المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني
القسمالمناسبات الإسلامية
المجموعةالنصف من شعبان
التوضيح
ما الفرق بين مولد صاحب الزمان وبين سائر الأئمّة حتّى تختلف الحالة التي تحصل لنا في مجلسه؟
كيف نحيي ذكرهم وأمرهم عليهم السلام وما معناه؟
هل يجوز أن يذكر غيرهم في مجالسهم عليهم السلام؟
ما هي عقيدة الشيعة في الإمام الحيّ وبماذا تختلف عن عقيدة أهل السنّة؟
ما أثر حياة الإمام على الأحكام الشرعيّة والروايات والأعمال؟
كيف تعمل الولاية على الهداية في عصر الغيبة؟
ما هو الفقه الذي يجب أن يتّبع؟
هو العليم
اعتماد الدين على الإمام الحيّ
النصف من شعبان ۱٤٢۸ هـ
محاضرة ألقاها
آية الله الحاجّ السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ
قدس الله سره
أعوذُ بِالله مِنَ الشَّیطانِ الرَّجیم
بِسمِ الله الرّحمٰنِ الرّحیم
و صلَّی اللهُ عَلیٰ سیّدنا و نبیّنا أبیالقاسم محمّدٍ
و علیٰ آله الطیّبین الطّاهرین
و اللّعنة عَلیٰ أعدائِهِم أجمَعینَ
بحمد الله الرفقاء جميعهم أهل فهم ودراية وبصيرة بهذه المدرسة، وقد قضوا سنوات طويلة في خدمة أولياء الله وآثارهم، وهم مطّلعون جيّدًا على الفارق والمائز بين تعاليم هذه المدرسة وسائر ما هو على مرأى منّا ومسمع، وهذه المسألة هي التي تميّز بين الطرق والمناهج بين الناس. كلّي أمل أن يزيد الله في هذا الفهم والدراية يومًا بعد يوم، وأن يروينا من الماء المعين لهذه المدرسة، ويضاعف من بصيرتنا في أمورنا: والبصيرة في ديني. ۱
ما الفرق بين مجلس ميلاد إمام الزمان وبين مجالس سائر المعصومين عليهم السلام؟
اليوم يوم ولادة إمام الزمان عليه السلام الإمام الحجّة بن الحسن المهديّ أرواحنا لتراب مقدمه الفداء من عام ۱٤٢۸ للهجرة. نحن في كلّ سنة نقيم مجلسًا في مثل هذا اليوم بمناسبة ولادة هذا المولود المبارك، ونجتمع ونتحدّث ونعلن الأنس والفرح والسرور والانبساط.
فما الفرق بين هذا المولود وبين سائر الأئمّة حتّى تختلف الحالة التي تحصل لنا في مجلسه عن الحالة التي تحصل في مجالس سائر المعصومين عليهم السلام؟ هل فكّرنا يومًا بهذا الأمر وأنّه ما الفرق بين مجلس الولادة في هذا اليوم وبين ميلاد الرسول الأكرم مثلاً أو أمير المؤمنين؟ رغم أنّ هؤلاء أرفع درجة، فالنبيّ صاحب مقام الولاية الكبرى وأب جميع الأئمّة، وأمير المؤمنين أيضًا أب جميع الأئمّة، وهكذا الإمام الحسن والإمام الحسين والإمام السجّاد عليهم السلام، ولكن لماذا لا تختلف هذه الحالة وهذه الأجواء التي تحصل اليوم لشيعة أهل البيت عن سائر الأيّام والموالد؟ ما هو ذلك الإحساس الداخليّ الذي فرّق بين هذا المجلس وبين سائر المجالس رغم أنّ في جميع المجالس إحياء للذكر؟
كيف نقيم مجالس إحياء ذكر أهل البيت عليهم السلام؟
نعم، لا بدّ أن يكون ذكر الولاية وإقامة موازين ومباني الولاية في جميع هذه المجالس، وإلا فلن يكون لها سوى صورة ظاهريّة ولن يكون لها أثر كبير. إذا ما أقمنا مجلسًا للإمام الحسين وقرأنا بعض الأبيات الشعريّة وقرأنا أرجوزة وكرّرها الناس، ثمّ قلنا لقد كان سيّد الشهداء هكذا وكانت له بركات وخصوصيّات معيّنة، مثلاً كان أحد الملائكة مغضوبًا عليه وبواسطة ولادة سيّد الشهداء أعاده الله إلى مكانته ومنزلته الأولى.٢ فما علاقتنا نحن بما جرى لذلك الملاك؟! أو إذا قلنا إنّ أمير المؤمنين اقتلع باب خيبر وكان كلّ ترقّي الإسلام وتكامله بواسطة أمير المؤمنين، فلئن كان أمير المؤمنين قد قام بذلك قبل ألف وأربعمائة سنة ومضى فما علاقته بنا وبحالتنا نحن؟!
هذه المجالس التي ورد كلّ ذلك التأكيد عليها أن رحم الله من أحيا ذكرنا۱ لا تعني أن لا تجلسوا في البيوت بل تعالوا إلى مجالس شهادتنا أو ولادتنا واجلسوا وانظروا هكذا ثمّ انصرفوا! أفهل يكفي أن يصيبنا الحزن في مصيبة أهل البيت وإن شاء الله يكتب لنا الثواب على ذلك؟ بهذا المقدار؟ أم لا بل يقول الإمام إنّ الجلوس في الدار والنظر إلى الأبواب والجدران لا يكفي، بل لا بدّ من إقامة مجالس تُحيُون فيها ذكرنا! فما معنى إحياء ذكرنا هذا؟!
إنّ إحياء الذكر كما تقدّم مرارًا وتكرارًا للرفقاء٢ ليس فقط بيان المصيبة وبيان حال الولادة. فما هو تأثير كون قضيّة إمام الزمان هكذا وأنّه كان في حالة خاصّة علينا؟! وكذا كون ولادة كلّ واحد من الأئمّة ذات حالة خاصّة وأنّهم ولدوا وعاشوا في هذه الدنيا قليلاً أو كثيرًا حسب تقدير الله وعملوا بواجبهم وبتكليفهم ثمّ مضوا؟! ما هو أثر الاستئناس بهذا الكلام كما هو على مرأى ومنظر منّا في المجالس والمحافل؟! فما فائدة ذلك؟! هذه المجالس التي تقام، ولكلّ إنسان مجلسه الخاصّ، وكلّ مجلس ينتسب إلى شخصيّة وإلى عنوان، كلّ شيء موجود فيها إلا ذكر الإمام! كلّ شيء من الاعتبارات والتعيّنات والتوهّمات والألقاب والعناوين والمدائح والتمجيدات! فما فائدة ذلك وما نتيجته؟! أهذا هو معنى إحياء الذكر؟! أهذا هو معنى المحافظة على ذكرهم؟! أم أنّ مراد الإمام عليه السلام من إحياء الذكر هو أمر آخر؟!
إنّ إحياء ذكر الإمام عليه السلام ومبادئه يعني إحضار نفس مدرسة الإمام وروحها وحقيقتها إلى المجلس واتّباع هذه الأمور، والالتزام والتطبيق والانقياد أمام حضور الإمام، هذا المعنى هو معنى إحياء الذكر.٣
نحن في المجلس الذي نقيمه للإمام الباقر لا يمكننا أن ننقل بدن الإمام؛ لأنّ ذلك البدن في مقبرة البقيع ولا يقبل الانتقال، لذلك فإنّنا نأتي بروح الإمام عليه السلام، وطبعًا لا بمعنى إحضار روحه، بل من باب المجاز وضيق العبارة نقول ذلك، أي بإرادتنا هذه تحضر روح الإمام عليه السلام ونفسه وذلك الجانب الجبروتي والمكلوتي واللاهوتي للإمام عليه السلام والذي هو ولاية الإمام، تأتي وتحضر في مجلسنا وإلى جانبنا. هذا المعنى هو معنى إحياء الذكر. وبما أنّ الإمام قد جاء فإننّا نخاطب الإمام الباقر عليه السلام ونقول: لقد حضرتَ في هذا المجلس فنحن في خدمتك وتحت أمرك! وهذا المجلس مرتبط بك، لا مرتبط بي ولا مرتبط بالذين يعملون هنا ويتعبون أنفسهم، بل هذا المجلس مرتبط بالإمام الباقر عليه السلام فقط وانتهى الأمر!
