المؤلّفالعلامة آیة الله السيد محمد الحسين الحسيني الطهراني
المجموعةنظرات عقائدية ومعرفية
التوضيح
ما هي حقيقة الإيمان؟ وهل تسري الحياة والشعور في كافّة الموجودات؟ من هو المالك الحقيقيّ لعلم الموجودات وقدرتها؟ أين يتجلّى جهل الإنسان وعجزه في مقابل أسرار الكون؟ وكيف له مواجهة هذا الجهل والعجز؟ ما معنى الجهاد في سبيل الله تعالى؟ وكيف يتخلّص الإنسان من العقبات التي تواجهه في طريقه نحو الله تعالى؟ هي أسئلة سعى سماحة آية الله العلاّمة السيّد محمّد الحسين الحسينيّ الطهرانيّ رضوان الله تعالى عليه للإجابة عنها في هذه المحاضرة التي عقدها بمسجد القائم في طهران.
هو العليم
حقيقة فقر الإنسان وسُبُل مواجهته
مباني التشيّع – الجلسة الرابعة
محاضرة ألقاها
سماحة العلّامة آية الله الحاجّ السيّد محمّد الحسين الحسينيّ الطهرانيّ
قدس الله سره
أعوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيطانِ الرَّجيمِ
بسم الله الرحمن الرحيم
وَصلّى اللهُ عَلَى محمّدٍ وَآلِهِ الطّاهِرين
وَ لَعنَةُ الله عَلَى أعدائِهِم أجمَعين
حقيقة الإيمان
توفّي الحاجّ اللهياريّ، وهو من رفقائنا القدماء؛ فلنُهد له جميعًا قراءة سورة الفاتحة.
من وصايا رسول صلّى الله عليه وآله وسلّم لأبي ذرّ الغِفاريّ:
قُلتُ: يا رَسولَ اللَه، أيّ الأعمالِ أحَبُّ إلى اللَهِ عَزَّ وجَلّ؟ قالَ: «الإيمانُ بِاللَه وجهادٌ في سَبيل اللَه»۱.٢
لماذا أفضل؟ فما الذي يعنيه الإيمان بالله والجهاد في سبيله، حتّى يكونا أفضل من كافّة الأعمال؟
إنّ أيّ شيء يتّكئ عليه الإنسان في حياته يُعدّ محطًّا لإيمانه؛ بمعنى أنّه: إذا تعلّق الإنسان بشيء من الأشياء، واعتبره هدفًا ومرادًا له، فإنّه سيولع ويتعلّق به، حيث يُطلق على هذا الولع والتعلّق اسم الإيمان؛ هذا من جهة، ومن جهة أخرى، نحن نعلم أنّ الله موجود وباقٍ، وأنّ بقيّة الموجودات قائمة به تعالى وفانية؛ وما الذي يعنيه أنّ الله موجود؟ يعني أنّ ذاته المقدّسة عبارة عن موجود لا شكل له، ولا صورة له، ولا تُؤثّر فيه الحوادث والمؤثّرات، ولا ينفعل، بل هو قائم بذاته؛ وعلمه وحياته وقدرته عين ذاته، وذاته دائمة، لا يعرضها الفناء والبوار والهلاك؛ لأنّ الهلاك والفساد يطرآن على الأمور التي تكون عُرضة للتغيّر والحدوث؛ في حين أنّ ذاته ليست حادثة ولا متغيّرة. وأمّا بقيّة الموجودات كيفما كانت، فهي قائمة به، وتتعلّق موجوديّتها بذاته؛ وبالتالي، تكون ممكنة، وتتوفّر على حدّ ومقدار خاصّ، حيث نرى أنّ الموجودات المادّية كانت موجودة في زمان معيّن، ولم تعد موجودة في زمان آخر؛ وأنّها كانت عامرة في زمان محدّد، ثمّ صارت خرابًا في زمان ثانٍ.
ومن هنا، نجد أنّ الإنسان ـ الذي يُعدّ بدوره من الموجودات ويتوفّر على عقل وإدراك ـ يرغب في الارتباط والتعلّق؛ لكن بأيّ شيء؟ هل بموجودات تقع في نفسه درجته ومستواه، وتُماثله في كونها عُرضة أيضًا للفناء والفساد، أم بتلك الذات المقدّسة القيّومة، والتي تكون يقظة في كلّ آن، ومتكفّلة بأمور هذا الإنسان، وقيِّمةً على كافّة شؤونه، وعالمة وحكيمة؟ فيكون الإنسان نائمًا، بينما هو تعالى يقظ؛ ويكون الإنسان عاجزًا، في حين أنّه تعالى قادر!
فالمقدار الذي بوسعنا تملّكه من وجودنا ضئيل جدًّا، حيث ترانا نتحدّث، ونتناول الطعام، ونتحرّك؛ لكن، إلى أيّ حدّ لدينا اطّلاع على أنفسنا، وعلى الأفعال الصادرة منّا؟! اطّلاعنا ضعيف جدًّا! غير أنّنا نجد أنّ كافّة أجهزتنا البدنيّة تشتغل بدقّة تفوق الساعات الدقيقة التي تُظهر جزء واحدًا من الألف أو جزء واحدًا من المائة من الثانية، من دون أن نلتفت إلى ذلك أو نشعر به، أو نريده ونشاءه؛ فيشتغل القلب، والرئة، والمعدة، والكلية، والمثانة، وجميع الخلايا الجسميّة، بحيث تكون لكلّ واحد منها وظيفة خاصّة، لا تُخطئها، ولا تتعدّاها؛ فنظلّ نائمين إلى الصباح، بينما هذه الأجهزة تعمل من دون أيّ تخطئ بتاتًا! فهي بأجمعها تشتغل طبقًا للنهج الذي عيّنه الله لها، بحيث يكون تعالى محيطًا بها، من دون أن تأخذه سنة ولا نوم؛ فمن الذي يدفعها للعمل؟ فحينما نرجع إلى أنفسنا، نجد أنّنا مبتلون بالنوم والجهل والعجز، بل نحن على درجة من الجهل، بحيث إذا تعلّمنا حرفين، فإنّنا نخجل أن نطلق عليهما اسم العلم؛ وهناك الكثير من العظماء والفلاسفة الذين قضوا عمرًا مديدًا في الدراسة والمطالعة والسعي والتعب والمجاهدة، لكنّهم اعترفوا في الأخير بأنّه لا يفقهون شيئًا، حيث كان آخر كلام نطق به العديد من هؤلاء العظماء: «إنّ غاية ما بلغه علمُنا أنّنا أدركنا بأنّنا عاجزون، ولا نعلم شيئًا؛ فعظمة الباري تعالى هي على درجة كبيرة من العلوّ والسعة، بحيث نجد أنفسنا عاجزين عن الورود في ذلك الحريم، فأدركنا للتوّ أنّنا لا نفقه شيئًا!».۱
يقول أحد العظماء:
لقد بذلت مجهودًا كبيرًا جدًّا في فترة شبابي، وانهمكت في التعلّم ودراسة الكتب الفلسفيّة، وكنت أخال أنّ فهمي واستيعابي جيّد، فاستمررت في دراستي بشكل دائم؛ الآن، وبعد أن أصبحت عجوزًا، وتضاعف علمي بمئات المرّات عن فترة الشباب، أدركت للتوّ أنّني لا أعلم شيئًا، ولا أفقه أيّ شيء!
