و الحرمة؟ أو الحكم بحلّيّته؟
لقد قلنا إنّ الأحكام الفطريّة هي الأحكام التي تعدّ واسطة لنيل الكمال، و سير الإنسان إلى أعلى درجات الإنسانيّة؛ أفشرب الخمر له ميزة كهذه؟ أو هل يسير السكّير دوماً في طريق مدارج و معارج الكمال؟
أ وَ يطوي الطريق المطلوب للكمال رجل مخمور لا يفرّق بين زوجته و اخته و امّه، فيشاركهنّ فراشه؟
أ وَ يُعدّ الرجل المخمور الذي يقذف طفله حال غضبه من الشرفة إلى ساحة المنزل إنساناً؟
أيعدّ إنساناً الرجل السكران الذي تكتنفه الخيالات المشوّهة و المموّهة، فيتخبّط في عالم الأوهام و الخيالات، بحيث يتصوّر قلم الكتابة نخلة عالية، و ساقية الماء بحراً يباباً؟
كلّا بالطبع، فشرب الخمر من أسوأ المسائل المعاكسة للفطرة و السنّة الآدميّة، فهو يهوي بالإنسان و يحرمه من جميع المزايا و الحظوظ.
أيعقل أنّ السيّد المسيح على نبينا و آله و عليه الصلاة و السلام قد قام
بتحليل هذه المادّة الخبيثة و هذا الشيطان الرجيم؟
إنّ أغلب المسيحيّين بما فيهم الكاثوليك و البروتستانت يحتسون الخمر و يعتبرونها دم عيسي! فيا للعجب! كم يحتوي بدن السيّد المسيح من الدم بحيث ينقضي على صعوده إلى السماء بما يقرب من ألفي سنة و لا زال نصارى العالم يحتسون من دمه فلا ينفد و لا ينضب؟!
كلّا و حاشا، فلا السيّد المسيح شرب الخمر، و لا امّه المصطفاة، و لا حُلّلت الخمر في كتاب الإنجيل السماويّ، و لا أجاز المسيح لحوارييه شربها يوماً.
لقد أبطل المرمنيّون - و هم أمريكيّو الأصل من غير المهاجرين و المقيمين هناك؛ و الساكنون في ولاية أتازونا - أساس الكاثوليك و البروتستانت، و قالوا بحرمة الخمر و شربها، و عدّوا من الخطأ نسبة السيّد المسيح إلى شرب الخمر، فقد كان يشرب عصير العنب، فأساءوا بعد ذلك الاستفادة من هذا العمل فنسبوا إليه شرب الخمر.
تشير الآيات القرآنيّة بصراحة و بألفاظ و عبارات واضحة إلى أنّ شرب الخمر من الخبائث، و أنّها رجس من عمل إبليس و تلبيسه على الناس، أشاعها بينهم لإيقاع العداوة و البغضاء بينهم، و لصدّهم عن ذكر الله و الصلاة و التضرّع لمقام عزّه و قطع طريق العبوديّة للخالق.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ وَ الْأَنْصابُ وَ الْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ، إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَ الْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ وَ يَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَ عَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ ، وَ أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ احْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ.۱
أكل الربا من المصاديق الواضحة للأحكام المخالفة للفطرة
و يعدّ الربا من المصاديق و الأحكام المعاكسة للفطرة بشكل واضح و بيّن، و يتضمّن معناه الاستفادة المجّانيّة و بلا عوض من جهود الناس و أتعابهم، فهو في الحقيقة يمثّل استخدام الشخص المظلوم و تسخيره لخدمة الشخص الظالم المتجاوز، فالشخص المرابي يأخذ فائدة مقابل لا شيء، إذ عند استرداده القرض الذي أقرضه، فما معنى أخذه الزيادة عليه؟! خلافاً للبيع و الشراء اللذين يمثّلان حصول منفعة أزاء عمل معيّن، و في الحقيقة فإنّهما يمثّلان حصول منفعة مقابل صرف عمر بذله البائع في تهيئة الأجناس المعيّنة و عرضها.
و نلحظ لهذا أنّ الشخص المشتري لا يحسّ بالقلق و الضجر بالفطرة و الوجدان حين يشتري شيئاً مع علمه بأنّ البائع ينتفع ببيعه منه، على العكس من الشخص المستقرض الذي يحسّ بالضجر و الملل و القلق تجاه الزيادة التي يتقاضاها منه المقرض، فلكأنّما قرعته قارعة أو ألمّ به خطب، فمهما كانت الزيادة طفيفة و تافهة - و هذا لا يحصل إلّا بإحساس الشخص المقترض عند سداده للزيادة بإجباره على ذلك و قهره عليه - لا فرق في هذا الأمر بأ يّ مذهب و نظام تمّ؛ و هو معنى كون جميع أقسام الربا و تصريف النقود و فوائد البنوك أمراً غير فطريّ، بل معاكساً للفطرة، و لو كانت الفائدة المستحصلة في أدنى مراتبها.
لقد حوّل مرابو العالم و البنوك الدنيا إلى سوق للاستثمار و الاستعمار و الاستهلاك و الاستعباد، و هو أقسى و أشدّ ألف مرّة ممّا كان يحصل في زمن الرقّ و العبوديّة و شراء و بيع الغلمان و الجواري، فذاك كان يحصل لفئة و طبقة خاصّة و في موارد معيّنة محدودة، و هذا يمثّل ابتلاع جميع العالم و جهود الشيخ و الشابّ و الرجل و المرأة و الآمر و المأمور و الرئيس و المرؤوس و صاحب العمل و الموظّف بلقمة واحدة.
و قد وردت حرمة الربا في القرآن الكريم بشكل أكيد و مشدّد، و بعبارات حادّة و تمثيلات و تشبيهات عجيبة:
الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَ أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَ حَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ وَ أَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَ مَنْ عادَ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ ، يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَ يُرْبِي الصَّدَقاتِ وَ اللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ ، إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَ أَقامُوا الصَّلاةَ وَ آتَوُا الزَّكاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ ، يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَ ذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ، فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ إِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَ لا تُظْلَمُونَ ، وَ إِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ وَ أَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ، وَ اتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ.۱
و للعلّامة آية الله الطباطبائيّ قدّس الله سرّه بحوث نفيسة و قيّمة بشأن هذه الآيات نشير هنا إلى بعضها:
لقد شدّد الله سبحانه في هذه الآيات في أمر الربا بما لم يشدّد بمثله في شيء من فروع الدين إلّا في تولّي أعداء الدين، فإنّ التشديد فيه يضاهي تشديد الربا، و أمّا سائر الكبائر فإنّ القرآن و إن أعلن مخالفتها و شدّد القول فيها، فإنّ لحن القول في تحريمها دون ما في هذين الأمرين، حتى الزنا و شرب الخمر و القمار و الظلم و ما هو أعظم منها كقتل النفس التي حرّم الله
و الفساد، فجميع ذلك دون الربا و تولّي أعداء الدين.
و ليس ذلك إلّا لأنّ تلك المعاصي لا تتعدّى الفرد أو الأفراد في بسط آثارها المشؤومة، و لا تسري إلّا إلى بعض جهات النفوس، و لا تحكم إلّا في الأعمال و الأفعال بخلاف هاتين المعصيتينِ فإنّ لهما من سوء التأثير ما ينهدم به بنيان الدين و يعفي أثره، و يفسد به نظام حياة النوع، و يضرب الستر على الفطرة الإنسانيّة و يسقط حكمها فيصير نسياً منسيّاً على ما سيتّضح إن شاء الله العزيز بعض الاتّضاح.
و قد صدّق جريان التأريخ كتاب الله فيما كان يشدّد في أمرهما، حيث أهبطت المداهنة و التولّي و التحابّ و التماؤل إلى أعداء الدين الامم الإسلاميّة في مهبط من الهلكة صاروا فيها نهباً منهوباً لغيرهم. لا يملكون مالًا و لا عرضاً و لا نفساً، و لا يستحقّون موتاً و لا حياةً، فلا يؤذن لهم فيموتوا، و لا يغمض عنهم فيستفيدوا من موهبة الحياة، و هجرهم الدين، و ارتحلت عنهم عامّة الفضائل.
و حيث ساق أكل الربا إلى ادّخار الكنوز و تراكم الثروة و السؤدد فجرّ ذلك إلى الحروب العالميّة العامّة، و انقسام الناس إلى قسمَي المثرى السعيد و المعدم الشقيّ، و بان البين، فكان بلوى يدكدك الجبال، و يزلزل الأرض، و يهدّد الإنسانيّة بالانهدام، و الدنيا بالخراب، ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى.۱ و سيظهر لك إن شاء الله تعالى أنّ ما ذكره الله تعالى من أمر الربا و تولّى أعداء الدين من ملاحم القرآن الكريم.٢
لطائف الآيات الواردة في حرمة الربا في نظر العلّامة الطباطبائيّ
و اعلم أنّ أمر الآية عجيب، فإنّ قوله تعالى: فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ وَ أَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَ مَنْ عادَ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ.
مع ما يشتمل عليه من التسهيل و التشديد حكم غير خاصّ بالربا، بل عامّ يشمل جميع الكبائر الموبقة، و القوم قد قصروا في البحث عن معناها، حيث اقتصروا بالبحث عن مورد الربا خاصّة من حيث العفو عمّا سلف منه، و رجوع الأمر إلى الله فيمن انتهى، و خلود العذاب لمن عاد إليه بعد مجيء الموعظة، هذا كلّه مع ما تراه من العموم في الآية.
إذا علمتَ هذا ظهر لك أنّ قوله: فَلَهُ ما سَلَفَ وَ أَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ لا يفيد إلّا معنى مبهماً يتعين بتعين المعصية التي جاء فيها الموعظة و يختلف باختلافها، فالمعنى. أنّ من انتهى عن موعظة جاءته، فالذي تقدّم منه من المعصية، سواء كان في حقوق الله أم في حقوق الناس فإنّه لا يؤاخذ بعينها، لكنّه لا يوجب تخلّصه من تبعاته أيضاً كما تخلّص من أصله من حيث صدوره، بل أمره فيه إلى الله، إن شاء وضع فيها تبعة كقضاء الصلاة الفائتة و الصوم المنقوض و موارد الحدود و التعزيرات و ردّ المال المحفوظ المأخوذ غصباً أو رباً و غير ذلك مع العفو عن أصل الجرائم بالتوبة و الانتهاء، و إن شاء عفى عن الذنب و لم يضع عليه تبعة بعد التوبة، كالمشرك إذا تاب عن شركه و من عصى بنحو شرب الخمر و اللهو فيما بينه و بين الله و نحو ذلك. فإنّ قوله: فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى مطلق يشمل الكافرين و المؤمنين في أوّل التشريع و غيرهم من التابعين و أهل الأعصار اللاحقة.۱
و من هنا يظهر أنّ المراد من مجيء الموعظة بلوغ الحكم الذي شرّعه الله تعالى، و من الانتهاء التوبة و ترك الفعل المنهي عنه انتهاءً عن نهيه تعالى، و من كون ما سلف لهم عدم انعطاف الحكم و شموله لما قبل زمان بلوغه، و من قوله: فَلَهُ ما سَلَفَ وَ أَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ أنّه لا يتحتّم عليهم العذاب الخالد الذي يدلّ عليه قوله: وَ مَنْ عادَ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ، فهم منتفعون فيما أسلفوا بالتخلّص من هذه المهلكة، و يبقى عليهم أنّ أمرهم إلى الله فربّما أطلقهم في بعض الأحكام، و ربّما وضع عليهم ما يتدارك به ما فوّتوه.۱
يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَ يُرْبِي الصَّدَقاتِ: المحق نقصان الشيء حالًا بعد حال، و وقوعه في طريق الفناء و الزوال تدريجاً؛ و الإرباء الإنماء، و الأثيم الحامل للإثم، و قد مرّ معنى الإثم.
و قد قوبل في الآية بين إرباء الصدقات و محق الربا، و قد تقدّم أن إرباء الصدقات و إنماءها لا يختصّ بالآخرة، بل هي خاصّة لها عامّة تشمل الدنيا كما تشمل الآخرة، فمحق الربا أيضاً كذلك لا محالة.٢
قوله تعالى: وَ اللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ: تعليل لمحق الربا بوجه كلّيّ، و المعنى أنّ آكل الربا كثير الكفر لكفره بنعم كثيرة من نعم الله لستره على الطرق الفطريّة في الحياة الإنسانيّة، و هي طرق المعاملات الفطريّة، و كفره بأحكام كثيرة في العبادات و المعاملات المشروعة، فإنّه بصرف مال الربا في مأكله و مشربه و ملبسه و مسكنه يبطل كثيراً من عباداته بفقدان شرائط مأخوذة فيها، و باستعماله فيما بيده من المال الربويّ يبطل كثيراً من معاملاته، و يضمن غيره، و يغصب مال غيره في موارد كثيرة، و باستعمال
الطمع و الحرص في أموال الناس و الخشونة و القسوة في استيفاء ما يعدّه لنفسه حقّاً يفسد كثيراً من اصول الأخلاق و الفضائل و فروعها، و هو أثيم مستقرّ في نفسه الإثم فالله سبحانه لا يحبه لأنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أثِيمٍ.۱
قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَ ذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ؛ خطاب للمؤمنين و أمر لهم بتقوى الله و هو توطئة لما يتعقّبه من الأمر بقوله وَ ذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا، و هو يدلّ على أنّه كان من المؤمنين في عهد نزول الآيات مَنْ يأخذ الربا و له بقايا منه في ذمّة الناس من الربا فامِرَ بتركها، و هُدّد في ذلك بما سيأتي من قوله: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَ رَسُولِهِ.٢
و قوله: وَ إِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ وَ أَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ.
و مع أنّ الآية مطلقة غير مقيّدة، لكنّها منطبقة على مورد الربا، فإنهم (أي أعراب الجاهليّة) كانوا إذا حلّ أجل الدَّين يطالبونه من المدين فيقول المدين لغريمه: زد في أجلي كذا مدّة أزيدك في الثمن بنسبة كذا، و الآية تنهى عن هذه الزيادة الربويّة و تأمر بالإنظار.٣
كان هذا بحثنا عن الفطرة و أحكام الفطرة و انطباق الأحكام الشرعيّة و السنن الإلهيّة و منهاج الشرائع و سيرة الأنبياء عليها؛ و علمنا أنّ الفطرة هي المسار التكويني لكلّ فرد من أفراد الإنسان (الذي هو موجود حقيقيّ واقعيّ) إلى كماله المنشود الذي هو الآخر أمر حقيقيّ، و أنّ الأحكام التي وُضعت لإيصال الإنسان إلى هذا الكمال تدعى بالأحكام الفطريّة، و أنّ هذه
الأحكام عبارة عن المسائل التي جُعلت من قبل الخالق العليم الحكيم و الخبير بالبنية الوجوديّة و المسير التكامليّ و الهدف الغائيّ للإنسان؛ و معنى الجعل الإلهيّ هو الاعتبار الإلهيّ.
فهذه الامور الاعتباريّة هي الواسطة بين مبدأ الإنسان و بين كماله و غايته. فالعبد الخاضع للّه يمكنه بإعمال هذه الأحكام و الأوامر و تطبيقها إيصال نفسه إلى أعلى ذروة الكمال و إلى أوج الإنسانيّة.
فهذه الأحكام التي تمّ اعتبارها بإرادة الله و نظره فاقت في إحكامها و متانتها كلّ أمر آخر، و كانت أكثر توفيقاً و نجاحاً في إيصال الإنسان إلى الهدف الأصليّ للخلقة، لأنّها تنطبق مع حكم العقل و حكم الشهود و الوجدان. و معنى الاعتبار أنّ المُعْتَبِر - و هو الله سبحانه - قد قرّرها و عيّنها بلحاظ الهيكل البنيويّ و القوى المادّيّة و الطبيعيّة، و برعاية الامور النفسيّة و الروحيّة للإنسان، بعيداً عن ذرّة من الحقد و الحسد و إعمال الغرض و لحاظ النفع الشخصيّ و الفائدة الذاتيّة، فقد حُسبت جميع المصالح و المفاسد، و أسباب النجاة و الفوز و عوامل الهلاك و الشقاء، بأدقّ الحسابات و أعمقها و أكملها، ثمّ جُعل الحكم تبعاً لهذه النظرة؛ أشبه بطبيب حاذق جدّاً يعاين مرض المريض و يطالعه و يناقش جوانبه و سوابقه و لواحقه، و يجري المقارنات، و يراعي الظروف الزمانيّة و المكانيّة و الامور الوراثيّة، ثمّ يعتبر بعد تشخيص المرض دواءً له.
فهذا الاعتبار يقابل الحقيقة، أي يقابل الخارج و الخارجيّة، أي حكم و نظر. فنظر الطبيب هو نظر الشخص المعتبر، و هو الذي يعتبر الأدوية الفلانيّة في وصفة الدواء التي يعطيها للمريض.
ثمّ إنّ المريض الذي يمثّل مرضه أمراً حقيقيّاً، يعمل بالنظريّة الاعتباريّة للطبيب، فيستعمل الدواء و يشفي في النتيجة، و الشفاء هو الآخر
أمر حقيقيّ.
و على هذا فإنّ اعتبار نظريّة الطبيب، أي تقييم هذا الدواء وفق نظره، هو أمر صحيح و كامل جدّاً ليس فوقه شيء، إذ يستحيل أن يصف الطبيب في هذه الحال دواءً خلافاً لنظريّته بخصوص هذا المريض، كأن يصف مثلًا دواءً يعاكسه، و إلّا لدفع بالمريض إلى حافّة الهلاك، و لما سُمّي آنذاك بالطبيب، بل وجب تسميته بالقاتل و المفسد و الجاني.
فالطبيب يقضي عمره في الدراسة و التحصيل و إجراء التجارب ليكون ماهراً في فنّه، و ليؤيّد بنظره هذا الاعتبار بشكل صحيح، فلا يمكنه تخطّي هذا الاعتبار القائم به مائة في المائة أو تجاوزه.
لذا، فإنّ قضاء عمر في مشقة الدراسة و التعلّم و التعليم، و السهر في خفارة المستشفيات و هي كلّها امور حقيقيّة، كان من أجل حصول و إيجاد هذا الأمر الاعتباريّ.
أمّا اعتبار الخالق الحكيم فهو من الصحّة و الصواب و مطابقة المراد بحيث ينبغي القول حقّاً إنّه يفضل آلافاً من الحقائق، لأنّه مفتاح جميع أنواع السعادة و كمال الحظّ.
و لقد بيّن العلّامة آية الله الطباطبائيّ قدّس الله سرّه الشريف هذه الحقائق مفصّلًا في المقالة السادسة من «اصول فلسفة و روش رئاليسم» (=اسس الفلسفة و المذهب الواقعيّ)؛ كما بيّن بكمال الدقّة هذه الحقيقة في تفسير الآية المباركة المتعلّقة بالفطرة على النحو الذي أوردناه.
و العجب هنا من صاحب مقالة «بسط و قبض تئوريك شريعت» (=انبساط و انقباض نظريّة الشريعة) الذي يبدو أنّه قد عدّ الاعتبار أمراً زائداً عابراً لا ملاك له و لا قيمة، و هو أشبه ما يكون عنده بنسج الخيالات، و اعتبره وفقاً لهواه من الامور التي لا أساس لها و لا مناط، و وضعه ردفاً
للُامور الواهية، ثمّ انتقد سماحة العلّامة و ذكر مطالب و اموراً لا تليق بساحة كاتب و لا بمقامه.۱
و نجد أنفسنا مجبرين على أن نذكّر بعدّة تنبيهات لشرح و توضيح بعض مسائل الفطرة و الأحكام المعتمدة عليها.
التنبيه الأوّل: هل نحن قادرون على اكتشاف جزئيّات أحكام الفطرة من غير طريق الشرع و الشريعة؟
الجواب منفيّ بالطبع، أي أنّه لا إمكان مطلقاً في الوصول إلى أحكام الفطرة لعامّة البشر بدون الاتّصال بالوحي و مرحلة النبوّة،
تلازم قاعدتَي الأحكام العقليّة و الشرعيّة تصدق في الأحكام الفطريّة
و علّة ذلك كما ذكرنا أنّ أحكام الفطرة وُضعت على أساس الاحتياجات الحقيقيّة للإنسان، و ليس هناك غير علّام الغيوب من مطّلع على البواطن و السرائر و الغرائز، و خبير بالسبل الموصلة إلى الهدف الغائيّ لخلق الإنسان، و عليم بالبناء البدنيّ و المادّيّ و النظام الروحيّ و النفسيّ له، ليمكنه جعل حكم يحفظ مصلحة الآدميّ المطلقة من جميع الجهات؛ فمهما ارتفعت درجات الأفراد - من دون الله - العلميّة و ارتقت مراتب الحكمة فيهم، إلّا أنّهم لن يحيطوا مع ذلك بجميع جوانب الإنسان:
وَ ما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا.٢
و في المثال الذي أوردناه عن علم الطبّ و المريض، فإنّ على المريض مهما كانت درجته العلميّة مراجعة الطبيب و العمل بوصفة الدواء، و اتّباع تعاليمه بلا مناقشة، و ذلك باعتبار جهل المريض لفنّ الطبّ، و لأنّ
الطبيب حسب فرضنا حاذق ماهر، لذا فإنّ مفاد حكم الفطرة و حكم العقل و حكم الشرع يقول: فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ.۱
و ينبغي على المريض أن يلتزم بالتعبّد المحض مقابل أقوال الطبيب، و إلّا فإنّ تخطّيها و تجاوزها سيعدّ تمرّداً و اتّباعاً للرأي الشخصيّ و مستلزماً للهلاك، و هو أحد مصاديق الانتحار، و معلوم أنّ الانتحار حرام عقلًا و شرعاً، لذا فإنّ رأي الطبيب صحيح و رأي المريض خطأ.
و الأمر في الامور الشرعيّة كما في أمر الطبيب الحاذق العارف ببواطن امور البدن، و عن التراكيب و الفعل و ردود الفعل، و خواصّ الدم، و تركيب السمّ و الترياق، و أخيراً فهو مطّلع على مجموع حالات المريض و كيفيّة تأثير الدواء؛ فالشارع المقدّس مطّلع بأحسن وجه و أكمل طريق على جميع الأحوال المادّيّة و الروحيّة و كيفيّة معيشة و حياة عمر المريض و عافيته المطلقة، و صحّة و سلامة نفسه، و تمتّعه بجميع المواهب الإلهيّة و الاستعدادات الفطريّة، و كيفيّة جعلها فعّالة في جميع الشؤون الفرديّة و الاجتماعيّة. و الإيصال إلى ساحة قدس الحبيب على الإطلاق و الفناء في ذاته المقدّسة.
لذا، ينبغي متابعة النبيّ و وصيّه، و اتّباع الإمام الحيّ، و إلّا فإنّ المخاطر ستواجه البشر بشكل حتميّ و قطعيّ، و سيُنزل بنا - بسبب عدم التمسّك بميثاق النبوّة و حبلها - ما نزل بالمجتمعات الكبيرة و الامم المتمدّنة في عالمنا الحاضر، فقد كانوا سعداء جذلين في التفرّج على أضواء الدنيا الزائفة، مشغولين كالأطفال بالتفرّجعلى صندوق العجائب، فخسروا بلا مقابل جميع مزاياهم الأخلاقيّة و الروحيّة و سجاياهم الفطريّة و غرائزهم
الموهوبة من قبل الله، بل و حتى صحّة المزاج الطبيعيّ و هدوء البال و راحة الفكر، فلم يربحوا في مقامرتهم هذه، بل كانوا هم الأخسرين، و على قول إقبال الباكستانيّ:
دل و دين باختهاي تا هنر آموختهاي | *** | آه از اين دُرّ گرانمايه كه در باختهاي۱ |
و يتّضح من هذا البيان أنّ ما ذكره بعض دعاة التجدّد المبهورون بالغرب في معنى خاتميّة الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله و سلّم من. «أنّ العلوم البشريّة اليوم في حالة تزايد و تكامل، لذا فلا حاجة للبشر إلى نبيّ، فهو يستطيع بقواه العقليّة و بحوثه العلميّة أن يدير اموره بلا واسطة للرسول»، و هو قول سخيف لا اعتبار له.
و ينبغي العلم أنّ مرادنا بعدم قدرة العقل على اكتشاف الأحكام الفطريّة كما أشرنا قبلًا، هو جزئيّات و تفاصيل الأحكام، و لا يمكن قبول الادعّاء بأنّه يمكن للبشر بعقله استخراج و استنباط الأحكام الفطريّة، إذ هو قول جزاف.
أمّا في الاسس و الأحكام الكلّيّة التي يتوافق البشر عليها، كحُسن الإحسان إلى المُحسن، و حُسن الإيثار، و الإنفاق على الغير في الموارد الصحيحة، أو قبح الكذب المضرّ و حسن الصدق النافع، و حُسن العدالة و قبح الظلم، و كغريزة النزوع إلى المبدأ، و سائر الأحكام من هذا القبيل، فهي أحكام فطريّة يمكن إدراكها، بل إنّها من أوّل الأشياء التي يصل إليها العقل و يدركها، لأنّه إن اخذت الفطرة بمعنى كيفيّة الخلق و البنية الوجوديّة
الخاصّة للإنسان، فإنّ اسس الفطرة عموماً ستكون قابلة لفهم البشر وجداناً في بعض مواردها، و لو كانت هذه الاسس و الاصول جملةً غير قابلة لإدراك البشر و فهمهم فإنّ ذلك يؤدّي إلى نفي الغرض، و سيصبح الادّعاء بأنّ أحكام الدين فطريّة أمراً لا معنى له، لأنّ الأحكام ستكون ما يأمر به الدين و يقوله، و هذا يستلزم الدور.