بناء على ذلك ذلك، فمن هو الذي ينبغي أن يثنى عليه ويمجّد في هذا المجلس؟! هل هناك معنى لأن نقول ادعوا لسلامة فلان؟! إن كان الإمام الباقر عليه السلام حاضرًا في هذا المجلس فهل كنّا سنجرؤ أن نرتكب أمثال هذه الأخطاء؟! لو كان سيّد الشهداء حاضرًا في هذا المجلس فهل كنّا نجرؤ أن نقوم بهذه التمجيدات والمدائح المتداولة للشخصيّات؟! فإذن نحن نكذب إذ نقول إنّ المجلس لسيّد الشهداء، نحن نكذب إذ نقول إنّ المجلس مجلس الإمام السجّاد! نحن نكذب إذ نقول إنّ المجلس للإمام الصادق! المجلس لنا نحن، غاية الأمر أنّنا لا نمتلك شيئًا لكي ندعو الناس إلى أنفسنا، فنستعين بالأئمّة ونأتي بهم ونستعملهم كوسائل ومساعدين لرغباتنا وتخيّلاتنا ونستعمل النبيّ وسيّد الشهداء والإمام الباقر كأدوات!
لقد كنت في مكان ما خارج إيران، وبينما كنت أعبر من جانب الطريق رأيت مجلسًا كبيرًا وضخمًا فيه الكثير من المشاركين، جلست وقلت دعني أرى ماذا يقول الخطيب في هذا المجلس، ويبدو أنّ المجلس كان في أواخره، فقضى ربع ساعة كاملة من حديث مجلسه عن المؤسّس للمجلس، والحال أنّ المجلس كان للإمام موسى بن جعفر! هذا ليس مجلس موسى بن جعفر، إنّه مجلسي أنا! أنا لا يمكنني أن أقول: تعالوا أيّها الناس واجلسوا عندي وامدحوني وأثنوا عليّ وارفعوني وأعطوني مقامًا ومرتبة؛ لأنّه لا أحد يصغي إلى كلامي، يقولون: من أنت؟! أنت لا قيمة لك أبدًا! فماذا أفعل إذن؟! أستفيد من شؤون إنسان أرفع منّي!
هذه حقائق مهمّة أنقلها إليكم، أنا أرى أنّي لا يمكنني أن أقدّم نفسي إلى الناس، ولا شأن لي ولا يمكن أن أشدّ الناس، لذلك فإنّي أستفيد من شأن إنسان آخر، مثلاً أنظر فأرى أن والدي العلاّمة الطهراني كان رجلاً جليلاً، كان صاحب مؤلّفات، وكان له صيت وشهرة وأمثال ذلك، عندها أقول: تعالوا إليّ، أنا ابن العلاّمة الطهراني والحقائق عندي! تعالوا وخذوا منّي الحقائق التي تريدونها! وأنتم أيضًا وأملاً في الحصول على حقائق ذلك الجليل تأتون وتقولون: بما أنّه ابنه فلننظر ماذا يقول. هذه القضيّة قضيّة حقيقيّة وليس بيني وبينكم فيها أيّ فرق، وعلينا أن نلتفت إلى أنفسنا من هذه الجهة وعلينا أن نبحث عن أساس هذه المشكلة، إن كان على الإنسان أن يتّبع الميول والتخيّلات فلن يكون هناك فارق بين هذا المجلس وغيره وسيكونان سواء!
لقد كان خطيب ذلك المجلس يتحدّث ربع ساعة كاملاً حول خدمات ومساعي وآثار ذلك الرجل فيقول: لقد بنى في مكان كذا مسجدًا وفي مكان كذا حسينيّة! لقد كانت ذكرى شهادة الإمام موسى بن جعفر وكان المجلس لموسى بن جعفر، ولكنّه كان يقول فقط إنّ فلانًا قام بهذه الأعمال ومدّ الله ظلّه وحفظه حتّى ظهور المهدي بل حتّى يوم القيامة!
جلست هناك حوالي نصف ساعة وفكّرت قليلاً في نفسي وأنا إلى جانب الطريق هناك، فقلت واقعًا ألسنا نحن هكذا أيضًا؟ إذا أردنا أن نفكّر في أنفسنا ونهتمّ بها ألسنا نحن أيضًا هكذا؟! فنحن أيضًا مثلهم، غاية الأمر أنّ ذلك بنحو آخر وبطريقة أخرى! هل نحن لدينا واقعًا في علاقاتنا ذلك الخلوص؟ أم لا بل نحن هكذا وإن لم يكن بهذا النحو وكان بنحو آخر. تختلف الأشكال ولكن لا قدّر الله أن يكون ذلك الهدف وذلك المسير وتلك الغاية وذلك المقصد مشتركًا مع هذه المقاصد ويصل معها إلى نقطة واحدة، هي نقطة تثبيت الأنانيّة وارتقاء الفرعونيّة والاستقلال في وجود الذات! لا قدّر الله أن نصل جميعًا إلى هذه النقطة يومًا ما! الأمر عجيب جدًّا!
يقول الإمام عليه السلام: رحم الله امرءًا ووالديّ امرئ يقيم مجلسًا ويطرحنا نحن فيه، لا أن يطرح نفسه فيه، لا أن يقولوا فيه ادعوا لسلامة فلان وصلّوا على محمّد وآل محمّد لأجل فلان، ولا أن يعدّدوا الأعمال التي قام بها، أفهل قام بها من جيبه الخاصّ حتّى يتباهى بها دائمًا أمام الناس ويخفي أعمال الآخرين؟! أهذا هو المراد من إحياء ذكر الأئمّة؟! هل المراد هو أن تأتوا وتجلسوا وتقيموا مجلسًا وتوزّعوا الإعلانات على جدران المدينة أنّه سيقام في ذاك المكان منها مجلس فتفضّلوا أيّها المؤمنون فإنّ فلانًا هو الخطيب المحاضر؟! أم لا، بل أقيموا مجلسًا وليجلس أربعة أو خمسة لا أكثر وليدرسوا بدقّة حقائق ومعتقدات الإمام وليلتزموا بها؟ هذا المجلس هو مجلس إحياء ذكر الإمام وإحياء ولادة الإمام عليه السلام.
لماذا نحتفل بولادة إمام الزمان عليه السلام؟
اليوم هو يوم ولادة إمام الزمان عليه السلام، فلماذا نحتفل نحن اليوم؟
لكي نبقي هذه الحقيقة حيّة في قلوبنا، وهي أنّ لدينا إمامًا حيًّا وصاحب اختيار حيًّا! لقد كان رسول الله صاحب اختيارنا، ولكنّه فارق الدنيا. وكان أمير المؤمنين إمامًا لنا ولكنّه فارق الدنيا، ورغم أنّ ولايته لا تختلف بين الموت والحياة، ولكن في رؤيتنا الناقصة وغير المتكاملة والبسيطة هناك ستار قد وقع بيننا وبين أمير المؤمنين، وإلا فولاية عليّ وإمامة أمير المؤمنين ليس فيها حياة وموت! إنّه البدن هو الذي يسقط! فقد قال أمير المؤمنين عليه السلام في الساعات الأخيرة من عمره: كنت جارًا جاوركم بدني أيّامًا۱ لقد كان معكم بدني أمّا أنا فلم أكن معكم! كنتم تنظرون إليّ ولكن لم تكونوا ترون سوى بدني! هؤلاء الذين كانوا ينظرون إليّ هم ميثم وحبيب ورشيد وعمّار وأويس وسلمان، فهؤلاء هم الذين كانوا ينظرون إليّ، ولكن أنتم جميعكم كنتم تنظرون إلى بدني وتظنّون أنّكم تنظرون إلى عليّ: جاوركم بدني. هؤلاء الذين كانوا ينظرون إليّ كانوا ينظرون إلى ولايتي وإلى نفسي القدسيّة والملكوتيّة وهذه لا فرق فيها بين الحياة والموت. وعندما جاء عزرائيل لم يقبضها، بل كان عمل عزرائيل هو أن جعل بيني وبينكم حجابًا. متى يتمكّن عزرائيل أن يصنع بي شيئًا؟! متى يتمكّن عزرائيل وتكون له القدرة أن يأخذ منّي الروح؟! إنّ جميع عالم الملك والملكوت ينال القدرة والحياة من ولايتي، فكيف يتمكّن عزرائيل من قبض روحي؟! ما هذا الكلام؟! إنّه يحرمكم أنتم من رؤية بدني لا أكثر: جاوركم بدني.