وهذا لا يعني أنّ الأمور التي علم بها لا شيء، بل يعني أنّه أدرك للتوّ أنّ علمه بالكون وأسرار عالم الخلق هو على درجة من الضآلة، بحيث تكون نسبته إلى هذه الأسرار نسبة الصفر إلى اللانهاية!
فلينظر كلّ واحد منّا إلى وجوده المادّي؛ فأنا بهذا البدن عبارة عن موجود يمشي على الأرض؛ لكن، ما هي نسبة حجمي إلى حجم الأرض؟ وما هو مقدار وجودي بالنسبة إلى الكرة الأرضيّة؟ وبأيّة عبارة يُمكنني التعبير عن هذا الأمر؟! فلأقل: «كمثل نقطة موضوعة على برتقالة»؛ لكنّني أصغر من ذلك! ولأقُل: «مثل نقطة موضوعة على بطّيخة»؛ لكنّني أيضًا أصغر من ذلك! هذا، مع أنّ الأرض موجودة في هذا الفضاء [الشاسع]! فحينما تنظرون إلى الأرض والشمس وبقيّة الشموس، هل يأتي على بالكم كم نحن صغار؟! ومع ذلك تجدنا نقول: إنّ علمنا غزير! هو، هما، هم، هي، هما، هنّ، أنتَ، أنتما، أنتم، أنتِ، أنتما، أنتنّ، أنا، نحن! فهذه ضمائر نرجعها إلى أنفسنا، بحيث يكون كلّ ضمير مقرونًا بكتلة عظيمة من الوجود [والأنا]!
فهذا النحو من الحياة والتفكير مبنيّ على أساس التخيّلات، حيث تجدنا نملأ أذهاننا بمجموعة من الخيالات، ونتعلّق بها؛ وبالتالي، نعيش في عالم الخيال، لا الخارج وحاقّ الواقع؛ وأمّا الذي يسلك سبيل التفكير، ويأتي البيوت من أبوابها، فإنّه يُدرك إلى آخر حياته أنّه لا يعلم شيئًا؛ بمعنى: كم هو عجيب جدًّا هذا العالم، وكم هو مكتنف بالأسرار والرموز والدقائق، إلى درجة أنّ علومنا بأجمعها نسبتها إليه، كنسبة الصفر إلى اللانهاية!
سريان الحياة والشعور في كلّ ذرّات الكون
وذلك لأنّ هذا العالم الذي نعيش فيه حيٌّ بأجمعه؛ فكلّ خليّة من خلايا جسدنا تسري فيها الحياة، ومكلّفة بأداء عمل خاصّ، حيث تكون هذه الخليّة خاضعة لمسار معيّن تمشي عليه، ولها موت وحياة وشعور، وتُدرك من هو عدوّها، ومن هو صديقها؛ وكما أنّ كلّ واحد منّا يُدافع عن شخصيّته ووجوده، فإنّها أيضًا تُدافع عن وجودها؛ إذ إنّ هذا الدفاع هو على السويّة [بين الجميع]. فكما تُلاحظون، فإنّ لكافّة أفراد الإنسان تعلّق بوجودهم، ويُحامون عنه؛ أي إذا أراد أحد أن يلدغ ثانيًا، أو يُلحق به ضررًا، أو يقتله، أو يقضي عليه، فإنّ هذا الأخير يُحامي عن نفسه، من دون وجود أيّ فارق في هذا الأمر بين السلطان والمتسوّل، وبين الغنيّ والفقير؛ إذ يرغب كلّ واحد في الدفاع عن وجوده؛ أليس كذلك؟! وكلّ حيوان يسعى للدفاع عن كينونته؛ إذ كما أنّ الإنسان متعلّق بوجوده، فإنّ الحيوان متعلّق بوجوده، وهكذا الشأن أيضًا بالنسبة للأشجار، وبالنسبة لكلّ خليّة يعتبرها الإنسان جامدة، لكنّها ليست كذلك، بل هي حيّة: ﴿يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾،۱ ﴿سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾؛٢ فهي حيّة بأجمعها، وتلجأ للدفاع عن نفسها بهذا النحو؛ أي أنّ لها وجودًا وشعورًا ومسيرًا وحركة ومحبّة وعشقًا.
فكلّ ذرّة من ذرّات هذه الجبال الجامدة والأراضي الجامدة والصلبة، وكلّ جزيئة من هذا الثلج والجليد والبَرَد لها شعور وحياة؛ كما أنّ كلّ ذرّة غير مرئيّة من هذا الهواء الذي نتنفّسه ـ والتي لا يُمكننا رؤيتها إلاّ بالعين المسلّحة ـ لها شعور وحياة؛ وبالتالي، فإنّ العالم بأجمعه حيّ؛ غاية الأمر أنّ كلّ موجود له نوع حياة يختلف عن نوع حياة الموجودات الأخرى؛ فكما أنّ حياة الإنسان مغايرة لحياة الحيوان، وحياة الحيوان متمايزة عن حياة الشجر، وحياة الشجر مباينة لحياة الجماد، فإنّ حيوات أفراد الإنسان متفاوتة فيما بينها، وحياة كلّ خليّة في كلّ فرد من أفراد هذا الإنسان تختلف عن حياة الخليّة الأخرى، حيث نجد أنّ خلايا العين لها نحو خاصّ من الحياة، وتطوي مسارًا محدّدًا، ولخلايا الأظافر والبنان وأطراف الأصابع نحو آخر، ومسارًا آخر، وحياة أخرى.۱
فإذا نظرتم إلى كافّة الموجودات التي خلقها الله تعالى منذ ما قبل آدم إلى ما بعد يوم القيامة، فلن تعثروا على موجودين لهما معًا نفس الحياة؛ بمعنى أنّ الله تعالى واحد، وتجلّيه واحد أيضًا: لا تكرار في التجلّي.٢
ومن هنا، فإنّ هذه الموجودات بأجمعها تمتلك علمًا؛ فمثلما يتوفّر كلّ واحد منّا على علم خاصّ بنفسه مختلفٍ عن علم رفيقه، فإنّ هذا العلم والإدراك الذي نمتلكه يختلف عن علم الحيوان وإدراكه، حيث تتوفّر الحيوانات ـ بمقتضى بنيتها وخلقتها ـ على نوع آخر من الإدراكات والإحساسات؛ فللأسد نوع من الشعور مختلف عن الفهد، والفهد أيضًا مختلف من هذه الناحية عن الثعلب، والثعلب مختلف عن ابن آوى، وابن آوى مختلف عن الأرنب، والأرنب مختلف عن الخروف، والحيوانات بأجمعها مختلفة من هذه الجهة عن الأشجار، وكلّ شجرة متميّزة عن الأشجار الأخرى، بل وكلّ ورقة شجرة مختلفة عن الأوراق الأخرى، وكلّ ورقة شجرة من هذه الأوراق مختلفة عن جذع الشجرة، حيث تتوفّر الورقة على إدراك ورغبة خاصّين، بينما يمتلك جذع الشجرة إدراكًا آخر؛ فليس من شأن إدراك الجذع أن يؤتي الثمار أو لا يؤتيها؛ لأنّ الثمار تأتي من الأغصان، ولن تأتي من جذع الشجرة إلى أن يحلّ يوم القيامة. هل سبق لكم أن رأيتم أحدًا يقطف التفّاح أو البرتقال من أطراف أصابعه؟! وهل تتوقّعون أن تُؤتي أطراف أصابعنا برتقالاً؟! لا! لكنّ هذه الشجرة تتوقّع ذلك من رؤوس أغصانها، حيث تقول شجرة البرتقال لأطراف أصابعها ـ لأنّ رؤوس الأغصان شأنها شأن أطراف الأصابع ـ: عليك أن تُؤتي برتقالاً! وشجرة التفّاح تقول: عليك أن تُؤتي تُفّاحًا! فتُثمر هذه الأغصان تفّاحًا أو برتقالاً.
