المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني
التاريخ 1426/09/09
التوضيح
توضيح: ما حقيقة {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ}( سورة البقرة آية 31)؟ وما الفرق الجوهري بين مقام الإنسان ومقام الملائكة؟ تجيب المحاضرة عن هذه الأسئلة، مبيّنةً تفوّق الإنسان بجوهر العلم ومقام الخلافة، وشارحةً معنى تعليم الأسماء كإفاضة وجودية، ومحذّرةً من التفاسير السطحيّة والاعتماد على الظواهر في السلوك.
هو العليم
حقيقة تعليم الأسماء والمقام الوجودي للملائكة
الإنسان خليفة الله وجوهر العلم المتجرد
شرح دعاء أبي حمزة الثمالي - سنة ۱٤٢٦ هـ - الجلسة السادسة
محاضرة القاها
آية الله الحاج السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهراني
قدس الله سرّه
أعوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيطَانِ الرَّجِيمِ
بِسمِ اللهِ الرَّحمَنِ الرَّحِيمِ
وَصَلَّى اللهُ عَلَى سَيِّدِنَا وَنَبِيِّنَا أبِي القَاسِمِ مُحَمَّدٍ
وَعَلَى آلِهِ الطَّيِّبِينَ الطَّاهِرِينَ وَاللَّعنَةُ عَلَى أعدَائِهِم أجمَعِينَ
المعرفة واليقين: شرط السير الآمن إلى الله
«مَعرِفَتي يا مَولايَ دَليلي عَلَيكَ وَحُبّي لَكَ شَفيقي إلَيكَ»
ذُكر للرفقاء أنّ المعرفة شرط أساسيّ للحاجة، وأنّ الحاجة والافتقار بدون معرفة لا معنى لهما، وبدون معرفة، تكون الحركة حركة عمياء وعلى غير هدى، كمن يسير في ليل مظلم دون أيّ معرفة بالمسار ودون أي إدراك، بل يتحرّك هكذا ويتّخذ طريقًا ولا يدري هل يصل في هذه الحركة إلى المقصود أم إلى المهالك؟ وهل يواجه الوحوش والأخطار أم لا؟؛ وطريق الوصول إلى الله تعالى أيضًا ليس مستثنى من هذه القاعدة. فعلى الإنسان أن يخطو في ذلك الطريق بيقين، ويعتمد على اليقينيّات. لأن ما يُوجَّه إليه ويُقال له بخصوص سائر الطرق وقطع المسارات في الأمور الاجتماعيّة أو في المسائل العلميّة، هو في السير إلى الله آلاف المرات [أشدّ]، والأخطار إلى ما شاء الله. وتلك الأفخاخ التي ينصبها الشيطان للسالكين إلى الله أدقّ وألطف بكثير من الأخطار التي تظهر لغير هؤلاء الأفراد خلال سيرهم وفي مسائلهم الاجتماعيّة.
هل يكفي ظاهر العبادة؟ قصّة العابد ذي العيوب الخفية
ولا يستطيع الإنسان أن يميّز، لا يستطيع الفرد العادي أن يميّز هل هذا الطريق صحيح أم لا؟ هل هذا الإنسان أهلٌ ومؤهلٌ لهذه المسألة أم لا؟ ينظر الإنسان فيرى له مظهرًا مرتّبًا جدًّا، وعبادته لا تقل عن عبادة المتعبدّين، وتهجّده أكثر من الحدّ المتعارف، وابتهاله وبكاؤه وتضرّعه أكثر من الحدّ المتعارف.
ذهبت مرة لرؤية إنسان ما، كان الوقت صباحًا، نظرت فرأيت عينيه حمراوين، وكان واضحًا أنه مثلًا كان لديه ابتهال البارحة، وبكاء كثير، وأنّه كان مستيقظًا، لم ينم، كانت ليلة من ليالي الأعياد، ليلة عيد الغدير ظاهرًا، وذهبت يوم العيد لزيارة هذا الإنسان، فقال لي أحد الذين كانوا هناك: « كنّا نسمع صوت بكائه البارحة قبل أذان الفجر بساعتين، وحتى أذان الفجر كان هكذا في مناجاة وبكاء وهذه الأمور». وكانوا ينقلون وسينقلون حكايات عن تهجده وإحيائه الليل وصلاة في الليل والأمور التي يجب على فرد صالح الظاهر ومتعبّد أن يقوم بها. بينما اتّضح لنا لاحقًا أن هناك الكثير من الأمور خلف الستار لم نكن نعلم بها أبدًا ولم يكن لدينا أي خبر عنها، وأنّ مشاكل النفس والأنانيّات والتمحور حول الذات والأمور التي يكون الفرد متورطًا فيها بنحو لا يستطيع أحد أن ينقذه منها، كانت قد أحاطت به. حسنًا، كيف يمكن لإنسان مع رؤية ومشاهدة هذه الأمور ألا يتأثر؟ كيف يمكن؟ حسنًا، نحن رأينا بأعيننا، والآن لو كان إنسان ما في تلك الجوار في الليل، حسنًا كان سيشاهد تلك الحالات، سيرى ذلك الوضع.
تعقيدات النفس وخطر الاغترار بالظواهر: حوار مع المرحوم العلاّمة
كنت أتحدّث مرّة مع المرحوم العلاّمة حول بعضهم، وخلاصة القول إنّ الأمور معقّدة جدًّا؛ أمور النفس ودقائق النفس وتلك الحالات من الأنانيّة الموجودة في النفس والتي تبرز في موارد وظروف خاصّة والإنسان لا يعلم بها، وما قد تسببه من أخطار، وما قد يرتكبه من فجائع؛ كنّا نتحدّث معه حولها. ثمّ قال أمرًا فهمنا منه أن الأمر صعب جدًّا! ومعرفتنا بالأفراد لا تزال قليلة من كثير! فقلنا: عجيب! نعوذ بالله. حسنًا، هكذا يطأطئ الإنسان رأسه، وكلّ من كانت له حالة غير عادية وبرز وظهر منه أمر غير عاديّ، يتّبعه الإنسان ويتحرّك خلفه؛ لا يُعلم إلى أين ستؤول العاقبة. كلّ هذا الذي أوصى به الأعاظم: «يجب أن تضع يدك في يد فرد قد خرج على الأقلّ، على الأقلّ - من دائرة النفس»؛ كلّ هذا التأكيد، حسنًا، رأوا شيئًا فقالوا. إذًا، من الواضح أنّه كان هناك شيء، يوجد شيء، هناك حساب. كلّ هذا الذي جاؤوا وقالوا: «لا يجب التسليم في كلّ مكان، لا يجب الخضوع في كلّ مكان، على الإنسان أن لا يذهب ويتحرّك بناءً على الحالة والأجواء».