الفطرة هي ما طابق العقل الإنسانيّ دون العقل الحيوانيّ
التنبيه الثاني: و كما صرّح آية الله العلّامة قدّس الله نفسه فإنّ المراد بأحكام الفطرة هي الأحكام المطابقة للعقل، أي العقل الإنسانيّ من حيث هو إنسان، لا العقل الحيوانيّ، فالعقل الحيوانيّ عبارة عمّا يشترك به الإنسان مع الحيوانات، و الشعور المرتبط بالحواسّ الظاهريّة و القوى الخياليّة الداعي لاتّباع اللذائذ البهيميّة و الشهوات، و تحقيق الرغبات المادّيّة، و نيل الرياسة، و جمع الحطام الدنيويّ، و حسّ التفوّق و التظاهر، و عبادة الذات، و حبّ الظهور و الجاه و أمثالها و واضح أنّ هذا الشعور و الإدراك لا يصل بالإنسان إلى مقام الإنسانيّة، بل يجعله في مرتبة الحيوانات و أجناسها التي هي أعلى من النباتات و الجمادات. أمّا العقل الإنسانيّ الذي يصوغ الفرد إنساناً فهو عبارة عن العبوديّة المحضة و المطلقة مقابل الخالق الحكيم العليم، و الانقياد و الإطاعة الصرفة بلحاظ مقام العبوديّة مقابل عظمة و مقام ربوبيّة ذلك الخلّاق الخبير.
كما أنّ حبّ الوصول إلى ذات ذلك المبدأ الأزليّ و الأبديّ، و شوق و عشق لقاء الجمال السرمديّ و الفناء في ذاته الأحديّة جلّ و عزّ، و تكميل القوّة العاقلة و العاملة و الإيثار و التضحية و الفتوّة و المروءة و الصبر و التحمّل و الإنفاق و الخيرات و أعمال البرّ المطلوبة هي التي تفصل الإنسان عن وجوده المعار و المجاز و تلحقه بالوجود الأبديّ و الحقيقيّ.
فهذه و أشباهها من صفات الأنبياء العظام و الأئمّة المعصومين
و الأولياء المقرّبين هي الهدف الأصليّ و الغائيّ للإنسان. و بهذا اللحاظ فإنّ أحكام الفطرة هي الأحكام التي ينبغي تشريعها و تدوينها لهذا النهج من السير و السلوك، لا الأحكام التي يجعلها و يدوّنها و يتوصّل إليها عقل الإنسان المادّيّ و الشهوانيّ بما هو حيوان، إذ لا يمكن اعتبار هذا النمط من الأحكام و السنن سنناً فطريّة و أحكاماً حقيقيّة.
و عليه، فإنّ الإنسان محتاج دوماً للاتّصال بالشرع و الشريعة و منهل الولاية و معدن حكمة النبوّة، لا ملجأ له و لا علاج غيرها، و لا طريق له غير نهجها و طريقها.
أمّا إذا اعتبرت أحكام الفطرة على أنّها الأحكام التي تتوصّل إليها العقول البشريّة، فإنّ ضرورة الشريعة ستنتهي حينذاك، و سيرجع جميع الناس إلى عقولهم فيعملوا بمقتضاها، و هذا ما يساوق نسخ الشريعة، و نسخ القرآن، و نسخ النبوّة، و نسخ الولاية، و نسخ معنى إمامة و ولاية الإمام الحيّ، و هيهات هيهات أن تكون يد البشر القاصرة قد نالت ذلك أو تناله، و حريّ بنا أن نبعد هذه الأفكار الساذجة عن أذهاننا و أن لا نتطرّق إليه ا، و نزجر هذه الأفكار الشيطانيّة فلا ننخدع بها، و علينا أن لا نتخطّى ما رُسِم لنا من مقام و حدود، و أن ننهل دوماً من معين الإمام الحيّ. الحجّة ابن الحسن العسكريّ أرواحنا فداه، فنروي أكبادنا الظمأي و قلوبنا الحرّي، و أن نعدّ أنفسنا بالعمل بشرعه و شريعته و نهجه و سيرته للتكامل و الوصول للهدف المنشود، حينذاك يصبح أحدنا إنساناً يصدق عليه أنّ عالم الوجود و الشمس و القمر و خلق الأرض مسخّر لأجله.
التنبيه الثالث: بشأن قاعدتَي الملازمة المبحوثتين في علم اصول الفقه:
الاولي: كُلُّ مَا حَكَمَ بِهِ الشَّرْعُ حَكَمَ بهِ العَقْلُ.
الثانية: عكسها: كُلُّ مَا حَكَمَ بهِ العَقْلُ حَكَمَ بهِ الشَّرْعُ.
فهل هاتان القاعدتان أو إحداهما صحيحة بشكل عامّ و كلّيّ، أم أنّ هذه الملازمة غير تامّة؟
يمكن الحصول علي إجابة هذا السؤال ممّا ذكرناه من انطباق حكم الفطرة مع حكم العقل الإنسانيّ و الحكم الشرعيّ، لأنّه إن اريدَ من كلمة العقل في هاتين القاعدتَين هذه العقول النظريّة العامّة التي يمتلكها عامّة البشر، فيستخدمونها لتنسيق امورهم البيتيّة و تنظيم مجتمعهم و مدنيّتهم، فلن يكون صحيحاً بشكل كلّيّ أيّاً من هاتين الملازمتَين، لأنّنا نري في كثير من الموارد أنّ للعقلاء حكماً ما لكنّ الشرع يورد خلافه، كما في المعاملات الربويّة و اسس معاملات البنوك، و كالتلقيح و الحمل بحقن نطفة رجل أجنبيّ في رحم امرأة لا يربطها به عقد شرعيّ، و مثل تبنّي طفل أجنبيّ و إصدار شهادة الجنسيّة له و معاملته معاملة الابن الحقيقيّ في جميع المراتب، و كثير من أمثال هذه المسائل، في حين يمتلك الشرع و جهة نظر مخالفة كلّيّاً.
أمّا إن كان المراد من كلمة العقل نفس العقل الإنسانيّ الحقيقيّ الموجود للأنبياء و الأئمّة بلحاظ الجانب الملكوتيّ و العلويّ للإنسان، لا بلحاظ حيوانيّته و بهيميّته، و حيث إنّ العقل ما عبد به الرحمن و اكتسب به الجنان؛۱ فإنّ كِلا القاعدتَين و الملازمتَين ستكون صحيحة، ذلك لأنّه
ليس هناك من حكم عقليّ فطريّ إلّا و هناك حكم شرعيّ يطابقه و يوافقه، و العكس صحيح، و هذا هو معني أنّ دين الإسلام هو دين الفطرة، فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها.۱
الأحكام الاضطراريّة فطريّة كما في الأحكام الاخري
التنبيه الرابع: يشاهد في بعض الموارد أنّ هناك لموضوع أو متعلّق واحد حكمينِ مختلفينِ، كالوجوب و الحرمة، كما في موارد الاضطرار مثلًا، حيث يصبح الحرام حلالًا ما من شيء حرمه الله إلا و قد أحله عند الاضطرار إليه.٢ كأكل لحم الميتة و الدم و لحم الخنزير و ذبيحة غير
المسلمين المحرّم في الحالات العاديّة، لكنّه يُحلّل عند الاضطرار:
إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَ الدَّمَ وَ لَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَ ما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَ لا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ.۱
و نلحظ في هذه الآيات و نظائرها أنّ الله سبحانه جعل حكمينِ مختلفينِ لموضوع و متعلّق واحد، الحكم الأوّل في حال عدم الاضطرار و هو الحرمة، و الحكم الثانويّ حال الاضطرار و هو الإباحة و الجواز، فأيّ حكم من هذين الحكمينِ يطابق الفطرة؟
لقد عرفنا أنّ المراد بالحكم الفطريّ ليس ذلك الحكم التابع لأهوائنا و مشتهياتنا النفسيّة و رغباتنا الأوّليّة، بل هو الحكم الذي يمثّل الواسطة للوصول إلى الغاية و الهدف المنشود من الخلقة. و على هذا، فإنّ حكم المحاربة و الدفاع و الجهاد سيكون فطريّاً، لأنّه يقود الإنسان إلى الكمال المطلوب و سعادة الدنيا و الآخرة و الوصول إلى عزّ الإنسانيّة، و كذلك فإنّ صيام أيّام الصيف الحارّ و قيام ليالي الشتاء البارد، و الحجّ و العمرة في تلك البلاد الحارّة القاحلة ستكون كلّها فطريّة، لأنّها توصل الإنسان إلى الكمال الحقيقيّ، ولو لم يرغب بها الطبع الأوّليّ للإنسان و لم يرتضيها في قرارة نفسه، أو أجراها على نحو الإكراه. و سنعرف في هذه الحال أنّ قسمَي الحكم
الاضطراريّ و غير الاضطراريّ مطابقان لحكم الفطرة، لأنّ كلًّا منهما - حسب دوره و ظرفه الخاصّ - يتكفّل بإيصال الإنسان إلى كماله و سعادته.
أمّا عند الاختيار و انتفاء القحط و المجاعة و وفور أنواع الأغذية المحلّلة، فمن الواضح أنّ أكل لحم الميتة و الدم و لحم الخنزير و ما اهلّ لغير الله به أمر مخالف للفطرة، و ذلك لأضراره المادّيّة و الجسميّة من جهة، و لأضراره الروحيّة و المعنويّة من جهة اخرى. و على هذا، فحكم الفطرة ينطبق مع الشرع.
و أمّا في حال الاضطرار، فباعتبار أنّ حياة الإنسان ستكون منوطة بالتناول منها بمقدار رفع الضرورة، فإنّ من البديهيّ الحتميّ أن يكون ذلك جائزاً في الشريعة الكاملة، لأنّ الأكل بمقدار سدّ الرمق موجب لبقاء الحياة و حفظها، و بقاء الحياة مع تناول هذه الموادّ المحرّمة أفضل و أولى من استقبال الموت بتركها، فحكم الفطرة المجعول و المعتبر على أساس المصالح و المفاسد الواقعيّة يتطابق هنا أيضاً مع حكم الشرع.
و نجد في بعض الموارد أنّ الأحكام الخمسة. الوجوب، الاستحباب، الإباحة، الكراهة و الحرمة تُجعل جميعاً لمتعلّق واحد، كما في النكاح و الزواج مثلًا الذي هو في حدّ ذاته أمر و سنّة مستحبّة، أمّا حين تغلب الشهوة و ينتفي السبيل المشروع لإشباع الغريزة، و مع خوف الوقوع في التهلكة و الضرر و الإصابة بالأمراض الجسميّة أو النفسيّة فإنّ هذه الامور تجعل النكاح يصبح أمراً واجباً. و في الموارد التي يتزاحم فيها النكاح مع أمر واجب أهمّ، كتحصيل المعارف الإسلاميّة و اصول العقائد، أو تمريض امّ عجوز ضعيفة لا تقوى بنفسها على إنجاز أعمالها الضروريّة و أمثال ذلك، فإنّ الزواج سيكون حراماً في هذه الصورة؛ فإن تساوت الجهات الراجحة و المرجوحة صار النكاح مباحاً، فإن زادت الجهات المرجوحة
على الراجحة صار مكروهاً، كما في حال شابّ لم تغلب عليه شهوته، مشغول بتحصيل المعارف الدينيّة و تعلّم القرآن و الأخبار و الفقه و التفسير و الحكمة و العرفان، فهو مع إقدامه على الزواج سيمكنه الاستمرار في دروسه و تحصيله، لكنّه شاء أم أبى سيتعرّض إلى وقفة و نكسة و فتور في اكتساب كمالاته المعنويّة، ففي هذه الحال ستكون الأولويّة في ترك النكاح.
جميع الأحكام الأوّليّة و الثانويّة الاضطراريّة هي من أحكام الفطرة
و كان القصد بهذا الكلام أنّ جميع الأحكام الخمسة في موضوع النكاح هذا هي أحكام فطريّة ليس هناك بينها من تنافٍ و لا تعارض، و ينبغي الدقّة التامّة في كلّ متعلّق خاصّ تمهيداً لاستخراج الحكم الفطريّ و الشرعيّ.
و يمكن تلخيص ما ذكرناه بما يلي:
۱ - أنّ الفطرة بمعنى الخلقة الأوّليّة و البنية الوجوديّة للإنسان؛ و الإسلام قائم على أساس هذه الفطرة التي يصدر العقل الإنسانيّ المستقلّ غيرالمشوب بشوائب الهوى و الهوس أحكامه المطابقة لها.
٢ - أنّ العقول العاديّة للناس، القائمة على أساس المصالح المتدنيّة للحياة و العيش هي في رتبة الشعور الحيوانيّ، و باعتبار اشتراكها مع الحيوانات في التفكير بالمصلحة و الانتفاع و دفع الضرر و قضاء الحاجات الشهويّة و الغضبيّة و الوهميّة، فهي عاجزة عن كشف الأحكام الأصيلة للبشر بما هو بشر و إنسان، لذا فهي غير قادرة على استخراج الأحكام من الفطرة، و محتاجة إلى نبيّ و وليّ أمر معصوم قد تعدّى حدود ذاته و ارتبط بالكلّيّة و صدر عن منهل العرفان و التشريع، و لولا ذلك لما كانت الحاجة إلى التكليف و القانون الإلهيّ، و لأمكن للناس إدارة امورهم و تسييرها بالرجوع إلى هذه الأفكار و الاكتشافات و الاعتماد على علومهم المادّيّة
و الطبيعيّة و التجريبيّة.
٣ - أنّ الكثير من الأحكام التي تبدو بحسب النظر الابتدائيّ غير منافية للفطرة، كنكاح اخت الزوجة، و امّها، و محرّمات الرضاع، و بنت اخت الزوجة و بنت أخيها بدون إذنها، و ترك الجهاد (لا الدفاع) و غيرها؛ قد نهى الشرع المقدّس عنها لكونها بلحاظ النظرة الأصيلة منافية للفطرة لعدم وقوعها في طريق المصالح العالية، بل لإيجابها سدّ طريق تكامل الإنسان و منعها طيّه للمدارج المعنويّة.
٤ - أنّ الأحكام الاضطراريّة و الإكراهيّة و الضروريّة و الاستثنائيّة هي كالأحكام الأوّليّة من أحكام الإسلام و مطابقة للفطرة. و على هذا، فإنّنا لا نجد في الإسلام أي قانون عامّ أو خاصّ، كلّيّ أو جزئيّ، جنسيّ أو شخصيّ، إلّا و كان موافقاً للفطرة و مؤدّياً بالنتيجة إلى رشد و رقيّ و فاعليّة القوى و القابليّات المودعة في البنية الوجوديّة و الحيويّة للإنسان.
الفرق بين حقيقة العلم و الأخلاق؛ الامور الحقيقيّة و الاعتباريّة
التنبيه الخامس: ذكر صاحب مقالة «بسط و قبض» - في كتاب مستقلّ آخر له باسم «دانش و ارزش پژوهشي در ارتباط علم و أخلاق» - الفرق بين العلم و الأخلاق بأنّ العلم عبارة عن القضايا الخارجيّة التي يصحّ إطلاق الصدق و الكذب عليها، و الأخلاق عبارة عن الامور الاعتباريّة التي لا ارتباط لها بالخارج أبداً.
مواضيع كتاب «دانش و ارزش» (=العلم و القيم)
الأخلاق العلميّة أيضاً من أبناء هذه الرؤية الحديثة لمشركي عبدةالعلم.
حتّى يصل إلى القول:
فحين نعلم أنّ إشعاعات الموادّ المشعّة تسبّب السرطان (علم)، ثمّ نعلم أنّ علينا الحذر منها (أخلاق).
و حين نعلم أنّ سحق الغرائز وكبتها يحطّم الشخصيّة و يسبّب نشوء
العُقد (علم)، ثمّ ندرك أنّ علينا أن لا نُميت الغرائز و نوجد العُقد (أخلاق).
و حين نتعرّف على البناء الكيميائيّ و الآثار الصيدلانيّة و الحيويّة لدواء معين (علم)، ثمّ يمكننا أن نقرّر استخدام ذلك الدواء أم عدم استخدامه.
و حين نناقش و نحلّل بما لا يقبل الخطأ الهيكل الفاسد و الظالم الغاصب لنظام اجتماعيّ معيّن (معرفة)، ثمّ نشعر بالمسؤوليّة تجاه إسقاط ذلك النظام (أخلاق).
فهذه الأمثلة و مئات اخرى من قبيلها تظهر بوضوح أنّ العلم هو الذي يلد الأخلاق، و أنّ الفكر هو الذي يخلق القيم، و أنّ المعرفة هي التي توجد الالتزام.۱
... علينا في البداية التعرّف باختصار على العلم و الأخلاق، فالعلم يعني التوصيف و الأخلاق تعني التكليف. العلم يعني معرفة الواقعيّات و الأخلاق تعني معرفة القيم. في العلم يدور الكلام عن الطبيعة، و في الأخلاق عن الفضيلة. في عهدة العلم أن يبحث كيف وجد و كيف لم يوجد، و في عهدة الأخلاق أن تناقش ماذا يجب عمله، و ماذا يجب اجتنابه؛ فمجموعة المعارف التي تصف بنحو جزئيّ أو كلّيّ كيفيّة الوجودات تُدعى علماً، أمّا القوانين الأخلاقيّة فهي جميع القوانين التي تقوم بتقييم الأشياء و الامور الخارجيّة، أو تتحدّث بنحو جزئيّ أو كلّيّ عن يجب و لا يجب أو الداعية لإقدام و تصرّف معيّن.٢
إنّ تقييم الأشياء و تعيين جيّدها من رديئها ليس في الحقيقة معزولًا
عن يجب و لا يجب، و بمعنى آخر هما شيء واحد. فالعمل الذي نقول إنّه يجب ألّا يُعمل فإنّنا قد قلنا بتعبير آخر إنّ عمله سيّيء، و كذا الأمر بالنسبة إلى المورد الجيّد الذي يجب عمله.
و عليه، فلا يخلو أبداً أي قانون أخلاقيّ من نوع من التقييم و التقدير، على العكس من القوانين العلميّة التي تتجنّب دوماً بوعي مسألة التقييم، و تكتفي ببيان كيفيّة وجود أو عدم وجود الظاهرة المعيّنة.۱
إنّ كشف و إبطال المغالطة الكامنة في الاستدلال و الفكر الأخلاقيّ العلميّ يمثّل أحد الإنجازات البشريّة العظيمة و القيّمة، و تكتسب هذه المسألة أهمّيّتها بلحاظ إمكان استخدامها كمعيار لتقييم و قياس متانة و أصالة الإيديولوجيّات؛ فكلّما كانت إحدى المدارس و الاتّجاهات العلميّة مصونة من وسوسة هذه المغالطة، كلّما كانت أكثر أصالة و إتقاناً و تكاملًا، و كلّما سقطت المدرسة أكثر في شباك هذه الشبهة فإنّها ستصبح بنفس النسبة عديمة الثبات، ضئيلة الأهمّيّة.٢
إنّ الاعتباريّات هي المفاهيم التي يفترضها و يتّخذها الشخص لأجل ضرورات العيش بمساعدة العواطف و الرغبات الباطنيّة؛ و الحقائق هي المفاهيم التي يكتشفها العقل بالنظر في الواقع الخارجيّ للأشياء و في روابطها و علائقها، فهذان النوعان من المفاهيم لا يتولّد أحدهما من الآخر، و بعبارة اخرى: لا يمكن الوصول من الكشف إلى الفرض.
فدوران القمر حول الأرض هو من كشوف العقل، و مقولة إنّ قلب الإنسان السليم ينبض ۷۰ مرّة في الدقيقة ليست فرضاً و تعاقداً، و على هذا فهي لا تتغيّر بالاستحسان و عدم الاستحسان، و بالقبول أو عدم القبول، و بوجود شخص ما أو عدم وجوده.
فنحن إن شئنا أم أبينا، و قبلنا أم رفضنا، و وُجدنا أم لم نوجد فإنّ
القمر كوكب يدور حول الأرض.
أمّا بشأن الفرضيّات و العقود فالأمر مختلف، فحين ندعو الميكروب سيّئاً فليس ذلك مستقلًّا بأيّ وجه عن رغباتنا و استحساننا و وجودنا. فأوّلًا. لو لم يكن هناك وجود لأيّ إنسان لما اتّصفت الميكروبات بصفة السوء، فالبشر الذين يرغبون في البقاء هم الذين ينعتون الميكروبات التي تمنع بقاءهم بالسيّئة، و إلّا فإنّ الميكروبات في حدّ ذاتها و بقطع النظر عن البشر هي ميكروبات فقط، لا جيّدة و لا سيّئة.
و ثانياً: هذه الميكروبات تصبح جيّدة بالنسبة لنا أحياناً، إذ في حال فتك الميكروبات الوبائيّة بأعدائنا فرضاً فإنّها لن تكون سيّئة أبداً.۱
و بتعبير آخر: لا يمكن بأيّ وجه إثبات حسن شيء أو قبحه باستخدام سلسلة براهين منطقيّة، كما لا يمكن بهذا الدليل إثبات وجوب عمل شيء أو عدم وجوبه بأي برهان منطقيّ.
و في نهاية هذا القسم فإنّ هيوم يذكر نكتة مهمّة نقلها عنه و اقتبسها بعده فلاسفة آخرون و صارت ملهمة لكثير من التحقيقات المنطقيّة.
... و نرى فجأة بكمال العجب بدل الاسلوب المعهود من إضافة قضايا تشتمل على وجود و عدم، فإنّ جميع القضايا تصبح فجأة ذات يجب و لا يجب، على الرغم من عدم التفات أحد إلى هذا التغيير.
... و سيمنحنا الفرصة لنرى جيّداً أنّ الخير و الشرّ و الفضيلة و الرذيلة لم تُبنَ على أساس العلائق و الروابط بين الأشياء، و ليست مشمولة للإدراكات العقليّة.٢
و لم تتكرّر فكرة هيوم المكثّفة هذه إلّا في أوائل القرن العشرين على لسان فيلسوف آخر، فقد نشر جي أي مور الحكيم الإنجليزيّ سنة
۱٩۰٣ م كتابه ذائع الصيت باسم «مباني الأخلاق»، و قام في كتابه بتحليل دقيق و مفصّل لمفهوم «الحسن» و عدّه مفهوماً بسيطاً لا يتجزّأ و لا يُعرّف.
و قد استخدم في هذا الكتاب اصطلاح «مغالطة دعاة الطبيعة» لأوّل مرّة، و كان الغرض منه كما سيأتي فيما بعد نفس تلك المغالطة الكامنة في جميع أنواع الأخلاق العلميّة.۱
و كان كانْت، الفيلسوف الألمانيّ و المعارض الشهير لجميع أنواع الميتافيزيقيّة، قد دعى كتابه المشهور في نقد ماوراء الطبيعة «مقدّمة على كلّ فلسفة ميتافيزيقيّة مستقبليّة تدّعي العلميّة». و ذكر مور أيضاً في مقدّمة كتابه أنّ هدفه الأصليّ من كتابه أن يكون مقدّمة «لأيّ نوع من الأخلاق المستقبليّة تدّعي العلميّة».٢
و يتكرّر هذا الخطأ اليوم من الكثيرين، و لقد سمع الكاتب كثيراً و شاهد بنفسه أنّ جمعاً من المفكّرين المشتغلين بالبحث في أمر فلسفة الأخلاق يظنّون أنّ المسألة الأساسيّة في فلسفة الأخلاق أن يجدوا بنحو من الأنحاء شيئاً مطلوباً و محبوباً بذاته - لا باعتباره وسيلة - و كأنّ جميع الصعوبات و المشاكل ستنهار بالعثور على هذا المحبوب النهائيّ، و ستنحلّ جميع الألغاز بإشراق جمال ذلك المحبوب، و سيتّضح مرّة واحدة ما هي الوظيفة و التكليف؟ و ما العمل الذي ينبغي؟ و عن أي شيء ينبغي البحث؟ و ما هو معيار الجيّد و السيّيء؟ و ما هو منشأ القيم و الموازين؟ لكنّ هذا ليس إلّا خطاً و خيالًا ليس إلّا، فالعثور على المطلوب النهائيّ شيء، و إرادة أنّ ذلك المطلوب ينبغي طلبه و ابتغاءه شيء آخر، فأحدهما توصيف و الآخر تكليف، الأوّل هو وظيفة العلم (بالمعنى الواسع) و الثاني وظيفة الأخلاق، و جعل هذين الاثنين واحداً يمثّل خطأ الأخلاق العلميّة الذي لا يُغتفر.
و خلاصة الكلام أنّ «الناس يبحثون عن مطلوبهم» و أنّ «المطلوب ينبغي لزوماً أن يُطلب» متفاوتان بشكل كامل، فالأوّل توصيفيّ و الثاني تكليفيّ.۱
و كان السيّد محمّد حسين الطباطبائيّ الحكيم و المفسّر المعاصر في بلاد الشرق هو أوّل الحكماء الذين عملوا بإيحاء من أنفسهم على طرح حلّ مسألة الإدراكات الاعتباريّة و علاقتها بالإدراكات الحقيقيّة، و لقد خطا خطواته في هذا الوادي مفكّراً مستنتجاً دون أيّة إشارة إلى آراء حكماء الغرب أو الاستعانة بها في هذا المجال، و يمكن العثور على بحثه التفصيليّ بهذا الشأن في المقالة السادسة من سلسلة مقالات فلسفيّة نُشرت بأجمعها تحت عنوان «اصول فلسفة و روش رئاليسم».٢
هذا النوع من الإدراكات له اختلاف جوهريّ مع الإدراكات الحقيقيّة، فهي أفكار تنطبق على الواقع و حاكية عن صفات موجود واقعيّ و خارجيّ، فلا هي تُستحدث وفق رغباتنا و لا تتغيّر بتغيّرها».٣
... و حين يكون الأمر كذلك و توجد هذه الهوّة الواسعة التي لا يمكن ملؤها بين الأفكار التصوّريّة و الأفكار الحقيقيّة، فإنّ علينا عندئذٍ أن لا ننتظر وجود ارتباط منطقيّ بين هذين النوعين من الإدراك، أو الوصول من أحدهما إلى الآخر. أو حسب التوضيح الوارد في المقالة. و لأنّ هذه الإدراكات و المعاني هي وليدة عوامل الإحساس، فليس لها علاقة توليديّة مع الإدراكات و العلوم الحقيقيّة، و باصطلاح المنطق، فلا يمكن بالبرهان إثبات تصديق شعريّ. و في هذه الحالة، فلن تصدق
بعض أقسام المعاني الحقيقيّة في مورد هذه المعاني الوهميّة، مثل: بديهيّ و نظريّ و ضروريّ و محال و ممكن.۱
و بعبارةٍ اخرى. لا يمكن إثبات إدراك اعتباريّ من الإدراكات الحقيقيّة، و لا العكس، و لا يمكن أيضاً الاعتماد على التشبيه لإثبات حكم حقيقيّ.