فحينما يضع الإنسان بذرة صغيرة تحت التراب، ويسقيها بالماء لمدّة معيّنة، فإنّها تصير يانعة الخضرة، وتُثمر شمّامًا جيّدًا، أو بطّيخًا طّيبًا، فيقول: «أنعم به وأكرم! أنا الذي زرعتها، فانظر إليها الآن ما أحسنها!»؛ وبحقّ، على الإنسان أن يأخذ هذه البذرة، ويُخضعها للدراسة؛ مع أنّني لا أستطيع أنا القيام بذلك، كما أنّ مفكّري العالم يعترفون هنا بعجزهم، ويقولون: لا علم لنا بذلك! فأنت يا إلهي عظيم، عظيم، عظيم؛ وما عسى أن تبلغه عقولنا وإدراكاتنا، حتّى نطّلع على حياة هذه البذرة وإدراكها وطريقها؟! فنجد أنّ لحبّةٍ واحدة من هذه البذور قوّة جاذبة، وقوّة دافعة، وقوّة مبقية، وقوّة هاضمة، ولها مبدأ ومنتهى، ولديها توالد وتناسل، ويجري عليها «أنكحتُ وزوّجتُ»، حيث بوسعنا أن نعثر على علاقة الزواج لدى كافّة الموجودات، ولدى الجمادات والنباتات، وإلاّ، لما تمكّن أيّ موجود من التكاثر؛ فحينما توضع البذرة في الأرض، فإنّها تصير جذورًا، ثمّ تنمو، فتصير برعمًا، بحيث نرى أنّ كلّ نقطة من هذا البرعم تتحرّك بحركة خاصّة، ويكون جزء منه مواجهًا للشمس.
المالك الحقيقيّ لعلم كلّ الموجودات وقدرتها
وبحقّ، هل تمتلك هذه البذرة ـ التي قد تضيع وسط أيديكم ـ هكذا إدراك وقدرة حتّى تسعى للقيام بهذه الأفعال؟! وهل تتوفّر النطفة المستقرّة في الرحم على القدرة لكي تصون نفسها في هذه المحفظة، وتمتصّ الموادّ الحيويّة، فتتحوّل إلى علقة، ثمّ مضغة، ثمّ عظام، ثمّ تُلبس عظامها لحمًا؛ وبعد ذلك، تصنع لنفسها عينًا وحاجبًا وحنجرة وأظافر، وتمنح لذاتها الروح، ثمّ تخرج من الرحم و...؟! فهل تقوم النطفة بذاتها بهكذا أفعال؟! حاشا وكلاّ!۱
فنحن نرى أنّ هذا الإنسان حينما يخرج من رحم أمّه، يكون لا حول له ولا قوّة، بحيث إذا لم يصبّوا في حلقه الحليب لفترة قصيرة، فإنّه يموت؛ كما أنّه لا يستطيع تحريك يده ليطرد الذباب عن وجهه؛ وينبغي لفّه بقماط إلى أن تمرّ سنتان، ثمّ يكبر بعد ذلك، و...؛ وبعد مرور ثمانين أو تسعين سنة من دراسة علم من العلوم؛ نظير علم أمراض العيون وأسلوب علاجها، يصير طبيبًا للعيون؛ وما إن يصير أستاذًا في هذا العلم، ويحتلّ مكانة مرموقة فيه، حتّى يُقال له: «أيّها السيّد، تعال، واخلق لنا عينًا!»؛ لكن، هل بوسعه فعل ذلك؟! أو يُقال له: «اخلق خليّة واحد من خلايا العين، وأوجدها!»؛ فهو بنفسه الذي كان مستقرًّا في رحم أمّه؛ فإذا كان هو المسؤول عن صناعة عينيه في رحم أمّه، ألن يكون بوسعه الآن وقد وصل إلى مرحلة الكمال، وصار يبلغ التسعين من العمر أن يخلق خليّة واحدة؟! لكن، هل بوسعه ذلك؟!
وعليه، فمن الذي يقوم بكلّ هذه الأفعال يا عزيزي؟! ومن هو المسؤول عنها؟! وحينما نكون غاطّين في النوم، من الذي يُنظّم دقّات قلبنا بنحوٍ يُشبه الساعات الدقيقة؟! ومن الذي يضخّ الدم إلى كافّة الأعضاء والجوارح، ويُحافظ على الدماغ حيًّا، ويحرص على عمل كافّة الأجهزة بوظائفها الخاصّة؟! فلا يقتصر الأمر علينا نحن، بل كلّ فرد منّا هو بهذا النحو؛ ولا يقتصر الأمر على كلّ فرد منّا، بل كلّ حيوان هو بهذا الشكل؛ ولا يقتصر الأمر على كلّ حيوان، بل كلّ جماد هو بهذا النحو؛ وأقسم بروحك العزيزة أنّ الشجرة لا تملك أيّ إدراك أو قدرة على أن تُخرج من بين أغصانها كمّثرى أو تفّاحًا أو شمّامًا أو بطّيخًا، أو أن تُريح نفسها بالليل، فهي لا تُدرك بنفسها أيّ شيء من ذلك. وحينما تتساقط أوراق الأشجار في فصل الشتاء، فإنّ ذلك لا يعني أنّ هذه الأشجار قد ماتت، بل إنّها تكون منهمكة في التخزين وإعداد نفسها لفصل الربيع. وعندما يمشي الإنسان بين الثلوج حينما يكون الجوّ باردًا، يجد أنّ جذور الأشجار قد صارت خالية من الأوراق؛ وبحقّ، لو أنّنا لم نر أنّ هذه الأشجار ستُنبت الأوراق في وقت معيّن ـ كأن يوجدنا الله تعالى فجأة في فصل الشتاء وبهذا العُمر ـ ، ونظرنا إليها [بتلك الحالة]، هل كنّا سنُصدّق أنّها ستحيى وتخضرّ مرّة أخرى؟! أبدًا!
فحينما يحلّ فصل الربيع، يُمكنك أن تنظر إلى جذع شجرةٍ في البريّة، لترى ما الذي يحصل له! فهل هو الذي قام بذلك بنفسه؟ كلاّ! إنّ هذا السرّ الموجود فينا، وذلك الربط الذي منحه الله تعالى إيّانا [هو المسؤول عن ذلك كلّه]؛ وإلاّ، فحينما نكون غاطّين في النوم، فإنّنا نكون جاهلين، ويكون هو العالم، ونكون عاجزين، وهو القادر، ونكون مسلوبي الاختيار، وهو المختار، ونكون موتى ـ لأنّ النوم نحو من الموت ـ ، ولا شيء؛ في حين، يكون هو كلّ شيء؛ فهذا الأمر هو الذي يُهيمن علينا ويُحيط بنا، بل بكلّ موجود من الموجودات، وليس بنا نحن فقط؛ فلو سافرت إلى المجرّات الأخرى، لوجدت الله هناك؛ ولو ذهبت إلى أعماق الأرض، لوجدت الله هناك؛ ولو حفرت طبقات الأرض السبع، لوجدت الله هناك؛ ولو توجّهت إلى المشرق، لوجدت الله هناك؛ ولو توجّهت إلى المغرب، لوجدت الله هناك؛ ولو عرجت إلى الفضاء، لوجدت الله هناك؛ فما أعجبه من إله!۱ فأيّة صورة يمتلكها هذا الإله، لكي يتواجد بكلّ مكان؟! إنّه لا يتوفّر على أيّة صورة، وإلاّ، لانحصر وجوده في مكان معيّن؛ لأنّ الصورة محدودة بالزمان والمكان؛ ولهذا، فإنّ لا يملك أيّة صورة، وتكون جميع الصور مفتقرة إليه؛ وإلاّ لو كانت له صورة، لكان متمكّنًا (أي له مكان).
