9

طَرفٌ مِن جمال الله تعالى

شرح فقرات مِن دعاء الافتتاح – الجلسة التاسعة

440
مشاهدة المتن

المؤلّفالعلامة آیة الله السيد محمد الحسين الحسيني الطهراني

القسممحاضرات العلامة الطهراني

المجموعةشرح دعاء الافتتاح

التاريخ 1397/09/20

جلسات المجموعة(10 جلسة)

التوضيح

قال سماحة العلّامة السيّد محمّد الحسين الحسينيّ الطهرانيّ قدّس الله سرّه: إنّ (النِعَم الهنيئة) تعني (النِعَم المُحيِيَة)، فالنِعمَة حياة والإنعام إحياء؛ فأخذ يعدّدها مبيّنًا جوانب الحياة فيها، ولَمّا كانت لا تُحصى عددًا ولا تُحصر أبدًا اقتصر على ذِكر نماذج لطيفة ودقيقة منها. ثمّ مَن يتفطّن لهذا سيُدرك كم هو إلهٌ جميلٌ، وحينئذٍ لن يتمالك نفسه للثناء عليه وتحميده، الّذي هو عين تسبيحه وتنزيهه عن النقائص. وما إن يقف المرء على جمالٍ لله تعالى حتّى يجد جمالًا آخر. وقال إنّ الله في مقام لا يُخرجه تجاسر العباد عن طوره مهما تعدّوا على ساحته، وإليك المزيد، فهو يستر ويصبر، حتّى أنّه لا يُغلق بابًا ولا يَرُدّ سائلًا، ثمّ يُعطي بمقدار الطلب، ولكن لا تغترّ أيّها المعاند بسماحة ساحته تعالى، فمَن مَكَرَ فـ ﴿اللهُ خَيْرُ الْماكِرينَ﴾. وهنا انقطع وضوح التسجيل الصوتيّ لهذه المحاضرة فاستُعيض عنها بمقطع مِن كتاب (معرفة المَعَاد) للمحاضِر، يتناسب والمقام، وجاء فيها توضيحٌ مفصّل لمعنى نار القيامة والصراط والسير، وبها بيان لآية ﴿وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها﴾.

/۱۳
بي دي اف بي دي اف الجوال الوورد

طَرفٌ مِن جمال الله تعالى - شرح فقرات مِن دعاء الافتتاح – الجلسة التاسعة

1
  •  

  • هو العليم

  •  

  • طَرفٌ مِن جمال الله تعالى

  •  

  • شرح فقرات مِن دعاء الافتتاح – الجلسة التاسعة

  •  

  • محاضرة القاها

  • سماحة العلاّمة آية الله السيّد محمّد الحسين الحسينيّ الطهرانيّ 

  • قدّس الله نفسه الزكيّة

  •  

  •  

طَرفٌ مِن جمال الله تعالى - شرح فقرات مِن دعاء الافتتاح – الجلسة التاسعة

2
  •  

  •  

  • أعوذ بالله مِنَ الشيطان الرجيم

  • بسم الله الرحمن الرحيم

  • وصلّى الله على محمّد وآله الطاهرين

  • ولعنة الله على أعدائهم أجمعين مِنَ الآن إلى قيام يوم الدين

  •  

  •  

  • المواهب الهنيئة هي نِعَمٌ تُحي ولا تُحصى

  • «فَكَمْ مِنْ مَوْهِبَةٍ هَنيئَةٍ قَدْ أَعْطاني»؛ أتلاحظون أحيانًا عندما يكون الإنسان مُتعبًا، وترتفع درجة حرارة الجوّ كثيرًا فيشتدّ العطش به حتّى يكاد أن يُقضى عليه! لا أدري إن كنتم قد مررتم بهذه الظروف أم لا، فقد لا يحصل هذا للجميع، ولكنّه حصل معي مرّات عديدة؛ ففي بعض أسفاري في فصل الصيف كان يشتدّ العطش بي كثيرًا بحيث أُشرف على الموت، فلو قُدِّم لك كوبٌ مِنَ الماء البارد في هذه الظروف، فأيّ أثرٍ سيتركه على عطشك، وكم سيكون ماءً هنيئًا؟ يُقال لمثل هذا الماء (المُحيي)، أي الماء الّذي يساوي الحياة ويُعيد للإنسان حياته مِن جديد، فيُقال له ماءٌ هنيءٌ.

  • هناك الكثير مِن أمثال هذه العطايا الّتي منحها الله لعباده؛ فكم مِن مرضٍ أصابنا وأوصلنا إلى حافّة الموت، ودفعه الله عنّا؟ وكم مِن مشكلةٍ صعبةٍ أوصلتنا إلى طريقٍ مسدودٍ، وحلّها الله لنا؟ وكم سلكنا مِن طريقٍ خطيرٍ يؤدِّي دون أيّ شكٍّ إلى المعصية ويجعلنا مِن أهل الكفر والزندقة، وأنقذنا الله منه، فغيّر لنا ذلك الطريق وجعلنا نسلك طريقَ العدالة والإيمان بدلًا عنه؟ إنّ كلّ هذه النِعم هي مِن نِعم الله علينا، وهي نِعمٌ هنيئةٌ، أي إنّها تنعش الروح؛ فعندما يُغلَق باب المعصية بوجه الإنسان، ويتبدّل ببابِ طاعةٍ، ستكون تلك الطاعة هنيئةً، وذلك لأنّ الطاعة تتناسب مع روح الإنسان، مَثَلها في ذلك مَثَل الحلوى والحساء الّذي يتناوله المرء في إفطاره، فعند الإفطار يُجلب للصائم الحليب الدافئ والحساء، ولا يُجلب له الخبز اليابس أو الفاكهة المجفّفة الّتي تتسبّب في التصاق أسنانه ببعضها وتعلق في بلعومه، هكذا هي حال الطاعة، فهي بمثابة الطعام الّذي يَسهُل ابتلاعه، أمّا المعصية فهي بمثابة الطعام الّذي يخدش البلعوم ويجرحه.