و في تصوّرنا فإنّ هذه النكتة عظيمة الأهمّيّة، فهي تزيح الستار عن مغالطات ضخمة و واسعة كثيراً ما تستلفت النظر في أغلب الاستدلالات المتسامحة، و خاصّة في البحوث الاجتماعيّة و السياسيّة.٢
و بعد بحث التمثيلات و الاستعارات، و بيان الانفكاك المنطقيّ بينها و بين الإدراكات الحقيقيّة، يصل البحث إلى «الوجوب».
فمؤلّف «روش رئاليسم» (=المذهب الواقعيّ) يعتقد أن لابدّ لكلّ اعتبار من الانتهاء و الختم بحقيقة معيّنة، و علينا أن نبحث في الحقائق عن أصل جميع التصوّرات. و على هذا، فإنّ الوجوبات الأخلاقية (الاعتباريّة) تستمدّ نشأتها في نظره من الوجوبات الحقيقيّة و الفلسفيّة؛ فإذا ما رأينا في مكان ما وجوباً اعتباريّاً و أخلاقيّاً، فإنّ علينا أن نوقن بأنّه يستند إلى وجوب و ضرورة واقعيّة موجودة في مكان آخر، فهذان الوجوبان مرتبطان يلد ثانيهما أوّلهما.
و الضرورة الفلسفيّة هي الضرورة القائمة بين العلّة و المعلول، فمع حضور العلّة التامّة فإنّ وجود المعلول سيصبح ضروريّاً لا تخلّف فيه. أمّا الضرورات الأخلاقيّة فتتجلّي في الوجوبات الأخلاقيّة، فهي توصي بشيء ما أو تحرّمه بصورة الأمر و النهي.٣
و حسب نظر المقالة مورد البحث - أي المقالة السادسة من «اصول فلسفه» - فإنّ الإنسان أيضاً (كسائر أنواع الموجودات الطبيعيّة التي تقوم بسلسلة من الأعمال في داخلها مع الاتّصال بخارجها من شمس و هواء و أرض حفظاً على دوام معيشتها و بقاء حياتها)، يتناول الطعام للوصول إلى الشبع، لكنّه يعتبر الحصول على المال ضروريّاً للحصول على الطعام، و يعتبر العمل ضروريّاً للحصول على المال، و يعتبر مراجعة أصحاب الأعمال ضروريّاً للعمل، و ...؛ فهو لهذا يقرّر في نفسه بوعي. يجب أن أذهب إلى صاحب العمل؛ و «يجب» هذه «التي هي إدراك ذهني» واسطة لوصول الموجود الحيّ إلى هدفه (كالشبع مثلًا)، و هكذا الأمر بشأن أي هدف آخر و أي وجوب آخر.
و عليه، فإنّ الاحتياجات الطبيعيّة لأعضائنا و قوانا ستوجد فينا وجوبات - بتوظيفها و عينا و شعورنا - ليمكن بمساعدتها تأمين احتياجاتها تلك.
إنّ العلاقة بين الغذاء و الشبع علاقة جبريّة و ضروريّة، أي أنّ تناول الغذاء سيوجد تلقائيّاً و بحكم قانون العلّة و المعلول إحساس الشبع، أمّا العلاقة بين الشبع و مراجعة صاحب العمل فليست علاقة جبريّة، ولكن لانّ جهاز إدراكنا التابع لبنيتنا الطبيعيّة يميّز وجوباً جبريّاً بين الغذاء و الشبع، فهو يقوم بصياغة وجوب اعتباريّ من هذه الملازمة الحقيقيّة (و هو لزوم مراجعة صاحب العمل)، ليردّ إيجاباً على إحساسه الباطنيّ و هو طلب الشبع.۱
... و سنورد هنا جزءاً فقط من إيضاحات هذه المقالة حول اعتبار أساس الاستخدام.
نحن نقول إنّ الإنسان يريد الحصول على نفعه من الجميع تبعاً
لهداية الطبيعة و التكوين (اعتبار الاستخدام)، و يريد - من أجل نفعه - نفعَ الجميع (اعتبار المجتمع)، و يريد العدل الاجتماعيّ لنفع الجميع (اعتبار حسن العدالة و قبح الظلم)، و نتيجة للفطرة الإنسانيّة فإنّ الحكم الذي يكوّنه بإلهام الطبيعة و التكوين يمثّل حكماً عامّاً لا ينطوي على حقد خاصّ على الطبقة الراقية و لا عداء خاصّ مع الطبقة السفلى، بل إنّه تبع في ذلك طائعاً حكم الطبيعة و التكوين في الاختلاف الطبقيّ للقرائح و الاستعدادات، و راغباً - تبعاً للُاسس الثلاثة المذكورة - أن يحلّ كلّ واحد في محلّه و مكانه المناسب.
فالهداية الطبيعيّة (الأحكام الفطريّة) ستتحدّد بالأعمال التي تتوافق مع أشكال و تركيبات الأجهزة البدنيّة، فنحن مثلًا لا نُجيز لهذا الجهة إشباع الرغبات الجنسيّة عن غير طريق الزواج (كعلاقة رجل و رجل، امرأة و امرأة، رجل و امرأة عن غير طريق الزواج، إنسان مع غير الإنسان، إنسان مع نفسه، التناسل عن غير طريق الزواج).
و لن نمتدح التربية الاشتراكيّة للأطفال، و إلغاء النسب و الوراثة، و إبطال العرق و العنصر؛ ذلك لأنّ النظام المرتبط بالزواج و التربية لن يتلائم مع هذه الامور.۱
كلّ ما تقدّم هو تمام ما أورده صاحب كتاب «دانش و ارزش» في بيان و شرح عبارات العلّامة قدّس الله سرّه، ثمّ يشرع بعدها في انتقادها و الردّ عليها:
إشكال صاحب كتاب «دانش و ارزش» على العلّامة الطباطبائيّ
و مع احترامنا العميق لحضرة المؤلّف المحترم لهذه المقالة، فإنّنا لا نوافقه على جميع آرائه في مجال الاعتبارات الأخلاقيّة، فنحن نعتقد - كما سنوضّح - أنّه لم يفرّق - كما يبدو - بين نوعين من «الوجوب»،
فوصل في النهاية بسبب عدم التفكيك هذا إلى نوع من الأخلاق العلميّة المحضة.
إشكال صاحب الكتاب على العلّامة في الخلط بين معنى الوجود و الوجوب
ثمّ يقول بعد شرحٍ مختصر:
و أمّا الاستفادة الفلسفيّة و الأخلاقيّة فقد كان جميع سعي المقالة المذكورة هو إظهار أنّ كلّ «وجوب» معلول لاقتضاء القوى الفعّالة الطبيعيّة و التكوينيّة للإنسان، و حين يثبت هذا فكأنّما سيثبت تلقائيّاً أنّه يجب العمل بذلك «الوجوب»؛ و بعبارة اخرى أنّ «الوجوبات» التي تستمدّ نشأتها من مقتضى البنية الطبيعيّة هي «وجوبات» و أحكام طبيعيّة و فطريّة تحمل سند جوازها و وجوبها معها بلا حاجة إلى أي دليل و برهان.
أي أنّه حالما يتّضح أنّ حكماً ما حكم فطريّ، فلن يمكن عندئذٍ السؤال عن حسنه و قبحه، لأنّ أي حكم فطريّ هو في ذاته جيّد و حسن، و هنا يكمن - حسب تصوّرنا - الخلط المدمّر.
ذلك لأنّه لو افترضنا أنّنا حصلنا على مقتضى بنيتنا الطبيعيّة - أي على حكم فطريّ - فيبقى مع ذلك السؤال مطروحاً. لماذا ينبغي العمل بمقتضى البنية الطبيعيّة؟ و لم تكون الأحكام الفطريّة واجبة و ينبغي اتّباعها؟ من أين يأتي - يا ترى - هذا الوجوب الثاني؟
و يتّضح هنا أنّنا نملك نوعين من «الوجوب»، فإن لم يكن لدينا إيمان بـ «وجوب» ابتدائيّ و أساسيّ، فإنّنا لن نتمكن من صنع أي وجوب أخلاقيّ آخر.۱
... و أصعب من هذا و أعقد، مسألة العثور على الأحكام الفطريّة، فحسب أي معيار و ضابط يمكن القول إنّ حكماً ما فطريّ أم لا؟ و خاصّةً إذا ما أخذنا بنظر الاعتبار مسألة تصاعد حياة الكائنات الحيّة و اعتبارنا أنّها في حالة تغيّر جسميّ و نفسيّ دائم، حيث سيصعب علينا بل سيستحيل
التمييز و معرفة أي عضو فيها أساسيّ و أيّها غير أساسيّ، و مقتضى أي قوّة ينبغي أن نأخذ بنظر الاعتبار؟ و أيّها ينبغي اعتبارها في طريقها إلى الزوال؟۱
تُظهر الاختلافات و النزاعات الحاصلة حول الأحكام الفطريّة، و المشاق العظيمة لتعيين الحدّ و الضابط للأحكام و إمكان الاستفادات غير الصحيحة باسم الفطرة الدرجة التي سيكون عليها إصدار الحكم اعتماداً على مباني الأحكام الفطريّة من الضعف و الركاكة.٢
... و نكرّر قولنا السابق في أنّ هناك مقابل كلّ واقع خارجيّ معيّن موقفين و نوعين من الخيار يمكن اتخاذهما، رفضه أو قبوله؛ و أنّ نفس الواقع الخارجيّ لا يعين مطلقاً نوع ذلك الخيار، خلافاً لوجهة نظر المؤلّف المحترم للمذهب الواقعيّ «روش رئاليسم».
فوجود الأعضاء التناسليّة لدى الرجل و المرأة (بمثابة واقع معيّن) لا يعيّن بنفسه وجوب زواجهما فقط، أو ينفي إمكان مقاربة رجل لآخر، أو إنّ الحمل عن غير طريق الزواج أمر غير مقبول. فنفس ذلك الواقع الخارجيّ ليس هو المعيّن لهذه الخيارات الأخلاقيّة، و لهذا السبب لا يمكن تقبيح القرارات الأخلاقيّة المخالفة لها، اعتماداً على مبنى مخالفتها للبنية الطبيعيّة للرجل و المرأة.
و على الرغم من أنّ خياراتنا الأخلاقيّة تعتمد على بنيتنا الطبيعيّة و متعلّقة بشأنها، لكنّها لا تستمدّ نشأتها منها مباشرة، بل إنّ أساسها شيء آخر، و هي نابعة من مصدر نشأة «الوجوبات».
فليس هناك علاقة بين الطبيعة بالفضيلة، و لا يمكن صنع ارتباط بين وجود شيء و انتخابه، فإن اعتبرنا الطبيعة في حالة تصاعد
و جريان مستمرّ، و تصوّرنا أنّ العمل بحكم الطبيعة أمر مقبول و واجب، فيمكننا اعتبار مجازيّة أي عمل ما.۱
... و ينتج من الكلام السابق أنّه لا يمكن غضّ النظر عن فرض «وجوب» أصيل و ابتدائيّ، و إنّ الأخلاق لها مبدأ منفصل في النتيجة عن «العلم»، و إنّ «الوجوبات» لا يمكن إرجاعها في اصولها إلى «الوجودات» و حتى العمل بالأحكام الفطريّة يمكن عدّه واجباً حين يكون لدينا مسبقاً أساس آخر يقول بوجوب العمل بمقتضى الفطرة و الخلقة، أي أنّ انتخاب الأحكام الفطريّة و رفض الأحكام غير الفطريّة (الوجوبات الاعتباريّة في اصطلاح المقالة السادسة للمذهب الواقعيّ = روش رئاليسم) هو نفسه محكوم لـ «وجوب» اعتباريّ أوّليّ لا يمكن توجيهه و تعليله على أساس الفطرة و مبناها، و ما لم يكن لدينا ذلك الوجوب فإنّها هي الاخرى لن تكتسب القاطعيّة و الإلزام من كونها فطريّة.٢
كان هذا خلاصة كلام صاحب مقالة «بسط و قبض تئوريك شريعت» في كتاب «دانش و ارزش» ردّاً على كلام الاستاذ العلّامة آية الله الطباطبائيّ قدّس الله سرّه في عدم انتزاع الاعتباريّات من الحقائق الخارجيّة و ضرورة الفصل و التفكيك بين لفظ «وجوب» و لفظ «وجود»؛ و مع أنّنا أوردناه بإيجاز و اختصار، إلّا أنّه مع ذلك قد حوى قدراً من الشرح و التفصيل لإيضاح جوانب الإشكال، و لئلّا يكون هناك قصور في تقريره و بيانه.
و أمّا كلامنا في هذا الشأن فهو أنّ صاحب المقالة المحترم لم يدرك أبداً مقولة العلّامة في «اصول فلسفه و روش رئاليسم» و لم يصل إلى كنه كلامه و قصده، فلم يشخّص أساساً حقيقة المعنى الاعتباريّ من الحقيقيّ،
ثمّ تصدّى - في كتابه الذي لم يضمّ على ضخامته إلّا القليل من المطالب - للانتقاد و الردّ على كلام العلّامة في المقالة السادسة بشأن الإدراكات الاعتباريّة، فخبط خبط عشواء.
و نرى أنفسنا مجبرين؛ لإظهار مواقع الخطأ و مواضع الانحراف؛ على إيراد بحث عن الاعتباريّات و انتهائها بالحقائق، لتتّضح متانة و رسوخ كلام الاستاذ العلّامة و تفاهة و ضحالة رأي المنتقد.
في معنى الاعتباريّات و قياسها مع الحقائق
فالحقائق عبارة عن الواقعيّات الموجودة في الخارج، بما فيها المادّيّات و الطبيعيّات و الموجودات الملكوتيّة المجرّدة، بما فيها من العلوم و المعارف الذهنيّة، التي لم تتحقّق على أساس فرض فارض و اعتبار معتبر.
أمّا الاعتباريّات فعبارة عن الأشياء التي محلّها و موقعها الذهن فقط، و المتحقّقة على أساس فرض فارض، بالشكل الذي تدور وجوداً و عدماً مدار الفرض و الاعتبار، فهي تكتسب تحقّقها الاعتباريّ بمجرّد الاعتبار، و ينتفي عنها أي تحقّق بمجرّد رفع اليد عن الاعتبار أو نقضه.
و بالطبع فإنّ لدينا قسماً ثالثاً غير هذين القسمين و هو الانتزاعيّات، و هذه ليست من الحقائق و لا من الاعتباريّات، بل تنشأ بواسطة انتزاع الذهن من الحقائق الخارجيّة، فلا تحقّق لها في الخارج أبداً، و كلّ ما هناك أنّ محلّها و مورد انتزاعها في الخارج، كما في الفوقيّة و التحتيّة.
فعنوان الفوقيّة، مثلًا فوقيّة سطح البيت نسبة إلى ساحته ليست شيئاً غير ذات السطح، فنحن لا نجد شيئاً غير نفس السطح، و غير سقف الغرفة الذي يعلوها باسم فوق، فما هناك هو نفس السطح، لكنّ ذهننا ينتزع من النسبة الخارجيّة بين سقف الغرفة و أرضيّتها عنواناً ندعوه بـ فوق.
و هذا العنوان محلّه الذهن لا الخارج، و مبدأ انتزاعه في الخارج، و هو
ليس اعتباريّاً لأنّ فوقيّة السقف نسبة إلى الأرض غير قائمة باعتبار الشخص المعتبر، فالسقف يعلو سطح الغرفة شئنا أم أبينا.
و نغضّ الطرف عن شرح و تفصيل الامور الانتزاعيّة باعتبارها لا ترتبط فعلًا بموضوع بحثنا الحاليّ و نقصر الكلام على الحقائق و الاعتباريّات.
إنّ الاعتباريّات باعتبارها من صنع و صياغته الذهن، و فلابدّ لحصولها من وساطة قوى الإدراك، سواء القوى الوهميّة و الخياليّة و الفكريّة، و بعبارة أوجز. العقل النظريّ، أم النفس الناطقة و النور المجرّد للروح الإنسانيّة التي نعبّر عنها بالعقل البسيط و الملكوت الأعلى و الناطقة القدسيّة و الكلمة الإلهيّة.
و مع أنّ قيام الاعتباريّات و قوامها في الذهن و أنّ قيامها باعتبار المعتبر، إلّا أنّها في نهاية المتانة و الإتقان، و كثيراً ما تكون بنفسها منشأ و مبدأ لحقائق كثيرة في الخارج، فطباعة أوراق العملة النقديّة مثلًا جعل القيم المختلفة لها أمر اعتباريّ يرتبط بقرار خزانة الدولة و رئيس الامور الماليّة، حيث يصدر الأمر منهما بطباعة الأوراق النقديّة و عرضها بقيم مختلفة.
فتكون هذه الأوراق النقديّة معتبرة مادام إمضاء المسؤول و الشخص المعتبر و إقراره لها باقياً، لكنّها تسقط عن الاعتبار بمجرّد سحب الرئيس المسؤول و مسؤول الخزانة إمضائهما أو إصدارهما قراراً بإلغائها، فتصبح أكداس الأوراق النقديّة الثمينة حينذاك بلا قيمة، و سيؤول مصيرها إلى المدفأة أو إلى ما شابه ذلك من الاستعمالات.
و لا يخضع اعتبار الرئيس المسؤول لها، و طبعها، و مقدار المطبوع منها، و تعيين قيمتها، و مدّة اعتبارها، و طرحها للتداول داخل الدولة أو في
الداخل و الخارج، للفوضى أو المزاجيّة؛ إذ لا بّد من حساب دقيق لتقدير ثروة المملكة من الذهب و الفضّة الموجودة في الخزينة أو ضمن أموال الدولة، و قيم المعادن المستخرجة، أو محصول اللؤلؤ المستخرج من البحر، و الأراضي الزراعيّة و البساتين، أو العمل و الجهود اليدويّة للعمال و الفلاحين، و كلّ ما يصدق عليه عنوان المال و يمكن حسابه بشكل العملة الصعبة، و بعد الحساب الدقيق لقيمة العملة الصعبة و أسعار البضائع و الذهب و الفضّة الخارجيّة و ملاحظة العوامل المهمّة الاخرى، كميزان الثروة و النقد عند الشعب، يقومون بتبديل ذلك المال في المعاملة إلى أوراق رسميّة معتبرة و يدعونها بأوراق العملة الماليّة، تسهيلًا للحمل و النقل و حفظاً للذهب و الفضّة و لجهات اخرى غيرها.
و هذا الحساب من الدقّة و الصحّة بالقدر الذي يحدّد الشخص المعتبِر و المعيِّن لقيم و أسعار الأوراق النقديّة بضرورات المحاسبة الاقتصاديّة، بحيث إنّه لا يجرؤ على طباعة و عرض ورقة نقديّة بقيمة خمسة تومانات أكثر أو أقلّ من المطلوب، و في حالة ثبوت هذا الأمر فإنّه سيحاكم على مخالفته هذه عند الحاكم و القاضي المسؤول. و للصكوك و الكمبيالات أيضاً نفس هذا الأمر الاعتباريّ.
و الطوابع البريديّة لها أيضاً نفس الشأن، فدائرة البريد تعمد لسهولة استلام النقود من الناس مقابل التزامها بإيصال رسائلهم و أماناتهم إلى مقاصدها إلى طباعة طوابع تُلصق على الشيء المرسَل بما يتناسب مع وزنه و بُعد مقصده و كونه من المطبوعات أو غيرها، فتقبل هذه الطوابع بمثابة إيصالات نقديّة، ثمّ تقوم هذه الدائرة - لتغطية ميزانيّتها الكلّيّة و رواتب موظّفيها و عمّالها و وسائل الحمل و النقل على اختلافها من الطائرة و السفينة و السيّارة و الدرّاجة الناريّة و الدرّاجة الهوائيّة و في بعض القرى من الحمار
و الحيوانات المستعملة للنقل - بحساب هذه الامور و تقسم مجموعها على جملة المحمولات، فتصدر طوابع بريديّة للنقل داخل المدينة بقيمة ريال واحد مثلًا، و للنقل إلى المدن الاخرى بقيمة خمسة ريالات و إلى خارج الدولة بأكثر من ذلك، و تقوم بتعيين و اعتبار و تثبيت هذه الأسعار و تطبع الطوابع تبعاً لذلك و تبيعها.
و حين تستلم دائرة البريد الطرود و تقوم بنقلها حسب تعهّدها و التزامها فإنّها تختم عليها بختم البطلان، أي أنّها تسقط تلك الطوابع من درجة الاعتبار و تلغي اعتبارها منها، لأنّ التزام دائرة البريد و تعهّدها كان فقط إيصال تلك الطرود إلى مقاصدها، و ستصبح في هذه الحال تلك الطوابع البريديّة غير ذات قيمة، فتستخدم لمعرفة تأريخ و اسم و صفات السلاطين المتوفّين؛ و تجمع في دفاتر و مجاميع تثير الاعتبار و الاتّعاظ، أو تُلقي مع المهملات في صندوق النفايات.
لقد كان الاعتبار و مدّة الاعتبار و زمانه و كيفيّته و قيمته محدودة و مشروطة، و حين يُختم عليها بختم البطلان فإنّها ستبطل جميعاً و تنهار دفعة واحدة، فليس في الأمر استبداد و لا إعمال للرأي الشخصيّ لرئيس دائرة البريد في هذه الاعتبارات، لا بلحاظ القيمة و لا بلحاظ مدّة الاعتبار، فهم يمتلكون حقّ طبع و بيع و تعيين قيم هذه الطوابع ضمن دائرة محدّدة مرتبطة بمصالح الدولة و نفقات دائرة البريد، و مع إنّ جميع أعمالهم هذه اعتبار محض، إلّا أنّه ليس اعتباراً جزافيّاً، فهم بحكم عقلهم و درايتهم و حسن إدارتهم و صدقهم و أمانتهم لا يملكون أن يطبعوا يوماً ما ولمرّة واحدة طابعاً واحداً بقيمة ريال واحد و يقوموا باعتباره من غير داع و سبب، و هم كذلك غير قادرين حتى في مورد واحد أن يقوموا بإبطال طابع واحد بقيمة ريال واحد و إسقاطه من الاعتبار و الختم عليه بالبطلان من غير داعٍ
و سبب.
يعتقد العلّامة بقيام كلّ اعتبار بحقيقة معيّنة
و لقد عمل آية الله العلّامة الطباطبائيّ قدّس الله سرّه في المقالة السادسة من «اصول فلسفه» التي بحث فيها في ثلاثين مسألة بشأن الاعتباريّات، على تشخيص محلّ و موضع الحقائق التي هي امور واقعيّة و حقيقيّة، و عيّن كذلك محلّ و موطن الاعتباريّات تبعاً لجعل وضع الشخص المعتبر في الذهن، و أوضح كالشمس أمر عدم ولادة العلوم الاعتباريّة من العلوم الحقيقيّة، و فصل جميع موارد «الوجوبات» عن «الوجودات»؛ لكنّه بيّن إنّ هناك رابطة و علاقة بين الاعتباريّات و الحقائق في موردَينِ:
المورد الأوّل: قيام المعاني الوهميّة بالمعاني الحقيقيّة؛ و كانت عبارته:
إنّ كلًّا من هذه المعاني الوهميّة قائمة على حقيقة معيّنة، أي أنّنا حين نضع أ يّ حدّ و هميّ إلى مصداق ما، فإنّ له مصداقاً حقيقيّاً آخر ينشأ منه، فلو اعتبرنا مثلًا إنساناً ما كالأسد، فإنّ هناك أسداً حقيقيّاً أيضاً يرجع إليه حدّ ذلك الأسد.۱
محل الامور الاعتباريّة في الذهن، و لها وجود خارجيّ
و هذه المقولة متينة جدّاً، لأنّ هذا الأمر الاعتباريّ القائم بالقوى الوهميّة و الخياليّة إن استند إلى أمر حقيقيّ فإن ذلك سيثبت مطلوبنا و مرادنا، أمّا إن استند إلى أمر وهميّ و خياليّ آخر فإنّه يستلزم الدور و التسلسل، و سيفتقد معناه بغير ذلك القيام، لأنّ الصور المنطبعة في النفس هي إمّا من الخارج أو من الذهن، و الأخيرة أيضاً تحقّقت سابقاً بانعكاس صورة خارجيّة.
و من هنا تصحّ قاعدة. كُلُّ مَا بِالعَرَضِ لَا بُدَّ وَ أنْ يَنْتَهِي إلى مَا بِالذَّاتِ. و قاعدة. لِكُلِّ مَجَازٍ حَقِيقَةٌ.
ذلك لأنّ فرض موجود عرضيّ قائم بذاته بدون فرض الذات محال، و فرض استعمال المجاز - و هو الخروج من دائرة الاستعمال الحقيقيّ - بدون فرض وجود الحقيقة محال أيضاً.