وهو تعالى يتوفّر على علمٍ يُتيح له أن يهب كلَّ موجود من الموجودات التي خلقها علمًا خاصًّا يتناسب مع بنيته الوجوديّة؛ في حين أنّنا لا نستطيع تخطّي علمنا الشخصيّ، بحيث يكون كلّ فرد منّا محدودًا بعلمه الخاصّ؛ كما أنّ كلّ حيوان يمتلك إدراكًا وشعورًا معيّنًا، من دون أن يتوفّر على شعور الآخرين، بحيث لا يُمكن للأسد الاطّلاعُ على أسلوب تفكير الفهد وتخيّله وأحاسيسه وغرائزه؛ ولو أجهد نفسه في ذلك من الآن إلى يوم القيامة؛ إذ لم يُسمح له بهذا الأمر؛ لأنّ له عالمه الخاصّ، ولذاك عالمه الخاصّ، وكلا العالَمين يقعان في مقابل بعضهما؛ وبالتالي، فإنّ الله تعالى هو مُشعر المشاعر؛ أي أنّ كلّ مَشعَر موجود في كلّ ذي شعور متحقّق في الله، غير أنّ ذلك لا يعني أنّ له تعالى مشاعر، بل هو مشعر هذه المشاعر؛ بمعنى أنّه موجد الإدراكات والعلوم؛ و «بِتَشعيره المشاعر عُرف أن لا مَشعَر له»۱؛٢ أي: فلأنّ الله هو الذي وهب جميع الأفراد المشاعر والشعور، يُستنتج من ذلك أنّ شعوره تعالى يختلف عن هذه المشاعر؛ فهو خالق الشعور، وخازن العلم، ومعدنه.
جهل الإنسان وعجزه في مقابل أسرار عالم الوجود
أيًّا كان الموجود الذي تريد دراسته، فإنّك تجد هذا القانون الكلّي والمبدأ العامّ ـ الذي عرضته للتوّ ـ يحكمه؛ فهذا الجماد الذي نراه قد صار الآن عمودًا من أعمدة المسجد ـ وهو عبارة عن حجر من رخام ـ لم يكن من الأوّل هكذا، بل كان في البداية ترابًا وطينًا مستقرًّا في عمق البحر، وكان هذا الطين يمتلك قوّة جاذبة وقوّة دافعة، فصار متحجّرًا، حيث خضعت عمليّة تحجّره إلى هذه القوانين بعينها. فهذا الجهاز لا ينطفئ ولو للحظة واحدة؛ شأنه شأن السيّارة التي يقومون بتشغيلها، حيث نرى أنّ بعض السيّارات تشتغل لمدّة أربعة وعشرين ساعة [في اليوم]، من دون أن تنطفئ، ولو للحظة واحدة؛ ونظير ثلاّجة المنزل التي قد تشتغل خمس أو ستّ سنوات من غير أن تُطفأ ولو لآن واحد! فجهاز عالم الوجود لا ينطفئ لحظة واحدة، وإلاّ، لانتهى أمره! فذرّات حجر الرخام لم يعرضها النوم ولو لوهلة واحدة منذ عشرة آلاف سنة، وإلى الآن، حيث كانت مستيقظة طيلة هذه الفترة؛ بمعنى أنّها إذا خمدت لحظة واحدة، وفقدت ذلك الشعور والحسّ الذي وهبه الله تعالى إيّاها، فإنّها تصير صفرًا؛ في حين أنّها لا تكون صفرًا، ولو لآن واحد؛ إذ نجدها تتحرّك في هذا الآن بعينه باتّجاه الكمال الذي عيّنه الله تعالى لها.
ولهذا، نرى أنّ التراب في حال تغيّر، حيث يتحوّل إلى نبات وصورة إنسانيّة وصورة حيوانيّة؛ فهذا التراب بعينه يتحرّك دائمًا تحت الأرض، لتتبدّل صورته إلى جوهرة أو فحم؛ وإلاّ، لو كان ساكنًا وفاقدًا للحركة ـ أي لم يكن متحرّكًا في ذاته وسرّه ـ لما لزم أن يصير جوهرة، ولو مرّت عشرة ملايين سنة؛ فإذن، لماذا صار كذلك؟! لأنّه في حركة دائمة، غاية الأمر أنّها حركة بطيئة نعجز عن إدراكها بأعيننا، حيث إنّ هذه الأعين لا تستطيع رؤية الكثير من الأشياء، لا أنّ هذه الأشياء غير قابلة للرؤية بتاتًا! وهنا، إذا أردتُ أن أوضّح لكم مدى ضآلة ما نراه بأعيننا، قد لا تُصدّق عقولكم كثيرًا مقدار الأشياء [القليلة] التي ترونها! فأعيننا لا ترى شيئًا بالمقارنة مع الأشياء القابلة للرؤية! إذ ما هي الأمور التي يُمكن رؤيتها في عالم الوجود هذا؟ أيّها السادة، انظروا إلى خشب حامل المصحف الموجود هنا؛ فكلّ جزيئة من جزيئاته، وكلّ ذرّة من ذرّاته متحرّكة؛ لكن، هل نرى نحن حركة الخشب؟! فهذا الخشب هو في حالة مسير وحركة؛ فإذا وضعناه هنا لمدّة ألف سنة، هل سيتحلّل أم لا؟ لن يتحلّل في الحال، بل ينبغي أن تمضي ألف سنة حتّى يتحلّل؛ فإذا قسّمنا هذه الألف سنة إلى ألف درجة، فإنّ ذلك الخشب سيتحلّل درجة واحدة في فترة سنة واحدة، لا أنّه سيتأنّى لمدّة سنة، ثمّ يقفز في آخرها [فجأة] لتلك الدرجة من التحلّل؛ كما أنّ هذا التحلّل يُقسّم في كلّ سنة إلى ثلاثمائة وأربعة وخمسين يومًا بعدد أيّام السنة القمريّة؛ ممّا يعني أنّ الخشب يتحلّل كلّ يوم؛ وهكذا أيضًا، قسّموا كلّ يوم من هذه الأيّام إلى أربعة وعشرين ساعة، حيث نجد أنّ الخشب يتحلّل كلّ ساعة منها تدريجيًّا، وليس قطعةً قطعةً؛ ثمّ قسّموا كلّ ساعة إلى ستّين دقيقة، وكلّ دقيقة إلى ستّين ثانية، وكلّ ثانية إلى ثوالث، والثوالث إلى روابع، والروابع إلى خوامس، وإلى تلك الدرجات التي يبلغ كلّ واحد منها خمسة عشرة في الألف من الثانية؛ واستمرّوا في التقسيم بهذا النحو، إلى أن تتوقّف عقولكم، وتعجز عن التقسيم، بحيث لا يُمكنكم قياس هذه الأزمنة الضئيلة، ولو بالحساب الرياضيّ؛ فحتّى في هذه الأزمنة، يكون ذلك الخشب حيًّا، ومتحرّكًا، ومتّجهًا نحو هدفه المنشود؛ لكن، هل بوسعنا نحن الإحساس بهذه الحركة؟! أنّى لنا ذلك! فانظروا إلى الساعة الموجودة في جيبي، سترون أنّ عقرب الثواني فيها يدور، غير أنّكم لن تروا عقرب الساعات يتحرّك؛ فهل بحقّ نراه يدور أم لا؟ هذا مع أنّنا نقطع بأنّه يتحرّك، بحيث لو سُئل أيّ واحد فينا: «يا سيّدي، هل هذا يتحرّك أم لا»، لقال: «أجل!»؛ فلماذا إذن لا نراه كذلك؟
إنّنا عاجزون عن رؤية العديد من الأشياء؛ فانظروا إلى الأشياء التي يُمكنكم رؤيتها، وستكتشفون أنّ الأشياء التي لا نراها كثيرة جدًّا، بحيث نستطيع القول: لقد وقعنا في عالم من العمى والجهل وعدم الإدراك وعدم السمع؛ إذ ما هو مقدار ما نسمعه بالمقارنة مع كلّ الأصوات المتحقّقة في عالم الوجود؟!