  • كم مِن نعمة مَنَّ بها اللَهُ علينا في أيّام حياتنا، منذ ولادتنا إلى هذه اللحظة! فها هي النِعَمِ تنهال علينا ليلًا نهارًا بأشكالٍ متنوّعة وكيفيّاتٍ متفاوتة، ونحن نتمتّع بهذه النِعَمِ الّتي لا نعرفها ولا ندري مِن أين أتت.

طَرفٌ مِن جمال الله تعالى - شرح فقرات مِن دعاء الافتتاح – الجلسة التاسعة

3
  • إنّ اليوم هو الحادي والعشرون مِن أيّام شهر رمضان، ولم أكن أتوقّع أنّني سأتمكّن مِنَ الحديث فيه، لا في ليله ولا نهاره، إذ لم يكن حالي يُساعدني، فأنا لا أمتلك النشاط اللازم لذلك في غير أيّام الصيام، فكيف الحال وأنا صائم! ومع ذلك، فها أنا أتحدّث إليكم دون أن أشعر بتعب وإرهاق جرّاء ذلك، وأنا متعجّبٌ ممّا يحصل! فقد تحدّثتُ اليوم مدّة ساعة وعشرين دقيقة على المنبر، فبعد أن قرأ مرشد اكبر الدعاء، وجدتُ في نفسي نشاطًا يُمكّنني مِنَ الحديث، هذا في الوقت الّذي لم أكن أحتمل ذلك قبل شهر رمضان.

  • ولاحظوا أيضًا أنّ العبد أحيانًا يكون في حالة لا تساعده على حضور المجالس، فأنا نفسي لم أستطع حضور بعض مجالس ليالي الثلاثاء، أو كنت أحضرها فنقرأ القرآن ثمّ أنصرف دون أن أتمكّن مِنَ الحديث. فهذا أيضًا يحصل بسبب الفيض الّذي يُفاض علينا مِنَ الله وليس لنا أيّ دور فيه.

  • يريد الله أن ينبّه الإنسان على أن اشتداد العزم والتراخي كلاهما منه، فهو يقول: لو أعطيتك الهمّة ستتمكّن مِن فعل كلّ شيء، ولو سلبت نعمتي منك ستموت.

  • لو ضُرب البالون المليء بالهواء بإبرة، سيفرغ هواؤه في الحال، وعندما يلعب الأطفال بالسيارات المتوقفة على جانب الطريق، فيُفرّغون هواء إطاراتها، ستخمد الإطارات وتلتصق بالأرض، وعندما يرى صاحب السيّارة ما قد حصل سيقول: يا ويلتاه! لقد خمدت الإطارات، والحال إنّه لا يعلم أنّ الصبيان هم مَن فعلوا ذلك؛ فكلّ ما في المرء مِن قدرة وأنانيّة، يمكن أن يزول كما يُفرّغ الهواء؛ فكلّ ما يناله العبد مِن فيضٍ، هو مِنَ الله.

  • إنّ الإنسان هو ذلك الموجود الّذي يُعاديه كلّ العالَم وكافّة الكائنات، لأنّ هذا العالَم هو عالَم المادّة المبنيّ على أساس التزاحم، مَثَله في ذلك مَثَل حيوانات الغابة الّتي يأكل بعضها البعض لضمان بقائها، وهكذا حال الإنسان، فإنّ الجميع – سواء البشر والحيوانات – في هذا العالَم وفي هذه المجتمعات، لديه الدافع لإفناء الإنسان ومعاداة حقيقته، فمتى ما تمكّنوا مِن ذلك لن يُمهلوه لحظةً واحدةً، غير أنّ الله يحفظ الإنسان مِن بين آلاف الأعداء.

طَرفٌ مِن جمال الله تعالى - شرح فقرات مِن دعاء الافتتاح – الجلسة التاسعة

4
  • مِنَ المناسب أن يسأل المرءُ أمّه عن البلايا والأمراض الّتي أصابته في طفولته، فالطفل عند ولادته يكون مِنَ الرقّة بحيث يكون معرّضًا لخطر الموت في كلّ يومٍ يمرّ عليه؛ فلو أصابته ريحٌ لقتلته، ولو حصل له اختلالٌ معيّنٌ أو تناول طعامًا غير مناسبٍ لابُتلي بإسهال وقُضي عليه. [ولكن لاحظوا] كيف نظّم الله عمل الأب والأمّ [وكيف بنى] هذا النظام، وأيّة علاقة ومودّة قد زرع، وأيّة مشاكل قد دفعها الله عن الطفل، هذا فضلًا عن تغذية الطفل بحليب مناسب مِن ثدي أمّه، وفضلًا عن أنواع الأمراض والمشاكل والأعداء والعقبات الّتي تعترض طريقه في هذا العالَم، والّتي أزاحها الله عنه. فالله يحفظه كحفظ قارورة الزجاج بين الأحجار.

  • الإنسان معرّضٌ للإصابة بآلاف الأمراض، فكم عدد الأمراض الّتي يمكن أن تصيب الإنسان في كلّ لحظةٍ؟ لو سألنا طبيبًا عن عددها لقال: هناك مِنَ الأمراض ما لم نتمكّن مِن إحصائه حتّى الآن. فكم مرض يمكن أن يُصيب العين وحدها؟ هذا بالنسبة إلى العين، فكيف بسائر الأعضاء؟! هذا في الوقت الّذي تكون فيه السلامة واحدة والإنسان السالِم واحد، أعني الإنسان الّذي لا يعاني مِن أمراض العين والأذن والقلب والكلية. ورغم وجود كلّ تلك الأمراض، إلّا أنّ الله يحفظ الإنسان منها ومِن آلاف الأخطار المُحدقة به، ويُبقيه سالمًا.