و قد بيّن الأساتذة العظام في اصول الفقه هذا البحث بالتفصيل، و أوضحوا إنّ الإنشاء في مقابل الإخبار عبارة عن الإيجاد و الإبداع و الخلق في عالم الذهن، فكما أنّنا نستطيع في بعض الموارد إيجاد شيء في الخارج و منحه لباس الوجود و التحقّق، فكذلك يمكننا إنشاء و إيجاد عين ذلك الأمر الخارجيّ في الذهن، و الحكم القطعيّ بوجوده في الخارج. فمعنى قول البائع في المعاملات؛ بعتك هذا بالمبلغ الفلانيّ. أنّني نقلتُ إليك هذا الشيء في عالم الاعتبار و ملّكتك إيّاه مقابل انتقال المبلغ الفلانيّ في هذا الاعتبار و الإنشاء إلى ملكي و حيازتي.
لكأنّ هذا النقل و التحويل قد حصل في الخارج و كأنّني قد أوجدتُ هذا الأمر الخارجيّ في عالم ذهني و اعتباري، و قد ارتضى العقل و الشرع هذا الاعتبار، أي التحقّق الخارجيّ في عالم الوهم و الخيال.
و في صيغة النكاح حين تقول المرأة للرجل. أنْكَحْتُكَ نَفْسِي، فإنّ ذلك يعني في عالم الاعتبار أنّها جعلت نفسها في الخارج فراشاً له ودعته إلى نكاحها و وطئها! و الرجل حين يقبل بهذا القول فهو إنّما يقبل هذا المعنى.
و بهذه الصيغة يتحقّق النكاح الخارجيّ، لا النكاح الذهنيّ و التخيّليّ، و عليه فإنّ إنشاء صيغة النكاح هي أمر اعتباريّ، و هو اعتبار يصنعه الذهن لما في الخارج، فالمرأة تجعل نفسها في عالم الاعتبار حقيقة و فعلًا موطوءة
للرجل في الخارج، و ينبغي عند إجراء صيغة النكاح الالتفات إلى هذا المعنى، لأنّ النكاح بمعنى الوطء لا بمعنى العقد.
و الأمر كذلك بالنسبة إلى الحاكم الشرعيّ الذي يحكم أحياناً بدخول الشهر بالرغم من عدم رؤيته لهلال أوّل الشهر و مع وجود الشكّ لديه، لكنّه يحكم بذلك استناداً إلى القرائن الخارجيّة أو لشهادة رجلينِ عادلَينِ.
و معنى ذلك قوله: إنّني أجعل و أخلق في عالم اعتباريّ و إنشائيّ هلالًا في افق السماء؛ و بالطبع فهو غير الخلق الخارجيّ الحقّيقيّ الذي من الواضح أنّه أمر يفوق قدرته، و غير خلقه إيّاه في عالم نفسه و ذهنه، لأنّ رؤية الهلال الذهنيّ لا توجب دخول أوّل الشهر، بل هو هلال خارجيّ حقيقيّ، كلّ ما في الأمر أنّه في عالم الذهن و الاعتبار، و هو معنى حكم الحاكم برؤية الهلال و بدخول الشهر.
و باعتبار إمضاء الشرع المقدّس لهذا الحكم فإنّ حكم الحاكم برؤية الهلال بمثابة و منزلة الرؤية الخارجيّة للهلال و قائم مقامها و حائز منزلتها و رتبتها.
و هذه المسألة دقيقة جدّاً، حيث إنّ الإنشاءات و الاعتبارات في خصوص الذهن لا أثر خارجيّ لها، و هذه الامور لا تتحقّق في الخارج، فمحلّها إذاً في الذهن مع الحكم بتحقّقها في الخارج. و جميع الامور الاعتباريّة التكليفيّة من وجوب و استحباب و تحريم، و الامور الوضعيّة مثل الضمان و الصحّة و الفساد هي من هذا القبيل، حيث إنّ اعتبار هذه المعاني بدون وجود حقيقتها في الخارج سيكون بلا معنى.
المورد الثاني: تأثير الحقائق الخارجيّة في إيجاد المعاني الاعتباريّة الذهنيّة، و هذه الاخرى مسألة قد أثبت العلّامة تحقّقها بوضوح.
و مع أنّ الحقائق الخارجيّة التي يعبّر عنها بالمسائل العلميّة و التي
تتّخذ لنفسها عنوان الوجود، هي غير المسائل الاعتباريّة التي يعبّر عنها بعنوان الوجوب، و أنّ المسائل العلميّة و الحقائق الخارجيّة لا تقع بأيّ وجه من الوجوه في طريق ولادة المسائل الاعتباريّة، فلا يمكن بألف مسألة علميّة استخراج أمر اعتباريّ واحد بصورة البرهان، لكنّ مسائل العلم تقع في طريق الحصول على الحكم الاعتباريّ.
فبعد اطّلاع نفس الإنسان على المسائل العلميّة فإنّه يجعلها دوماً صغرى البرهان، ثمّ يضع حكماً عقليّاً يرتّبه بنفسه بعنوان كبرى المسألة، فيشكّل منهما برهاناً صحيحاً و يصل إلى النتيجة المطلوبة.
فالصغرى مثل: تناول السمّ موجب لزوال الحياة؛ و الكبرى مثل:
كلّما أوجب زوال الحياة يجب اجتنابه. و نتيجتهما. أنّ تناول السمّ لازم الاجتناب.
مقدّم چون پدر، تالي چو مادر | *** | نتيجه هست فرزند أي برادر۱ |
و ما ذكره العلّامة هو أنّ الاعتباريّات لا تولد من الحقائق، لا أنّ الحقائق لا يمكن الاستفادة منها لاستنتاج برهان معيّن بأن توضع كمقدمة له.
و بالطبع فإنّ البرهان الذي يشكّل أحد مقدّماته أمر اعتباريّ، سيكون اعتباريّاً أيضاً بلحاظ أنّ النتيجة تابعة لأخسّ المقدّمتَينِ.
فلا يمكن الاستعانة بالمقدّمات الاعتباريّة - سواء في الصغرى أم في الكبرى - لاستنتاج مسألة فلسفيّة و علميّة، و ممّا لا شكّ فيه أنّه يمكن استنتاج أمر اعتباريّ بطريقة البرهان من مقدّمات فلسفيّة و علميّة مقدّمتها
الاخرى أمر اعتباريّ، و هناك مسألة من المسائل العلميّة كمقدّمة للبرهان فعلًا في الكثير من نتائج الامور الاعتباريّة و الأحكام و القوانين.
فمقولة العلّامة الطباطبائيّ في أنّ الأحكام الفطريّة عبارة عن الأحكام التي أودعها نظام الخلقة و الطبيعة في طينة الإنسان فهي التي تيسّر اسلوب حركة الإنسان في سيره في مدارجه الكماليّة، هي من أعلى المقولات و أكثرها منطقيّة. لأنّ الفطرة و الطينة - كما سيأتي تفصيله - عبارة عن البنية الوجوديّة المادّيّة و المعنويّة و تجهيز القوى و الاستعدادات لمنح الفعّاليّة للنفس المبهمة و الهيولى المستعدّة و المحضة للوصول إلى غاية الخلقة و القصد من الإيجاد.
فالاطّلاع على هذه التجهيزات و الامور الطبيعيّة هي من المسائل العلميّة التي يتوصّل إليها الفرد بواسطة العلم، و حكم العقل بوجوب استخدامها هو حكم اعتباريّ نتيجته وجوب إعمال القوى المادّيّة و الطبيعيّة و الروحيّة في مجرى الخلقة و مسار الحياة.
لا نقرّ باعتباريّة مسائل العلم، كما لا نضع الامور الاعتباريّة محلّ مسائل العلم أبداً، فلكلٍّ منهما مقامه و مكانه الخاصّ، لكنّنا نقول و نؤكّد كثيراً على أنّنا لا نمتلك غير حكم العقل طريقاً لاستخدام المعلومات و الغرائز و المسائل الفطريّة. فهو الحكم الذي تجعله النفس و تعتبره للمسائل المستحصلة عن طريق العلم، لا أن تكون المعلومات الفطريّة و الغرائز بنفسها علّة تامّة للعمل، أو أن يكون مجرّد عنوان الفطرة و نظام الطبيعة كافياً لوحده للعمل، بل حين تتعرّف النفس الإنسانيّة على مسائل العلم بشأن الفطرة، فإنّها تقوم بإصدار حكم عقليّ بوجوب اتّباعها و السير على نهجها.
و قد أشار العلّامة بوضوح إلى هذه المرحلة في أنّ عمل الطبيعة
و الفطرة لا يكفي لوحده في استخدامها، بل ينبغي ضمّ الاختيار و الإرادة لذلك، فإن أوكلنا الزمام عند ذلك بيَدِ العقل النظريّ و الشعور الإنسانيّ الذي تشترك فيه معنا الحيوانات في كثير من الجهات، فإنّ هناك احتمالًا كبيراً في انحراف سعي الإنسان عن طريق الفطرة و نهجها، أمّا إن أعطينا الزمام بيَدِ العقل الإنسانيّ مِنْ حَيْثُ هُوَ إنسَانٌ فإنّنا نضمن تحقّق الحكم الفطريّ و قيام العقل باستخدام هذه الأجهزة للوصول إلى كمال الإنسانيّة، و حينذاك سيقع حكم العقل موافقاً لمسائل الفطرة و تجهيزات الخلقة، و هو معنى: فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها.۱
ولو كانت الغرائز و الفطرة و مسائل الطبيعة كافية لوحدها للعمل، فعلامَ سنحمل هذه الانحرافات و الأخطاء؟
أمّا قولكم إنّ هذه الوجوبات تحتاج إلى وجوب ابتدائيّ ترجع إليه فقول صائب نؤيّده و نوافق عليه، لكنّ هذا الوجوب الابتدائيّ ليس إلّا حكم العقل المستقلّ الإنسانيّ المنزّه عن شوائب الأوهام و الوساوس، و لا يمكن أن يكون شيئاً آخر غيره، فإن لم يكن هذا العقل في الإنسان لأصبح الأمر في: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً،٢ لغواً لا فائدة فيه.
فهذا العقل هو الذي يصوغ من الإنسان إنساناً، و به عرّف الله نفسه بواسطة لسان الباطن و لسان الأنبياء، و هو الذي يقول: ينبغي لهذا الوجوب الابتدائيّ أن يكون حكم العقل و ليس حكم الباري الموجّه إلى النفس التي تفتقد العقل و التي لا ينفع معها ألف وجوب و وجوب.
لطالما قلنا، و نقول: إنّ مسائل الفطرة تحتاج في سنّة التكوين إلى
وجوب لنقلها إلى حيّز العمل، و ينبغي أن يكون ذلك الوجوب أبداً من نتاج العقل و ملازماً لإنسانيّة الإنسان. فهل تعرفون مبدأ و منشأ غير هذا الوجوب العقليّ؟ هاتوه و أرونا إيّاه فنحن في الانتظار!
مؤلّف «دانش و ارزش» ينفي حجّيّة القياس القائم على الرهان العقليّ
و يتّضح من هذا الكلام أنّ حكم المعترض بهذه العبارة:
و نقول هنا: إنّه لا يمكن بألف برهان عقليّ تشكّل مقدّماته الإدراكات الحقيقيّة «وجود» و «عدم» من إثبات حُسن شيء أو قبحه، و لا إثبات ملكيّتنا لشيء ما، و لا الدلالة بحكم العقل على رئاستنا لجماعة ما؛ فالذين يسعون عبثاً ليثبتوا بالبرهان للآخرين أنّ فعل العمل الفلانيّ حسن أو قبيح، إنّما يسيرون في متاهة و يحاولون عبثاً.۱
هو حكم واهٍ و ليس أكثر من مغالطة و سفسطة، و ذلك من خلال اعترافكم بالقول. بالبرهان العقليّ! و لو وصلت النوبة إلى البرهان العقليّ لصارت جميع المطالب ثابتة راسخة. و إنّ جميع نبوّة الأنبياء و حجّيّة القرآن و توحيد الربّ جلّ و علا إنّما تعتمد على العقل. و لو فُرض زوال حجّيّة البرهان العقليّ فسينهار الصرح الشامخ للعلم و المعرفة تبعاً له و سيصبح العالم داراً للمجانين و مجمعاً لشملهم.
فلو كنتم تدرسون في كلّيّة جميع معلّميها و مدرّسيها مجانين لا عقل لهم، فهل تعلمون أي بلاءٍ كان سيحلّ بكم، مهما كانت جميع الكتب النفيسة و الخطّيّة و القديمة الموجودة فيها في أعلى درجات الإتقان؟
و عليه، فلا مفرّ لتركيب القياس البرهانيّ و الاستثنائيّ لأحكام الصواب و الخطأ و المحاسن و القبائح غير استخدام جميع العلوم بعنوان صغرى القياس و جعل حكم العقل عموماً بعنوان كبرى القياس، و أخيراً
استحصال النتيجة المطلوبة؛ و الأمر كذلك في القياسات الاستثنائيّة.
أمّا ما نُقل عن هيوم فهو أمر ضعيف جدّاً و لا يمكن مقارنته بالتحقيقات الرائعة للعلّامة قدّس سرّه.
لقد كان أقصى وسع جي أي مور و نهاية إدراكه أن يفهم أنّ معنى الحسن بسيط لا يتجزّأ، و كان هذا من العجب العجاب!!
و كان من الحريّ بهم أن يسألوا أحد طلبتنا المبتدئين في مستوى الحاشية عن ذلك ليبيّن لهم بسهولة أنّ الجيّد و السيّئ، و الحسن و القبح، و كثير من الكلمات عامّة البلوي، كالعامّ و الخاصّ، و المطلق و المقيّد، باعتبارها بسيطة و خالية في جوهرها من التركيب، فتعريفها بتعريف شامل للحدّ و الرسم، تامّاً كان أو ناقصاً أمرٌ محال، و لهذا فإنّ جميع التعريفات التي اعطيت لها كانت من باب شرح الاسم.
التفسير الخاطئ لآية الفطرة من قبل مؤلّف كتاب «دانش و ارزش»
التنبيه السادس: لقد أراد صاحب مقالة «بسط و قبض تئوريك شريعت» في الفصل الرابع من كتابه «دانش و أرزش»؛ بعد قيامه في الفصول السابقة - حسب نظره - بإثبات عدم إمكان تشكيل برهان عقليّ في مسائل الحسن و القبح، و القيم، و الجودة و الرداءة، و بشكل عامّ في جميع الاعتباريّات، متصوّراً أنّه قد صنع هوّة أبديّة تفصل بين الواقعيّة و الأخلاق،۱ أن يُشير إلى الوجوب الأوّليّ الذي يمثّل أساس باقي الوجوبات؛ و لأنّه قد فسّر أوّلًا آية الفطرة المباركة باسلوبٍ خاصّ لا ينطبق على حقيقة الأمر، و لادّعائه ثانياً أنّ الوجوبات في القرآن الكريم غير مستفادة من مسائل الطبيعة و الفطرة، و لم تعتمد أيّاً من أحكام هذا الكتاب السماويّ المقدّس على أساس المسائل العلميّة و الواقعيّة،
و لم يستخدم الحقائق بشكل جزء البرهان العقليّ المنطقيّ لاستنتاج أحكامه التي يصدرها؛ و لابّد لنا هنا من تقديم بحث مختصر بشأن هذين الموضوعين:
أمّا بشأن آية الفطرة:
بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْواءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَ ما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ ، فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ، مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَ اتَّقُوهُ وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ لا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ، مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَ كانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ.۱
فقد أكّدت هذه الآية صراحة على لزوم متابعة الفطرة الإنسانيّة، لكنّ كاتب المقالة قال أوّلًا على أساس عدم استخدام حكم العقل في طريق انتاج قياس الأحكام الفطريّة:
إنّ هناك فارقاً بين قضيّة. أنّ الفطرة تدعو إلى شيء معيّن. (خبر) و قضيّة. يجب اتّباع ما تدعو الفطرة إليه. (أمر) هو بقدر الفاصل بين العلم و القيم، و إنّ صنع جسر للعبور من أحدهما إلى الآخر هو ذلك الخطأ الخالد لجميع أنواع الأخلاق العلميّة. و بهذا اللحاظ فحتّى لو كانت الفطرة البشريّة داعية إلى الدين و مجبولة على التوحيد، فلا يكفي ذلك لوحده في الدلالة على وجوب الاتّجاه للدين أو اتّباع التوحيد.
و لو صحّ احتواء الآية المذكورة على أمر كهذا مبتنٍ على هذا الاستنتاج لصحّ كلام الذين ينظرون من منظار الأخلاق العلميّة، و الحاملين في قلوبهم وسوسة الاعتبار الحقيقيّ؛ ولكن يجب القول
إنصافاً إنّ ذلك ليس صحيحاً.۱
و ثانياً أخذه كلمة الفطرة في الآية المباركة حسب احتمال الفخر الرازيّ و الشيخ الطوسيّ خلافاً لأكثر المفسّرين بمعنى الدين و المنهج لئلّا تدلّ على لزوم متابعة الفطرة الأوّليّة و الخلقة و البنية الطبيعيّة للإنسان.
... و لا شأن لنا بالجدال حول الاحتياجات و الدوافع الفطريّة الإنسانيّة، و لا ننكر أنّ الفطرة الإنسانيّة حسب التعليمات الإسلاميّة داعية إلى الخالق، لكنّ ما نقوله إنّه لا يمكن القول. لأنّ الله متبوع و مطلوب، إذاً يجب طلب الله؛ فهذا الاستنتاج الأخير هو الخاطئ بنظرنا منطقيّاً.٢
و جوابنا على المطلب الأوّل هو نفس كلامنا السابق من أنّ العقل يحكم بضرورة متابعة الفطرة، لا أن تكون الفطرة بنفسها محرّكة للإنسان، و إلّا لما تعلّق به الأمر و التكليف. فالطبيعة و الفطرة هنا (أي العلم) ليست واسطة لنشوء القيم و الاعتبار، و لم تُتخذ جسراً لذلك؛ بل إنّ حكم العقل المستقلّ الناجم عن القياس المنطقيّ هو المشير بضرورة متابعة هذا العلم، و الموجب بالبرهان القطعيّ إلى لزوم متابعة الفطرة، فهذه ليست ولادة الأخلاق و الاعتبار من العلم، بل إنشاء حكم النفس بلزوم متابعة مسائل العلم.
و أمّا جوابنا على المطلب الثاني، أي تفسير آية الفطرة المباركة فمُبتنٍ على علمنا بأنّ معنى الفطرة من مادّة فَطَرَ التي استخدمت مراراً في القرآن الكريم، مثل: فَطَرَهُنَ٣ - فَطَرَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ٤ - السَّماءِ
مُنْفَطِرٌ بِهِ۱ - إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ.٢
فهي تعني في جميع هذه الموارد الإبداع و الخلق بلا مثيل سابق.
معنى الفطرة لدى الراغب الأصفهانيّ و ابن الأثير و الزمخشريّ
و أمّا صيغة الفِطْرَة على وزن فِعْلَة فتدلّ على النوع، مثل جِلْسَة، أي الكيفيّة الخاصّة للجلوس، لأنّ هذا الوزن يستخدم في العربيّة لبيان النوع و الهيئة؛ كأن تقول: جَلَسْتُ جِلْسَةَ زَيْدٍ.
و عليه، فيصبح معنى الفطرة في الآية: فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها: ذلك النمط الخاصّ من الخلقة الذي خلق اللهُ الإنسان عليه؛ و هي تلك الخصائص و الآثار التي لا تنفكّ عن الإنسان، فقد خلق اللهُ الإنسان مع تلك الخواصّ و الخصائص و السجايا الأخلاقيّة و الهداية للتكامل الخاصّ، و لم يكن خلقه ذاك خلقاً مجرّداً، بل ابتداعاً و إيجاداً و تصويراً على غير مثال سابق و شبيه.
يقول ابن الأثير. جاء في رواية عن ابن عبّاس: قال: مَا كُنْتُ أدْرِي مَا فاطِرِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ، حتى احْتَكَمَ إلى أعْرَابِيَّان٣ في بِئْرٍ؛ فَقَالَ أحَدُهُمَا: أنَا فَطَرْتُهَا. أي ابْتَدَأتُ حَفْرَهَا.٤
لقد كان ابن عبّاس رجلًا عربيّاً عالماً و فصيحاً، و لم يكن أعجميّاً ليُحمل عدم معرفته معنى الفطر على عدم اطّلاعه على لغة العرب، بل يتّضح من جهله به و مجيء الأعرابيّ به في كلامه أنّ استعمال هذا اللفظ باشتقاقاته لم يكن معهوداً في اللغة العربيّة و أدبها و أشعارها، و كان
استعماله من مختصّات القرآن الكريم. و اهتمّ القرآن الكريم بشكل خاصّ بهذه الكلمة التي أوضح بها في كلّ موضع أنّ صنع الربّ الخالق الحكيم كان إبداعاً و صنعاً على غير شبيه، و كذلك إبداع عوالم الوجود من خلق السماوات و الأرض و سائر الموجودات. يقول الراغب الأصفهانيّ في «المفردات»:
أصْلُ الفَطْرِ. الشَّقُّ طُولًا ... وَ فَطَرَ اللهُ الخَلْقَ؛ وَ هُوَ إيجَادُهُ الشَّيْءَ وَ إبْدَاعُهُ عَلَى هيئَةٍ مُتَرَشِّحَةٍ لِفِعْلٍ مِنَ الأفْعَالِ.
و عليه، فإنّ قوله تعالى: فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها إشارة إلى أنّ الله تعالى ركّز معرفته في الإنسان و أوجدها إبداعاً. فـ فِطْرَتَ اللهِ عبارة عن قوّةٍ منه أودعها في الناس لمعرفة الإيمان و جبلها في طينتهم، و لذا فإنّهم حين يُسألون مَنْ خَلَقهم؟ يقولون: الله: وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ.۱
و قال تعالى: «الذي فَطَرَهُنَّ»، «وَ الذي فَطَرَنَا»؛ أي أبْدَعَنَا وَ أوْجَدَنَا يصحّ أن يكون الانفطار في قوله: السَّمَآءُ مُنفَطِرٌ بِهِ إشارة إلى قبول ما أبدعها و أفاضه علينا منه.٢
يقول ابن الأثير في «النهاية» في مادّة فَطَرَ:
ورد في الحديث النبويّ: كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الفِطْرَةِ؛٣ الفَطْرُ
الابْتِدَاءُ و الاخْتِرَاعُ. و الفِطْرَةُ. الحَالَةُ مِنْهُ، كالجِلْسَةِ والرِّكْبَةِ.
و المَعْنَى أنَّهُ يُولَدُ عَلَى نَوْعٍ مِنَ الجِبِلَّةِ وَ الطَّبْعِ المُتَهَيِّئ لِقَبُولِ الدِّينِ؛ فَلَوْ تُرِكَ عَلَيْهَا لَاسْتَمَرَّ عَلَى لُزُومِهَا وَ لَمْ يُفَارِقْهَا إلى غَيْرِهَا. وَ إنَّمَا يَعْدِلُ عَنْهُ مَنْ يَعْدِلُ لآفَةٍ مِنْ آفَاتِ البَشَرِ وَ التَّقْلِيدِ. ثُمَّ تَمَثَّلَ بِأوْلَادِ إليه ودِ وَ النَّصَارَى في اتِّبَاعِهِمْ لآبَائِهِمْ وَ المَيْلِ إلى أدْيَانِهِمْ عَنْ مُقْتَضَى الفِطْرَةِ السَّلِيمَةِ.
وَ قِيلَ. مَعْنَاهُ كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى مَعْرِفَةِ اللهِ وَ الإقْرَارِ بِهِ. فَلَا تَجِدُ أحَدَاً إلَّا وَ هُوَ يُقِرُّ بِأنَّ لَهُ صَانِعاً، وَ إنْ سَمَّاهُ بِغَيْرِ اسْمِهِ، أوْ عَبَدَ مَعَهُ غَيْرَهُ.
ثمّ يقول: وَ في حَدِيثِ عَلِيٍّ: «وَ جَبَّارُ القُلُوبِ عَلَى فِطْرَاتِهَا». أي عَلَى خِلَقِهَا؛ جَمْعُ فِطَرٍ، وَ فِطَرٌ جَمْعُ فِطْرَةٍ؛ أوْ هي جَمْعُ فَطْرَة كَكَسْرَةٍ وَ كِسَرَاتٍ بِفَتْحٍ طَاءِ الجَمْعِ، يُقَالُ. فِطْرَاتٌ و فِطَرَاتٌ و فِطِرَاتٌ.۱
و قد سار الزمخشريّ في «أساس البلاغة» على هذا النهج، فبعد بيانه معنى فَطَرَ اللهُ الخَلْقَ، وَ كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الفِطْرَةِ؛ أي على الجبلّة، يقول: وَ قَدْ فَطَرَ هَذَا البِئْرَ. وَ فَطَرَ اللهُ الشَّجَرَ بِالوَرَقِ فَانْفَطَرَ بِهِ وَ تَفَطَّرَ.
وَ تَفَطَّرَتِ الأرْضُ بِالنَّبَاتِ. وَ تَفَطَّرَتِ اليد وَ الثَّوْبُ. تَشَقَّقَتْ ...٢ إلى آخره.
كان هذا تحقيقاً بشأن المعنى اللغويّ للفطرة و تفسير الآية المباركة، و قد اتّضح أنّ معنى الفطرة بمعنى الخلق من العدم و الإيجاد من العدم المحض، و الإبداع و الاختراع على غير مثال سابق. و لا حيلة و لا مهرب
من هذا المعنى و المفهوم من آية الفطرة حسب أقوال أساطين العلم و المتبحّرين بالعربيّة و آدابها؛ و إذا ما أخذ البعض كلمة الفطرة في هذه الآية بمعنى الملّة و السنّة و الدين فإنّ ذلك كان أيضاً بلحاظ نفس معنى الخلقة و السجايا الطبعيّة و الروحيّة التي أنشأ الله سبحانه الملّة و الشريعة عليها.
