المؤلّفالعلامة آیة الله السيد محمد الحسين الحسيني الطهراني
المجموعةأبحاث فقهية
التوضيح
في هذا المجلس الذي عقده سماحة آية الله العلاّمة السيّد محمّد الحسين الحسينيّ الطهرانيّ رضوان الله تعالى عليه بمسجد القائم بطهران في شهر رمضان المبارك سنة 1398 هجريّة قمريّة للحديث عن بعض الأحكام المتعلّقة بالديات والقصاص، تطرّق بدايةً إلى تقسيم الجناية إلى عمديّة وشبه عمديّة وخطأ، وبيان أحكام الدية في كلّ واحدة منها، لاسيّما الخطأ؛ ليُعرّج بعد ذلك على استعراض دية الرجل والمرأة المسلمين، وبيان حكم كلّ من الإجهاض والمثلة والتشريح، وديتها في الإسلام، ثمّ تحدّث أيضًا عن الدية في حوادث السير بين القوانين الوضعيّة والإسلاميّة، ليختم كلامه بالبحث عن أحكام دية قتل الحيوان أو جرحه.
هو العليم
أحكام الديات والقصاص
أبحاث فقهيّة ـ المجلس السادس
محاضرات ألقاها
سماحة العلّامة آية الله الحاجّ السيّد محمّد الحسين الحسينيّ الطهرانيّ
قدس الله سره
أعوذ بالله مِنَ الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلّى اللهُ على محمّدٍ وآلِهِ الطاهِرينَ
ولَعنَةُ اللهِ على أعدائِهم أجمَعين
الجناية عمدٌ وشبهُ عمدٍ وخطأٌ
إذا ارتكب أحد جناية في حقّ آخر، إمّا عن طريق القتل أو الجرح أو قطع الأعضاء والجوارح، فإنّ لهذه الجناية ثلاث حالات: الحالة الأولى أن تكون عمديّة، والثانية أن تكون شبه عمديّة، والثالثة أن تكون خطأ.
أمّا بالنسبة للحالة الأولى وهي الجناية العمديّة، فأن يكون الجاني قاصدًا للفعل، وفي الوقت ذاته، قاصدًا لصدور خصوص هذه الجناية منه؛ وذلك كأن يضرب أحدٌ آخر بآلة قتّالة بنية قتله، حيث نجده هنا قاصدًا لهذا العمل؛ أي الضرب بالآلة، وقاصدًا أيضًا لقتل ذلك الشخص بواسطة هذا الضرب؛ فهذا الذي يُقال له: جناية عمديّة.
وأمّا الحالة الثانية وهي الجناية شبه العمديّة، فأن يكون الإنسان قاصدًا للفعل الذي يقوم به، لكنّه لا يقصد ارتكاب جناية بواسطة هذا الفعل؛ وذلك كأن يضرب أحدٌ آخر بقصد التأديب، فيُريد أن يُؤدّبه، ولا يُريد قتله، غير أنّ هذا الضرب ينجرّ إلى قتله وموته؛ فهذا الذي يُقال له: الجناية شبه العمديّة.
وأمّا بالنسبة للحالة الثالثة، وهي الجناية الخطأ، فألاّ يكون الإنسان قاصدًا لذلك الفعل، ولا لصدور تلك الجناية منه؛ فلا يكون ناويًا لأيّ واحد منهما؛ ومثاله أن يُطلق أحدٌ سهمًا ليصيد حيوانًا أو طائرًا، فينحرف السهم، ويُصيب إنسانًا، ويقتله؛ ففي هذه الحالة، لم يكن الرامي قاصدًا إطلاق السهم على هذا الإنسان، ولا قاصدًا قتله بواسطة هذا الرمي؛ فنيته لم تتعلّق بهذا الفعل ولا بالغاية التي تحقّقت الآن؛ وهذا الذي يُقال له: الجناية الخطأ.
