المؤلّفالعلامة آیة الله السيد محمد الحسين الحسيني الطهراني
المجموعةشرح دعاء الافتتاح
التاريخ 1397/09/17
التوضيح
تمحورت هذه المحاضرة حول فقرة مِن دعاء الافتتاح، لم تخل الآيات والروايات مِن مفادها، وهي «الَّذِي بَعُدَ فَلا يُرى وَقَرُبَ فَشَهِدَ النَّجْوى». والحقّ أنّه مطلب توحيديّ لا يخلو مِن صعوبة ودقة وعمق، إلّا أنّ سماحة العلّامة السيّد محمّد الحسين الحسينيّ الطهرانيّ (قدّس الله سرّه) تكفّل الغوص في أعماقه ليُخرجه لنا صورة نيّرة يفقهها كلّ مَن ينظر إليها، فبسط أجنحتها ببيانٍ بسيط وتعبيرٍ سلسل وتمثيلٍ طريّ؛ وممّا استعان به لتقريب المطلب هو (أنا) الإنسان: فهي قريبة بحيث تشهده على الدوام، وبعيدة بحيث لا يمكن أن يُرى لها شكلٌ ورسمٌ، لا في وهمٍ ولا في خيالٍ. وكذلك هو الله تعالى: هو قريب بحيث أنّ كلَّ وجودٍ قائمٌ به، وبعيد بحيث لا تُدرِك كنهَه العقولُ. ثمّ ختم ببيان معنى إخفاء الذنوب وسترها ومعنى لقاء الله تعالى.
هو العليم
المعنى الحقيقيّ لقُربِ الله وبُعدِه
شرح فقرات مِن دعاء الافتتاح – الجلسة الثامنة
محاضرة القاها
سماحة العلاّمة آية الله السيّد محمّد الحسين الحسينيّ الطهرانيّ
قدّس الله نفسه الزكيّة
أعوذ بالله مِنَ الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلّى الله على محمّد وآله الطاهرين
ولعنة الله على أعدائهم أجمعين
«الحَمْدُ للهِ خالِقِ الخَلْقِ، باسِطِ الرِّزْقِ، فالِقِ الإصْباحِ، ذِي الجَلالِ وَالإكْرامِ، وَالفَضْلِ وَالإنْعامِ، الَّذِي بَعُدَ فَلا يُرى، وَقَرُبَ فَشَهِدَ النَّجْوى، تَبارَكَ وَتَعالى».
أصل وجودنا هو فضل مِنَ الله تعالى
«ذِي الجَلالِ وَالإكْرامِ»؛ الإكرام يعني العظمة والحُسن، والمقصود هو صفات الله الجماليّة، حيث جاء في القرآن المجيد ﴿تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ﴾۱ أي ذي الجلال والجمال.
«وَالفَضْلِ وَالإنْعامِ»؛ الفضل يعني الزيادة، كمَن حصل على شيءٍ، ثمّ حصل على مقدارٍ إضافيٍّ مِن ذلك الشيء، فيُسمّى ذلك المقدار الإضافيّ فضلٌ؛ وإن قيل: إنّ فلانًا فاضلٌ، فهذا يعني أنّ له نصيبًا وافرًا مِنَ العِلم، [وإن قيل:] أنت أفضل منّي، فهذا يعني أنّ لديك ما يوجب تقدّمك وتفوّقك علَيَّ. إنّ كلمة (فضلات) هي جمع فضلة، وتعني الشيء الزائد، فالفضل هو الزائد مِن كلّ شيءٍ.
إنّ ما يمنحه الله مِن نِعَمٍ لعباده هو مِن باب الفضل، أي المَنحُ الزائد، وذلك لأنّ [المَنح الزائد] يتمّ مِن دون استحقاقٍ، فجميع ما يُعطيه الله لعباده حينئذٍ زائدٌ؛ لو طلب أحدٌ مِنَ الآخر عشرة دنانير، ثمّ أعاد هذا الآخر تلك الدنانير العشرة وأضاف عليها دينارًا واحدًا زيادةً وإحسانًا، فذلك الدينار يُعتبر فضلًا. أمّا لو لم يطلب الأوّل شيئًا، فجاءه الآخر وأعطاه أحد عشر دينارًا دون مقابل، فسيعتبر جميع ذلك المبلغ فضلًا.
هذا أوّلًا، وثانيًا: لم يكن هناك – في الأساس – وجودٌ لأيّ موجودٍ، [وهذا الموجود] لم يكن مستحِقًّا في كينونته وماهيّته للوجود، حتّى يمنحه اللهُ إياه مِن باب الاستحقاق والإلزام، فكلّ وجوده حينئذٍ فضلٌ.
﴿وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ﴾٢؛ فحتّى العبادة الّتي فرضناها على عبادنا، فإن أدّوها سنمنحهم ثوابًا أزيد ممّا وعدناهم به، وسنعطيهم ما هو أوفى مِن ثواب ذلك العمل؛ فعندما قلنا إنّه سيترتّب على أداء الصلوات في أوّل وقتها كذا وكذا مِنَ الثواب، سترون كيف سيمنح الله عباده ذلك الثواب يوم القيامة ويزيد عليه أضعافًا مضاعفة. هذا هو معنى ﴿وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ﴾. ثمّ لمّا كان أصلُ جميع النِعم الّتي يمنّها الله على عباده، ناشئةً مِن نعمة الوجود، فجميع تلك النِعَم فضلٌ.
«وَالإنْعامِ»؛ معنى الإنعام هو منح النِعَم والإحسان إلى الآخرين، حيث إنّ الإحسان تعني: مساعدة الغير دون أن يكون هذا الغير مُستحقًّا لتلك المساعدة.
المعنى الحقيقيّ لِقُرب الله وبُعده
«الذي بَعُدَ فَلا يُرى، وَقَرُبَ فَشَهِدَ النَّجْوى، تَبارَكَ وَتَعالى»؛ (تبارك) يعني: كم هو عال ومبارك هذا الإله. و (تعالى) يعني: كم هو رفيع الدرجات والقدر.
ولكن كيف يكون الله بعيدًا إلى درجة لا يُرى فيها، وفي الوقت نفسه هو قريب يسمع نجوى المتناجين؟ فهل يمكن أن يكون الشيء بعيدًا إلى درجة لا يمكن أن يُرى، ويكون قريبًا مِنَ الإنسان إلى درجة يعلم بالكلام الخفيّ الّذي يدور بين المرء وصاحبه؟ [وللدقّة هنا] ينبغي أن لا نقول (يعلم) فقط، بل هو حاضر معهم، لأنّ كلمة «فَشَهِدَ» لا تعني أنّه سمع، بل تعني أنّه حَضَرَ ورأى. فهل يمكن أن يحصل مثل هذا الشيء؟ فإن كان بعيدًا إلى درجةٍ لا يمكن أن يُرى فيها، فكيف يكون في الوقت نفسه قريبًا؟! وإن كان قريبًا وحاضرًا عند الإنسان بحيث يسمع نجواه، فكيف يكون بعيدًا؟!
دعوني أضرب لكم مثالًا على ذلك، ثمّ أعود بعدها إلى أصل الموضوع: هل تستطيع أن ترى مقلة عينك؟ كلّا، لا تستطيع أن تراها مع أنّها أقرب شيءٍ إليك. فهل مقلة العين الّتي نرى الأشياء بواسطتها، قريبة منّا أم لا؟ نعم، إنّها قريبة منّا جدًّا، ولكنّنا – مع هذا – لا نستطيع أن نراها. نعم، لا يستطيع الإنسان أن يرى مُقلة عينه.
دعونا نأخذ مثالًا آخر: نحن لا نرى الشعاع الّذي ينطلق مِنَ العين، والّذي ترى العين بواسطته الموجودات الخارجيّة، إذ لا بدّ أن يأتي مِن أعيننا شعاعٌ لكي نتمكّن مِنَ الرؤية. فنحن لا نرى هذا الشعاع، ولكنّا نرى الموجودات بواسطته. نعم، نحن لا نستطيع أن نرى موجة الأشعّة الّتي تخرج مِنَ العين وتربطنا بالأشياء الخارجيّة المحسوسة.
ولو أردنا أن نرى الشعاع، لن نتمكّن مِن رؤية العالَم الخارجيّ، أي إنّ هذا الشعاع غيرُ قابلٍ للرؤية بالرغم مِن كونه الوسيلة والواسطة لرؤية جميع الموجودات. بناء على هذا، فالشعاع قريبٌ جدًّا مِنَ الإنسان بحيث يتّصل بالعين، وقريبٌ بحيث تتشكّل بواسطته حقيقة الإبصار، ومع هذا هو بعيدٌ جدًّا بحيث لا يمكن للإنسان أن يراه. [وإن لم تقتنع] فتعال وحاول، فأنا أتحدّاك أن تراه؟!
لا شكّ في أنّ هذا المسجد مُضاءٌ الآن، [وأنا أسألكم] هل المسجد مظلمٌ أم مُضاء؟ أنا أخاطبكم أيّها الأطفال [المتواجدين هنا]، أخبروني هل المسجد مظلمٌ أم مُضاء؟ إنّه مُضاء، ومعنى أن يكون المسجد مُضاءً هو أنّنا نستطيع رؤية الأبواب والجدران والفراش والسقف والإخوة المتواجدين فيه. ولكن هل نستطيع أن نرى نفس الشعاع الّذي يضيء هذا المسجد بدون ملاحظة الأشياء المرئيّة والمحسوسة؟ عليكم أن تدقّقوا في هذا الأمر جيّدًا، فلا تتعجّلوا الإجابة قائلين: نعم أيّها السيّد، إنّه مُضيء، فها نحن نراه بأنفسنا! لأنّكم إن عزلتم الإضاءة [والشعاع] عن الأشياء الّتي ترونها بواسطة الأشعة الآن، [فلن تروا شيئًا]. وبعبارة أخرى: إن أردتم أن تروا الإضاءة [أي الشعاع] وحدها دون الأشياء الّتي تنعكس عليها تلك الإضاءة، كالبابِ والجدار والصديق والفراش والستارة وغيرها مِنَ الموجودات، لن تتمكّنوا مِن رؤية شيءٍ.
لقد جعل الله في حياتنا الكثير مِن أمثال هذه الأمور، لتكون آيةً وعِبرةً نستنتج منها هذا المعنى؛ فلو وقفتَ على مسبحٍ أو على حافّة حوض الماء في بيتك، الّذي يتلألأ فيه الماء الصافي والساكن والّذي لا أمواج فيه، وخطر على بالك أن ترى صورتك في ذلك الماء، فانحنيت نحوه وظهرتْ صورتك فيه، فلو التفتَّ إلى نفس الماء ولاحظت ما هو عليه، أهو أزرق أم أخضر، مُظلم أم مُضيء، مكدّر أم صاف، فلن تتمكّن حينئذٍ مِن رؤية صورتك فيه، أمّا لو أردت أن ترى صورتك فيه، يتوجّب عليك ألّا تنظر إلى نفس الماء، عندها تستطيع أن ترى صورتك فيه.
فعندما ترى صورتك في الماء، سيكون الماء قريبًا منك بحيث يُريك صورتك حقيقةً، وفي الوقت نفسه سيكون بعيدًا عنك مقدار مليون سنة إذا ركّزت نظرك على نفس الماء بحيث لا ترى نفسك فيه أصلًا. وفي الوقت الّذي ترى نفسك فيه دون أن تَلحظ الماء، سيكون الماء بعيدًا عنك جدًّا بحيث يكون غير قابلٍ للرؤية.
دعوني أبسّط لكم الأمر قليلًا: نحن نملك شخصيّة مستقلّة وإنيّة، فجنابكم يقول: لقد صلّيتُ اليوم، ويقول هذا السيّد: لقد صمتُ اليوم، ويقول ذلك العبد: لقد قرأتُ القرآن، وها أنا نفسي أتكلّم وأنتم تستمعون، فهنالك «أنا» في وجودنا، ونحن نقوم بجميع أعمالنا بواسطة هذه الـ «أنا»، وهذا أمر لا يمكن لأحدٍ تكذيبه أو إنكاره؛ وذلك لأنّ لكلّ واحدٍ مِنّا «أنا» خاصة به، يُردّدها دائمًا ويقول: «أنا».
أين هي هذه الـ «أنا» التي تردّدونها، وما هو شكلها وصورتها؟ إنّ الـ «أنا» الّتي نردّدها ليست جسدًا، فجسدي هذا هو غير الـ «أنا»، ويدي هذه ليست الـ «أنا»، وكذلك عيني وفكري وقلبي وإدراكي، فكلّها غير الـ «أنا».
ثمّ ما هو شكل هذه الـ «أنا»، وما هي صورتها؟ هل حصل أن رأيتم هذه الـ «أنا» في يومٍ مِنَ الأيّام! أنتم جميعًا تتعاملون بهذه الـ «أنا»، فبها تنهضون صباحًا، وتصلّون وتدرسون وتزاولون أعمالكم اليوميّة وتعبدون وتصومون وتعقدون النيّة وتذهبون إلى المسجد وتسمعون وتتكلّمون وتفطرون ثمّ تحضرون في المسجد، إنّ هذه الـ «أنا» هي الّتي تقوم بتلك الأعمال، [ومع ذلك] هل حصل لكم إلى الآن أن رأيتم الشكل المبارك لهذه الـ «أنا»؟!
هذا أمر غاية في الأهميّة يا عزيزي، لم يحصل للإنسان أن رأى نفسه أبدًا. فإن قال أحدهم: نعم قد رأيتها، فهي بالصورة الّتي أنا عليها. سيُقال له: كلّا، إنّ هذا كلامًا غير صحيحٍ، لأنّ الصورة هي غير الـ «أنا»، مثَلها في ذلك مَثَل هذه الملابس الّتي نلبسها، فهي غير الـ «أنا»، وإن كانت هذه ملابسنا، غير أنّها ليست نحن، وهكذا الأمر بالنسبة للصورة، فهي لنا ولكنّها ليست نحن.
إنّ صورتك – الّتي تراها في المرآة أو في الماء أو في أيّ شيءٍ يعكس نورًا – هي لك وتابعة لشخصك، أمّا حقيقة الـ «أنا»، فلا يمكنك أن تراها، فهي غير قابلةٍ للرؤية أساسًا، لأنّها ليست مِن قبيل الأجسام لكي تُرى بالعين، وهي ليست صورة يمكن أن تتصوّرها القوى الخياليّة.
هناك أشياء لم يحصل أن رآها الإنسان في هذا العالَم، غير أنّه يستطيع أن يبتكر لها شكلًا وصورةً في مخيّلته؛ مثلًا، هل صُنِعت حتّى الآن طائرة بمائة محرّكٍ ومائتي جناحٍ وتستوعب مائة ألف مسافرٍ؟! كلّا، لم يحصل ذلك بعدُ، ولكنّك تستطيع أن تتصوّرها؛ تصوّر الآن طائرةً محمولةً على مائة عجلةٍ، ولها مائتا جناحٍ، وقد رُكّب محرّكَيْن في كلّ جناح، ليصبح عدد محرّكاتها أربعمائة محرّك. ألا يمكن أن يَتصوّر الإنسان ذلك؟ بلى، يمكنه ذلك، وهو أمر يسير.
إنّ النجّار يبدأ برسم صورة في ذهنه للشيء الّذي يريد أن يصنعه، ثمّ يبدأ بعد ذلك بتنفيذه عمليًّا؛ فهو عندما أراد أن يصنعَ بابًا أو خِزانةَ ملابسٍ أو أيّ شيءٍ آخر، لم يكن لديه في بادئ الأمر مخطّطٌ في الخارج، لذا يرسم هذا المخطّط في ذهنه أوّلًا، ثمّ يُوجده في الخارج. وهكذا الحال مع الطائرة، فهو يتصوّرها ويرسم لها خارطةً في ذهنه، ثمّ يباشر بصناعتها عمليًّا. وتَصوُّرُها ليس محالًا، لأنَّها مِنَ الأشياء الّتي لها صورة، فكلّ ما هو مِن جنس الصورة قابلٌ للتصوّر.
ولكنّك لا تستطيع أن ترى شجاعتك في ذهنك؛ فبالرغم مِن أنّك شجاعٌ، وتقول عن نفسك: أنا شجاع ولا أخاف مِن شيءٍ، وأصدقاؤك أيضًا يقولون إنّك شجاع ولا تخاف مِن شيء، غير أنّ شجاعتك هذه لا تشبه تلك الطائرة، لأنّ ليس لها صورة حتّى تكون قابلةً للرؤية؛ إنّك شجاع وتمتلك الشجاعة، غير أنّ هذه الشجاعة لا يمكن أن تُرى.
[وكذلك عندما يُقال] عن فلان إنّه سخيّ، فذلك السخاء لا يُرى، وهكذا الحال مع البخل والكرم والعقيدة؛ فعندما يُقال إنّ اعتقاد فلانٍ بالنبيّ هو اعتقادٌ جيّد، فما الّذي يعنيه هذا الكلام؟ وكيف هي صورة هذا الاعتقاد وما هو شكله؟ ما هو شكل صورة هذا المعنى الذهنيّ؟ إنّ حُسن العقيدة لا يمكن أن يُرى. وإن كانت ولايته للأئمّة جيّدة وعلاقته بإمام الزمان جيّدة، [فإن سُئل:] ما هي صورة تلك العلاقة وما هو شكلها؟ [لقال:] ليس لها أيّة صورةٍ، لأنّها لا تنتمي إلى عالَم الصورة.
وعليه، فإن لم يكن لهذه الأمور صورةٌ، فمِن باب أولى أن لا يكون للإنسان – الّذي هو أشرف المخلوقات – صورةٌ، وأن يكون غير قابل للتصوّر بصورةٍ. لاحظوا، فأنا هنا لا أقول أنّ للإنسان صورة لا يراها، بل أقول: لا صورة لحقيقة الإنسان أصلًا ولا شكل لها، حتّى يراها.
وعلى هذا، فإنّ حقيقة الإنسان بعيدة بحيث لا يمكن أن يراها مهما حاول ذلك؛ فإن حاول أن يدركها بواسطة عينه وأذنه ولسانه، أو حاول أن يلمسها بيده أو رجله [لن يُفلح أبدًا]. فإن حاول أن يلمس وجوده المبارك بيده وعينه، فلن يقعا إلّا على يده أو رِجْله أو أذنه، دون أن يتمكّن مِن لَمس نفسه. وهذا ما يحصل عندما تحاول أن تلمس شجاعتك.
أنت تستطيع أن تقبض على إصبعك، ولكنّك لا تستطيع أن تقبض على شجاعتك، ولا على سخائك، فهي أمور لا يمكن أن يُمسَك بها. وهكذا هو الأمر مع الإنسان نفسه، فهو غير قابل للإمساك، وغير قابل للتصوّر، كأن يبحث عنه بفكره ويتصوّر حقيقته، فهو بعيدٌ جدًّا بحيث لا يمكن – مهما بذل مِن جهدٍ وركض خلفه – أن يصطاده وأن يُمسك بحقيقة شخصيّته، أو أن يحفظه في أصقاع الذهن وزوايا الفكر. إنّ هذا الأمر يشبه – إلى حدٍّ كبير – محاولة إمساك الهواء وجلبه؛ هل يوجد هواءٌ في هذا المسجد أم لا؟ لو لم يكن هناك هواءٌ لَمَا تمكّنّا مِنَ التنفّس، فهناك هواء إذن، غير أنّ هذا الهواء لا يمكن أن يُمسَك باليد، وهكذا الأمر بالنسبة للـ «أنا»، فهي ممّا لا يُمكن أن يصطادها الفكر أو الخيال.
فهذه الـ «أنا» إذًا مِنَ البُعد بحيث تكون «بَعُدَ فَلا يُرى»، وهي مِن جانبٍ آخر قريبةٌ جدًّا جدًّا بحيث لو سألت أيَّ إنسانٍ: مَن هو الأقرب إليك بين جميع الناس؟ لقال: نفسي. أليس هذا ما تقولونه؟ فمَن في هذا العالَم تستطيع أن تقول عنه إنّه أقرب إليك مِن حقيقتك؟! لا يمكن أن يكون الأب أقرب إلى الإنسان مِن حقيقته، وكذلك الأمّ والأخ والابن والزوجة والمال والرئاسة والمكانة، فجميع هذه الأشياء ترتبط بالإنسان بواسطة نفسه، أمّا نفس الإنسان فلا تحتاج إلى واسطةٍ لترتبط بالإنسان؛ إنّ كتاب الدعاء هذا محمول على الأرض بواسطة هذا الرَّحْل، أمّا الرَّحْل فليس قائمًا بالكتاب بل هو قائمٌ بنفسه.
بناءً على هذا، فالموجودات الّتي تتعلّق بالإنسان، إنّما ترتبط به عن طريق حقيقته، أمّا بالنسبة إلى حقيقة الإنسان نفسها المرتبطة به، فإنّ ارتباطها هذا هو ارتباط ذاتيّ، فهي بنفسها الواسطة والربط، والذاتيُّ لا يُعلَّل۱.
إنّ جميع ما تبذله مِن تضحيات وجهود، وكلّ ما تتحمّله مِن معاناة ومشاكل، إنّما هو لأجل هذه الـ «أنا»؛ فأنت تصلّي وتصوم وتعمل وتتعلّم وتقرأ القرآن مِن أجل أن تستفيد هذه الـ «أنا» مِن كلّ ذلك، فكم هي قريبة هذه الـ «أنا» منك؟ إنّ هذه الـ «أنا» مِنَ القرب بحيث إنّها تبقى حتّى لو قُطِعَتْ يدك وسقطت رِجْلك جانبًا وأُصِبْتَ بوجع في القلب أو نِمْتَ، بل حتّى لو مُتَّ فهذه الـ «أنا» باقية، وذلك لأنّها ملاصقة للإنسان بل هي نفسه.
فكم هي قريبة هذه الـ «أنا» مِنَ الإنسان! إن همستُ الآن بهدوء في أذن أحدهم، فمَن السابق في معرفة ما أريد قوله له ومناجاته به، أيكون هو أم أنا الّذي أهمس في أذنه الآن؟ سأكون أنا السابق، لأنّني مصدر هذه النجوى، فكلمات هذه النجوى تصدر بإرادتي واختياري. ثمّ إنّ هذه الـ «أنا» الّتي هي معي، تعلم بهذه النجوى قبل أن أتفوّه بها، وإن كان الأمر كذلك ففي أيّ مرتبة اِطّلَع ذلك الشخص على هذه النجوى والحال أنّه ثالثنا [أي هو ثالث شخْصِي وأناي].
إلى أيّ درجة هذه الـ «أنا» معي، وكم هي حاضرةٌ فِيَّ! عندما يريد أحدٌ أن يتوضّأ وينام فهذه الـ «أنا» معه، وعندما ينام في فراشه ويقرأ ﴿قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ﴾۱ فهذه الـ «أنا» حاضرة، وعندما يقرأ آية الكرسيّ فهذه الـ «أنا» موجودة، وعندما يسحب الغطاء على جسمه ستسبقه الـ «أنا» إلى ذلك، وعندما يقول (يا الله) ستقول الـ «أنا» يا الله أيضًا، وكلّما نطق لسان الإنسان بـ (يا الله)، تكون الـ «أنا» قد سبقته في قول (يا الله) وبعد ذلك تجري هذه العبارة على لسانه، وعندما يستيقظ الإنسان ستستيقظ الـ «أنا» معه، وعندما يركض إلى جهة ستركض معه، وإن ذهب إلى الدكّان ووقف خلف الميزان تذهب الـ «أنا» وتقف معه خلف الميزان. وكلّما حاول الإنسان أن يهرب مِن هذه الـ «أنا» أو أن يفصلها عنه، لن يستطيع ذلك. تعالوا واختبروا بأنفسكم، هل يمكنكم أن تفصلوا هذه الـ «أنا» عنكم، وأن تضعوها في المنزل وتسدّوا عليها الباب ثمّ تخرجوا مِن دونها؟! إنّ هذه الـ «أنا» ذكيّة إلى درجة تستطيع أن تعبر الجدار، فإن خرجتم مِنَ البيت وتركتم الـ «أنا» فيه، ستخترق الجدار كما تخترقه الموجات وتخرج منه. لا تستغربوا هذا الأمر وتقولوا: كيف لها أن تعبر الجدار؟! [أقول:] ألا تخترق الموجات الجدار وتعبر منه؟! ألم تلاحظوا كيف يصوّر الطبيبُ القلبَ والرئة والكبد وغيرها بواسطة الأشعّة فوق البنفسجيّة أو أشعّة إكس؟! ألا تخترق تلك الأشعّة المواد الصلبة، فتعبر العظمَ واللحم والحديد؟! إن كان الأمر كذلك، فلا مانع إذن أن تعبر تلك الأشعّة الأجسامَ الصلبة أيضًا، وهذه الـ «أنا» تستطيع أن تعبر البابَ والجدار وأمثالهما، فأينما ذهب الإنسان فهي معه، إنّها قريبةٌ، وقريبةٌ جدًّا منه. ولكن هل تمكّنت مِن رؤيتها يا عزيزي؟! إن كنتَ قد رأيتها، فتعال وصفها لي! إن كان أحدكم قد رأى حقيقة وجوده فليقل لنا كيف هو شكلها! وعليه، فهي قريبةٌ جدًّا وفي نفس الوقت بعيدةٌ جدًّا.
لقد قدّمتُ هذا التشبيه لأقرّب لكم المعنى، والآن فلنتكلّم عن الله؛ ليس الله جسمًا ليتمكّن الإنسان مِن رؤيته، لأنّه لو كان جسمًا لكان في عِداد الأجسام البشريّة، بل لكان في مرتبة أدنى بكثير مِن الإنسان نفسه، لأنّ للإنسان تلك الـ «أنا» الّتي لا تُرى والجسم أثرٌ مِن آثارها، فهل يمكن أن يكون الله مِن قبيل الأجسام، فيكون إلى جنب جسم الإنسان لا إلى جنب حقيقة الإنسان؟! [إن كان الأمر كذلك] ستكون رتبة الله أدنى مِن رتبة الإنسان بكثير، فسيكون في رتبة الجمادات! [كلّا]، ليس الله جسمًا، ولا شكل له ولا مقدار حتّى يستطيع الإنسان أن يتصوّره.
تصوّروا الآن أنّ هناك طائرةً، أوّلها في مشرق الأرض وآخرها في مغربها، أي إنّ سعتها بسعة هذا العالَم كلّه، وأنّ ركّابها هم جميع سكّان هذا العالَم، وقادتها هم ميكائيل وإسرافيل وجبرائيل، فهل يمكن أن تتصوّروا شيئًا فوق ذلك؟ [كلّا لا يمكن]، ومع ذلك، فإنّ لهذه الطائرة حدودًا تُقاس بها، أمّا الله فهو فوق الحدود والمقاييس، فلذا لا صورة له، ولَمّا كان بدون صورة فهو غيرُ قابلٍ للتصوّر. ما يستطيع الإنسان أن يتصوّره بقوّته الخياليّة، هو الشيء الّذي يمكن أن يتشكّل بشكلٍ معيّنٍ، والشكل يلزم الحدّ والمقدار، فما لا حدّ ولا مقدار له لا شكل له، وما لا شكل له، لا يكون قابلًا للتصوّر، لذا لا يمكن أن نتصوّر الله.
فمهما سعى ذهن الإنسان أن يلتقط – بواسطة كامِرَتِه – صورةً لله، [سيرى] أنّ الله يفرّ منه باستمرار، فيركض بالاتّجاه المعاكس ويختبئ خلف العمود، وما إن يسعى ليلتقط بهذه الكاميرا شكلًا له، تراه يُخفي نفسه خلف العمود، مَثَله في ذلك مَثَل الأطفال الّذين يلعبون لعبة الاختباء، فما إن يُظهر أحدهم نفسه ويتّجه الآخر ليُمسك به، حتّى يختفي ثانيةً، فيجعل صاحبه يبحث ويدور، ثمّ تظهر منه إشارة للحظة قصيرة، وما إن يُظهر نفسه حتّى يُخفيها ثانيةً.
إنّ الله يُري نفسه للإنسان بشكلٍ جيّدٍ، فيَظهر للحظة، وما إن تحاول أن تلتقط له صورة في ذهنك ستجد أنّه غير قابل للتصوّر، على أنّه عندما يتقدّم إليك فهو لا يأتي على هيئة صورة بل يأتي بحقيقته فيهزّك، فإن أردت أن تتصوّره ستجد أنّه غيرُ قابلٍ للتصوير. وعلى هذا، فإنّ ما قاله جميع الأنبياء والأئمّة والحكماء والعظماء، مِن أنّ الله لا يمكن أن يُتصوّر، هو كلام متقن۱، لأنّه غير قابلٍ للتصوّر. إنّ ذهن الإنسان مخلوقٌ مِن مخلوقات الله وهو محدودٌ، والموجود الّذي لا حدّ ولا صورة ولا مقدار ولا نهاية له، لا يمكن أن يحلّ في موجودٍ محدودٍ له سعة محدّدة.
بناءً على هذا، فالله غير قابلٍ للرؤية، وليس هذا فقط، بل لا يمكن أن تُحيط به الأفكار أبدًا، ولا يمكن تصوّره؛ فكم الله بعيدٌ في هذه الحالة؟ إنّه مِنَ البعد بحيث لا يمكن أن يُتصوّرَ، مهما حاول الإنسان ذلك.
قد يضرب الإنسان نفسه ويبكي ويصرخ، ويصعد إلى سطح داره فيصلّي ويكشف رأسه قائلًا: أريد أن أراك، أريد أن أراك يا ربِّ، فأنا أعشقك وأريد أن أراك. وقد يُجنّ الإنسان ويهيم في الصحاري ليرى الله، لكن الله لا يظهر!
بسبب عشق البعض وودّهم لرؤية الله، يتقطّعون إربًا إربًا ويرحلون عن الدنيا، نعم، إنّهم يفنون دون أن يتمكّنوا مِن رؤية الله، لأنّ الله لا يمكن أن يُرى، وهو غير قابل للرؤية أساسًا. فحتّى لو قتل الإنسان نفسه، فلا يمكن أن يظهر الله بصورةٍ لأجله، لأنّه إن أصبح صورةً فلن يكون هو الله.
فعلى الرجل أن يجِد الطريق الصحيح والكيفيّة الصحيحة لرؤية الله، فيسلكه. لا يمكن أن يُتصوّر الله بصورة حتّى يتمكّن الإنسان مِن رؤيته، فإن ظهر الله بصورةٍ ستكون تلك الصورة مخلوقًا مِن مخلوقات الله لا الله نفسه.
إنّ معنى النجوى هو الحديث همسًا، فإن كان هناك رجلان يتكلّمان مع بعضهما همسًا، فيُقال عنهما إنّهما يتناجيان، وإن كان هناك ثلاثةُ رجالٍ يتكلّمون مع بعضهم همسًا، فيُقال عنهم إنّهم يتناجون. فمناجاتكم في ليالي شهر رمضان يعني أنّكم تتكلّمون مع الله بقلوبكم دون أن يعلم بذلك أحدٌ.
ورد في القرآن المجيد ﴿مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ﴾۱، فإن كان هناك مائة رجلٍ يجلسون في أحد المجالس يتكلّمون فيما بينهم، سيكون الله هو المائة والواحد، ولكنّ ذلك لا يعني أنّه في تعدادهم، أي ليس الحال أنّهم مائة وعندما انضمّ الله إليهم صاروا مائة وواحد، أو أنّه عندما ينضمّ إلى الأربعة يصبحون خمسة، بل الحال هو أنّ هذا الواحد [الّذي هو الله] هو الواحد الّذي يضمّهم جميعًا فيه بحيث يكونون ذائبين في وجوده، ووجودهم قائم بوجوده، لا أن يكون واحدًا عدديًّا، إذ لا معنى للوحدة العدديّة في ذات الله٢.
إنّ الله قريب بحيث إنّ حقيقة الوجود قائمة به تعالى
الآن، لمّا كان الله أقرب إلى جميع الموجودات مِن أنفسها، ولمّا كان وجود جميع الموجودات قائم بوجوده، فهل سيكون هناك مكانٌ خالٍ مِنَ الله؟ لا يوجد مكان يخلو منه.. بناءً على المثال الّذي ضربناه لكم، هل يمكن أن تجدوا مكانًا تكونوا فيه ولا تكون أنفسكم فيه، كأن تذهبوا مثلًا إلى الدكّان مِن غير أنفسكم، أو أن تُصلّوا مِن دون أن تكونوا متواجدين بأنفسكم، أو أن تتركوا أنفسكم في المنزل وتخرجوا؟! لا يمكن أن يحصل هذا أبدًا، لأنّك عندما تقول (أنا) فهذا يعني نفسك، وقبل أن تقول (أنا) فإنّ نفسك تقول (نفسي)، وإن قلتَ لي: أريد أن أرى إنسانًا في الخارج، فأرني إيّاه، سأقول لك: إنّ هذا الكلام الّذي صدر منك يا عزيزي إنّما صدر عن إنسانٍ، فإنسانيّتك هي نفسك قبل أن تُصدر هذا الكلام، فقبل أن ترى نفسك إنسانًا [في الخارج] ستكون قد شاهدته بالفعل.
بىدلى در همه احوال خدا با او بود | *** | او نمىديدش و از دور خدايا مىكرد۱ |
[يقول: هناك رجلٌ أعمى القلب، والله معه في جميع الأحوال، ولكنّه لا يراه، فلذا تراه ينادي مِن بعيد ويقول: يا الله يا الله]
لا يمكن للإنسان أن يشاهد شخصيّته وحقيقته، وهو ليس بحاجة إلى ذلك، فالإنسان يدركها، فكلّ واحدٍ مِنَ الناس يُدرك ذاته، غير أنّ هذا الإدراك لا يكون بالصورة، لأنّ الصورة هي إحدى أجهزة الخِلقة البشريّة، وللإنسان حقيقةٌ قائمةٌ بنفسها قبل وجود تلك الأجهزة، مثل الصورة والذهن والقوى الخياليّة، وتلك الحقيقة هي ما تُدركه نفس الإنسان.
أنتم تُدركون أنفسكم على الدوام، نعم، إنّكم تُدركون أنفسكم دائمًا بالشكل الّذي قد تغفلون فيه عن كلّ شيء إلّا عن أنفسكم. خلال حديثي معكم الآن وإصغائكم إليّ بكافّة حواسكم، فإن لدغ دبّورٌ رِجْلَ أحدكم، فسيسحبها على الفور بلا اختيار، وهذا يعني أنّ حقيقة الذات حاضرةٌ لديكم بالشكل الّذي تكون هي أوّل ما تلحظونه، وبعد ذلك تلتفتون إلى ما يقوم به الغير.
إن وخز أحدٌ قدمك وأنت نائمٌ، ستسحب رِجْلك على الفور، وإن ألقى أحدٌ الماء على وجهك، ستقفز مِن مكانك دون اختيار، وإن كنت نائمًا وأزاحك أحد عن موضعك في الفراش، ستعود إلى وضعك السابق تلقائيًّا، فمَن [يا تُرى] قال لك أن تعود! فقواك العقليّة معطّلة في هذا الوقت، وما هو فعّالٌ في تلك اللحظة هو الحسّ الخاصّ بالذات الإنسانيّة، حيث تكون الذات حاضرةً عنده.
نعم، لا يمكن أن تغفل الذاتُ الإنسانيّة عن نفسها في أيّ وقت مِنَ الأوقات. قد يغفل الإنسان عن الموجودات الخارجيّة، فلا يفكّر فيها ولا يلتفت إلى أيّ شيء في هذا العالَم، وقد يغفل عن يده وأجزاء بدنه، أي قد يغوص في نفسه بالشكل الّذي ينسى فيه يده، بحيث لو قيل له: أين يدك؟ ستراه عاجزًا عن الإجابة على السؤال، فهو لا يعرف يمناه مِن يسراه. وقد يغوص الإنسان في نفسه بحيث ينسى جسمه، أو ينسى قواه الباطنيّة، مِن قبيل الحسّ المشترك والذاكرة والقوى التخيّلية؛ نعم، قد ينسى جميع ذلك، ولكنّه لا يستطيع أن ينسى حقيقته، وذلك لأنّها نفسه، والنفس الّتي تكون مع الإنسان دائمًا، هي غير قابلةٍ للانفصال عنه. فكم هي قريبة هذه الـ «أنا» مِن الإنسان في هذه الحالة؟ إنّها قريبةٌ منه بحيث لا نجد عبارة تساعدنا على الإجابة على هذا السؤال، لأنّه ما إن يقول الإنسان «أنا»، تكون حقيقة نفسه ووجودها قد ظَهر، فهذه الـ «أنا» عبارة عن حاصل أصل الوجود، وباقي الأشياء تتكوّن ببركتها ومتفرعة عنها.
عندما تتزيّن المرأة وتلبس لباسًا فاخرًا، وتضع قلادة مِنَ الأحجار الكريمة على عنقها، وأساور في يديها، وإكليلًا مِنَ الزهور على رأسها، وتتزيّن بأنواع الزينة، فهذه الزينة لها، ولكن هذه الزينة في مرتبة متأخّرة عنها، أمّا الأصل فهو عبارة عن نفسها، فلا بدّ أن تكون هي موجودةً لكي تلحق بها تلك الزينة.
إنّ اليد والعين والأذن وبقيّة الأعضاء هي ملحقاتٌ تلحق بالإنسان، أمّا نفس الإنسان فهي الأصل، ولمّا كانت النفس هي الأصل، فلا يمكن أن تنفصل عن ذات الإنسان أبدًا، على أنّ هذه الـ «الذات» موجودةٌ في جميع الموجودات ولها حقيقةٌ واحدة.
إنّ الجسد واليد والرجل والعين والأذن والطبيعة الحجريّة للحجر والطبيعة الترابيّة للتراب والفراش والجبل والباب والجدار والخروف والبقرة، جميع هذه الموجودات هي مِن لواحق وآثار الوجود، أمّا حقيقة الوجود وما هو مختصّ بأصل الوجود، فهي لنفس الوجود، ولا يمكنها أن لا تكون له، فلا يمكن أن نتصوّر انفكاكها عنه.
ثمّ إنّ حقيقة هذا الوجود قائمةٌ بالله، والله هو أقرب إلى كلّ موجود مِن نفسه. وأنا أقسم بأرواحكم العزيزة علَيَّ كثيرًا: أنّ الله العلِيُّ الأعلى هو أقرب إلينا مِن أنفسنا. فعندما يقول أحدنا «أنا»، فما مِن شيء أقرب إلى هذه الـ «أنا» [مِنَ الـ «أنا» نفسها]، ولكنّ الله هو قبل هذه الـ «أنا». وعليه، هل يمكن حينئذٍ أن ينطق الإنسان بكلامٍ دون أن يعرف به الله؟! وما معنى أن لا يعرف الله به حينئذٍ؟! فكيف للمرء أن يقول شيئًا ولا يكون الله حاضرًا عنده؟! فهو موجود قبل أنفسنا، وما أنفسنا ووجودنا إلّا متعلّقة به.
عندما نريد أن نتكلّم، نُفكّر أوّلًا فيما نريد قوله ونعزِم عليه ونرسمه في أذهاننا؛ فهذه المواضيع الّتي أطرحها عليكم الآن، لم تُطرح دون إرادة مسبقة منّي، غير أنّ تلك الإرادة تأتي بشكلٍ سريع ومتسلسل، وتجعل المواضيع تترادف ويتبع بعضها البعض بشكل لا يشعر به الإنسان نفسه، وبشكل لا يمكنه أن يفصلها عن بعضها، وبالإضافة إلى كلّ هذا فهي قائمة بالنفس. فلو كانت هذه المواضيع منفصلة ومنفكّة عن نفسي، لَمَا كانت قابلةً للإدراك. فهل يمكن أن يكون استماعكم منفصل عن حقيقتكم؟! لو كان منفصلًا لَمَا كان قابلًا للإدراك.
وبهذا الشكل تكون حقيقتنا – الّتي تقوم بها جميع تلك الأشياء – قائمة بالله؛ أي إنّ وجود الله هو الأوّل ثمّ يأتي وجودنا بعده، ثمّ يأتي الكلام والاستماع في المرتبة الثالثة. بناءً على هذا، لا يمكن أن يحصل الاستماع لولا وجودنا، وليس لنا وجود لولا وجود الله.
إنّ الله قريب بحيث إنّ جميع درجات الخفاء لا تخفى عنه
إنّ معنى «قَرُبَ فَشَهِدَ النَّجْوى» هو أنّ الله قريبٌ بحيث يكون عالِمًا بنجوى كلّ واحدٍ منّا، وهو ليس عالِمًا بالنجوى فحسب، بل هو عالِمٌ بنيّة المرء وما يريد أن يقوم به، «يا مَن يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور»۱؛ قد يُضمر ذهن الإنسان فكرةً باطلة ولا يُطلع أحدًا عليها، وقد يخطر على باله خاطرُ سوءٍ فيُخفيه بحيث لا يطّلع عليه غيره.. إنّه أمرٌ عجيب حقًّا! مَنْ يستطيع أن يفهم هذا الكلام! قد قال أمير المؤمنين عليه السلام: «وكُلَّ سَيِّئَة أَمَرْتَ بِإِثْباتِهَا الْكِرامَ الْكاتِبينَ الَّذينَ وَكَّلْتَهُمْ بِحِفْظِ ما يَكُونُ مِنّي وَجَعَلْتَهُمْ شُهُودًا عَلَيَّ مَعَ جَوارِحي، وَكُنْتَ أَنْتَ الرَّقيبَ عَلَيَّ مِنْ وَرائِهِمْ، وَالشّاهِدَ لِما خَفِيَ عَنْهُمْ، وَبِرَحْمَتِكَ أَخْفَيْتَهُ، وَبِفَضْلِكَ سَتَرْتَهُ»٢.
قد يُذنب الإنسان ذنوبًا ظاهريّةً يراها جميع الناس، كمَن يحلق ذقنه أو يلبس خاتم ذهبٍ فيراه الجميع، أو مَن يلبس على مرأى الناس ربطةَ عُنقٍ، ويبرّر ذلك قائلًا: إن الرباط لا يتعدّى كونه قطعة قماش نظيفة. ولكنّه لا يستطيع أن يغشّ الله بكلامه هذا.
وهناك ذنوب أخرى يرتكبها العبد دون أن يعلم بها أحدٌ، كمَن يرسم مُخطّطًا في ذهنه ليقوم بعمل ما في الغد، أو ليُنجز معاملةً تجاريّة ربويّة، أو ليرتكب خيانةً أو جُرمًا معيّنًا، فكلّ ذلك يحصل دون أن يعلم به أحدٌ لأنّه لا يتعدّى كونه مخطّطًا ذهنيًّا. أمّا الملائكة الموكلون به، فيعلمون بكلّ ما يجري في ذهن الإنسان وفي عالَم الصورة، لأنّ الملائكة مِن عالَم البرزخ والمِثَال والصورة، فهم يعلمون بكلّ ما يجري في عالَم الصورة، فما إن ينوي أحدهم نيّةً سيئةً، حتّى يُثبتوها فيصوّروها في أنفسهم ويحفظوها؛ ولهذا لا يجوز للإنسان أن يتخيّل في ذهنه خيالات باطلة.
وإذا تجاوزنا هذا الأمر، فهناك نوايا لم يكن الإنسان قد نواها حتّى الآن ولم يكن قد فكّر فيها، فهو لم يخطّط لخداع زيد مِنَ الناس مثلًا، غير أنّ في ذهنه قوّةً تحرّكه للقيام بمثل هذه الأعمال الّتي لم تُرسم صورها في ذهنه بعدُ. فهو وإن كان يمتلك القوّة الّتي مِن شأنها أن تحرّكه للقيام بتلك الأعمال الباطلة، إلّا أن صورة تلك الأعمال الباطلة غير موجودة في ذهنه الآن، فلن تتمكّن تلك الملائكة – الموكّلة بحفظ ما يجري في ذهن الإنسان وكتابة الموجودات الصوريّة – مِنَ العِلم بها، ولكن هناك طائفة أخرى مِنَ الملائكة لا صورة لهم، يعلمون بتلك الأمور [الّتي لا صورة لها في ذهن الإنسان] فيقومون بكتابتها، فهم على عِلمٍ بحقيقة تلك الأمور.
وما هو أعلى وأرقى مِن ذلك، أنّ هناك أخطاءً قد عُجنت في قلب الإنسان ومركز ترشّح أفكاره، وهي تُحرّكه وتسوقه إلى ارتكاب الخيانة الّتي لا صورة لها بعدُ، فمَن يمكنه رؤيتها في هذه الحالة، فحتّى الملائكة لا تستطيع أن تراها، ولكن ألا يستطيع الله أن يراها؟! كيف لا يستطيع الله أن يراها، والحال أنّ تلك الذنوب المعجونة في قلب الإنسان هي تابعةٌ للإنسان نفسه، والإنسان مملوكٌ لله. وعليه، فلا يمكن أن تخفى تلك الذنوب عن الله.
معنى إخفاء الذنب وسترها هو قلع جذورها
«وكُلَّ سَيِّئَة أَمَرْتَ بِإِثْباتِهَا الْكِرامَ الْكاتِبينَ الَّذينَ وَكَّلْتَهُمْ بِحِفْظِ ما يَكُونُ مِنّي وَجَعَلْتَهُمْ شُهُودًا عَلَيَّ مَعَ جَوارِحي، وَكُنْتَ أَنْتَ الرَّقيبَ عَلَيَّ مِنْ وَرائِهِمْ، وَالشّاهِدَ لِما خَفِيَ عَنْهُمْ»، يقول أمير المؤمنين هنا: إلهي اغفر لي جميع الذنوب الّتي وكّلت ملائكتك العِظام والكرام الكاتبين بإثباتها وحفظها، واقمع مصدر وأساس تلك الذنوب الّتي عُجنت بخلقتي، واقلع جذورها مِن قلبي، تلك الذنوب الّتي لا تُدركها الملائكة وليس بمقدورها أن تسجّلها علَيَّ، وتلك الذنوب الّتي لا تعرف الملائكة أنّ هذا العبد المؤمن قد ارتكبها. ثمّ إنّ لك يا ربِّ ملائكةً فوق تلك الملائكة، وهم رقباء علَيَّ وشهودٌ على ما خفي على أولئك الملائكة، ولكنّهم أيضًا لا يستطيعون الاطّلاع على بعض آخر مِنَ الأمور، إلّا أنّها أمور لا تخفى عليك.
«وَبِرَحْمَتِكَ أَخْفَيْتَهُ، وَبِفَضْلِكَ سَتَرْتَهُ»، فأنا أطلب منك أن لا تُخفيه وتستره فقط، بل أن تقلع جذوره مِن أساسها. [اعلموا أنّ] هناك فرق بين أن يُغطّي الإنسان النار وبين أن يُطفئها، فما أطلبه منك هو أن تقمعها وتقتلع جذورها يا ربِّ، «وَبِفَضْلِكَ سَتَرْتَهُ».
اللقاء بالله يعني أنّ وجودنا مَظهرٌ له
«وَأَنْ تُوَفِّرَ حَظّي مِنْ كُلِّ خَيْر تُنْزِلُهُ... إلخ»۱، فأيّ شيءٍ يمكن أن يخفى على الله والحال هذه؟ لا شيء، فإن صعد الإنسان إلى ما فوق السماء السابعة، أو نزل إلى ما دون الطبقة السابعة مِنَ الأرض، أو ذهب إلى مشرق الأرض أو مغربها، وإن طوى كلّ عالَم المادّة، وإن جال ملايين السنين في عالَم الطبيعة، وإن صعد إلى الفضاء الخارجيّ وذهب إلى القمر أو المرّيخ أو إلى أيّ مكانٍ شاء – وقد وصلها الإنسان بالفعل – فهل يستطيع هذا الإنسان أن يترك إنسانيّته ويذهب إلى هذه الأماكن؟! كلّا، فحتّى الله لا يستطيع ذلك، لأنّ الله موجود في كلّ مكان، ﴿وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ﴾٢.
أين هو الله في هذه اللحظة؟ فهل هو فوق السماوات أم تحتها، وهل هو فوق الهواء أم على الأرض، هل هو في هذا المسجد أم ليس في المسجد! بل هو أقرب إلينا مِن هذا أيضًا، نعم، إنّه أقرب إلينا مِن ملابسنا ولحمنا وجلدنا وعنصرنا وخلايانا وأفكارنا وعِلمنا وحقيقة وجودنا. إنّ الله محيطٌ بنا إلى درجةٍ أنّ استعمال كلمة الإحاطة هو مِن باب ضيق العبارة، وإلّا فوجودنا قائمٌ بوجود الله؛ فالله موجود ووجودنا مِن نوره، لا أنّنا موجودون والله يحيط بنا مِنَ الخارج، فهذا غير صحيح.
هذا المسجد الّذي نجلس فيه قائمٌ على هذه الأعمدة، ولمّا كان الأمر كذلك، فحجر المرمر المُثبّت على الجدران قائم بالمسجد، فهل يمكن أن تتصوّروا أنّ هذا الحجر قائم بذاته، لا ببنيان المسجد وأنّ المسجد مسيطر عليه مِنَ الخارج؟! كلّا، ليس الأمر كذلك.
إنّ وجودنا قائم بوجود الله، أي إنّ الله هو الأوّل، ونحن مِن شؤونه، ﴿كُلَّ يَوْمٍ هُوَ في شَأْنٍ﴾٣، فنحن ظهور الله ومظاهر الله ومخلوقاته؛ أي إنّ الله هو الواجب ونحن الممكنات، فكيف يمكن في هذه الحالة، أن نكون موجودين ولا يكون الله مسيطرًا علينا ومحيطًا بنا! إنّ الله محيطٌ، وهذا يعني أنّ له وجودًا واسعًا بالنسبة إلى ذواتنا، بل قبل أن يكون لذاتنا وجود.
إنّ آية ﴿وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَريدِ﴾۱، وآية ﴿إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ عَنِ الْيَمينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعيدٌ ، ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقيبٌ عَتيدٌ﴾٢ الّتي تتحدّث عن عمل الملائكة وأنّ الله مِن وراهم، وآية ﴿ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا﴾٣، كلّها تشير إلى هذا الموضوع.
فإن انكشفت للعبد – بمشيئة الله وببركة ذاته – حقيقة التوحيد، سيعلم عندها أنّ الله غير قابلٍ للرؤية، ولكن ما الّذي يستطيع أن يراه الإنسان عندها؟ لن يكون هناك وجود للإنسان لكي يرى الله بواسطته، فمَثَل مَن يُريد أن يرى الله مَثَل قشّة سقطت على سطح البحر وهي تريد أن ترى البحر، فمهما تبذل هذه القشّة مِن جُهد لن تستطيع أن ترى مِنَ الماء إلّا بمقدار ما سقطت عليه، فهل يمكنها أن ترى ما سواه؟!
إنّ البلبل الّذي في هذه الحديقة لا يستطيع أن يرى غير الوردة الّتي يحطّ عليها، فأنَّى له أن يرى حينئذٍ البستان الكبير الّذي يبلغ طوله مائة مليون فرسخًا! كذلك السمكة في البحر، فهي لا تستطيع أن تسبح إلّا في مقدار الحيّز المائيّ المحيط بها، فهي لا تستطيع أن تُحيط بالبحر كلّه. والديدان الصغيرة الّتي تتواجد على سطح المياه الراكدة، لا تستطيع أن تصل إلى قعر البحر أبدًا؛ يحصل أن يتجمّع مقدارٌ مِن ماء النهر على أطراف النهر فيركد هناك، أي إنّ الماء الجاري في وسط النهر قد يجد له زاوية مِن زوايا النهر فيستقرّ فيها، فتتواجد حيوانات صغيرة تسبح على هذا الماء الراكد، فتذهب في اتّجاه ثمّ تتوقف ثمّ تعود، وتذهب في هذا الاتجاه وذاك، هذه الحيوانات تُسمّى ديدان، فهل يمكن أن تصل هذه الديدان إلى قعر المحيط وتطّلع على ما فيه؟! كلّا، إذ هذه الديدان لا يمكنها السباحة إلّا على سطح الماء، فهي لا تستطيع أن تغطس سنتمترًا واحدًا، إنّها تعيش على سطح الماء، تَجري في هذا الاتجاه وذاك عسى أن تعثر على بعوضة لتصطادها.
... | *** | به كنه ذاتش خرد برد پى، اگر رسد خس به قعر دريا۱ |
يعني أنّه يمكن أن يصل عقل الإنسان إلى معرفة كنه ذات الله متى ما وصلت تلك الديدان الصغيرة إلى قعر البحر. وبما أنّها لن تصل إلى قعر البحر أبدًا، لا يمكن لفكر الإنسان أن يصل إلى معرفة كنه ذات الله أبدًا.
عنقا شكار كس نشود دام بازگير | *** | كانجا هميشه باد به دست است دام را٢ |
[يقول: لم يتمكّن أحد قبلك أن يصيد العنقاء، فاجمع شباكك فلن تصطاد غير الهواء].
فلقاء الله لا يتمثّل برؤيته أو تصوّره أو رسم صورة له في الذهن، كلّا، بل يتمثّل في وصول الإنسان إلى النتيجة التالية: إنّ وجوده ليس سوى إحدى مظاهر الله، ومعلّق بذات الله وبعلمه وعزّته وحياته، وأنّ وجوده شأنٌ مِن شؤون الله، وأن لا وجود له في قِبال وجود ذات الله. وهذا يعني أنّه لا يعرف الله سوى الله نفسه، ولا يمكن لأيّ موجود أن يُدركه.
وصلّى الله على محمّد وآله
به عقل نازى حكيم تا كى، به فكرت اين راه نمى شود طيّ | *** | به كنه ذاتش خرد برد پى، اگر رسد خس به قعر دريا. |