قصّة إنكار الكلام: كيف تفضح المواقف هوى النفس؟
أحد هؤلاء الأفراد، الذي هو من أهل هذه الأمور والأوامر وفلان. تحدثت معه في مجلس ما فقلت له: «إنّك قلت الأمر الفلانيّ». قال: «لا! لم أقله». فقلت: «أنا بنفسي سمعته منك، وكان هناك آخرون أيضًا». وعندما علم هذا الرجل أنّه لا مفر له، ثار عليّ تمامًا وقال: «يا سيّد، أنت تتهمني أصلًا!». عندما رأيت الأمر هكذا، لم أرَ من الصحيح أن أتنازل عن هذه المسألة، فقلت: «يا سيّد، لقد قلتَ، فلماذا تنكره الآن؟! هل تتّهمني؟! رأيت أنّ الأمر قد فشل، فهل تتهم الآخرين؟» وفجأة...! حسنًا، فماذا يعني هذا؟! لا تقل، هل أنت مجبر على القول؟ قلت له: هل أنت مجبر على القول؟! هؤلاء هم الذين يقولون إنّهم خرجوا من النفس وليس لديهم هوى وهذه الأمور! بطأطأة الرأس، وحمل المسبحة، والخطوات البطيئة، والانشغال بالذكر، ووضع العباءة على الرأس، لا يتمّ الأمر؛ فكلّ واحد منّا يفعل هذا العمل بعينه الآن، نضع العباءة على رؤوسنا ونمسك المسبحة وبسم الله، فقط سنّنا صغير؛ لا تتمّ القضيّة هكذا. حسنًا، بعضهم يكتفون بهذا القدر ويفرحون به، حسنًا لا بأس! فهذا نوع. ولكن الإنسان الفطن والحذر واليقظ، ليس هكذا. هو يفكر في تلك الحالة التي تأتي بعد مرور سنوات وسنوات، عندما يأتيه ذلك الندم وتلك الحسرة، فهو يحذر من الآن. بدلًا من أن يندم بعد عشر سنوات، يبحث عن الأمر من الآن. لا يدع الأمر يصل إلى هناك، ثمّ يأتي ليقول للسيّد: «يا سيّدي، هذا لم يحدث»، أو «هذه المسألة حصلت بهذه الكيفيّة»، «هذا الخطر ظهر هكذا».
خطر المرشد الجاهل: من يتبع الأعمى يقع في الحفرة!
الكثير من الذين وُضعوا تحت تربية فرد ما دون انتباه، انتهى بهم الأمر إلى الجنون. ظهرت لهم اضطرابات غير طبيعيّة. حسنًا، لماذا هذا؟ لأنّ ذلك الإنسان ليس لديه الاطلاع الكافي على خصوصيّات المخاطب وضميره وسرّه، فيعطيه أمرًا وبرنامجًا على غير هدى، دون أن ينتبه لعواقبه. وهذه القضيّة عجيبة جدًّا. يعني مهما قال الإنسان عن هذه القضيّة فهو قليل. فكم توجد في التاريخ تجارب حول هذه المسألة، وكم رويت حكايات حول هذا الموضوع، وكم بُيّنت مسائل حول هذه النقطة، وكم تُحدّث حول هذا؟ كم تُحدّث حول الخصوصيّات ومسائل النفس والنفسانيّات؟
"معرفتي دليلي عليك": كيف تكون المعرفة الحقّة طريقًا إلى الله؟
لذا يقول الإمام السجّاد عليه السلام: «مَعرِفَتي يا مَولايَ دَليلي عَلَيكَ». أنا أوّلًا حصلت على معرفة بك، عرفتك ووجدت الطريق إليك، وهذه المعرفة بي هي التي دفعتني للحركة نحوك. أصبحت دليلي إليك، ميّزتُ الطريق من الهاوية، عرفت الطريق الضال من الطريق الصحيح. ميّزتُ بينهما. عرفتُ المهالك من غير المهالك؛ كانت حركتي حركة نحوك، لا حركة في نفسي وفي ذاتي؛ كانت الحركة حركة نحوك.
السير في النفس لا إلى الله: علامات الحركة المبنية على الأنا
يوجد الآن في الكثير من الأماكن أفرادٌ من أهل العمل وأهل المراقبة، ويحصلون على قدرات أيضًا، ويصلون إلى مسائل أيضًا، ومن ناحية الأعمال يقومون بأعمال خارقة أيضًا. ولكن عندما يراهم الإنسان أو يطّلع على أمورهم، يرى أنهم جميعًا وصلوا إلى هذه المسائل في حركة النفس. لم يستطيعوا أن يضعوا أنفسهم جانبًا. تحرّكوا في أنفسهم، وكلّ نقطة وصلوا إليها هي أيضًا في النفس. فلو اختبرتهم بمحكّ واحد، لرأيت فجأة أنّ كلّ شيء لديهم ينهار، ينقلبون رأسًا على عقب، ويريدون أن ينتقموا من الإنسان شرّ انتقام. لمَ هذا؟ لأنّ ما تحرّكوا على أساسه ومحوره هو النفس، والآن أنت تريد أن تأخذ منهم أنفسهم، فستكون قد أخذت منهم كلّ شيء. هذا ليس لديه نورانيّة، هذا ليس لديه نورانية.