و يتّضح أيضاً بهذا البيان أنّ ما أورده المعترض في هذا البحث فراراً من الأمر الاعتباريّ و استناداً إلى آية الفطرة حيث يقول:
«أنّ العلوم لا تمنحنا إلّا النواهي لا الأوامر، و حين نعلم النواهي فإنّنا سنعلم الواجبات أيضاً بالملازمة».۱ و جوابنا عليه هو أنّ هذا الكلام ليس إلّا دوراناً في حلقة مفرغة و لن يؤدّي إلّا إلى نفس النتيجة، كمن يدير اللقمة في يده ما شاء من المرّات ثمّ يضعها في النهاية في فمه؛ فكِلا الوجوب و النهي أمر اعتباريّ، فإن لم يجُز الأمر في الوجوبات فهو كذلك في النواهي فلا تغفل.
كان هذا بحثنا عن الموضوع الأوّل و الإشكال الوارد على صاحب كتاب «دانش و ارزش» (=العلم و القيم) في تفسير آية الفطرة؛
آيات قرآنيّة تشير إلى استناد الأوامر و الأخلاقيّات على المسائل
و أمّا بخصوص الموضوع الثاني بشأن ادّعائه أن ليس لدينا آية قرآنيّة تأمرنا بشيء أو تنهانا عن شيء حسب مبنى المسائل العلميّة و عن طريق الاستنتاج العلميّ، و بكلمة أوجز أنّه لا يمكن لمقدّمات المسائل الفلسفيّة و الطبيعيّة أن تكون طريقاً للوصول إلى الأحكام الشرعيّة و المواعظالإلهيّة القرآنيّة؛ فإنّنا نجد - رغم ادّعائه هذا - الكثير من الآياتٍ القرآنيّة من هذا القبيل، و نكتفي بذكر بعضها كأمثلة.
۱ - أَ لَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ.۱
فانسياب الفلك على سطح الماء من مسائل العلم، و نتيجتها - أي لزوم الصبر و الشكر - من الأخلاق.
٢ - وَ مِنْ آياتِهِ الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ ، إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ.٢
فحركة السفن العملاقة على سطح الماء بحركة الرياح و توقّفها إثر سكون الرياح من مسائل العلم، و هي تدعو في النتيجة إلى الاستقامة و الصبر الوافر و الشكر الكثير، أي الأخلاق.
٣ - إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَ الْفَتْحُ ، وَ رَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً ، فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَ اسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً.٣
فالنصر و الظفر الإلهيّ و دخول الناس أفواجاً في الإسلام من مسائل العلم، يستلزم على إثره تسبيح رسول الله و حمد الله و طلب الغفران و هي من مسائل الأخلاق.
٤ - وَ إِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ ، وَ إِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ ، وَ إِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكافِرِينَ ، وَ إِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ ، فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ.٤
تذكرة القرآن للمتّقين، و علم الباري بالمكذّبين، و حسرته للكافرين، و كونه في الثبوت و التحقّق حقّ اليقين، كلّ ذلك من مسائل العلم. و تسبيح رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم باسم ربّه العظيم
المترتّب عليه بفاء الترتيب، و الناتج من ذلك العلم؛ هو عبارة عن الأخلاق.
٥ - ... أَ فَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ، أَ أَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ، لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً فَلَوْ لا تَشْكُرُونَ، أَ فَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ، أَ أَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ، نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً وَ مَتاعاً لِلْمُقْوِينَ، فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ.۱
فظهور الماء على سطح الأرض من هطول المطر، و تحليته و عذوبته، و ظهور النار من الشجر لرفع حوائج المحتاجين لها، كلّها من مسائل العلم؛ و تسبيح رسول الله تبعاً لها من مسائل الأخلاق.
٦ - ... وَ أَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ ، فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ ، وَ تَصْلِيَةُ جَحِيمٍ ، إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ ، فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ.٢
فمكان و منزلة المقرّبين من الباري سبحانه و هو الرَوْح و الرَيْحان و جنّة النعيم، و السلام الذي يقترن به أصحاب إلى مين، و الحميم و معادن جهنّم المصهورة، و استقرار المكذّبين الضالّين في الجحيم، و ثبوتها و حقّانيّتها هي جميعها من مسائل العلم، و في النتيجة أمر الخالق سبحانه رسوله بتسبيح اسم ربّه العظيم مسألة أخلاقيّة.
۷ - وَ لَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَ ما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ ، فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَ سَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَ قَبْلَ الْغُرُوبِ ، وَ مِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَ أَدْبارَ السُّجُودِ.٣
فخلق السماوات و الأرض و ما بينهما في يسر و سهولة في ستّة أيّام من مسائل العلم، و على إثرها وجوب الصبر من قبل رسول الله و أمره به مقابل كلام المشركين غير المستساغ، و تسبيحه قبل طلوع الشمس و قبل غروبها و قدراً من الليل و أدبار السجود جميعها من مسائل الأخلاق، و من الاعتباريّات الأخلاقيّة المترتّبة على الحقائق.
۸ - وَ لَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكانَ لِزاماً وَ أَجَلٌ مُسَمًّى ، فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَ سَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَ قَبْلَ غُرُوبِها وَ مِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَ أَطْرافَ النَّهارِ لَعَلَّكَ تَرْضى.۱
فلأجل سبق الكلمة الإلهيّة التكوينيّة و الإرادة الحتميّة السبحانيّة و الأجل المسمّى الذي قدّره الله سبحانه، و عدم لزوم العذاب و تحقّقه في الدنيا قبل الموت من المسائل العلميّة؛ و صبر رسول الله و احتماله لأقوال المعاندين، و تسبيحه و حمده خالقه قبل طلوع الشمس و قبل غروبها وراء الافق، و آناء من الليل و في أطراف النهار هي كلّها من الأخلاقيّات و الأوامر الإلهيّة الاعتباريّة و المترتّبة على مسائل العلم تلك.
٩ - وَ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً وَ النَّوْمَ سُباتاً وَ جَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً.٢
إنّ جَعْل الليل مظلماً في حكم اللباس و الستر، و النوم باعثاً على الهدوء و الراحة، و جعل النهار مضيئاً للعمل و النشاط من مسائل العلم، و استراحة الإنسان ليلًا و سعيه و نشاطه نهاراً من الأخلاق.
۱۰ - و قد وردت آيات كثيرة في القرآن الكريم بشأن الرجل
و المرأة و تكاليفهما المختلفة حسب اختلاف البنية الطبيعيّة و المزاج و النظام الوجوديّ، تتعلّق بمسائل النكاح و الطلاق و الميراث و النفقة و الرضاع و العدّة و كيفيّة العبادة، كاجتناب الصلاة و الصيام أيّام الطمث، و وجوب الحجاب من الرجال من غير المحارم و غيرها، و هي تدلّ بأجمعها على اختلاف هذه الأحكام على أساس الاختلاف في البنية الوجوديّة و الطبيعيّة لهما.
و عليه، فإنّ اختلاف البنية و النظام المادّيّ و الروحيّ للرجل و المرأة هو من مسائل العلم، و ترتّب الأحكام المختلفة على ذلك من مسائل الأخلاق، و قد استخدمت تلك المسائل العلميّة في هذه الآيات بشكل واضح في قياس إجراء الأحكام الأخلاقيّة و الأمر و النهي و الضمان و الملكيّة و غيرها، حيث إنّها جميعاً من الاعتباريّات.
و لا كلام لدينا في التقييم و الاعتبار، فعاقبة الأمر أنّ الناس يُساقون إلى الجنّة على أساس مقدار التقوى و الأمر الصالح، الرجل و المرأة على حدٍّ سواء:
مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَ لَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ.۱
ولكنّ الكلام حول اختلاف الأحكام تبعاً لمبنى اختلاف البُنية الوجوديّة، أي اختلاف مسائل الأخلاق و تفاوت الاعتبار على أساس تفاوت و اختلاف مسائل الطبيعة و العلم، و لا شكّ و لا تردّد في هذا الأمر، مع ذلك فقد كان لمؤلّف كتاب «دانش و ارزش» خبط و اشتباه فيه، فقد تنكّب عن الجادّة في هذه المسألة البيّنة فقال: لا شأن لنا بأيّ لحاظٍ كان
اختلاف مسائل المرأة و الرجل، فما هو موجود فعلًا تساويهما في القيمة التقوائيّة. و نورد عين عبارته ليتّضح خلطه و مغالطته للعيان:
و من هنا ينبغي العلم بأنّ اختلافات الحقوق و الواجبات بين الرجل و المرأة مثلًا لم يكن بسبب الاختلافات في الجسم و الطبع بنظر القرآن في تقييمه لذلك الاختلافات.
فما ميّز بين حقوق الرجل و المرأة أساساً هو النظرة الواقعيّة الأخلاقيّة و العزم على اجتناب التكليف بما يفوق الطاقة و التحمّل، فلم تُفرض على كلّ من الرجل و المرأة واجبات تفوق حدود طاقتهما، و هذا هو أساس نشوء اختلاف حقوقهما.
و لا زال هناك الكثير ممّن يتصوّر أنّ مرجع اختلاف حقوق المرأة و الرجل في القرآن إلى اختلافهما في التقييم في نظر المقنّن و المشرّع، و مشير إلى تفوّق أحدهما وضِعَة الآخر.
لذا، ينبغي أن تفضح صراحة الآية السابقة۱ و الآيات الاخرى المشيرة إلى تساوي الرجل و المرأة عند الخالق بطلان هذا التصوّر المهين.
إنّ الاختلافات الحقوقيّة للمرأة و الرجل في الإسلام مهما كان سببها فهي حتماً غير ناشئة لتفاوت قيمتهما المعتبرة، فالكرامة و القيمة و القدر في نظر القرآن مختصّ بالتقوى وحدها، و لقد كان منظار الأخلاق
العلميّة هو المسبّب لعجز البعض عن تفسير تفاوت الحقوق إلّا بمعنى تفاوت القيمة، و تفاوت القيمة إلّا باختلاف البُنية الطبيعيّة.۱
يلاحظ في العبارات السابقة كيف خلط المؤلّف البحث، فحاول إظهار اختلاف المرأة و الرجل في أفكار المفكّرين القرآنيّين على أنّه حسب مبنى اختلافهما في القيمة و القدر، ثمّ قام برفضه، مع أنّ كلامنا لم يكن أساساً في موضوع اختلاف القيمة و القدر، بل في اختلاف الحقوق و الأحكام و الإرث و النفقة و عدم الجهاد و القضاء و الحكومة و نظائرها، و التي هي مسائل أخلاقيّة اعتباريّة محضة رُتّبت من وجهة النظر القرآنيّة على أساس المسائل العلميّة و الطبيعيّة للمرأة و الرجل.
الإشكال العاشر على مقالته «بسط و قبض تئوريك شريعت» هي مسألة قبوله بتبدّل الأنواع و القبول بعدم انتهاء نسل الإنسان إلى آدم و زوجته المخلوقان من التراب. فبتجليله و تكريمه لداروين و تسميته له بنابغة الفهم و الإدراك و مسخّر النظريّات الطبيعيّة، و بمن أجلس الفرضيّة و النظريّة على عرش الحقيقة؛ ممّا يستلزم في النهاية عودة البشر و نشأته إلى القرد؛ قد أضاف إلى مقالته إشكالًا جديداً؛ إذ يقول:
اعتقاد صاحب «بسط و قبض تئوريك شريعت» بمذهب داروين
لقد نقل المؤرّخون إنّ داروين لم يستطع - لتمسّكه بفرضيّته - فهم و قبول الصحف الدينيّة المقدّسة كما يفهمها الآخرون و يقبلونها؛ عكس جورج كوفيه الذي لم يستطع - لتمسّكه و التزامه بمعارف التوراة - معرفة الطبيعة كما عرفها الآخرون. و قصّة داروين مشهورة لكن قصّة كوفيه الفرنسيّ تستحقّ هي الاخرى أن تُعرف، فلقد اكتشف كوفيه و أبدع أساسين مهمّين في علم الحيوان و علم الجيولوجيا (طبقات الأرض) كان لهما أحسن الأثر عند المتكلّمين فأكثروا من الحديث عنهما، ذلك لأنّه
حافظ على ظواهر الكتاب المقدّس و منحه دعماً علميّاً.
فقد اكتشف و أعلن في النصف الأوّل من القرن التاسع قبل ظهور نظريّة داروين قانون «تناسب أعضاء الحيوانات» Correlation Principale و هذا القانون الذي يحظى اليوم بقبول علماء الحيوان الذي كان ذو مفاد و مدلول آخر.
و كان يقول إجمالًا إنّ أعضاء جميع الحيوانات هي من التناسب و التوازن فيما بينها بحيث ينتفي معه وقوع أي تحوّل و تغيّر فيها مع بقاء نفس الحيوان.
لذا، فقد تحقّق من بين المؤلّفات المختلفة و المتصوّرة للأعضاء ما كان تحقّقه ممكناً، أمّا ما لم يتحقّق فهو الذي كان تحقّقه محالًا. و حسب قول كولمان Coleman:
«إنّ مفاد قانون كوفيه كان تقريباً. كلّ ما هو ممكن فهو موجود، و كلّ ما هو غير موجود فغير ممكن».
و عليه، فقد كانت الفاصلة بين الأنواع ضروريّة، فمن المحال أن يملأ الفراغ بين القطّة و العصفور مثلًا، و نتيجة لذلك كان فينبغي للحيوان إمّا أن يبقى مصوناً من التغيّر الكلّيّ، أو أن يتغيّر كلّيّاً من الأساس ليصبح منشأ لنوع آخر.
و لم يكن كوفيه ليؤمن بالتحوّلات التدريجيّة الطفيفة الهادئة، و لهذا فقد اعتقد بثبات الأنواع الذي وافق بشكل واضح ظاهر الكتاب المقدّس ...
و كان هذا الأمر مثار عجب مؤرّخي العلم، فعلى الرغم من مخالفة كوفيه الشديدة لتغيّر الأنواع (ترانسفورميزم)، فإنّ تحقيقاته في علم الآثار و التشريح العمليّ لم تمهّد الطريق لظهور نظريّة التكامل، بل كانت مقدّمة ضروريّة لا غنى عنها لتلك النظريّة. فاهتمامه المبذول في مسألة تناسب و توافق أعضاء الحيوان الواحد مع بعضها، و بدن الحيوان مع
محيطه، كان عنصراً حيويّاً في تدوين نظريّة التكامل. لكنّ الذي لم يلحظه كوفيه ورآه داروين أنّه يمكن لذلك التوافق و التناسب أن يكون له توضيح (علميّ) و تكامليّ و ميكانيكيّ مادّيّ و طبيعيّ، و لا يمكن إرجاعه مباشرة إلى قدرة الخالق و فعله.
فالاعتقاد بالتدخّل المباشر ليد الخالق في الطبيعة (و هو رأ ي كلاميّ معناه. وضع الطبيعة و ماوراء الطبيعة في عرض بعضهما و إجلاسهما نفس المجلس)، كان من أهمّ العوامل المثيرة للجدل في ميدان المعرفة في بلاد الغرب و الشرق و أكثرها تخريباً، فلقد كان يقطع الطريق في كلّ مكان ابتداءً من نيوتن إلى كوفيه و باستور، و من الفخر الرازيّ إلى الحشويّة الجدد.
فلم يكن في إمكان كوفيه أن يشاهد أبعد ممّا فعل، لأنّ أساس توافق المعارف لم يكن ليسمح له أن يفعل ذلك، فلقد كان علمه الكلاميّ (أي النسبة التي كان يعتقدها بين الله و الطبيعة) و كلام الله (أي التفسير الذي كان يستنبطه من الكتاب المقدّس) يوقفانه عند ذلك الحدّ.
و كان يلزمه معرفةً اخرى بالله و تفسيراً أفضل للكتاب ليمنحاه مجالًا أفضل للإبداع العلميّ.۱
لقد تكلّمنا مفصّلًا في هذا الجزء من كتاب «نور ملكوت القرآن» عن الضعف و الوهن اللذان يكتنفان نظريّة التكامل في الأنواع في ردّنا على مؤلّف كتاب «خلقتْ إنسان» (=خلق الإنسان) و إثباتنا لنظريّة الاستاذ العلّامة آية الله الطباطبائيّ قدّس الله نفسه، و أثبتنا أنّ ذلك الرأي لم يكن أبعد من فرضيّة لم تثبت بشكل قانون علميّ، و أنّ الحكم بها في هذه الحال
أمر مرفوض من الناحية الفلسفيّة، و من جهة اخرى فهي غير مقبولة أيضاً لظهور القرآن الكريم، بل لصراحته بشأن خلقة الإنسان و بيانه لخلق آدم و زوجه من الطين.
على أنّ هذا البحث الكلاميّ في اعتبار البعض للّه سبحانه مقابل الطبيعة أمر خاطئ، فالله سبحانه و ملائكة السماء المدبّرون للُامور هم في طول عالم الطبيعة، بل إنّ عالم الطبيعة هو عين ظهور الله و أثره، لا انفكاك بينهما. و لقد قدّم الاستاذ العلّامة قدّس الله نفسه بحوثاً قيّمة و ثمينة في هذه المسائل التوحيديّة في التفسير و الحكمة، حريّ بجميع الحكماء و الفلاسفة و المتكلّمين أن ينحو نحوها و ينهلوا من معينها؛ و عندها، فمن سيكون نيوتن و الفخر الرازيّ؟! و من الخطأ ذِكر كوفيه و باستور.
إنّ مسألة مشابهة الإنسان لبعض أصناف الحيوانات في الخلقة الطبيعيّة هي موضوع معيّن، و مسألة أصالة الحيوانات و كونها أساساً في بدء خلقة الإنسان موضوع آخر، و لا يمكن استخدام الأوّل للعبور إلى الثاني و استنتاجه، فالإنسان لا يشبه فقط بعض الحيوانات في جهاز الدورة الدموية و تركيب الهيكل العظميّ و غيرها، بل إنّ له شبهاً من ناحية أوسع و أعمّ مع جميع الحيوانات، و حتى مع جميع النباتات و انتهاءً بجميع الجمادات، فله شبه في أحكام الذرّات و الإلكترونات مع جميع الموجودات المادّيّة. و قد ورد في القرآن الكريم:
وَ اللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ وَ مِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ وَ مِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ ما يَشاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.۱
وَ ما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَ لا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ.۱
بل إنّ الإنسان يشترك مع جميع الحيوانات و النباتات في نوع واحد من النفس الكلّيّة، أي أنّ له مشابهة و مشاركة في الطبيعة و الحياة و النفس مع الجميع؛ لكنّ هذا لا يصحّ أن يكون دليلًا لكونه قد وُلد و نشأ منها؛
عدم امتلاك داروين للدليل القاطع على رجوع أصل الإنسان إلى القرد
و ما أورده داروين في كتابه «النشوء و الارتقاء» ليس أكثر من المشابهة المجرّدة بشأن البنية الطبيعيّة.
يقول داروين. إنّ أحد أدلّتي هو تشابه البنية الطبيعيّة، لأنّ بدن الإنسان قد رُكّب من وجهة النظر الكلّيّة على مثال أجساد الحيوانات الثدييّة الاخرى، فللهيكل العظميّ الإنسانيّ شبيه و نظير هو هيكل القرد و الخفّاش و عجل البحر مثلًا. و يجري أيضاً هذا التماثل و التشابه على العضلات و الأعصاب و الأوعية الدموية و الأمعاء و الأحشاء الداخليّة و مخّ الإنسان و دماغه و يشترك الإنسان مع الحيوانات - مضافاً إلى ما ذكرنا - في قابليّة العدوى و الإصابة بالميكروبات المعدية لبعض الأمراض، كداء الكَلَب و الجدري و السفلس و الكوليرا٢ و غيرها. و هي دليل قطعيّ على شدّة التشابه بينه و بين الحيوانات في الدم و الأنسجة بلحاظ دقّة التركيب و البناء.
و فوق ذلك فإنّ القرود تشبه الإنسان في تعرّضها للإصابة بالزكام، و الصداع، و الصرع، و التهاب الأمعاء، و مرضى سائل قزحيّة العين، و الحمّي؛ كما أنّ للأدوية و العقاقير الطبّيّة نفس التأثير على كِلا الإنسان
و القرد، و بملاحظة أنّ لبعض أنواع القرود رغبة شديدة لشرب الشاي و القهوة و المشروبات الروحيّة المسكرة، و بملاحظة الآلام و العوارض العصبيّة التي تصيبها إثر السكر، فإنّه يتّضح جيّداً شدّة مشابهتها للإنسان حتى في الذوق و الحسّ العامّ بالنسبة للأشياء.
كذلك فإنّ بعض البثور و الانتفاخات الجلديّة الخارجيّة و الداخليّة التي تظهر في الإنسان هي من نفس جنس تلك التي تظهر في سائر الحيوانات الثدييّة، و تدلّ على شدّة التشابه بين الإنسان و الحيوانات الراقية، و خاصّة مع القرود، و ذلك في عموم البنية، و دقّة الأنسجة، و التركيب الكيميائيّ و ألفتها ببعضها.۱
و ما نُقل في بيانات أئمّة المسلمين و علمائهم من التشابه بين الإنسان والقرد يفوق بكثير ما نُقل عن داروين، لكنهم مع ذلك لم يحكموا بالاتّصال و علاقة الولادة بينهما.
بيان الإمام الصادق عليه السلام في توحيد المفضّل في عجائب خلقة
و قد ورد في كتاب «التوحيد» الذي أملاه الإمَامُ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الصَّادِقِ عليهالسلام على المفَضَّلِ بْنِ عُمَرَ الجُعْفِيَّ: تَأمَّلْ خَلْقَ القِرْدِ٢ وَ شَبَهَهُ بِالإنْسَانِ في كَثِيرٍ مِنْ أعْضَائِهِ، أعْنِي الرَّأسَ وَ الوَجْهَ وَ المَنْكِبَيْنِ وَ الصَّدْرِ؛ وَ كَذَلِكَ أحْشَاؤُهُ شَبِيهَةٌ أيْضاً بِأحْشَاءِ الإنْسَانِ؛ وَ خُصَّ مَعَ ذَلِكَ بِالذِّهْنِ وَ الفِطْنَةِ التي بِهَا يَفْهَمُ عَنْ سَائِسِهِ مَا يُومِي إليه.
وَ يَحْكِي كَثِيراً مِمَّا يَرَى الإنْسَانَ وَ يَفْعَلُهُ حتى أنَّهُ يَقْرُبُ مِنْ خَلْقِ
الإنْسَانِ وَ شَمَائِلِهِ في التَّدْبِيرِ في خِلْقَتِهِ عَلَى مَا هي عَلَيْهِ أنْ يَكُونَ عِبْرَةً لِلإنْسَانِ في نَفْسِهِ. فَيَعْلَمُ أنَّهُ مِنْ طِينَةِ البَهَائِمِ وَ سِنْخِهَا إذْ كَانَ يَقْرُبُ مِنْ خَلْقِهَا هَذَا القُرْب، وَ لَوْلا أنَّهُ فَضِيلَةٌ فَضَّلَهُ بِهَا في الذِّهْنِ وَ العَقْلِ وَ النُّطْقِ كَانَ كَبَعْضِ البَهَائِمِ.
عَلَى أنَّ في جِسْمِ القِرْدِ فُضُولًا اخْرَى يُفَرِّقُ بَينَهُ وَ بَيْنَ الإنْسَانِ كَالخَطْمِ وَ الذَّنْبِ المُسْدَلِ وَ الشَّعْرِ المُجَلِّلِ لِلْجِسْمِ كُلِّهِ.
وَ هَذَا لَمْ يَكُنْ مَانِعاً لَلْقِرْدِ أنْ يَلْحَقَ بِالإنْسَانِ لَوْ اعْطِي مِثْلَ ذِهْنِ الإنْسَانِ وَ عَقْلِهِ وَ نُطْقِهِ، وَ الفَصْلُ الفَاصِلُ بَيْنَهُ وَ بَيْنَ الإنْسَانِ بِالصِّحَّةِ هُوَ النَّقْصُ في العَقْلِ وَ الذِّهْنِ وَ النُّطْقِ.۱
و قد أورد الدميريّ في «حياة الحيوان»:
و القرد حيوان قبيح مليح ذكيّ سريع الفهم يتعلّم الصنعة. حكي أنّ ملك النوبة أهدى إلى المتوكّل (الخليفة العبّاسيّ) قرداً خيّاطاً و آخر صائغاً، و أهل إلى من يعلّمون القردة القيام بحوائجهم، حتى أنّ القصّاب و البقّال يعلّم القرد حفظ الدكّان حتى يعود صاحبه، و يُعلّمه السرقة فيسرق.