  • إنّ محافظة الله على الإنسان هنا يُشبه تمامًا المحافظة عليه وهو داخل النار، كما فعل الله العليّ الأعلى مع النبيّ إبراهيم عندما حَفظه وهو داخل النار. إنّ الله يحفظ الزجاج داخل الصخور، فجميع هذا الزجاج الّذي ترونه هو مستخرجٌ مِنَ الصخور.

  • يقول بابا طاهر:

  • شب تاريك و سنگستان و مو مست***قدح از دست مو افتاد و نشكست
  • نگهدارنده‌اش نيكو نگهداشت***وگرنه صد قدح نفتاده بشكست
  • [يقول:] في ليلة مظلمة، سرتُ سكرانًا على أرضٍ صخريّة، فسقط الكأس مِن يدي ولم ينكسر [إنّ مَن حفظه قد أحسن حفظه]، هذا في الوقت الّذي ترون الأقداح تنكسر وهي على الرفوف.

  • شب تاريك و بيم موج و گردابى چنين هايل***كجا دانند حال ما سبكباران ساحل ها۱
    1.  ديوان الشيخ حافظ الشيرازيّ، الغزل ۱.

طَرفٌ مِن جمال الله تعالى - شرح فقرات مِن دعاء الافتتاح – الجلسة التاسعة

5
  • [يقول حافظ الشيرازيّ في هذا البيت: الليل مظلم، والخوف مِنَ الأمواج والأعاصير قد بلغ حدّه، فأنَّى لسكّان السواحل المرفّهين أن يعلموا بحالنا]

  • إن كان أحد في وسط بحر متلاطم الأمواج، وكانت الغيوم تغطّي السماء في جوٍّ مظلمٍ، فوقعت السفينة في دوّامة وكانت على وشك الغرق، وشاهد الإنسان الموت أمام عينيه، فلو مات في هذه الظروف لن يجِد مَن يغسّله ويُكفّنه ويصلّي عليه ويُنادي على جنازته عاليًا (لا إله إلّا الله)، فلن يجد مَن يُشيّعه، لأنّه قد سقط في البحر وكانت الأسماك بانتظاره لتقطّعه إربًا إربًا، وسيكون قبره حينئذٍ هو بطون تلك الأسماك. ولكن إن وصلت السفينة في تلك الظروف إلى الساحل بسلام، ووضع الإنسان قدمه على الساحل وقال (الحمد لله)، سيكون ذلك واحدة مِنَ المواهب الهنيئة، شأنه في ذلك شأن الماء البارد [الّذي يُقدّم لمَن سيموت عطشًا]. فكم أرانا الله مِن تلك المواهب؟ إنّها مِنَ الكثرة ما شاء الله.

  • لماذا علينا أن نحمد الله ونسبّحه وكيف

  • «وَعَظِيمَةٍ مَخُوفَة قَدْ كَفانِي»، أي كم مِنَ المشاكل الصعبة والظروف غير الملائمة، قد يسَّرها الله للإنسان وكفاه شرّها!

  • «وَبَهْجَةٍ مونِقَةٍ قَدْ أَرانِي»، أي كم مِن مظاهر القدرة والآيات الجميلة والمشاهد الخلّابة الرائعة والأمور العجيبة الّتي تسرّ الإنسان، قد أراه الله للإنسان!

  • بناءً على هذا، فالأولى بنا أن نُثني على الله ونقول: يا له مِن إلهٍ جميل؛ «فأُثْنِي عَلَيْهِ حامِداً»، أي أذكره وأمجّده.

  • قد مَنَّ الله علينا بِنِعَمٍ لا يمكننا مكافأته عليها، وقدّم لنا مِنَ العطايا الهنيئة الّتي لا نستطيع أن نجازيه عليها، ونجّانا مِن مهالكٍ وكفانا أمورًا، ما كنّا نستطيع أن ندفعها عن أنفسنا، وأرانا مِنَ المناظر الخلّابة والآيات الجميلة الّتي ما كنّا لنصل إليها. فما الّذي ينبغي علينا القيام به عندما نعدّ تلك الأشياء الجميلة؟ علَيَّ أن «فأُثْنِي عَلَيْهِ حامِدًا»، أي أن أقول: يا للحُسن، لقد أحسنت صنعًا يا ربِّ. فلا يمكننا أن نفعل أكثر مِن ذلك، إذ إنّ أقصى كمال يمكننا أن نُظهره هو أن نُثني [عليه تعالى]، فهذا أقصى كمال يمكن أن يصدر عن الموجود الممكن، فلا نستطيع أن نضع قدمًا خارج هذه الدائرة وأن نصل بأنفسنا إلى مقام الوجود!

طَرفٌ مِن جمال الله تعالى - شرح فقرات مِن دعاء الافتتاح – الجلسة التاسعة

6
  • فعلينا أن نحمد الله ونقول: إلهي، أنت كلّ شيء، وأنت الّذي تمتلك القدرة المطلقة، فأنت أنجيتنا مِنَ المخاوف الّتي مرّت علينا، وأنقذتنا مِنَ السقوط في الوديان السحيقة ومِنَ الموت المُحتّم، وقد هنّأتنا في معيشتنا؛ كلّ هذا كان هبةً وعطاءً منك، ولم يكن بيعًا وشراءً.

  • لو أراد الله أن يُقايض الإنسان على ما يعطيه مِن نِعمٍ، كأن يقول له: أنا أبيعك هذه الأشياء، كالماء الّذي تشربه مثًلا، وأقلّ ثمنٍ أطلبه منك هو أن تُعيد إليَّ ماءً مثله. فلو فعل الله ذلك، لما استطاع الإنسان أن يشرب الماء، إذ عليه أن يُعيد نفس الماء الّذي يريد أن يشربه. أو كأن يطلب الله منه ثمن الهواء الّذي يتنفّسه، فهل تعلمون الوضع الّذي سيكون عليه الإنسان إن طلب اللهُ منه مقابلًا للعطايا الّتي يمنحه إيّاها؟! إنّ الله يمنح كلّ تلك النِعَمِ بالمجّان، ولا يمكن لأحدٍ أن يدفع ثمنها.

  • «وَأَذْكُرُهُ مُسَبِّحًا»؛ أي ما أحمد الله به هو تسبيحٌ له أيضًا، فحمدي له هو في الوقت نفسه تنزيهٌ له عن النقائص والعيوب، أي إنّ ذِكري هذا هو حمدٌ الّذي هو توأم التسبيح؛ فقولنا «سُبحانَ ربِّيَ الأعلى وبِحَمدِه» يعني أنّني أُسبّحه، وتسبيحي هذا ملازمٌ للحمد ومقترنٌ به، فأبرِّئه عن كلّ عيب وأُلبسه صفات الكمال، فأحمده على ما أعطانيه مِن نِعَمٍ، وأسبّحه لأنّه لا ينام ولا يعجز ولا يجهل. فالله الّذي منحني النِعَم بعلمه وقدرته واختياره، يستحقّ الحمد على ذلك، نَعم، إنّ الإله الّذي يُعطي كلّ شيءٍ بالمجّان دون أن يطلب أجرًا، هو إلهٌ يستحقّ الحمد.

  • كيف يتعامل الله معنا ومِن أيّ مقام

  • «الحَمْدُ للهِ الَّذِي لا يُهْتَكُ حِجابُهُ، وَلا يُغْلَقُ بابُهُ، وَلا يُرَدُّ سائِلُهُ، وَلا يُخَيَّبُ آمِلُهُ» [وقبل هذا بعدّة فقرات قال:] «وَيَسْتُرُ عَلَيَّ كُلَّ عَوْرَةٍ وأَنا أَعْصِيهِ».

  • المقصود مِنَ الحجاب في عبارة «لا يُهْتَكُ حِجابُهُ» هو حجاب العصمة، فلا يمكن أن يَهتِك الله الحجاب في يومٍ مِنَ الأيّام، ولا أن يفضح سرائر الإنسان وأعماله وما يُخفيه، فهو ستّار العيوب على الدوام. فمهما عصتْه العباد وتمرّدت على أوامره وخالفته، ومهما رفعت أصواتها بسبّه وشتمه، واتّخذت سُبُلًا غير سبيله وفعلت كلّ ما ترغب به، إلّا أنّ الله على درجة مِنَ المتانة والرُقيّ والغِنى والأصالة بحيث لا يمكن أن تُخرجه هذه الأمور عن طوره فتجبره على أن يواجه الناس [كما يفعل البشر ببعضهم البعض].

طَرفٌ مِن جمال الله تعالى - شرح فقرات مِن دعاء الافتتاح – الجلسة التاسعة

7
  • يُقال إنّ بعض الناس يمضون جميع أوقاتهم في الشجار والنزاع، فإن مرّ عليهم يومٌ دون أن يتخاصموا مع أحدٍ يشعرون بالملل، هكذا يقضون أيّام حياتهم! فإذا ما حلّ وقت الغروب أثاروا الفوضى في الشارع والزقاق، فيَسبّون ويُسبّون ويضربون بالسكاكين، وعندها يشعرون بالراحة وينصرفون إلى بيوتهم!

  • وقد يسعى هذا المسكين في إثارة الفوضى مِنَ الصباح حتّى الغروب دون أن يُفلح، ويحصل أحيانًا أن يجد مِن هو على شاكلته يبحث عن المتاعب.. قد يُقابِل هذا الشخص رجلًا رزينًا عاقلًا وهادئًا، فيحاول أن يصبَّ جامّ غضبه عليه ليُريح نفسه، ويحاول أن يستفزّه، غير أنّ ذلك الرجل لمّا كان سيّدًا وقورًا فلا يتعامل معه بالمثل؛ هكذا يكون الله، فهو صبورٌ وحليمٌ على تصرّفات الناس الّذين يرفعون أصواتهم بالقول: ما الدليل على وجود الله؟! نحن نستطيع أن نُثبت عدم وجوده بألف دليلٍ ودليل!! ما الّذي يعنيه النبيّ والوحي والقيامة؟! مَن ذهب إلى هناك وجاءنا بأخبارها؟! وما الّذي تعنيه الصلاة، ومَن أمر بها؟! والقول: (جار زد آن جارچى مسخره * الدّنُيا مزرعةُ الآخرة) [يقول: نادى المُنادي الأهوج فقال: الدنيا مزرعة الآخرة]۱! إنّ هذا الكلام قد قيل في هذا البلد، وقد نُشر في الصحف، أتعلمون مَن قصد بقوله (المنادي الأهوج)؟ إنّه قصد الرسول الأكرم، وذلك عندما قال النبيّ: «الدنيا مزرعة الآخرة»٢. نعم، كانت الصحف تكتب أمثال هذا الكلام وتنشره بين الناس، ولقد حصل ذلك في فترة (المشروطة) على وجه الخصوص، حيث كانت الصحف تتهجّم على الرسول وغيره علنًا!!

  • إنّ الله موجود في الأعلى، فافعلوا ما شئتم.. ولقد فعلوا وفعلوا وأدّوا أدوارهم، حتّى ماتوا في ذُلٍّ ومسكنةٍ ونكبة وبأبشع ما يكون. إنّ تاريخ هؤلاء الناس عجيبٌ وهو يستحقّ المطالعة حقًّا.

