المؤلّفالعلامة آیة الله السيد محمد الحسين الحسيني الطهراني
المجموعةشرح دعاء الافتتاح
التاريخ 1397/09/07
التوضيح
في المحاضرة الثانية مِن شرح دعاء الافتتاح عرض سماحة العلّامة السيّد محمّد الحسين الحسينيّ الطهرانيّ (قَدّس الله سرّه) باقةً زاهرة مترشّحة مِن عَلياءٍ سَماهُ، تمحورت حول مواضع العفو ومواضع النقمة؛ وتشخيص مواضعهما – وهما حالتان مترشّحتان مِن صفتَي الجمال والجلال – يتوقّف على حسابات دقيق للغاية وواقعيّة جدًّا، وهذه الدقّة وتلك الواقعيّة هما ما نسمّيهما بالعدالة والدِّين الإسلاميّ. ثمّ وضّح سماحته كيف أنّ العدالة تُعرف بالنبيّ لا العكس، وكيف أنّ الإسلام دينٌ واقعيّ يُرِي الأمور الواقعيّة، في مقابل الجهل المُبتلى به الناس، والّذي يبنون عليه أمور حياتهم، وفي السياق نفسه بيّن سماحته المعنى الأعمّ للأصنام وعبادتها.
هو العليم
مواضع الرَّحمة ومواضع النَّقمة
شرح فقرات مِن دعاء الافتتاح – الجلسة الثانية
محاضرة القاها
سماحة العلاّمة آية الله السيّد محمّد الحسين الحسينيّ الطهرانيّ
قدّس الله نفسه الزكيّة
أعوذ بالله مِنَ الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلّى الله على محمّد وآله الطاهرين
ولعنة الله على أعدائهم أجمعين مِنَ الآن إلى قيام يوم الدين
«اللهُمَّ إِنِّي أَفْتَتِحُ الثَّناءَ بِحَمْدِكَ، وَأَنْتَ مُسَدِّدٌ لِلصَّوابِ بِمَنِّكَ، وَأَيْقَنْتُ أَنَّكَ أَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فِي مَوْضِعِ العَفْوِ وَالرَّحْمَةِ، وَأَشَدُّ المُعاقِبِينَ فِي مَوْضِعِ النّكالِ وَالنَّقِمَةِ، وَأَعْظَمُ المُتَجَبِّرِينَ فِي مَوْضِعِ الكِبْرِياءِ وَالعَظَمَةِ»۱، أي إنّك أرحم الراحمين في المواضع الّتي هي مورد للعفو وغضّ النظر والتجاوز عن الإساءة والستر والجود والإفاضة الّتي تتنزّل مِن جانبك، فرحمتك في هذه المواضع هي الراجحة على رحمة كلّ رحيم وهي الأفضل والأليق. أمّا في موضع النّكال والنَّقِمة – النّكال يعني الانتقام والمجازاة، والنَّقمة هي ما يقابل النِّعمة – وهو موضع الغضب والسخط، فأنت لا ترحم، بل تُعاقب أشدّ العقاب. أمّا في المواضع الأكثر شدّة، وهي المواضع الّتي يجري فيها التعرّض لكبريائك وعظمتك واستقلالك، فأنت فيها أعظم المتجبّرين لا تسمح فيها بخدش عظمتك بأيّ شكل كان، ولا تسمح فيها بخرقٍ بأيّ وجه مِنَ الوجوه؛ فتقف في وجه كلّ مَن يحاول أن يتكبّر قِبالك فتمرّغ أنفه في التراب.
مواضع العفوِ والشدّة
نلاحظ في هذه العبارة أنّه يقول: «أَيْقَنْتُ أَنَّكَ أَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ»، فجملة [أَنَّكَ أَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ] جملة إسميّة، والجملة الإسميّة تُستعمل للتّأكيد، وأداة (أنَّ) هي أداة تأكيد أيضًا، فهذان الأمران هما للتّأكيد. ثمّ إنّ الضمير المنفصل (أَنْتَ) جاء بعد كاف الخطاب والّتي هي اسم (أنَّ)، وهذا للتّأكيد أيضًا؛ وهذا يعني أنّ هذا الأمر مؤكّد بشدّة ومهمّ للغاية، بحيث جاء بعددٍ مِنَ التأكيدات قائلًا: أنا على يقين مِن أنّك وبكلّ تأكيد أرحم الراحمين في موضع العفو والرحمة، وأشدّ المعاقبين في موضع النكال والنقمة؛ هذا هو الحقّ بعينه، ونحن نرى ذلك بأعيننا، نعم، نحن أبناء البشر الّذين أُعطينا مقدار ذرّة مِن عِلم الله وحكمته، وأُعطينا مقدار قطرة مِنَ البحار والمحيطات – هذا التشبيه هو مِن ضيق العبارة وإلّا فالأمر أبعد مِن ذلك بكثير – نرى كيف نرحم في موضع العفو والرحمة، وكيف نُعاقب في موضع العقاب، ونحن نرى كيف نَسحَق مَن يحاول أن يمسَّ شخصيّتنا وعظمتنا، فهذا مقدار ما ظهر مِن كبرياء الله وعظمته فينا.
فلو عاقبنا في موضع الرحمة، لن يكون عملنا هذا صحيحًا، وسيعتبرنا جميع عقلاء العالَم مِنَ المجانين، لأنّ هذا الموضع هو موضع رحمة؛ مثلًا، لو أنّ أُمَّ فلانٍ كانت مريضة، وطلبت منه الماء في منتصف الليل، فعليه أن يرحمها وينهض مِن فراشه فورًا ويقدّم لها الماء، بل عليه أن يُحضّر قدح الماء ويضعه قرب رأسه، لكي يعطيها الماء فورَ طلبه، فلا يجعلها تنتظر، لأنّ ذلك مِن موارد الرحمة. أمّا لو عاقبها عندما طلبت الماء، فضربها وأهانها ورفع صوته عليها بالسبّ والشتم قائلًا: لماذا لا تدعينني أنام؟! لكان موقفه هذا موقفًا سيّئًا، ولحكمتْ عقولنا عليه بأنّه تصرّف سيّئ.
وفي المقابل، لو تسامحنا في الموقف الّذي يجب علينا أن نعاقِب فيه، كأن نضحك في وجه اللصّ الّذي اقتحم بيتنا وحاول التعدّي على شرفنا، وقلنا له: تفضّل وادخل البيت أهلًا وسهلًا بك، وتعال إلينا كلّ ليلة. فما الّذي سيقوله الناس عنّا حينئذٍ؟! ألن يقولوا: هذا مجنون؟! فهذا موقف يتطلّب منه أن يضربه ويسحبه على الأرض، ويفعل به كلّ ما بوسعه.
مِن مواضع الشدّة؛ التكبّر على المتكبّر
إنّ العالَم قائمٌ على هذا الأساس؛ فلو تعرّض رجلٌ متكبّر لشخصيّة إنسانٍ وحاول المساس بها – مِن حيث كونها شخصيّة إلهيّة لا مِن جانبها النفسيّ – فعليه أن لا يتواضع له ويرتمي على التراب أمامه ويسجد له، بل عليه أن يقف بوجهه في هذه الحالة قائلًا: أنا أفضل منك، فمَن تكون أنت؟!
«مَن تواضع لِغَنِيٍّ لِغِناه، فقَد كَفَر»۱ فعلى الإنسان أن يُظهر التكبّر أمام المتكبّر؛ فإن قال المتكبّر: أنا، فعليه أن يردّ بعشرة أضعاف ويقول: أنا، وعليه أن يقف بوجهه بكلّ صلابة ولا يتواضع له أبدًا.
عندما يقف المقاتلان في ميدان الحرب، يحاول كلٌّ منهما أن يُسقط خصمه ويقضي عليه، فتراه يتقدّم نحوه في الميدان بكامل كبريائه، فيقابله الآخر بكبرياء أيضًا؛ فيكونان – والحال هذه – أعظم المتجبّرين قبال بعضهما، فترى الأوّل ينادي: شخصيّتي، قَدْري، منزلتي، وكذا وكذا.. ويقول: سأمحيك عن صفحة الوجود، وأجعلك تتشحّط بدمك بضربة واحدة مِن سيفي هذا. فيقابله الآخر بالطريقة نفسها.
يُخطئ الكفّار بوقوفهم بوجه المسلمين، لأنّ ما يُظهرونه مِنْ أنانية مبنيّ على الكفر والشرك، أمّا ما يُظهره المؤمنون مِن كبرياء فهو صحيح وفي محلّه، لأنّه مبنيّ على الإيمان. بناءً على هذا، فالكِبر والتعالي صفات ممدوحة في الأصل، ولكن يجب إظهارها في مظهرها الصحيح.
عندما كان يتقدّم أمير المؤمنين للقتال ويطلب المبارزة، كان يرتجز قائلًا:
أنا الّذي سمّتني أمّي حيدره | *** | كليثِ غابات كَرِيه المنظرة٢ |
إنّ كلمة (حيدر) تعني أسد البادية، وهو مِنَ الأسود الّتي لا يستطيع الإنسان النظر إليها، فهي ذوات منظر مُخيف وكريه بحيث لا يسمح للإنسان النظر إليها؛ يُقال إنّه إذا وقع نظر البعض على أسد في الغابة، فلا حاجة أن يهجم عليه الأسد ويفترسه، لأنّ الإنسان سيسقط على الأرض ميّتًا لمجرّد رؤيته، إنّ لِعَين الأسد هيبةً تجعل الإنسان يموت مِنَ الخوف ويسقط بمجرد أن يقع نظره عليه، هكذا هي هيبة عين الأسد.
عندما يُمسك أمير المؤمنين السيف ويبرز لِعَمرو بن عبد ودّ، لن يقول له مثلًا: أنا الّذي أخضع وأخشع لله في سجودي، فسأخضع لك أيضًا. بل تراه يقول له: أنا أسجد لله هناك لأتمكّن مِن إظهار كبرياء الله وعظمته في هذا الميدان.
قال عمرو بن عبد ودٍّ لأمير المؤمنين [عندما برز له]: ارجع يا صبيّ، فأنا لا أريد أن ألوّث يدي بدمك، لأنّ أباك كان صديقًا لي. فقال له أمير المؤمنين: ولكنّني أحبّ أن أقتلك وأطهّر الأرض مِن مشرك مثلك۱، وأنا كذا وكذا.
الصفات المودعة في الإنسان وطُرق الاستفادة منها
مِنَ الواضح هنا أنّ المواضع تتفاوت؛ فلو كان إظهار الكبرياء والعظمة الشخصيّة مذمومًا مطلقًا، لَمَا أودع الله في الإنسان هذه الصفات. إنّ قوّة الشخصيّة والعظمة والرجولة والاستقلال، هي صفات غريزيّة، شأنها شأن صفات أخرى لدى الإنسان، كصفات الشهوة والغضب الّتي هي مِنَ الصفات الغريزيّة، وهي مستحسنة جدًّا. فمَن لا يمتلك صفة الغضب لا يعدُّ إنسانًا، ومَن لا يمتلك الشهوة لا يُعدُّ إنسانًا؛ فمَن لا يشتهي الطعام سيموت جوعًا، وإن افتقد الإنسان الشهوة الجنسيّة، فسينقطع النسل في العالَم، ومَن لا يمتلك صفة الغضب، لن يستطيع أن يُدافع عن عرضه وشرفه.
لقد كان النبيّ يغضب بحيث يحمرّ وجهه ويبرز عِرق جبينه وتنتفخ أوداجه مِن شدّة الغضب٢، فهل يمكننا أن نقول أنّ الغضب صفةٌ مذمومة؟!
علينا أن نعرف ما هي المواضع الّتي كان النبيّ يغضب فيها، كان النبيّ يغضب في المواقف الّتي تستحقّ الغضب؛ فعندما قام بتقسيم غنائم الحرب، الّتي لم يأخذ لنفسه منها حتّى فلسًا واحدًا، والّتي كانت لا تُحصى عددًا، جاء أحد الأنصار وقال: لم يعدل محمّد في تقسيم الغنائم. فسمعه ابن مسعود وقال: أقسم بالله سأبلّغ رسول الله بهذا الكلام. فجاء ابن مسعود إلى النبيّ وقال له: قال عنك فلان كذا وكذا. فغضب النبيّ كثيرًا وقال: لقد اتّهموا أخي موسى بأكبر مِن هذا، فصبر، فإن لم أعدل أنا فمَن يمكنه أن يعدل٣؟! يقول ابن مسعود: لقد غضب النبيّ بشدّة، وتغيَّر حاله كثيرًا إلى الحدّ الّذي جعلني أندم على فعلتي وأقول: ليتني لم أُخبر النبيّ بما سمعت.
كان يريد الرجل [الأنصاريّ] أن تُقسّم الغنائم وفق هواه وذوقه الشخصيّ، والحال أنّ هذا الأمر مختصّ بالنبيّ؛ فعندما يغنم المسلمون أموالًا، فلهم منها أربعة أخماسها، ويكون خمسها مُلكًا للنبيّ يُعطيه مَن يشاء، فيُعطي أبا سفيان مائة بعير مِن هذا الخمس، ويُعطي معاوية مائة بعير، ويُعطي مائة بعير لفلان وفلان مِنَ الّذين أسلموا بالأمس، حتّى لو لم يكن إسلامهم هذا صادقًا، بل لعلّهم كانوا بأجمعهم مِنَ المنافقين؛ فلماذا والحال هذه أعطاهم النبيّ مِن ذلك المال؟ قد أعطاهم لكونهم مِنَ ﴿الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ﴾٤و٥ وذلك لإسكاتهم وكفّ أذاهم ومنعهم مِنَ التواطؤ مع الكفّار وإشعال نار الحرب على الإسلام، وكان يُعطيهم ليجعل منهم رُؤَساء كتائب يُقاتل بها الكفّار ويكسر بواسطتهم الأصنام.
أَمَّر رسول الله خالد بن الوليد، ذلك الملعون، على جيش وأرسله لفتح المدن وتكسير الأصنام. وكثيرًا ما كان الرسول يُوكِل رئاسة الجيوش الّتي يُرسلها للقتال إلى مَن هم مِن هذا القبيل، فلا يمكن لسلمان الفارسيّ أن يكون على رأس الجيش، ولا أبي ذرّ ولا المقداد، فصحيح أنّهم يمتلكون الصفاء والنزاهة ومقام الطهارة، غير أنَّ مَن يفتح المدن ويكسّر الأصنام يُفترض أن يكون مِمّن يمتلك روحًا قتاليّة خاصّة، مثل خالد بن الوليد؛ وهو الّذي هجم بحِيله الخاصّة على المسلمين مِنَ الخلف في معركة أحد، وذلك بعد أن انهزم الكفّار وتحرّك المسلمون لجمع الغنائم، وقد كان [خالد بن الوليد] يترصّد المسلمين المرابطين على ثغرة الجبل، فعندما أخلى المسلمون تلك الثغرة، هجم عليهم وتمكّن مِن هزيمتهم۱؛ لهذا السبب كان النبيّ يُرسل أمثال هؤلاء الرجال إلى الحرب، فلولاهم لَمَا كان لديه مَن يمكن إرساله للقتال، وكان على النبيّ إسكاتهم [بإعطائهم شيئًا مِنَ الغنائم].
العدالة تُعرف بالنبيّ (صلّى الله عليه وآله) والإسلام دين الواقعيّة
لو كان النبيّ يريد أن يأخذ سهمه مِنَ الغنائم، كان باستطاعته أن يأخذ خمس جميع تلك الغنائم؛ ركب النبيّ أحد الجمال يومًا وأمسك بمقدار مِن وَبَر سنامه، وقال: أقسم بالله أنّ خمس هذا لي، وقد أعطيتكم إيّاه ولم آخذ لنفسي منه شيئًا ولو درهمًا واحدًا، وقد أعطيتكم كلّ أموال هذا الخمس، فعلى أيّ شيءٍ تؤاخذونني۱؟
هل يمكن أن لا يعدل النبيّ في تقسيم الغنائم؟! يقولون أنّ أبا سفيان مِن أقارب النبيّ، لأنّ أبا سفيان مِن بني أميّة، وبنو أميّة وبنو هاشم أبناء أعمام. وقد كان أبو سفيان العدوّ الأوّل للإسلام والسفّاك الأوّل، فلمّا أسلم كان على النبيّ أن يداريه، فاتُّهم النبيّ بتلك التهمة بسبب هذه المداراة.
وعلاوة على ذلك، مِن أين لنا أن نعرف معنى العدالة أساسًا، وما هي العدالة؟ ومَن قال أنّ العدالةَ حسنةٌ والظلمَ سيّئ؟ ألم نعرف ذلك مِن الله ورسوله، فهم الّذين بيّنوا لنا معنى العدالة، فلو لم نرَ كيان العدالة في النبيّ، فأين كنّا سنراه إذن. علينا أن نقيس العدالة على النبيّ، لا أن نقيس النبيّ على العدالة! فتلك العدالة الّتي نريد أن نقيس النبيّ عليها، هي ليست سوى تصوّراتنا عن العدالة، تلك التصوّرات الخاطئة تمامًا، وذلك لأنّ كلّ واحد يريد أن يصوغ العدالة وفق ميزان أفكاره، فيُخرّج [العدالة] بالشكل الّذي يتلاءم مع ذوقه الخاصّ.
عندما يُقاضي أحدهم شريكه أو خصمه في المحكمة، فيحكم القاضي له، ترونه يقول: يا له مِن قاضٍ عادلٍ. أمّا إن حكم عليه لقال: يا له مِن ظالمٍ لا يعرف العدالة. وهذا هو حال الجميع، فإن جاءك أحدهم وقال لك: إنّ الحقّ معك. لقلتَ له: أصبتَ وأحسنت. وإن قال: إنّ الحقّ ليس معك، بل مع رفيقك. لقلتَ له: إنّك مخطئ في حكمك هذا، فلعلّك نهضتَ للتوّ مِن نومك فلم تصحُ بعدُ لتدرك معنى ما تنطق به، أو لعلّك سهرت طويلًا الليلة الماضية ممّا جعلك تفقد التركيز، أو لعلّ هناك مصلحة ما تربطك بذلك الرجل، وإلّا كنتَ قد حكمت لي. بناءً على هذا، لا يمكن أن تكون العدالة مبنيّة على أساس أفكار وأوهام المرء، ولا يمكن أن يكون ذلك هو معيار العدالة، فهو لا يمثّل حقّ المطلب، بل الحقّ شيء آخر؛ إنّ الحقّ عبارةٌ عن واقع الأمر، سواء أكان ذلك الواقع يتلاءم مع ما يريده الإنسان أم لا.
إنّ أفضل الفلسفات في العالَم هي الفلسفة الّتي تكون مطابقة للواقع، أي تلك الّتي تُري الإنسان واقع الأمر. والحكيم هو الرجل الّذي إن أراد أن يُشير إلى هذا الماء ويصفه للآخرين يقول: هذا ماءٌ وُضِع فيه مقدار مِنَ الثلج، وتبلغ درجة حرارته كذا، والوعاء الّذي وُضِع فيه واقع باتجاه القبلة مثلًا. فهو بأبحاثه يُري الإنسان عين الواقع، أمّا إن عجز الحكيم عن إثبات الواقع في حالة مِنَ الحالات، ولم يستطع أن يستفيد مِنَ البراهين، فعجز عن إراءة الواقع للآخرين، فلن تكون الحكمة الّتي يمتلكها حكمةً تامّة. ولهذا السبب نرى أنّ الكثير مِنَ المدارس الفلسفيّة الموجودة في العالَم باطلةٌ تمامًا، وذلك لعجزها عن إثبات الأمر الواقع. إنّ السفسطائيّين والمشكِّكين والكثير مِمَّن لهم أتباع يُعتدّ بهم هذه الأيّام، هم على هذه الشاكلة، فهم يُظهرون الأمور على غير حقيقتها للناس.
إنّ الدين مبنيّ على أساس الواقع، فلا يمكن للنبيّ أن يكذب لأنّ نفس النبيّ هي العدالة بعينها، ولأنّ إدراكه هو عين الواقع، فلا بدّ عندئذٍ أن تُقاس جميع الواقعيّات عليه. فعندما يقول أحد أنّ النبيّ أو أمير المؤمنين لم يعدل، فهو إنّما يقول ذلك بسبب عدم توافق الحكم مع ميوله النفسيّة؛ فإن أراد النبيّ أن يُعطي أبا سفيان أو غيره مائة مِنَ الإبل، فله ذلك، فهو إنّما يتصرّف بأملاكه الخاصّة، وكذلك الأمر بالنسبة للإمام، فهو يستطيع أن يُعطي ما يشاء لِمَن يريد.
إنّ آية: ﴿إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكينِ وَالْعامِلينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ﴾۱ توضّح بعض مصاديق مصارف الزكاة، ومِن مصاديق صرفها هو الكفّار، ولكن لماذا؟ إنّها تُصرف لهم لاستمالة قلوبهم للإسلام. ومِن مصاديقها تأليف القلوب، فتُصرف على الكافر والمنافق لتقريب قلوبهم إلى الإسلام، أو لِيُدافعوا عن المسلمين إن تعرّضوا لهجوم مِنَ الأعداء، أو للانضمام إلى صفوف المسلمين لمقاتلة الأعداء، هؤلاء مَن يُطلق عليهم ﴿الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ﴾.
الّذي عَيّن موارد الصرف هذه هو الله، حيث بيّنها في القرآن، كما أنّ النبيّ هو الّذي جاء بالقرآن الّذي يقول: ﴿إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ﴾٢، فكيف يمكن لأحد – والحال هذه – أن يتّهم النبيّ بعدم العدالة؟! ألا يحقّ للنبيّ أن يغضب حينئذٍ ويقول: لقد أُوذي أخي موسى بمثل ما أُوذيت، فصبر.. كيف ينبغي أن يتعامل النبيّ مع هذا الصنف مِنَ الناس؟ إنّه سيتعامل هنا بموجب: «أَشَدُّ المُعاقِبِينَ فِي مَوْضِعِ النِّكالِ وَالنَّقِمَةِ».
لقد جاء النبيّ ليجعل جميع أمورنا مطابقة للواقع، فالرؤية الإسلاميّة هي رؤية تُرينا عين الواقع، كما أنّ مدرسة الولاية والمذهب الشيعيّ يعكس لنا عين الواقع بدون أيّ تغيير؛ فهو يصف الماء البارد الّذي يشربه الإنسان بأنّه بارد، فلا يمكنك أن تشربه بنيّة أنّه حارّ، ولا يمكنك أن تتعامل معه على أنّه ماءٌ ساخنٌ، وإن كان ذلك الماء ساخنًا، فلا يمكنك أن تتعامل معه في عالَم الواقع الخارجيّ على أنّه بارد. فهذا المذهب ينظر إلى الأمور الواقعيّة على واقعيّتها، أي على ما هي عليه.
إنّ أمير المؤمنين هو ذلك الرجل الّذي عُجِنت حقيقته وتطابقت مع حقيقة الأمر وواقعه، ولذا لا بدّ أن تُقاس كافّة حقائق العالَم عليه، فهو عين العِلم، والعِلم يعني الواقع، وهو ما يقع في الطرف المقابل للجهل الّذي يعني عدم إدراك الواقع؛ إنّنا نرى الآن هذه الأقداح أمامنا، فلنا عِلم بها، ولكن لا عِلم لنا بما وراء هذا الجدار، وذلك لجهلنا به.
الناس مبتلون بالجهل ويدفعون ثمن جهلهم
والناس مُبتلون بالجهل، فهم ينظرون إلى الأمور غير الواقعيّة على أنّها عين الواقع، وينظّمون كافّة أمورهم الحياتيّة على هذا الأساس، فما يعانيه هؤلاء الناس ويدفعون ثمنه إنّما هو جهلهم.
ترى الناس تقول: إن وضعتَ هذا القدح في هذا المكان، فسيجلب لك البركة والسعادة والرحمة، وإن وضعته في ذلك المكان، فسيجلب عليك النقمة والبؤس، وتنطبق السماء على الأرض، وتُخسف بك الأرض، وسيحلّ بك كذا وكذا. إنّ كلّ هذا الكلام كلام فارغ وكذب، فها نحن نضع القدح في ذلك المكان، فلم يسقط السقف علينا أو تُخسف الأرض بنا، لم يحصل شيء مِن هذا القبيل. [ويقولون أيضًا:] مَن دخل الحمّام ليلًا ستَفعل به الجنّ كذا وكذا، ومَن يقرّض أظافره يوم الثلاثاء سيموت أبناؤه، ومَن دعا ضيفًا ليلة الأربعاء سيحصل له كذا وكذا، ومَن أدخل إلى بيته سِلعةً ليلة السبت سيحصل له كذا.. نعم، صدّقوني، فبعض الناس تعتقد بمثل هذه الأشياء، [فتراهم يقولون:] إنْ مال غصن الشجرة إلى هذا الاتجاه فسيحصل كذا، وإنْ مال إلى [ذاك الاتّجاه] فسيحصل أمر آخر. والعجيب في الأمر أنّ الكثير منّا مبتلى بمثل هذا البلاء، مع أنّه عين الجهل بل هو الجهل المحض.