... و هذا الحيوان شبيه بالإنسان في غالب حالاته، فإنّه يضحك و يطرب و يغني و يحكي و يتناول الشيء بيده، و له أصابع مفصّلة إلى أنامل و أظافر، و يقبل التلقين و التعليم و يأنس بالناس، و يمشي على أربع مشية المعتاد و يمشي على رجليه حيناً يسيراً، و لشفر عينيه الأسفل أهداب و ليس ذلك لشيء من الحيوان سواه و هو كالإنسان، و إذا سقط في الماء غرق كالآدميّ الذي لا يحسن السباحة. و يأخذ نفسه بالزواج و الغيرة على
الإناث و هما خصلتان من مفاخر الإنسان. و إذا زاد به الشبق استمنى بفيه، و تحمل الانثى أولادها كما تحمل المرأة ... و من قبول التأديب و التعليم ما لا يخفى. و لقد دُرّب قرد ليزيد على ركوب الحمار و سابق به مع الخيل، و فيه يقول يزيد لمّا سبق بأتان ركبها فرساً:
مَن مُبْلِغُ القِرْدِ الذي سَبَقَتْ بِهِ | *** | جَوَادَ أمِيرِالمُؤْمِنِينَ أتَانُ |
تَعَلَّقْ أبَا قُشٍّ بِهَا إنْ رَكِبْتَهَا | *** | فَلَيْسَ عَلَيْهَا إنْ هَلَكْتَ ضَمَانُ۱ |
و روى ابن عَدِيّ في كامله عن أحمد بن طاهر بن حرملة، ابن أخي حرملة بن يحيي، أنّه قال: رأيتُ بالرملة قرداً يصوغ، فإذا أراد أن ينفخ أشار إلى رجل حتى ينفخ له. و في ترجمة محمّد بن يوسف المنكدر عن جابر رضي الله تعالى عنه، قال: إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيه و آلِهِ وَ سَلَّمَ كَانَ إذَا رَأى القِرْدَ خَرَّ سَاجِداً.٢
تَمسّك أبا قيسٍ بفضلِ عِنانها | *** | فليس عليها إن سَقَطْت ضَمانُ |
ألا مَنْ رَأى القِرْدَ الذي سَبَقَتْ به | *** | جِيادَ أميرِالمُؤمنينَ أتَانُ؟ |
و هو في «المستدرك» قبيل كتاب الجمعة ذكره شاهداً ... و رواه البيهقيّ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أيضاً بمعناه و لفظه أنّ النبيّ صلّى الله عليه [و آله] و سلّم، قال: لا تشوبوا اللبن بالماء، فإنّ رجلًا فيمن كان قبلكم كان يبيع اللبن و يشوبه بالماء، فاشترى قرداً و ركب البحر، حتى إذا لجج فيه ألهم الله القرد صرّة الدنانير فأخذها، و صعد الدقل۱ ففتح الصرّة و صاحبها ينظر إليه، فأخذ ديناراً فرمى به في البحر و ديناراً في السفينة حتى قسمها نصفينِ، فألقى ثمن الماء في البحر و ثمن اللبن في السفينة.٢
و مهما بالغ داروين في المشابهة الجسميّة و المعنويّة للإنسان مع القرد فلن تصل أقواله إلى مستوى أقوال أصحاب رسائل إخوان الصفا في قولهم:
أمَّا القِرْدُ فَلِقُرْبِ شَكْلِ جِسْمِهِ مِنْ جَسَدِ الإنْسَانِ صَارَتْ نَفْسُهُ تُحَاكِي النَّفْسَ الإنْسَانِيَّةِ.٣
نعم، فليس من البعيد على الغربيّين - الذين لا يمتلكون فلسفة صائبة و لا كتاباً صحيحاً - أن يلتزموا بنظريّة تبدّل الأنواع و انتهاء نسل الإنسان إلى القرد، ولكنّ العجب أن يتقبَّل ذلك المسلم الذي قد استلم في البرهان و الحكمة أمثال ابن سينا و الفارابيّ و الملّا صدرا، و الذي ينهى كتابُه المتقن
الأصيل بندائه السماويّ على الدوام عن متابعة التخمين و الحدس و الظنّ، و من القول بغير علم و لا دليل قطعيّ.
فمن العجب أن يخسر شخصيّته و ينهار دفعة واحدة إثر أفكار تجريبيّة و نظريّات غير ثابتة لم يقم الدليل على صحّتها، فيعتقد بمدرسة التصوّر و يبيع الحقائق بثمن بخس، و يحاول بتشكيل مقدّمات وهميّة الحصول على نتيجة قطعيّة، فهو طريق لا يسلكه الحكماء و لا يرتضيه المتشرّعون و الملتزمون بنهج القرآن الكريم.
ملاطفة المؤلّف مع أحد القائلين برجوع أصل البشر إلى القرد
مُلاطفة: كان لي بحث يوماً ما مع أحد القائلين بانتهاء نسل الإنسان إلى القرد، فجاوز الحدّ في إصراره و إبرامه عقيدته، و لم يكن دليله في دعواه غير هذه التصوّرات و الأوهام الخياليّة التي تحدّثنا عنها في هذا الكتاب، و قد رفضتُ بكلّ قوّة و ثبات مقولته و أشرتُ إلى مواضع الخطأ فيها. و حصل أن صادفتهُ أيضاً في مجلس آخر، ففاجأته بالقول:
أيّها السيّد! لقد ثبت عندي أنّ الناس على صنفينِ. اولئك الذين هم من بني البشر ظاهراً و باطناً، و اولئك الذين هم من بني البشر ظاهراً، و من نسل القرود باطناً.
فردّ قائلًا: لقد كنتم تقولون بخلاف هذا، و تذكرون أنّ الآية الاولى من سورة النساء صريحة في أنّ جميع أفراد البشر من نسل واحد، و ينتهون جميعاً إلى نفس واحدة و زوجها (آدم و حوّاء)!
أجبتُ: و الآن أيضاً عقيدتي كذلك، لكنّ إصراركم الزائد على رجوع نسلكم إلى القرد أوجد شبهة عندي أن تكونوا حقيقة قرداً تلبّس بلباس إنسان!
ضحك، و قال: يبدو أنّ السيّد يريد الإنعام عَلَيَّ بلقب جديد؟
أجبتُ: كلّا، فهذه هي الحقيقة التي اعترفتم و أقررتم بها؛ و لَدَيَ
شواهد لإثبات كلامكم و ادّعائكم.
تساءل: أي شواهد؟!
قلتُ: القاعدة الاولى: كل شيء يرجع إلى أصله، فلو لم يكن أصلكم من القرود، فمن أين أتت هذه الجاذبيّة و التعلّق بالأجداد المحترمين؟!
الثانية: وجوب حفظ النسب، فحرام في الإسلام أن ينتمي الرجل إلى غير أبيه و يدّعي نسباً غير نسبه. لذا، فقد التزمتم بهذا الأمر لحفظ شجرة نسبكم.
الثالثة: وجوب صلة الرحم. فصلة الرحم واجبة في الإسلام و قطع الرحم حرام و لقد شاء سيادتكم للصلة مع قرود العالم و عدم قطع الرحم معها أن تحفظوا مراتب الوداد و الاتّصال هذه. هنيئا لكم و شكر الله مساعيكم. و لا ضير على هذا إن راجعتم يوماً دائرة الجنسيّة و الأحوال المدنيّة و انتخبتم لنفسكم أحد الألقاب المناسبة، مثلًا: حفيد القرود، وَلَد النسناس،۱ شامبانزي النسب ....
و نُنهي الكلام في الردّ على مقالة «بسط و قبض تئوريك شريعت»؛ و مع سعينا الشديد لعدم الإطالة، فإنّ الكلام - في عشرة إشكالات أساسيّة على المقالة المذكورة - قد طال و استغرق القسم الأعظم من الكتاب، و لم يكن من ذلك بدّ، لأنّ آثار المقالة شديدة الخطورة و الضرر، و كان من الضروريّ بيان مواضع الشبهة و المغالطة و الخلط، و تجلية الاشتباهات.
و كانت الإشكالات العشرة هي المواضع التي ظهر فيها الخلط في هذه المقالة جليّاً واضحاً، و قد غضضنا الطرف - لضيق المجال - عن
الأخطاء و العثرات الاخرى لقلّة أهمّيّتها عمّا ذكرناه من إشكالات، و يمكن للمطالعين الأجلّاء مطالعة أصل المقالة التي طُبعت في عددين۱ ليكتشفوا مواضع الخطأ و المغالطات الاخرى.
لقد اعتبرتُ فريضة على نفسي - على الرغم من ضعف حالتي الصحيّة و مقتضيات الشيخوخة، و كثرة الشواغل العلميّة - إدراج هذه المطالب مع الأبحاث القرآنيّة الحاضرة، لتُدرج ملاحظاتي مع تلك المقالات لمن يطالعها من الإخوة، فينقذوا القرآن من مظلوميّته.
فلقد طعنت هذه المقالة في القرآن الكريم، و في حجّيّته، و في خلوده، و طعنت في جميع مقدّسات العالم و حقائقه، و عرضت و هي متبنّية لروح كتابات الشكّاكين و السوفسطائيّين وأتباع هيغل، هادفة من وراء ذلك جرّ الشريعة و القرآن إلى الانزواء و العزلة.
و قد طرحت هذه المقالة مسألة فصل فهم الشريعة عن الشريعة نفسها، بدعوى أنّ الشريعة أمر صامت لا ينال، فما هو قابل لنيل البشر و وصولهم إنّما فهمنا عن الشريعة، و لأنّه يمثّل فهمنا نحن فهو أمر نسبيّ و متغيّر و عابر. و بهذا الترتيب فإنّ التغيّر الحاصل في العلوم الحديثة سيغيّر من فهمنا للشريعة، هذا التغيّر الذي لا يتنافى مع ثبات الشريعة، تلك الشريعة التي تختفي كالعنقاء خلف جبل قاف فلا يصل إليها أحد، و كلّما قيل و كُتب عنها فهو بيان لهذا الفهم و ليس الشريعة نفسها.
فهذا الفصل إنّما هو التزام بهدم الشريعة و إنكار لأصلها، و إنكار
للخالق، و إنكار للقرآن، و إنكار للسنّة المحمّديّة. و من الامور التي تبعث على الأسى و الأسف الشديد أن يكتب ذلك الرجل الأجنبيّ الزنديق في إنجلترا التي تُعتبر مركزاً ضدّ الإسلام كتاباً باسم «الآيات الشيطانيّة»، ثمّ تُكتب في بلد الإسلام و مهد التشيّع بعد عشر سنين من الثورة الإسلاميّة العظيمة مقالة نظير ذلك الكتاب من كاتب يعدّ نفسه معلّماً و فيلسوفاً و من أهل التحقيق و المطالعة. و قد ذكرتُ هذا لتعلموا أنّ هؤلاء جميعاً يرتوون من نبع واحد؛ أي من جامعات الفلسفة و علم الاجتماع و أمثالها التي تقام هناك، في حين يُصرف شبابنا بتأثير الدعايات الصارخة المزوّرة عن دراسة العلوم الحقّة، فيولّون وجوههم شطر الصوب الآخر، فينشأون و يتربّون و ينهون دراساتهم في تلك المجتمعات، ثمّ تكون النتيجة ظهور ثمرات فجّة كهذه.
فحين تُزاح الفلسفة الإسلاميّة الأصيلة جانباً فيُدرّس بدلها في الجامعات الفلسفة الغربيّة، فلن يُتوقّع و يُنتظر في النتيجة شيء غير هذا.
فما معنى تعلّم الإلهيّات من فم الشيطان!
و ما معنى تلقّي الفلسفة من أفواه الزنادقة؟
لقد كان صدر المتألّهين الشيرازيّ يوصي بتعلّم فلسفته و تلقّيها من الأفراد النزيهين العابدين المتهجّدين. فقارنوا ذلك بالفلسفة التي تُدرّس في الجامعات المقتصرة على الكلام عن كانْت و ديكارت و راسل و فرويد و أمثالهم.
أيصنع هذا الاسلوب من الطالب موحّداً عارفاً بالله؟!
إنّ احترام القرآن و إكرامه يتمثّل بالبحث و التحقيق و التدقيق فيه، و قراءته و حفظه و تفسيره و التدبّر فيه، فالقرآن سيكون إذ ذاك حيّاً، فإن انصرف طلّاب العلوم عن حفظ القرآن و مزاولته و لم يعدّوا تفسيره و التدبّر
فيه من أهمّ الامور، فسيُهجَر كتاب الله شيئاً فشيئاً، و سيأخذ الآخذُ كلّ آية منه فيُعَنْوِنَها و يفسّرها بما يشاء فيجعلها وفق مراده و تبع هواه، و هو أمر أعظم و أخطر على القرآن من حرب إلى مامة التي فقد فيها المسلمون في دفعهم غائلة مسيلمة الكذّاب أربعمائة أو سبعمائة من قرّاء القرآن، و أوشك كتاب الله بذهاب حامليه على الزوال من وجه العالم كلّيّاً.
تحريف معنى و مراد القرآن أسوأ من تحريف ظاهره
لم يملك المتجدّدون من ذوي الثقافة الغربيّة الذين باعوا دينهم و ضمائرهم قدرة إنكار القرآن، فذلك ما يخالف مصالحهم، لذا فقد عمدوا - مع تعظيمهم و إجلالهم الظاهريّ له - إلى إيجاد شبهة و تأويل خاطئ له، و إلى صرف ظواهر الآيات بلا شاهد و لا دليل عن معانيها، و إلى عرض الاتّجاهات و المدارس الفكريّة الكثيرة مقابل القرآن، و عرض الآراء و وجهات النظر الكثيرة مقابل المقولة الأحمديّة و السنّة المحمّديّة سعياً منهم إلى استئصال جذوره، أو على الأقلّ أن يظهروا هذه التحفة السماويّة و الكتاب الربّانيّ الذي لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ لا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ۱ لدى الدارسين و التلامذة الجدد الذين لم تكتمل أذهانهم بعد، ككتاب واهٍ ضئيل القدر، أو كالتوراة و الإنجيل محرّف غير مصون.
و لو فعلوا لقطعوا الشريان الحيويّ الأصليّ للإنسان، و لمزّقوا و تين قلبه، و لأوقعوا بالعقل الإسلاميّ المفكّر ضربة قاسية، و لبقيت تلك البراعم الفتيّة من الدارسين و التلامذة إلى آخر درسهم و تحصيلهم، بل إلى آخر عمرهم، ينظرون بهذا المنظار إلى الكتاب الإلهيّ و يقرنونه بأنياب الأغوال و أساطير الأوّلين.
و يتّضح من سرّ هذا المطلب لماذا كان معاندوا القرآن يمعون الناس
في كلّ زمان بشكل خاصّ متعمّد من البحث و التدقيق في الحقائق و التفسير و التأويل و التبحّر في شأن نزول الآيات و في سيرة و سنّة و نهج رسول الله الذي نزل على صدره القرآن، و لماذا كانوا يردعون الناس عن ذلك فلا يَدَعونهم يستفيدون من هذه الموهبة العظيمة، أو يفكّرون بالأصالة و التعمّق و بُعد النظر التي يدعو إليها القرآن إلّا قليلًا؛ فالقرآن يعبر بالإنسان من العلوم الجزئيّة إلى العلوم الكلّيّة حيث لا اعتبار هناك للمجاز.
قيس يعدّد لمعاوية في المدينة فضائل أميرالمؤمنين عليهالسلام
يروي أبان عن سُلَيم بن قيس الهلاليّ، و عن عمر بن أبي سلمة، و حديثهما واحد، أنّهما قالا:
قَدِمَ معاوية حاجّاً في خلافته المدينة بعد ما قُتل أميرالمؤمنين صلوات الله عليه و صالح الحسن عليهالسلام (و في رواية اخرى و بعد ما مات الحسن عليهالسلام) فاستقبله أهل المدينة، فنظر فإذا الذي استقبله من قريش أكثر من الأنصار، فسأل عن ذلك فقيل: إنّهم محتاجون ليست لهم دوابّ، فالتفت معاوية إلى قيس بن سعد بن عُبادَة فقال: يا معشر الأنصار! ما لكم لا تستقبلوني مع إخوانكم من قريش؟!
فقال قيس - و كان سيّد الأنصار و ابن سيّدهم - اقعدنا يا أميرالمؤمنين أن لم تكن لنا دوابّ.
قال مُعاوية: فَأيْنَ النَّوَاضِحُ؟!۱
فقال قيس: أفنيناها يوم بدر و يوم احد و ما بعدهما من مشاهد
رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ حِينَ ضَرَبْنَاكَ وَ أبَاكَ عَلَى الإسْلَامِ حتى ظَهَرَ أمْرُ اللهِ وَ أنْتُمْ كَارِهُونَ.
قال معاوية: اللَهُمَّ غَفْراً!
قال قيس: أمَا إنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ قال: سَتَرَوْنَ بَعْدِي أثَرَةً.
ثمّ قال: يا معاوية! تعيّرنا بنواضحنا! و الله لقد لقيناكم عليها يوم بدر و أنتم جاهدون على إطفاء نور الله و أن تكون كلمة الشيطان هي العليا، ثمّ دخلتَ أنت و أبوك كرهاً في الإسلام الذي ضربناكم عليه.۱
فقال معاوية: كأنّك تمنّ علينا بنصرتك إيّانا؟ فللّه و لقريش بذلك المنّ و الطول. ألستم تمنّون علينا يا معشر الأنصار بنصرتكم رسول الله و هو من قريش و هو ابن عمّنا و منّا؟ فلنا المنّ و الطول أن جعلكم الله أنصارنا و أتباعنا فهداكم بنا!
فقال قيس: إنّ الله بعث محمّداً صلى الله عليه و آله و سلّم رحمة
للعالمين فبعثه إلى الناس كافّة، و إلى الجنّ و الإنس و الأحمر و الأسود و الأبيض. اختاره لنبوّته و اختصّه برسالته، فكان أوّل من صدّقه و آمن به ابن عمّه عليّ بن أبي طالب عليه السلام؛ و أبوطالب يذبّ عنه و يمنعه و يحول بينه و بين كفّار قريش و بين أن يردعوه أو يؤذوه.
ثمّ ينقل قيس فضائل و مناقب أميرالمؤمنين عليهالسلام و مشاهده، و قصّة آية الإنذار و قصّة العشيرة، ثمّ يصل إلى قول النبيّ الأكرم: فقال: أيُّكُمْ يَنْتَدِبُ أنْ يَكُونَ أخِي وَ وَزِيرِي وَ وَصِيِّي وَ خَلِيفَتِي في امَّتِي وَ وَلِيَّ كُلِّ مُؤْمِنٍ بَعْدِي؟!
فسكت القوم حتى أعادها ثلاثاً، فقال عليّ عليهالسلام: أنَا يَا رَسُولَ اللهِ! صَلَّى اللهُ عَلَيْكَ.
فَوَضَعَ رَأسَهُ في حِجْرِهِ وَ تَفَلَ في فَمِهِ وَ قال: اللَهُمَّ امْلأ جَوْفَهُ عِلْماً وَ فَهْماً وَ حُكْماً.
ثُمَّ قَالَ لأبِي طَالِبٍ: يَا أبَا طَالِبٍ! اسْمَعِ الآنَ لابْنِكَ وَ أطِعْ فَقَدْ جَعَلَهُ اللهُ مِنْ نَبِيِّهِ بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَي!
و آخى صلّى الله عليه و آله و سلّم بين عليّ و بين نفسه. فلم يدع قيس شيئاً من مناقبه إلّا ذكرها و احتجّ بها على معاوية مفحماً له، ثمّ أشار إلى جعفر بن أبي طالب الطيّار، و إلى تزويج فاطمة سلام الله عليها، ثمّ ذكر ارتحال رسول الله و اجتماع الأنصار في سقيفة بني ساعدة للبيعة لسعد بن عبادة و هو أبي قيس، فقال:
فَجَاءَتْ قُرَيْشٌ فَخَاصَمُونَا بِحُجَّةِ عَلِيٍّ وَ أهْلِ بَيْتِهِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ وَ خَاصَمُونَا بِحَقِّهِ وَ قَرَابَتِهِ. فَمَا يَعْدُوا قُرَيشٌ أنْ يَكُونُوا ظَلَمُوا الأنْصَارَ وَ ظَلَمُوا آلَ مُحَمَّدٍ عَلَيهِمُ السَّلَامُ. وَ لَعَمْرِي مَا لأحَدٍ مِنَ الأنْصَارِ وَ لَا لِقُرَيْشٍ وَ لَا لأحَدٍ مِنَ العَرَبٍ وَ العَجَمِ في الخِلَافَةِ حَقٌّ مَعَ عَلِيٍّ عَلَيهِ السَّلَامُ وَ وُلْدِهِ
مِنْ بَعْدِهِ.
فغضب معاوية و قال: يا بن سعد! عمّن أخذتَ هذا؟ و عمّن رويتَه؟
و عمّن سمعتَه؟ أبوك أخبرك بذلك و عنه أخذته؟
فقال قيس: سمعته و أخذتُه ممّن هو خيرٌ من أبي و أعظم عَلَيَّ حقّاً من أبي.
قال: مَن؟!
قال قيس: عَلِيُّ بْنُ أبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ عالم هذه الامَّة و صدِّيقها الذي أنزل الله فيه: قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ وَ مَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ.۱
فلم يدع (قيس) آية نزلت في عليّ إلّا ذكرها.
قال معاوية: فإنّ صدِّيقها أبوبكر، و فاروقها عمر، و الذي عنده علم الكتاب عبدالله بن سلام.
قال قيس: أحقّ هذه الأسماء و أولى بها الذي أنزل الله فيه:
أَ فَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَ يَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ،٢ و الذي نصبه رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم بغدير خمّ، فقال: مَنْ كُنْتُ أوْلَى بِهِ مِنْ نَفْسِهِ فَعَلِيٌّ أوْلَى بِهِ مِنْ نَفْسِهِ. و في غزوة تبوك: أنْتَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى إلَّا أنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدِي.
و كان معاوية يومئذٍ بالمدينة فعند ذلك نادى مناديه و كتب بذلك نسخة إلى عمّاله. ألا بَرِأت الذمّة ممّن روى حديثاً في مناقب عليّ و أهل بيته. و قامت الخطباء في كلّ كورة و مكان على المنابر بلعن عليّ بن أبي
طالب عليهالسلام و البراءة منه و الوقيعة في أهل بيته عليهم السلام و اللعنة لهم بما ليس فيهم عليهم السلام.
بحث ابن عبّاس مع معاوية حول حجّيّة القرآن
ثمّ إنّ معاوية مرّ بحلقة من قريش فلما رأوه قاموا إليه غير عبدالله ابن عبّاس، فقال له. يا بن عبّاس! ما منعك من القيام كما قام أصحابك إلّا لموجدة عَلَيَّ بقتالي إيّاكم يوم صفّين؟ يا بن عبّاس! إنّ ابن عمّي عثمان قتل مظلوماً.
قال ابن عبّاس: فعمر بن الخطّاب قد قُتل مظلوماً،۱ فسلّم الأمر إلى ولده؛ و هذا ابنه!
قال معاوية: إنّ عمر قتله مشرك. قال ابن عبّاس: فمن قتل عثمان؟
قال: قتله المسلمون. قال: فذلك أدحض لحجّتك و أحلّ لدمه، إن كان المسلمون قتلوه و خذلوه فليس إلّا بحقّ.
قال معاوية: فإنّا كتبنا في الآفاق ننهى عن ذكر مناقب عليّ و أهل بيته فكفّ لسانك يا بن عبّاس و اربع على نفسك.
فقال ابن عبّاس: فتنهانا عن قراءة القرآن؟! قال: لا.
فقال ابن عبّاس: فتنهانا عن تأويله و تفسيره؟! قال: نعم.
فقال ابن عبّاس: فنقرأه و لا نسأل عمّا عنى الله به؟! قال: نعم.
فقال ابن عبّاس: فأيّما أوجب علينا قراءته أو العمل به؟ قال: العمل به.
قال ابن عبّاس: فكيف نعمل به حتى نعلم ما عنى الله بما أنزل علينا؟!
قال: سَلْ عن ذلك من يتأوّله على غير ما تتأوّله أنت و أهل بيتك.
قال ابن عبّاس: إنّما انزل القرآن على أهل بيتي، فأسأل عنه آل أبي سفيان و آل أبي معيط و إليه ود و النصارى و المجوس؟!
قال معاوية: فقد عدلتنا بهم؟
قال ابن عبّاس: ما أعدلك بهم إلّا إذا نهيتَ الامّة أن يعبدوا الله بالقرآن و بما فيه من أمر و نهي، أو حلال أو حرام، أو ناسخ أو منسوخ، أو عامّ أو خاصّ، أو محكم، أو متشابه، و إن لم تسأل الامّة عن ذلك هلكوا و اختلفوا و تاهوا.
قال معاوية: فاقرأوا القرآن و لا ترووا شيئاً ممّا أنزل الله فيكم و ما قال رسول الله و ارووا ما سوى ذلك.
قال ابن عبّاس: قال الله تعالى في القرآن: يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَ يَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَ لَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ.۱
قال معاوية: يا بن عبّاس! اكفني نفسك و كفّ عنّي لسانك، و إن كنتَ فاعلًا فليكن سرّاً و لا تُسمعه أحداً علانية. ثمّ رجع إلى منزله فبعث إليه بخمسين ألف درهم. (و في رواية اخرى مائة ألف درهم)، ثمّ اشتدّ البلاء بالأمصار كلّها على شيعة عليّ و أهل بيته عليهم السلام، و كان أشدّ الناس بليّة أهل الكوفة لكثرة من بها من الشيعة، و استعمل عليها زياداً، ضمّها إليه مع البصرة و جمع له العراقينِ. و كان يتبع الشيعة و هو بهم عالم، لأنّه كان منهم قد عرفهم و سمع كلامهم أوّل شيء، فقتلهم تحت كلّ كوكب و تحت حجر و مدر، و أجلاهم و أخافهم، و قطع الأيدي و الأرجل منهم، و صلبهم على جذوع النخل، و سمل أعينهم و طردهم و شرّدهم، حتى
انتزعوا عن العراق فلم يبقَ بها أحد منهم إلّا مقتول أو مصلوب أو طريد أو هارب.۱
و لقد استمرّ لعن أميرالمؤمنين عليهالسلام من على المنابر و في الخطب ما يقرب من خمسين سنة حتى صدر أمر بتركه سنة ٩٩ هجريّة في خلافة عمر بن عبد العزيز.
و لقد سوّدت فجائع بني اميّة صفحات التأريخ، و كانوا في الحقيقة شياطين وقفوا في وجه نور الحقيقة النبويّة و سرّ الولاية العلويّة، و لو طالعنا أساليبهم و تأمّلنا في حالاتهم لتجلّي أمامنا مفاد الآية الكريمة:
وَ كَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَ كَفى بِرَبِّكَ هادِياً وَ نَصِيراً.٢
و هكذا فقد استمرّت محاربة القرآن من بدء نزوله حتى يومنا هذا، و اتّخذت كلّ يوم شكلًا خاصّاً و نهجاً جديداً؛ و لم يكن لحروب الكفّار و المشركين من قريش و غيرها مع رسول الله من هدف غير القضاء على
القرآن و منعه من التربّع على منصّة الهداية.
قيام بني اميّة كان لاقتلاع جذور القرآن
و لو قسّمنا الغزوات السبعين التي حصلت خلال إقامة رسول الله في المدينة على زمن إقامته فيها لشاهدنا أنّ الرسول الأكرم كان مُجبراً على الخروج للحرب بمعدّل مرّة واحدة كلّ شهرين دفاعاً عن القرآن وصوناً له.
ثمّ اتّخذ الدفاع عن القرآن في زمن أميرالمؤمنين عليهالسلام شكلًا و نهجاً آخر، فقد جسّد معاوية في سلوكه الخبث و الفساد و الانحطاط، و أظهر نوايا أبيه أبي سفيان الذي أورد المصائب و الويلات على المسلمين في حروب بدر و احد و الأحزاب و غيرها بلباس آخر فنفّذها بحذافيرها.
كانت أهداف معاوية هدم أركان الإسلام و هدم القرآن تحت لواء الإسلام و باسم القرآن، و هذه السيرة كانت أكثر عمقاً و أكبر أثراً من حروب أبيه (أبي سفيان).
هذا المجرم و الشيطان المحتال الماكر ذو الدسائس الذي رأيناه يردّ على قول قيس بن سعد (ضربناك و أباك على الإسلام حتى ظهر أمر الله و أنتم كارهون) بقوله. اللَهُمَّ غَفْراً! فيصبح عارفاً بالله طالباً غفرانه. في الوقت الذي يتخاذل أمام احتجاج ابن عبّاس و استدلاله المتين في حقّانيّة مظلوميّة أميرالمؤمنين عليهالسلام و غصبه للخلافة فيصدر أمراً لعنه و سبّه و يكتب بذلك إلى البلدان، نراه يرجع إلى بيته بعد هذا الكلام فيبعث إلى ابن عبّاس خمسين ألف درهم ثمناً لسكوته؛ ثمّ يكتب إلى البلدان تبعاً لسيرة عمر و سنّته أن يقرأوا القرآن و لا يفسّروه، و أن لا يرووا من النبيّ حديثاً. فهو الآخر قد حارب القرآن و تصدّى له.
إنّ الروايات و الأحاديث الواردة عن الرسول الأكرم في تفسير القرآن هي حقيقة القرآن، و لقد كان اولئك واقفين على أنّ أحاديث رسول الله ستفضح جنايتهم و خيانتهم على رؤوس الأشهاد، فكان أن منعوا
من الحديث و الرواية. كانوا يقرأون القرآن ولكن بلا معنى و لا محتوى، و بلا فهم و لا دراية، فعرش حكومتهم لم يكن ليستقرّ مع الفهم و الدراية.
و لأنّ القرآن هو كتاب العلم و التعقّل، فإنّ الأمر بعدم تفسيره و شرح معانيه في جميع الموارد كان أمراً بهدمه و إلغائه. لكنّ الله سبحانه وعد بحفظ قرآنه و صونه عن التحريف الظاهريّ و الباطنيّ:
إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَ إِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ.۱
مصطفي را وعده داد ألطاف حقّ | *** | گر بميري تو نميرد اين سَبَق٢ |
من كتاب و معجزت را خافضم٣ | *** | بيش و كم كن را ز قرآن رافضم |
من تو را اندر دو عالم رافعم | *** | طاغيان را از حديثت دافعم |
كس نتاند بيش و كم كردن در او | *** | تو به از من حافظي ديگر مجو |
رونقت را روز روز افزون كنم | *** | نام تو بر زرّ و بر نقره زنم |
منبر و محراب سازم بهر تو | *** | در محبّت قهر من شد قهر تو |
نام تو از ترس پنهان ميبرند | *** | چون نماز آرند پنهان بگذرند٤ |
خُفيه ميگويند نامت را كنون | *** | خُفيه هم بانگ نماز أي ذو فنون |
از هراس و ترس كفّار لعين | *** | دينت پنهان ميشود زير زمين |
من مناره بر كنم آفاق را | *** | كور گردانم دو چشم عاق را |
چاكرانت شهرها گيرند و جاه | *** | دين تو گيرد ز ماهي تا به ماه |
تا قيامت باقيش داريم ما | *** | تو مترس از نسخ دين أي مصطفي |
أي رسول ما تو جادو نيستي | *** | صادقي، هم خرقة موسيستي |
هست قرآن مر تو را همچون عصا | *** | كفرها را در كشد چون اژدها |
تو اگر در زير خاكي خفتهاي | *** | چون عصايش دان تو آنچه گفتهاي |
گر چه باشي خفته تو در زير خاك | *** | چون عصا آگه بود آن گفت پاك۱ |
إنّ الله يضع الله أمام كلّ نبيّ عقبات و مصاعب تعترض وصوله
وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَ لا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ، لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَ الْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ ، وَ لِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَ إِنَّ اللَّهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ، وَ لا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ.۱
فهذه الآيات صريحة في خلود القرآن الكريم، و أبديّة الولاية، أي حرّاسه و القائمون على صيانته، و لقد استمرّت أعمال المواجهة و الدسائس على مقصود رسول الله و هدفه، و على قوانين القرآن و أحكامه، لكنّ نور الله غالب قاهر، و هو سبحانه لا يخلف وعده؛ فينهض مثل الحسين عليه السلام ليهدم بنهضته العظيمة الباهرة للعقول عرش يزيد المستكبر، و يخمد إلى الأبد نعراته الأنانيّة.
و لقد جسّد الحسين عليهالسلام الانموذج الحيّ و المثال الجليّ لهدف جدّه رسول الله صلّى الله عليه و آله، و أبيه عليّ المرتضى، و امّه فاطمة الزهراء و أخيه الحسن المجتبى عليهم السلام في بيوتٍ:
أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَ الْآصالِ ، رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَ لا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَ إِقامِ الصَّلاةِ وَ إِيتاءِ الزَّكاةِ يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَ الْأَبْصارُ.٢
حكومة يزيد استبداد محض، و هادفة لهدم القرآن
يقابله في الجانب الآخر يزيد اللعين مثال الغرور و الأنانيّة و التكبّر
و التمرّد، بقدرته الجهنّميّة و الشيطانيّة التي أخضعت الشرق و الغرب،۱ يزيد المعلن لشرب الخمور، الساهر ليله في مجالس الخمر و السكر مع المغنّيات، الناكح للمحارم، اللاعب بالقرود؛ و لم يكن ليفعل هذا لوحده، بل إنّ شرب الخمر و السكر و التغنيّ صار رائجاً، حتى كان عمّاله في الحرمينِ الشريفينِ مكّة و المدينة يتجاهرون بشرب الخمر و يعقدون مجالس اللهو و اللعب على مرأى من المسلمين و مسمع. و كان خراج المسلمين و الضرائب المستحصلة منهم يُصرف في هذه المطامع، في حين ساد الفقر و الفاقة بين الضعفاء و المساكين فغلب عليهم، حتى لم يبقَ لهم ما يستروا به عوراتهم، و لا ما يبلغوا به كفافهم و يسدّوا به رمقهم.
هناك في الجانب الآخر رجل بليغ تمرّس في الفصاحة و البلاغة و قول
الشعر بداهة، يوظّف أشعاره في السخرية من الخالق و القيامة و النبيّ و القرآن و حجّ البيت و الأذان و الصلاة، و يرى معانقة حبيبته امّ كلثوم أولى من الحفاظ على حدود الإسلام و ثغوره من الضياع أو صيانة الأسرى من ذلّ الأسر، فيسدّد بعمق فكرته و شدّة رأيه ضربته لاستئصال جذور الولاية و اصولها، و يقدّم في أشعاره الخمر للإمام المطلق على الأرض خامس أهل الكساء و سبط سيّد المرسلين، و يدعوه إلى شربه بلا حياء و لا مواربة.
و نلحظ هنا طلوع آية فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ. فيتحرّك سيّد الشهداء عليهالسلام من جنوب الحجاز إلى الكوفة و الشام لدحره و فضحه و قمع أمره، و يُعلن للدنيا بندائه الملكوتيّ و آهاته الحرّى و أنينه الصادع للأكباد أن. أيّها الراقدون الغافلون! يا من أطار لبّهم و أعمى بصيرتهم الانغماس في الدنيا و الملاهي! و يا من أقعدتهم السجّادة و المسبحة! انهضوا فلقد اهين القرآن! انهضوا فيزيد يتغنّى في أشعاره بالسخريّة ممّن جاء بالقرآن! و لقد تبدّد الدين و الشرف و الأصالة، و آلت عاقبة حروب بدر و الأحزاب و حنين التي جرت لإقرار القرآن إلى حكومة جائرة ظالمة بِيَدِ الجائرين الذين نصبوا مجالس الشراب فوق دماء شهداء احد، و الذين استمدّوا القوّة و السلطة من دماء شهداء بدر و الأحزاب فصاروا يعقدون الآن مجالس الغناء و اللهو و اللعب.
أيّها النائمون! أنا الحسين، أمضى على بصيرة من أمري لأهدّ قصر يزيد على امِّ رأسه، و ساوفّق في هذا الأمر، لا فرق إن قتلتُه أم قُتلت، فالأمر سيّان عندي؛ و الهدف و القصد واحد لديّ، فلا ضير عندي إن اختلفت إليه السبل، فلواء الظفر في يدي على كلّ حال، و الحياة مع الجنايات العلنية لهذا الرجس الكافر هي الموت بعينه؛ و الموت في ظلّ حدّ السيف القاطع، أو هدفاً للسهام المثلّثة الشعب و رجم حجارة جيش الكوفة
هو عين الحياة.
لقد كان سيّدالشهداء عليهالسلام يرى حتفه كوضوح الشمس، و سَوْق أهله سبايا رأي العين، و هو يعلم أن لابدّ لتحقيق هدفه من ذلك.
و لقد تمثّلت غايته في صرخته المظلومة المدوّية. إنّ حكومة يزيد ما هي إلّا خلف و امتداد لحكومة معاوية و حكومة الخلفاء الغاصبين، و امتداد و خلف لحكومة أبي سفيان الجاهليّة، فالمحن و الآلام و المشاقّ التي تحمّلها النبيّ الأكرم صابراً محتسباً ستذهب جميعاً أدراج الرياح، و سيضيع الدين و يتلاشى هباء منثوراً.
فحين أعلم أنّي ساقتل، و يبقى صوت المؤذِّن هدّاراً من فوق المأذنة بنداء الله أكبر فأنا المنتصر، لأنّي نلتُ لقاء ربّي، و عملتُ بالمسؤوليّة الملقاة على عاتقي.
و الويلُ من يوم أحيا فيه فأرى حقّ المظلومين يُهدر، و سيوف الظالمين تحزّ رقاب المستضعفين، و أموال المسلمين تُنفق باسم الرئاسة و الحكومة في الأغراض الشخصيّة، فذلك يوم لا حياة لي فيه.
لا حياة لي يوم أرى يزيد يحتسي الخمر في دولة الإسلام و في مدينة الرسول علناً و لا يستحيي؛ فأنا أسعى لحياتي، و حياتي مرهونة بحياة القرآن، و حياة القرآن مرهونة بحياتي.
إنّ عظمة و جلال نهضة سيّدالشهداء عليهالسلام لن يدركها و يلمسها جيّداً من لم يطّلع و يدرك عمق التأريخ السياسيّ لتلك الفترة العصيبة، و يدرس وضع حكومة يزيد و كيفيّة تسلّطه و سيطرته على البلاد الإسلاميّة، و سعيه الشديد في ترويج المنكرات و إشاعة الفحشاء.۱
أورد أبوالفرج الأصفهانيّ أنّ معاوية أرسل يزيد إلى الحجّ، فجلس يزيد بالمدينة على شراب، فأستأذن عليه عبدالله بن العبّاس و الحسين بن علي فأمر بشرابه فرُفع، و قيل له. إنّ ابن عبّاس إن وجد ريح شرابك عرفه، فحجبه و أذِنَ للحسين عليهالسلام: فلمّا دخل وجد رائحة الشراب مع الطيب فقال:
لِلّهِ دَرُّ طِيبِكَ هَاذ مَا أطْيَبَهُ! وَ مَا كُنتُ أحْسِبُ أحَداً يَتَقَدَّمُنَا في صَنْعَةِ الطَّيبِ. فَمَا هَذَا يَا بْنَ مُعَاوِيَةَ؟!
فقال يزيد. يا أبا عبدالله! هذا طيب يُصنع لنا بالشام. ثمّ دعا بقدح فشربه ثمّ دعا بقدح آخر، فقال: اسقِ أبا عبدالله يا غلام.
فَقَالَ الحُسَيْنُ. عَلَيْكَ شَرَابَكَ أيُّهَا المرْءُ! لَا عَيْنَ عَلَيْكَ مِنِّي. فَشَرِبَ وَ قال:
أشعار يزيد في وصف الخمر في حضور الإمام الحسين عليهالسلام
ألَا صَاحِ لِلْعَجَبِ | *** | دَعَوْتُكَ ثُمَّ لَمْ تُجِبِ |
إلَى القِينَاتِ وَ اللَّذَّا | *** | تِ وَالصَّهْبَاءِ و الطَّرَبِ |
وَ بَاطِيَةٍ مُكَلَّلَةٍ | *** | عَلَيْهَا سَادَةُ العَرَبِ |
وَ فِيهِنَّ التي تَبَلْتْ | *** | فُؤَادَكَ ثُمَّ لَمْ تَتُبِ |
فَوَثَبَ الحسَيْنُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَ قال: بَل فُؤَادَكَ يَا بْنَ مُعَاوِيَةَ.۱
و أورد في «شفاء الصدور في شرح زيارة العاشور» - و هو من الكتب النفيسة ذات التحقيقات الرشيقة - عن كياء الهراسيّ (الذي سمّاه ابن خلّكان عليّ بن محمّد الطبريّ)، هذه الأبيات عن يزيد بن معاوية.
أقُولُ لِصَحْبٍ ضَحَّتِ الكَأسُ شَمْلَهُمْ | *** | وَ دَاعِي صَبابَاتِ الهوَي يَتَرَّنَّمُ |
خُذُوا بِنَصِيبٍ مِنْ نَعِيممٍ وَ لَذَّةٍ | *** | فَكُلُّ وَ إنْ طَالَ المَدَى يَتَصَرَّمُ۱ |
أشعار يزيد الالحاديّة في هجاء رسول الله و السخرية بيوم المعاد
و روى كذلك عن سبط ابن الجوزيّ عن ابن عقيل قال:
و ممّا يدلّ على كفر يزيد و زندقته أشعاره التي أفصح بها بالإلحاد و أبان عن خبث الضمائر و سوء الاعتقاد، فمنها قوله في قصيدته التي أوّلها:
عَلِيَّةُ هَاتِي وَ اعْلِنِي وَ تَرَنَّمِي | *** | بِذَلِكَ إنِّي لَا احِبُّ التَّنَاجِيَا |
حَدِيثُ أبِي سُفْيَانَ قِدْماً سَمَا بِهَا | *** | إلى احُدٍ حتى أقَامَ البَوَاكِيَا |
ألَا هَاتِ سَقِّينِي عَلَى ذَاكِ قَهْوَةً | *** | تُخَيِّرُهَا الْعَتْبَاءُ كَرْماً شَامِيا |
إذَا مَا نَظَرْنَا في امُورٍ قَدِيمَةٍ | *** | وَجَدْنَا حَلَالًا شُرْبَهَا مُتَوَالِيَا |
وَ إنْ مُتُّ يَا امَّ الأحَيْمِرِ فَانْكِحِي | *** | وَ لَا تَأمَلِي بَعْدَ الفِرَاقِ تَلَاقِيَا |
فَإنَّ الذي حُدِّثْتِ عَنْ يَوْمِ بَعْثِنَا | *** | أحَادِيثُ طَسْمٍ تَجْعَلُ القَلْبِ سَاهِيَا |
وَ لَابُدَّ لِي مِنْ أنْ أزُورَ مَحَمَّداً | *** | بِمَشْمُولَةٍ صَفَّرَاءَ تَرْوَي عِظَامِيَا٢ |
و روى القُزَغْلِيّ٣ عن يزيد أنّه أنشد هذا البيت:
وَ لَوْ لَمْ يَمَسَّ الأرْضَ فَاضِلُ بَرْدِهَا | *** | لَمَا كَانَ فِيها مَسْحَةٌ لِلتَّيَمُّمِ |
و قال أيضاً إنّ أقوال يزيد:
مَعْشَرَ النَّدْمَانِ قُومُوا | *** | وَ اسْمَعُوا صَوْتَ الأغَانِي |
وَ اشْرَبُوا كَأسَ مُدَامٍ | *** | وَ اتْرُكُوا ذِكْرَ المَعَانِي |
شَغَلَتْنِي نَغْمَةُ العِيدَانِ | *** | عَنْ صَوْتِ الأذَانِ |
وَ تَعَوَّضْتُ عَنِ الحُورِ | *** | عَجُوزاً في الدِّنَانِ۱ |
و في «مروج الذهب» ورد أنّ يزيد أرسل مُسلِمَ بْنَ عَقَبَة لحرب عبدالله ابن الزبير، فأنشد هذين البيتين و كتب بهما إلى ابن الزبير:
ادعُ إلَهَكَ في السَّمَاءِ فَإنَّنِي | *** | أدْعُو عَلَيْكَ رِجَالَ عُكٍّ وَ أشْعَرِ |
كَيْفَ النَّجَاةُ أبَا خُبَيْبٍ مِنْهُمْ | *** | فَاحْتَلْ لِنَفْسِكَ قَبْلَ أتَي العَسْكَرِ٢ |
و روى أيضاً في «شفاء الصدور» هذه الأبيات عن يزيد:
شُمَيْسَةُ كَرْمٍ بُرْجُهُا قَعْرُ دَنِّهَا | *** | وَ مَشْرِقُهَا السَّاقِي وَ مَغْرِبُهَا فَمِي |
فَإنْ حَرُمَتْ يَوْمًا عَلَى دِينِ أحْمَدٍ | *** | فَخُذْهَا عَلَى دِينِ المَسِيحِ ابْنِ مَرْيَمِ٣ |
أشعار يزيد الصريحة في الكفر
و نُقل من ديوانه كما شهد بذلك سبط ابن الجوزيّ، و كما هو معروف في كتب المقاتل، أنّه أنشد هذين البيتينِ اللذين يكشفان عن كفره و نفاقه القديمينِ عند ورود سبايا أهل البيت الشام و إشرافهم على رُبى جيرون:
لَمَا بَدَتْ تِلْكَ الحُمُولُ وَ أشْرَقَتْ | *** | تِلْكَ الشُّمُوسُ عَلَى رُبَى جَيْرُونِ |
نَعَبَ الغُرَابُ فَقُلْتُ نَحْ أوْ لَا تَنُحْ | *** | فَلَقَدْ قَضَيْتُ مِنَ النَّبِيِّ دُيُونِي |
و في «التذكرة» لسبط ابن الجوزيّ رواية عن الزُهريّ أنّه لمّا جيء بالرؤوس إلى دمشق كان يزيد في منظره على جيرون، فأنشد لنفسه. «لَمَّا بَدَتْ» إلى آخر البيتينِ المذكورينِ.۱
يزيد ينكت بالخيزران ثغر الحسين عليهالسلام
و أورد ابن الأثير الجَزَريّ أنّه حين وُضع الرأس المبارك لسيّد الشهداء عليهالسلام بين يَدَي يزيد و حدّثوه بأمره، فأذِنَ يَزيد للناس فدخلوا عليه و الرأس بين يديه و معه قضيب و هو ينكت به ثغره بشكلٍ أثّر فيه،٢ ثمّ قال:٣ إنّ هذا (الحسين) و إيّانا كما قال الحصين بن الحُمام:
ترا أي فلك پردهها چاك باد | *** | ترا دشمن أي چرخ چالاك باد |
شو چنبری | *** | تو أي آسمان باش نيلوفري |
خزان باد فصل تو أي نو بهار | *** | كمان باد سور تو أي جويبار |
تو أي مِهر شو تا أبد سرنگون | *** | تو أي مَه بپالاي رخ را به خون |
تو أي گلشن زندگي بر ميار | *** | تو أي پير دهقان درختي مكار |
تو أي قدّ دلكش همه سرمه ساي | *** | تو أي سرو سركش ز پا أندر أي |
تو أي نوجوان زندگاني مكن | *** | ز من چهره را ارغواني مكن |
تو أي نغمه جز ناله راهي مپوي | *** | تو أي نغمه جز ناله حرفي مگوي |
زبان بستن از قصّة دوش به | *** | در اين راز نگشودن گوش به |
خوشتر آن باشد كه سرّ دلبران | *** | گفته آيد در حديث ديگران |
أبَى قَوْمُنَا أنْ يَنْصِفُونَا فَأنْصَفَتْ | *** | قَوَاضِبُ في أيْمَانِنِا تُقْطِرُ الدَّمَا |
يُفَلِّقْنَ هَاماً مِنْ رِجَالٍ أعِزَّةٍ | *** | عَلَيْنَا وَ هُمْ كَانُوا أعَقَّ وَ أظْلَمَا۱ |
فقال له أبو بَرَزَة الأسْلَمِيّ: أتَنْكُتُ بِقَضِيبِكَ في ثَغْرِ الحُسَيْنِ؟!
أمَا لَقَدْ أخَذَ قَضِيبُكَ في ثَغْرِهِ مَأخَذاً لَرُبَّمَا رَأيْتُ رَسُولَ اللهِ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ يَرْشُفُهُ، أمَا إنَّكَ يَا يَزِيدُ تَجِيءُ يَوْمَ القِيَامَةِ وَ ابْنُ زِيادٍ شَفِيعُكَ؛ وَ يَجِيءُ هَذَا وَ مُحَمَّدٌ شَفِيعُهُ. ثُمَّ قَامَ فَوَلَّى.۱
ثمّ قال يزيد: و اللهِ يا حسين لو كنتُ أنا صاحبك ما قتلتُك. ثمّ قال:
أتَدْرُونَ مِنْ أيْنَ أتَي هَذَا؟
قال: أبِي عَلِيٌّ خَيْرٌ مِن أبِيهِ. وَ فَاطِمَةُ امِّي خَيْرٌ مِن امِّهِ. وَ جَدِّي
رَسُولُ اللهِ خَيْرٌ مِنْ جَدِّهِ. وَ أنَا خَيْرٌ مِنْهُ وَ أحَقُّ بِهَذَا الأمْرِ مِنْهُ.
فَأمَّا قوله: أبُوهُ خَيْرٌ مِنْ أبِي؛ فَقَدْ حَاجَّ أبِي أبَاهُ إلى اللهِ. وَ عَلِمَ النَّاسُ أيُّهُمَا حُكِمَ لَهُ. وَ أمَّا قوله: امِّي خَيْرٌ مِنْ امِّهِ، فَلَعَمْرِي فَاطِمَةُ بِنْتُ رَسُولِ اللهِ خَيْرٌ مِنْ امِّي. وَ أمَّا قَوْلُهُ جَدِّي رَسُولُ اللهِ خَيْرٌ مِن جَدِّهِ فَلَعَمْرِي مَا أحَدٌ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَ اليوم الآخِرِ يَرَى لِرَسُولِ اللهِ فِينَا عَدْلًا وَ لَا نِدَاً.
وَلَكِنَّهُ إنَّمَا اتِيَ مِنْ قِبَلِ فِقْهِهِ، وَ لَمْ يَقْرَأ: «قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ».۱
و نشاهد هنا أنّ البائس قد خلط بلا فهم بين القدرة الظاهريّة التكوينيّة و بين الحقّانيّة و الولاية، فهو يشيّد منطقه على المبدأ الميكافيللّيّ الذي يعتبر الحقّ قائماً على أساس القدرة و التسلّط، و تابعاً لمن قهر بالسيف، و هو نفسه منطق عُمَر الذي بحثنا عنه بالتفصيل في سلسلة كتب «معرفة الإمام»٢ و أثبتنا أنّه منطق مخالف للعقل و الوجدان و رسالات الأنبياء، و مخالف لتنزيل الكتب السماويّة و دعوة الناس للعدل و الإحسان.
فهذا المنطق هو شريعة الغاب و الوحوش الذي يبرّر به كل متسلّط فتكه بالضعفاء البائسين، و يوجّه به كلّ ظالم ظلمه و إجحافه.
و سيتصوّر كلّ من تشبّه بيزيد في نزعته، و بعمر في سيرته، و كلّ ميكافيللّيّ الاسلوب و السنّة أنّ أنواع قهرهم و جبروتهم و تسلّطهم حقّ مُسلّم
لهم، و هذا ما سيقطع الطريق على تربية النفس و تكميلها و تهذيبها و رياضتها للعلوّ و السموّ، و سيسوق العالم في اتّجاه الزوال و الدمار.
و قد ورد في «مروج الذهب» أنّ يزيد صاحب حراب و جوارح كلاب و قرود و فهود۱ و منادمة على الشراب.٢
و جلس ذات يوم على شرابه و عن يمينه ابن زياد و ذلك بعد قتل الحسين عليهالسلام، فأقبل على ساقيه فقال:
اسْقِنِي شَرْبَةً تُرَوِّي مُشَاشِي٣ | *** | ثُمَّ مِلْ فَاسقِ مِثْلَهَا ابْنَ زِيادِ |
صَاحِبَ السِّرِّ وَ الأمَانَةِ عِنْدِي | *** | وَ لِتَسْدِيدِ مُغْنَمِي وَ جِهَادِي |
ثُمَّ أمَرَ المُغنِّينَ فَغَنُّوا بِهِ.٤
و ورد في عبارة سبط ابن الجوزيّ بعد هذين البيتين بيت ثالث بهذه العبارة:
قَاتِلَ الخَارِجِيِّ أعْنِي حُسَيْناً | *** | وَ مُبِيدَ الأعْدَاءِ وَ الحُسَّادِ |
و نقل صاحب «شفاء الصدور» هذا البيت في كتابه عن ابن الجوزيّ، و كانت عبارته هي. و قد نقل سبط ابن الجوزيّ تفصيل هذه القصّة و ذكر أنّ يزيد استدعى ابن زياد إليه و أعطاه أموالًا كثيرة و تحفاً عظيمة و قرّب مجلسه و رفع منزلته و أدخله على نسائه و جعله نديمه؛ و سكر ليلةً و قال للمغنّي غنِّ، ثمّ قال يزيد بديهيّاً. اسْقِنِي شَرْبَةً تُرَوِّي مُشَاشِي إلى آخر الأبيات الثلاثة التي ذكرناها.۱
تمثّل يزيد بأبيات ابن الزبعري صريح في الكفر
و أورد سبط ابن الجوزيّ في كتاب «التذكرة». و أمّا المشهور عن يزيد أنّه لمّا حضر الرأس بين يديه جمع أهل الشام وَ جَعَلَ يَنْكُتُ عَلَيْهِ بِالخَيْزَرَانِ وَ يقول: أبْيَاتَ ابْنِ الزِّبَعْرَي:
لَيْتَ أشْيَاخِي بِبَدْرٍ شَهِدُوا | *** | وَقْعَةَ الخَزرَجِ مِنْ وَقْعِ الأسَلْ |
قَدْ قَتَلْنَا القَرْنَ مِن سَادَاتِهِمْ | *** | وَ عَدَلْنَا قَتْلَ بَدْرٍ فَاعْتَدَلْ |
قال الشعبيّ: و زاد فيها يزيد فقال:
لَعِبَتْ هَاشِمُ بِالمُلْكِ فَلَا | *** | خَبَرٌ جَاءَ وَ لَا وَحْيٌ نَزَلْ |
لَسْتُ مِنْ خِنْدِفَ إنْ لَمْ أنْتَقِمْ | *** | مِن بَنِي أحْمَدَ مَا كَانَ فَعَلْ٢ |
ليت أشياخي ببدر شهدوا | *** | جَزَعَ الخَزْرَجَ في وَقْعِ الأسَلْ |
فأهلّوا و استهلّوا فَرَحاً | *** | ثُمَّ قالوا لي هَنِيئاً لا تَسَلْ |
حِينَ حُكَّتْ بِفِناءِ بَرْكها | *** | و استحرَّ القَتلُ في عبد الأسَلْ |
قد قتلْنا الضِّعفَ من أشرافِكم | *** | و عدَلْنا ميلَ بَدرٍ فاعْتَدَلْ |
لَيت أشياخي بِبَدْرٍ شَهِدُوا | *** | جَزَع الخَزْرَج في وَقْع الأسَلْ |
مقولة يزيد صريحة في قتل الإمام الحسين بحميّة جاهليّة
يقول أبوالفرج ابن الجوزيّ في رسالته «الرَّدُّ عَلَى المتَعَصِّبِ العَنِيدِ المَانِعِ مِن ذَمِّ يَزِيد»:۱ لَيْسَ العَجَبُ مِنْ فِعْلِ عُمَرَ بْنِ سَعْدٍ وَ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ زِيَادٍ، وَ إنَّمَا العَجَبُ مِنْ خِذْلَانِ يَزِيدَ وَ ضَرْبِهِ بِالقَضِيبِ عَلَى ثَنِيَّةِ الحُسَيْنِ، وَ إغَارَتِهِ عَلَى المَدِينَةِ.
أفَيَجُوزُ أنْ يُفْعَلَ هَذَا بِالخَوَارِجِ؟ أوَ لَيْسَ في الشَّرْعِ أنَّهُمْ يُدْفَنُونَ؟
أمَّا قوله: لِيَ أنْ أسبِيَهُمْ؛ فأمْرٌ لَا يَقْنَعُ لِفَاعِلِهِ وَ مُعْتَقِدِهِ بِاللَّعْنَةِ؟
وَ لَوْ أنَّهُ احْتَرَمَ الرَّأسَ حِينَ وُصُولِهِ وَ صَلَّى عَلَيْهِ وَ لَمْ يَتْرُكْهُ في طَسْتٍ وَ لَمْ يَضْرِبْهُ بِقَضِيبٍ؛ مَا الذي كَانَ يَضُرَّهُ وَ قَدْ حَصَلَ مَقْصُودُهُ مِنَ القَتْلِ؟ وَلَكِنْ أحقَادٌ جَاهِلِيَّةٌ، وَ دَلِيلُهَا مَا تَقَدَّمَ مِن إنْشَادِهِ:
لَيْتَ أشْياخِي بِبَدْرٍ شَهِدُوا | *** | جَزَعَ الخَزْرَجَ مِنْ وَقْعِ الأسَلْ |
لأهَلُّوا وَ اسْتَهَلُّوا فَرَحاً | *** | ثُمَّ قَالُوا يَا يَزِيدُ لَا تَشَلْ |
ثمّ يقول ابن الجوزيّ. و هذه الأبيات لابن الزبعري نقل منها بعضها، و ذلك لأنّ المسلمين قتلوا منهم عدداً يوم غزوة بدر، و قتلوا منهم آخرين يوم احد، لذا فقد استشهد يزيد بهذه الأبيات، و يبدو أنّه غيّر بعض فقراتها. و يكفيه نفس استشهاده بها خزياً و وبالًا و خذلاناً.۱
و ورد في «الفتاوى الكبير» و هو من الاصول المعتمدة لأهل السنّة رواية فيها:
اكْتَحَلَ يَزِيدُ يَوْمَ عَاشُورَاء بِدَمِ الحُسَيْنِ وَ بِالإثْمِدِ لِيَقِرَّ عَيْنُهُ.
و يتّضح من هذا أنّ الاكتحال يوم عاشوراء يرجع إلى فعل يزيد: لَعَنَهُ اللهُ وَ مَنِ اسْتَنَّ بِسُنَّتِهِ.٢
و نرى من جانب آخر أنّ خبر شهادة الحسين عليهالسلام يصل المدينة فيفرح حاكمها (عمرو بن سعيد) و هو من بني اميّة فيضحك و يتمثّل بشعر عمرو بن معدي كرب، ثمّ يقول متهكّماً غامزاً: وَاعِيَةٌ كَواعِيَةِ عُثْمَانَ.٣
ليت أشياخي ببدرٍ شهدوا | *** | ...- الأبيات. |
و قد أورد كلّ من المسعوديّ و ابن كثير الدمشقيّ و ابن الأثير الجزريّ
في تواريخهم. و دخل البشير على عمرو بن سعيد فقال: ما وراؤك؟ قال: ما سرّ الأمير؛ قُتِلَ الحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ. فقال: نادِ بقتله، فنادى،
قول ابنة عقيل بن أبي طالب حين سماعها بشهادة الحسين عليهالسلام
فَصَاح نِسَاءُ بَنِي هَاشِمٍ وَ خَرَجَتْ ابْنَةُ عَقِيلِ بْنِ أبِي طَالِبٍ وَ مَعَهَا نِسَاؤُهَا حَاسِرَةً تَلْوِي ثَوْبَهَا۱ وَ هي تقول:
مَاذَا تَقُولُونَ إنْ قَالَ النَّبِيُّ لَكُمْ | *** | مَاذَا فَعَلْتُمْ وَ أنتُمْ آخِرُ الامَمِ |
بِعِتْرَتِي وَ بِأهْلِي بَعْدَ مُفْتَقَدِي | *** | مِنْهُمْ اسَارَي وَ قَتْلَي ضُرِّجُوا بِدَمِ |
مَا كَانَ هَذَا جَزَائِي إذْ نَصَحْتُ لَكُمْ | *** | أنْ تَخْلُفُونِي بِسُوءٍ في ذَوِي رَحِمِي٢ |
يقول ابن الأثير. فلمّا سمع عمرو بن سعيد أصواتهنّ ضحك و قال:
عِجَّتْ نِسَاءُ بَنِي زِيادٍ عَجَّةً | *** | كَعَجِيجِ نِسْوَتِنَا غَدَاةَ الأرْنَبِ |
ثُمَّ قَالَ عَمْرٌو: وَاعِيَةٌ كَوَاعِيَةِ عُثْمَانَ. ثُمَّ صَعَدَ المِنْبَرَ فَأعْلَمَ النَّاسَ قَتْلَهُ.۱
هدف معاوية و يزيد و مَن تابعهما في الدنيا هو هدم قدسيّة القرآن
لقد كان الهدف من إيراد هذه الحكايات من سيرة معاوية و يزيد بيان أنّ معارضتهم و وقوفهم بوجه أصل القرآن و حقّانيّته و العمل به قد ظهر بهذه الكيفيّة.٢
فالحقد على رسول الله هو حقد على القرآن؛ و العداء لأميرالمؤمنين
و أولاده عداء مع القرآن، ذلك لأنّ رسول الله و أميرالمؤمنين و الأئمّة من آله الميامين هم حقيقة القرآن.
إنّ هؤلاء المترفين و المستكبرين، المغرورين بعالم المادّة، و المغمورين في وادي الشهوات و النزوات، الذين أسكرتهم رياح الرياسة و الجاه، حين لمسوا عجزهم عن استئصال ظاهر القرآن، و عرفوا أنّ ذلك لا يخدم مصالحهم و رأوا أن لا يمكنهم الوصول إلى هدفهم الفاسد بما يريدون إلّا بالقضاء على حقيقة القرآن بمنع العمل به و بإلغاء قوانينه في البلاد الإسلاميّة، تماماً كما أكدّ غلادستون۱ رئيس حزب الأحرار و الصدر الأعظم الإنجليزيّ، الذي يرجع إلى أمر تقوية الحركة الصهيونيّة في العالم في خطابه و كلامه.
لذا فهم في نفس الوقت الذي يذيعون فيه القرآن في الإذاعات و يهتفون به من على المآذن، فقد كانوا يسوقون الناس إلى وادي الغفلة و السكرة، حتى إذا ذهبت السكرة و بدأ هؤلاء يفيقون و شرعوا يتطّلعون حولهم و يحاولوا اكتشاف ما ضاع منهم، شاهدوا - و يا للهول - أنّ السيل قد جرف كلّ شيء، المزرعة و البستان، المسجد و المدرسة، الزوجة و الولد؛ ثمّ علتهم فجأةً الموجة الأخيرة للسيل العارم فقذفت بهم إلى ديار الفناء و العدم.
كان تأريخ سيّدالشهداء عليهالسلام انموذجاً لنا و قدوةً إلى يوم القيامة تعلّمنا مدى الأهمّيّة الكبيرة للقيام بالحقّ و القسط و إعلان كلمة
الحقّ، و السعي لتقويم المسار المنحرف للطغاة المترفين، و يعلّمنا كذلك أنّ العدوّ في الجانب الآخر من هذا الصراع و المعركة لا يدّخر جهداً عن السعي بجدّيّة للقضاء على شخص و شخصيّة و وجود الحقّ و الحقيقة، و إلى طمس الآثار و الخصائص و الأخبار؛ فيأمر عشرة من الفرسان ليمتطوا خيولهم فيهجموا بقساوة على البدن القتيل الطريح على الأرض بلا رأس فيطأوه!!
و لم يكن ذلك في الحقيقة ليمثّل ركل و رضّ البدن، بل ركلًا و رضّاً لروحه و حقيقته و شخصيّته، بياناً للعالم و العالمين بأنّ من كان منطقه كمنطق الحسين هذا، فعاقبته هذه!
و من المطالب المهمّة أنّ بين اميّة كانوا بعد واقعة كربلاء يعملون على هيئة نعل الخيول فيسمّرونها على أبواب دورهم!!
يقول المقرّم في مقتله نقلًا عن «الآثار الباقية» للبيرونيّ:
لَقَدْ فَعَلُوا بِالحُسَيْنِ مَا لَمْ يُفْعَل في جَمِيعِ الامَمِ بِأشْرَارِ الخَلْقِ مِنَ القَتْلِ بِالسَّيْفِ وَ الرُّمْحِ وَالحِجَارَةِ وَ إجْرَاءِ الخُيُولِ.۱
كلام البيرونيّ و عمارة الفقيه إلى منى في عداء بني اميّة لآل الرسول
ثمّ ينقل في ذيل هذا المطلب عن كتاب «التعجّب» للكراجكيّ، ص ٤٦، المُلحق بـ «كنز الفوائد»:
وَ قَدْ وَصَلَ بَعْضُ هَذِهِ الخُيُولِ إلى مِصْرَ فَقُلِعَتْ نِعَالُهَا وَ سُمِّرَتْ عَلَى أبْوَابِ الدُّورِ تَبَرُّكاً. وَ جَرَتْ بَذَلِكَ السُّنَّةِ عِنْدَهُم؛ فَصَارَ أكْثَرُهُمْ يَعْمَلُ نَظِيرَهَا وَ يُعَلِّقُ عَلَى أبْوَابِ الدُّورِ.٢
لكنّنا ننقل هنا عين عبارة البيرونيّ التي هي أشدّ إيلاماً للقلوب و تصديعاً للأكباد من حكاية المقرّم و نقله:
وَ اتَّفَقَ فِيهِ (أي في العَاشِرِ مِنَ المُحَرَّمِ) قَتْلُ الحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ، وَ فُعِلَ بِهِ وَ بِهِمْ مَا لَمْ يُفْعَلْ في جَمِيعِ الامَمِ بِأشْرَارِ الخَلْقِ مِنَ القَتْلِ بِالعَطَشِ وَالسَّيْفِ وَ الإحْرَاقِ وَ صَلْبِ الرُّؤُوسِ وَ إجْرَاءِ الخُيُولِ عَلَى الأجْسَادِ فَتَشَاءَمُوا بِهِ.
ثمّ يضيف البيرونيّ بعد ذلك: وَ أمَّا بَنُو امَيَّة فقد لبسوا فيه ما تجدّد، و تزيّنوا و اكتحلوا و عيّدوا، و أقاموا الولائم و الضيافات، و طعموا الحلاوات و الطيّبات، و جرى الرسم في العامّة على ذلك أيّام ملكهم، و بقي فيهم بعد زواله عنهم.
و أمَّا الشِّيعَة فإنّهم ينوحون و يبكون أسفاً لقتل سيّدالشهداء فيه، و يظهرون ذلك بمدينة السلام (مدينة الرسول) و أمثالها من المدن و البلاد، و يزورون فيه التربة المسعودة بكربلاء، و لذلك كره فيه العامّة من تجديد الأواني و الأثاث.۱
و لقد أبدع الفقيه و العالم و الشيخ إلى منى عمارة في تعريضه بقصيدة رائعة على كلام يزيد و استكباره و بهتانه و فضيحته مقابل إمام الزمان و قطب دائرة الإمكان و الحجّة على جميع الخلائق، وَ لِلَّهِ دَرُّهُ وَ عَلَى اللهِ أجْرُهُ:
غَصَبَتْ امَيَّةُ إرْثَ آلِ مُحَمَّدٍ | *** | سَفَهاً وَ شَنَّتْ غَارَةَ الشَّنَآنِ |
وَ غَدَتْ تُخَالِفُ في الخَلَافَةِ أهْلَهَا | *** | وَ تُقَابِلُ البُرْهَانَ بِالبُهْتَانِ |
لَمْ تَقْتَنِعْ حُكَّامُهُمْ بِرُكُوبِهِمْ | *** | ظَهْرَ النِّفَاقِ وَ غَارِبَ العُدوَانِ |
وَ قُعُودِهِمْ في رُتْبَةٍ نَبَويَّةٍ | *** | لَمْ يَبْنِهَا لَهُمُ أبُوسُفْيَانِ |
حتى أضَافُوا بَعْدَ ذَلِكَ أنَّهُمْ | *** | أخَذُوا بِثَارِ الكُفْرِ في الإيمَانِ |
فَأتَى زِيَادٌ في القَبِيحِ زِيَادَةً | *** | تَرَكَتْ يَزَيدَ يَزِيدُ في النُّقْصَانِ۱ |
إنّ تدبير الله سبحانه لعجيب حقّاً، و كيف أنّه في إتمامه الحجّة على الناس ينبعث شخص فاسق تافه و غير لائق بكلّ معنى الكلمة فيقف في مواجهة الإمام بالحقّ و النور المطلق، و ينتحل لنفسه اسم النزيه الطيِّب و يدعو مقابله بالخبيث؛ لَيصدق هنا حقّاً وقوف مركَزَي النور و الظلمة أمام
بعضهما وجهاً لوجه.
يقول الضَحَّاك بن عبدالله، و هو من أنصار سيّدالشهداء عليه السلام: و مرّ بنا ليلة عاشوراء خيل لابن سعد تحرسنا و إنّ حُسيناً عليه السلام ليقرأ:
وَ لا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ ، ما كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ.۱ فسمعها من تلك الخيل رجل يقال له عبدالله بن سمير و كان مضحاكاً و شجاعاً بطلًا فارساً فاتكاً و من الأشراف.
فقال: نَحْنُ وَ رَبِّ الكَعْبَةِ الطَّيِّبُونَ مَيَّزَنَا مِنْكُمْ!
فقال له بُرَير بن خُضَير: يا فاسق! أنت يجعلك الله من الطيّبين؟!
فقال له: مَن أنتَ ويلك؟ فقال له. برير بن خضير، فتسابّا.٢
قراءة رأس الإمام الحسين عليهالسلام المقطوع من على الرمح آية الكهف
و روى كلًّا من الشيخ المفيد و أمين الإسلام الطبرسيّ، أنّه: بعد أن جيء برأس الحسين عليهالسلام إلى عبيدالله بن زياد، و وردت زينب سلام الله عليها و السبايا مع السجّاد عليهم السلام، و كان من زينب سلام الله عليها ذلك الكلام و الاحتجاج البديع، فلمّا أصبح عبيدالله بن زياد بعث برأس الحسين عليهالسلام على رمح فدير به في سكك الكوفة كلّها و قبائلها.
فروى عن زَيْدِ بنِ أرْقَمٍ أنَّهُ قال: مُرَّ بِهِ عَلَيَّ وَ هُوَ عَلَى رُمْحٍ وَ أنَا في
غُرْفَةٍ لِي، فَلَمَّا حَاذَانِي سَمِعْتُهُ يَقْرَا:
«أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَ الرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً».۱
فَقَفَّ وَ اللهِ شَعْرِي وَ نَادَيْتُ: رَأسُكَ وَ اللهِ يَا بنَ رَسُولِ اللهِ أعْجَبُ وَ أعْجَبُ!٢
مراثي حجّة الإسلام نيّر التبريزيّ في عظمة بُراق الإمام الحسين
و ينشد هنا حجّة الإسلام نيّر التبريزيّ رضوان الله عليه في مقام العجب و الدهشة:
سر بي تن، كه شنيده است به لب آية كهف | *** | يا كه ديده است به مِشْكَوة تنور آية نور؟ |
و هذه المرثيّة، كسائر مراثيه الاخرى، في أعلى درجات الروعة و العظمة، و أوّلها يبدأ بهذه الأبيات:
اي ز داغ تو روان خون دل از ديدة حور | *** | بي تو عالم همه ماتمكده تا نفخة صور |
خاك بيزان به سر اندر سرِ نعش تو بنات | *** | اشك ريزان به بَر از سوگ تو شعراي غيور |
ز تماشاي تجلّاي تو مدهوش كليم | *** | أي سرت سرّ أنا الله، و سنان نخلة طور۱ |
ديدهها گو همه دريا شو و دريا همه خون | *** | كه پس از قتل تو منسوخ شد آئين سرور |
شمع انجم همه گو اشك عزا باش و بريز | *** | بهر ماتم زده كاشانه چه ظُلْمات و چه نور |
پاي در سلسله سجّاد و به سر تاجْ يزيد | *** | خاك عالم به سر افسر و ديهيم و قصور |
دَير ترسا و سر سبط رسول مدني | *** | آه اگر طعنه به قرآن زند انجيل و زبور |
تا جهان باشد و بوده است كه داده است نشان | *** | ميزبان خفته به كاخ اندر و مهمان به تنور! |
سر بي تن كه شنيده است به لب آية كهف؟ | *** | يا كه ديده است به مشكوة تنور آية نور؟۱ |
إلى آخر هذه المرثيّة ذات النظرة الواقعيّة.
و من بين مراثيه الرائعة:
قتل شهيد عشق، نه كار خدَنگ بود | *** | دنيا براي شاه جهان دار تنگ بود |
عصفور هر چه باد هم آورد باز نيست | *** | شهباز را ز پنجة عصفور ننگ بود |
آئينه خود ز تاب تجلّي به هم شكست | *** | گيرم كه خصم را دل پر كينه سنگ بود |
نيرو از آن گرفت، بر او آخت تير كين | *** | قومي كه با خداي مُهيّاي جنگ بود |
عهد ألست اگر نگرفتن عنان او | *** | شهد بقا به كام مخالف شرنگ بود |
از عشق پرس حالت جانبازي حسين | *** | پاي بُراق عقل در اين عرصه لنگ بود |
احمد اگر به ذروة قوسين عروج كرد | *** | معراج شاه تشنه، به سوي خدنگ بود۱ |
از تير كين چو كرد تهي شاه دين ركاب | *** | آمد فرا به گوش وي از پرده اين خطاب۱ |
كاي شهسوار بادية ابتلاي ما | *** | بازآ كه زان تست، حريم لقاي ما |
معراج عشق را شب أسراست هين بران | *** | خوش خوش براق شوق به خلوت سراي ما |
تو از براي مائي و ما از براي تو | *** | عهدي است اين فناي ترا با بقاي ما |
دادي سري ز شوق و خريدي لقاي دوست | *** | هرگز زيان نبُرد كس از خون بهاي ما |
جانبازيت حجاب دو بيني به هم دريد | *** | در جلوهگاه حسن توئي خود به جاي ما |
بازآ كه چشم ما ز ازل بر قدوم تست | *** | خود خاكروب راه تو بود أنبياي ما |
هين زان تست تاج ربوبيّت از ازل | *** | گر رفت بر سَنان سرت اندر هواي ما٢ |
گر ز آتش عطش جگرت سوخت غم مخور | *** | از تست آب رحمت بي منتهاي ما |
ور سفله برد ز تو دستي، مشو ملول | *** | با شهپر خدنگ بپرّد هُماي ما |
گستردهايم بال ملائك به جاي فرش | *** | كازار بر تنت نكند كربلاي ما |
دلگير گو مباد خليل از فداي دوست | *** | كافي است اكبر تو ذبيح مناي ما |
كو نوح؟ گو به دشت بلا أي باز بين | *** | كشتي شكستگان محيط بلاي ما |
موسي ز كوه طور شنيد ار جواب لَن | *** | گو باز شو به جلوه گه نينواي ما |
گر زنده جان ببُرد ز دار بلا مسيح | *** | گو دار كربلا نگر و مبتلاي ما۱ |
منسوخ كرد ذكر اوائل حديث تو | *** | أي داده تن ز عهد ازل بر قضاي ما۱ |
الحمد للّه و له الشكر أن يصل هذا الكتاب، و هو الجزء الثاني من «نور ملكوت القرآن» إلى خاتمته عند غروب يوم الرابع عشر من شهر شعبان المعظّم، عند الليلة المباركة للميلاد المبارك لبقيّة الله الأعظم الحجّة ابن الحسن العسكريّ عجّل الله فرجه الشريف، و جعلنا الله تراب مَقْدَمه المبارك؛ و ذلك في سنة ألف و أربعمائة و تسعة من الهجرة النبويّة على مهاجرها آلاف التحيّة و السلام في المدينة المقدّسة للمشهد الرضويّ على ثاويه آلاف التحيّة و الإكرام، على يد الحقير الفقير السيّد محمّد الحسين الحسينيّ الطهرانيّ، غفر الله له ذنوبه، و وفّقه لما يحبّه و يرضاه.
اللهُمَّ صَلِّ عَلَى المُّصْطَفَى مُحَمَّدٍ، و المُرْتَضَى عَلِيٍّ، وَ البَتُولِ فَاطِمَةَ، وَ السِّبْطِينِ الحَسَنِ وَ الحُسَيْنِ؛ وَ عَلَى زَيْنِ العَابِدِينَ عَلِيٍّ، وَ البَاقِرِ مُحَمَّدٍ، وَ الصَّادِقِ جَعْفَرٍ، وَ الكَاظِمِ مُوسَى، وَ الرِّضَا عَلِيٍّ، وَ التَّقِيِّ مُحَمَّدٍ، وَ النَّقِيِّ عَلِيٍّ، وَ الزَّكِيِّ العَسْكَرِيِّ الحَسَنِ، وَ صَلِّ عَلَى الهَادِي المَهْدِيِّ، صَاحِبِ الزَّمَانِ، وَ خَلِيفَةِ الرَّحْمَنِ، وَ قَاطِعِ البُرْهَانِ، وَ إمَامِ الإنْسِ وَ الجَانِّ، صَلَوَاتُكَ عَلَيْهِ وَ عَلَيْهِمْ أجْمَعِينَ!