  • ولكن كم هو مقدار صبر الله وتحمّله، وكم لديه مِنَ العجائب والغرائب، فهو لا تهتزّ كرامته ولا يبالي بشيء مهما تعدّوا على ساحته، وتراه يقول: افعلوا ما شئتم، فسيُحيط بكم عملكم، ولن أعاملكم بالمثل، لأنّني إلهٌ جميل، والقبيح لا يصدر عن الجميل؛ فالسيّئات لا تصدر عن الله أبدًا، بل السيّئات هي نتيجة أعمالكم، وستعلمون ما سيحلّ بكم جرّاء ذلك؛ هذا هو معنى مكر الله حيث قال تعالى {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ}٣.

    1. جاء في كتاب معرفة المَعَاد، لسماحة العلّامة السيّد محمّد حسين الطهرانيّ، ج۷، ص ٥۱، ما يلي: عندما تمّ التوقيع على قوانين النهضة الدستوريّة، المعروفة باسم (المشروطة)، شرع المتأثّرون بالغرب مِن أصحاب ربطات العنق، وتحت عنوان حرّيّة التعبير عن الرأي، شرعوا بنشر السخافات في الجرائد، وكان أوّل ما بدؤوا به هو السخرية مِنَ النبيّ والأئمّة والدين والإيمان والقرآن. وكانوا يكتبون في كلّ يوم فصلًا مُشبعًا في هذا المجال. لقد أوردت جريدة ناهيد - ولا أعلم إن كان صاحبها لا يزال على قيد الحياة أم لا - أشعارًا تحطّ مِن مقام رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وتهزأ به، وكان مِن جملتها هذا البيت:
      جار زد آن جارچى مسخره***الدُّنيا مزرعة الآخرة
      كما صدرت في مدينة (كلكتا) جريدة الحبل المتين، وأوردت في كلّ مرّة فصلًا في التهجّم على الدين والنبيّ والإيمان، وفي انتقاد مجالس العزاء والبكاء على سيّد المظلومين، سيّد الشهداء عليه ‌السلام، وفي السخرية مِن حجاب النساء المسلمات وعفّتهن. فتأمّلوا في أشعار (إيرج ميرزا) وكيف أنّه كان مُغرمًا بالثقافة الغربيّة، فكان يعتبر تعرّي المرأة دليلًا على حرّيّتها وتكاملها ورقيّها.
    2.  عوالي اللئالئ، ج۱، ص٢٦۷؛ إحياء العلوم، ج۱۱، ص ۱۷٣؛ معرفة المعاد، ج٢، ص۱٢۸. 
    3. سورة آل عمران (٣)، الآية ٥٤.

طَرفٌ مِن جمال الله تعالى - شرح فقرات مِن دعاء الافتتاح – الجلسة التاسعة

8
  • أتتعجّبون كيف نُشرت تلك الأمور! فقد نُشر ما هو أبشع منها، غير أنّ الله لم ينزعج ولم يجزع بسببها، بل جعل لكلّ واحدٍ مكانة خاصّة به.

  • «وَلا يُغْلَقُ بابُهُ»؛ إنّ باب الله ليس بابًا يُفتح في ساعة ويُغلق في أخرى، بل كلٌّ مِنَ الإنسان والحيوان والجماد والمَلَك والجنّ والإنس يستطيع أن يُناجي الله في أيّة ساعةٍ شاء، لأنّه تعالى موجود في كلّ مكانٍ وزمانٍ، أمّا وجودهم فمستعار، إذ وجودهم هو بوجود الله؛ فالله معك دائمًا، وباب مناجاته مفتوح على الدوام، فلا يمكن والحال هذه أن يُغلق باب الله، وليس له حاجبٌ أو بوّاب، ولا حاجة للإذن في الدخول أو الخروج.

  • «وَلا يُرَدُّ سائِلُهُ»؛ الله لا يردّ مَن يسأله، ولا يردّ مِن يطلب منه شيئًا؛ بل هو يسمع كلّ سؤال، ويستجيب له، ويُعطي سائله، فيُفرّح قلبه في اليوم نفسه، وإن لم يكن اليوم فغدًا. ويقول [للملائكة]: انظروا إلى قلبه وأعطوه ما يريد.

  • «وَلا يُخَيَّبُ آمِلُهُ»؛ الآمل: هو مِن يأمل مِنَ الله شيئًا، فإن كان يأمل بذات الله فسيُعطيه الله مِن مظاهر جماله حتّى يشبع، وإن كان العبد يريد حور العين أو الجنّة أو العسل المُصفّى أو حَلَّ المعضلات العلميّة أو المغفرة أو ما شابه ذلك، فلن يُخيّب الله ظنّه وسيُعطيه ما يُريد؛  {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}۱. إنّ عطاء الله يعتمد على مقدار شهيّة المرء، ومقدار ما يحلو في عينه مِن تلك العطايا. أمّا مَن كان يأمل بذات الله، فسيُعطيه الله نفسه، وذلك لأنّه لم يرغب بغير الله، فلا يُخيّب الله ظنَّه، فيُعطيه.

  • حقيقة نار القيامة والصراط

  • «الحَمْدُ للهِ الَّذِي يُؤْمِنُ الخائِفِينَ، وَيُنَجِّي الصَّالِحِينَ، وَيَرْفَعُ المُسْتَضْعَفِينَ، وَيَضَعُ المُسْتَكْبِرِينَ، وَيُهْلِكُ مُلُوكًا وَيَسْتَخْلِفُ آخَرِينَ»؛ أي الحمد لله الّذي يؤمن الخائفين ويُنجّي الصالحين مِن جميع الأهواء والأماني الباطلة، ومِن جميع الآفات والشرور. فمع كلّ ما يتهيّأ لهم مِن فواحش ومنكرات ومفاسد، ومع قدرتهم على نيلها، إلّا أنّ الله يُنجيهم منها ويُغيّر مسيرهم بالاتّجاه المعاكس.

  • إن دخل أحدٌ النار مِن جهة وخرج مِن جهة أخرى دون أن تمسّ بدنه النار، ألن يُعتبر ذلك معجزة؟! {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا ، ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا}٢، عندما نزلت هذه الآية بكى رسول الله بكاءً شديدًا، فسُئل النبيّ: أتَرِدها أنت أيضًا؟ قال: نعم، ولكنّني أعبر منها كالبرق الخاطف٣.

    1. سورة الزخرف (٤٣)، جزء من الآية ۷۱.
    2. سورة مريم (۱٩)، الآيتان ۷۱ و۷٢.
    3. وجدنا ما هو قريب منه عن الأئمّة (عليهم السلام)، وكذلك في مصادر العامّة عن النبيّ (صلّ الله عليه وآله وسلم)، راجع: مناقب آل أبي طالب، ابن شهرآشوب، ط. المكتبة الحيدريّة، ج٢، ص٦؛ الأمالي، الشيخ الصدوق، ط. مؤسسة البعثة، ص٢٤٢. (م)

طَرفٌ مِن جمال الله تعالى - شرح فقرات مِن دعاء الافتتاح – الجلسة التاسعة

9
  • إنّ نار القيامة عبارة عن مظاهر شهوات حياة الدنيا، وعبارة عن التوجّه نحو عالَم الكثرة، فهذه الأمور تظهر في ذاك العالَم على هيئة نار. يَرِد البعض في هذه الدنيا فيغرق فيها ويغفل عن الله وينساه، [فتراه] لا هدف له فيها غير الدنيا وإطفاء الشهوات وإشباع البطن وطلب الرياسة، وعندها يُغطّي حجابُ الغفلة صميم قلبه، ويحُول بينه وبين نيل الأمور المعنويّة، وعليه، يدخل هذا الرجل النار ويتحوّل وجوده إلى وجود جهنّمي، فيخلد في النار. 

  • عندما يؤتى بهؤلاء الناس إلى الدنيا، [تراهم] يرغبون بالبقاء فيها ولا ينوون مغادرتها، فلو لم يُقدَّر لهم الموت لبقوا في هذه الدنيا مليونَي سنة، وهم على ما هم عليه مِن أفعال وشهوات وغفلة وجنايات وحبّ الرياسة وكلّ ما لأهل جهنّم مِن سيّئات. ولكنّ الموت يأتيهم ويأخذهم معه، ولو كان لهم الخيار لَمَا غادروها. فمِن أجل يومين أو ثلاثة في هذه الدنيا يرتكبون كلّ تلك المعاصي، وبسبب نواياهم تلك سيُخلّدون وفي نار جهنّم سيُقيمون ويبقون۱ (...٢)

  • [والخلاصة أنّ الإنسان يأتي إلى هذه الدنيا، فيطوي طريقه فيها إلى أن يموت، سواء استفاد مِن نهج الأنبياء أم لم يستفد، إلّا أنّه – في كلّ حال – يمتلك سيرًا باطنيًّا، سواء تكامل بتربية الأنبياء أم بقي ناقصًا غير متكاملٍ، فالحقيقة الّتي لا يعتريها شكٌّ أبدًا هي حركته الباطنيّة الذاتيّة الدائمة.

  • ولهذا السبيل الّذي يسلكه الإنسان إلى ربّه في الحياة الدنيا ظهورٌ في عالَم القيامة. وقد علِمنا سابقًا أنّ جميع موجودات وأفعال عالَم المادّة والطبع والمُلك والشهادة لها في عالَم الغيب والملكوت صورةٌ ملكوتيّة٣، وإحداها الصراط، الّذي هو الصورة المُلكيّة في هذا العالَم لسير الإنسان النفسيّ نحو مبدأه، وصورته الملكوتيّة هناك ستكون الصراط، إذ لا ريب في أنّ كلّ امرئ في هذه الدنيا يمتلك صراطًا سيظهر في الآخرة بالهيئة الملكوتيّة لذلك العالَم.

  • ولا بدّ أن يكون لصراط الدنيا، في عوالم الطبع والمادّة والشهوة والغضب والأوهام والأمور الاعتباريّة، ويربط بين الموجودات المتفرّقة على أساس تلك الأمور الاعتباريّة، [لا بدّ أن يكون لصراط الدنيا هذا] صورة ملكوتيّة تمثّل بروزًا للصورة المُلكيّة وتجلّيها. وعليه فإنّ حقيقة الدنيا الّتي جاء إليها جميع أفراد البشر ثمّ رحلوا عنها ستظهر يوم القيامة وتتجلّى في هيئة جهنّم. ولأنّ الصراط هو الطريق الّذي يسلكه الإنسان مِن الدنيا إلى الجنّة يقع في جهنّم، لذا يجب عبوره للوصول إلى الجنّة، لأنّ جهنّم هي كلّ ما يُبعد الإنسان عن الله تعالى.

    1. لمزيد مِنَ الاطّلاع على هذا الموضوع راجع معرفة المعاد، للعلّامة السيّد محمّد حسين الطهرانيّ، ج ۱۰، ص ٢۱٤.
    2. بقيّة التسجيل الصوتيّ غير واضح تمامًا، ووجدنا أنّ المواضيع المطروحة فيما بقي مِن المحاضرة مشابه لِمَا جاء في الصفحات ٩ إلى ۱٥ مِنَ الجزء ۸ مِن كتاب معرفة المَعَاد، للمحاضِر سماحة العلّامة السيّد محمّد حسين الطهرانيّ، لذا سنورد فيما يلي نصّ ما جاء في الكتاب عوضًا عن الحديث غير الواضح في التسجيل الصوتيّ. [نقلًا عن محقّق المتن الفارسيّ للمحاضرة]
    3. لمزيد مِنَ الاطّلاع راجع معرفة المَعَاد، للعلّامة السيّد محمّد حسين الطهرانيّ، ج ٢، ص ۱٣٤.

طَرفٌ مِن جمال الله تعالى - شرح فقرات مِن دعاء الافتتاح – الجلسة التاسعة

10
  • وليس المراد بالدنيا هو العيش على الأرض، حيث إنّ كلّ فردٍ حين يُقدم إلى هذه الدنيا سوف يكتسب علائق معيّنة، بل المراد بها العيش في عالَم العلائق الّتي تحجبه عن ربّه وتستدعي غفلته، وستظهر يوم القيامة وتتجلّى في هيئة جهنّم. وقد ورد في الآية الشريفة:  {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا ، ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا}۱. وجاء في الآيات التي سبقتها:  {وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا * أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا ، فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا ، ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا ، ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا}٢.

  • ويستفاد مِن جملة  {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} الّتي تنصّ على التعميم فضلًا عن الإطلاق، ومِنَ الحصر بين النفي والإثبات، أنّ جميع البشر بلا استثناء سيرِدون جهنّم، المؤمنون منهم والكفّار والمنافقون.

  • سُئل رسول الله: أتدخل النار أنت أيضًا؟ قال: بلى، لكنّي أعبرها كالبرق الخاطف. وجاء في الرواية أنّ رسول الله بكى حين نزلت الآية المذكورة حتّى ابتلّت الأرض مِن دموعه، ثمّ نزلت  {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا}.

  • ولقد كان صلوات الله عليه وآله يبكي ويذرف الدموع رحمةً بأُمّته حين سمع أنّ الله عزّ وجلّ سيُدخل الأمّة بأجمعها في جهنّم، لأنّ مسؤوليّة الأُمّة على عاتق الرسول الحميم الشفيق على أمّته.

  • وعلينا أن نرى الآن ما السرّ في ورود الجميع جهنّم؟ إنّ السرّ يكمن في كون جهنّم مَظهرًا للدنيا في الآخرة. وبما أنّ الأنبياء والأئمّة والأولياء قد جاؤوا إلى هذه الدنيا، فهذا يعني أنّهم قد جاؤوا إلى جهنّم، وعليهم أن يجتازوها للوصول إلى الجنّة، ولأنّ الدنيا جسر الآخرة، وجهنّم جسر الجنّة، ولأنّ بلوغ الجنّة وإدراك مقام القرب مِنَ الحقّ تعالى أمرٌ متعذّر بدون القدوم إلى الدنيا وبدون المجاهدات النفسانيّة، فلا بدّ للجميع – والحال هذه – أن يُقدموا إلى جهنّم هذه ثمّ ينجون منها.

    1. سورة مريم (۱٩)، الآيتان ۷۱ – ۷٢.
    2. سورة مريم (۱٩)، الآيات ٦٦ – ۷۰.

طَرفٌ مِن جمال الله تعالى - شرح فقرات مِن دعاء الافتتاح – الجلسة التاسعة

11
  • ونظائر الأنبياء يأتون إلى الدنيا ويرحلون عنها دون أن يَعلَق عليهم أيُّ رجس منها، ودون أن تُلبسهم مِن مدلهمّات ثيابها أو أن يُصبغوا بصبغتها، ودون أن يحجبهم عن الله تعالى زوجةٌ أو ولدٌ، أو كسبٌ أو تجارةٌ؛ فيجتازون الدنيا كالبرق الخاطف، ويغدون مصداقًا للآية الشريفة:  {رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ}۱، فهم رجالٌ لم تدنّسهم الدنيا أبداً، ولم تجذبهم إليها.

  • ويستفاد هنا أنّ ورودهم جهنّم كان مِن حيث ورودهم إلى هذه الدنيا وخروجهم منها، وبما أنّ قلوبهم لم تنصرف إليها أبدًا، ولم يتعلّقوا بها ولم يُدنّسوا بأوساخها، فلم يتوقّفوا فيها، وعبروها كالبرق الخاطف.

  • ولقد مكث رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في هذا العالَم ثلاث وستّين سنة، إلّا أنّه لم يكن في هذه الدنيا لحظةً واحدةً. ونقصد بالدنيا محبّة غير الله سبحانه، والولع بزينة هذا العالَم، والميل إلى عالَم الباطل والغرور. إذن، قد مكث النبيّ على هذه الأرض، إلّا أنّه لم يمكث في الدنيا. وحين قَدِم إلى الأرض عبر كالبرق الخاطف دون أيّ لحظة تأمّلٍ أو وقوف على سائر العلائق الدنيويّة، كالرياسة والجاه وحبّ المال وأمثال ذلك.

  • الدنيا تعني عالَم الاعتبار، والإعراض عن الحقائق والانشغال بالأمور الاعتباريّة، والبقاء خلف الحجب الظلمانيّة، والتنزّل عن مستوى الإنسانيّة، والعيش في حدود أفكار البهائم والشياطين. فهل كانت هذه حياة رسول الله؟! أبدًا، فحياة الرسول الأكرم لم تكن على هذا النحو أساسًا، لأنّ النبيّ الكريم لم يعِش طوال عمره الشريف دقيقةً واحدةً لهدف دنيويّ كأهل الدنيا.

  • جاء في رواية أنّ الأنبياء والأولياء يعبرون الصراط كالبرق الخاطف؛ أرأيتم السماء حين تومض بالبرق؟ أرأيتم كيف تحار أعينكم لوميضها؟ هكذا وبتلك السرعة يجتاز الأنبياء الصراط.

  • وما الحياة الدنيا إلّا جسر جهنّم الّذي لا بدّ مِن عبوره للخروج منها؛ لقد ورد الأنبياء إلى عالَم الاعتبار، إلّا أنّهم عبروه بسرعة، لأنّهم لم يتعلّقوا بالحياة الدنيا أبدًا، لذا سيعبرون الصراط هناك بسرعة أيضًا.

  • وبغضّ النظر عن الأنبياء والأئمّة والأولياء، فللعبور درجاتٌ مختلفة باختلاف درجات الأفراد مِن حيث تعلّقهم بالحياة الدنيا، فالذين تعلّقوا بها، هم في درجة أدنى وبالتالي سيكون عبورهم مختلف، والمؤمنون الذين جاؤوا إلى هذه الحياة الدنيا وابتلوا بامتحانات عديدة، وذلك ليقطعوا كلّ العلائق الدنيويّة ويصلوا إلى مقام التوحيد، فسيعبرون الصراط بسرعة، ولكن ليست كسرعة الأنبياء، بل كسرعة الريح.

    1. سورة النور (٢٤)، الآية ٣۷.

طَرفٌ مِن جمال الله تعالى - شرح فقرات مِن دعاء الافتتاح – الجلسة التاسعة

12
  • ومِن أهل الآخرة أفرادٌ لا يمكن عدّهم مِنَ الأشقياء، لأنّهم ليسوا مِن أهل الذنوب، بل هم مِن أصحاب اليمين، إلّا أنّ قلوبهم تفتقر إلى ذلك العشق والحماس، وإلى جذبة أهل التوحيد الّتي تومض كالشرر فتحرق الأوهام والأمور الاعتباريّة، ورغم أنّهم يبحثون عن الله تعالى، إلّا أنّ بحثهم تنقصه الهمّة العاليّة والعزم القاطع والسرعة الفائقة، فهؤلاء سيعبرون الصراط كراكب الفرس؛ فكما يحسّ راكب الفرس خلال عبوره جسرًا بحرارة النار المتأجّجة تحت ذلك الجسر، كذلك سيشعر أصحاب اليمين بحرارة النار خلال عبورهم الصراط مع أنّ النار لا تمسّهم.

  • وهناك آخرون، رغم أنّهم مِن أصحاب اليمين لكنّهم ليسوا على قدر كبير مِن الطهارة والنزاهة، إذ كان لهم بعض الأخطاء وبعض التقصير، وكانت لهم ذنوبهم قد غفرها الله لهم، فأمثال هؤلاء سيعبرون الصراط بسرعة الراجل.

  • {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ}۱. ونظائر هؤلاء سيدخلون الجنّة دون شفاعة – كما سيأتي لاحقًا في بحث الشفاعة٢ – إلّا أنّ عبورهم على الصراط سيكون أصعب وأعسر، فعبور الراجل على جسر ما أصعب مِن عبور الراكب، ولا بدّ أن تطول رؤية الراجل للنار، وأن يتأثّر بحرارتها بشكل أشدّ.

  • وهناك أفراد ارتكبوا الكبائر، إلّا أنّ الشفاعة تشملهم باعتبارهم مِن ذوي الإيمان الراسخ، وأمثال هؤلاء يعبرون الصراط بتؤدة وسير أعرج.

  • أمّا الظالمون والكافرون فيهوون في جهنّم. ولكن، كم ستطول إقامتهم فيها؟ الله أعلم.

  • وبطبيعة الحال فإنّ درجات الظلم والكفر متفاوتة، وعلى هؤلاء أن يمكثوا في جهنّم حتّى تُطهّرهم النار، والله أعلم كم سيطول بقاؤهم فيها؛ قد يمكثون فيها شهرًا واحدًا أو شهرين، وقد يبقون سنة واحدة أو سنتين، وقد يرزحون فيها عشر سنين أو حتّى ألف سنة. إذ إنّ يوم القيامة مقداره خمسون ألف سنة، فعليهم أن يمكثوا في جهنّم حتّى يخرجوا منها. اللهمّ إلّا المخلّدون منهم في النار، الّذين استحال وجودهم نارًا، وسيأتي الكلام لاحقًا عن خصائص أحوال المخلّدين في النار٣.

  • والّذين يخرجون مِنَ النار يَغتسلون في حوض الكوثر، فيتخلّصون مِن تلك الظلمات والخرائب ببركة الولاية، ويذهبون إلى الجنّة طاهرين مطهّرين.

    1. سورة النجم (٥٣)، جزء من الآية ٣٢.
    2. راجع معرفة المَعَاد، لسماحة العلّامة السيّد محمّد حسين الطهرانيّ، ج ٩، ص ۱٤٢.
    3. راجع (معرفة المَعَاد) لسماحة العلّامة السيّد محمّد حسين الطهرانيّ، ج ۱۰، ص ٢۱٤.

طَرفٌ مِن جمال الله تعالى - شرح فقرات مِن دعاء الافتتاح – الجلسة التاسعة

13
  • وهل سيقام الصراط على جهنّم أم في داخلها؟ ليس لدينا رواية صريحة في هذا الشأن، إلّا أنّ الطبرسيّ ينقل في «مجمع البيان» روايةً عن ابن مسعود تُلقي أضواءً على المطالب المذكورة، قال: عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: يَرِدُ النَّاسُ النَّارَ ثُمَّ يَصْدُرُونَ بِأعْمَالِهِمْ، فَأوَّلُهُمْ كَلَمْعِ البَرْقِ، ثُمَّ كَمَرِّ الرِّيحِ، ثُمَّ كَحَضْرِ الفَرَسِ، ثُمَّ كَالرَّاكِبِ، ثُمَّ كَشَدِّ الرَّجُلِ ثُمَّ كَمَشْيِهِ۱و٢

  •  

  • اللهمّ صلِّ على محمّد وآله وسلّم

    1. مجمع البيان، ج٦، ص٤٣۸.
    2. انتهى المقدار المنقول مِن كتاب (معرفة المَعَاد) لسماحة العلّامة الطهرانيّ، ج۸، ص ٩-۱٥.