الحلّ المطروح أمام الإنسان لمواجهة فقره وعجزه
وعليه، فإنّنا يا عزيزي لا نستطيع تحصيل شيء ذي بال من هذه العلوم الدنيويّة، بحيث إذا صرفنا عمرنا إلى آخره في السعي وراء الانتفاع بنحو كامل من خليّة واحدة، والاطّلاع على حقيقتها، لما تمكّنا من ذلك باعتراف الجميع، ولَذهبت أعمارُنا هباءً منثورًا؛ وبالتالي، فما هو الأفضل بالنسبة إلينا فعلُه؟ تعالوا بنا لنسير سيرًا طوليًّا لا عرضيًّا، ولنقل: يا إلهي، نحن نعترف ـ وليكن اعترافنا جادًّا ـ بأنّ وجودنا قائم بك؛ وقد جنّبتَنا الآلاف من الأمراض، وأنواع الموت، وأقسام الضعف، ووهبتنا الصحّة في مقابل كلّ هذه الأمراض؛ فكم عدد الأمراض التي ذكرها الأطبّاء للعين فقط ـ والتي تبلغ عدّة آلاف ـ ناهيك عن عدد الأمراض التي تُصيب بقيّة أعضاء الجسد؟! لكنّك أبعدت عنّا كافّة هذه الأمراض، ومنحتنا الصحّة؛ ونحّيت عنّا كلّ الهموم والغموم، ووهبتنا فراغ البال؛ ومن أوّل الحياة إلى آخرها، منحتنا فترة من العمر، لكي نُدرك في هذه اللحظات التي نعيش فيها في الدنيا أنّك أنت القائم بالذات، وأنت الحيّ، وأنت العادل، وأنّ وجودنا متعلقّ بك أنت.
فهذا هو الإيمان بالله؛ فإذا تمكّنا من الحصول على هذا الإيمان، فإنّ كافّة تلك المسائل ستنحلّ؛ لأنّها تنبع بأجمعها من منبع واحد. فإذا سعينا إلى اقتفاء أثر هذه القناة، وهذا النهر، وذلك النهر، فسيتعيّن علينا حينئذ أن نتفقّد الآلاف من هذه الأنهار، من دون أن نصل إلى آخرها؛ لكن، إذا ذهبنا إلى المنبع حيث يخرج الماء من الجبل، والذي تتشعّب منه كلّ هذه الأنهار الكثيرة، فإنّ الأمر سيتّضح هناك.
إنّ الإيمان بالله يعني أن يعقد الإنسان قلبه به تعالى، ويصله به؛ فأذهاننا توجّهت كثيرًا إلى أنفسنا، وعيوننا نظرت كثيرًا إلى ذواتنا، حيث تجدنا ننظر كلّ يوم في المرآة إلى أنفسنا، كما ننظر أيضًا إلى أفراد يُشبهوننا؛ وهذه الأنظار تفصلنا عن تلك الحقيقة التي يتعلّق بها وجودنا؛ ولهذا، فإنّنا نعلم بأنّنا ما دمنا على قيد الحياة، فإنّنا سندرس؛ أ فهل رأيتم عالمـًا يقول حينما بلغ المائة من العمر: «لقد شبعت من الدراسة، وسأتوقّف عنها»؟! محال! إذ كلّما درس الإنسان أكثر، ازداد ظمؤه؛ لأنّه حينما يدرس أكثر، يُدرك أنّ مجهولاته أكبر؛ ممّا يدفعه دائمًا لمزيد من البحث عن المعرفة؛ فيبحث، ويبحث، ويبحث، إلى أن يكتشف أنّه لن يصل إلى أيّ مكان؛ كالسمكة التي تذهب وسط البحر، فتضيع هناك.
إذن، ما الذي ينبغي علينا فعله؟ علينا أن نتحرّك بسرعة، ونسهّل الأمر على أنفسنا: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ﴾،۱ حيث يقول النبيّ: يا أيّها الذين آمنوا، لا تكتفوا بإيمانكم هذا، واسعوا للإيمان بالله تعالى؛ كما توجد آية في سورة الحديد جاء فيها: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ﴾؛٢ فما معنى ذلك؟ هل يعني أنّه على الذي آمن بالله أن يُؤمن به مرّة أخرى؟! بل يعني أنّ للإيمان درجات، ويعني: يا أيّها الذين آمنوا، لا تقنعوا بهذا القدر من الإيمان، واسعوا لزيادته، واذهبوا لكي تُحقّقوا الارتباط بالله تعالى؛ فهذا هو الأمر الذي ينبغي عليكم أن تسعوا إليه؛ وأمّا إذا أجهدتم أنفسكم إلى آخر أعماركم، فلن تستطيعوا أن تنفذوا إلى أعماق خليّة واحدة، وتكتشفوا حقيقتها؛ ومن هنا، يتبيّن أنّكم لم تُخلقوا لفهم هذه المسألة وإدراكها، بل إنّ المسألة [المرادة منكم] تكمن في موضع آخر؛ فاذهبوا، واغرقوا في الله تعالى، وتوجّهوا إليه، واغرقوا في ذاته؛ فعلمه هو المفيض للعلم، وحياته هي المفيضة للحياة، وهو المبدأ، وهو المنبع؛ فإذا ذهبتم، وغرقتم هناك، فإنّ كافّة مسائل العالم ستنحلّ لكم، ولن تعود أيّة واحد منها مجهولة بالنسبة إليكم؛ وهذا نظير أن يكون لدينا مائة كيس من الأرز يحملها مائة حمّال على ظهورهم، وقد أتوا بها من المتجر الفلاني، فتذهب إلى هذا المتجر، وتقول لصاحبه: «يا سيّدي، ما هو مستوى جودة هذا الأرز؟»، فيقول: «إنّ مستوى جودته كذا»؛ فيصير أمر كافّة تلك الأكياس المائة واضحًا بالنسبة إليكم؛ أو أن تذهبوا إلى هناك، وتسألوا: «يا سيّدي، كم يبلغ وزنها؟»، فيقول: «وزنها كذا»؛ أو تسألوه: «ما هو نوعها؟»، فيقول: «النوع الفلاني»؛ فحينما تذهبون إلى هناك، لا يبقى أيّ شيء مجهولاً لديكم.