قصّة المرشدين المتحكّمين: بين إرسال التلميذ وتحريره
في الزمان السابق عندما تشرّف المرحوم السيد هاشم الحدّاد بالمجيء إلى إيران، جاء بعضهم مع تلاميذهم واجتمعوا حول السيّد الحدّاد في منزل المرحوم العلاّمة، وكانوا يوصون تلاميذهم: «اذهبوا إليه واستفيدوا منه، و كونوا معه»، ولكنّهم كانوا يراقبون التلاميذ بأربع أعين حتّى لا تخرج القضيّة عن نطاقهم. وكنّا نرى هذا. كانوا يقولون: «اذهب إلى السيّد الحدّاد، اذهب إليه واستفد منه»، ولكن اذهب بحيث نكون وراءك، لا «اذهب» بمعنى اذهب! فلم تكن كلمتهم هذه «اذهب» على حقيقتها، بل «اذهب» التي نقولها نحن لك، وإلى الحدّ الذي نسمح به نحن لك. هذا يأخذهم في النفس، يحرّكهم في النفس، يحرّكهم حول محور نفسه. إن كنت تقول لهم عندما جاء السيّد الحدّاد: اذهبوا إليه، فلترسلهم في النهاية، ولتقل لهم اذهبواواذهبوا، ولا شأنك لك بهم بعد ذلك. حسنًا اتركهم وشأنهم. فأنت لم ترسلهم إلى مكان سيء حتّى تراقبهم الآن، هل يذهبون يمينًا أم شمالًا؟ ماذا يفعلون؟ إن كنت تقول حقًّا اذهبوا إليه واستيفدوا منه، فلماذا تهتمّ بأمرهم بعد ذلك؟! لماذا تتحدّث بطريقة ذات وجهين؟! لماذا تتحدّث بحيث تحافظ على مكانتك؟! ماذا تكون النتيجة؟! النتيجة هي أنّهم عندما [لا يستفيدون الاستفادة المطلوبة] فذلك الرجل عظيم وذو شأن، ولا يهتمّ بهذه الأمور، إن جاؤوا يقبلهم، وإن لم يأتوا فلا يهمّه الأمر أن لا يأتوا ولو مائة ألف سنة. فهم الذين يخسرون. ولكن من الذي يخسر؟ أنت المسكين تخسر، بحيث أنّك بمجرّد أن يحدث أدنى تغيير وتتبدّل الأوضاع قليلًا، وتحدث أمور في محيط سلطتك ومحيط إرادتك وإرشادك، تقوم بأعمال لا يقوم بها الأفراد العاديّون أيضًا؛ لمَ هذا؟ لأنّك كنت تتحرّك حتّى الآن حول محور نفسك. الآن تحدث قضية، يحدث محك، فتبرز فجأة وتظهر تلك المشاكل النفسانيّة وتخرج إلى العلن. حسنًا، لنفترض أنّ لديك مكاشفة أيضًا، لنفترض أنّك تعلم بأمر غيبيّ أيضًا؛ حسنًا، فهذا ليس شيئًا ذا بال، فالإنسان يرى حلمًا أيضًا بأنّ أمرًا ما سيحدث بعد بضعة أيّام، فهذه ليست بمهارة. يكتبون فضائلك في الكتب أيضًا: «كان كذا، فعل كذا في المكان الفلاني، أخبر بخبر غيبيّ في المكان الفلانيّ، صدر منه أمر خارق في المكان الفلاني، دعا فشُفي المريض الفلاني وتحسّن حاله»، ولكن كلّ هذا ما هو؟ كله في محوريّة النفس.
منهجان في التربية: الولي يخرجك من نفسك، والمدّعي يبقيك فيها!
أما وليّ الله فليس هكذا، وليّ الله لا يعمل بهذه الطريقة. هو يريد أن يخرج تلميذه من النفس، من الأمور النفسانيّة، من الأنانيّة، من المشكلات التي تعترض طريقه؛ ويتحرّك معه وفقًا لشاكلته وطبيعته. يسير معه وفقًا لمصلحته. لا يجعله مدللًا، لا يجعله مغنّجًا. لا يحقّق له كلّ ما يطلبه منه وكلّ عمل يريده. لا يستجيب لكلّ طلب يطلبه؛ لأنّه يريد تربيته. فالهدف هو الخروج من «الأنا» والتمحورِ حول الذات والأنانيّة، ونبذ الاعتبارات والتخيّلات والأوهام، والالتحاق بالوحدة، وتجلّي صفات التوحيد في ذاته. أحيانًا يضحك له، أحيانًا يعاتبه، أحيانًا يقرّبه إليه، أحيانًا يبعده عنه؛ لمَ هذا؟ لكي لا يتحرّك الإنسان حول النفس ويرتقي فيها. لكي يرافقه الخروج التدريجيّ من الأنانيّة والنفس بواسطة هذه الحركة، حتّى تكون هذه الحركة مفيدة له. وليّ الله لا يضع الحلوى دائمًا في الفم، ليس الأمر هكذا، وليّ الله لا يفعل للإنسان دائمًا ما يلائم الطبع. وكلّ إنسان يصل من ناحية الكمال والبقاء إلى مرتبة أتمّ، تكون كيفيّة ارتباطه وتعامله مع الأفراد أنضج وأدقّ وأثبت، وأقوى وأتقن. فهذه الطريقة هي طريقة أولياء الله .
لماذا الإصرار على قراءة كتب العلاّمة؟ زرع بذور المعرفة الحقيقيّة
يجب أن تحصل المعرفة للإنسان حتّى يتمكّن من العثور على الطريق. لماذا كان المرحوم العلاّمة يوصي بأن يقرأ الناس الكتب؟ وأن يقرأوا كتبه؟ لماذا؟ كانوا يأتون يوميًا بالعشرات إلى منزله، فيقولون: «سيّدنا، أعطني برنامجًا سلوكيًّا». فكان يقول: «اذهبوا واقرأوا كتبي». كانوا يظنّون أنه يريد أن يتخلّص منهم! فكان يقول: «ألستم تريدون منّي برنامجًا ؟! ألا تريدون أن أوصلكم إلى المقصود؟! ألا تريدون أن يتّضح لكم الأمر؟! حسنًا، فأنا أعطي هذا البرنامج ». حسنًا، هو كان يقول هكذا، ولكنّهم كانوا يذهبون إلى مكان آخر فيفتحون لهم الباب: «يا فلان، قل هذا يوميًّا، وقل هذا يوميًّا، وقل كذا يوميًّا». فكانوا يقولون: «هذا السيّد قبل بنا». فكانوا يأتون ويذهبون هكذا مثل شربة الماء، ولكن بعد عشر سنوات وخمس عشرة سنة وعشرين سنة، يجدون أنّه كأنّ شيئًا لم يكن. ولكن ذاك الذي يقول تعالَ واقرأ وافهم هذه الأمور، يريد أن يزرع بذرة هذه الشجرة الباسقة في قلبه. يجب زراعة هذه البذرة في الأرض، يجب زراعتها على عمق عشرين سنتيمترًا في الأرض، لا أن يتركها الإنسان هكذا على وجه الأرض، فيأتي أحدهم ويضع قدمه عليها، فلا تنتج شيئًا، يأتي المطر فيفسدها. يجب أن تكون في الأرض وتشرب الماء، شيئًا فشيئًا، شيئًا فشيئًا، تنمو وتكبر حتّى تصبح شجرة فيما بعد.
إنّ مطالعة كتبه شرط أساسيّ للدلالة على المقصود؛ شرطها هو هذا. وأنا حقًّا الآن عندما أقرأ كتبه، أرى أنّه كتب هذه الأمور لأجلي الآن، أنا بعد هذا العمر، كتبها لأجلي الآن تمامًا، حقًّا هكذا. يعني الآن أرى أنّ هذا الأمر لي ويجب أن أعمل به؛ إن عملت به فبها ونعمت، وإن لم أعمل خسرت.
الإنسان: خليفة الله وجوهر العلم المجرّد
جوهر الإنسان هو جوهر العلم؛ لماذا يذكر الإمام السجّاد عليه السلام هنا المعرفة كشرط حتميّ للحركة وبدونها لا يوجد أيّ طريق ولا يوجد أيّ سير؟ لأنّ جوهر وجود الإنسان هو العلم. وبدون العلم يكون الإنسان حيوانًا، حيوانًا، جمادًا. فما الفرق بين الإنسان والحيوان؟! الفرق هو في الفهم لا في الجسم. أمّا في الجسم، فالحيوان متقدّم جدًّا على الإنسان. فالبقرة تزن ثلاثمائة كيلوغرام، في حين أنّ الإنسان يزن ثمانين كيلوغرامًا؛ أربعمائة كيلوغرام وزنها. والفيل أحيانًا يصل وزنه كما يقولون إلى اثني عشر أو ثلاثة عشر طنًّا. أمّا الإنسان فلا، الإنسان وزنه سبعون كيلوغرامًا، ثمانون كيلوغرامًا، مائة كيلوغرام، خمسون كيلوغرامًا. فالفرق بين الإنسان وسائر الموجودات هو في جوهره، والذي هو العلم والمعرفة. لأنّ تلك المادّة الوجوديّة للإنسان هي مادّة أدقّ وألطف وأكثر تجرّدًا من جميع الموجودات الأخرى من ناحية التجرّد وجامعيّة الأسماء الإلهيّة، حتّى من الملائكة المقرّبين. وبقدر ما يكون هذا الجوهر الوجوديّ أكثر تجرّدًا، فإنّ لازمَه الذاتيّ، وهو وجود علمه الحضوريّ بنفسه وبآثاره، سيكون أكثر أيضًا. وكلّما كان هذا الجوهر الوجوديّ أبعد وكان تجرّده أقل، فإنّ ذلك الجانب العلميّ المتعلّق بالذات وبالصفات والآثار والأسماء سيكون أيضًا أقلّ. ولأنّ الإنسان قد نشأ من ذات الله تعالى نفسها دون واسطة في مراتب الوجود، فإن حيثيّة وجود الإنسان هي عين حيثيّة وجود الله تعالى. فهذا هو مقام خلافة الله.
"إني جاعل في الأرض خليفة": قمّة فخر الله بخلق الإنسان
{وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً}۱. أريد أن أخلق مثلي؛ حتّى ذلك الوقت لم يكن قد خلق مثله. كانت الملائكة موجودة، وهي ذوات مراتب عالية. في ذلك الوقت الذي قال الله تعالى هذا الأمر، كان جبرائيل عليه السلام هذا حاضرًا، وجبرائيل عليه السلام هذا الذي أوحى حتّى لخاتم الأنبياء صلّى الله عليه وآله كان حاضرًا. لم يكن الأمر أنّ على جبرائيل عليه السلام أن يقطع مراتب الكمال حتّى إذا بلغ إلى مقام النبيّ صلّى الله عليه وآله أوحى إليه؛ كلاّ، لم يكن الأمر هكذا. بل الملائكة في مرحلة الثوابت من حيث الكمال، والكمال ثابت للملائكة. نعم من الناحية العرضيّة يُضاف إلى مراتبها، أما من الناحية الطوليّة وسعة المدركات، فمنذ أن خُلقت الملائكة وإلى الوقت الذي ستبقى فيه إلى الأبد، لا تتغيّر بمقدار رأس إبرة أيضًا. فانظروا إلى هذا الكوب في يدي؛ هذا الكوب صُنع بواسطة مصنع. فكم مضى من الوقت عليه الآن؟ لنفترض أنه مضى عام على صنع هذا الكوب، أو مضى عامان؛ فكم أُضيف إليه ؟! هل أُضيف مقدار رأس إبرة؟! كلاّ. ولو مضت عشر سنوات أخرى أيضًا، فسيبقى حجم هذا الكوب هكذا . نعم، يمكنكم الآن أن تصبّوا ماءً في هذا الكوب، ثمّ تصبّوا فيه شرابًا، ثمّ تصبّوا فيه خلاًّ؛ فالسوائل التي تُصبّ فيه قد تختلف، ولكنّ حجمه وهذا الظرف لا يختلف. والملائكة أيضًا هم هكذا. ومنذ أن خلقهم الله تعالى حتّى الآن وحتّى بعد ذلك، وإلى أبد الآباد، مرتبتهم الوجوديّة ومدركاتهم هي في ذلك الحدّ، وكلّ واحد من هؤلاء الملائكة في مرتبة من هذا الحدّ، في مرتبة من هذا التقييد. هؤلاء لديهم سير لا نهائيّ في أسماء الله وصفاته. يعني كلّ آن ينكشف لهم أمر سوى الأمر الآخر؛ وهذه الحركة حركة عرضيّة. أما مقدار فهمهم وتعقّلهم لأسماء الله وصفاته، فذلك المقدار لا يزداد، لا يزداد أبدًا.
فالطفل الذي عمره خمس سنوات، لا يمكنك أن تقول له حلّ المعادلة؛ ولكن في حدود فكره تلك، يمكنك باستمرار أن تأتي له بأمور جديدة، في تلك الحدود. فاليوم تشتري له كتابًا، وغدًا تشتري له لعبة، وبعد غد تشتري له شيئًا آخر. ففي تلك الحدود يمكنك باستمرار أن تضيف إلى معلوماته. ولكن من ناحية الإدراك والفهم لا يمكنك أن تضيف إلى إدراكه، لأنه لا يستوعب. يجب أن يمرّ عليه الزمان ليتمكّن من إدراك أمور أخرى. فلا يمكنك أن تفهمه كيف تؤثّر هذه الكهرباء الموجودة الآن في هذا المقبس، في النفس وفي الروح والأثر الذي تحدثه وأنّها تؤدي إلى موت الإنسان؛ فماذا تقول له؟ تقول له: «لا تلمس هذا، يوجد فيه ألم »؛ ذلك الفهم لـ "اللولو" هو الذي يجعله ماذا؟ يجعله يتجنّب هذه الكهرباء. و مهما أردت أن تقول: «يا عزيزي، عندما يدخل هذا التيّار إلى الجسم، فإنّه وبالإضافة إلى التيّار السلبيّ للجسم، عندما يصبح هناك تيّاران موجب وسالب، يتوقّف القلب عن العمل». فهل يفهم هذا؟! ومهما قلته له لن يفهم. أما في مستوى فهمه ذاك، فيفهم هذا القدر من كون الشيء "مؤلمًا". يميّز الكهرباء، يميّز النار والأشياء الخطرة؛ وبهذه الطريقة يمكنك أن تفهمه. وعندما يكبر، حينها يفهم ما هو التيّار المتناوب؟ ما هي الحركة التي تحدث في هذا السلك الكهربائيّ؟ هذه الموجة التي تذهب وتأتي وكيف تتولّد من مصدرها ذاك ـ سواء كان مولّدًا أو محطّة طاقة أو سدّ أو ماء ـ وعندما يدرك هذا، حينها يمكنه أن يصل إلى فلسفة هذا التأثير. مسألة علم الإنسان وعلم الملائكة أيضًا هكذا.
فالملائكة ليسوا ثابتين في مرتبة واحدة ومثل الخشب لا تغيير ولا تحوّل فيهم؛ كلاّ! ليس الأمر هكذا. فالملائكة في نظرة جديدة كلّ لحظة، وفي تغيير جديد، وفي ابتهاج جديد، وفي سير جديد، وفي عرض جديد، وفي بروزات وظهورات أخرى لتجليّات الله تعالى. في كلّ لحظة لهم حركة جديدة؛ ولكنّ الحدود تختلف. يعني الله أتى بهم، لنفترض، إلى هذه المرتبة، فقال: «في هذه المرتبة يمكنكم أن تروا إلى ما لا نهاية». يأخذ أحدهم إلى سطح المنزل ويقول: «انظر من فوق السطح إلى ما لا نهايةوأينما تستطيع عيناك أن تنظرا». ضع نظّارة، ضع منظارًا، ضع تلسكوبًا؛ ولكن ليس أعلى، وضع سقفًا. يأخذون أحدهم إلى الطابق العاشر ويقولون: «انظر هنا إلى ما لا نهاية، يمكنك أن ترى».
هذه الطائرات التي يصنعونها، كل واحدة من هذه الطائرات لها قدرة؛ إحداها لا تستطيع أن ترتفع أكثر من كيلومتر واحد، إن أرادت الارتفاع أكثر تسقط، ليس لديها القدرة على الارتفاع أكثر. إحداها ترتفع إلى كيلومترين، إحداها لنفترض إلى عشرة آلاف قدم، عشرة كيلومترات، ثلاثين ألف قدم ترتفع؛ إحداها أعلى. بعضها تأتي، تكون بحيث تتحرّك وتذهب وتمرّ من ذلك الجوّ وتستقرّ فوق الجوّ ويمكنها أن ترتفع أعلى أيضًا. فالأمر يرجع إلى استعدادها. فهذه الطائرة التي تتحرّك على ارتفاع كيلومتر واحد، يقال لها: «يمكنك أن تذهبي في هذا الكيلومتر الواحد، اذهبي وتفرّجي، اذهبي وانظري إلى الصحاري»؛ لا نضع لك حدًّا. «اذهبي وانظري إلى الصحاري، اذهبي وانظري إلى البحار، اذهبي وانظري إلى البوادي». فتقول: «كم أسير؟»
ـ «بقدر ما لديك من وقود، يمكنك أن تسيري؛ مهما كانت المسافة». فلا نهاية في هذه المرتبة وفي هذه المرحلة. ويقال لأخرى: «لا! أنت يمكنك أن ترتفعي حتّى ثلاثين ألف قدم مثلاً؛ وتشاهدي الأمور الموجودة هناك، فوق الغيوم». وهذه الطائرة التي تطير على ارتفاع كيلومتر واحد لا تعلم شيئًا عن الغيوم، لأنّ الغيوم أعلى منها، أليس كذلك؟ وفي بعض الأوقات قد تكون الغيوم في مستواها. ولكن تلك لا! هي ترتفع إلى الأعلى فترى الغيوم، ترى تيّارات الرياح الموجودة هناك؛ فتزداد معلوماتها. وهذه الطائرة لا تستطيع أبدًا أن تدرك ما هي الغيمة، لماذا؟! لأنّ الغيمة أعلى منها؛ لا تستطيع أن تدرك. نعم، تتحرّك هي وركّابها، ويرون، يرون البحر، ويرون الأرض. لأنّ رؤية هذه كلها مثلاً تحت الكيلومتر الواحد فتسير فوقها.
هذه الطيور، بعضها لنفترض هذه الحشرات لا تستطيع أن ترتفع أكثر من خمسة عشر مترًا، عشرين مترًا؛ بعضها أكثر، بعضها أكثر. بعض هذه الطيور مثل الصقر، يقولون إنه يمكنه أن يطير حتى على ارتفاع عدّة كيلومترات. ومن ذلك العلوّ ينظر إلى كلّ شيء، يدور، يرى هذه الفرائس التي يريد صيدها ويجول. هذا الطائر الذي يطير الآن من ارتفاع كيلومتر واحد، لا يستطيع أن يدرك أنّ الصقر فوق رأسه يراه وقد يصطاده؛ لا يدرك، إدراكه لا يصل غلى ذلك. لماذا؟ لأنّه لا يمتلك القدرة، سعته هي بهذا المقدار، وإدراكه بهذا المقدار. فلأنّ سعته بهذا المقدار، فإدراكه أيضًا بهذا المقدار. نعم! في هذه المرتبة نفسها، طالما يستطيع أن يخفق بجناحيه، يمكنه أن يرى ما هو موجود بل حتّى يمكنه أن يجلس.
