5

أمير المؤمنين عليه السلام ميزان العدالة

53
مشاهدة المتن

المؤلّفالعلامة آیة الله السيد محمد الحسين الحسيني الطهراني

القسممحاضرات العلامة الطهراني

المجموعةمناقب أهل البيت

التاريخ 1397/09/21

جلسات المجموعة(7 جلسة)

التوضيح

هل يجب تطبيق العدالة في العلاقة مع الله والناس والنفس؟ كيف طبّق أمير المؤمنين العدالة والتزم بها؟ كيف تعامل عليه السلام في حكومته مع أقربائه والمحيطين به؟ هل أقدم أمير المؤمنين على خطوة من الخطوات على أساس الظلم والجور؟ ما هو أسلوب معاملته عليه السلام لقاتله؟ كيف يكون الإمام عليّ عليه السلام قسيم الجنّة والنار؟
هي تساؤلات سعى سماحة العلاّمة آية الله السيّد محمّد الحسين الحسينيّ الطهرانيّ قدّس الله نفسه الزكيّة للإجابة عنها في هذه المحاضرة التي عقدها لبيان بعض مناقب أهل البيت عليهم السلام في مسجد القائم بطهران.

/۱٦
بي دي اف بي دي اف الجوال الوورد

أمير المؤمنين عليه السلام ميزان العدالة

1
  •  

  • هو العليم

  •  

  • أمير المؤمنين عليه السلام ميزان العدالة

  •  

  • مناقب أهل البيت عليهم السلام ـ الجلسة الخامسة

  •  

  • محاضرة ألقاها

  • سماحة العلاّمة آية الله السيّد محمّد الحسين الحسينيّ الطهرانيّ

  • قدّس الله نفسه الزكيّة

  •  

  •  

أمير المؤمنين عليه السلام ميزان العدالة

2
  •  

  •  

  • أعوذُ باللهِ من الشّيطانِ الرّجيم‌

  • بسمِ اللهِ الرّحمنِ الرّحيم‌

  • بارِئِ الخلائقِ أجمعين، باعثِ الأنبياءِ والمُرسَلين‌

  • والصّلاةُ والسّلامُ على أشرَفِ السُّفراءِ المُكرَّمين، خاتَمِ الأنبياءِ والمُرسَلين‌

  • حَبيبِ إلهِ العالَمين، أبِي القاسمِ مُحمّدٍ وعلى آلهِ الطَّيِّبينَ الطّاهِرين

  • ولعنةُ اللهِ على أعدائهِم أجمعين مِن الآنَ إلى قيامِ يومِ الدّين‌

  •  

  •  

  • وجوب تطبيق العدالة في العلاقة مع الله والناس والنفس

  • قال اللهُ الحكيمُ في كتابهِ الكريم:

  • ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾.۱

  • «لقد أرسلنا رسلنا وأنبياءنا بالبيّنات والحجج والمعاجز، وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط والعدل فيما بينهم»

  • البيّنات التي منحها اللهُ العليُّ الأعلى للأنبياء هي أدلّة النبوّة والمعاجز التي تظهر على أيديهم، وتدلّ على ارتباطهم بالله تعالى وبعالم الملكوت.

  • وأنزل معهم الكتاب والميزان. فالكتاب هو التعاليم التي تمثّل ـ بوصفها تشريعًا ـ برنامج الحياة العمليّة للناس والأمّة؛ والميزان هو المقياس، أي ما يُقاس ويوزن به الحقّ والباطل، والقبيح والحسن، والخير والشرّ، والصلاح والفساد، والسعادة والشقاء، وما يُمَيَّزُ به بعضُها عن بعض.

  • هذا الميزان هو روح ذلك النبيّ القائمة على أساس القسط والعدل، والذي على الأمّة بأسرها أن تزن به أعمالها، وتقرّب نفسها إليه، وتتجنّب مواضع الإفراط والتفريط والانحرافات. فإن فعلوا ذلك، سيكونون قد قاموا حينئذ بالقسط؛ أي: سيكون وجودهم قد تربّى على أساس العدالة.٢

  • فالعدالة تعني سلوك طريق الحقّ، والاستقامة على الصراط المستقيم، وتجنّب الانحرافات؛ سواءٌ في الأمور التي تتعلّق بعلاقة الإنسان بخالقه، أم في الأمور التي تتعلّق بشخص الإنسان، أم في الأمور التي ترتبط بالعلاقة القائمة بين الإنسان وبين الناس الآخرين؛ ففي جميع هذه المراحل، يجب أن يُطبّق القسط والعدل.

  • ففي مجال العقيدة، تتمثّل العدالة في التوحيد والاعتراف بوحدانيّة الله تعالى في ذاته وأسمائه، وفي مجال الفرد، تتجلّى في تربية صفات الإنسان ومَلَكاته على أساس الصراط المستقيم وميزان الحقّ، وفي نطاق العلاقة بين الإنسان والناس، تكمن في رعاية حقوقهم وعدم التعدّي عليها بأي نحوٍ كان.

  • فمن حيث العدالة، كان النبيّ الأكرم صلّى الله عليه وآله ـ الذي هو خاتم الأنبياء والمرسلين ـ في مقامٍ، بحيث لم يكن هناك ـ بأيّ وجه من الوجوه ـ في تمام أرجاء وجوده الشريف أيُّ شيءٍ سوى هذه العدالة.

    1. سورة الحديد، الآية ٢٥.
    2. لمزيد من الاطّلاع على حقيقة ميزان الأعمال في القيامة، راجع: معرفة المعاد، ج ۸، المجلسان ٥٤ و٥٥.

أمير المؤمنين عليه السلام ميزان العدالة

3
  • جاء كفار مكّة وقالوا: 

  • يا محمّد! كُفَّ عن ادّعائك هذا، وسنحضر لك ما تشاء؛ فنعطيك ما تريده من أموالنا، ونجعلك رئيسًا وحاكمًا وسلطانًا علينا، وندخل جميعًا تحت لوائك ونخضع لأمرك، ونأتيك بأجمل نساء العالم وأفضلهنّ، ونُهيّئ لك ما تشاء من أراضي الطائف وبساتينها النضرة؛ فعليك أن تكُفَّ فقط عن دعواك هذه بأنّ الله واحد، وأنّه على الجميع إطاعة أمره والإعراض عن إطاعة أقرانهم والخضوع لطاعة الله وعبوديّته! اتركك عنك هذا القول، ودعنا أحرارًا في ما نفعله، وسنكون جميعًا خدّامك وعبيدك؛ ونكون حينئذٍ مجتهدين في تحقيق رغباتك.

  • فقال النبيّ صلّى الله عليه وآله [ما معناه]: 

  • والله لو وضعتم الشمس في يميني والقمر في يساري [لما تركت هذا الأمر]! «قولوا لا إلٰه إلّا اللَه تُفلِحوا».۱ فلا مناص لكم من أن تقولوا: «لا إلٰه إلّا اللَه»، وأن تعترفوا بربوبيّته، وأن تعملوا بأوامره تعالى! ٢

  • ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾.٣

  • يجب عليكم جميعًا أن تقوموا بالعدل، وأن تمتنعوا عن الاعتداء على حقوق الغير، وأن تتخلّوا عن الفرعنة والرئاسات الباطلة، وعليكم جميعًا أن تخضعوا لعبوديّة الله تعالى؛ فلا سبيل غير هذا! فبماذا سينفعني القمر والشمس؟! وبماذا ستُفيدني المرأة الجميلة والبستان والذهب والمُلك؟! وما فائدة الرئاسة والحكم بالنسبة لي؟! فأنا عبد الله ورسوله، ومأمورٌ بأن أدعوكم إلى هذا الصراط المستقيم.

  • تطبيق أمير المؤمنين عليه السلام للعدالة والتزامها بها

  • أمير المؤمنين عليه السلام هو وصيُّ هذا النبيّ؛ فلا يوجد في جميع أرجاء وجوده الشريف أيّ جانب من الانحراف أو التعدّي، وروحه وسرّه وعقائده وملكاته وغرائزه كلّها في اعتدالٍ وصراطٍ مستقيم، وأفعاله وطريقة تفكيره قائمة بأجمعها على صراط الحقّ؛ ﴿لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾؛ أي ليدعوَ الناس إلى العدالة والقسط.

  • والميزان الذي مع أمير المؤمنين عليه السلام هو سماته النفسيّة والروحيّة التي تُميّز ـ شأنها في ذلك شأن مؤشِّر الميزان ـ كلّ صالحٍ من فاسد، وكلّ حسنٍ من قبيح، وكل مستقيمٍ من مُعوجّ، وكل طريق سعادةٍ من طريق شقاء؛ وهذا الميزان باقٍ للناس إلى يوم القيامة.