فالذي يظفر بالإيمان بالله تعالى عليه أن يعمل بما أمره به القرآن الكريم: ﴿آمِنُوا بِاللَّهِ﴾؛٣ لماذا؟ ﴿يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ﴾؛ ففي ذلك الحين، سيمنحكم الله العليّ الأعلى المزيد من رحمته، ويهبكم سهمين منها، ويملأ جناحيكم بهذه الرحمة؛ وعلاوةً على ذلك، سيمنحكم نورًا يُمكنكم أن تتحرّكوا بواسطته؛ فالإنسان الذي لم يُؤمن بالله تعالى مفتقر للنور؛ أي أنّه أعمى، حيث نجد بعض الناس يكونون في هذا العالم عميًا، فيعيشون في الدنيا، لكنّ حياتهم ليست حياة البُصراء؛ وهكذا الشأن بالنسبة للذين لم يُؤمنوا بالله تعالى، فهم عمي، وقلوبهم عمياء، ولا يفقهون شيئًا؛ تمامًا مثل المكفوفين في العالم الذين لا يتمتّعون بالأمور المادّية، وأُفقهم مغلق أمام كافّة المبصرات، حيث نجد الأفراد الذين لم يُؤمنوا بالله تعالى كما ينبغي بهذا النحو أيضًا؛ غاية الأمر أنّ درجات هذا العمى مختلفة؛ إذ كلّما ازداد الإيمان بالله تعالى، ازداد النور؛ وكلّما قلّ ذلك الإيمان، قلّ هذا النور.
فآمنوا بالله، لكي يمنحكم تعالى نورًا تسيرون به؛ هذا، مع أنّ السير لا يُختزل في السير على الأرض، بل لدينا سير في عالم الملكوت، وسير في صفات النفس، وفي المنجيات، والمـُهلكات، والعوالم الأخرى؛ فإذا آمنتم بالله تعالى، ستتمكّنون من العثور على ذلك النور، وطيّ تلك المراحل؛ وإلاّ، ستتسمّرون في مكانكم. وأيضًا، إن آمنتم بالله تعالى، فإنّكم ستتعرّفون على صاحب البيت؛ وبالتالي، تصير غُرفُه، وسراديبه، ومسبحه، ومفاتيح مخازنه، وجواهره، وفواكهه بأجمعها تحت تصرّفكم؛ لأنّكم صرتم من معاريف صاحب هذا البيت؛ وإلاّ، ما إن تدخلوا إليه، وترغبون في الذهاب إلى أحد غرفه، حتّى يوقفونكم، ويضربونكم على قفاكم، ويقولون: «ما هذا أيّها السيّد؟! هل أتيت إلى هذا البيت لكي تفتّشه؟ أ فهل أنت فضوليّ؟! أ فهل أنت مفتّش؟! أ فهل أنت جاسوس؟!»؛ فيضربونك على قفاك، ويطردونك.
ويقول القرآن الكريم أيضًا: يا أيّها الذين آمنوا، لا تدخلوا البيت إلاّ من بابه؛۱ أي أنّه عليكم الدخول من الباب؛ لكنّك إن صادَقتَ صاحب المنزل، فإنّك ستضحى أيضًا صاحب هذا المنزل، ومن محارمه، ولن يعود أيّ شيء مخفيًّا عنك، وسيُمكنك الذهاب إلى أيّ موضع منه، مثلما تفعل في بيتك؛ أ فهل حصل إلى الآن أن تكون في منزلك، وترغب في الذهاب إلى الثلاجة، فيمنعك أحد من ذلك؟! ماذا؟! لا معنى لذلك! لكن، إن أراد جارك أن يذهب إلى ثلاجتك، فإنّ المسألة قد تنجرّ إلى حدوث شجار، بل وتنجرّ إلى ذلك!
فلو جاء جميع المفكّرين الذين وُجدوا منذ زمان آدم إلى الآن، وأعملوا تفكيرهم، فإنّ حقيقة المسألة ستبقى هي: ﴿آمِنُوا بِاللَّهِ﴾؛ أي: يجب الإيمان بالله؛ إذ ما لم يُؤمن الإنسان به تعالى، فلن يتخلّص من الهمّ والقلق والتوتّر والاضطراب، بل ولن يكون إنسانًا؛ وما دام الإنسان لم يُؤمن بعدُ بالله تعالى، فإنّ الدنيا ستكون بالنسبة إليه جحيمًا؛ فتجده يعيش في هذه الدنيا، ويطمح إلى الراحة، لكنّه يواجه باستمرار المشقّة والشقاء والتعاسة؛ وهي عبارة عن جحيم مستعرة ومعجّلة في هذه الأرض بعينها! لكن، حينما يُؤمن الإنسان بالله تعالى، فإنّه سيرتاح.
معنى الجهاد في سبيل الله تعالى
سأل أبو ذرّ: «يا رَسولَ اللَه، أيّ الأعمالِ أحَبُّ إلى اللَهِ عَزَّ وجَلّ؟»؛ قالَ: «الإيمانُ بِاللَه»؛ وبذلك، أنهى صلّى الله عليه وآله وسلّم الأمر.. وماذا بعد ذلك؟ «وجهادٌ في سَبيل اللَه»؛ والمراد من الجهاد في سبيل الله: أن يفتح الإنسان أمام نفسه الطريق نحو الله؛ إذ لدى هذا الإنسان ـ في نهاية المطاف ـ طريق إليه تعالى؛ فالسبيل يعني الطريق، وسبيل الله يعني طريق الله؛ والإنسان يمشي في هذا الطريق؛ غاية الأمر أنّه محفوف بالمشاكل؛ كأن توجد فيه قطعة حجر كبيرة تمنعه من المرور، ثمّ يتقدّم هذا الإنسان إلى الأمام، فيُلاقي حيوانًا مفترسًا يسعى لتمزيقه، ويجد في الجهة الأبعد تنانين، ثمّ يرى في الجهة الأكثر بُعدًا حيوانات سبعية تريد أن...؛ وفي الجهة الأكثر بُعدًا، يُصادف بئرًا؛ وفي الأكثر بُعدًا، يُواجه برودة تبلغ أربعين درجة مئويّة تحت الصفر؛ وفي الأكثر بعدًا، حرارةً تبلغ مائتي درجة مئويّة فوق الصفر؛ أ فلا تُشكّل هذه الأمور عقبات في الطريق؟! ففي الطريق الذي يسير فيه الإنسان نحو الله تعالى، تُعدّ أنواع الشرك التامّة والمكنونة في النفس عقبات بحدّ ذاتها.
فالجهاد يعني أن يقوم الإنسان بعمل يُساهم في إزاحة هذه العقبات؛ ولهذا، قال رسول الله: لقد خرجنا من الجهاد الأصغر، وبقي علينا الجهاد الأكبر؛ فقيل له: يا رسول الله، وأيّ جهاد أكبر من هذا الذي قمنا به؟ مع أنّ الرؤوس قد قُطعت، والأيدي قد بُترت! فقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: جهاد النفس.۱ فهو أعوص بكثير؛ لأنّ الإنسان يذهب في الجهاد الظاهريّ إلى ساحة المعركة، فيُقتل أو يقتل، وينتهي الأمر؛ إذ ليس هناك أكثر من قتلة واحدة؛ وأمّا جهاد النفس، ففي كلّ لحظة منه، هناك قتل؛ وذلك نظير أن يُعطى أحدٌ فأسًا، ويُقال له: اذهب من هذا الطريق، وستجد أمامك حجرًا يزن مائة طن، فيتعيّن عليك أن تُفتّته، لكي يُفتح الطريق؛ لكن، هل بالإمكان تفتيت هذا الحجر بواسطة الفأس؟! أجل، إذا علم الإنسان أنّ هذه القوّة المكنونة في يده، والتي يضرب بها، ليست مملوكة له، بل هي مملوكة لله تعالى، فإنّه حينما يضرب الحجر بالفأس، فإنّ الحجر سيتفتّت قطعة قطعة؛ ثمّ يذهب إلى حجر ثان، وحجر ثالث، وحجر رابع؛ كما أنّ تلك الأسود المفترسة ستهلك وتفنى بأجمعها بواسطة عبارة "بسم الله الرحمن الرحيم" واحدة؛ وكذلك الشأن بالنسبة لتلك التنانين؛ وفجأة، تجد أنّ الإنسان قد انطلق [في الطريق]، ثمّ وصل! هذا مع أنّه لم يكن في البداية يتخيّل حصول ذلك؛ إذ كيف لهذا الإنسان قتال الأسود؟! وهكذا أيضًا بالنسبة للسباع، والتنانين، والبئر، والبرودة، والحرارة.
كيفيّة تخلّص الإنسان من العقبات التي تقف أمامه في طريقه نحو الله تعالى
فإن اعتمد الإنسان على حوله وقوّته، سيكون عبارة عن ذلك الإنسان الشقيّ الذي لا يستطيع التقدّم إلى الأمام، ولو بخطوة واحدة؛ وأمّا إذا اعترف بقوله: إلهي:
﴿قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ ۖ بِيَدِكَ الْخَيْرُ ۖ إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ، تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ ۖ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ ۖ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾.۱
وإذا أقرّ بهذا الأمر، فإنّ تلك العقبات سترتفع برمّتها؛ فيرى أمامه بئرًا، وحيوانًا مفترسًا، وتنّينًا، وكافّة الآفات؛ لكنّه حينما يسير بحول الله تعالى وقوّته، فإنّ جميع هذه الأمور ستحترق وتذوب بمشيئة الله؛ لأنّه تعالى قادر. فعندما كنّا في أرحام أمّهاتنا، هل نحن الذين صنعنا أنفسنا؟! وهل نحن الذين صنعنا أعينًا لها؟! وماذا عن الأذن؟! وهل نحن الذين حرّكنا قلوبنا؟! يا سيّدي، إذا اقتُلع هذا الجلد من يد الإنسان، فلن يستطيع إصلاحه؛ وذلك بأن يضع الجلد في نفس ذلك الحين، ويمرّر يده عليه، فيعود إلى حالته الأولى! فحينما تقع حادثة سير، وتنكسر عظام الإنسان، فإنّهم يحملونه إلى المستشفى، ويجرون له عمليّة جراحيّة، و...؛ فلو كان من المفروض أن يصنع الإنسان نفسه، لفعل ذلك في اللحظة ذاتها؛ وحينما تصدمه سيّارة، ويُقطع رأسه، ينبغي على نفس هذا المقتول أن ينهض، ويُلصق رأسه بجسده، و...؛ لكنّ الأمر ليس بهذا النحو!
فإذا كان الأمر ليس بهذا النحو، فلماذا لا نلجأ للإقرار؟! ونقول: إلهي، أنت الذي تقوم بكلّ هذه الأفعال.. ﴿وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَٰهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَٰهٌ﴾؛٢ فإن ذهبتم إلى طبقات الأرض السفلى، بل إلى سابع هذه الطبقات، سيوجد الله هناك، حيث إنّ الموجودات الكائنة هناك قائمة به تعالى، وهو عزّ وجلّ أقرب إليها من نفسها؛ فما أعجبها من موجودات خلقها الله تعالى طبقًا لمخطّط جوهريّ! فتجدنا نقول: «ما هذا؟ وما ذاك؟»؛ لكن، هل نحن فقط من يقول ذلك؟ فإذا كنّا نقول: «يا إلهي، لماذا خلقت هذا الفهد؟»، فإنّ الفهد يقول أيضًا: «إلهي، لماذا خلقت هذا الإنسان؟»؛ وإذا قلنا: «إلهي، إنّ هذا الفهد عدوّ لنا»، فإنّ الفهد يقول كذلك: «إلهي، إنّ هذا الإنسان عدوّ لي»؛ وإذا كنّا نقول: «إلهي، لماذا أوجدتَ هذا الثعبان؟»، فإنّ الثعبان يقول أيضًا: «إلهي، لماذا أوجدت هذا الإنسان؟ فأنا حيوان مسكين، أزحف إلى جحري، فيتبعني الإنسان، ويُهدّم هذا الجحر، ويسحبني إلى الخارج، ويُقطّعني بواسطة الساطور إربًا إربًا»؛ أ فهل يُوجد من يكون أكثر إجرامًا من هذا الإنسان؟! لكن، إذا سألنا الله تعالى، فإنّه سيحلّ لنا هذه المسألة.
يُقال:
إنّ النبيّ موسى كان يحفر الأرض ذات يوم، فانهال بفأسه على صخرة في طبقات الأرض، فانفلقت، فشاهد فيها دودة، فسأل ربّه: «إلهي! أريد أن أعلم لأيّ سبب خلقتَ هذه الدودة؟ وما المصلحة في ذلك؟ ولأيّة حكمة أوجدتها هنا؟»؛ فجاءه الخطاب على الفور: «يا موسى! إنّ هذه الدودة تسألني كلّ يوم سبعين مرّة: لأيّة مصلحةٍ خلقتَ موسى؟».۱
وهذا بحدّ ذاته أمر صحيح؛ ففي ذلك المقام الذي يعرج إليه الأنبياء، ترتعش الأقدام؛ إذ هناك عظمة الله تعالى! رزقكم الله تعالى التشرّف بالعروج إلى هناك؛ فاذهبوا، واقرؤوا المناجاة الشعبانيّة، عسى أن تتحقّقوا إن شاء الله تعالى بمضامينها:
إِلَهِي هَبْ لِي كَمَالَ الانقِطَاعِ إِلَيْكَ، وَأَنِرْ أَبْصَارَ قُلُوبِنَا بِضِيَاءِ نَظَرِهَا إِلَيْكَ، حَتَّىٰ تَخْرِقَ أَبْصَارُ الْقُلُوبِ حُجُبَ النُّورِ فَتَصِلَ إِلَىٰ مَعْدِنِ الْعَظَمَةِ.