عقيدة الشيعة في الحضور الخارجي والسيطرة الولائيّة لإمام الزمان على جميع الأمور
ولكن في الوقت نفسه فإنّ هذه الحقيقة مخفيّة عنّا فنقول: لقد استشهد أمير المؤمنين قبل ۱٤۰۰ عام، واستشهد الإمام الحسن واستشهد الإمام الحسين و… ولكن لا يمكننا أن ننكر إمام الزمان ونقول إنّه لا وجود له! فإمام الزمان حسب مدرسة التشيّع له وجود حيّ وهو بيننا ويتردّد ذهابًا وإيابًا، غاية الأمر أنّنا لا نراه.٢
ولهنري كوربان العالم الفرنسيّ، عبارة جذّابة جدًّا، وأنا أتعجّب أن كيف يطّلع بعض هؤلاء على أسرار ولطائف، إنّه يقول حول إمام الزمان عليه السلام:
المدرسة الوحيدة في الدنيا والتي تتمتّع بالنشاط وبالروح وبالحقيقة والواقعيّة والدوام هي مدرسة التشيّع، لأنّ هذه المدرسة قائلة بوجود صاحب ولاية وصاحب اختيار أرفع منها.۱
فالمدارس هنا كثيرة مع غضّ النظر عن أنّ اليهود والنصارى وأهل السنّة أيضًا يعتقدون بوجود إمام الزمان، غاية الأمر أنّه ليس في الزمان الحاضر، فأهل السنّة يعتقدون بظهور إنسان كهذا في وقت يريده الله. والروايات التي يذكرها أهل السنّة في كتبهم حول إمام الزمان عليه السلام إن لم تكن أكثر من الروايات التي في كتبنا نحن الشيعة فهي ليست أقلّ منها.٢
غاية الأمر أنّهم يقولون أنّه سيولد عندما يشاء الله.٣ فهم يخالفوننا في هذه المسألة فقط، ولكن في أغلب كتب أهل السنّة يذكرون ذلك، وجميعهم قائلون أنّه سيولد من نسل النبيّ ورسول الله مولود يسمّى المهديّ سيظهر ويملأ الدنيا عدلاً. فهذا موجود في أغلب كتبهم ولكن يقولون إنّه سيولد ولم يولد بعد.
يقول الشيعة: كلاّ بل ولد قبل ألف ومائتي سنة مولود كهذا وله خصوصيّات معيّنة، والآن هو موجود وحيّ.٤
هذا المعنى هو معنى علينا أن ندركه، وندرك الفارق بين هذا المجلس وسائر المجالس. فالمجلس المرتبط بإمام الزمان عليه السلام على الشيعي أن يشعر في نفسه بصاحب اختياره وأن يقوّي شعوره بإنسان حيّ ربّما يكون الآن بيننا! هو موجود وهو بيننا ومعنا وزمام أمورنا بيده. فهذا يختلف كثيرًا عمّن هو بيننا ولكنّه غادر إلى بلد آخر يعيش فيه، نحن نشعر ونعلم أنّه حيّ والآن هو مثلاً في إفريقيا وأميركا، ولكن ليس بيننا وبينه أيّة صلة ولا شأن لنا به. كما أنّ أمير المؤمنين في حياته مارس إمامته وولايته ونفّذ إرادة الله ومشيئته إلا أنّ الفرق فقط هو في أنّ أمير المؤمنين كان يُرى في الأزقّة والشوارع ولكن هذا لا يُرى، هذا هو الفرق فقط.٥
هذا الإحساس يسبّب للإنسان هذه النتيجة وهي أنّ كلّ عمل نريد أن نقوم به نرى أنّ هناك ناظرًا ينظر، وكلّ كلام نريد أن نقوله، نشعر أنّ هناك ناظر وسامع يسمع هذا الكلام، وكلّ خطور يخطر في أذهاننا نشعر فوراً أنّه هو يعلم به. هو عالم بالزوايا والخفايا وبأسرار النفس والوجود والفعل والانفعال وأعمالنا اليوميّة في جميع آناء الليل وأثناء النهار. هذا المعنى هو معنى حياة الإمام وحضوره عليه السلام بين الشيعة.٦
معنى الحضور الذي يشعر به الشيعيّ هو أنّه مثلاً الآن أثناء كلامي ألتفت إلى ما يخرج من فمي أن لا يسمعه فيؤذيه، لأنّه حيّ وهو هنا حاضر. أو عندما أسير في الشارع ألتفت أن لا أؤذي أحدًا بحيث إذا سمعني الإمام تأذّى منّي، لأنّه يسير إلى جانبي، أو عندما أكون في الخلوة لا أقوم بعمل يسخطه، لأنّه جالس إلى جانبي يراقبني وأنا في خلوتي. هذا هو معنى حضور الإمام عليه السلام.
إذا قبلنا بهذا المعنى وكانت لنا هذه الحالة فهل نستطيع أن نتكلّم بأيّ كلام؟ هل نستطيع أن نثني من على المنبر على أيّ إنسان ونمجّده؟! هل يمكننا أن نقيم أيّ مجلس ونقول ما يحلو لنا؟! هل يمكننا أن نكتب أيّ كتاب وندرج فيه الأباطيل والأراجيف؟! هل يمكننا أن نلصق أيّ تهمة نريدها بأيّ إنسان؟! هل يمكننا أن نقوم بهذه الأعمال بغير التفات إلى وجود مالك لهذه الدنيا وناظر ووليّ ومحاسب؟!
فجميع هذه الأمور ناشئة من الغفلة وناشئة من الجهل أو التجاهل، أي نتظاهر بالجهل ونتظاهر بالغفلة. علينا أن نستعيذ بالله من هذا الثاني! كلّ مشكلاتنا هي من أنّنا نعلّق المصابيح ونزيّن الشوارع بها ولكن لا نأتي بإمام الزمان إلى مجالسنا!
معنى إحضار إمام الزمان وإحياء الذكر هو أنّه عندما يقول إمام الزمان: هل أنت حقًّا منتظر لفرجي ومنتظر لظهوري وتطلب ذلك حقًّا؟! فأنت إذ تعلم أنّي حقّ، وتعلم أنّه ليس لديّ من هذه العلاقات والأمور الاعتباريّة، أنت إذ تعلم أنّك إذا ما سرت في طريقٍ باطل فأنت خارج عن طريقي، إذا أردت أن تقوم بباطل فلست في طريقي، إذا أردت أن تسكت في غير موضع السكوت فلست في طريقي، إن أردت أن تقوم في غير موضع قيام فلست في طريقي، إن أردت أن تتكلّم بباطل فلست في طريقي، وإن أردت أن تقول كلامًا وتقوم بعمل ما فلست في طريقي. هذا المعنى هو معنى الحياة.
ما الفرق بين عقيدة الشيعة وعقيدة أهل السنّة حول الإمام الحيّ؟
هذا الأمر لا وجود له عند أهل السنّة، هم يقولون: جاء النبيّ وجاء بأحكام، ونحن نعمل بأحكامه طبق فتاوى أربع من العلماء كانوا في زمان ما ثمّ ماتوا، ولا حاجة لنا بعد ذلك إلى إمام حيّ؛ لأنّ الأحكام واضحة وما قاله أبو حنيفة واضح، وما قاله مالك لا لبس فيه، وما قاله ابن حنبل والشافعي واضح، فلا حاجة بنا إذن إلى الإمام! فنحن نعيش حياتنا، ونقرأ قرآننا، ونهتمّ بأمورنا، ونهتمّ بالطهارات والنجاسات، فما معنى ضرورة وجود الإمام هذه التي اخترعها الشيعة من عند أنفسهم؟! ما معنى أنّه لا بدّ أن يكون هناك إمام ولا بدّ من الاعتقاد بإمام حيّ؟!
هؤلاء غافلون عن هذا الأمر وهو أنّ ذلك الدين وذلك العمل إنّما يكون له حياة وروح إذا ما استند إلى ولاية حيٍّ، وإذا ما شعر الإنسان بأنّه تحت ولايته، وإلا فهو مجرّد عمل ظاهريّ لا أكثر.۱ الآن إذ أصلّي فإنّ روح الصلاة هي في أنّها تحت ولايةٍ ونظرٍ وسيطرةٍ ولائيّة لإنسان هو صاحب نفس قدسيّة وهو الذي يعطي لهذه الصلاة روحها ويوصلها إلى مرتبة الفعليّة ويسبّب تجرّد النفس، لا أنّه كُتب في الرسالة العمليّة أن صلّ هكذا وأنا أصلّي هكذا، فهذا لا فائدة منه. وفي الرسالة العمليّة كتب أن قم بهذا العمل بهذه الطريقة، فنقوم به، فأحمد بن حنبل أيضًا يقول ذلك، والشافعيّ أيضًا يقول ذلك، ويقول إنّ صلاة المغرب ثلاث ركعات، والعشاء أربع، وأحكام الشكّ في الصلاة هي هذه، وإذا ما صدر خطأ فلا بدّ من سجود السهو، وإذا ما شككت بين الثلاث والأربع فلا بدّ من القيام والبناء على الأربع وإذا ما شككت بين الاثنين والثلاث فالصلاة باطلة و… فلا فرق إذن.