وهكذا هو الحال في مدركات الإنسان؛ والفرق بين أولياء الله وغيرهم هو هذا. فنحن لا نستطيع أصلًا أن نعرف بماذا يفكّر أولياء الله؟ لا نستطيع. ولو جلسنا بجانبهم مائة عام أيضًا فلن نعرف ! لماذا؟ لأن مرتبتنا مرتبة محدودة ومقيّدة. يتحدّثون معنا، يأكلون معنا، يضحكون معنا، ينامون معنا، يسافرون معنا، يمشون معنا. ولكن ماذا يدرك هو الآن وماذا يخطر في ذهنه وأين قلبه؟ نحن لا نعرف. إلا إذا وصلنا إلى ذلك التجرّد.
فالفرق بين الملائكة وبين الإنسان إذًا هو أنّ السعة الوجودية للملائكة أدنى من السعة الوجوديّة والتجرّد الجوهريّ للإنسان.
هل نُفعِّل كرامتنا أم نضيّعها؟ دعوة لاستثمار الجوهر الإنساني
لذا يقول تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً}۱. أريد أن أخلق خليفة. ولكن ما الذي خلقته حتى الآن يا إلهنا؟ من الواضح أنّهم لم يكونوا خلفاء. كلّ هذه الألوهية التي أظهرها الله، وكلّ هذه المخلوقات التي أوجدها، وكلّ هذه الأمور التي برزت وظهرت منه؛ ثمّ جاء قبل بضعة آلاف من السنين فخلق خليفة. كم ألف سنة مضت على خلق آدم عليه السلام؟ بعضهم حسبوا فقالوا: سبعة آلاف سنة، وبعضهم قال ستّة آلاف سنة؛ في هذه الحدود تقريبًا، سبعة أو ثمانية آلاف سنة. كم سنة عمر الله؟ وهل يدخل أصلًا في حساب السنين؟! فلنفترض الآن أنّنا نريد أن نحسب ـ وهذا خطأ أصلًا، فعالم المجرّدات لا يتّسع له الزمان ـ فقبل كم مليار سنة بدأ الله بالخلق؟ لا يدخل في الحساب . ثمّ قبل سبعة آلاف سنة خلق خليفته. أليس كذلك؟! قبل سبعة آلاف سنة. احسبوا من هذه الليلة. بعد كلّ هذا الخلق، بعد كلّ هذا الصنع، بعد كلّ هذا الزمن الذي مرّ على المادّة والمخلوقات المادّية، فجأة وقبل سبعة آلاف سنة قال الله: «حسنًا، الآن أريد أن أخلق خلقًا لأريه للملائكة. فلا تظنّوا أيّها الملائكة أنّكم زهرة الكون، كلا! فأنا لم أظهر مهارتي حتّى الآن».
يجب أن نفهم يا رفقاء من نحن؟ ثمّ نحن هذا الرأسمال الوجودي، هذا الاستعداد الذي به يأتي الله ويضرب به على رأس جبرائيل عليه السلام؛ جبرائيل عليه السلام الذي كل علم الأولين والآخرين بواسطته. يعني كلّ من يجلس ويفكّر ويحلّ مسألة، جبرائيل عليه السلام هو الذي حلّها له. نحن لم نحلّها، هو الذي حلّها. كلّ من يجلس ويستنبط حكمًا ـ وذلك الصحيح، لا المزيّف؛ أمّا المزيّف فيحلّه آخرون، بدلًا من جبرائيل عليه السلام يأتي «يوخائيل» ليستنبط لهم، وآخرون ـ كلا! فاستنباط الحكم الفقهيّ الصحيح والمطابق للواقع، إذا فعلوه، من الذي جاء وساعدهم؟ إنّه جبرائيل عليه السلام. وذلك الطبيب الذي يعطي وصفة صحيحة ـ لا أن يقتل مرضاه، كلاّ! بل يعطي وصفة صحيحة ويشفيه؛ فمن الذي فعل ذلك؟ لا يمنّ على المريض، لا يا عزيزي! إنّه جبرائيل عليه السلام. وذلك المهندس الذي يأتي ويرسم مخطّطًا ويبني بناءً عاليًا؛ لا يمنّ ويتفاخر، لو لم يلقِ جبرائيل عليه السلام كيفيّة هذه الخطوط وهذه الأمور في رأسه، لبقي هو في مكانه هكذا، ولم يستطع رفع رأسه لأربع وعشرين ساعة. كلّ العلوم التي تأتي للبشر تأتي من نافذة نفس جبرائيل عليه السلام؛ ذلك الملَك هو ملَك العلم. الآن مثل هذا، هذا الذي أوحى للأنبياء عليهم السلام. يعني وحي الأنبياء عليهم السلام بواسطة جبرائيل عليه السلام. أوحى لموسى عليه السلام، أوحى لإبراهيم عليه السلام، أوحى لعيسى عليه السلام، أوحى لنوح عليه السلام، أوحى لنبيّنا صلّى الله عليه وآله؛ عجيب! حقًّا عجيب. هذا جبرائيل عليه السلام، يقول له الله: «بهذا المقام الذي أعطيتك، وبهذه القدرة العلميّة التي أعطيتك بحيث يمكنك عندما تبسط أجنحتك العلميّة أن تغطي كلّ عالم الوجود الذي أوجدته تحت جناح علمك»؛ فهذا هو جبرائيل عليه السلام، ثمّ مع ذلك يقول الله: «أريد أن أخلق خليفة الله!» متّى؟ قبل سبعة آلاف سنة. قبل سبعة آلاف سنة قال الله لجبرائيل عليه السلام، ولميكائيل عليه السلام، ولعزرائيل عليه السلام، ولإسرافيل عليه السلامملاك الرزق وملاك الحياة: «لا تفخروا بأنفسكم، تعالوا الآن لتروا براعتي». {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} أريد أن أضع خليفتي على الأرض. الملائكة لا يدركون القضيّة؛ وتفصيلها طويل، وظاهرًا تقدّم الكلام حول هذا الأمر للرفقاء.
فإذًا، الفارق بين الملائكة وبين الإنسان هو فارق علميّ. فجوهر الإنسان هو جوهرعلميّ وطبعًا هذا إذا ما فعّله الإنسان، لا أن يصرف وقته في علوم لا طائل من ورائها تسبّب إتلاف الوقت، ثمّ عندما يصل إلى تلك الدنيا يضرب على رأسه بكلتا يديه. فهذا الذي هو فخر الله والذي افتخر الله بخلقه على سائر الملائكة والموجودات، بماذا قضى عمره وجاء إلى هذا الطرف خاسرًا الدنيا والآخرة. كلاّ! بل عليه أن يفعّل جوهره ويستيفد منه، ثمّ يصل إلى أين؟! إلى ذلك المكان الذي افتخر الله به.فيقول: «ما هذا الحديث عن جبرائيل والمقام والعلوّ والانخفاض وهذه الأمور؟! الكلام الذي نقوله نحن، لا مدخل لجبرائيل عليه السلام فيه أصلًا». عجبًا! عجبًا! يعني هذا وصل إلى نفس المكان الذي افتخر الله به قبل سبعة آلاف سنة، أليس كذلك؟! هذا فعّل جوهره فوصل إلى هناك. أمّا الآخرون فلم يفعلوا ذلك! بدأوا بالضحك والسخرية والجلوس والقيام والانشغال بأعمال أخرى وقضاء الحياة، ثمّ ألقوا عليهم حفنتين من التراب وانتهى الأمر. لكنّ هذا جاء وكان ذكيًا، فطنًا، كيّسًا «المؤمن كيّس»۱؛ قال: «الآن بما أن الله يفخر بوجودي على الملائكة، فلآتِ وأفعّل هذا الوجود، أفعّله. لأنتفع به. لماذا أقضيه عبثًا؟».
ما هي حقيقة تعليم الأسماء لآدم عليه السلام؟
لذا قال الله: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ}؛ هذا الموجود الذي كان سبب مباهات وفخر عالم الإمكان وفخر الموجودات، ما كانت خصوصيته؟ هي أنّ علم الأسماء قد أودع في ذاته. أعطى الله للإنسان علم أسمائه؛ ما هو الاسم؟ الاسم عبارة عن تلك المرتبة من الظهور والبروز العلمي للذات. لأنّ الذات نفسها في حدّ نفسها، تلك الذات من حيث هي هي، لا بروز علميًّا لها؛ الذات نفسها من حيث هي هي، هي نفسها فقط. البروز العلميّ للذات والمنشعب من الذات نفسها والمتشعّب من الذات نفسها، ذلك البروز العلمي يصبح ماذا؟ يصبح اسمًا. ذلك البروز للقدرة يصبح اسمًا، تلك الحياة تصبح اسمًا؛ الاسم يعني تجلي الذات في العالم الخارجي، تجلي الذات وظهورها وبروزها بصور مختلفة، هذا يصبح اسم الذات. ذات الله تعالى جوهرها جوهر الوجود، وهذا الوجود نفسه من حيث هو هو، علمٌ بذاته، والعلم بذاته عبارة عن العلم بأسمائه وصفاته. يعني ظهوره وبروزه في الخارج.
يقول الله تعالى: «لقد خلقت خليفة يترشّح منه الاسم عينه الذي يترشّح منّي، وتلك القدرة التي تترشّح من ذاتي تترشّح منه بلا واسطة،لقد خلقت كائنًا كهذا، وخلقت ذاتًا كهذه». {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ}. علم الله آدم عليه السلام الأسماء. لا أنّه جلس يلقّنه في أذنه أن هذا كذا وهذا كذا. فما هي الأسماء؟ الأسماء هي مقام واحديّةِ الذات الأحديّة. فهذه هي الأسماء. وقد رأيت في بعض الكتب أنّهم يفرّقون بين مقام الهوهويّة ومقام الأحديّة؛ فيجعلون مقام الأحديّة هو نفسه مقام بشرط لا من "هو" . ولكنّ هذا التفريق لا يبدو صحيحًا. فالأحديّة هي نفسها منتزعة من الهوهويّة، ومساوية لها بالحمل الشايع؛ فهي نفسها. الهوهوية يعني بشرط لا؛ الهوهوية هي هذا، لا أنّ لحاظ عدم القيد قيدٌ لها؛ فهذا اللحاظ لحاظ ذاتيّ لا لحاظ اعتباري عقليّ. فمقام هو يقتضي الأحديّة، ولا يمكنك أن تسلب الأحديّة من مقام هو، ولكن مقام هو لا يقتضي الواحديّة إلا في رتبة تالية، إلا عندما يتقيّد. فمقام هو هو نفسه مقام الأحديّة، ومقام الأحديّة نفس مقام هو. فعندما يريد مقام هو ذاك أن يظهر ويمارس قوامه وقدرته وعلمه، يظهر مقام الواحديّة. والمقام الواحديّة هذا هو مقام الإنسان. ويُعبّر عنه بنفس النبيّ صلّى الله عليه وآله: «أوّلُ ما خَلَقَ اللهُ نُورِي يا جابر»۱، أو العقل الأول، أو الصادر الأول؛ والتعابير المختلفة التي تُستخدم في هذا المجال بخصوص هذه القضية.
لقد علّم الله تعالى آدم ؛ فما معنى علّم ؟ معناه أنّه رشّح ذات الإنسان وجوهره من ذاته؛ فهذه العلوم في مقام الواحديّة مستقرة في ذات الإنسان؛ هذا المقام هو مقام التعليم، لا أنه علّمه شيئًا.
تحدّي الملائكة: إثبات تفوق مقام الإنسان العلمي
{وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}٢. عندما علّم الله الإنسان الأسماء وأتمها كلها، حينها قال للملائكة: «الآن قولوا أنتم لنرى هل تعرفون هذه أم لا؟» فماذا يعني قوله هذا "تعرفون أم لا"؟ ألم يكن جبرائيل عليه السلام هذا هو نفسه الذي أوحى لنبيّنا صلّى الله عليه وآله؟ يقول الله لجبرائيل عليه السلام هذا في هذا المقام: «هل تعلم ما يعلمه آدم عليه السلام هذا؟» لا! لا يعلم. إذًا، يتّضح أنّ ذلك المقام أعلى من مقام الوحي هذا، أعلى من مقام العلوم الجزئيّة هذا. ذلك المقام أعلى من مقام الإرادة في الجزئيّات وفي القوالب والتعيّنات. هو مقام لا تستطيع الملائكة الوصول إليه. {أَنْبِئُونِي} أخبروني، لأرى ماذا قلتُ لآدم عليه السلام؟ ماذا علّمته؟ ماذا وضعت في داخله؟ قولوا في النهاية.
قصة تفسير "الأسماء": بين القرع والخيار وبين حقائق الوجود (حوار العلاّمة مع السيّد الخوئي)
كان المرحوم العلاّمة يقول: «عندما ذهبت إلى النجف، في الليلة الأولى ذهبت إلى درس السيد الخوئي ـ رحمه الله السيد الخوئي ـ فقد كان لديه درس تفسير، ثمّ توقف بعد ذلك». كان يقول: «كان لديه درس تفسير، وكان يفسّر هذه الآية: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا}؛ علّم الله هذه الأسماء لآدم عليه السلام، ثمّ قال: {أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ}». كان يقول: «المقصود بالأسماء هي هذه الأسماء الجزئيّة: التفاح والكمّثرى والخوخ والقرع والبطّيخ والشمندر والجزر وأمثال هذه الأمور». لا تتعجبوا أيّها الرفقاء، فالمسألة ليست بهذه الأمور. فقد ظهرت الآن آثار التعجّب فيكم من أن يأتي مرجع تقليد ويقول إنّ المقصود بالأسماء هو الخيار والطماطم أو اليقطين والباذنجان. «فهذه علّمناها لآدم عليه السلام، ثمّ قلنا للملائكة: إن كنتم صادقين فتعالوا وقولوا لنرى ماذا يسمّى القرع؟ ماذا يسمّى الباذنجان؟» حسنًا، من المعلوم أنّ القرع يسمّى شيئًا بهذا الحجم، والباذنجان أيضًا معلوم، والشمندر أيضًا . فهل قال الله لجبرائيل عليه السلام تعالَ وأخبرني عن هذه الأمور؟!
كان المرحوم العلاّمة يقول: «قلنا: سيّدنا، هذه ليست هي الأسماء». قال: «لا! الآيات ظاهرة في هذا، دلالة الآيات تفيد أنّ الأسماء هي هذه». «فالأسماء تعني هذه الأسماء نفسها: زيد وعمر وبكر والخيار والطماطم وأمثال هذه الأمور». فقال: «ولكن سيّدنا، هل هذا هو المقام الذي يتفضّل به الإنسان على الملائكة؟ هل معرفة اسم اليقطين والباذنجان له شرف حتّى يفخر الله به ويفتخر به؟! يا جبرائيل، أنت لا تعلم ماذا يسمّى الباذنجان؟» يقول جيرائيل: «كلاّ يا سيّدي، أعلم جيّدًا ماذا يسمّى؛ هل تريد أن أحضره لك؟»
ـ «أنت لا تعلم ماذا يسمّى البطّيخ الأحمر والأصفر؟»
ـ «لا يا عزيزي! يوجد الكثير منه، تعالَ لأريك؛ هذه المزرعة مليئة بالبطيخ. فما هو الذي لا أعرفه؟ أعرفه». فكان يقول إنّ النقاش احتدم بيننا وبينه ولم يتمكّن من الجواب وأُفحم. وكانوا يقول: «ذهبت إلى المنزل، وفي صباح الغد جاء إلى منزلي، برفقة اثنين أو ثلاثة آخرين؛ فقد سأل وقال: من هذا السيّد؟ لم يكن موجودًا؟!» فقالوا له: «نعم جاء للتوّ». فجاء وقال: «يا سيّد محمّد حسين، من أين جئت بهذا الكلام البارحة ونقلته؟» فانظروا «من أين جئت بهذا الكلام البارحة وقلته؟» قال: «هل هو كلام حقّ أم ليس بحقّ، ولا يهمّ من أيّ مكان قلته؟» قال: « لا شأن لي بذلك الآن». قال: «هذا كلام العلاّمة الطباطبائي». هناك أدرك إلى أين تنتهي هذه القصّة.
انظروا أين تنتهي القضية؛ يأتي واحد مثل العلاّمة الطباطبائي ويقول إنّ المقصود بالأسماء هو هذا. ويأتي آخر ويقول المقصود ماذا؟ الشمندر والخيار. فانظروا الفارق في الطريق من كم هو شاسع؟
حسنًا، لقد تجاوزت الساعة العاشرة والرفقاء أيضًا يعذروننا؛ هكذا هو الأمر، أليس كذلك يا جناب السيّد...؟ هل تسمحون لنا أن ننهي البحث هذه الليلة....؟ إن شاء الله نأمل أن يوفقنا الله ونتمكّن في الليالي القادمة من مواصلة هذا الموضوع.
نسأل الله تعالى ألا يتركنا بلا نصيب في هذه الليالي المباركة، وألا يحرمنا من مواهبه العلميّة ومن ذلك الرزق المعنويّ الذي هو حقًا عين ذاك الرزق العلميّ والفهم والإدراك ومعرفة الولاية والتوحيد؛ فكما كان يقول المرحوم العلاّمة: «كلّ ما طلبته أقلّ من هذا، فقد خسرت!». إذا طلبت أقل من التوحيد فقد خسرت؛ لأنّ الله يعطي، لا، حقًّا إذا طلبنا فالله يعطي، لا صعوبة عليه في ذلك. أسهل عليه من هذا الماء الذي نشربه الآن. كنّا مرة على مائدة الطعام ندعو باستمرار من هذه الأدعية؛ فقال أحدهم: «يا سيّد، هذه الأدعية – وكان المرحوم العلاّمة حاضرًا أيضًا – يا سيّد، هذه الأدعية التي تدعون بها غير ممكنة، فادعوا بأدعية تكون مستجابة». قال: «وهل أنت الذي تريد أن تستجيب؟ فالله يستجيب؛ لا صعوبة على الله في ذلك». أسهل على الله من رأس إبرة. وبما أنّ الأمر كذلك، فلماذا نبخل نحن؟!
أدام الله إن شاء الله ظلّ إمام الزمان عليه السلام على رؤوسنا جميعًا، وعرّفنا بمقام ولاية حضرته. وجعلنا من منتظري ظهور حضرته. ولا حرمنا في الدنيا من زيارته وفي الآخرة من شفاعته.
اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ.