المؤلّفالعلامة آیة الله السيد محمد الحسين الحسيني الطهراني
المجموعةمناقب أهل البيت
التاريخ 1397/09/23
التوضيح
ما هو منشأ الاختلاف بين الطرق التي يسلكها الناس إلى الله تعالى؟ ما هو الفرق بين الطريق المستقيم والسبل المتفرّقة؟ أيّ سرّ في كون طريق أمير المؤمنين عليه السلام هو الصراط المستقيم؟ هل يجب على الإنسان مواءمة نفسه وصفاته وأفعاله مع صراط عليّ عليه السلام؟ على أيّ شي قاتل الإمام عليّ عليه السلام الطوائف الثلاث؟ ما هي الأحداث العجيبة التي تزامنت مع شهادة أمير المؤمنين عليه السلام؟ أيّ تأثير تتركه ولاية أمير المؤمنين عليه السلام في الكائنات؟ هي تساؤلات سعى سماحة العلاّمة آية الله السيّد محمّد الحسين الحسينيّ الطهرانيّ قدّس الله نفسه الزكيّة للإجابة عنها في هذه المحاضرة التي عقدها لبيان بعض مناقب أهل البيت عليهم السلام في مسجد القائم بطهران
هو العليم
أمير المؤمنين عليه السلام الصراط المستقيم
مناقب أهل البيت عليهم السلام ـ الجسلة الأولى
محاضرة القاها
سماحة العلاّمة آية الله السيّد محمّد الحسين الحسينيّ الطهرانيّ
قدّس الله نفسه الزكيّة
أعوذُ بِاللَه مِنَ الشَّيطانِ الرَّجيمِ
بسم اللَه الرّحمن الرّحيم
الحمدُ للّه بارئِ الخلائقِ أجمعين باعث الأنبياءِ والمُرسَلين
والصّلاةُ والسّلامُ على أشرَفِ السُفَراءِ المُكَرَّمينَ
أفضلِ الأنبياءِ والمرسلينَ حبيبِ إله العالمينَ
أبي القاسم محمّدٍ وعلى آلِه الطَيبين الطاهرين
ولَعنَةُ اللَه عَلى أعدائِهِم أجمَعينَ مِن الآن إلى يوم الدّين
منشأ الاختلاف بين الطرق التي يسلكها الناس إلى الله تعالى
... فيصير فانيًا في ذات الله تعالى المقدّسة وأسمائه وصفاته؛۱ وهذا هو معنى لقاء الله الذي بشّر به العليُّ الأعلى المؤمنين؛ ومن هنا، فإنّ العبادات التي يُؤدّيها الإنسانُ ويقول: «إنّني أؤدّيها بداعي القُربة (أي للتقرّب إلى الله)» لا تعني أنّ هذا الإنسان يقطع طريقًا معيّنًا، ثمّ يصل إليه تعالى؛ بل معنى ذلك أنّني أؤدّي العبادة، لتعمل هذه العبادة على تصفية روحي وتسكين نفسي، فتكون سكينة النفس وصفاء الروح مقدّمة لطلوع تجلّيات الصفات الإلهيّة الجماليّة في هذه النفس، وتحقّق معرفة المؤمن بربّه؛ وهذا هو معنى لقاء الله. فالطريق إليه تعالى يتمّ عبر النفس؛ وتكامل هذه النفس يحصل بدوره عن طريق المجاهدات والعبادات والأعمال التي بيّنها لنا القرآنُ والرسول والأئمّة بأحسن وجه وأكمله.
غاية الأمر أنّه كما نرى وجود اختلاف بين الناس في أفعالهم، فإنّ هؤلاء الناس يختلفون أيضًا في صفاتهم، حيث ذكرنا آنفًا أنّ الاختلاف الحاصل بين أفعال الناس نابع من اختلاف صفاتهم؛ كما أنّ اختلاف الصفات ناتج عن اختلاف الملكات؛ ولهذا، يظهر مثل هذا الاختلاف، حيث نجد البعض يُحبّ أداء الصلاة، والبعض الآخر لا يُحبّ أداءها؛ والبعض يرغب في الصيام، والبعض الآخر لا يرغب فيه؛ والبعض يميل إلى سلوك طريق العفّة، والبعض الآخر إلى سلوك طريق الفجور؛ والبعض لا يُحبّ مدّ يديه للمال الحرام، والبعض الآخر يُحبّ ذلك؛ والبعض يرنو نحو الإيمان، والبعض الآخر لا يرنو نحوه. فنرى أنّ هذا الاختلاف الحاصل بين الناس في الصفات والملكات يُظهر العالَمَ بشكل مختلف، بحيث يكون كلّ فرد متميّزًا عن الآخر في هذه الخصائص.
فنجد هؤلاء يسيرون بأجمعهم إلى الله بهذه الصفات، غير أنّ سيرهم هذا يكون مختلفًا، حيث إنّ جميع الناس يسيرون إليه تعالى؛ لكن، هناك فرق بين الذي يمشي نحوه ويصل إلى مقام المعرفة، ويقع تحت تجلّيات الصفات الجماليّة، وبين الذي يسوقونه إلى الله تعالى في ظلّ القهر والغضب، وتحت تجلّيات صفات الجلال والغضب وظهور مقام القهر والعظمة؛ فجميع هؤلاء وصلوا إلى معرفة الله تعالى؛ إذ لن تبقى في يوم القيامة أيّة مسألة غامضة؛ لكن، هناك بون شاسع بين المؤمنين الذين تمكّنوا من بلوغ المعرفة الحقيقيّة والتنعّم بلذّة مناجاة الله تعالى ولقائه، بين الكافرين والمشركين الذين يقعون تحت صفات القهر الإلهيّ.
فالطريق الذي يقطعه مختلف الناس إنّما يقطعونه بواسطة غرائزهم وملكاتهم؛ مع أنّ هذه الملكات بدورها مختلفة؛ ولهذا، لا بدّ من تربية جميع هؤلاء الناس وفقًا لميزان واحد، حتّى يُصلحوا غرائزهم، ويُطهّروا صفاتهم، ويُنقّحوا ملكاتهم، ويتخلّصوا من الأدران والنجاسات، ويُرمّموا نقاط الضعف في أنفسهم، ويطرحوا عنها التشاؤم والحسد والبخل والكبر والاستكبار، ويُبقوا الشهوةَ والغضب في ضمن المستوى المطلوب، ويحترزوا عن الإفراط والتعدّي؛ فهذا هو الصراط المستقيم؛ أي الطريق الذي يوصل الإنسان إلى الله تعالى، لكنّه يكون طريقًا قريبًا جدًّا.
الفرق بين الطريق المستقيم والسبل المتفرّقة
فمن الممكن أن يصل الإنسان من نقطة إلى أخرى من خلال طيّ طُرق مختلفة؛ وعلى سبيل المثال، إذا أراد أحد أن يذهب من هنا إلى "دروازه دولت"،۱ فأحد الطرق يتمثّل في أن يذهب من باب المسجد بشكل مستقيم إلى الأمام. ويوجد طريق آخر يتمثّل في أن يذهب من الشارع الواقع على اليسار؛ أي شارع "كوشك"، ثمّ يلتفّ من هناك، ويذهب عن طريق شارع "لاله زار" إلى الأمام إلى أن يصل إلى "دروازه دولت". وهناك طريق آخر يكمن في أن يذهب إلى شارع "هدايت"، ومن هناك إلى تقاطع "شميران"، ثمّ يأتي إلى "دروازه دولت" عن طريق حيّ "عشرت آباد"؛ فهذه الطُرق بأجمعها توصل إلى "دروازه دولت"! كما يوجد طريق آخر يتمثّل في أن يذهب إلى الأسفل، إلى أن يصل إلى تقاطع "مخبر الدولة"، ثمّ يلتفّ من جانب البرلمان، ويأتي من هناك إلى "دروازه دولت"؛ أ فهل توصل هذه السبل بأسرها إلى "دروازه دولت"، أم لا؟! هذا، مع أنّه بوسعنا افتراض سُبل أخرى أكثر؛ لكن، يبقى أنّ الطريق المستقيم إلى "دروازه دولت" واحد وحسب؛ وهو يُمثّل أقصر فاصلة بين نقطتين. فحينما جعلنا مبدأ حركتنا باب المسجد هنا، ومنتهاها "دروازه دولت"، فإنّ هذا هو أقصر طريق؛ لأنّه طريق مستقيم. فالطريق المستقيم هو الطريق الذي يتوجّب على كلّ إنسان طيّه، وإلاّ، إذا نظرنا إلى كلّ إنسان ـ مهما كان الفعل الذي انهمك في أدائه ـ، فإنّنا نجد بأنّ الليل والنهار يُقلّبانه في عجلة الزمان، وتعمل حركة الشمس والقمر على إفناء عمره، ليصل في هذه الدنيا بواسطة السير في الصفات والغرائز إلى حدّ الموت، وتُفاض عليه تجلّياتُ عالم الغيب، ويطّلع على الصور البرزخيّة، ثمّ يتعيّن عليه في الأخير الانتقالُ إلى يوم القيامة. لكن، شتّان بين الذي سار في الصراط المستقيم، وبين الذي مشى في طريق تكون زاوية انحرافه منفرجةً جدًّا؛ فهو أيضًا سيصل إلى "دروازه دولت"، لكن بظهر منكسر، وعظام مهشّمة، وثروة مضيَّعة؛ فقد ابتُلي في هذه الطرق النائية بالجوع والعطش وألف مصيبة، غير أنّه لم يفقد ثرواته في طريق الوصول؛ وحينئذ، سيذهب إلى "دروازه دولت"، ليُقتصّ منه هناك بسبب عدم سيره في الصراط المستقيم! فهو قد وصل، لكنّه وصل إلى الجلال والقهر والغضب، لا إلى الجمال واللذّة والتنعّم!
﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾۱؛ أي: إلهي، اهدنا إلى طريق مستقيم، بحيث يكون هذا الطريق أقصر مسافة يكون بوسعنا تكييف ذهننا وفكرنا ونفسنا وأفعالنا وسرّنا معها، فنجعله أسوةً لنا، وبرنامجًا لحياتنا، ونتّبعه لكي نصل إلى الهدف المنشود.
السرّ في كون طريق أمير المؤمنين عليه السلام هو الصراط المستقيم
فأفراد الإنسان ذوو غرائز شتّى؛ لكن، أ ليس بمقدورنا أن نجد بين هؤلاء إنسانًا يكون أفضل من الجميع؟! فنحن نشاهد في مجتمعنا وجود أفرادٍ فكرُهم قاتم، بينما يكون آخرون ذوي فكر وضّاء؛ ونرى بعض الناس متسامحون، وبعضهم الآخر غير متسامحين؛ كما أنّ هناك بين المتسامحين من يكون تسامحه أكبر، ومن لا يكون كذلك. ﴿وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ﴾٢؛ وحينئذ، علينا أن نختار من بينهم إنسانًا صالحًا يُمثّل نخبة المجتمع، ويتفوّق على الجميع من حيث طهارة الروح وصفاء الفطرة وحصافة العقل وغلبة القوى العقليّة المنطقيّة على الإحساسات.
ثمّ نبحث في مختلف المجتمعات للعثور على أفراد يفوقون الجميع؛ وهكذا أيضًا، نتحرّى القرون الأولى والأخيرة، فلا يُمكننا أن نجد شخصين بشكل واحد، بل لا بدّ أن يكون أحدهما أعلى من الآخر؛ وحينئذ، فإنّ الإنسان الوحيد الذي تكون كافّة أفعاله وعقائده وغرائزه وصفاته وملكاته خاضعة ـ من جميع الجهات ومن البدو إلى الختم ـ لحساب خاصّ، بل حتّى تنفسّه ونومه ويقظته وحربه وسِلمه وجهاده وحياته وموته يكون خاضعًا لحساب خاصّ هو أمير المؤمنين عليه السلام. ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾٣؛ فهذا هو الأنموذج الذي وضعه الله تعالى بين أيدينا، وقال لنا: خُذوا به، واعملوا!
إنّ أمير المؤمنين مرآة تامّة لصفات النبيّ؛ كما أنّ حقيقة الرسول سطعت فيه عليه السلام؛ وفي هذه الحالة، لو أردتُ أن أبيّن لكم كيفيّة سطوع الأنوار النبويّة في أمير المؤمنين، لطال بي الكلام كثيرًا؛ في حين أنّه: لا المجلس يقتضي هذا الأمر، ولا الوقت يسمح بذلك! لكن، باختصار، فإنّ أمير المؤمنين عليه السلام هو خليفة الرسول الأكرم ونائبه في جميع الغرائز والملكات والصفات التي يتّسم بها خاتم الأنبياء والمرسلين، والمعلّم الوحيد للبشر، والشاهد ـ بنصّ القرآن الكريم ـ على أعمال الأنبياء في يوم القيامة حين وقوفهم بين يدي الله تعالى؛ أي أنّ النبيّ وضعه في مكانه، وقال له: «يا عليّ، سوف أرحل، وأنت ستحلّ مكاني»؛ فهذه هي المنزلة التي منحه صلّى الله عليه وآله وسلّم إيّاها؛ وهي الولاية. فالولاية ليست أمرًا اعتباريًّا، بل هي ميزة مكنونة في النفس وقائمة على أساس التكوين؛ كما أنّ الحقّ تعالى يكشف [من خلال الأمر بالولاية] عن هذا الأمر التكوينيّ.
فهذه الصفات عبارة عن طريق إلى الله تعالى؛ أي أنّ صفات أمير المؤمنين مرآة لله تعالى، فلا نجد فيه عليه السلام أيّة شائبة من حبّ الذات؛ لأنّه لا يرى ذاته في الأساس؛ كما أنّه غير مولع بالمال؛ لأنّه لا يرى نفسه بتاتًا حتّى يتعلّق بهذا المال؛ وهو ينظر إلى جميع أفراد الإنسان بما هم سواسية كأسنان المشط، ويراهم منتظمين في صفّ واحد ومتّصلين بالمبدأ؛ فهذه هي النظرة التي ينظر بها عليه السلام إلى جميع العوالم والموجودات، من دون أن يُفرّق من هذه الناحية بين المسلم والكافر واليهوديّ والنصرانيّ.
ففي ظلّ ولايته، لم يُصب بالجوع حتّى اليهوديّ والنصرانيّ، بل كان عليه السلام يتفقّد هؤلاء؛ ولا بدّ أنّكم سمعتم بقصّة حمله لكيس الخبز والتمر، وتوزيعه على الفقراء، وذهابه إلى الأرض الخربة، وتصدّقه على اليهوديّ الأعمى؛ فبعدما ارتحل أمير المؤمنين عن الدنيا، وكان الحسنان عائدين برفقة الأصحاب [من دفنه عليه السلام]، شاهدا عجوزًا يهوديًّا، فذهبا عنده، فوجداه يجود بنفسه، فسألاه: «ما الذي حصل؟»، فقال: «كان هناك رجل يأتي كلّ ليلة، ويجلس إلى جانبي، ويُلقمني الخبز والتمر؛ لكنّه لم يأت منذ ثلاثة أيّام؛ ولهذا، فإنّني على وشك الموت!»؛ فقالا له: «هل تعلم من كان هذا الرجل؟»، فأجابهما: «لا، لأنّني مهما سألته، فإنّه كان يقول: "أنا عبد الله"، ولم يقبل بالكشف عن اسمه»؛ فقالا له: «إنّه أبونا أمير المؤمنين»۱و٢
فهنا، نرى أنّ أمير المؤمنين ينظر إلى هذا اليهوديّ الذي يقوم بهذا الفعل بنظرة خَلقيّة، ويقول: إنّه من عباد الله تعالى ومخلوقاته، ويمتلك أيضًا وسط هذه الجماعة من الناس حقّ الحياة؛ وقد اعتبر اللهُ تعالى حياتَه في ذمّة الإسلام محترمةً، بحيث لا يجوز للإنسان أخذ مال اليهوديّ والنصرانيّ اللذين يعيشان في ذمّة الإسلام؛ وبالتالي، يحقّ له أيضًا أن ينتفع ويرتزق من بيت مال المسلمين، أو من مالي الشخصيّ؛ ولهذا، يتعيّن عليّ أنا ـ بصفتي إمامًا ووليًّا للمسلمين ـ أن أتفقّد أحواله، مثلما أتفقّد أحوال بقيّة المسلمين.
فهذا هو صراط أمير المؤمنين المستقيم الذي تُحتّم عليه نفسُه هذا الأمر وتُلزمه به، فيتحرّك للقيام بهذا العمل. فهو عليه السلام حاكم، والحاكم يعني السلطان؛ في حين، نجد بقيّة السلاطين ينامون في قصورهم، ويُحيطون بهم الحرّاس، ويقضون أعمارهم في مجالس الشراب والغناء والرقص و... .
أ فلم يكُن هارون الرشيد يعقد هذه المجالس من الليل إلى الصباح؟! فحكايات سهرات هارون ومجالس أنسه مسجّلة في التاريخ، حيث كان يُؤتى بأجمل نساء الدنيا وأفضل المغنّيات، فيمضي لياليه في مجالس السُكر إلى الصباح!۱ فهو أيضًا خليفة؛ لكن، هناك أيضًا خليفة للمؤمنين يحمل الكيس والخبز على كتفه حين حلول الليل، ويضع نقابًا على وجهه لكيلا يتعرّف عليه أيّ أحد، ثمّ يضعهما عند باب الأيتام والأرامل والمحتاجين والمعاقين والعُميان، ويرجع قبل بزوغ الفجر، لكيلا يتعرّف عليه أحد! فهذا نوع آخر من الأعمال أيضًا! فذاك يمتلك تلك الصفات، وهذا يمتلك هذه الصفات!
لزوم مواءمة الإنسان نفسَه وصفاته وأفعاله مع صراط عليّ عليه السلام
وفي هذه الحالة، هل يتوجّب على أمير المؤمنين تبديل صفاته إلى صفات هارون، أم أنّ هارون هو الذي يجب عليه تبديل صفاته إلى صفاته عليه السلام؟! بطبيعة الحال، هارون هو الذي يلزمه تغيير صفاته؛ لأنّ الطهارة والنقاء من المسائل التي تعترف النفسُ بحُسنها؛ مثلما أنّ القذارة والرجس من الأمور التي تُقرّ النفس بقُبحها. فكما أنّنا نقول: «فلان جميل، وعلاّن قبيح»، بحيث يكون القبح والجمال هنا حكمين للنفس في حقّ الأشخاص، فإنّ الحكم بالصلاح أو الطلاح هو أيضًا بهذا النحو. ومن هنا، يتعيّن على العالَم بأسره أن يُوائم نفسه مع أمير المؤمنين؛ فيُوائم عبادته، وإيثاره، وجهاده، وأمره بالمعروف، ونهيه عن المنكر، وصلته للرحم، وعدالته، وحكمه بالحقّ، ومحبّته الإسلاميّة وإيثاره في طريق رسول الله مع الإمام عليه السلام؛ لأنّ هذا هو الصراط المستقيم. فصحيح أنّ للبقيّة صُرُطًا أيضًا، لكنّها مهدّمة، وهي أيضًا جسور، غير أنّها جسور محطّمة؛ فهي تمرّ من جهنّم، ومسافتها طويلة جدًّا، بحيث إذا أراد الإنسان أن يعبرها للوصول إلى مقصده، فإنّه سيتعرّض للعديد من المصائب، فتُحيط به النار من كلّ جانب، وتُهلكه ألسنةُ اللهب.
وأمّا ذلك الصراط المستقيم الذي غُرست في جوانبه الورود، وتهبّ أثناء العبور منه نسائمُ الجنّة الفائحة من المقام المقدّس للجمال الإلهيّ، وذلك الصراط الذي هو نور محض لا تختلجه أيّة ظلمة، وطهارة خالصة لا تشوبها أيّة قذارة، وصراط لا تكتنفه أيّة حرارة أو برودة أو إزعاج، فهو صراط أمير المؤمنين؛ إذ لو قارنّاه عليه السلام مع أيّ واحد من أفراد الإنسان، لوجدناه واقعًا في الدرجة العليا.
﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾؛ أي: إلهي، ضعنا في هذا الصراط؛ فهذا هو معنى ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾.
ففي تفسير مجمع البيان وفي كتاب تفسير البرهان وفي تفسير الصافي، وكذلك في مقدّمات هذا التفسير عند الحديث عن الصراط، ذُكرت مجموعة من الروايات في تفسير هذه الآية الشريفة، وجاء فيها:
﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ صراط عليٍّ؛ صراط عليّ بن أبي طالب.۱
لقد كانت أفكارُ الناس وأهواؤهم بعد وفاة رسول الله تعالى مختلفة، وكان لكلّ واحد هوىً خاصًّا؛ فجاء الذين كانوا يطلبون الحقّ، وانضووا تحت لواء أمير المؤمنين، فقادهم عليه السلام إلى هدفهم المنشود في أقصر مسافة؛ لكن، كيف كانت قيادته لهم؟ لقد ربّاهم بنحوٍ جعل أعداء الإسلام الذين يقولون: «لم يكن عليّ محنّكًا في السياسة» لا يعرفون ماذا يقولون! فصاروا يقولون: كان عليّ إنسانًا ملكوتيًّا، شأنه في ذلك شأن عيسى بن مريم؛ وكان الأفراد الذين ربّاهم ملكوتيّين أيضًا مثل حواريّي عيسى، بحيث لم تكن لهم أيّة علاقة بالمجتمع؛ فكان كلّ من ميثم التمّار، وقيس بن سعد بن عبادة، ومالك الأشتر، ومحمّد بن أبي بكر، وعمّار بن ياسر، وعثمان بن مظعون ـ الذي كان من شيعة أمير المؤمنين وأصحاب الرسول ـ وأمثالهم أفرادًا ملكوتيّين، ولا علاقة لهم بتاتًا بهذا العالم! فقد كان لعليّ حساب خاصّ!
صحيح أنّ عليًّا كان إنسانًا ملكوتيًّا، لكنّه إنسان ملكوتيّ جاء إلى الأرض، ووُلد من أمّ، ورضع من حليبها، وكان يُعاشر أطفال مكّة ويُخالطهم في شوارعها؛ لكن، من دون أن يقوم بنفس أعمالهم، أو يُمارس ألعابهم؛ فكان يقول منذ فترة طفولته: إنّها هذا الأفعال لعب ولهو، ولا يليق بالإنسان أن يلعب٢. وحينما بلغ هذا الطفل العاشرة من العمر، آمن بالرسول الأكرم٣ في ذلك الحين الذي لم يُؤمن فيه الشيوخ. فقد كان أبو لهب عمّ النبيّ، ورجلاً محترَمًا في مكّة، ومع ذلك، كان العدوّ الأوّل للرسول، وأكبر مناوئيه المتعطّشين للدماء؛ كما كان العبّاس من أعمامه أيضًا، لكنّه لم يُؤمن طيلة الثلاثة عشرة السنة التي كان يُنادي فيها النبيّ في مكّة بنداء «قولوا لا إِلَهَ إلاَّ اللهُ»٤؛ وبعدما هاجر صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى المدينة، ساعد العساكر في معركة بدر، وأُسر، ثمّ آمن بعد ذلك؛ فكم كان الفارق بين ذلك الطفل، وبين هؤلاء؟! فهذا كلّه يدلّ على أنّه كان طفلاً، لكن، مع ذلك، فإنّ صراطه أفضل وأكثر استقامة من صراط الرجال والشيوخ وعقلاء البشر! فأفعال أمير المؤمنين بأجمعها حجّة على الناس!
وباختصار، على الإنسان أن يجعل أميرَ المؤمنين إمامَه، حيث يُراد من الإمام: المُقتدى؛ فما هو معنى إمام الجماعة؟ يعني: الذي يقف في الأمام، ويقف الناس خلفه، فيُؤدّون كلّ عمل يُؤدّيه هو؛ أ فليس هذا هو معنى الإمام؟! لكن، إذا انعقدت صلاة جماعة، فلم يقم الناس بما يقوم به الإمام، بحيث إذا ركع هذا الإمام، قام الناس من الركوع، وإذا سجد الإمام، قاموا، وإذا قام الإمام، سجدوا؛ هل ستكون هذه الإمامة صحيحة؟ فحينما يقرأ الإمام سورة الفاتحة، يقرأ المأمومون أذكار الركوع؛ وعندما يقرأ أذكار الركوع، يشرعون في قراءة سورة البقرة؛ ففي هذه الحالة، لن تعود هذه صلاة جماعة، وسينتفي كلّ من الإمام والمأموم!
يقول أمير المؤمنين: «أنا إمامكم»، ويقول النبيّ الأكرم: «عليّ إمامكم»؛ أي: اجعلوه أمامكم، وانظروا إليه، فهو أسوتُكم؛ وطابقوا بين أعمالكم وأعماله، وقرّبوا عبادتكم إلى هذا الصراط المستقيم، بحيث كلّما اقتربتم أكثر، حصلتم على نتيجة أفضل. ففي جهادكم وأمركم بالمعروف ونهيكم عن المنكر وصِدقكم وتلاوتكم للقرآن وصلتكم للرحم ومحبّتكم للرسول، وفي كلّ عمل تُريدون القيام به في جميع المراحل، انظروا أوّلاً إلى العمل الذي قام به عليّ، ثمّ قوموا به أنتم! فإذا فعلتم ذلك، ستكونون قد وضعتم أرجلكم على الصراط، حيث سيكون الله تعالى قد استجاب لدعائكم الذي قلتم فيه: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾، فتضعون أرجلكم على الطريق.. طريق عليّ! هذا، مع أنّ هناك العديد من السبل في هذه الدنيا: سبيل عمر، وسبيل أبي بكر، وسبيل عثمان، وسبيل معاوية، وسبيل أبي سفيان، وسبيل أبي جهل، وسبيل عُتبة وشيبة اللذين سمعتم بحكايتهما؛ فجميع هؤلاء يتوفّرون على طُرق، وكلّ واحد منهم يمشي في طريقه الخاصّ؛ غير أنّ هذه الطرق ليست جيّدة، بل معوجّة، ومملوءة بالتراب، وتعيش فيها الكثير من الحيّات والعقارب، وطقسُها حارّ، بحيث إذا أراد الإنسان أن يمشي في هذا الطقس الحارّ، فما إن يتقدّم أربع خطوات، حتّى يخنقه التراب والغبار، وتلدغه حيّة من هذا الجانب، وتسلعه عقرب من الجانب الآخر، وتعلق رجله في حفرة؛ فإذا أراد أن يخرج منها، سقط في حفرة أخرى؛ وهكذا، يظلّ يتخبّط في مشكلة بعد مشكلة، وفي تعاسة بعد تعاسة، إلى أن يحين موته.
وأمّا طريق عليّ، فليس بهذا النحو، بل هو طريق معبّد، بحيث إذا وضع الإنسان قدمه فيه، فلن يعود بحاجة إلى أن يُحرّك نفسه؛ إذ ستهبّ نسائم الجنّة من ورائه، وتُحرّكه في هذا الطريق بكلّ متعة! فهو طريق الجنّة، طريق الجنّة!
أجل، يبقى أنّ سلوك هذا الطريق يحتاج إلى صبر وتحمّل وتضحية؛ فالأمر بهذا النحو: «إنَّ الجَنَّةَ مَحفوفَةٌ بِالمَكَارِهِ»۱؛ فطريق الجنّة ليس سهلاً، لأنّه طريق عليّ! حيث لم يكن عليه السلام في حياته رجلاً ينزع نحو الراحة والدعة والاتّكالية، مع أنّه كان مطّلعًا على السبيل إلى ذلك، بل وأكثر اطّلاعًا عليه من الجميع. اعلموا أنّ أمير المؤمنين ـ الذي هو إمام لكلّ البشر ـ كان يعلم بكافّة هذه الطرق أفضل من المُترفين؛ لأنّه إمام، والإمام عِلمٌ؛ غير أنّه لن يكن يقبل، بل كان يقول: هذا ليس من شأني، ولا ينسجم مع وظيفتي؛ فعليّ أن أُوائم حياتي ـ أنا الحاكم على الناس ـ مع حياة أضعفهم، بحيث إذا كان هناك مسلم يعيش في كنف حكومتي، فنام وهو جائع، بينما كنت أنا شبعانًا، فلن أكون إمامًا لهؤلاء الناس! أ فهل جعلني النبيُّ إمامًا، لكي يجوع ذلك الرجل، وأشبع أنا؟! لا يُمكن لهذا الأمر أن يحدث! أو أن يأكل هو خبزًا يابسًا، وآكل أنا خبزًا وعسلاً؟! هذا غير مقبول!
كتب الإمام عليه السلام في الرسالة التي بعثها إلى عثمان بن حنيف:
«وَلَوْ شِئْتُ لَاهْتَدَيْتُ الطَّرِيقَ إِلَى مُصَفَّى هَذَا الْعَسَلِ وَلُبَابِ هَذَا الْقَمْحِ وَنَسَائِجِ هَذَا الْقَزِّ، وَلَكِنْ هَيْهَاتَ أَنْ يَغْلِبَنِي هَوَايَ وَيَقُودَنِي جَشَعِي إِلَى تَخَيُّرِ الْأَطْعِمَةِ، وَلَعَلَّ بِالْحِجَازِ أَوْ الْيَمَامَةِ (فقد كان أمير المؤمنين بالكوفة، فكم كانت المسافة التي تفصله عن الحجاز واليمامة؟! ألف فرسخ) مَنْ لَا طَمَعَ لَهُ فِي الْقُرْصِ وَلَا عَهْدَ لَهُ بِالشِّبَعِ.أَوْ أَبِيتَ مِبْطَانًا، وَحَوْلِي بُطُونٌ غَرْثَى وَأَكْبَادٌ حَرَّى»!٢
وجدير بالذكر أنّ امتناع أمير المؤمنين عن الأكل لم يكن من باب التصنّع، بل إنّ يداه لم تكونا في الأساس لتمتدّا من أجل تناول هذه الأشياء؛ وحتّى إذا وضعوا أمامه مائدة تعجّ بأصناف الطعام، فلن تمتدّ يده نحوها؛ لأنّه إمام. فتُلاحظون أنّه لوكان هناك طفل مريضًا في المنزل، ويُشارف مثلاً على الموت، ووُضعت أمام والدته مائدة تحوي صنوف الطعام، وقيل لها: «تفضّلي، تعالي لكي تأكلي»، هل ستقدر على تناول هذا الطعام؟! فمهما أُصرّ عليها لكي تأكل؛ كأن يضربونها بالسوط أو يُعرّضونها للعضّ واللدغ، فإنّها ستقول: «ما عساي أن آكل؟!»، ولن يُفتح فمها أبدًا لتناول الطعام، ولن تمتدّ يدها بتاتًا لهذا الطعام.
إنّ أمير المؤمنين هو أب الأمّة، وليس المراد هنا الأب الطبيعيّ والماديّ، بل المراد الأب المعنويّ والروحانيّ الذي يفوق الأوّل بألف درجة؛ وهو مربّي الأمّة. وأمير المؤمنين لم يكن عبدًا للبطن، أو الدنيا، أو الحكم، أو المال، بل كان عبدًا لله تعالى؛ فهذه هي غرائزه وصفاته وملكاته، وهذا هو طريقه!
﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾؛ يعني: أيّها المسلمون، طابقوا بين صراطكم وصراط عليّ! صراطُ عليٍّ حقٌّ نُمسِكُه۱؛ فهذا الصراط هو صراط حقّ!
«عليٌّ مع الحقّ، والحقُّ مع عليٍّ»٢؛
«عليٌّ مع القُرآنِ والقُرآنُ مع عليٍّ، ولن يَفتَرِقا حَتّى يَرِدا عَلَيَّ الحَوضَ»٣؛
وينقل الشيعة هذه الرواية في كتاب الأمالي للشيخ الطوسيّ؛ كما جاءت أيضًا في كتب أهل السنّة، مثلما جاء في كنز العمّال للملاّ تقي الحنفيّ أنّه:
«لن يَفتَرِقا حَتّى يَرِدا عَلَيَّ الحَوضَ».٤
فهذا صراط مستقيم؛ وما أجدر بالإنسان أن يواءم نفسه معه.. كلٌّ بحسب وسعه وطاقته!
فلا تقولوا: «لا نقدر على الالتزام بذلك تمامًا»؛ لأنّه أوّلاً: لماذا لا نستطيع؟! لقد أتى الإمام لكي يتقدّم للأمام، فيتحرّك المأموم في أثره؛ ومن هنا، إذا كان المأموم غير قادر على اتّباع الإمام، فإنّ هذا الإمام سيكون مسلوب الإمامة في تلك الجهات التي عجز عنها المأموم؛ وأمّا إذا كان الإمام إمامًا للإنسان من جميع الجهات، فينبغي على المأموم أن يضع قدمه في نفس موضع قدم هذا الإمام، ويتقدّم!
أ فلم يصِر سلمان من أهل البيت؟! فقد تقدّم خلف الرسول وأمير المؤمنين؛ وكذلك الشأن بالنسبة لعمّار بن ياسر، ومحمّد بن أبي بكر، وقيس بن سعد بن عبادة، ومالك الأشتر، وميثم التمّار.. ذلك الرجل الذي كان صاحب البلايا وعلم المنايا والغرائب والعجائب، ومطّلعًا على أسرار أمير المؤمنين؛ فلماذا وضع هؤلاء أقدامهم [في موضع قدم الإمام]، وتحرّكوا بنحو جيّد؟! كما كان أمير المؤمنين أيضًا يُصاحبهم، وكان رفيقًا لهم، حيث كان يأتي إلى دكّان ميثم التمّار، ويجلسان هناك لمدّة ساعتين أو ثلاث ساعات، ويتحدّثان معًا؛ هذا، مع أنّ ذلك الدكّان لم يكن دكّان لبيع السجّاد المنسوج بالذهب، بل كان عبارة عن كشك صغير يبيع فيه ميثمُ التمرَ، حيث كان يأتي بجِرابين من التمر، وبنهمك في بيعهما بالقرب من مسجد الكوفة.٥
قتال الإمام عليّ عليه السلام الطوائف الثلاث على تأويل القرآن
لقد كان أمير المؤمنين عليه السلام هو حقيقة القرآن؛ ولهذا، قال الرسول الأكرم ما مفاده:
يا عليّ، لقد قاتلتُ هؤلاء الناس على تنزيل القرآن (أي لأجل القبول بظاهر القرآن)، وأنت تُقاتلهم على تأويله وحقيقته.
وينقل ابن أبي الحديد ـ هذا الرجل السنّي ـ في شرح نهج البلاغة روايات مفصّلة عن النبيّ الأكرم لا تُبقي أيّ شكّ أو ترديد في أنّه صلّى الله عليه وآله قال ما معناه:
سيُقاتل عليٌّ بعدي ثلاث طوائف: الناكثين والقاسطين والمارقين؛ أي أهل الجمل وأهل النهروان وأهل صفّين!
كما ينقل ابن أبي الحديد عن كتاب صفّين، عن أبي سعيد الخُدري أنّه قال ما مفاده:
كنّا مع رسول الله فقال:
«إنَّ منكُم مَن يُقاتل على تأويل القرآن كما قاتلتُ على تنزيلِهِ»
فقال عمر: «أنا هو يا رسول الله؟»، قال: «لا!»؛
فقال أبو بكر: «أنا هو يا رسول الله؟»، فقال: «لا، ولكنّه خاصفُ النعل (أي الذي يُصلح نعلي ويُرقّعه).
فقد كان شراك نعل الرسول قد تمزّق، فأعطاه لأمير المؤمنين؛ فكان عليه السلام جالسًا هناك يُصلح النعل.
قال أبو سعيد:
فأتيت عليًّا عليه السلام، فبشّرته بذلك، وقلت له: أبشر، فقد قال رسول الله: إنّك وصيّي من بعدي، وستُقاتل على تأويل القرآن كما قاتلتُ أنا على تنزيله.
فنظر إليّ عليّ، ولم يحفل به كأنّه شيءٌ قد كان علمه من قبل، وكان بالنسبة إليه أمرًا عاديًا، وليست مسألة عجيبة حتّى يُظهر الفرح لأجلها!۱
وينقل ابن أبي الحديد أيضًا عن كتاب صفّين، عن رجل اسمه أبو صادق أنّه قال:
قدم علينا أبو أيوب الأنصاريّ (الصحابيّ الجليل لرسول الله الذي نزل صلّى الله عليه وآله في بيته حين قدومه إلى المدينة) العراق، فأهدت له الأزد (التي كانت من أنصار عائشة وعثمان ونظائرهما) جزرًا (أي ناقة)، فبعثوها معي، فدخلت إليه، فسلّمت عليه، وقلت له (نيابةً عن الأزد): «يا أبا أيّوب، قد كرّمك الله عز وجل بصحبة نبيه صلّى الله عليه وآله وسلّم ونزوله عليك، فما لي أراك (تُغادر المدينة باستمرار)، تستقبل الناس بسيفك، تقاتلهم هؤلاء مرّة وهؤلاء مرّة؟».
قال أبو أيّوب (ما مفاده): «أمّا بالنسبة للحروب التي شاركتُ فيها، فالأولى كانت في ركاب أمير المؤمنين ضدّ عائشة وطلحة والزبير، اتّباعًا لوصيّة الرسول الذي أمرنا بقتال الناكثين الذين نقضوا بيعة عليّ.
وأمّا الحرب الثانية، فهي الحرب التي أتيتُ فيها الآن في ركاب عليّ من أجل قتال معاوية؛ لأنّه من القاسطين الذين حادوا عن طريق العدل والسنّة، وأبطلوا رأي إمامهم، وثاروا ضدّه، حيث أُمرنا من طرف الرسول بقتالهم.
وأمّا الحرب الثالثة، فهي ضدّ الخوارج والمارقين الذين لن يسمح لي عمري ـ للأسف ـ برؤيتهم!».۱
ويقول ابن أبي الحديد كذلك (ما معناه):
لدينا روايات مستفيضة وكثيرة من طرق أهل السنّة أنّ رسول الله قال:
«يا عليّ، كما أنّني مكلّف من قِبل الله تعالى بقتال الناس على تنزيل القرآن، فإنّك مكلّف أيضًا بقتالهم على القبول به؛ يا عليّ، سيقع الناس بعدك في فتنة، فعليك محاربتهم لكي يقبلوا بحقيقة القرآن وتأويله».
فقال أمير المؤمنين: «يا رسول الله، ما هذه الفتنة التي كُتب عليّ فيها الجهاد؟».
قال النبيّ الأكرم: «قوم يشهدون أن لا إله إلا الله وأنّي رسول الله، وهم مخالفون للسنّة؛ أي أنّهم يتمرّدون على أوامري».
فقال أمير المؤمنين: «يا رسول الله فعلام أقاتلهم، وهم يشهدون كما أشهد؟».
قال صلّى الله عليه وآله وسلّم: «بلى، لأنّهم يُخالفون الأمر، ويُحدثون البِدَع والأحداث».
فقال أمير المؤمنين: «يا رسول الله، إنّك كنت وعدتني الشهادة، فاسأل اللهَ أن يُعجّلها لي بين يديك، وأُستشهد الآن في ركابك في إحدى الحروب».
قال رسول الله: «إذا قُتلتَ، فمن يقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين؟! ومن يُحارب أصحاب الجمل وصفّين والنهروان؟! لكن، أُبشّرك يا عليّ أنّك ستُستشهد؛ فو الله لَتُخضب هذه من هذه، وتبتلّ لحيتك بدم رأسك! يا عليّ، فكيف صبرك في هذه المواطن؟»
قال أمير المؤمنين: «يا رسول الله، ليس هذا بموطن صبر هذا موطن شكر؛ فحينما أُستشهد في سبيل الله، سيتعيّن عليّ أداء الشكر لله، ولن أنزعج من ذلك بتاتًا، لكي يكون ذلك الموطن موطن صبري!».
ثمّ قال أمير المؤمنين: «يا رسول الله، لو بيّنت لي قليلاً كيفيّة ابتداعهم في الدين!».
فقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: «إنّهم سيأخذون بظاهر القرآن، ويدّعون اتّباعه، من دون أن يعملوا به، بل سيُخالفون حقائقه، فيستحلّون الخمر بالنبيذ، والسحت بالهديّة، والربا بالبيع، ويتسلّطون على رقاب المسلمين، عادّين أنفسهم أئمّة عدل! فهذه هي الفتنة التي ستظهر من بعدي».
فقال أمير المؤمنين: «يا رسول الله، أُقاتِلهم على الفِتنةِ، أم أُقاتِلُهم على الردَّةِ (فأعتبرهم مرتدّين عن الإسلام، وأكون حينئذ محاربًا للكفّار)؟»۱.
حيث يتعلّق بهذه المسألة حكم خاصّ؛ أي: محاربة الكفّار وقتلهم وأسرهم، وأخذ أموالهم كغنيمة عند السيطرة عليها؛ لكن، إذا حصل قتال مع مسلمين من أجل دحرهم، فلا يجوز أسرهم، ولا غنيمة أموالهم؛ ولهذا، لم يصدر في معركة الجمل أيّ أمر من أمير المؤمنين لجنده، لكي يتّخذوا من خصمهم أسرى، أو يُغيروا على أموالهم، بحيث مهما طلبوا منه ذلك، لم يأذن لهم به.
قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم [ما مفاده]: «يا عليّ، على الفتنة (ولن تُقاتلهم على الردّة).
يا عليّ، ستستمرّ هذه الفتنة، ويغوص الناس في هذا العمه، إلى أن يملأ الله تعالى الأرض بنور عدل قائمنا».
فقال أمير المؤمنين [ما معناه]: «يا رسول الله، هل سيكون ذلك الذي يملأ الأرض عدلاً منّا أو من غيرنا؟».
قال النبيّ الأكرم [ما مضمونه]: «منّا؛ بِنَا فَتَحَ اللهُ وبِنا يَختِمُ، وبِنا نَوَّر اللهُ ظَلَماتِ الأرضِ بَعدَ الشركِ، وبِنا نَوَّر اللهُ ظَلَماتِ الأرضِ بَعدَ العَمَه».٢
أحداث عجيبة تزامنت مع شهادة أمير المؤمنين عليه السلام
... فأولئك الأفراد الذين كان عليهم الالتزام بصراط الحقّ المستقيم، لم يلتزموا به، بل مالوا إلى أهوائهم وآرائهم: ﴿وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ﴾٣؛ فقد ابتعدوا عن الصراط، وستظهر نتيجة هذه الأعمال في يوم القيامة.
نرجو من الله تعالى أن يمنحنا البصيرة، ولا يجعلنا من زمرة هؤلاء، بل يجعلنا من الذين اقتفوا سنّة أمير المؤمنين، واتّبعوه؛ فنذهب إلى القيامة، ونرى ـ بحقّ ـ حقيقة تلك المشاهد الجذّابة التي تعكس أعمال الناس في هذه الدنيا.
فقد أخفوا حتّى قبر أمير المؤمنين، حيث كان عليه السلام قد أوصى بإهالة التراب عليه وتغييبه، وعدم إطلاع أيّ أحد عليه.٤ وقبل أن يطلع الصباح، رجع الإمامان الحسن والحسين برفقة الأفراد الذين شاركوا في التشييع إلى الكوفة. فقد كان القبر مخفيًّا، لكنّ المسألة مرتبطة بالولاية؛ وفي نهاية المطاف، يتعيّن أن تُبرز هذه الولاية نفسها، سواءً في قلوب الكفّار أو قلوب المسلمين.
سأل سليمان رجلاً شاميًّا، فقال له [ما مضمونه]:
حينما كنتَ في الشام وقت تلقّي عليّ للضربة في الكوفة، كيف اطّلعتم على هذه الحادثة؟ قال: «كلّما رفعنا حجرًا عن الأرض، رأينا تحته دمًا عبيطًا، فقلنا: لا بدّ أنّ عليًّا قد قُتل!».۱
ولدينا روايات عديدة مفادها أنّه: حينما قُتل أمير المؤمنين، ظلّوا ثلاثة أيّام كلّما رفعوا حجرًا، وجدوا تحته دمًا عبيطًا!٢
يُقال إنّ راهبًا كان جالسًا في بيت الله الحرام، وكان قد أسلم، فقال راوي الحديث [ما مضمونه]:
سمعتُ بهذا الأمر، فانتابني العجب، ثمّ تقدّمت إلى الأمام، فرأيته جالسًا بحذاء مقام نبيّ الله إبراهيم؛ وقد كان رجلاً عظيم الخلقة، وله لحية بيضاء، ويرتدي جبّة من خزّ وقلنسوة، ويضع على رأسه قبّعة من خزّ، حيث كان راهبًا نصرانيًّا قد أسلم، فجلستُ إلى جانبه، وهو يُحدّث الناس بقصّة إسلامه، فسمعته يقول: «أنا راهب ـ أي أنّني مُعرض عن الدنيا ـ، وكانت لديّ صومعة قُرب البحر أنهمك فيها بالعبادة؛ وذات يوم، رأيت نسرًا كبيرًا جدًّا (يبلغ حجمه ضعفي حجم الإنسان)، فجاء، وحطّ على حجر قريب من تلك الجزيرة، وأخرج من فمه ربع إنسان، وتقيّأه، ثمّ طار؛ وبعد فترة من الزمان، عاد مرّة أخرى، ورمى من فمه ربع إنسان، ثمّ طار؛ فرجع ثانيةً، وتقيّأ من فمه ربعًا آخر، ثمّ طار؛ وفي المرّة الرابعة التي جاء فيها، ألقى من فمه بربع آخر؛ فاتّحدت هذه الأرباع، فصار رجلاً، ثمّ قام (لا يخفى أنّه من المحتمل أن يكون هذا الراهب قد رأى ذلك في عالم المعنى؛ لأنّ الرهبان يتمتّعون بنوع من صفاء النفس، فتحصل لهم بعض المكاشفات). ثمّ قام هذا الطائر بنقر ذلك الإنسان على رأسه، ففصل منه ربعًا، وابتلعه، ثمّ طار؛ فجاء مرّة أخرى، ونقره، وابتلع ربعًا آخر، ثمّ رحل؛ فرجع ثانيةً، ونقره، وابتلع ربعًا آخر. وفي المرّة الرابعة، ابتلع الربع الأخير، وذهب؛ فلم يبق هناك أيّ أحد، وقلت في نفسي: «يا للعجب، ليتني سألتُ ذلك الرجل من يكون، وما هي قصّته، ولماذا غيّرك الله تعالى بواسطة هذا العذاب، فجعل جسدك أربعة أجزاء، وصيّره طعامًا لهذا النسر، فتقيّأك أربع مرّات، إلى أن أصبحتَ على شكل إنسان مستوٍ، ثمّ قطّعك مرّة أخرى إربًا، إربًا، وأخذك!». ورأيت أنّ النسر جاء ثانيةً، وحطّ على نفس ذلك الحجر، وتقيّأ ربع إنسان، فنزلتُ على الفور إلى تحت الصومعة، وذهبت إلى ذلك الحجر، ووقفت بحذائه، لكي أشاهد ما يقع عن قُرب، وأسأل ذلك الرجل؛ فطار ذلك النسر، ثمّ رجع بعد مدّة من الزمان، ورمى بربع آخر، ثمّ طار، وعاد ليتقيّأ ربعًا آخر؛ وحينما جاء في المرّة الرابعة، ألقى بالربع الأخير، فقام إنسان.
وقبل أن يختطفه النسر، سألته: «أخبرني عمّن تكون لكي يُحلّ اللهُ تعالى عليك هذا العذاب؟!
قال: «هذا هو عذابي الدنيويّ إلى يوم القيامة؛ فلا بدّ أن أقّطع إربًا، فيضعني النسر هنا باستمرار، ويحملني في بطنه دائمًا، ثمّ يضعني في مكان آخر؛ وحينما أكتمل هناك، يُقطّعني مرّة أخرى إربًا، ثمّ يأتي بي إلى هنا؛ وعندما أكتمل في هذا الموضع، يُقطّعني ثانية، ويضعني هناك!».
قلت: من أنت؟ فلم يردّ عليّ، فقلت: بِحَقِّ مَنْ خَلَقَكَ، مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: «أَنَا ابْنُ مُلْجَمٍ المراديّ».
قُلْتُ لَهُ: لأيّ شيء تُعذّب بهذا العذاب؟! فأنا لم أرَ في الأمم السابقة، وأقوام الأنبياء الماضين، وفي كتبنا مثلَ هذا العذاب الذي يحلّ بك إلى يوم القيامة!
قال: «لقد قتلتُ عليّ بن أبي طالب»؛ وما إن أتمّ هذه العبارة، حتّى جاء النسر، ونقره على رأسه، واقتلع منه ربعًا، ثمّ طار.
وحينما رجعت إلى الصومعة، وسألت عن عليّ بن أبي طالب، قيل لي: هو وصيّ نبيّ آخر الزمان، وقد قُتل قبل عدّة أيّام على يد ابن ملجم المراديّ؛ فأسلمتُ في الحين، وغادرتُ الصومعة، وتخلّيت عن الرهبانيّة، وجئت للإقامة في مكّة التي صارت موطني، وأصبحتُ من المسلمين.
لقد نُقلت هذه الرواية في مجموعة من الكتب المعتبرة؛ نظير كتاب الخرائج والجرائح الذي يُعدّ من الكتب النفيسة والمعتبرة جدًّا، كما وردت أيضًا في كتب معتبرة أخرى.۱
أسر الرومُ جماعةً من المسلمين، وجاؤوا بهم إلى ملكهم، وقالوا: قيّدوهم، واعرضوا عليهم ديننا، [لكنّهم لم يقبلوا]، فأمر ملكُ الروم بصُنع قدور كبيرة، وأغلى الزيتَ، وألقاهم أحياء فيه، فقتلهم جميعًا، ثمّ أبقى منهم واحدًا ليُعلِم المسلمين بالذي فعله ملك الروم بالأسرى.
فقال [ما مضمونه]:
بينما أسير في البيداء قريبًا من بزوغ الفجر، والوقت لا يزال ليلاً، ولم يطلع الصباح بعدُ، فإذا بي أسمع وقع حوافر الخيل، فالتفتُّ، فرأيت أنّ جميع الفرسان هم أصحابي الذين قتلهم ملكُ الروم، وأحرقهم في القدور بتلك الطريقة، وهم يركبون خيولاً بيضاء، ووجوههم مُسفرة، فقلت: أين كنتم يا رفاقي؟ قالوا: كنّا نائمين في قبورنا، وكان مكاننا في غاية الروعة؛ فإذا بنا نسمع مناديًا يُنادي بين السماء والأرض: قُتل عليّ بن أبي طالب، فليقُم كلّ شهيد استُشهد في اليابسة أو في الماء، وليذهب لكي يُصّلي عليه! فقُمنا من قبورنا، وذهبنا للاقتداء بالإمام الحسن، وصلّينا على أمير المؤمنين؛ وقد أُمرنا الآن بالرجوع إلى مضاجعنا!٢
فهنا، توجد حسابات أخرى!
تأثير ولاية أمير المؤمنين عليه السلام في الكائنات
لقد ظلّ قبرُ أمير المؤمنين مغيّبًا من دون أن يطّلع على مكانه أيّ أحد، أو يتعرّف عليه أيّ إنسان؛ ومرّت سنوات متمادية والأمر بهذا النحو؛ إلى أن جاء يومٌ كان هارون خارج الكوفة مع كلاب الصيد من أجل ممارسة لعبة القنص؛ فرأى قطيعًا من الظباء، فأرسل خلفهم الكلاب والصقور، وجاء هو أيضًا مع جنده الذين خرجوا للصيد، وساروا في أنحاء أرض النجف لكي يصطادوا تلك الظباء، حيث ورد في الرواية أنّ الكلاب والصقور ظلّت تتعقّب الظباء لمدّة تتجاوز الساعة، فتعبت هذه الظباء، لكنّها لم تتمكّن من الإمساك بها. وحينما أصيبت الظباء بالعياء، تقاطرت بأجمعها إلى أعلى تلّ من التلال؛ وعندما حاولت الكلاب صعود التلّ من أجل الإمساك بها، لم تتمكّن، وتنحّت جانبًا؛ ثمّ جاءت الصقور، وسعت أيضًا للتحليق أعلى التلّ، غير أنّها عجزت عن ذلك، وتنحّت جانبًا! فبقيت الظباء على التلّ، وهارون يتطلّع إلى هذا المشهد عن قُرب؛ فرأى أنّ الظباء قد تفرّقت، وانحدرت عن التلّ؛ فما إن وصلت للأسفل، حتّى قامت الكلاب التي كانت مستلقية، وجرت خلفها، كما فعلت الصقور نفس الشيء، فما كان من الظباء، إلاّ أن هربت مرّة أخرى نحو التلّ، فلم تتمكّن الكلاب من الصعود إلى الأعلى، ووقعت، ووقعت الصقور أيضًا!
فقال هارون: «لا بدّ أن تكون هذه القضيّة عجيبة، اصبروا قليلاً، حتّى ينكشف لنا سرّها!».
بقيت الظباء واقفة لفترة من الزمان، ثمّ تفرّقت شيئًا فشيئًا؛ وما إن نزلت من التلّ، حتّى قامت الكلاب التي كانت مستلقية، وجرت خلفها، كما فعلت الصقور الشيء ذاته؛ فالتجأت الظباء ثانيةً إلى التلّ.
فقال هارون لمرافقيه: «لا بدّ أن يوجد سرٌّ هنا؛ فلن نُغادر هذا المكان، حتّى يتّضح لنا هذا السرّ؛ فمَن منكم يذهب إلى هذه الأطراف والأكناف، ويأتينا بشخص من أهل هذه المنطقة، لكي نسأله عن حكاية هذا التلّ؟».
فذهبوا، وأحضروا شيخًا من بني أسد، وقالوا: «هذا يعلم بالحكاية»، فجاء عند هارون، وقال: «هل تمنحني الأمان، لكي أفصح لك عن حقيقة الأمر؟!»، فقال له: «أجل، أنت في أمان!».
قال: «هذا قبر عليّ بن أبي طالب، وقد التجأت الظباء إليه؛ فلا تملك الكلاب ولا الصقور أيّة قدرة على الحركة!».
فتوضّأ هارون، وصلّى هناك ركعتين، وقال: «لا بدّ أن يظهر أثر هذا القبر، فمَن يأتي إلى هذا التلّ لكي يُحدّد مكانه؟».
فجاء الإمام جعفر الصادق عليه السلام، وعيّن موضع القبر۱؛ ومنذ ذلك الحين، صار هذا القبر الشريف ظاهرًا ولائحًا للجميع، حيث جعلوا عليه ـ بالتدريج ـ بناءً، ووضعوا فوقه قبّة، وصنعوا له ضريحًا، وظلّ بناؤه بسيطًا لمدّة طويلة، ثمّ جعلوا له صحنًا كبيرًا، وبعد ذلك، سوقًا، إلى أن تشكّلت مدينة النجف بهذا النحو.
وباختصار، فإنّ ولاية أمير المؤمنين تترك تأثيرها في قلوب الحيوانات، وفي الحجر أيضًا، فيُعثر على دم عبيط تحته.٢ فحينما تؤثّر الولاية في قلب الحيوان، فإنّ الظباء تتوجّه إلى قبره، ولا تقدر الكلاب ولا الصقور على اتّباعها؛ كما أنّ الولاية تُنادي في قبور أولئك النائمين في قبورهم: «قوموا!»، فيحيون، ويقومون، ويُصلّون [على] أمير المؤمنين، ويرجعون؛ فهذه بأجمعها آثار الولاية التي تترك تأثيرها إلى هذا الحدّ في أصحاب القلوب الطاهرة؛ بخلاف الأفراد المُعتمين ﴿ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا﴾٣؛ وهذا أمر عجيب!
في هذا اليوم، كان الإمامان الحسن والحسين عليهما السلام جالسين بالكوفة، فجاء الناس من الأطراف والأكناف لرؤيتهما، وتقديم العزاء لهما؛ كما عقدت النساء أيضًا مجالس للعزاء، حيث جاءت نساء الكوفة لزيارة السيّدة زينب والسيّد أمّ كلثوم وبنات الإمام عليه السلام؛ فإمام المسلمين، ووليّ ولاية عالم الإمكان في دار الدنيا قد ارتحل، والمسألة لا يوجد فيها أيّ هزل!
فجاء مولانا الخضر، حيث رأى الناسُ شيخًا كبيرًا يأتي من بعيد، فتوقّف أمام بيت أمير المؤمنين، وقرأ خطبة طويلة، جاء فيها: «السلامُ عَلَيكَ يا أميرَ المُؤمنين، أَشهدُ أَنَّكَ أَوَّلُ القَومِ إِسلامًا، وأَقدَمِهم إيمانًا، وأَحوَطِهم بِدينِ اللهِ»، وتحدّث بكلام مفصّل جدًّا، ثمّ اختفى فجأةً.
وحينما سُئل الإمام الحسن: «من كان ذلك الشيخ؟»، قال عليه السلام [ما معناه]: «إنّه الخضر.. نبيّ الله الخضر الذي جاء لتقديم العزاء إلينا».٤
لكن، من ناحية أخرى، فإنّنا لا نجد في قلب أولئك المنافقين سوى البغض والبخل والخِصام؛ فقد قتلوا سيّد الشهداء عليه السلام، وكانت هناك السيّدة زينب وسكينة وفاطمة ورقيّة، وكانت هناك بناته عليه السلام وأخته زينب، وكان هناك ابنه الإمام السجّاد، فتحرّك أولئك القوم؛ ولأجل تقديم العزاء، عمدوا إلى إحراق الخيام، بينما كان الإمام السجّاد ساقطًا [على الأرض] وسط الخيمة؛ يقول الراوي:
رأيت امرأة جليلة قد أحرقت النار طرفًا من ردائها، وهي مضطربة ومرتبكة، وتدخل باستمرار للخيمة، ثمّ تخرج منها، وهي خائفة، فقلتُ لها: لما لا تهربين؟! فالجميع قد فرّ، وتوجّه هاربًا نحو الصحراء؛ فقالت: «أيّها الرجل، إلى أين أهرب؟! فأنا لديّ مريض في هذه الخيمة!».۱
وسَيعلمُ الذين ظَلَموا آلَ مُحمَّدٍ أيَّ مُنقلبٍ يَنقَلِبون؛ ﴿إِنَّا لِلهِ وإِنَّا إِلَيهِ رَاجِعونَ﴾!٢