إِلَهِي وَأَلْحِقْنِي بِنُورِ عِزِّكَ الأَبْهَجِ، فَأَكُونَ لَكَ عَارِفًا، وَعَنْ سِوَاكَ مُنْحَرِفًا، وَمِنْكَ خَائِفًا مُرَاقَبًا، يَا ذَا الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ.٢
إلهي، هب لنا نورًا لكي نتحرّك، فينفذ هذا النور إلى هذه القلوب، ويُمزّق هذه الحجب، ويخرق الحجب المادّية والنورانيّة، ويصل إلى معدن العظمة؛ فهناك فقط توجد الراحة، وهذا المقام هو مقام عظيم، ومن المقامات التي [قال عنها الحقّ تعالى] ﴿وَفِي ذَٰلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ﴾؛٣ وهذا هو الموضع الذي ينبغي على الإنسان أن يُجهد نفسه لأجله، وليس لأجل الجلسة...، ولا لأجل بقيّة الأمور التي يُتعب الناس أنفسهم لأجلها؛ فتجد فلانًا يسعى لفتح دكّانه في وقت باكر، والآخر في وقت أبكر، ويقوم ذاك بجذب المشترين، والآخر...! لكن، ما فائدة ذلك كلّه يا عزيزي؟ ففي نهاية المطاف، درست كلّ هذا العلم من دون أن تجني أيّة فائدة؛ لكن، في أيّ موضع ينبغي عليك أن تبذل جهدك: هنا، أو هناك؟ فهذا هو ميدان السباق!
فالجهاد في سبيل الله يعني أن يُجاهد الإنسان ويبذل سعيه من أجل فتح الطريق؛ وإذا كان يُسمّى الجهاد الأصغر جهادًا، فلأنّ أحد الوسائل لفتح الطريق إلى الله تعالى هو التضحية بالنفس، حيث إنّ الذي يُشارك في الحرب برفقة الإمام والنبيّ، ويكشح نظره عن الزوجة والأولاد والأموال والمصالح والجاه وكافّة شؤون الدنيا الاعتباريّة، فإنّه يُضحّي بنفسه؛ وهذا بحدّ ذاته جهادٌ يسعى من خلاله الإنسان إلى فتح الطريق أمام نفسه نحو الله تعالى؛ ومن هنا، فإنّ كلّ نوع من أنواع الجهاد هو بهذا النحو.
رحمة الله تعالى على الحاج اللهياريّ رفيقي الأوّل، فقد كان من رفقائي الصالحين جدًّا، وكان أيضًا من رفقاء الحاج هادي الأبهريّ الحميمين، حيث امتدّت معرفتي به إلى ما يُناهز العشرين سنة تقريبًا، وكان عاشقًا لسيّد الشهداء، ومن أهل المناجاة، وأصحاب الأسرار، وكانت لديه حالات معنويّة خاصّة، كما كان من أهل العشق، ومن الذين عثروا على طريق للارتباط بالله، وكانت لديه مناجاة معه تعالى؛ وقد رحل الآن إلى المكان الذي ينبغي عليه الرحيل إليه.
حجاب چهره جان مىشود غبار تنم | *** | خوشا دمى كه از اين۱ چهره پرده بر فكنم |
چنين قفس نه سزاى چون٢ من خوش الحانيست | *** | روم به گلشن رضوان كه مرغ آن چمنم |
[يقول: لقد صار غبار جسدي حجابًا لروحي، فما أسعد تلك اللحظة التي أرفع فيها هذا الحجاب٣
إنّ هذا القفص لا يليق بمثلي أنا الطائر المغرّد، فلأرحل إلى جنّة الرضوان؛ فذلك البستان هو موطني الأصليّ].
عجز الإنسان عن وصف الله تعالى ومدحه بما يليق بذاته
نرجو من الله العليّ الأعلى أن يوصلنا إن شاء تعالى إلى مقام الإيمان؛ مثلما بيّنا سابقًا طبقًا لما يقتضيه علمنا، حيث إنّ ذلك الإيمان الذي تحدّثنا عنه يتوافق مع علمنا؛ هذا، مع أنّه إذا تمكّن الإنسان من بلوغ هذا الإيمان، فينبغي عليه الاستغفار من أنّه استطاع للتوّ الحديث عن الله تعالى ووصفه؛ لكن، يبقى أنّ وصفه هذا باعثٌ بذاته على خجله.
يُقال قديمًا إنّ شاعرًا أتى ذات يوم عند أحد الملوك ليُلقي عليه شعرًا، وكان الوزراء والعظماء و... جالسين بأجمعهم هناك؛ وحينما كان أحد الشعراء يسرد شعره، كان الجميع يرفعون أصواتهم بقولهم: «أحسنت، أحسنت، أعد، أعد!»؛ فكانت حرارة المجلس تلتهب، ويجري الترحيب بهذا الشعر، ممّا يبعث على سرور الملك الذي يمنح الشاعر جائزة وهديّة؛ نظير عطر أو لفّة قماش، أو قباء، أو.... فجاء شاعر عند الملك، وبدأ يسرد شعره، واستمرّ في قراءة الشعر، لكنّه رأى أنّ أحدًا لم يرفع صوته، فاستمرّ مع ذلك في قراءة الشعر؛ إلى أن جاء في نهاية المطاف رجل أبله وجاهل، وطفق يمدحه بقوله: «أحسنت! أحسنت! يا له من شعر قرأتَ! ما أعجب هذا الشعر!»؛ وحينئذ، بدأ ذلك الشاعر ينتحب ويبكي؛ فقيل له: لماذا تبكي؟! إنّه يُثني عليك! فقال:
ترك تحسين پادشاه و سپاه | *** | روز عيش مرا۱ نكرد سياه |
آفرينى كه اين مغفّل كرد | *** | روز عيش مرا مبدّل كرد٢ |
[يقول: ليس امتناع الملك والجيش عن ثنائي هو الذي أضنك عيشي
بل إنّ المدح الذي قام به هذا المغفّل هو الذي قلّب أحوالي]
وبحقّ، فإنّ هذا هو حال مدحنا لله تعالى؛ ولهذا، علينا أن نقول بشكل مستمرّ: إلهي، إنّنا نُثني عليك، لكنّك منزّه عن ثنائنا هذا، وأرفع منه؛ فلا مناص لنا من أن نمدحك، ولا يُمكننا ألاّ نفعل ذلك؛ لأنّ فكرنا يبلغ تلك المقامات، ويرى أنّ الأمر بهذا النحو، فيقول: أنت هو منبع القدرة والعلم والحياة وكلّ شيء؛ لكن، مع الاعتراف بأنّ هذا التمجيد يليق بنا نحن، ولا يليق بمقامك الأعظم؛ فأعنّا يا إلهي، وخذنا إلى هناك؛ وحينما تأخذنا إلى هناك، أرنا [الحقائق] بالنحو الذي تعلمه أنت؛ أي: عرّفنا عليك، واجعلنا ننظر إليك بعينك أنت، وليس بأعيننا نحن!
از دَرِ خويش خدايا به بهشتم مفرست | *** | كه سر كوى تو از كون و مكان ما را بس٣ |
[يقول: إلهي لا تطردني عن بابك، وتُرسلني إلى جنّتك، فالوقوف عند رأس زقاقك يكفيني عن كلّ كون ومكان].
نسأل الله تعالى بحقّ النبيّ وأوليائه وأحبّائه وبحقّ كلّ محبّ لله ومؤمن به تعالى، وكلّ من وضع قدميه في هذه الطرق، وتجلّى مقامُ محبّة الله في قلبه، وبمقام النبيّين والصدّيقين والشهداء والصالحين أن يُحوّل مَجَازاتِنا إلى حقيقة، ويزيد إيماننا به كلّ يوم، ويُزيح عقبات الطريق من أمام أقدامنا، ويحشرنا مع الصالحين.
اللهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد.