المؤلّفالعلامة آیة الله السيد محمد الحسين الحسيني الطهراني
المجموعةشرح دعاء الافتتاح
التاريخ 1397/09/08
التوضيح
بَيّن سماحة العلّامة السيّد محمّد الحسين الحسينيّ الطهرانيّ (قدَّس الله نفسه الزكيّة) كيف أنّ أصلَ ومنشأَ الصفات والأسماء الإلهيّة – مع تعدّد ظهوراتها – واحدٌ. ثمّ عرض قصّة دخول الإسلام إلى مدينة الطائف. وتضمّن ذلك كلّه بيان لجملة مِن الآيات القرآنيّة وإشارات لطيفة حول؛ قاعدة الواحد، وتجلّيات أمير المؤمنين، وعَبدة الأصنام، وعناد الوليد بن المغيرة، وإسلام عروة بن مسعود الثقفيّ، وشهادة مؤمن آل ياسين، ودليل وجود البرزخ، وشمائل علِيّ الأكبر، وقصّة إسلام ثلاثة عشر نفرًا مِنَ الطائف.
هو العليم
وحدة الصفات والأسماء الإلهيّة
شرح فقرات مِن دعاء الافتتاح – الجلسة الثالثة
محاضرة القاها
سماحة العلاّمة آية الله السيّد محمّد الحسين الحسينيّ الطهرانيّ
قدّس الله نفسه الزكيّة
أعوذ بالله مِنَ الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلّى الله على محمّدٍ وآله الطاهرين
ولعنة الله على أعدائهم أجمعين مِنَ الآن إلى قيامِ يوم الدين
«اللّهُمَّ إِنِّي أَفْتَتِحُ الثَّناءَ بِحَمْدِكَ، وَأَنْتَ مُسَدِّدٌ لِلصَّوابِ بِمَنِّكَ، وَأَيْقَنْتُ أَنَّكَ أَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فِي مَوْضِعِ العَفْوِ وَالرَّحْمَةِ، وَأَشَدُّ المُعاقِبِينَ فِي مَوْضِعِ النّكالِ وَالنَّقِمَةِ، وَأَعْظَمُ المُتَجَبِّرِينَ فِي مَوْضِعِ الكِبْرِياءِ وَالعَظَمَةِ».
فمع أنّك إلهٌ واحدٌ يا سيّدي، إلّا أنّنا نرى جميع الأسماء والصفات المتضادّة تضادًّا كاملًا موجودة فيك؛ ففي الوقت الّذي أنت فيه «أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ» – وهي رحمة تفوق رحمة أيّ رحيم – تكون فيه أيضًا «أَشَدُّ المُعاقِبِينَ» – وهي شدّة تفوق شدّة كلّ عقاب – وتكون فيه كذلك «أَعْظَمَ المُتَجَبِّرِينَ»، وهما عظمة وكبرياء يفوقان كلّ مقتدر وصاحب سلطان.
أصل الصفات الإلهيّة واحد وإن تعدّد ظهورها
علينا أن نرى هنا، هل أنّ حقيقة هذه الصفات المتضادّة في الظاهر، هي متضادّةٌ في حقيقتها أيضًا، أم أنّ الأمر ليس بهذا الشكل؟ إنّ أصل وأساس ومنشأ هاتين الصفتين اللتين يتّصف بهما الله – حيث يكون رحيمًا في موضع الرحمة ومعاقبًا عندما يستحقّ الإنسان ذلك – واحدٌ؛ ونحن نجد هذا الأمر متحقّقًا في أنفسنا، فنرى الأب يغضب على ابنه في موقفٍ، ويعطف عليه في موقفٍ آخر، فيُظهرُ غضبه على هيئة عقابٍ وتوبيخٍ وقسوةٍ وما شابه ذلك، في حين تظهر رحمتُه على شكل ملاطفةٍ ومحبّةٍ وبشاشةٍ وسرورٍ وما إلى ذلك، والحال أنّ الأب هو نفس الأب، وصفاته هي نفس الصفات؛ فهو بناءً على ما يمتلك مِن صفات يقوم بضرب الطفل والتعامل معه بقسوة، وبناءً على نفس تلك الصفات نراه يحتضنه ويلاعبه ويضحك بوجهه؛ فإن قام الطفل بعملٍ جيدٍ يستحقّ التشجيع، نراه يبتسم له ويمنحه جائزة، وإن ارتكب عملًا خاطئًا فيعاقبه لذلك. أمّا إن ضحك بوجه الطفل المُخطئ، يكون بهذا قد أوقع الطفل في مهلكةٍ. فالتبسّم في وجه الطفل يكون في مصلحته ولتكامله في الحالة الأولى، وكذلك إذا غضب عليه وزجره في الحالة الثانية. فلكلتا الصفتين منشأ واحد، غير أنّ ظهورهما يكون بشكلين مختلفين، فما يُشاهد مِنَ هذا الأب لا يتعدّى كونه ظهورًا لصفة الرحمة الّتي فيه، غير أنّ ظهورها يكون بشكلين مختلفين في تلكما الموقفين المختلفين، وهذا لا يعني أنّ الأب يمتلك صفتان متضادّتان.
لا يمكن أن يصدر مِنَ الشيء الواحد صفتان متضادّتان؛ فلا يمكن أن يصدر النور والظلام مِنَ المصباح، بل إنّ ما يصدر منه هو النور لا غير، غير أنّ هذا النور يظهر بأشكالٍ مختلفةٍ، فقد يظهر بلونٍ أزرقٍ في مكانٍ وأخضر في آخر وأصفر في ثالث، فهو يظهر بكافّة ألوان الطيف الشمسيّ ابتداءً مِنَ الأشعة تحت الحمراء إلى ما فوق البنفسجيّة، أي هناك مصدرٌ واحدٌ لجميع الألوان الّتي تراها العين، فلا اختلاف في حقيقة الألوان.
وهكذا الأمر بالنسبة إلى صفات الله الّتي نراها متضادّة، فنحن مَن يراها متضادّة، وإلّا فإنّ دائرة هذه الصفات تضيق كلّما اقتربت إلى مصدرها، فتراها تضيق أكثر وأكثر حتّى يتجمّع ألفُ صفةٍ وألفُ اسمٍ فيصبحوا عشر صفات، ثمّ تتجمّع الصفات العشر لتصبح صفتين، ثمّ تصبح صفةً واحدة؛ فتتجمّع كافّة الصفات في اسمَي العليم والقدير، اللذان يجتمعان في اسم الحيّ، الّذي يندكّ في اسم الله، وهو يندكّ بدوره في اسم (هُو) الّذي هو الذات [الإلهيّة] وهويّة الحقّ حيث لا يمكن أن يُتصوّر وجودُ ذاتٍ غير تلك الذات البسيطة والمجرّدة هناك.
إنّ القاعدة الحِكميّة القائلة: (الواحد لا يصدر منه إلّا الواحد)، هي قاعدة عقليّة يقوم البرهان على أساسها؛ فلا يمكن على سبيل المثال أن يصدر العدم عن ذات الله الّذي هو وجود، ولا يمكن أن يصدر الظلام عن النور، ولا الشرّ عن ذات الإنسان الخيِّر، ولا الفساد والخراب والقذارة عمّن تكون ذاته طاهرة.
إنّ الله واحد، وإنّ جميع الصفات الّتي تتنزّل عن ذات الله – بحسب اختلاف التعيّنات المتنوّعة – تعود بأجمعها إلى وحدة الذات، على أنّ ذلك يتمّ بصوَر مختلفة بحسب اختلاف المواطن؛ ففي إحدى المواطن تكون بصورة عِلم، وفي موطن آخر تكون بصورة قدرة، فنسمّي إحداها بالسمع والأخرى بالبصر.
نحن نرى أنّ أفراد النوع الإنسانيّ يُسمّون الإدراك بالعين بحاسّة البصر، والإدراك بالأذن بحاسّة السمع، وبذلك توجد لدى الإنسان صفتي السمع والبصر. أمّا بالنسبة إلى الله الّذي ليس له عينٌ ولا أذنٌ، فصفتا السميع والبصير اللتان تنسبان إليه هما بمعنى العليم، فلا فرق لديه بين صفتَي السميع والبصير؛ إذ السميع يعني: العالِم بالمسموعات، والبصير يعني: العالِم بالمُبصَرات؛ أي إنّ عِلم الله بما نُدركه نحن بآذاننا، يُعبّر عنه بالسميع، [وعِلم الله] بما نُدركه نحن بأعيننا، يُعبّر عنه بالبصير، فلا يوجد عند الله هيأتان تُسمّيان السمع والبصر.
أمير المؤمنين هو تجلّ للكبرياء والرحمة الإلهيّين
وهكذا يكون الحال بالنسبة لِمَن يندكّ في ذات الله ويصل إلى مقام الولاية الكلّية الإلهيّة. نحن عندما نسمع أنّ أمير المؤمنين هو قسيم الجنّة والنار۱، نتخيّل أنّ الابتسامة واللطافة والمحبّة ملازمة له في جميع الأحوال، [والأمر ليس كذلك] بل هو لطيف في موضع العفو والرحمة فقط، أمّا في موضع النقمة فهو ليس أرحم الراحمين، بل يُمسك بسيفه ويكون كما قال رسول الله عنه: «يقصَعُكم بالسيف»٢، أي إنّه يأخذ شجعانكم بالسيف ويسحقهم كما يُسحق النبات اليابس في فم [الدابّة]؛ فعندما يتجلّى مقام عظمة وكبرياء الله، ويقع السيف في يد علِيٍّ لن يكون هناك مكانٌ للعفو والرحمة.
إنّ أمير المؤمنين في موضع الرحمة يتواضع ويُظهر اللِّين والعطف بشكل لا يمكن أن يُتصوّر ما يفوقه، فهو عندما كان يمشي في أزقّة الكوفة ويقع بصره على مسكين يجلس جانبًا أو على يتيمٍ أو امرأةٍ عجوزٍ تحمل وعاء الماء على كتفها، كانت تنهمر دموعه وتسيل على خدّيه تلقائيًّا، فتراه يجلس مع الأيتام والفقراء ويأكل معهم ويلاطفهم مُبتسمًا مسرورًا. أمّا في الموقف الّذي يرى فيه شخصًا يريد أن يظلم هؤلاء، أو شخصًا مُشركًا بالله أو عاصيًا وظالمًا أو شخصًا يستحقّ الثأر، أو في موقفٍ سيضيع فيه الدين، فلن يكون حينئذٍ أرحم الراحمين ولن يتجنّب تلك المواضع متعلّلًا بكيت وكيت، كلّا، لا يمكن أن يكون الأمر بهذا الشكل.٣
قصّة (رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ)
عندما حاصر رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) الطائف، وجد أنّ أيّام الحجّ قد اقتربت، فكان مجبورًا على ترك الحرب لأداء مناسك الحجّ. وكان ذلك قد حصل بعد شهرين مِن فتح مكّة – إذ حصار الطائف كان بعد فتح مكّة – وبناءً على تعاليم الدين الإسلاميّ كان على المسلمين أن يؤدُّوا مناسك الحجّ في شهر ذي الحجّة، ولكي يمنعوا المشركين مِنَ الطوافّ حول الكعبة عُراة، كما كانوا يفعلون مِن قَبل، إذ كان المشركون برجالهم ونسائهم يطوفون حول الكعبة عُراة، بحجّة عدم جواز الطوافّ بلباس ارتكبوا فيه معصية، وغير ذلك مِنَ الأسباب٤.
[هذا مِن جانب، ومِن جانبٍ آخر] فقد كان بنو ثقيف مِن أعلام وعظماء وأثرياء الحجاز، وكان أغلبهم مِنَ الرجال الوِسام ذوي الثروة والنفوذ وقوّة الشخصيّة، وكانوا يعيشون في بيئة جميلة تتمتّع بوفرة المياه وعذوبتها وبلطافة الهواء وبساتين العنب، فقالوا للنبيّ: ارجع عنّا، وسنرسل منّا وفدًا يتفاوض معك على شروط إنهاء الحرب وإتمام الصلح. ولهذا انصرف عنهم النبيّ بعد أن حاصر الطائف سبعة عشر يومًا، وذهب إلى مكّة، فأدّى مناسك العمرة، وعَيّن عليها واليًا، ثمّ عاد إلى المدينة على الفور.
وقد كان الوفد الأوّل الّذي قدِم إلى المدينة مِن ثقيف يتمثّل برجلٍ واحدٍ فقط، ألا وهو عروة بن مسعود الثقفيّ۱. ولم يكن مجيؤه بعنوان موفدٍ مِن قومه فقط، بل جاء أيضًا مِن أجل أن يتحرّى أمر النبيّ بنفسه، ويتحقّق مِن كونه نبيًّا حقًّا أم لا، وهل هو مشرك يعبد الأصنام، وهل كان يعبد اللّات أم لا. لقد كان الرجل ذا شخصيّةٍ مستقلّةٍ، وكان حَسن التفكير والتدبير وله سعة اطّلاع.
كان صنم اللّات في الطائف، وصنم عُزّى في مكّة. والشعار الّذي رفعه أبو سفيان في حروبه مع النبيّ كان باسم العُزّى، فالنداء الّذي رفعه في معركة أُحُد هو: لنا العُزّى، ولا عُزّى لكم. فقال رسول الله لأصحابه، فليكن شعاركم في مقابل هذا: الله مولانا ولا مولى لكم. فكانوا يُردّدون ذلك الشعار باستمرار، وقد حمل أبو سفيان صنم العُزّى معه في معركة أُحد. ومِن عادة أهل الجاهليّة أنّهم في كلّ مرّة يعودون فيها إلى مكّة مِن أسفارهم، كانوا يذهبون إلى صنم العُزّى أوّلًا، فيطوفون حوله ويحلقون رؤوسهم ويقدّمون له الأضاحي، وذلك قبل أن يدخلوا بيوتهم. وهكذا فعل أبو سفيان بعد عودته مِن معركة أُحد إلى مكّة، حلق وذبح وطاف حول العُزّى ثمّ ذهب إلى بيته. على أنّ العُزّى ليس واحدًا مِن جملة الأصنام الثلاثمائة والستّين الّتي كانت موجودة في بيت الله، بل كان أهمّها على الإطلاق.
أمّا صنم اللّات، فكان في الطائف، ويُعتبر مِنَ الأصنام المهمّة للغاية عندهم، وهو مِنَ الأصنام القديمة. كان جميع أهل الطائف مِنَ المشركين وعبدة الأصنام، وليس بينهم أحدٌ يهوديًّا أو نصرانيًّا، إلّا أنّهم مِنَ المشركين وعبدة الأصنام المتعصّبين المستعدّين للقيام بكلّ شيء مِن أجل الصنم، فهم يعتبرونه ذا تأثير في حياتهم. لقد بلغت كثرة هداياهم مِنَ الذهب والمجوهرات (للات) حدًّا جعلهم يحفرون حفرة عند أقدام الصنم ليدفنوا فيها تلك الهدايا. وخلاصة الأمر أنّهم كانوا جميعًا ذوي شخصيّة قويّة ونفوذ، ومِن عبّاد الأصنام، سواء رجالهم ونسائهم، صغيرهم وكبيرهم.
كان عروة بن مسعود مِن عَبَدة الأصنام أيضًا، وثريًّا يمتلك البساتين، وله عشيرة كبيرة، كما أنّه رجل ذو فِكرٍ نافذ وشخصيّةٍ مؤثّرة، وقد ورد في بعض التفاسير۱ أنّ المقصود مِن آية: ﴿وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظيمٍ﴾٢، رجلان:
الأوّل هو رجل مكّة، وهو الوليد بن المغيرة، وهو والد خالد بن الوليد. لقد كان الوليد بن المغيرة مِن عبدة الأصنام، ولم يؤمن حتّى موته، وهو الرجل الّذي هجا النبيّ، وعندما عرضوا عليه آيات القرآن قال: دعوني أفكّر في شأنها. فأخذ القرآن معه إلى البيت، وبدأ يتمشّى في منزله ذهابًا وإيابًا [وهو يفكّر]، ثمّ وصل إلى نتيجة وهي أن يقول بأنّه سِحر. ولهذا نزلت آيات مِنَ القرآن في ذمّه: ﴿ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ ، فَقالَ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ ، إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ ، سَأُصْليهِ سَقَرَ ، وَما أَدْراكَ ما سَقَرُ ، لا تُبْقي وَلا تَذَرُ ، لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ ، عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ﴾٣، نعم، لقد نزلت جميع هذه الآيات بحقّه، وهناك [آية أخرى تتوعّده قائلة:] ﴿سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ﴾٤. فالوليد بن المغيرة هذا رجل مكّة العظيم، وصاحب شخصيّة متكبّرة، ذهب إلى بيته وأمضى ليلته حتّى الصباح واضعًا يديه خلف ظهره وهو يتمشّى ذهابًا وإيابًا يتفكّر في أمر القرآن، فوجد أنّ هذا الكلام ليس كلامًا عاديًّا ولا يمكن أن يكون مِن كلام البشر، ومع هذا، فعندما جاء قومه [إليه] قال لهم: إنّ هذا القرآن أعظم سحرٍ يمكن أن يؤثّر في الأفكار والنفوس، ومعنى [كلمة] يُؤثَر: هو أنّه سحر عظيم ومُختار ومهمّ، أي إنّه ذلك الشراب الأصيل٥.
أمّا الرجل الثاني المقصود في الآية الآنفة الذكر، فهو رجل الطائف العظيم عروة بن مسعود الثقفيّ، وهو رجل ثريّ وعظيم وبمثابة سلطان الطائف؛ فعندما حاصر رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) الطائف، كان عروة قد ذهب إلى بلدان بعيدة بحثًا عن المنجنيق والدبّابة، ليجلبهما إلى الطائف، فينصب المنجنيق على أسوار الطائف ويرمون بها جيش النبيّ. نعم، لقد كان الرجل على هذه الدرجة مِنَ الدراية٦.
إنّ كلّ ذلك ناشئ مِنَ الجهل؛ فعندما يكون المرء جاهلًا، ويعتقد بالعادات والتقاليد القديمة والموروثة، سيترسّخ هذا الاعتقاد في نفسه تدريجيًّا، ثمّ يصبح جزءً مِن كيانه وسريرته، وحينئذٍ لن يكون مستعدًّا للتنازل عن أيٍّ مِن تلك المعتقدات، بل سيدافع عنها بكلّ ما أوتي مِن قوّة، وسيكون حاضرًا للدفاع عنها حتّى بدمه. لقد كان إيمان جميع أهل الطائف بأصنامهم مِن هذا القبيل، متعصّبين في عبادتها. ولهذا السبب تشدّد رسول الله مع عَبدة الأصنام مِن أهل الطائف، وسنوافيكم بالخُطب الّتي أُرسلت إليهم.
لم يتمكّن المسلمون الّذين ذهبوا إلى الطائف مِن فتحها بالرغم مِن محاصرتها سبعة عشر يومًا، وذلك بسبب سورها العالي جدًّا، فكان عليهم؛ إمّا أن يطوّلوا وقت الحصار حتّى تنفذ مؤونة أهل الطائف، مع العلم أنّهم كانوا يمتلكون ما يكفيهم مِنَ المؤونة۱، أو أن يُحدثوا ثُقبًا في السور ليدخلوا منه.
كانت الأسوار تُفتح في تلك الأيام باستخدام الدبّابة أو العربة المدرّعة؛ وهي عبارة عن غرفةٍ صغيرة مصنوعة مِنَ الخشب الصلد والخفيف في نفس الوقت، حتّى يتمكّنوا مِن حملها ونقلها بسهولة، ولها سقف مِنَ الجلد السميك، كجلد الجاموس، يصل سمكه إلى سنتمتر أو سنتمتر ونصف في بعض الأحيان، وذلك لأنّ الجلد أقوى مِن غيره، فلا يؤثّر فيه ما يُرمى عليه مِن سهام ورماح مِن أعلى القلعة، فيستقرّ المقاتلون في تلك الحجرة الصغيرة المسقوفة بالجلد ويحرّكونها – وهي على هيئة الدبّابة – حتّى يصلوا إلى جدار القلعة، فيبدؤون بحفر الجدار ليومين أو ثلاثة أو أربعة أيّام حتّى يُحدثوا فُوّهة في الجدار يعبروا منها إلى داخل القلعة، فيدخل المقاتلون الشجعان إلى القلعة وتبدأ المعركة داخلها.
وهذا ما فعله المسلمون حينها، فقد أوصلوا الدبّابات إلى الحصن ليحفروا الجدار، فأخذ أهل الطائف يرمونهم مِن أعلى الحصن بالنار، ولكن هذه النار لم تكن مجرّد حطب مشتعل لحرق الجلد الّذي يغطّي الدبّابة، بل كانت أعمدةً حديديّةً محمّاةٍ بالنار يُلقُونها عليهم فتنزل على الجلد فتثقبه وتُحرقه. فلم يتمكّن المسلمون – في هذه الحالة – مِن التغلّب عليهم، وقُتل منهم عشرة أو اثنا عشر رجلًا، فقرّروا التخلّي عن هذه الطريقة لعدم نجاحها. كما أنّ القوم أرسلوا حينها إلى رسول الله أن: ارجع عنّا، وكُفَّ عن تدمير أصنامنا، وسنأتي لمصالحتك.
وبعد أن ذهب رسول الله إلى مكّة وأدَّى العمرة، عاد إلى المدينة، فجاءه عروة بن مسعود بعنوان سفير عن قومه مِن جهة، وليتحرّى أمر النبيّ بنفسه مِن جهة أخرى. فعرض عليه رسول الله الإسلام.. كان عروة بن مسعود رجلًا عاقلًا ورزينًا وذا اطّلاعٍ واسع.. جاء في بعض الروايات أنّه أسلم قبل أن يصل المدينة، وعندما وصل المدينة وزار النبيّ واطّلع على أحوال المسلمين أعلن إسلامه على الفور. وقد قال [عن الإسلام]: لا يذهب عنه ذاهب۱، [أي] لا يوجد طريق أو سنّة أفضل مِن هذا الطريق والسنّة، ولا يطوي أحد طريقًا هو أقوم ولا أحسن منه.
ثمّ استأذن رسول الله في العودة إلى قومه لإيصال رسالته إليهم، ودعوتهم إلى الإسلام، فقال له الرسول: إنّهم قاتِلوك. فقال: كيف يقتلونني يا رسول الله، وأنا أحبُّ إليهم مِن أعينهم، إنّهم يحترمونني ويقدّرونني لدرجة أنّهم يستشيرونني في كلّ أمورهم، فكيف يقتلونني والحال هذه؟! فسكت النبيّ ولم يسمح له بالذهاب. فانصرف وعاد إلى النبيّ بعد يومٍ أو يومين وقال: لقد ضاق صدري يا رسول الله، فاسمح لي بالذهاب لأدعو قومي، فهم لا يعرفون عن هذا الإسلام شيئًا، غايته أنّهم سمعوا بعض الأمور عن محمّد والقرآن، فهم يتصوّرون أنّ لك سلطنة وحكومة، وأنّك تجمع الناس حولك [لترأسهم]، فهم يجهلون أصل المسألة، نعم، إنّ هؤلاء المساكين لا يعرفون عن هذا الأمر شيئًا، فدعني أذهب إليهم وأدعوهم للإسلام. فقال له النبيّ: إنّهم قاتلوك. فقال: يا رسول الله، لأنا أَحبّ إليهم مِن أبكار أولادهم – أي أنا أَحبّ إليهم مِن أولادهم وبناتهم الأبكار الّذين هم قرّة أعينهم – وهم يدأبون بكلّ ما أُوتوا مِن قوّة على حفظي وصيانتي، فهذه مكانتي عند جميع بني ثقيف مِن أهل الطائف، وعند بني أميّة كذلك. فقال له النبيّ: إنّهم قاتلوك. فانصرف وعاد في اليوم التالي وقال: ائذن لي يا رسول الله بذلك. فقال له النبيّ: «إنّهم قاتلوك». فبقي واقفًا أمام النبيّ، فقال له النبيّ عندها: «إن شئت فاخرج».
فذهب إلى الطائف، وعندما وصلها لم يذهب إلى صنمهم اللّات، حيث كانت تلك عادتهم أن يطوفوا حوله ويقدّموا الأضاحي له ويحلقوا رؤوسهم، بل ذهب مباشرةً إلى بيته، فاعترض قومه على تصرّفه هذا بشدّة وقالوا: لماذا لم يؤدِّي مراسم العبادة والاحترام؟! أي لماذا أعرض عن اللّات وذهب إلى بيته – هذا معنى كلامهم – ثمّ قالوا: لعلّ السفر أجهده، أو كان لديه مانع وعذر في ذلك.
فزاره كبار قومه وعشيرته وجمعٌ مِن بني ثقيف، فحيّاهم بتحيّة الإسلام الّتي لم يسمعوا بمثلها مِن قَبل، فكانوا يحيّون بعضهم بتحيّة: أَنعِم صباحًا، أو أَنعِم مساءً. فشرع عروة بوعظهم قائلًا: ما الّذي تعبدونه أيّها القوم، ما هو اللّات وما هي الأصنام؟! تعالوا وتعرّفوا على محمّد، ففيما تفيدكم مدينتكم وقلعتكم هذه، إنّ الدنيا والآخرة بيد محمّد، لديه قرآن إن قُرئ على أيٍّ كان انجذب إليه، إنّ الآيات القرآنيّة تقول كذا وكذا، وقد حفظتُ السور القرآنيّة التالية فترة مكوثي في المدينة.. فشرع بقراءتها لهم.
[ثمّ قال:] وضْع المسلمين [في المدينة] كذا وكذا، وكان النبيّ يفعل في المسجد كذا، وطريقة صلاتهم هي بهذه الكيفيّة، فهذا الرجل ليس رجلًا دنيويًّا، بل هو رجلٌ ملكوتيّ، ودعوته ليست دعوةً ماديّةً، بل ما هي إلّا وحيٌّ مِنَ الله، إنّ منطق رسول الله منطقٌ محكم وقويم. ثمّ إن قرّرتم أن تبقوا في حصنكم هذا، فسيأتيكم غدًا ليُخرّب الحصن على رؤوسكم، ألم تروا كيف فتح مكّة بالأمس – فُتحتْ مكّة في شهر شوال، وبعد شهر أو شهر ونصف حاصروا الطائف، فكان الحصار في شهر ذي القعدة – فسيأتي قلعتكم هذه الّتي تتحصّنون بها. [ثمّ قال:] إن كنتم تعرفونني ناصحًا لكم وأمينًا، وإن كنتم تحترمونني على هذا الأساس، فها أنا أدعوكم لاعتناق الدين الإسلاميّ سريعًا، ففيه سعادة الدنيا والآخرة، وستتنوّر قلوبكم بنور الإيمان، وآيات القرآن تصرّح بكذا وكذا.
فبدأ القوم بتعنيفه وذمّه، فقالوا له: لقد خفتَ مِن محمّد وخَرِفت – بحسب اصطلاح هذه الأيّام يُقال قد هيمنت عليك شخصيّة محمّد – فيا للعجب! لم نكن نتصوّرك بهذه الحماقة! وهكذا، واجهوه بكلام لاذع إلى درجة أنّه تعجّب وقال: يا للعجب! كيف يواجهونني بمثل هذا الكلام؟!
فلنتصوّر الآن أنّ هناك ابنًا قد عاش مع [أبيه] مدّةً طويلةً مِنَ الزمن وهو يعرف الكثير مِن صفاته، فأتى يومًا وأخذ بتلابيب أبيه ووجّه له كلامًا لاذعًا، فبُهت الأب والتفت إليه قائلًا: ما الّذي يحصل، لماذا تفعل بي هذا يا بُنيّ العزيز؟! فيُجيبه الابن: أنت لست أبي، بل أنت قاتل أبي، وقد فعلت بأمي كذا وكذا، فأنت لست أبي، وأنا أريد أن أقتلك. فما الّذي يمكن أن يقوله الإنسان لمثل ذلك الصبيّ؟
هكذا كان حال عروة بن مسعود في ذلك الوقت، فأولئك الّذين كانوا يطيعونه طوال عمرهم ويرحّبون به وكانت كلمته نافذة بينهم، إذا بهم – وبسبب مخالفته لسننهم القوميّة، نعم إنّها السنن القوميّة لا غير، غاية ما في الأمر أنّ شكلها يختلف مِن قوم لآخر – ينسبون إليه الجهل والسفاهة والحماقة، وهو الّذي كان أعقل القوم ومحلّ استشاراتهم في جميع أمورهم، ولكن ها هم اليوم يقولون له: أنت سفيه.
والخلاصة [أنّه كلّما تكلّم معهم] لم يزدْهم كلامُه نفعًا، واجتمعوا عليه بأسرهم يوبّخونه مِن كلّ جانب، ثمّ رحلوا عنه غاضبين. أمّا هو، فانشغل بالصلاة وقراءة القرآن في بيته. وفي صباح اليوم التالي مِن وصوله، وعند أذان الصبح أخرج رأسه مِنَ النافذة وأذّن للصلاة، وبينما هو مشغول بالأذان رماه أحد أفراد عشيرته بسهم، فأصاب السهم يده ومِكحله، وما توقّف نزف الدّم حتّى فارق الحياة، وبينما كان يلفظ أنفاسه الأخيرة قال: أشهد أن لا إله إلّا الله وأشهد أنّ محمّدًا رسول الله وأشهد أن الدين الواقعيّ هو ما جاء به النبيّ مِن عند الله، أبلغوا رسول الله سلامي، وقولوا له: لقد صدقت عندما قلت: إنّهم قاتلوك، فقد قتلوني، غير أنّ هذه الشهادة في سبيل الإيمان وهذه التضحية مِن أجلك، لا أراهما إلّا نزرًا يسيرًا لا أهميّة لهما، ولو كانت لي أكثر مِن روحٍ لحقّ علَيّ أن أضحيّ بها في سبيلك.
وبينما عروة على فراش الموت، عزم اثنان مِن أبنائه وابن أخ له – وهم كانوا قد أسلموا في المدينة مِن قَبل – وبمعيّة عدد مِن أعوانهم، عزموا على الإمساك بقاتله والاقتصاص منه. فقال لهم عروة: لا تفعلوا ذلك، فأنا أتنازل عن دمي وحللتُ الرامي منه، وذلك لأن لا تنشب حربٌ فتتنازعوا فيما بينكم، فعليكم أن تدَعوا الخلاف وتفكّروا في سعادتكم، اتّحدوا فيما بينكم واذهبوا إلى محمّد وأعلنوا له إسلامكم. كما أوصى أن يُدفن مع الشهداء المسملين الاثني عشر الّذين استشهدوا وقت محاصرتهم للطائف، وقد دفنهم رسول الله في مكان يُقال له (موضع الشهداء)، فدفنوه هناك.
وما إن وصل خبر مقتله إلى رسول الله حتّى قال: «مَثلُهُ في أُمتي مَثَلُ مؤمن آل ياسين»۱.
قصّة (مؤمن آل ياسين)
وردت قصّة (مؤمن آل ياسين) في سورة (يس) بهذا الشكل: عندما أراد نبيّ الله عيسى بن مريم (على نبيّنا وآله وعليه السلام) أن يبلّغ دعوته في أنطاكية، وقبل قدومه إليهم أرسل لهم اثنين؛ فدعيا الناس إلى الإيمان، فكذّبوهما، جاء في سورة يس: ﴿إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ فَقالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ﴾ (أي إنّهم مرسلون مِن جانب النبيّ عيسى) ﴿قالُوا ما أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ ، قالُوا رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ ، وَما عَلَيْنا إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبينُ﴾ (أي عندما ننظر إلى قلوبنا نجد أنّ الله هو الّذي أمرنا بذلك وأنّنا رُسله، فلا حاجة لنا – والحال هذه – إلى شاهد [يثبت صحّة دعوانا لكم]، كما أنّ اثنان منهم، علاوة على أنّهما رُسل النبيّ عيسى، كانا نبيّين أيضًا) ﴿قالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ﴾ (أي إنّنا نرى وجودكم نحسًا علينا، فهل جئتم إلى هنا مِن أجل التخريب، فكلّ ما يحلّ بنا مِن سيلٍ وقحطٍ ومصائبٍ إنّما تحصل بسبب وجودكم بيننا) ﴿لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ﴾ (إلى أن وصل الحال إلى قوله تعالى:) ﴿وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدينَةِ رَجُلٌ يَسْعى﴾ (أي جاءهم رجل مِن أقصى مدينة أنطاكية، وهو مؤمن آل ياسين، لينصحهم) ﴿قالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلينَ ، اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ﴾ (أي لماذا تكذّبونهم، فكلامهم صائب ومنطقيّ، وأنا أقدّم لكم – علاوة على ذلك – دليلًا على هذا وهو أنّ كلّ مَن يقوم بعمل إنّما يقوم به طلبًا للأجر، ولكنّكم ترون أنّهم لا يطلبون منكم أجرًا على ما يقومون به، فقد جاؤوا لإبلاغكم الرسالة، إلّا أنّكم تتهجّمون عليهم وتذمّونهم وتسخرون منهم وتقابلونهم بكذا وكذا، أليس هذا دليلًا على أنّ عملهم لله، فهم مهتدون ويريدون أن يهدوكم إلى الطريق الصحيح. [وهكذا] حدّثهم ونصح لهم، ولكنّ قومه وعشيرته ضربوه وقتلوه، وقبل أن يُتّم كلامه سقط على الأرض جثّة هامدة، [فقال تعال بحقّه]) ﴿قيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ﴾ (أي إنّه ما إن سقط ميّتًا حتّى دخل مِن فوره الجنّة فـ) ﴿قالَ يا لَيْتَ قَوْمي يَعْلَمُونَ ، بِما غَفَرَ لي رَبِّي وَجَعَلَني مِنَ الْمُكْرَمينَ﴾ (أي ما إن فُتحت عينه [البرزخيّة] قال: يا ليت قومي يعلمون كيف غفر لي ربّي وتجاوز عن جميع سيّئاتي، وأيّة درجات ومقامات قد منحني، نعم، يا ليت هؤلاء القوم الجهلة والحمقى يعلمون بأيّ عِزٍّ ومقامٍ أتنعّم الآن.
إنّ هذه الآية واحدة مِنَ الآيات الصريحة الدلالة على وجود البرزخ، حيث تقول: ﴿قيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ ، قالَ يا لَيْتَ قَوْمي يَعْلَمُونَ﴾، فما إن سقط على الأرض ميّتًا حتّى دخل الجنّة البرزخيّة على الفور، فشملته كرامة الله، وجعلته يقول ذلك الكلام. إنّ البعض ينكرون البرزخ ويقولون إنّ الإنسان يبقى على حاله إلى يوم القيامة، فلا وجود للبرزخ بين هذا العالَم وبين العالَم الآخر۱.٢
كانت هذه قصّة (مؤمن آل ياسين)، أي المؤمن الّذي جاء ذكره في سورة (يسٓ)، والّذي كان مِن قوم النبيّ عيسى.
شمائل علِيّ الأكبر وقرابته مِن عروة بن مسعود
عندما سمع رسول الله بمقتل عروة بن مسعود قال: «مَثلُهُ في أُمتي مَثَلُ مؤمن آل ياسين». إنّه كان قد حضر عند رسول الله وآمن به، وعاد ليدعو قومه إلى الإسلام، فلم يقبلوا دعوته فقتلوه، وإن أردنا أن نعرف المزيد عن عروة بن مسعود؛ فهو جدّ علِيّ الأكبر، نعم، لقد كان جدّه الواقعيّ حقًّا، إذ أمّ علِيّ الأكبر الّذي استشهد في يوم عاشوراء، هي ليلى بنت [أبي] مرّة بن عروة بن مسعود الثقفيّ، أي إنّ ليلى كانت بنت [أبي] مرّة الّذي كان ابن عروة، فليلى هي حفيدة عروة. ولَمّا كانت زوجة عروة بن مسعود الثقفيّ هي أخت أبي سفيان الّذي هو مِن بني أميّة، لذا فإنّ علِيّ الأكبر هو مِن بني هاشمٍ مِن ناحية الأب، ويرجع نسبه إلى طائفتين مِن ناحية الأمّ؛ فهو ينتسب إلى بني أميّة مِن جدّته لأمّه، وإلى بني ثقيف مِن جدّه لأمّه.
كان معاوية يجلس [يومًا] مع جمعٍ مِن أصحابه، وكان ذلك في حياة الإمام سيّد الشهداء عليه السلام، فقال لهم: أريد أن أسألكم سؤالًا، وأريد منكم أن تُجيبوني عليه. فقالوا: سَلْ. قال: مَن هو أفضل رجل لإدارة جميع شؤون المسلمين في هذا العصر؟ فقالوا: الجواب واضحٌ، أنت أولى بها مِن غيرك. قال لهم: نحن الآن في مجلس خاصٍّ وخلوةٍ – حيث كان المجلس يضمّ حينها الضحّاك بن قيس وبُسر بن أرطأة وأمثالهم، فقال كلّ واحدٍ منهم شيئًا – ثمّ قال: لم تصدقوني القول. فقالوا له: أخبرنا أنت بذلك. قال: لا يوجد على وجه الأرض اليوم مَن هو أولى بها مِن عليّ الأكبر، ففيه شجاعةُ بني هاشم، وسخاءُ بني أُميّة، وزُهو بني ثقيف٣. أي إنّ فيه ثلاث خصال لم تجتمع في غيره: ففيه شجاعةُ بني هاشم، وسخاء بني أُميّة، وحُسن وجمال وبشاشة بني ثقيف.
لا شكّ أنّ معاوية كذب عندما قال: سخاء بني أُميّة. فقد ذكرت التواريخ بني أُميّة بالخِسّة والانحطاط، فما [يُقال عن سخائهم وغيرها مِن أمور هو] مِن سوء القدر، إذ لا يوجد مَن هو أسخى مِن بني هاشم، وفي ذلك شهادة التأريخ، فقد شُهِدَ بأنّهم كانوا يهبون الفراش الّذي تحت أقدامهم، ويبقون بلا فراش، أمّا معاوية فكان يجلس هناك حيث تُجمع إليه الأموال مِن كافّة البلدان الإسلاميّة، فيمنح الخمسين ألف درهم لكلّ مَن هو على شاكلته، ثمّ يَعُدُّ ذلك سخاءً! على كلّ حال، هكذا تصبح الأمور عندما تُقاس بهذا الشكل.
ولهذا السبب سعى ذلك الجيش في يوم عاشوراء بكلّ جهده أن يخطف عليّ الأكبر ليأخذوه معهم، مِن باب أنّه مِن أقارب يزيد، إذ كانت امرأة عروة أختَ أبي سفيان، فعَلِيّ الأكبر كان يرتبط بمعاوية ويزيد بقرابة ابن العمّة وابن الخال۱.
كانت تلك قصّة عروة، وقد انتهى به الأمر بذلك الشكل.
قصّة إسلام ثلاثة عشر نفرًا مِن الطائف
كان هناك رجلٌ مِن أهل الطائف يُدعى مالك بن عوف، وهو زعيم [قبيلة] هوازن، وكلّ ما حصل في معركة حُنين إنّما كان بتدبيره٢، كان رجلًا عجيبًا، كان مشركًا وفتّاكًا، يشبه أبا سفيان، [وقد أسلم في حادثةٍ بعد دعوة النبيّ له].
وهناك رجل مِن كبار المشركين يُقال له عمرو بن أميّة، جاء بعد تلك الأحداث إلى الطائف في أوّل وقت الظهر، فقصد بيت (عبد ياليل) وقال لهم: أريد أن أرى (عبد ياليل). فذهب الخادم وقال له: جاء فلان وهو يطلب لقاءك. فتعجّب (عبد ياليل) قائلًا: وما الّذي جاء به، فهو زعيم وعلى ألفٍ مِن أمثالي أن يذهبوا إليه بأنفسهم، فلا بدّ أنّه جاء لأمر مهمّ. فاستقبله وقال له: ما الّذي جاء بك؟ فقال: إنّ أمر محمّد قد عَظُم، وهو أمرٌ مقلق لنا، أتدري ما الّذي فعله محمّد؟ إنّه فتح مكّة وكسّر جميع أصنامها، ودانت له جزيرة العرب كلّها، وأنا لا أدري أيّ لسانٍ ونَفَسٍ لديه، فما إن يصل نَفَسه إلى شابٍّ حتّى ينجذب إليه كالمغناطيس، فلا بدَّ لنا مِن تدبير، فالويل لكم إن قعدتم في قلعتكم هذه واحتميتم بها، فذلك شأن النساء، عليكم أن تخرجوا مِن قلعتكم وتقاتلوه، وإلّا سيأتيكم غدًا ويهدّم عليكم القلعة. فقال له (عبد ياليل): أصبت، هذا ما كنتُ أفكّر فيه، نعم، إنّ الأمر كما تقول. قال عمرو: أردتُ أن أنبّهك على هذا الأمر، فلا تتأخّروا، وجهّزوا أنفسكم واجمعوا شبابكم والأموال، وافعلوا ما بوسعكم لاقتلاع شرّ هذا الرجل وإراحة العرب وسكّان الجزيرة العربيّة مِن شرّه.
ثمّ قرّر (عبد ياليل) أن يذهب مع اثنين مِن كبار بني ثقيف إلى المدينة، وانضمّ إليهم ثلاثة رجالٍ فيما بعد، ليفدوا على النبيّ ويشخّصوا الأمور بأنفسهم، ويوَقّعوا مع النبيّ صلحًا يتضمّن شروطهم؛ [فبعد أن يتفاوض الطرفان] ويُقدّم كلّ طرفٍ منهم بعض التنازلات، سيتمكّنون مِنَ التوصّل إلى توافقٍ وسيوَقّعون وثيقةَ الصلح، وبذلك يتجنّبون الحرب مِن جهة، ويَبقون على عبادة أصنامهم مِن جهة أخرى.
فتحرّك الرجال الستّة، ثمّ انضمّ إليهم المزيد حتّى أصبحوا ثلاثة عشر رجلًا، فقدِموا على المدينة بعنوان وفد الطائف، وفي طريقهم التقوا بالمغيرة بن شعبة، ذلك الرجل المعروف الحال، فسبقهم المغيرة وأوصل خبر قدومهم إلى رسول الله، ففرح النبيّ بذلك؛ كان النبيّ يفرح بكلّ وفدٍ يأتي المدينة، إذ لم يحصل أن جاء المدينة وفدٌ، إلّا رجع مسلمًا، فعندما كانوا يأتون إلى المدينة ويرون حال أصحاب النبيّ وكيفيّة صلاتهم وقراءتهم للقرآن وحال نسائهم ورجالهم، وكيفيّة التزامهم بالآداب والسنن، [كانوا يتأثّرون بما يرون].
نعم، لقد سُرّ النبيّ بمقدمهم كثيرًا، ولكن أين سيبيت هذا الوفد؟ قال المغيرة: سآخذهم معي إلى بيتي – كان المغيرة مِن أهل الطائف ومِن بني ثقيف – فقال له النبيّ: لا، لست بالرجل الأمين – ولهذا الأمر قصّة۱ – غير أنّه أصرّ على أخذهم إلى بيته، فأخذهم معه.
عندما رأى الوفدُ النبيَّ وكيفيّة صلاته وقراءته للقرآن، أسلم أحدهم على يد الرسول خفية، وكان شابًّا له مِنَ العمر عشرين عامًا. فبقي الوفد في المدينة أيّامًا، وكانوا أحرارًا في تحرّكاتهم يتردّدون إلى المسجد دون أن يُلزمهم أحد باعتناق الإسلام، فقد كان الهدف مِن مجيئهم هو الحوار والاطّلاع على الأوضاع. ثمّ طلبوا بعد ذلك فتح باب الحوار مع النبيّ، فقالوا له: اسمح لنا أن نُبقي على الرَّبّة يا محمّد، فربّتنا هي اللّات. وكانوا يصرّون على مطلبهم هذا، فردّ عليهم النبيّ بوجوب هدمها وتخريبها. ثمّ طلبوا منه أن يُعفيهم مِنَ الصلاة، فلم يقبل النبيّ ذلك وقال: لا خير في دينٍ ليس فيه صلاة.. فأسلموا في نهاية المطاف وعادوا إلى قومهم٢.