    1. مناقب آل أبي طالب عليهم السلام، ج ۱، ص ٥٦؛ مسند أحمد، ج ٣، ص ٤٩٢؛ ج ٤، ص ٣٤۱؛ ج ٥، ص ٣۷۱ و٣۷٦.
    2. تفسير القمّي، ج ٢، ص ٢٢۸.
    3. سورة النحل، الآية ٩۰.

أمير المؤمنين عليه السلام ميزان العدالة

4
  • وهذا لا يعني أنّ أمير المؤمنين كان يتصنّع العدالة لكي يطبّقها بين الناس؛ لأنّ أعماله ليست من باب التصنّع، بل إنّ حقيقة العدالة والقيام بالقسط قد عُجنت وخُمّرت بروحه عليه السلام منذ البدء أولًا، وبواسطة التعليم والتربية ثانيًا. فهو عليه السلام ميزان العدالة، ولا يستطيع أن يتعامل إلّا بالعدل؛ ولهذا، عندما يرى الظلم، يتألّم، ويُصيبه الصداع والحمّى، ويخطب ويصيح.

  • ففي إحدى المرّات، دخل جنود معاوية مدينة الأنبار، وانتزعوا خلخالاً من قدم امرأة يهوديّة كانت في ذمّة الإسلام. فلمّا سمع الإمام عليه السلام بذلك، تصبّب عرقًا وأصابته الحمّى، وكان يجرّ عباءته على الأرض وهو يمشي؛ ثم خطب خطبة مفصّلة قال فيها [ما مضمونه]: 

  • إنّكم مسلمون وأصحاب غيرة؛ فكيف يقوم المعتدون بانتزاع خلخال من رجل امرأة يهوديّة مُعاهدة من دون أن يُحرّك ذلك غيرتكم وحميّتكم؟! أقسم بالله لو أنّ المرء مات جرّاء هذه الآلام لكان ذلك أحرى!۱

  • هذا، وقد طرح الأعاظم مجموعة من البحوث بخصوص عدالة أمير المؤمنين عليه السلام، كما بحث عنها أيضًا ثلّة من المفكّرين في العالم، حيث حيّرت عدالتُه عليه السلام الجميع، لدرجة أنّهم كانوا يحارون من المدى الذي بلغته استقامتُه على هذا الطريق.

  • يقول بعضُ الذين لا يحملون رأيًا حسنًا تجاه الشيعة وأئمّتهم عليهم السلام، مثل محمّد فريد وَجدي صاحب كتاب (دائرة معارف القرن العشرين)، وأحمد أمين المصري صاحب كتب (فَجرُ الإسلام) و(ضحى الإسلام) و(ظهر الإسلام)، ومثل ابن عبد ربّه صاحب كتاب (العِقد الفريد) والذين هم أناس متعصّبون وذَوو ذوق أعوج: 

  • «إنّ سبب محبّة الشيعة لأئمتهم وتعلّقهم بهم هو أن أئمّتهم كانوا دائمًا مهجورين ومظلومين؛ ومن الطبيعي أن يميل الناس إلى المظلوم. فأئمّتهم إمّا قُتلوا، أو تعرّضوا للعذاب والتعذيب والأذى، أو قضوا فترات طويلة في السجون؛ ولذلك، ستميل نفوس الناس إليهم بطبيعة الحال؛ بخلاف خلفاء بني أميّة وخصوصًا بني العبّاس الذين طالت فترة حكمهم وقوّتهم وعظمتهم، حيث كانوا يتمتّعون بجميع الإمكانيات، وكانت السلطات كلّها بأيديهم؛ وعندما تكون السلطة بيد الإنسان، فإن لازمها هو الانتهاك والعدوان، والقدرة على الانحراف.

  • فكلّ من حاز على القدرة اللازمة، وكانت الأموال الوفيرة تحت تصرّفه، إلاّ وتجرّأ على ارتكاب الأعمال القبيحة والسيّئة! وكان بنو العبّاس من هذا القبيل أيضًا، حيث كانت لديهم السلطة والمال والمُكنة، وكان لهم مُلك نصف العالم؛ فلذلك، كانوا يقيمون مجالس الرقص والغناء والشراب ليلًا حتى الصباح؛ لأنّهم كانوا يمتلكون السلطة والقدرة. 

    1. معاني الأخبار، ص ٣۰٩ و٣۱۰؛ ولمزيد من الاطّلاع على هذه الخطبة، راجع: معرفة الإمام، ج ۱۸، ص ٣٦٩.

أمير المؤمنين عليه السلام ميزان العدالة

5
  • وأمّا أئمّة الشيعة فلم يكونوا كذلك؛ إذ لم تكن السلطة بأيديهم؛ ولذلك حصل للناس نفور من بني العبّاس، ومالوا إلى العلويّين ومدحوا أئمّتهم. ولكن، من غير المعلوم أنّه لو كانت السلطة قد وصلت إلى أيدي أئمّة الشيعة، هل كانوا سيحتفظون بهذه المحبوبيّة بين الناس أم لا؟». هذا هو عنوان بحثهم!۱

  • الردّ على اتّهامات أحمد أمين وغيره ضدّ الشيعة وأئمّتهم

  • هذا الكلام خاطئ جدًّا، وناشئ عن العناد واللجاج والعمى العلميّ؛ فتاريخ أئمّة الشيعة عليهم السلام أوضح من كلّ شيء، وقد كانت كلّ أنواع السلطة متاحةً لهم، ولكنّهم لم يرغبوا في الاستعانة بالسلطة الظالمة والجائرة؛ بل سعوا نحو السلطة العادلة.

  • فبعدما تمرّد الناس على بني أميّة وقضوا عليهم، وقتلوا مروان الحمار، وأبادوا أسرة بني أمّية بأكملها من العالم، أرادوا أن يبايعوا الإمام جعفر الصادق بالخلافة، لكنّه عليه السلام لم يقبل بها؛ لأسبابٍ سبق لي أن طرحتها بالتفصيل على بعض الرفقاء، حيث بيّنت هناك لماذا لم يقبل الإمام الصادق عليه السلام بهذه الخلافة.٢ فجاءوا ليبايعوه قائلين: «تعالَ، وكُن سلطانًا علينا!»، فلم يرضَ الإمام عليه السلام بذلك.٣ فكيف يُقال ـ والحال هذه ـ إنّ الإمكانيات لم تكن متاحة له عليه السلام؟!

  • وحينما أجبر المأمونُ الإمامَ الرضا على المجيء من المدينة ليجعله خليفة للمسلمين، ويبايعه هو نفسه بالخلافة، لماذا لم يقبل عليه السلام بذلك، مع أن كلّ السلطات كانت ستكون بيده؟! وبعد أن تنازل له بولاية العهد، أصبح الإمام عليه السلام وليّ عهد خليفة كافّة المسلمين في العالم، ودامت ولاية العهد هذه سنة وبضعة أشهر حتّى قتلوه شهيدًا٤و٥ فأيّة استفادة سيّئة استفادها الإمام الرضا عليه السلام من هذه السلطة؟ وأيّ استغلال فعله بهذه الأموال الوفيرة وهذه السلطة الواسعة، سوى إرسائه للعدل والقسط بين الناس؟!

  • لم يتصدَّ أمير المؤمنين عليه السلام لأمور الخلافة طيلة خمسة وعشرين عامًا بعد رحيل النبيّ صلّى الله عليه وآله. فكان ينبغي لشخص عانى من الحرمان خلال هذه الخمسة وعشرين عامًا ـ بعدما بايعه الناس، وقبل الصديق والعدوّ بخلافته، واصطفوه للرئاسة٦ ـ أن يُنفّس عن كلّ العُقد التي تراكمت في قلبه خلال هذه الفترة الطويلة، وأن يُعوّض ما طاله فيها من حرمانٍ؛۷ وكان يتعيّن عليه في ذلك الحين أن يمدّ يده إلى أموال الناس وأراضيهم وممتلكاتهم، ويستولي على الولايات المختلفة. لكنّه حكم خمس سنوات، اقتصر فيها على لبس ثوبين باليين،۸ ولم يجعل مقرّ خلافته في دار الإمارة، بل في بيته الخاصّ الذي لم يحتو على بساط ولا فراش،٩ حيث كانوا يأتونه ببيت مال المسلمين من أكناف وأطراف العالم، فكان عليه السلام يقسّمه بالسويّة بين جميع المسلمين، وكان هو بنفسه كأحدهم، يأخذ بمقدار ما يأخذ كلّ مسلم منهم.۱۰

    1. ضحى الإسلام، ج ٣، ص ٢٣۱ و٢٣٢؛ ظهر الإسلام، ج ٤، ص ۸۱٥؛ فجر الإسلام، ص ٢۷٢ و٢۷٤.
    2. راجع: معرفة الإمام، ج ۱۷، ص ٢٦٩ ـ ٢۷۱.
    3. ينابيع المودّة، ج ٣، ص ۱٦۰؛ الفرج بعد الشدّة، ج ٢، ص ٣٤۸؛ الكافي، ج ۸، ص ٣٣۱.
    4. الكافي، ج ۱، ص ٤۸۸ ـ ٤٩۰ و٤٩٢.
    5. لمزيد من الاطّلاع على مكر المأمون وخداعه وإجباره للإمام الرضا عليه السلام على القبول بولاية العهد، راجع: معرفة الإمام، ج ۱٦ و۱۷، ص ۱٦٦.
    6. نهج البلاغة (عبده)، ج ۱، ص ٣٦.
    7. لمزيد من الاطّلاع على خطبة أمير المؤمنين عليه السلام حول نسف السنن المخالفة بعد تقلّده للخلافة، راجع: معرفة الإمام، ج ۸، ص ٢٢٦.
    8. نهج البلاغة (عبده)، ج ٣، ص ۷۰:
      «ألا وإنَّ إِمامَكم قَدِ اكتفى مِن دُنياهُ بِطِمريَهِ ومِن طُعمِه بِقُرصيه... !».
    9. إرشاد القلوب، ج ۱، ص ۱٥۷:
      «قالَ سوَيدُ بنُ غَفَلَةَ: دَخَلتُ عَلي أمير المُؤمِنينَ عليه السّلام بَعدَ ما بويعَ بِالخِلافَةِ وهو جالِسٌ عَلَى‌ حَصيرٍ صَغيرٍ لَيسَ في البَيتِ غَيرُهُ، فَقُلتُ: يا أميرَ المُؤمِنينَ بيَدِكَ بَيتُ المالِ وستُ أرى في بَيتِكَ شَيئًا مِمّا يَحتاجُ إلَيهِ البَيتُ! فَقالَ عليه السّلام: "يا ابنَ غَفَلَةَ! إنَ اللَّبيبَ [العاقِلَ‌] لا يَتَأثَّثُ في دارِ النُّقلَةِ، ولنا دارًا قَد نَقَلنا إلَيها خَيرَ مَتاعِنا، وإنّا عَن قَليلٍ إلَيها صائِرونَ"».
    10. الكافي، ج ۸، ص ۱۸٢:
      «عن محمّدِ بن مسلمٍ، عن أبي ‌عبدِالله عليه السّلام قال:
      لَمّا وَلِيَ عَلِيٌّ عليه السّلام، صَعِدَ المِنبَرَ فَحَمِدَ اللهَ وأثنى عَلَيهِ، ثُمَّ قالَ: ”إنّي وَاللهِ لا أرزَؤُكُم مِن فَيئِكُم دِرهَمًا ما قامَ لِي عِذقٌ بِيَثرِبَ، فَليَصدُقكُم أنفُسُكُم، أ فَتَرَونِي مانِعًا نَفسِي، ومُعطِيَكُم!“ قالَ: فَقامَ إلَيهِ عَقِيلٌ فَقالَ لَهُ: ”وَاللهِ لَتَجعَلَنِّي وأسوَدَ بِالمَدِينَةِ سَواءً!“ فَقالَ: ”اِجلِس أ ما كانَ هاهُنا أحَدٌ يَتَكَلَّمُ غَيرُكَ؟! وما فَضلُكَ عَلَيهِ إلّا بِسابِقَةٍ أو بِتَقوَى‌!“»

أمير المؤمنين عليه السلام ميزان العدالة

6
  • بناءً على ذلك، فإنّ حال أئمّة المسلمين في أوج قوّتهم ـ من حيث العدالة ـ هي نفس حالهم في فترة الحرمان. فلم يكونوا يريدون الحكومة من أجل الحكومة، بل أرادوها لتطبيق العدل بين الناس، وقمع الظالم، وإيصال الحقّ إلى المظلوم، ودعوة الناس جميعًا إلى الله تعالى؛ فكانوا يجعلون الحكومة مقدّمةً لهذه الغايات.۱

  • نموذج من حكومة أمير المؤمنين عليه السلام وعدالته

  • إنّ قصّة عقيل وأمير المؤمنين عليه السّلام مشهورةٌ في جميع التواريخ؛ وهو نفسه عليه السلام يقول في نهج البلاغة:٢ 

  • «وَاللَه لَأن أبيتَ علَى حَسَكِ السَّعدانِ مُسَهَّدًا، وأُجَرَّ في الأغلالِ مُصَفَّدًا، أحَبُّ إلَيَّ مِن أن ألقَى اللَه ورَسولَهُ يومَ القيامةِ ظالِمًا لِبَعضِ العِبادِ، وغاصبًا لِشيءٍ مِن الحُطامِ! وكيفَ أظلِمُ أحدًا لِنَفسٍ يُسرِعُ إلَى البِلَى قُفولُها، ويَطولُ في الثَّرَى حُلولُها؟!»

  • يقول عليه السلام: «أقسم بالله لأن أقضي ليلتي ساهرًا على شَوْك السَّعدان الحادّ الأطراف (تلك الأشواك حادّة الأطراف التي هي طعام الإبل)، وأن يُقيّدوني بالسلاسل والأغلال، ويجرّوني على هذه الأشواك، أحبّ إليّ من أن ألقى الله ورسوله وأنا ظالمٌ لبعض العباد في حقوقهم، أو غاصبٌ لشيءٍ من متاع الدنيا بالجور. وكيف أظلم أحدًا، لنفسٍ تُسرع إلى البلى والفناء، ويطول مكثها في القبر؟!»

  • «وَاللَه لَقَد رَأيتُ عَقيلاً وقَد أملَقَ، حَتَّى استَماحَني مِن بُرِّكُم صاعًا، ورَأيتُ صِبيانَهُ شُعثَ الشُّعورِ، غُبرَ الألوانِ مِن فَقرِهِم، كَأنَّما سُوِّدَت وُجوهُهُم بِالعِظلِمِ» 

  • والله لقد رأيتُ أخي عقيلاً وقد أضرَّ بِهِ الفقر والفاقة، ورأيتُ أطفاله شُعث الشُعور وقد علا الغبار وجوههم من شدّة الفقر وتغيّرت ألوانهم، كأنّما سُوِّدت وجوههم بالنيلة؛ فجاء إليّ يطلب صاعًا٣ من قمحكم هذا.

  • «وعاوَدَني مُؤَكِّدًا، وكرَّرَ عَلَيَّ القَولَ مُرَدِّدًا، فَأصغَيتُ إليه سَمعي، فَظَنَّ أنّي أبيعُهُ ديني، وأتَّبِعُ قِيادَهُ مُفارِقًا طَريقَتي!» 

  • ولم يأتِ مرّة واحدة، بل جاء مرّاتٍ عديدة، وكرّر قوله السابق وأكّده. وأنا كنتُ أصغي إليه وأستمع؛ فظنّ من إصغائي واستماعي أنّني راضٍ بأن أعطيَه صاعًا من قمح المسلمين هذا، وأنّني سأتخلّى عن طريقي ونهجي، وأتّبع طلبه وقوله!

  • «فَأحمَيتُ له حَديدَةً، ثُمَّ أدنَيتُها مِن جِسمِه لِيَعتَبِرَ بِها، فَضَجَّ ضَجيجَ ذي دَنَفٍ مِن‌ ألَمِها، وكادَ أن يحتَرِقَ مِن ميسَمِها. فَقُلتُ له: ثَكلَتك الثَّواكِلُ يا عقيل! أ تَئِنُّ مِن حَديدَةٍ أحماها إنسانُها لِلَعِبِه، وتَجُرُّني إلى نارٍ سَجَرَها جَبّارُها لِغَضَبِه؟! أ تَئِنُّ مِن الأذَى ولا أئِنُّ مِن لَظىً؟!»

    1. معرفة المعاد، ج ٣، ص ۱۸٤:
      «ولقد كان لأمير المؤمنين عليه السلام حكومة عجيبة، اقترنت فيها تلك القدرة والعظمة باللين والرفق والعدالة المميّزة، فكان عليه السلام يتغاضى عن جميع الجرائم التي كانت ترتكب بحقّه، وكان يتجاهل مصالحه الشخصيّة ولا يقيم لها وزنًا أمام مصالح النوع وحقوق الناس، وكان يُعرض عن المقاصد السيّئة والإهانات ويغضّ عنها طرفه.
      لذا فإنّنا نري أفرادًا كمثل أحمد أمين المصريّ وابن عبد ربّه في «العقد الفريد» يقولان: "إنّ حكومة أمير المؤمنين كانت أشبه بالنبوّة منها بالحكومة، كما أشبه الأشخاص الذين رباهم حواريّي عيسي ابن مريم‌ عليه السلام، ومن ثمّ فإنّ ذلك لم يكن أسلوبًا للحكم، وعلى أساس هذا الصدق والعدالة فقد كانت الغلبة لمعاوية في حرب صفّين".
      بلي! يجب أن يقال لهذين ولأمثالهما ممّن يعدّون الحكومة سياسة مقارنة للمكر والخداع والكذب، ممّن لا يتورّعون عن ارتكاب أي جناية للوصول إليها: إنّ الحكومة الإلهيّة الحقّة هي حكومة الحقّ، وليس الهدف منها التسلّط على أعراض الناس وأموالهم ونفوسهم، وليس القصد منها التظاهر والصراع في ساحة الأماني وعبادة الفرد؛ بل الهدف منها غرس براعم العدالة وإرساؤها في قلوب الناس، وإحقاق الحقوق، وبالطبع فإنّ مثل هذه الحكومة الإلهيّة ينبغي أن تحصل على يد أمير المؤمنين ومن تربّوا وترعرعوا في مدرسته».
    2. لمزيد من الاطّلاع على فقرات هذه الخطبة الشريفة التي أنشأها أمير المؤمنين عليه السلام، راجع: أنوار الملكوت، ج ٢، ص ۷٤. 
    3. مكيال يعادل ثلاثة كيلوجرامات تقريبًا. المعرّب.

أمير المؤمنين عليه السلام ميزان العدالة

7
  • فسخّنتُ قطعةً من الحديد، ثمّ قرّبتُها من جلد جسم عقيل أخي لألصقها به؛ فصرخ فجأةً صراخ المتوجّع من ألمها، وكاد جسمه أن يحترق من كيّها. فقلتُ: ثكلتك الثواكل! لِمَ تصرخ؟! لِمَ تستغيث وتولول؟! أتصرخ من نارٍ سخّن حديدتَها إنسانٌ مثلي للمزاح، ووضعها على جلدك؟! ثمّ تدعوني إلى نار القيامة التي أعدّها جبّارها للمخالفين والمتمرّدين غضبًا منه؟! أنت تتألّم من هذه الحديدة الساخنة، فهل تريدني ألاّ أتألّم من لهيب نار غضب الله تعالى يوم القيامة؟!]

  • «وَأعجَبُ مِن ذَلِكَ، طارِقٌ طَرَقَنا بِمَلفوفَةٍ في وِعائِها، ومَعجونَةٍ شَنِئتُها، كَأنَّما عُجِنَت بِريقِ حَيَّةٍ أو قَيئِها»

  • «وأعجب من هذا الأمر، أنّ شخصًا طرق الباب وجاءنا بحلوى؛ (وهو الأشعث بن قيس الكنديّ رئيس المنافقين، ومن أصحاب أمير المؤمنين عليه السلام.۱ فكما كان عبد الله بن أُبيّ سلول رئيس المنافقين في المدينة في زمن رسول الله صلّى الله عليه وآله،٢ كان الأشعث بن قيس رئيس المنافقين بين أصحاب أمير المؤمنين عليه السلام، حيث إنّ فساد الكوفة بأجمعه كان بسببه هو؛ حتّى إنّه ساعد ابن ملجم ووردان وشبيب في إراقة دم أمير المؤمنين عليه السلام في ليلة الضربة. وهو رجلٌ عجيب، ومنافق، ومُثير للمشاكل، ولديه حبّ للرئاسة من الطريق الباطل، وكان يريد استغلال مكانة أمير المؤمنين وسطوته استغلالاً سيّئًا؛ في حين أنّه عليه السلام لم يكُن بالشخص الذي يجمع حوله مثل هؤلاء الأفراد، ويعطيهم المناصب والحكومات الحسّاسة من أجل إسكاتهم، وإن كان ذلك ملازمًا ومقارنًا لضياع الأموال والأعراض والاعتداء على الحقوق؛ فهذا لم يكُن من شأن أمير المؤمنين عليه السلام). (يقول عليه السلام): طرق الباب ودخل بعد أن كان قد أعدّ حلوى فاخرة جدًّا، ووضعها في إناءٍ، وغطّاه، وجاء به إلينا. وحينما نظرتُ إلى هذه الحلوى، رأيتُ كم هي مُرّة! وكأنّها ـ حقًّا ـ عُجِنَت وصُنِعَت بِلُعاب حيّةٍ أو قَيئها. فقلتُ له: ما هذا؟]

  • «أ صِلَةٌ، أم زَكاةٌ، أم صَدَقَةٌ؟» 

  • هل هذه صِلة؟ (أي: هل أحضرتها لكي أقضي حاجتك؟ وهل جئت بها إليّ بعنوان رشوة أو مصانعة، لكي تستميل قلبي، وأستجيب لطلباتك؟ فهل هي صِلة، أم رِشوة؟) أم هي زكاة؟ أم صدقة؟ 

    1. تسلية المجالس، ج ۱، ص ٤۸۸.
    2. المغازي، ج ٣، ص ۱۰٥۷ ـ ۱۰٦۰ و۱۰۷۰؛ البداية والنهاية، ج ٥، ص ٣٤ و٣٥.

أمير المؤمنين عليه السلام ميزان العدالة

8
  • فإن كانت صِلةً، فالصلة غير جائزة، وكذلك الرشوة غير جائزة، وذلك بأن يأخذ الإنسان شيئًا لشخصٍ بِنية استغلاله؛ فهذا العمل محرّم على جميع المسلمين! وإن كانت زكاةً، فأنا أمير المؤمنين، وأنا من السادة، فلا تحلّ لي الزكاة! وإن كانت صدقةً، فإنّ الصدقةَ مُحَرَّمةٌ علينا أهل البيت، ونحن لسنا من أهل الصدقة!

  • قال الأشعث: 

  • فَقالَ: «لا ذا ولا ذاكَ، ولَكنَّها هَديّةٌ»

  • فماذا قال له عليه السلام في جوابه؟ قال: 

  • «هَبِلَتك الهَبولُ! أ عَن دينِ اللَه أتَيتَني لِتَخدَعَني؟! أ مُختَبِطٌ أنتَ أم ذو جِنَّةٍ أم تَهجُرُ؟!»

  • [«ثكلتك الأمّهات الباكيات! هل أتيتني من طريق الدين لتخدعني؟ (تقول: "ليس لها أيّ عنوان، بل جئتُ بها هديّةً إليكم"؛ فهل تُريد أن تتسلّل إليّ من نافذة الدين؟!). يا أيّها الرجل! هل فسد عقلك، أم أصابك الجنون، أم أنّك تهذي ولم تعرفني؟!»]

  • «فَوَاللَه لَو أُعطيتُ الأقاليمَ السَّبعَةَ بِما تَحتَ أفلاكِها، علَى أن أعصِيَ اللَه في نَملَةٍ أسلُبُها جِلبَ شَعيرَةٍ، ما فَعَلتُ!»

  • [«أقسم بالله، لو أُعطيَت لي هذه الأفلاك السبعة بما تحتها، على أن أذنب ذنبًا واحدًا، وهو سلب قشرة شعير من نملةً تسير وفي فمها هذه القشرة، ما فعلتُ ذلك!»]

  • «وَإنَّ دُنياكُم عِندي لَأهوَنُ مِن وَرَقَةٍ في فَمِ جَرادَةٍ تَقضَمُها! ما لِعَليٍّ ولِنَعيمٍ يَفنى ولَذَّةٍ لا تَبقى! نَعوذُ بِاللَه مِن سُباتِ العَقلِ وقُبحِ الزَّلَلِ»

  • [«أقسم بالله إنّ دنياكم هذه بأجمعها، وكلّ هذه الحكومات التي تدعونني إليها، لأهون عندي من ورقةٍ في فم جرادةٍ تمضغها وتُقطّعها! فما شأني وهذه الأعمال؟! وأيّة مناسبةٍ بيني وبين هذه اللذّات الفانية؟! نعوذ بالله من نوم العقل والزلاّت التي تصيب الإنسان»]

  • لقد جاء من هذا الطريق ويريد أن يخدعني!

  • كما يحدث كثيرًا أن يأتوا بشيءٍ للإنسان بعنوان الهديّة من أجل خداعه! بل ويقرؤون له حينئذٍ الرواية التي مفادها أنّ النبيّ صلّى الله عليه وآله قال: حبّذا أن يقبل الإنسان الهديّة ولو كانت فخذ جرادة! والنبيّ صلّى الله عليه وآله كان بنفسه يقبل الهديّة ولو كانت تمرةً واحدة أو جرعةَ لبن.۱

  • نعم، كان النبيّ صلّى الله عليه وآله يقبل بأيّ شيء، ولكن بشرط أن تكون الهديّة هديّةً، وليس لها عنوان آخر، حيث كان نبيّنا صلّى الله عليه وآله متواضعًا جدًّا، وكانت الأرملة تأخذ قطعة لحمٍ، وتطبخها في قِدرها، ثمّ تقول: «يا رسول الله! تعالَ اليوم لتناول الغداء عندنا!»، مع أنّ منزلها قد يكون خارج المدينة! فيستجيب النبيّ صلّى الله عليه وآله لها، ويذهب عندها. فقد كان نبيّنا صلّى الله عليه وآله على هذا الحال؛٢ ولكن، إذا دخلت في هذه الهديّة ـ لا قدّر الله تعالى ـ ذرّةٌ من نيةٍ فاسدة، فلن تكون تلك الهديّة هديّةً بعد ذلك.٣ 

    1. مناقب آل أبي طالب عليهم السلام، ج ۱، ص ۱٤٦:
      «... ويُجيبُ دَعوةَ الحُرِّ والعَبدِ ولَو عَلَى ذِراعٍ أو كُراعٍ، ويَقبلُ الهَدِيَّةَ ولَو أَنَّها جُرعَةُ لَبَنٍ...».
    2. روضة المتقين، ج ‌٧، ص ٣٤٨:
      «قال صلّي الله عليه وآله وسلّم: ”لو دُعيتُ إلى كُراعٍ (لِكُراع) لأجَبت“».
      الأمالي، الشيخ الطوسي، ص ٣٩٣:
      «عن ابنِ ‌عبّاسٍ قال: ”كانَ رَسُولُ ‌اللهِ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يَجلِسُ على الأرضِ، ويَأكُلُ عَلَى الأرضِ، ويَعتَقِلُ الشّاةَ، ويُجِيبُ دَعوَةَ المَملُوكِ على خُبزِ الشَّعِيرِ“».
      مكارم الأخلاق، ص ١٧٧:
      «عن أنَسٍ قال: ”إنّ خَيّاطًا دَعا النَّبيَّ صلّى الله عليه وآله وسلّم فَأتاهُ بِطَعامٍ قَد جَعَلَ فِيهِ قَرعًا بِإهالَة“».
    3. الكافي، ج ٥، ص ١٤١:
      «عن السكوني عن أبي ‌عبد الله عليه السّلام قال: قال رسولُ ‌الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: ”الهديّةُ على ثلاثةِ أوجُهٍ: هديةُ مُكافأةٍ وهديةُ مُصانَعَةٍ وهديةٌ لِلّه عزّوجلّ“».

أمير المؤمنين عليه السلام ميزان العدالة

9
  • فعين ولاية أمير المؤمنين عليه السلام ترى أنّ هذه الحلوى ليست حُلوةً، بل هي حلوى ممزوجةٌ بسمّ الأفعى. فظاهرها حلوى ولكنّ باطنها سمّ الأفعى، حيث كان الأشعث بن قيس الكنديّ يرغب بواسطتها شراءَ أمير المؤمنين عليه السلام، وكان يريد أن يتملّكه، وأن يكون له حقٌّ عليه، وأن يسترضي قلبه، وأن تكون له منّةٌ عليه حينما يُريد أن يطلب منه أو يقترح عليه شيئًا لاحقًا، ولكنّه عليه السلام رفض كلّ هذه الأمور. فهذا هو الذي يُقال له أمير المؤمنين!

  • عدم إقدام أمير المؤمنين عليه السلام على أيّة خطوة على أساس الظلم والجور

  • وبخصوص هذه القصّة، يقول الشيخ محمّد جواد مغنية۱ في شرحه المختصر لنهج البلاغة:

  • قصّة الإمام مع أخيه عقيل يعرفها القاصي والداني (وهي مشهورة ومعروفة في الكتب، وقد أُلّفت كتبٌ حولها)... وآخِرُ مَن ذكر هذا الموقف وأشاد به من المؤلّفين الكاتب المصريّ الأستاذ عبد الكريم الخطيب ... قال في كتاب "عليّ بن أبي طالب"... : «... جاء عقيل الى أخيه (والظاهر أنّه جاء من المدينة؛ لأنّ عقيلاً لم يكن مقيمًا في الكوفة بل في المدينة، وكان بين أمير المؤمنين وعقيل مُنتهى المودّة والصفاء، حيث كان عليه السلام يحبّ عقيلًا كثيرًا، كما كان هذا الأخير يُحبّ أمير المؤمنين عليه السلام كثيرًا، فكان هذان الأخوان يُكنّان لبعضهما غاية المحبّة واللطف؛ ومن جهة أخرى، فقد كان عقيل هو الأخ الأكبر؛ لأنّه كان يكبر أمير المؤمنين عليه السلام بعشرين سنة) يسأله بعض المال... قال: 

  • «(يا أخي) ركبنا دين عظيم...» 

  • فقال له عليّ: «واللّه، ما لي ممّا ترى شيئًا إلاّ عطائي، فإذا خرج فهو لك».

  • فقال عقيل: «أ ترى شخوصي اليك من أجل عطائك‌؟ (فلن يفيدني هذه العطاء بشيء! فمع أنّك هو الحاكم والوليّ، لكنّك تأخذ حصّتك من هذا العَطاء ـ الذي أحضروه من بيت المال والذي يُقسَّم بين جميع المسلمين ليأخذ كلّ واحدٍ حصّته ـ كواحدٍ من الأفراد العاديّين؛ وبهذه الطريقة لن أستفيد شيئًا من هذا العَطاء!)»

  • فقال الإمام: «(والله لو كان لي مالٌ لَأعطَيتُك)».٢

  • فقال عقيل (بعد أن تأمّل قليلاً): «واللّه لأخرجنّ الى رجل هو أوصل لي منك».يريد معاوية. 

    1. الشيخ محمد جواد مغنية، نجل الشيخ محمود، من علماء الشيعة ومفسّريهم في القرن الأخير. وُلِدَ في لبنان، وبدأ دراسته في بلده، ثمّ ارتحل إلى النجف الأشرف، واستفاد من محضر أساتذة كبار من أمثال السيّد أبي القاسم الخوئيّ وغيره.
      بعد عودته إلى لبنان، تولّى هناك منصب القضاء ورئاسة العدليّة. للشيخ محمد جواد مغنية مؤلّفات عديدة في مختلف العلوم، وهو من بين المفسّرين الذين ألّفوا تفسيرين للقرآن الكريم هما: «الكاشف» و«المبين»، بالإضافة إلى شرحٍ لنهج البلاغة بعنوان «في ظلال نهج البلاغة». المحقّق
    2. في ظلال نهج البلاغة، ج ٣، ص ٢۱٦: «أ تُريد أن يُحرقني اللّهُ بِنَارِ جهنّمَ في صِلتِكَ بِأموالِ المسلمين‌؟».

أمير المؤمنين عليه السلام ميزان العدالة

10
  • فقال له الإمام: «(أهلاً وسهلاًراشدًا مهديًّا (افعل ما يحلو لك، واذهب حيثما تشاء)».

  • ولمّا قدم عقيل على معاوية، وصله بثلاثمائة ألف درهم.. وقال له: «أنا أحسن أم أخوك‌؟».

  • قال عقيل: «أنت خير لي في دنياي، وأخي لي في ديني (وآخرتي)».۱

  • ثلاثمئة ألف درهم! لكن، لمن هذا المال؟ هو للمسلمين؛ فكان معاوية يجمعه، ويُقسّمه بين المحيطين به، فقد كان سياسيًّا محنّكًا ولديه اطّلاع كبير على الظروف المحيطة؛ فكان يُرسل أكياس الذهب والفضّة لأجل استمالة قلوب أصحاب أمير المؤمنين عليه السلام، وجذب الناس نحو أهدافه ورغباته الشخصيّة.

  • وأمّا أمير المؤمنين عليه السلام، فلم يكن بالشخص الذي يهب أموال بيت مال المسلمين لأخيه؛ لأنّ هذه الأموال تعود للمسلمين؛ مثل ما أنّه لا يستطيع أن يأخذ بيد عقيل، ويدخل به السوق، ويذهب إلى دكّانٍ فيُفرغ مداخيله في جيبه!