يُقال إنّه في إحدى ليالي السبت أنزلوا حِمْلًا مِنَ الجبس في بيت أحد الوجهاء، وما إن دخل الرجل بيته ورأى حِمْل الحمير ذاك، حتّى نادى على غلمانه بنقل هذا الجبس إلى خارج البيت، ليُعيدوه إلى بيته في الغد، لأنّه لا يمكن أن يدخل البيت شيء في ليلة السبت، وإلّا سيحلّ بهم كذا وكذا.. [أقول:] هذا هو الجهل!
[ويُقال أيضًا:] إنّ النجمة الفلانيّة إن صارت في هذا المكان سيحصل كذا، وإن صارت في ذاك المكان سيحصل كذا.. [أقول:] كلّ هذا لا يستند إلى أيّ أساس، ولكنّا نرى الناس تُعدّ تلك الأمور أمورٌ واقعيّة، وتنظّم أمورها الحياتيّة على أساسها، وتُقاتل وتُحب وتبغض على ضوئها.
ومِن تلك العادات والتقاليد الرائجة بين البعض، هي ضرورة عدم مصاحبة أمّ العروس لابنتها في ليلة زفافها، وإن فعلت تُقيم أمّ العريس الدنيا عليهم ولا تُقعدها، لماذا؟! لأنّ أمّ العريس ستموت إن تمّ الزواج ليلة الجمعة. [أقول:] ما علاقة هذا الأمر بموتها، بل الزواج في ليلة الجمعة مستحسن ومستحبّ۱، وهو شائع في الكثير مِنَ المجتمعات. فمِن أين جاءت هذه العادات؟! واللهِ لا عِلم لي بمصدرها، ولعلّ ذلك يعود إلى أنّ البعض كان يريد إجراء مراسم زفافٍ في ليلة جمعة، وكانت أمّ العريس غير راغبة في حصول الزفاف في تلك الليلة، فقالت ما قالت، ثمّ شاع كلامها بين الناس، فبنوا عليه بنيانهم.
مِنَ الأعمال المستحبّة الواردة في الروايات الصحيحة، هو أن يقرّض المرءُ أظافره يوم الخميس، ويدخل الحمّام وينظّف نفسه استعدادًا لصلاة الجمعة، فيُخصّص الإنسان يوم الخميس لمثل هذه الأعمال٢، استعدادًا لحضور صلاة الجمعة، وفي يوم الجمعة يغتسل ويذهب للصلاة. وعلى هذا يكون القيام بهذه الأعمال صحيحًا. أمّا ما لا يستند إلى أصلٍ كالقول بأنّ تقريض الأظافر ليلًا يوجب كذا وكذا، فهو مِنَ الجهل الّذي هو أسوأ مِن كلّ شيء٣، لأنّه بمثابة الصنم للإنسان، وعبادة الأصنام لا تختلف عن هذه الأمور في شيء، كلّ ما في الأمر أنّهم كانوا يصنعون أصنامهم مِنَ الحجارة أو الذهب والمجوهرات أو العظام [أمّا هذه الأصنام فتُصنع مِن شيء آخر].
لقد رأيتُ بنفسي بعض تلك الأصنام الصغيرة المنحوتة بشكلٍ دقيقٍ مِنَ العظام، يبلغ طولها مقدار عقدة الإصبع، وقد كانت مِنَ الدقّة في الصنع بحيث يستحّق صانعها آلاف الثناء على مهارته. ومِنَ الواضح أنّها أصنامٌ مصنوعة في الأزمنة القديمة حين كانوا يعبدونها ويعتبرونها آلهتهم، ويقدّمون القرابين لها، ويعتقدون أنّ ما يحلّ بهم مِن سخط أو لطف إنّما هو مِن هذه الآلهة، ويؤمنون بأنّ إهانتها مِنَ الكبائر.
كانت بعض الأصنام مثل اللات والعزّى تُصنع مِنَ الذهب أو تُنحت مِنَ الحجر، وكانت كبيرة تبلغ مقدار طول الإنسان، وكانت على هيئة الإنسان، فينصبونها ويُقدّمون لها القرابين ويَذبحون أبناءهم على أقدامها، ويعتبرون أنّ ما يحلّ بهم مِن سخط أو رخاءٍ صادر منها، فتراهم يقولون: قد غضبت الآلهة علينا، فلا بدّ أن نُقدّم لها كذا وكذا لترضى عنّا، وعلينا الامتناع عمّا يُسخطها.. كانوا يتصرّفون على هذا الأساس.
إن أمعنتم النظر، ستجدون أنّ بعض الأعمال الّتي يقوم بها الناس في هذه الأيّام هي مِن قبيل عبادة الأصنام؛ مثلًا، ما معنى أنّه يجب الخروج مِنَ البيوت في يوم الثالث عشر۱؟! فهل يختلف هذا الأمر عن عبادة الأصنام؟! عندما يتشاءم الإنسان مِنَ اليوم الثالث عشر، فسيراه يوم نحسٍ حقًّا، ومِن ثَمّ يحثّ الآخرين على ضرورة عدم العمل في هذا اليوم، لأنّ مَن يعمل فيه [بحسب توهّمهم] لن يكسب شيئًا، ومَن لا يخرج إلى الفلاة [في هذا اليوم] ويجمع العشب سيحصل له كذا وكذا.
أنا أقسمُ باللهِ أنّ يوم الثالث عشر لا يختلف شيئًا عن اليوم الثاني عشر واليوم الرابع عشر في واقع الأمر، وإن سألتم أيَّ حكيم في الدنيا لقال لكم إنّه لا يوجد أيّ تفاوت بينها؛ فهذا هو تسلسل الأعداد في جميع أنحاء العالَم، حيث يبدأ بالواحد ثمّ الاثنين والثلاثة وهكذا حتّى تصل إلى الثاني عشر والثالث عشر ثمّ يأتي بعدها الرابع عشر. فإن قمت بعدّ جنود الصفّ الأوّل مِنَ كتيبة عسكريّة، وكان عددهم ثلاثة عشر، وأردت ألّا تستخدم العدد ثلاثة عشر فقلت: إنّ عددهم يبلغ اثني عشر وواحدًا، أو أربعة عشر ينقصون واحدًا، أو خمسة عشر إلّا اثنين، أو عشرين ناقص سبعة، أو غير ذلك، فإنّ عددهم في النهاية هو ثلاثة عشر.. كما تراهم يغلقون أيضًا الغرفة رقم ثلاثة عشر في المستشفيات، ويتركونها خالية.
إنّ ما أقوله الآن حقيقة خارجيّة موجودة عندنا في بلدنا هذا، فهم يُغلقون الغرفة رقم (ثلاثة عشر) في المستشفيات ويقولون: إن دخَلها مريض، فلن يخرج منها حيًّا وسوف يموت.
إنّ كلّ ذلك يحصل مِن قِبل سادة التمدّن والحضارة، فالويل لأمّة زمام أمورها بيد أمثال هؤلاء الجهلة غير المثقّفين، فهم يعطلّون غرفة مِن غرف المستشفى لا لشيء إلّا لكونها تحمل الرقم (ثلاثة عشر). وتراهم يبنون قراراتهم ويصرفون الأموال على هذا الأساس، فيُعطون لليوم الثالث عشر أهميّة إلى درجة أنّهم يُغلقون محلّاتهم التجاريّة ويسافرون ويعطّلون نشاطاتهم اليوميّة ويشلّون سَيْر الحياة في البلد في هذا اليوم.۱
سوف يُحاسَب الإنسان على هذه المعتقدات، سيوقِفه اللهُ ويؤاخذه على قيامه بتلك الأعمال قائلًا: على أيّ أساس قمتَ بهذه الأعمال، هل جاء ذلك عن النبيّ أم أنّ الأئمّة أمروا بذلك؟! على أيّة قاعدة أو سنّة استندت في ذلك؟! أنتم قد اعتنقتم العقيدة الإسلاميّة ونهضتم لتطبيق الدين الإسلاميّ، فأيّة نهضة تلك؟! سيعاقبكم الله على هذه الأعمال وفقًا لـ «وَأَشَدُّ المُعاقِبِينَ فِي مَوْضِعِ النّكالِ وَالنَّقِمَةِ».
المعنى الأعمّ للأصنام وعبادتها
ما هي عبادة الأصنام؟ إنّ عبادة الأصنام [هي تلك العبادة] الّتي كان عليها أهل الطائف برجالهم ونسائهم، فكانوا يواظبون عليها ويحبّونها إلى درجة أنّهم أقاموا مراسم العزاء وخرجت نساؤهم إلى الشوارع حاسرات الرؤوس عندما أرسل النبيّ مَن يقوم بتحطيم أصنام الطائف٢. يُقال إنّه عندما تحلّ مصيبة – ليس بعدها مصيبة – بنساء العرب، كانوا يخرجنَ إلى الشارع بدون حجاب، حاسرات الرؤوس ناشرات الشعور، وقد حصل ذلك عندما قدِم رجلٌ مُرسل مِنَ النبيّ لتكسير الأصنام. فهل نختلف عنهم في شيء؟ [وإن كنّا لا نختلف عنهم] فلماذا نضحك على تصرفاتهم؟
بت ساختيم در دل وخنديديم | *** | بر كيش بد بَرَهمن وبودا را٣ |
[تقول: لقد صنعنا في قلوبنا أصنامًا، ثمّ جئنا لنضحك على المذهب القبيح للبراهمة والبوذيّين]
أي علينا أن لا نسخر ونستهزئ بدين البراهمة والبوذيّين، في الوقت الّذي نكون فيه نحن مِن عَبَدة الأصنام. إنّ عبادة الأصنام تعني أن يجعل الإنسان أمرًا لا حقيقة له شعارًا له، وأن يعتبره أمرًا واقعيًّا، ثمّ يتمسّك به ويُصرّ على أنّه أمرٌ واقعيّ. إنّ القرآن والنبيّ وأمير المؤمنين والدين الإسلاميّ ومذهب التشيّع تخالف هذه الأمور، على عكس أهل السنّة واليهود والنصارى – ولا أقصد هنا أديانهم الحقيقيّة – الّذين يؤيّدون تلك الأمور، لكون أديانهم ومذاهبهم [بعد انحرافها] بُنيت أساسًا على الأوهام والخرافات. إنّ معنى الخرافة هو الأمر الّذي ليس له أساس، ثمّ يُعتبر صحيحًا وأصيلًا وتُبنى على ضوئه المعتقدات.
لم يكن نهج أمير المؤمنين ولا نهج القرآن مبنيًّا على هذا الأساس، بل يُطلِق القرآن وصف الجاهليّة على أقبح الذنوب، تلك الجاهليّة الّتي تعني: مجموعة السُّنن والعادات الّتي يعمل الناس بموجبها جهلًا وتعصّبًا. لقد كان لمشركي قريش قبل الإسلام عادات وتقاليد مبنيّة على الجهل، فكانوا يعبدون الأصنام، ويصفّرون في طوافهم حول الكعبة، ويطوفون حولها عُراة۱،٢ وغير ذلك مِن سُننٍ وآداب جاهليّة، فجاء القرآن ليقول لهم: إنّ هذه جاهليّةٌ، وما دمتم قد أسلمتم، فعليكم أن تتركوا العمل بالسُّنن الجاهليّة، فتلك السُّنن تعود إلى الجهل، أمّا الآن فقد أصبح العالَم [بالإسلام] عالَم نورٍ.
لذا وصف الإسلامُ تلك السُّنن بأقبح تعبير، وذلك عندما سمّاها سنن الجاهليّة٣. فعندما تصف الروايات إحدى السُّنن بأنّها سنّةٌ جاهليّة، فلا بدّ مِن ترك ممارستها، وذلك لأنّ أقبح عملٍ يؤتى به ضدّ الإسلام هو العمل بسنّةٍ جاهليّة. [قال تعالى:] ﴿إِذْ جَعَلَ الَّذينَ كَفَرُوا في قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ﴾٤، أمّا فيما يتعلّق بالمسلمين [فقد قال تعالى:] ﴿فَأَنْزَلَ اللهُ سَكينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنينَ﴾٥، وذلك في مقابل تلك السُّنن الجاهليّة
عليكم أن تدقّقوا في هذا الأمر جيّدًا وهو: عندما طلبنا رحمة الله وعفوه، كان الله في المقابل أرحم الراحمين معنا، ومنحنا العزّة والعظمة والشوكة، فإن أهمل الناس ما حصلوا عليه، وعادوا إلى ممارسة تلك السُّنن الجاهليّة مِن جديد: كإحياء النيروز، والاحتفال، وتحضير المائدة السباعيّة، وتحضير الـ (سمنو)، و[التقيّد بعادات] اليوم الثالث عشر٦، وما إلى ذلك، وأماتوا عيدَي الفطر والأضحى بحيث لا يبقى لهما وجود إلّا في المدارس الدينيّة، ولا يبقى لهما سوى اسم مدفون في زوايا التأريخ، فسوف يستبدل الله حينئذٍ «أَيْقَنْتُ أَنَّكَ أَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فِي مَوْضِعِ العَفْوِ وَالرَّحْمَةِ» بـ «وَأَشَدُّ المُعاقِبِينَ فِي مَوْضِعِ النّكالِ وَالنَّقِمَةِ»، [وذلك لأنّ:] ﴿إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ﴾۷، أي إن قمنا بتغيير ما في أنفسنا سوف يغيّر الله أمورنا، وإلّا فلا؛ إن أصلحنا ما في أنفسنا، فسيُنزل الله نِعَمه ورحمته علينا مِن فوقنا ومِن تحت أرجلنا، وإن لم نفعل وقمنا بعكس ذلك، فسيُنزل الله نقمته وغضبه علينا، إذ لله يدان، وكلتا يديه يمين؛ فله يد الجمال حيث يكون «أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فِي مَوْضِعِ العَفْوِ وَالرَّحْمَةِ»، وله يد الجلال المتمثّلة في «أَشَدُّ المُعاقِبِينَ فِي مَوْضِعِ النِّكالِ وَالنَّقِمَةِ».
بعد هذا البحث سنخوض في بحث حول عبارة: «وَأَعْظَمُ المُتَجَبِّرِينَ فِي مَوْضِعِ الكِبْرِياءِ وَالعَظَمَةِ»، لنرى ما الّذي سنحصل عليه وإلى أيّة نتيجة سيوصلنا إليه هذا البحث.
اللهمّ صلِّ على محمّدٍ وآل محمّد