قوام الشرع بولاية الإمام الحيّ
دقّقوا جيّدًا فيما أريد أن أقوله! فالأحكام التي في الرسالة العمليّة والكتب الفقهيّة المبسّطة روحها وحقيقتها هو الاتّصال بولاية الإمام، وإنّها ولاية الإمام التي تعطي لهذه الأحكام اعتبارًا وحجيّة وتجعلها إلزاميّة علينا ومنجّزة. ولو لم يكن هناك إمام فلا بدّ من تنحية الرسالة العمليّة جانبًا! أي لو مات الآن إمام الزمان والعياذ بالله فلا معنى للرسالة العمليّة، لأنّ اعتبار ذلك الفقه والأحكام هو بالرواية عن الإمام الحيّ، والإمام الحيّ هو الذي يمضي رواية الإمام الصادق، فمثلاً الإمام موسى بن جعفر هو الذي يمضي رواية الإمام الباقر، والإمام الرضا هو الذي يمضي رواية موسى بن جعفر. فكلّ وليّ حيّ وإمام يثبّت جميع الحقائق التي وردت عن الأولياء السابقين على شكل رواية في المسائل العقائديّة والأحكام والمسائل الاجتماعيّة، لأنّ الولايتان هما ولاية واحدة، ولكنّ قوام الشرع وحجيّة الدين هي بولاية الإمام الحيّ، ولا بدّ من وجود الإمام الحيّ لكي ينال الدين اعتباره وحجيّته. ولو لم يكن الإمام الحيّ فلا حجيّة للشرع، ولا ندري ماذا نصنع.٢
هناك في مجامع الحديث أحاديث وفي الرسائل العمليّة أحكام، ولكن ذلك العماد الذي تستند إليه هذه الروايات والأحكام وذلك السند الذي يكمن وراء رواية الإمام الصادق هو إمضاء إمام الزمان. فإمام الزمان هو الذي يمضي تلك الرواية، لأنّه لا فرق بين إمام الزمان والإمام الصادق، أي كما أنّ الإمام الصادق يمضي روايات الإمام السجّاد والإمام الباقر كذلك إمام الزمان أيضًا يمضي روايات المعصومين الثلاثة عشر الذين قبله ويعطيها الحجيّة وقابليّة الاستناد والتطبيق، فلأنّه الآن حيّ فإنّ الأحكام التي وصلت من أجداده قابلة للتنفيذ، ولأنّه الآن صاحب الولاية فروايات بحار الأنوار ووسائل الشيعة أيضًا قابلة للتنفيذ، أمّا لو لم يكن حيًّا، لما كانت تلك الكتب قابلة للتنفيذ ولكان علينا أن نتوقّف هنا، ولكن لأنّه حيّ ولأنّ الولاية الآن بيده، ولأنّ الشرع الآن بيده فإنّه يمضيها ويصبح لتلك الروايات كلّها حجيّة لكلّ إنسان بحسب تكليفه وبحسب نظره ويمكنه العمل بها. فإذن لقد أمضى إمام الزمان رواية الإمام الصادق حتّى صار يمكننا الآن العمل بها. وهذا أقوله للرفقاء من أهل العلم حيث إنّنا من هنا يمكننا أن نعمل برواية الإمام الصادق وهذه نقطة مغفول عنها في فقهنا.
الفرق بين الشيعة والسنّة هو في أنّ مدرسة السنّة يتعبّدون بدين ميّت لا دين حيّ. والدين الميّت هو الدين الذي مات صاحبه، فالشافعيّ قد مات ومالك قد مات وأحمد بن حنبل قد مات، وأبو حنيفة قد مات. إنّ صاحب دينهم هو أبو حنيفة العدوّ الأوّل لأهل البيت، والذي احتفظ ببغضه لأهل البيت حتّى الساعة الأخيرة من حياته! والذي كان من كلماته القصار: خالفت جعفر بن محمّد في كلّ فرع أفتى به.۱ فهذا من مفاخره، ولكن للأسف لقد تعالى في هذا العصر مدحه والثناء عليه في الكتب إلى السماء وصار من مفاخر الإسلام.٢ فلا يمكن للإنسان أن يتصوّر ولا يمكن أن يوضّح كيف يمكن لعالِم شيعيّ أن يقول إن أبا حنيفة من مفاخر الإسلام.٣
الميزة الأساس لمدرسة التشيّع
إنّ إحياء مدرسة الإمام الصادق هو بأن تعرفوا اليوم أعداء هذه المدرسة وأنصار الإمام الصادق، وتعرفوا من هم شيعة الإمام الصادق ومن هم أعداؤه. فشيعة الإمام الصادق هم الشيعة الذين لا يمشون بين الناس بالشعارات العاطفيّة، بل بالعقل والحقيقة، أينما كان الحقّ فسمعًا وطاعة، وأينما كانت الشعارات العاطفيّة فهم لا يسيرون. لقد كانت مدرسة الإمام الصادق مدرسة الفهم لا سلب الفهم، كانت مدرسة العقل لا سلب العقل وجعل الجصّ في مكانه، إنّ مدرسة الإمام الصادق تُدخل العقل والفهم، فما دمت ترى أنّ هذه صخرة فلا تضرب رأسك فيها وتقول لنفسك: تقدّم لا مشكلة إن شاء الله.
أمّا مدرسة الشعار فهي مدرسة الإغماض عن الحقائق، مدرسة عدم الفهم، مدرسة إغلاق العيون والآذان، مدرسة "ستدرك لاحقًا!"، مدرسة "لا شأن لك بذلك!"، مدرسة "من أنت لتتدخّل في أعمال الأعاظم؟!"، مدرسة "إذا فعلت كذا فسترى…!". فليست هذه مدرسة الإمام الصادق، إنّ مدرسة الإمام الصادق هي مدرسة "إذا أدركت فعليك أن تعمل، فإن لم تعمل فحسابك عند الله، وإن لم تدرك فلا بأس عليك، وما لم تدرك فإنّ الله سيعاملك على أساس قاعدة المستضعفين، ولكن إذا أدركت حقيقة الأمر فلا يمكنك أن تقول: لم أدرك!"
قبل بضعة ليال كنت أطالع الجزء الثامن عشر من معرفة الإمام، وذلك حول مسألة أنّ إطلاق لفظ الإمام على غير المعصوم حرام شرعًا.۱ فكنت أطالع ذلك الموضع هكذا عفوًا من غير التفات وكان جذّابًا جدًّا بالنسبة إليّ، رغم أنّي طالعت هذا البحث ربمّا عشرين مرّة ولا زلت أقرؤه أيضًا! لست عاطلاً عن العمل إذ أقرؤه، بل لأنّي أرى أنّي مخاطب بما بين سطور تلك العبارات، وهذه الكلمات تحدّثني أنا: التفت جيّدًا كي لا تصبح مثل هؤلاء الذين عندما أثبت لهم أنّ عليهم أن لا يقولوا لفظة إمام ولم يكن لديهم أيّ جواب، قالوها في اليوم التالي عدّة مرّات قبل الخطب! فلا تكن مثلهم! أليست هذه المدرسة مدرسة الإمام الصادق؟! فالإمام الصادق يقول أحيوا ذكرنا. أي التفت أن لا تسير في المسير الخاطئ الذي سار فيه الآخرون! وانظر أنّي لو كنت أنا الإمام الصادق هناك ماذا كنت سأقول لك؟! فإذن إن كان لديك جواب فتفضّل به بسم الله! ولكن ليس لديك جواب ومع ذلك تخالف! فاصرخ على الدوام باسم إمام الزمان، وأقم المجالس، وزيّن نفسك أمام الناس، وتحدّث بهدوء، وقس الكلمات جيّدًا وأدّها ببلاغة، ولكن كلّ ذلك هو تمثيل! فهناك تمثيل في الشريط وفي هذه الأجهزة الجديدة، وهناك تمثيل أيضًا نفسيّ، والجميع تمثيل ومسرح!
علينا على الأقلّ أن نحتاط في هذا الأمر! فلو فرضنا أنّه لا مشكلة فيه فإنّه ليس واجبًا! ما دام موضع شبهة فإنّ مقتضى القواعد الأصوليّة هو أنّها تقول: احتط وتوقّف!٢ فعلى الأقلّ لا تتكلّم، لا تحدث أيّة مشكلة، لا تسقط السماء على الأرض! ولكن نحن نمضي ونقول! فماذا نريد أن نثبت؟! فلو كانت لدينا عين بصيرة لرأينا ماذا هناك في تلك الناحية، ولما مضينا هكذا نحو الهاوية ولسلكنا في طريق أهل البيت!
حياة مدرسة التشيّع باستنادها إلى الإمام الحيّ
مدرسة أهل السنّة مدرسة ميّتة ومدرسة عبادة الأموات، عبادة أبي حنيفة وعبادة الشافعي وعبادة الحنبليّ وعبادة مالك؛ لأنّهم يقولون: نحن لدينا مجموعة من المسائل قد كتبت في الكتب، فبعضهم يقول: اجعل يديك على بطنك وبعضهم يقول اجعلهما على رجليك، أو بعضهم يقول: قل بسم الله، وبعضهم يقول: لا تقلها. فكلّ منهم يقول كلامًا ثمّ يعمل به وينتهي الأمر! سواء قال النبيّ هذا الكلام أم أبو حنيفة فكلاهما سواء! هذا ما يقوله هؤلاء! يقولون: كلاهما سواء، فإن قال أبو حنيفة، فكأنّما قال عليّ! فنحن نختار هذا والشيعة يختارون ذاك، وفي النهاية كلتا الكيفيّتين صلاة. فماذا نريد بالإمام بعد ذلك؟! نحن نصلّي صلاتنا ونصوم صيامنا ونؤدّي زكاتنا ونحجّ حجّنا، فبماذا يطالبنا الله بعد ذلك؟! ليس لأحد علينا دين!
ولكن في مدرسة التشيّع يقولون: كلاّ، فنحن لدينا صاحب!
إن قالوا: أين صاحبكم؟!
نقول: نحن لا نراه ولكنّه يرانا! والمهمّ أن يرانا هو.
فمثلاً عندما تدخل دائرة معيّنة ترى أنّ لها قانونًا معيّنًا والجميع يعمل وفقه، فواحد منهم يجلس في هذه الغرفة وآخر يجلس في تلك، وواحد منهم يقوم بهذا العمل وآخر يقوم بذاك، واحد يؤدّي خدمات الماء والشاي، وآخر يكتب إعلانًا، وواحد يدير المكتب، والحاصل أنّ الجميع يعملون، وأنت تذهب أيضًا وتقول: أين صاحب هذه الدائرة؟
يقولون: ماذا تريد؟
تقول: أريد أن يسير عملي.
يقولون: تعال ليسير عملك، فما شأنك بصاحب الدائرة؟! ليس من المحتّم أن ترى الرئيس! فالرئيس والمدير جالس في غرفته وهو يدير هذه الدائرة ولو أنّه لم يأت في يوم من الأيّام لانتفى الجميع.
فتذهب أنت وتقوم بعملك وتمضي، لأنّ الدائرة حيّة وفعّالة وتقوم بعملها.
كيف تعمل الولاية وتأخذ بأيدي الشيعة في عصر الغيبة؟
إنّ دليل الشيعيّ وحجّته على أهل السنّة في حياة مدرسته هو هذا:
كما كان الدين والشرع في زمان رسول الله مستندًا إلى وجود رسول الله، فهو الآن مستند إلى ابنه، سواء كنت أراه أم لا أراه. لا مثل الذي ذهب مثلاً إلى أميركا وليس لديك عنه خبر، بل هو يقوم بعمله، يقوم بخدماته للناس، يحلّ المشاكل، يرشد، ويلقي الأفكار في قلوب المرتبطين به. أنتم تظنّون أنّ هذه الفكرة التي بدت لكم الآن فقمتم بعمل صحيح من أين جاءت؟! أو في قضيّة ما أو مشكلة أو أمر محيّر معيّن حيث تقف على مفترق طرق، أو تشكّ، وفجأة ظهرت لك فكرة فاخترت طريقًا معيّنًا فمن الذي جعل هذه الفكرة وهذا الطريق في ذهنك؟
عناية الإمام الرضا الخاصّة ومساعدته لملقي المحاضرة
بعد وفاة المرحوم العلاّمة، وبعد أن مضت ثلاثة أو أربعة أيّام حدثت لي مسائل معيّنة، فذهبت إلى الإمام الرضا والتفتّ إليه وقلت: أنا محبّ مخلص لك أيّها الإمام الرضا! وأقول لك بصراحة: أنا لا أدرك شيئًا! هل تريد أن أكتب أنّي لا أدرك وأختم الورقة وألقيها في الضريح حتّى تقبلني؟! ـ طبعًا قلت حينها عبارة أخرى لا أنقلها الآن ـ قلت: أتريد أن أكتب لكي يكون هناك سند يوم القيامة على أنّي لا أدرك! سيدي أنّا لا أدرك، فلمن أقول؟! فأنا في هذا الأمر وهذه الحادثة لا يصل عقلي إلى شيء! والحاصل أنّي أتممت الحجّة على الإمام الرضا! فالإمام الرضا جليل الشأن ويقول: فلننظر ماذا يريد هذا العديم الفهم والجاهل الذي جاء.
قلت: إن لم تأخذ بيدي هنا فسأشكوك يوم القيامة إلى جدّك! هكذا قلتها! لأنّ هؤلاء عظماء.
ومع غضّ النظر عن مسألة الإمامة والولاية فإنّ الإمام الرضا عاملني بأبوّة! وقد رأيت هذا الأمر بعينيّ الظاهرتين هاتين لا بالفكر وأمثاله. فقد كانت هذه الأمور مشهودة! وكانت تحدث أمور يقول فيها الجميع إنّ عليك يا فلان أن تقوم بهذا العمل، ولكن كنت أرى أنّ عليّ أن أقوم بعمل آخر، كان يحدث أمر ما فيقولون: عليك أن تتكلّم، ولكن كنت أرى أنّ عليّ أن لا أتكلّم. فكانوا يعترضون ويحاولون تقريب الأمور ويقولون: الآن وقت هذا العمل والآن وظيفتك هي هذه، ولكن كنت أرى أنّ الوقت وقت عمل آخر. فلتتكلّموا أنتم! لماذا عليّ أن أتكلّم أنا دائمًا؟! فلتحملوا أنتم أيضًا قليلاً من الحمل، فما المشكلة في ذلك؟! وفي أمر ما كان الجميع يقولون: عليك هنا أن تكون ساكتًا، ولكن كنت أرى أنّ عليّ أن أتكلّم.
والآن بعد مرور اثنتا عشرة سنة أو ثلاث عشرة سنة على وفاة المرحوم العلاّمة رضوان الله عليه كان الأمر هكذا على نحو اليقين كما يبدو لي، ويمكن أن أشهد كالشمس في رابعة النهار أنّ عناية الإمام الرضا عليه السلام ولطفه بلا شكّ كان يغمرني في جميع هذه الموارد، وكنت أشعر أنّ عليّ هنا أن أقوم بهذا العمل وهنا بذاك؛ فلأنّي من البداية ذهبت وقلت: يا سيّدي أنا لا أدرك! أمّا من يقول: أنا أدرك. فإنّهم يعلّقون الرسن على رقبته ويقولون له: اذهب الآن! ولكن إذا ما قال إنسان ما: أنا لا أفهم. فبمجرّد أنّه اعترف بمقدار ما، فإنّهم لا ينظرون بعد ذلك بدقّة هل هو صادق أم لا، هم يقبلون هذا المقدار لأنّهم أصحاب شأن رفيع، وليسوا مثلنا…
ولديّ أيضًا مع إمام الزمان كلمات قصار، فقد قلت له يومًا: يا إمام الزمان لو شئت لما كنت إمام الزمان! ولكن بما أنّك الآن إمام الزمان فلا بدّ أن تحتملنا! لأنّ من يكون إمام الزمان فلا بدّ أن يكون عظيمًا، لا بدّ أن يكون كريمًا، ولا بدّ أن يعين ويساعد. فهذا هو منهج الأعاظم ومنهج الأولياء منهج الكرم، إنّهم يختلفون عنّا، وأجواؤهم وأحوالهم تختلف عمّا نحن فيه وعليه، إنّهم في عالم القدر وفي أفق آخر، ونحن أسرى الخيالات والاعتبارات والأهواء النفسيّة.
استناد فقه الشيعة إلى المجتهد الحيّ
على كلّ حال، هذا هو الفرق بين فقه أهل السنّة وفقه الشيعة. لذلك من هنا ينشأ دليل حرمة تقليد الميّت. أنت كنت تقلّد مجتهدًا وقد فارق الدنيا الآن، فعليك من هذه اللحظة أن تراجع مجتهدًا حيًّا. انتهى الأمر، يحرم تقليد مجتهد ميّت، وذلك لأنّه لم تعد له حجيّة واعتبار في الاستناد إليه، لم تبق إلا مجموعة من المسائل التي كتبت في الرسالة العمليّة وكانت حجيّتها مرتبطة بحياته، لأنّه كان من وراء هذا الحكم ويمضي حجيّته فالآن بعد أن فارق الدنيا انتهى الأمر. تمامًا مثل المريض الذي يراجع طبيبًا ولا بدّ أن يراجعه كلّ يوم، لأنّ من الممكن أن يغيّر الدواء ويبدّل، فهكذا الأحكام الاجتهاديّة في الرسالة العمليّة أيضًا ـ وطبعًا باستثناء ضروريّات الدين والتي لها بحث آخر ـ فإنّ حجيّة واعتبار هذه الأحكام هي بواسطة حياة المجتهد، فحياة المجتهد هي التي تمضي هذه الأحكام، فمجتهدونا ليسوا بمعصومين ويخطئون، فغير المعصومين الأربعة عشر الجميع يخطئون، فإذن ما دام المجتهد حيًّا فإنّه يبحث في أدلّة هذا الحكم، ولكن لو فارق الدنيا الليلة، فإنّ هذا الحكم أيضًا ينتهي ويغلق سجلّه؛ لأنّه إذا أراد هذا المقلّد في اليوم التالي أن يقلّد، يقول لنفسه: ما الذي يجعلني أعمل بهذا الحكم الآن؟! لعلّه اليوم رأى رواية فتغيّرت وجهة نظره! عندها لن يكون لنا أيّ جواب! فإذن ما دام حيًّا فدليله حجّة.۱ وهذا الأمر هو لأنّ الدين الذي يريد الشيعيّ أن يدين به لا بدّ أن تكون هناك نفس حيّة وراءه ووراء أحكامه. وبناء على ذلك فإنّ الفقه الذي يمنعنا من الوصول إلى شخص الوليّ الكامل ومساعدته وهداية العارف البصير وإرشاده، إن ذلك الفقه ليس فقه الإمام الصادق، الفقه الذي هو فقه الإمام الصادق هو الذي يهدينا إلى هداية ومساعدة العارف والوليّ الإلهيّ، لا الذي يقول لا تتّبع، لا الذي يقول: عليك أن تخطّ بقلم البطلان حول هذه الأمور، ولا الذي يقول إنّ ذلك انحراف!
ما معنى اطلب لنفسك دليلاً وما معنى طرق السماء؟
يقول الإمام الباقر عليه السلام لأبي حمزة:
يا أبا حمزة يخرج أحدكم فراسخ فيطلب لنفسه دليلاً وأنت بطرق السماء أجهل منك بطرق الأرض فاطلب لنفسك دليلاً.۱
مثلاً الآن تريد أن تذهب إلى مدينة كذا، لا تعرف الطريق، تأخذ معك رفيقًا، والحال أنّك بالنسبة إلى طرق السماء أجهل، لأنّك أسير النفس، وزوايا النفس مخفيّة عنك ولا خبر لديك عنها، لا اطّلاع لك على الصفات والملكات الرذيلة المنطوية والمخفيّة في النفس، تمضي من عمرك ثمانون سنة ولكن لا زلت أسيرًا في أدنى المراتب من مراتب النفس ولم تخط خطوة واحدة، بل فقط قرأت بضعة كتب!
اذهب الآن وخذ واحدًا من هذه الأقراص الإلكترونيّة التي تحتوي جميع كتب الفقه، وجميع كتب الأحاديث، وفيها القرآن وفيها نهج البلاغة، وفيها الشعر، كلّ ذلك فيها، فهذا القرص أفقه منّا، والمعلومات التي لديه لم تكن حتّى لدى ابن سينا ولم يكن يحلم بها! فهل علينا إذن أن نجعله في الجهاز ليدور ثمّ نقلّده لأنّ جميع هذه المعلومات فيه؟! هذا القرص الإلكتروني فقيه، ولكنّه فقيه ميّت، لا فقيه حيّ، لا فقيه مفكّر، لا فقيه عاقل، ولا فقيه يدرك هذه الحقائق بنفسه وروحه ويمكن أن يطبّق الجزئيات على الكليّات. هذا القرص فقيه ميّت غاية ما لديه هو هذه المعلومات.
يسمع أبو حمزة من الإمام الباقر عليه السلام أنّ عليك أن تبحث عن دليل، وذلك في سنّ الشيخوخة أيضًا. أفلم يكن أبو حمزة فقيهًا؟! أولم يكن أبو حمزة مطّلعًا على الأحكام؟! لقد أدرك أبو حمزة زمان الإمام السجّاد والإمام الباقر والإمام الصادق عليهم السلام، فلماذا لم يقل يا ابن رسول الله نحن نسمع الأحكام والمسائل منك ومن أبنائك فما معنى الدليل إذن؟! ما معنى المرشد؟! ما معنى المساعد؟! ماذا كنت أصنع حتّى الآن؟! هل كنت أصلّي صلاة الظهر ستّ ركعات حتّى تقول لي الآن اطلب لنفسك دليلاً؟! لقد كنت أصلّي أربع ركعات، والآن أصلّي أربع ركعات، وقد كنت أدفع الخمس والزكاة هكذا وكانت صحيحة أيضًا، والآن أيضًا أدفعهما، فما معنى "فاطلب لنفسك دليلاً"؟! لقد كنت حتّى الآن أحجّ وكنت أنت تمضيه، فلماذا "اطلب لنفسك دليلاً"؟! ولكن الإمام يقول:
يا أبا حمزة يخرج أحدكم فراسخ فيطلب لنفسه دليلا وأنت بطرق السماء أجهل منك بطرق الأرض فاطلب لنفسك دليلاً.
اطلب دليلاً يساعدك ويهديك ويرشدك ويخبرك عن الحقائق ويكون بصيرًا وتكون عين قلبه مفتوحة.
فإذن، طرق السماء هي غير أحكام الصلاة والصيام وسائر الأحكام الظاهريّة، فمراد الإمام من طريق السماء إذن طريق عبور النفس من التعلّقات والتوغّل في الكثرات والحركة نحو عالم التجرّد. هذا الطريق هو طريق السماء. الخروج من البخل، الخروج من التعلّق بالكثرات، التخلّص من الأنانيّة، التخلّص من الحسد، التخلّص من الفردانيّة، التخلّص من الاهتمام بالنفس فقط، والوصول إلى رؤيته، والاتّصال بالحقّ، والتجرّد، والانتقال إلى عالم الروح، والخروج من الكثرات، ومن الأفكار الشيطانيّة. أهذا هو طريق السماء أم لا بل أحكام الشكّ في الصلاة والصيام؟! ما هو مراد الإمام السجّاد؟ فأحكام الشكّ معلومة، فلا معنى لـ "اطلب لنفسك دليلاً"، الإمام يقول: خذ فقهًا يوصلك إلى مرشد هاد، لا فقهًا يجعلك تغفل عن المرشد.
كم نحن تعساء، وواقعًا إلى أين بلغت التعاسة حتّى صار يدعى السيّد القاضي ذاك الآية الإلهيّة زنديقًا في الحوزة! ذلك الرجل الذي لا يمكن أن يوجد مثله إلى مئات السنين، يدعى إنسانًا منحرفًا عن الدين، ولا يردّون سلامه، يحاصرونه، ويطردون الذين يزورون منزله ويرفضونهم ويقطعون عنهم الشهريّة وينفونهم من البلد!۱ فأين ذهبت تلك الروايات وأوامر الأئمّة في الاهتمام بهذا الأمر الحيويّ الذي هو ضرورة أن يكون وراء العمل بأحكام الظاهر استناد إلى الوليّ الكامل والعارف الكامل والوليّ الإلهيّ وصاحب البصيرة؟!٢ ذلك الفقه الذي يمنعنا من الارتباط بإنسان كهذا ليس فقه الإمام الباقر وليس فقه الإمام الصادق. إنّ فقه الإمام الباقر والإمام الصادق يقول: اذهب وخذ أحكامك من إنسان مثل السيّد القاضي، اذهب واسأل مثل العلاّمة الطباطبائي فقد ذاق طعم الولاية وصارت لديه بصيرة بالولاية، اذهب وأسأل عن الأحكام أمثال المرحوم العلاّمة الذي يبيّن لكم الحكم عن بصيرة.
كيفيّة هداية أولياء الله في أحكام الشريعة
كم كان الشيخ مطهّري رحمة الله عليه رجلاً جليلاً! وكم كان رجلاً متديّنًا! وكم كان رجلاً صاحب حميّة! وكم كان رجلاً صاحب همّة! ولا أحد يشكّ في ذلك. فانظروا الإنسان الذي هو مجتهد ويصلّي سنوات متمادية على أساس اجتهاده ويصوم ويحجّ ويبلّغ، وكلّ شيء على ما يرام وكلّه صحيح، ولكن عندما يلتقي بالسيّد الحدّاد الذي لم يدرس يسأله السيّد الحدّاد: كيف تصلّي؟
انظروا "فاطلب لنفسك دليلاً". فهل أدركتم الآن لماذا قلت هذا الكلام. هذا هو الفقه الذي يجب أن يكون مستندًا إلى هداية الوليّ!
ـ كيف تصلّي؟
فيقول: أصبر حتّى أقوم بدفع الخواطر!
لقد كان يقوم بعمل جيّد للغاية، رحمة الله عليه مائة مرّة لما كان يدفع من الخواطر، لا أنّه كالآخرين يخطّط أثناء صلاته ألف خطّة للقضاء على نفوس الآخرين، ويخطر في ذهنه ألف فكرة شيطانيّة وعمل شيطانيّ، ولا أنّه يصلّي مثلنا هكذا بكلّ بساطة وبلا اهتمام نتوضّأ ونقول: الله أكبر ونشرع في صلاتنا، كلاّ بل كان يجلس ويدفع الخواطر في صلاته ويبعدها كيلا يخطر في باله سوى خاطر حضور الله والصفات التي فيها جلال والعبوديّة. رحمة الله عليه، ولكن رغم ذلك هناك ما هو أرفع، وهذا الوليّ الإلهيّ يقوم بتكميله أن ارتفع إلى مرتبة أعلى ولا تبق هنا! أنت لديك قابليّة ولديك استعداد فلماذا تريد أن تبقى هنا؟! رغم أنّك تقوم بعمل جيّد، ولكن امض إلى ما هو أعلى! فيقول له: فمتى تصلّي إذن؟!۱ هل تلتفون؟ لا يزال يصلّي منذ ستّين عامًا ولكن لا يزال لا يعرف كيف يصلّي!
هذا عين ما يقوله الإمام السجّاد أن اتّبع وليًّا وهو الذي يقول لك كيف تصلّي! وإلا فإنّ أهل السنّة أيضًا يصلّون، صلاة المغرب عندنا ثلاث ركعات وعندهم أيضًا ثلاث ركعات وليست ستّ ركعات. وصلاة العشاء عندنا أربعة ركعات وهم يصلّونها كذلك أيضًا. كلانا نصلّي. ولكن نحتاج في كيفيّة الصلاة إلى تعليم وإرشاد أن كيف نصلّي وكيف ننفق، لا في كميّتها.
ذات يوم قال السيّد الحدّاد: عندما تنفق فبأيّة نيّة تنفق؟
قلت: أعطي المال إلى الفقير.
فقال: كلاّ يجب أن تكون بهذه النيّة: وهي أنّه هو الذي ينفق لا أنت، فأنت لا تعطي المال بل هو الذي يعطي! فلتفكّروا بكلمة الإنفاق هذه ثمّ بعد ذلك اذهبوا إلى الآخرين لتروا ماذا يقولون! فقط يقولون: إنّه إنفاق وله ثواب، وانتهى الأمر.
العارف الذي انكشف له التوحيد يحكم بعين حكم وجوب الركعات الثلاث ولكن بين الركعات الثلاث عنده وعند الآخرين فرق كبير! فإذا نظرنا إلى وجهه عندما يصلّي نرى أنّه ليس هنا أيضًا، ولكن عندما يصلّي الآخرون فإنّهم لا يفكّرون إلا في تنظيف عباءتهم؛ لأنّ آلة التصوير تصوّرهم! كلاهما يصلّيان وكلاهما يعملان بالأحكام، كلاهما يسجدان وكلاهما يركعان، وكلاهما يتشهّدان، ولكنّه هو يعطينا معنى آخر للتشهّد، وأمّا الآخرون فيفهمون التشهّد بمعنى مختلف، هو يفسّر السجود بمعنى والآخرون يفسّرونه بمعنى، ونتيجة ذلك أنّا نرى بعد مضيّ سنوات من كان هو، وماذا صار والآخرون وفي أيّة حالة هم. هذا هو معنى ومراد الإمام عليه السلام من وجود الإمام الحيّ٢ الذي يتجلّى ويظهر في قالب إرشاد العارف الكامل.٣
ضرورة خلوص النيّة للدخول في مسلك طلاّب العلوم الدينيّة
اليوم يوم يريد فيه أصدقاؤنا وإخواننا وسادتنا التلبّس بلباس رسول الله وبتيجان الملائكة. فالعمامة تاج الملائكة. فمن يلبس هذا اللباس معناه أنّي تقدّمت درجة على الآخرين، يعني أنت في الخلف وأنا تقدّمت فلبست هذا اللباس لكي أجعل عملي أيضًا مطابقًا أكثر، لأنّي جئت ووضعت رجلي في الموضع الذي سار في رسول الله، لا ندّعي أنّنا صرنا رسل الله ولن ندّعي ذلك أبدًا، ولكن ندّعي أنّنا تحت رعاية رسول الله إن شاء الله.
ولكن واأسفاه واأسفاه ! نسمع أمورًا تجعل الدخان يتصاعد من رؤوسنا! وقد سمعت أنّه قيل في بعض الأماكن: أنت بما أنّك لا تحتاج إلى الدنيا فلماذا اخترت طريق طلب العلوم الدينيّة في الحوزة؟! فالطلاّب هم الذين لديهم حاجة ولا يجدون عملاً يكتسبون منه! واويلاه واويلاه واويلاه!
وهنا ندرك في أيّ أفكار كان المرحوم الوالد في حياته. لقد كان ينصح أحد أقاربه ويقول: "يا فلان، أنا لست مثل والدك أقول لك كن طالب علم لكي تحصل على الخبز بسهولة!" فهل تدركون طريقة التفكير؟! هناك من يقول أيضًا: "كن طالب علم لأنّه لا يحتاج إلى جهد كبير". إنّ الطلاّب الحقيقيّين يبذلون الجهود أكثر من الآخرين! نعم تلك الطريقة التي كان يعيشها هكذا كانت، لأنّه يجلس في مكانه ويبقى من الصباح حتّى المساء يمجّ النارجيلة ثمّ تأتي الحقوق إلى منزله من جهة ما، لأنّ لديه وكالة من فلان وفلان وفلان! نعم هذا النوع من طلب العلم والانتساب لأهل العلم والمعنويّة هو عبارة عن تحصيل الخبز بأيسر طريق! ومن يحصّل رزقه من هذا الطريق فإنّ قيمته ومقامه ما يخرج من بطنه.۱
ولكنّ المرحوم العلاّمة كان يقول: أنا لست كفلان لأنصحك هكذا نصيحة! أنا أقول إذا أردت أن تكون طالب علم فعليك أن لا تجعل أمامك سوى الله، عليك أن لا تجعل أمامك سوى الإمام الصادق، وانتهى الأمر! فأنا هكذا! أنت بالخيار فإن شئت تعال، وإن شئت لا تأت. إن لم تكن تستطيع فلا تأت، ولكن إذا أتيت فلخروجك حساب ولكلامك حساب ولجلوسك حساب، ولعلاقاتك حساب، ولكلامك مع زوجتك وأولادك حساب، ولكلامك مع أقاربك وأرحامك حساب، في كلّ ذلك حساب، ولا بدّ أن تنظر إلى الحقّ، ومن الآن فصاعدًا عليك أن تخطّ بقلم البطلان على جميع العلاقات القائمة على الحسابات الشخصيّة! عليك أن تلاحظ الله فحسب! أينما كان الله فكن، وأينما لم يكن فلا تكن! متى يتيحُ يومَا الدنيا هذان للإنسان أن يسير في الطرق الأخرى؟!
فانظروا إلى النوعين من العلماء، فهناك قسم من العلماء هكذا يروّج ويدعو للدخول إلى الحوزة العلميّة ومدرسة التبليغ بهذه الطريقة، وهناك نوع يدعو بطريقة أخرى.
وصيّة هامّة إلى الطلاّب
والآن نحن هكذا، فرفقاؤنا الذين يريدون اليوم أن يلبسوا لباس أهل العلم يعرفون هذه الحقائق، ولم نقلها إلا تذكيرًا بأنّ هناك حساب لكلامكم، وحساب لحركتكم، وحساب لفكركم، وحساب لكلّ شيء لكم! فهذا الموقع موقع ينظر إليه الآخرون وجميع الأنظار منصبّة على الحركات والسكنات والكلام لأنّه يبلّغ هذه المدرسة. فبالالتفات إلى ذلك ﴿قُلِ ٱللَهُ ثُمَّ ذَرۡهُمۡ﴾۱ قل الله ودع ما سواه واطرده. أي أبعدهم عنك بطريقة بحيث لا يأتي حتّى تصوّرهم وتخيّلهم إلى ذهنك! لا أن يطرده الإنسان فحسب بل يجب أن يطرد الإنسان غير الله بنحو لا يبقى معه أثر أصلاً في وجوده وخياله وفكره!
أذكر أنّه جاء ذات يوم أحد العلماء المعاصرين ـ هداهم الله جميعًا إن شاء الله ـ لزيارة المرحوم العلاّمة وذلك في العهد السابق. وكان الفصل شتاء، وكنّا جالسين حول الكرسيّ٢ وكان من المشهورين والمدرّسين من الطراز الأول وجاء من قم للقاء المرحوم العلاّمة. وكان متأثّرًا جدًّا وكان يبكي كثيرًا ويظهر الحسرة والأسف والتأثّر لما آلت إليه الأحوال فيقول:
لم يعد هناك أحد! الجميع في الخيال، الجميع في الشهوات، والجميع في الاعتبارات! فلم يعد بالإمكان الكلام مع أحد، ولم يعد بالإمكان مصاحبة أحد، ولم يعد بالإمكان الجلوس مع أحد! الجميع يتكلّمون عن ديناهم وعن عالمهم الخاصّ!
وعندما انتهى من جميع كلامه قال المرحوم العلاّمة:
سيّدي العزيز ما شأنك أنت بالناس؟! أفهل رُبطتَ أنت بمصير الناس؟! ﴿قُلِ ٱللَهُ ثُمَّ ذَرۡهُمۡ﴾
وما إن نطق المرحوم العلاّمة بذلك رفع ذلك العالم رأسه وفتح عينه وكأنّه سمع بهذا الكلام لأوّل مرّة في عمره!
﴿قُلِ ٱللَهُ﴾ فعن ماذا تريد أن تبحث بعد الله؟! عندما تقول: الله، فهذا يعني أنّ وجودي هو الله، وحركتي هي الله، ونفسي هي الله، والتجائي هو الله، وسرّي هو الله، كلّ ذلك هو الله! وانتهى الأمر! فإذن لم يبق أحد بعد ذلك! من باب المثال: الآن إناء الماء هذا خال، وما دام خاليًا يمكن أن تضع فيه ما شئت. فإذا صببت فيه الماء حتّى يمتلئ، إذا ما امتلأ لن يبقى فيه مكان لكي يصبّ فيه شيء آخر، لأنّه صار مملوءًا بالماء ولم يعد هناك مكان لشيء. فلتملأ كامل وجودك من الله وحده إذن!
لذلك إذا أراد عالم الدين أن يدخل نفسه في مدرسة الإمام الصادق فلا بدّ أن يأتي بالله إلى وجوده وأن يخرج غير الله، وليحدث ما يحدث!
ثمّ قال المرحوم العلاّمة هذا:
لا تحزن ولا تأسف ﴿ذٰلِكَ مَبۡلَغُهُم مِّنَ ٱلۡعِلۡمِ﴾؛۱ مستوى تحليقهم في العلم هو بهذا المقدار فحسب!
فالمبلغ مشتقّ من البلوغ وبمعنى محلّ الارتقاء ومحلّ التحليق، فحدود تحليقهم ومستواه من العلم هو هذا المقدار: الوصول إلى الدنيا، جمع هذا وذاك، الخداع، النقل عن هذا وعن ذاك، وصل الليل بالنهار ووصل النهار بالليل ثمّ لا شيء بعد ذلك! ينتهي العمر: فارق الدنيا شيخنا حجّة الإسلام فلان ﴿ذٰلِكَ مَبۡلَغُهُم مِّنَ ٱلۡعِلۡمِ﴾.
ولكن إذا ما دخل أحد طلاّب الإمام الصادق هذا الطريق فإنّ أوّل كلام للإمام الصادق هو: «اِخلاصُ العملِ لِلّه»٢ أي لا بدّ أن يكون عملك خالصًا لله، ولا يكون في نظرك سوى الله، تُخرج جميعَ الأشياء، وأنت تعلم ولا تحتاج إلى أن يقال لك إنّه عندما يقوم إنسان بذلك فهو ابن الإمام الصادق، وإمامه الحيّ فوق رأسه، يقوم بأعماله، وينظّم أموره، ويأخذ بيده، وينجّيه من المخاطر و…
ألم يمرّ علينا الزمان؟! ألم يصبنا ما أصاب الآخرين؟! ألم نواجه الظروف التي لا يواجهها الكثيرون؟ ألم تعرض علينا الاقتراحات والأمور والمسائل المختلفة؟ فمن الذي ينجي؟ واقعًا من؟!
قبل مدّة كنت ذات ليلة جالسًا هكذا أفكّر في نفسي وأقيّمها فقلت: لو عرض عليّ الآن موقع معيّن… ثمّ بدأت بالضحك! رأيت أنّ هذا الأمر مضحك! ثمّ قلت: لو عرض عليّ ما هو أعلى منه؟! فأخذني الضحك مرّة أخرى. في الموقع الأدنى ربّما يتوجّه الناس جماعات إليك ولكن كنت أضحك! وما ذلك إلا لأجل هذه المدرسة. هذه المدرسة هي التي علّمتنا ذلك. طريق المرحوم الوالد علّمنا ذلك.٣ ثمّ أخذت بالذهاب صعودًا حتّى وصلت إلى موقع لا شيء أرفع منه. ثمّ فكّرت جيّدًا، فسيطر عليّ الضحك من جديد، وأيّ ضحك! قهقهة من أعماق القلب! ثمّ قلت في نفسي: إن كان سيحصل ذلك يومًا ما ـ وإن شاء الله لا يحصل إلى قيام قائم آل محمّد ـ فإنّي أغادر إلى القسم الثاني من الكرة الأرضيّة كيلا يوجد منّي أثر ولا خبر.
هذا كلّه لأجل هذه الأمور التي علّمونا إيّاها، علّمونا اعتباريّة الدنيا وأفهمونا أنّ جميع هؤلاء في غفلة. ولو رفع ستار الغفلة هذا لثانية واحدة لتوجّه الناس كلّهم إلى الجبال! ولكن كيف خفيت هذه الأمور عن سائر الناس؟!
چشم باز و گوش باز و این ذُکا | *** | خیرهام در چشمبندیّ خدا |
يقول: العين مفتوحة والأذن مفتوحة ومع كلّ هذا الذكاء! متحيّر أنا من كيفيّة إخفاء الله للحقائق.
على كلّ حال، اليوم يوم ولادة إمام الزمان عليه السلام ونسأل الله بلطف ذلك الإمام وعنايته بالجميع أن يدخلنا أكثر فأكثر في حدود دائرة تلك الولاية، وأن ينوّر أبصارنا بحقيقة الولاية.
ضاعف الله التوفيق للعمل بمعرفتنا وإحساسنا بولاية إمام العصر عليه السلام، وحقّق لنا مقام الطاعة والانقياد لصاحب أمرنا ووليّ نعمتنا! وحقّق الله تلك الحقيقة وحقيقة دينه المرضيّ لنا، وجعلنا من الشيعة الحقيقيّين الواقعيّين والمنتظرين لمقدمه، ونوّر الله أعيننا الرمداء بجماله المنير، ولا حرمنا في الدنيا من زيارته وفي الآخرة من شفاعته، وجعل هديّة عيدنا جميعًا ـ وخصوصًا الرفقاء من أهل العلم ذوي العزّة والاحترام وخاصّة الأصدقاء والسادة اللذين لبسوا اللباس الشريف والمقدّس لباس العلم والتقوى والتبليغ والرسالة ـ تحقّق ولاية ذلك الإمام عليه السلام، فهذه أكبر وأرفع نعمة، بل هي النعمة الوحيدة التي يمكن أن يمنّ الله بها على إنسان ما.
اللهم صل على محمد وآل محمد