  • لماذا لا يستطيع أمير المؤمنين عليه السلام أن يفعل هذا؟ لأنّه مال الناس، ومال الناس لا يمكن إعطاؤه للأخ؛ وهكذا الشأن بالنسبة لبيت المال الذي هو مملوك لجميع أفراد المسلمين، فلا يُمكنه أن يعطي أخاه من عطاياه، ثمّ يأمر بتقسيم الباقي؛ وإن كانت كلّ الأموال تحت يده عليه السلام. أجل، قد تكون له القدرة على التصرّف في هذه الأموال، ولكنّه لا يملك الإذن بذلك. إنّ قلبه عليه السلام ميزان الحقّ؛ ولهذا، يقول: يجب أن يُقسّم هذا المال بين جميع أفراد المسلمين. فقد كانت سيرة أمير المؤمنين عليه السلام بهذا النحو.

  • سرّ ولایت آموز مصباح جان برافروز***رو از علی بیاموز یک شیمه‌ی عَلیّه
  • روی علیّ أعلیٰ اشراق نور بالا***عن وجههِ تلألأَ نورٌ من الهُويّة
  • سرّ هویّت آمد روح مشیّت آمد***إيجادُ كلِّ شيءٍ مِن مَبدأِ المَشيئة
  • چون روح جمله أسماست این نکته پای برجاست***يا واهبَ العطايا، يا رازقَ البَريّة
  • چون نیست ره به ذاتش یک شمّه از صفاتش***الرفقُ بالرعيّة، والعدلُ بالقضيّة
  • [يقول: تعلّم سرّ الولاية وأنر مصباح روحك، واذهب وتعلّم من عليّ شيمًا عليّة. 

  • فوجه عليّ النورانيّ هو من نورانيّة العالم العلويّ، وقد تلألأ عن وجهه نورٌ من الهويّة. 

    1. في ظلال نهج البلاغة، ج ٣، ص ٢۱٦، الإمامة والسياسة، ج ۱، ص ۱۰۱.

أمير المؤمنين عليه السلام ميزان العدالة

11
  • و أصبح عليّ سرّ الهويّة وحلّت روح المشيئة الإلهيّة فيه، وإيجاد كلّ شيءٍ من مبدأ المشيّة؛ 

  • لأنّ عليًّا هو روح جميع الأسماء الإلهيّة، وهي مسألة لا نقاش فيها، يا واهب العطايا يا رازق البريّة.

  • لمّا لم يكن لنا سبيل إلى ذاته، فإنّ عندنا عبقة من صفاته وهي الرفق بالرعيّة، والعدل في القضيّة]

  • ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾.۱

  • لقد أرسل الله الكتاب، وأنزل الميزان، وبعث الأنبياء، وأمدّهم بالحجّة والبيّنة لكي يقوم الناس بالعدل؛ وحينئذٍ، فإنّ عليًّا عليه السلام سيكون مثله مثل سائر أفراد المسلمين، فإن كان يملك شيئًا، أعطاهم من ماله الخاصّ، وإن لم يكن يملك، فلا يُمكن للمرء أن يعطي مالَ غيره للآخر.

  • نعم، قد يأتي المسلمون أنفسهم في وقتٍ ما ويقولون: «يا عليّ، لقد وهبناك كلّ بيت المال، فأعطِ مِنه مَن تشاء!»، فهذه مسألة أخرى. ولكنّ أمير المؤمنين عليه السلام هو حارسٌ ووصيّ، ولو تعدّى بمقدار ذرّةٍ واحدة، لَخان، والخيانة ليست محمودةً عند الناس العاديّين، فكيف لعليٍّ أن يخون؟! فالإمام عليه السلام هو محور العدالة، فهل يُمكن لأمير المؤمنين عليه السلام ـ الذي أُعطيَ مقام الإمارة والحكم باعتبار إيمانه، وليس بالنظر إلى قواه الظاهريّة ـ أن يُقدم على إشباع أخيه وعمّه وابنته وابن عمّه والذين يديرون حكومته الظاهريّة؟! أبدًا! أبدًا! بل يقول: أنا أضع كلّ هذه الدنيا خلفي، ولا أخطو خطوةً واحدةً على أساس الجور والظلم والخيانة!

  • ما لِعَليٍّ ونعيمٍ يفنى ولَذَّةٍ لا تَبقى «أيّة مناسبة موجودة بين عليٍّ وهذه الأمور؟!»

  • أسلوب معاملة أمير المؤمنين عليه السلام لقاتله

  • في هذا اليوم، تجمّع الكثيرون حول دار أمير المؤمنين، حيث وصل خبر ضربته عليه السلام إلى الأطراف والنواحي من الكوفة، وبدأ الشيعة يتقاطرون على الكوفة من مختلف المدن والبلدان والقرى، وتجمّعوا جميعًا حول دار أمير المؤمنين، مطالبين بأمرين: الأوّل لقاؤه عليه السلام، والآخر قتل ابن ملجم، وكانوا يصرخون: سلّموه إلينا، لنأخذ بثأرنا!

  • وكان ابن ملجم مربوطًا في زاوية من الدار بأمر أمير المؤمنين، ولم يأذن عليه السلام بقتله والاقتصاص منه؛ وقال (ما مضمونه): 

    1. سورة الحديد، الآية ٢٥.

أمير المؤمنين عليه السلام ميزان العدالة

12
  • يا بُنيّ حسن! إن بقيتُ حيًّا من ضربتي هذه وتعافيتُ، فأنا أعلم بما سأعمل؛ إن شئتُ اقتصصتُ وإن شئتُ عفوتُ، وطبعًا سأعفو. وإن رحلتُ من ضربتي هذه إلى عالم الآخرة، فأنت وليّ دمي، إن شئتَ فاقتصّ وإن شئتَ فاعفُ، والله يحبّ العافين.۱

  • ولهذا، لم يجرؤ أحدٌ على قتل ابن ملجم في حياة أمير المؤمنين، لأنّه عليه السلام لم يأذن بذلك. فكان الناس مجتمعين ويصرخون مطالبين بابن ملجم، ففتح الإمام الحسن عليه السلام الباب، وبلّغ رسالة أمير المؤمنين عليه السلام إلى الناس مرّاتٍ عديدة، فعلموا أنّ ابن ملجم لن يُقتل ما دام أمير المؤمنين حيًّا؛ ولكنّهم أرادوا مع ذلك لقاءه عليه السلام.

  • فدارُ أمير المؤمنين عليه السلام التي كانت حتّى الأمس مفتوحةً، وكان من يشاء من الناس يدخل إليها بِحُريّة ويلتقي به عليه السلام،٢ أُغلِق بابُها منذ صباح هذا اليوم،٣ ولم يعُد عليه السلام يأذن باللقاء، حيث كان حاله يسوء ساعةً بعد ساعة، ولم يكن يتحمّل اللقاء.

  • الإمام عليّ عليه السلام قسيم الجنّة والنار

  • يقول الأصبغ بن نُباتة:٤ 

  • كنتُ مجتمعًا مع الحارث الهمداني وسُوَيد بن غَفَلَة وجماعةٍ أخرى من الأصحاب حول دار أمير المؤمنين، نريد أن نستأذن لنراه عليه السلام مرّة أخرى.

  • (كان هؤلاء من أعاظم أصحاب أمير المؤمنين عليه السلام، حيث كان الأصبغ بن نباتة من الشيعة الخُلّص ومن رواة الأحاديث ومن الفقهاء).

  • فجأةً، سمعنا صوت نحيبٍ يرتفع من داخل دار أمير المؤمنين عليه السلام، فارتفعت أصوات كافّة الناس الذين كانوا خارج الباب بالنحيب والعويل.

  • ففتح الإمام الحسن عليه السلام الباب وقال: «أيّها الناس، تفرّقوا! إنّ أبي ليس في حالٍ تسمح له باللقاء، ولم يعد لديكم إذنٌ باللقاء، رحمكم الله، تفرّقوا!»

  • ذهب كلّ الناس إلّا أنا لم أذهب؛ إذ مكثتُ ساعةً، ثمّ مرّةً أخرى، سمعتُ فجأةً صوت بكاءٍ ونحيب يرتفع، فرفعتُ صوتي بالبكاء أيضًا. جاء الإمام الحسن عليه السلام وقال: «يا أصبغ، لِمَ لم تذهب؟! ألم يأمركم أبي بالمغادرة؟!» قلتُ: واللهِ إنّ قدمي لا تقوى على الذهاب، ونفسي لا تستطيع ذلك؛ فإلى أين أذهب قبل أن أرى إمامي؟! 

    1. الكافي، ج ١، ص ٢٩٩:
      «... ”إن أبقَ فَأنا وَليُّ دَمي، وإن أفنَ فالفَناءُ ميعادي، وإن أعفُ فالعَفوُ لي قُربةٌ ولَكُم حَسَنةٌ، فاعفوا واصفَحوا... .“ ثُمّ أقبَلَ عَلى الحَسَنِ عليه السّلام فَقالَ: ”يا بُنَيَّ! ضَربَةً مَكانَ ضَربَةٍ ولا تَأثَم!“»
      الطبقات الكبريٰ، ج ٣، ص ٢٥:
      «فقال عليّ عليه السّلام: ”إنّه أسيرٌ فأحسِنوا نُزُلَه وأكرِموا مَثواه! فإن بَقيتُ قَتَلتُ أو عَفَوتُ؛ وإن مِتُّ فاقتُلوه قَتلَتي ولا تَعتَدوا؛ ﴿إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ المُعتَدِينَ﴾*!“»
      * سورة البقرة، الآية ١٩٠؛ سورة المائدة، الآية ٨٧.
    2. بحار الأنوار، ج ‌٤٢، ص ٢٩٠:
      «قال محمّدُ بنُ الحَنَفيةِ، رضي الله عنه: ”و بِتنا ليلةَ عِشرينَ مِن شهرِ رمضانَ مع أبي وقد نزل السمُّ إلى قَدَمَيه، وكان يصلّي تلك الليلةَ من جلوسٍ، ولم يزَل يوصينا بوصاياه ويعَزّينا عن نَفسه ويخبِرُنا بأمره وتبيانِه إلى حين طلوع الفجر؛ فلمّا أصبح، استأذن النّاسُ عليه، فأذِن لهم بالدخول، فدخَلوا عليه‌ ... .“».
    3. أي يوم العشرين من شهر رمضان المبارك. المحقّق.
    4. هذه الرواية منقولة هنا بالمعنى، فاقتضى التنويه. المعرّب.

أمير المؤمنين عليه السلام ميزان العدالة

13
  • دخل الإمام الحسن عليه السلام ثمّ عاد، فقال: «ادخل!» 

  • دخلتُ، فرأيتُ أمير المؤمنين عليه السلام مضطجعًا ومُسنَدًا إلى وسائد، وعلى رأسه عصابةٌ صفراء، وكان لون وجهه عليه السلام أشدّ صفرةً من العصابة، فانكببتُ على قدميه عليه السلام وأنا أبكي.

  • فقال عليه السلام: «يا أصبغ، انهض، انهض! لِمَ تفعل هكذا؟! إنّني ماضٍ إلى الجنّة، فلماذا تبكي؟!» قلتُ: أعلم يا إمامي أنّك ماضٍ إلى الجنّة، وإنّما أبكي على شقائي وعلى وحدتي وعلى فراقك!۱

  • التفت الإمام عليه السلام إليّ، وقال: «لا بدّ أنّك تريد أن أحدّثك حديثًا؟»، فقلت: لهذا السبب جئتُ في هذه الساعة لأسمع منك حديثًا.

  • فقال أمير المؤمنين عليه السلام: «في الساعة الأخيرة من حياة النبيّ، دخلتُ عليه، فقال صلّى الله عليه وآله وسلّم:

  • ”يا عليّ، اذهب إلى المسجد وأعلن في الناس أن يجتمعوا بنداء: الصلاةُ جامعةٌ! وبلّغهم هذه الأمور الثلاثة: 

  • ألا مَن عَقَّ والِدَيهِ فلَعنةُ اللَه عليه! ألا مَن أبِقَ [مِن] مَواليهِ فلَعنةُ اللَه عليه! ألا مَن ظَلَمَ أجيرًا أُجرَتَهُ فلَعنةُ اللَه عليه! 

  • فأتيتُ إلى المسجد، وأعلنتُ: الصّلاة جامعة! فاجتمع الناس، فصعدتُ المنبر وبلّغتُ الناسَ رسالةَ النبيِّ صلّى الله عليه وآله وسلّم.

  • فقام رجلٌ من بين الناس وقال: ”يا عليّ! ما المقصود بهذه الجمل؟ اشرحها لنا!“، فلم أقل شيئًا.

  • فرجعتُ إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله، وقلت له: يا رسول الله، روحي فداك! لقد بلّغتُ رسالتك إلى الناس، ولكنّ رجلاً من القوم قام، وطلب منّي شرحها؛ ولأنّني لم أسألك عنها، لم أقل له شيئًا»

  • ثمّ التفت أمير المؤمنين عليه السلام إلى الأصبغ وقال «يا أصبغ! أعطني يدك!»، فأعطاه الأصبغ يده؛ ثمّ قال: «هاتِ إصبعك هذا!»، فأخذ أمير المؤمنين عليه السلام إصبع الأصبغ وقال: 

  • «كما أمسكتُ أنا الآن إصبعك، أمسك النبيّ صلّى الله عليه وآله إصبعي وقال: 

  • ”يا عليّ، أنا وأنت أبَوَا هذه الأمّة، فمن عقّنا وعصانا، فهو بعيدٌ عن رحمة الله! 

  • يا عليّ، نحن مَوَالي هذه الأمّة، فمن ترك سنّتنا، فهو بعيدٌ عن رحمة الله! 

  • يا عليّ، نحن أجيرَا هذه الأمّة، فمن لم يؤدِّ أجرنا بسبب عصيان الله، فهو بعيدٌ عن رحمته تعالى!“» 

    1. الأمالي، الشيخ المفيد، ص ٣٥۱.

أمير المؤمنين عليه السلام ميزان العدالة

14
  • قال أمير المؤمنين عليه السلام هذه الجمل ثمّ أُغمي عليه. وكان السمّ قد أثّر في جسده الشريف لدرجة أنّه عليه السلام كان في حال غشيته تلك يرفع فخذه الأيمن أحيانًا ثمّ يضعه أرضًا، ويرفع أحيانًا أخرى فخذه الأيسر. 

  • كنتُ جالسًا، فأفاق أمير المؤمنين عليه السلام مرّة أخرى، وقال: «يا أصبغ، أما زلت جالسًا؟»، قلتُ: روحي فداك، نعم. قال: «أتريد أن أروي لك حديثًا آخر؟»، قلت: تفضّل.

  • فقال أمير المؤمنين عليه السلام:

  • «في يومٍ من الأيّام، كنتُ منزعجًا جدًّا من الشدائد والمصائب التي يتسبّب فيها منافقو هذه الأمّة والعراقيل التي يوجدونها و...؛، وكان الهمّ قد استولى على كياني كلّه، وكنتُ أسير في أزقّة بساتين المدينة، فالتقى بي النبيّ صلّى الله عليه وآله، وقال:

  • ”يا عليّ، لِمَ أنت حزينٌ هكذا؟ لقد استولى الهمّ على كيانك كلّه!“ قلتُ: يا رسول الله، ألا تعلم؟! فقال النبيّ صلّى الله عليه وآله: ”هل تريدني أن أحدّثك حديثًا يُخرجك من هذا الهمّ، فلا تصاب به بعد ذلك؟“ 

  • قلت: جُعلتُ فِداك، تفضّل. 

  • فقال النبيّ صلّى الله عليه وآله: ”يا عليّ! اعلم أنّ الله سيهبك نتيجةً لهذه المشقّات وهذه المعاناة وهذه المجاهدات مقامًا يوم القيامة لم يهبه لأحد؛ فيُنصب منبرٌ في المحشر يُسمّى منبر الحمد، فأجلس أعلاه على الدرجة الألْف منه، وتجلس أنت دوني بدرجةً واحدةً، فيعطيني جبريل لواء الحمد، فأعطيه لك؛ وسيكون خازن الجنّة أدنى منك بدرجة واحدة، ومالك جهنّم أدنى من ذلك بدرجة، ثمّ يقف كافّة الخلائق من الأوّلين والآخرين من السعداء والأشقياء وحتّى جميع أولياء الله والصالحين والأنبياء على درجات هذا المنبر، حيث ستكون جميع الأمم في ساحة المحشر.

  •  فيُخاطب خازنُ الجنّة ـ الذي يجلس دونك بدرجة واحدة ـ جميعَ أهل المحشر قائلاً: يا أهل المحشر! إن كنتم تعرفونني فبها، وإن لم تكونوا تعرفونني فأنا أُعرّفكم بنفسي؛ أنا خازن الجنّة! لقد أمرني الله أن أسلّم مفاتيح الجنّة التي بيدي إلى نبيّ آخر الزمان، فسلمتها إليه، فقال لي النبيّ صلّى الله عليه وآله: ألقِها في حِجر عليّ. 

  • ثمّ يقول خازن النار، ومالك جهنّم: يا أهل المحشر! من يعرفني فقد عرفني؛ ومن لم يعرفني فأنا أُعرّفكم بنفسي: أنا مالك النار! لقد أمرني الله العليّ الأعلى أن أعطي مفاتيح النار لنبيّ آخر الزمان، فأعطيتها له، فأمرني هذا النبيّ صلّى الله عليه وآله أن ألقيها في حِجر عليّ. 

أمير المؤمنين عليه السلام ميزان العدالة

15
  • يا عليّ، ستُلقى مفاتيحُ الجنّة والنار يوم القيامة في حِجرك، وستُقسّم النارَ والجنّةَ على أساس ميزان العدل والإنصاف ومقدار ولايتك ومحبّتك؛ فكلّ من يكون قريبًا من مقامك فهو من أهل الجنّة، وكلّ من يكون بعيدًا عنه فهو من أهل النار؛ وهذا هو الميزان الذي وهبك الله العليّ الأعلى إيّاه.

  • حينئذٍ يا عليّ، سننهض أنا وأنت، فأمسكُ أنا بعرش الله وعرش الرحمة، وتمسك أنت بحُجزتي،۱ ويُمسك أهلُ بيتك بحجزتك، ويمسك الشيعةُ كلّهم بحجزة أهل بيتك.“ 

  • فقلت: يا رسول الله! هل سيدخلون حينئذٍ الجنّة بأجمعهم؟ 

  • فقال النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم ثلاث مرّات: ”إي وربِّ الكعبة! إي وربِّ الكعبة! نعم، سيدخلون حينئذٍ الجنّة بأسرهم. فالشيعة والمحبّين الذين تمسّكوا بأهل بيتك، وأهل بيتك الذين تمسّكوا بك، وأنت الذي تمسّكت بي، وأنا الذي تمسّكت برحمة الله وعرشه سندخل بأجمعنا الجنّة بلطفه تعالى!“»

  • كانت هذه آخر عبارة من الحديث الذي ذكره لي أمير المؤمنين عليه السلام.٢

  • وصيّة أمير المؤمنين عليه السّلام بقاتله

  • أُغمي على أمير المؤمنين عليه السلام مرّة أخرى؛ وبعد لحظاتٍ، فتح عينيه، حيث كان الإمام الحسن عليه السلام قد أحضر له إناءً من لبن، فأخذه عليه السلام ويده المباركة ترتجف، فشرب جرعةً؛ ثمّ قال للإمام الحسن عليه السلام [ما معناه]:

  • خُذ هذا اللبن لأسيرك؛ فهو أسيرٌ في أيديكم، فعاملوه بالرفق والمداراة! لقد ضربني ضربةً واحدة، فلا يمكنكم أن تضربوه إلّا ضربةً واحدة؛ إيّاكم أن تُمثّلوا به (تقطعوا أذنه ويده وعينه ورجله ولسانه)! وإيّاكم أن تحرقوه [حيًّا]!٣

  • سمعتُ من حبيبي النبيّ أنّه قال: «إنّ الله يكره المُثْلَة ولو بالكلب العقور!». يا حسن! أطعمه ممّا تأكل، واسقه ممّا تشرب!٤

  • فردّ الإمام الحسن عليه السلام قائلاً [ما مضمونه]: 

  • أبتاه! هذا الملعون، أشقى [الأوّلين وأشقى] الآخرين، قد قتلك، وأحلّ المصيبة بالمؤمنين جميعًا، وأيتم بيوت الكوفة، وشرّد الأطفال اليتامى والنساء الأرامل وجوّعهم، وألبسنا ثياب السواد والعزاء؛ وأنت مع ذلك كلّه توصي به باستمرار!

  • فقال عليه السلام [ما معناه]: 

  • يا بُنيَّ حسن! ألا تعلم أنّنا أهل بيت الرحمة، ونحن خاضعون للعدل، ولا ينبغي لنا أن نتعدّاه!٥

    1. الحُجزة موضع شد الإزار من الوسط. المعرّب.
    2. الروضة في فضائل أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليهما السلام، ص ۱٣٢ ـ ۱٣٥، مع اختلاف يسير.
    3. معرفة المعاد، ج ٤، ص ٩٩:
      «ورد في الرسالة ٤۷ من «نهج البلاغة» ج ٣، ص ۷۷، طبعة محمّد عبده مصر أنّه عليه السلام قال في وصاياه: "انظروا إذا أنا متّ من ضربته هذه، فاضربوه ضربةً بضربة، ولا يمثَّل بالرجل، فإنّي سمعتُ رسول الله صلّى الله عليه وآله يقول: إياكم والمثلة ولو بالكلب العقور". ونقله بهذا اللفظ في «بحار الأنوار» ج ٩، ص ٦٦٣ عن «نهج البلاغة»؛ وفي ص ٦٦۰ عن «مناقب الخوارزميّ». وأورد في «تاريخ الطبريّ» ج ٥، ص ۱٤۸، تحقيق محمّد أبي الفضل إبراهيم: «و قد كان عليّ نهى الحسن عن المثلة وقال: "يا بني عبد المطلّب لا ألفينّكم تخوضون في دماء المسلمين تقولون: قُتل أمير المؤمنين، قُتل أمير المؤمنين. لا يقتلنّ إلّا قاتلي. انظر يا حسن إن أنا متُّ من ضربته هذه فاضربه ضربةً بضربة ولا تمثّل بالرجل فإنّي سمعت رسول الله صلّى الله عليه [و آله‌] وسلّم يقول: إيّاكم والمثلة ولو أنها بالكلب العقور"». وأورد ابن الأثير في «الكامل» ج ٢، ص ٣٩۱ عين هذا الحديث».
    4. بحار الأنوار، ج ٤٢، ص ٢۸۸، نقلاً عن أبي الحسن البكريّ في مقتل أمير المؤمنين عليه السلام بإسناده عن لوط بن يحيى عن مشايخه.
    5. بحار الأنوار، ج ٤٢، ص ٢۸۷: 
      «نَعَمْ يَا بُنَيَّ، نَحْنُ أَهْلُ بَيْتٍ لَا نَزْدَادُ عَلَى الْمُذْنِبِ إِلَيْنَا إِلَّا كَرَمًا وَعَفْوًا؛ وَالرَّحْمَةُ وَالشَّفَقَةُ مِنْ شِيمَتِنَا لَا مِنْ شِيمَتِهِ». المعرّب

أمير المؤمنين عليه السلام ميزان العدالة

16
  • كان سيّد الشهداء عليه السّلام يبكي كالسحاب الماطر وقد جُرحت عيناه من شدّة البكاء، فسقطت دموعه عليه السلام على وجه أمير المؤمنين؛ ففتح عليه السلام عينيه، وقال [ما مضمونه]: 

  • يا حسين، أقسم بحقّي عليك، لا تبكِ! لقد كنتُ الآن في السماء ورأيتُ أنّ بكاءك قد أبكى الملائكة!

  • ثمّ ضمّ الإمام الحسين عليه السلام إلى صدره وقال [ما مفاده]:

  • كأنّي بك قريبًا وقد أبدت لك هذه الأمّة أحقادها القديمة، وقطّعتك بسيوف الظلم إربًا؛ فعليك بالصبر والاستقامة!۱

  • ﴿وَسَيَعلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُواْ أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ﴾؛٢ ﴿إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيهِ راجِعُونَ﴾.٣ 

  • نَسألُك اللَهمّ، ونَدعوك، ونُقسِمُ علَيك بمُحمّدٍ وعليّ وفاطمةَ والحَسَنِ والحُسَين والتِّسعَةِ الطَّيبين الطّاهرينَ مِن ذُرّيةِ الحُسَينِ وباسمِك العَظيمِ الأعظَمِ الأعَزِّ الأجَلِّ الأكرمِ، يا الله… ! 

  • اللهمّ اغفر لنا، وتجاوز عن جميع ذنوبنا، ولا تأخذنا من الدنيا حتّى ترضى عنّا، وامحُ في شهر رمضان المبارك هذا جميع ذنوبنا بـقلم عفوك، واقبل توبتنا، واستجب دعاءنا، وارزقنا في هذه الليلة وفي ليلة القدر من أفضل نفحات خزائن قدسك، واجعلنا من زوّار أمير المؤمنين عليه السّلام، ووفّقنا لعبادتك في هذه الليالي، ونوّر قلوبنا بنور اليقين أكثر فأكثر، واشرح صدورنا بنور الإسلام، واقضِ حوائجنا الشرعيّة، وعجّل فرج إمام زماننا، ونوّر أعيننا بجماله!

  •  

  • و عجِّلِ اللَهمّ في فَرَجِ مولانا صاحبَ الزّمان

    1. المصدر نفسه، ص ٢۸۸، مع اختلاف يسير.
    2. سورة الشعراء، الآية ٢٢۷.
    3. سورة البقرة، الآية ۱٥٦.