ففي الحالة الأولى؛ وهي الجناية العمديّة، يكون للمجنيّ عليه ـ أي الذي وقعت عليه الجناية ـ حقّ القصاص، حيث يتسنّى له أن يورد على الجاني نفس الجناية التي ارتُكبت في حقّه؛ وكمثال على ذلك، إذا قطع أحدٌ يد آخر عمدًا وبجناية عمديّة، أمكن الذي قُطعت يده أن يوقع نفس هذه الجناية على الذي أوقعها عليه؛ بأن يقطع يمناه، إذا قُطعت يُمناه؛ ويقطع يُسراه، إذا قُطعت يُسراه؛ ويقطع يده من الزند، إن قُطعت يده من الزند؛ ويقطعها من المِرفق إن قُطعت يده من المِرفق؛ ويقطعها من الكتف، إن قُطعت يدُه من الكتف.۱
وأمّا إذا أفضت هذه الجناية إلى القتل؛ أي أنّ المجنّي عليه مات بسببها، فإنّه بمقدور أولياء دم المقتول ـ وهم ورثته والذين لهم ولاية على أمواله وحقوقه ـ الاقتصاص من القاتل، حيث يعود لهم الحق في ذلك؛۱ لكن، يُمكنهم التنازل عن هذا الحقّ، والعفو عن الجاني الذي ارتكب تلك الجناية؛٢ وبوسعهم إن شاؤوا التنازل إلى الدية؛ أي أن يتّفقوا مع بعضهم، ويأخذوا الدية عوضًا عن قتل الجاني.٣ فهذه أحكام تجري فيما إذا كانت الجناية عمديّة.
وأمّا إذا كانت الجناية شبه عمديّة، فلا يحقّ للمجنيّ عليه وأوليائه الاقتصاص، بل يجب عليهم بالضرورة القبول بالدية، والتي تُدفع من أموال الجاني بعينه؛ أي أنّه هو الذي يُلزم بأداء هذه الدية.
أحكام الجناية الخطأ وديتها
وأمّا إن كانت الجناية خطأ، فلن يوجد هنا قصاص، بل تجري الدية وحسب، ولا تُدفع هذه الدية من مال الجاني، بل تتحمّلها العاقلة.
والعاقلة على أربع طوائف:
ففي المرتبة الأولى، يوجد أقرباء الجاني من جهة الأب؛ كالأخوة والأعمام من جهة الأب، أو من جهة الأب والأمّ؛ وأمّا الأخ من جهة الأمّ، والعمّ من جهة الأمّ، والخال، فلا يدخلون في العاقلة، ولا يتوجّب عليهم أداء الدية.
ويقع في المرتبة الثانية الشخص الذي أعتق الجاني؛ بمعنى أنّه: إذا كان هذا الجاني عبدًا، وأعتقه أحد الأشخاص، وجب على هذا المـُعتق تحمّل دية جنايته الخطأ.
ويأتي في المرتبة الثالثة ضامن الجريرة؛٤ فيجب على كلّ من ضمن جرائر الجاني أن يتحمّل ديته.
وفي المرتبة الرابعة، يتعيّن على الإمام عليه السلام تحمّل هذه الدية، ودفعها من بيت مال المسلمين.٥
ولتسليط الضوء على هذه المسألة، سنضرب عليها مثالاً: فلنفرض أنّ أحدًا ارتكب جناية في حقّ آخر عن خطأ، فتوُفّي المجنيّ عليه، أو قُطعت أحد أعضائه؛ ففي هذه الحالة، ستتعلّق الدية برقبة الجاني؛ وهنا، سنحسب هذه الدية؛ فإن كانت كاملة، سيصير مقدارها ثلاثمائة ألف تومان تقريبًا؛٦ وإن كانت مختصّة بالأعضاء والجوارح، سيختلف مقدارها؛ لكن، لو فرضنا أنّها كانت كاملة، أي بمقدار ثلاثمائة ألف تومان، لتعيّن على [العاقلة] أداؤها لورثة المجنيّ عليه.
ففي البداية، تُقسّم هذه الدية بين الأقارب من جهة الأب (العَصَبة)، حيث يقول بعض الفقهاء إنّ: «أب الجاني وأولاده يدخلون في العَصَبة، وعليهم دفع الدية أيضًا»،۱ في حين يقول البعض الآخر: «تُستثنى هذه الطائفة من العَصَبة، ولا تدخل فيها»؛ بمعنى أنّه لا يتعيّن على الأب والأولاد المشاركةُ في دفع الدية.٢ وفي جميع الأحوال، ينبغي ـ كلٌّ حسب نظريّته ـ تقسيم هذه الدية بين الأقارب من جهة الأب؛ فيُقال مثلاً لأب الجاني: «عليك أداء أربعين ألف تومان»؛ وإذا كان لهذا الجاني أخوان، يُقال لهما: «عليكما دفع ستّين ألف تومان»؛ فيصير المجموع مائة ألف تومان؛ وإن كان له بعض الأعمام، كأن يكون له عمّ من جهة الأب والأمّ، وعمّ من جهة الأب، توزّع الدية عليهما أيضًا، ليتحمّلا سداد مائة ألف تومان مثلاً؛ وبعد ذلك، تُقسّم المائة ألف تومان الباقية على أولاد هذا العمّ، أو الأفراد الذين يبعدون عنه من ناحية الطبقات بدرجة واحدة؛ وبالتالي، سيجري تقسيم كلّ هذه الثلاثمائة ألف تومان بين أقارب الجاني من جهة الأب؛ فهذه هي المرتبة الأولى من العاقلة، والتي يُقال لها: «العَصَبة».
لكن، إذا لم يتحمّل الأقارب من جهة الأب أداء ثلاثمائة ألف تومان، وتحمّلوا سداد مائة ألف تومان فقط، فإنّ الباقي يُلقى على عهدة المولى الذي أعتق الجاني، ويكون ملزمًا بأدائه؛ لأنّه من ورثة هذا الجاني؛ كأن يكون الجاني عبدًا معتقًا، بحيث إذا توفّي، ولم يكن له أقرباء، ورثه مولاه الذي أعتقه؛ وعليه، بما أنّ هذا المولى من الورثة، فعليه بدوره تحمّل دية الجناية الخطأ؛ ولهذا، متى ما عجزت العَصَبة عن أداء كلّ الدية، وجب في الدرجة الثانية على المـُعتق دفع [الباقي]؛ وإذا لم يتمكّن هذا الأخير أيضًا من ذلك، تعيّن في الدرجة الثالثة سدادها من قبل ضامن الجريرة؛ أي الذي ضمن جنايات هذا الشخص وجرائره؛ وإذا لم يقوَ هو أيضًا على أداء كلّ الباقي، يدفع ـ طبقًا لرأي الحاكم الشرعيّ ـ بمقدار ما يستطيع، والباقي يدفعه الإمام؛ أي أنّ من وظائف الإمام ونائبه تسديد دية هذه الجناية من بيت مال المسلمين؛ لأنّ الجناية حصلت خطأً، ومن دون قصدٍ من الجاني.
وفي هذا المقام، سنسعى لاستعراض فروعات مسألة الدية، لكي نتعرّف على مدى فائدة هذه الأحكام.
مقدار دية الرجل والمرأة المسلمين
فدية المسلم إذا كان رجلاً عبارة عن: إمّا ألف دينار؛ أي ألف مثقال شرعيّ من الذهب المسكوك، ويُعادل في هذه الأيّام ثلاثمائة ألف تومان تقريبًا؛ وإمّا عشرة آلاف درهم، بحيث يُساوي كلّ درهم سبعة أعشار المثقال الشرعيّ؛ وبالتالي، تصير عشرة آلاف درهم مساوية لعشرة آلاف درهم من الفضّة المسكوكة، والتي تُعادل تقريبًا ألف مثقال من الذهب المسكوك، وألف دينار؛ وإمّا مائة من الإبل يكون كلّ واحد منها قد أتمّ السنة الخامسة، ودخل في السادسة؛ وإمّا مائتي بقرة دخلت في السنة الثالثة؛ وإمّا ألف من الغنم؛ وإمّا مائتي زوج من الحلل اليمانيّة، بحيث يكون كلّ زوج عبارة عن ثوبين، فيصير المجموع: أربعمائة حلّة يمانيّة.۱
وتتقارب كلّ هذه الأمور من حيث القيمة؛ أي أنّ قيمة ألف غنم، ومائتي بقرة، ومائة من الإبل، وعشرة آلاف درهم، ومائتي زوج من الحلل اليمانيّة، وألف دينار تُساوي كلّها ثلاثمائة ألف تومان تقريبًا.
وتبلغ دية المرأة المسلمة نصف هذا المقدار؛ أي خمسمائة دينار شرعيّ، أو خمسة آلاف درهم، أو مائة بقرة، أو خمسين من الإبل، أو خمسمائة من الغنم، أو مائة زوج من الحلل اليمانيّة.٢
وتتساوى دية الرجل والمرأة، إلى أن تبلغ ثلث دية [النفس]؛ لكن، إذا تجاوزت هذا الثلث، صارت دية المرأة نصف دية الرجل؛٣ وعلى سبيل المثال، إذا قطع أحد أصابع إنسان، فإنّ ديته هي عشرة إبل (مائة دينار)؛ أي عُشر الدية؛ فإن قطع عشرة أصابعه، تعلّقت به دية كاملة؛ أي ألف دينار؛ وفي هذه الحالة، متى ما قطع أحدٌ أصبعَ آخر، توجّب عليه أداء عشرة إبل، من دون أيّ فارق بين الرجل والمرأة؛ لأنّ العُشر أقلّ من الثلث؛ وإذا قطع أصبعين من أصابعه، لزمه أداء عشرين من الإبل تمُثّل خُمس الدية؛ وبما أنّها أقلّ من الثلث، فلن يوجد هنا أيّ فارق بين الرجل والمرأة؛ وإذا قطع ثلاثة من أصابعه، لزمه أداء ثلاثين بعيرًا؛ أي ثلاثين دينارًا؛ ونظرًا لكون هذه الثلاثين بعير أقّل من ثلث الدية، فلن يوجد أيّ فارق في المقام بين الرجل والمرأة؛ وعليه، لو أنّ أحدًا قطع ثلاث أصابع لرجل أو امرأة، لتعيّن عليه أن يُؤدّي لكلّ واحد منهما ثلاثين بعيرًا.
لكن، قد تتجاوز دية الجناية ثلث الدية الكاملة؛ كأن يقطع أحدهم أربعة أصابع لآخر، فتبلغ الدية هنا أربعين بعيرًا، ونسبة الأربعين إلى المائة تفوق الثلث؛ ففي هذه الحالة، تُصبح دية المرأة نصف دية الرجل؛ بمعنى أنّه إذا قطع أحد أربعة أصابع لرجل، لزمه أداء أربعين من الإبل؛ وإذا قطع أربعة أصابع لامرأة، تعيّن عليه دفع عشرين من الإبل؛ وهكذا أيضًا، إذا قتل أحد رجلاً، توجّب عليه تسديد دية كاملة؛ وإذا قتل امرأة، لزمه أداء نصف هذه الدية.۱
وتبلغ دية الكفّار الذين هم في ذمّة الإسلام ثمانمائة درهم للرجل،٢ بحيث يُعادل كلّ درهم سبعة أعشار المثقال الشرعيّ من الفضّة المسكوكة، وليس من الذهب؛ وأمّا دية المرأة الذمّية، فتُساوي نصف ذمّة الرجل الذمّي؛ أي أربعمائة درهم شرعيّ، ويكون كلّ درهم شرعيّ مماثلاً لسبعة أعشار المثقال الشرعيّ.
ودية العبد والأمة سواءً كانا ذمّيين أو مسلمين قيمتُهما؛ أي مقدار ما يُساويان؛ اللهمّ إلاّ أن تكون هذه القيمة أعلى من الدية الكاملة، حيث يُقتصر في هذه الحالة على مقدار هذه الدية.٣ ولنضرب مثالاً على ذلك بعبد تبلغ قيمته ألفي دينار شرعيّ؛ فإذا قتله أحد سهوًا وخطأً، لا يُمكن أن يُؤخذ منه أكثر من ألف مثقال شرعيّ، بل يجب الاكتفاء بهذا المقدار.
حُرمة الإجهاض وأحكام ديته في الإسلام
وأمّا بالنسبة لدية الجنين في الدين الإسلاميّ، فينبغي أن يُعلم أنّ إسقاط الجنين من المحرّمات المؤكّدة، وله حكم قتل النفس المحترمة؛ ولا يفرق في حرمة هذا العمل كون الجنين نُفخت فيه الروح أو لا؛ كما لا يفرُق فيه أن يجري ذلك في أوائل الحمل، أو أواسطه، أو أواخره؛ بل بمجرّد انعقاد النطفة، واستقرارها في الرحم، لا يجوز الإسقاط، بل يحرُم؛٤ فإذا قام أحد بهذا الفعل، يكون قد ارتكب محرّمًا، ومعصية كبيرة؛ وعلاوة على ذلك، ستلزمه الدية.
ودية النطفة التي انعقدت عشرون مثقالاً من الذهب المسكوك، وتُساوي عشرين دينارًا شرعيًّا، أو عشرين أشرفيًّا؛٥ وإذا تعدّت مرحلة النطفة، وتحوّلت إلى علقة، صارت ديتها أربعين دينارًا؛ أي أربعين مثقالاً من الذهب المسكوك؛ وإذا تجاوزت هذه المرحلة، وأصبحت مُضغة (أي على شكل لحم ممضوغ)، بلغت ديتها ستّين دينارًا؛ أي ستّين مثقالاً من الذهب المسكوك؛ وإن بدأ تكوّن عظام هذا الجنين، صارت ديته ثمانين دينارًا؛ وهي عبارة عن ثمانين مثقالاً من الذهب المسكوك؛ وإذا اكتمل بدنه في رحم الأمّ، واكتست العظام لحمًا، لكنّ الروح لم تنُفخ بعدُ في هذا الطفل، فإنّ ديته هي مائة دينار؛ أي مائة مثقال من الذهب المسكوك، والذي يُمثّل عُشر الدية؛ وأمّا إذا نُفخت فيه الروح، فإنّ ديته تُعادل دية إنسان كامل؛ فيُعطى لورثة الطفل ألف مثقال من الذهب المسكوك إن كان ولدًا، وخمسمائة مثقال من الذهب المسكوك إن كان بنتًا.٦
وورثة هذا الطفل هم في الدرجة الأولى أبوه وأمّه؛ فإذا ضرب أحدٌ بطنَ الأمّ برجله أو بيده أو بعصا، فأسقطت الجنين، لزمه أن يدفع ديته بنفس الطريقة والمقدار اللذين بينّاهما آنفًا؛ ويستلم كلّ من الأب والأمّ هذه الدية.۱
وأمّا إذا لجأت الأمّ بنفسها إلى إسقاط الجنين، فإنّها تكون قاتلة، والقاتل في الشريعة الإسلاميّة لا يرث؛٢ فمثلاً، إذا قتل أحدٌ أباه، فإنّه لا يرثه، وإذا قتل عمّه، فإنّه لا يرث هذا العمّ؛ وعليه، فإنّ حُكمَ المرأة التي أسقطت جنينها حكم من قتل ولده، وعليها أداء الدية إلى ورثة هذا الطفل.٣ ومن هنا، إن كان والد الطفل حيًّا، استلم هذه الدية؛ وإلاّ، استلمها أخوته وأخواته وجدّه وجدّته؛ وفي حالة فقدان هؤلاء، وصلت الدية إلى الأعمام والأخوال.
وإذا لم تُسقط المرأة الجنين بنفسها، بل ذهبت عند طبيب، وهذا الطبيب هو الذي أسقط جنينها، فإنّ المسائل التي ذكرناها سابقًا تجري بعينها هنا؛ فإذا كانت الروح قد نُفخت في هذا الجنين، ثمّ أسقطه الطبيب بعد ذلك، فإنّ حكم هذا العمل هو حكم القتل العمد؛ وحينئذ، إذا فرضنا أنّ تلك المرأة لم يكن لها أيّ دخل في ذلك، بل الطبيب هو الذي أجرى هذه العمليّة بكلّ ما يملكه من قدرة، فإنّ هذا الطبيب سيُعدّ قاتلاً للطفل عن عمد؛ وبالتالي، إن كان هذا الطفل ولدًا، فبوسعهم قتل الطبيب في مقابل قتله لنفس محترمة. وأمّا إذا عرّضت المرأة نفسها أيضًا لإسقاط الجنين، فأسقطه الطبيب بعمليّة جراحيّة أو أمثال ذلك، فإنّ الطبيب يكون مقصّرًا، والمرأة أيضًا مقصّرة؛ ولهذا، تُوزّع [مسؤوليّة] هذا القتل عليهما معًا، ولا يعُد بالإمكان إجراء القصاص؛ لأنّ القصاص يجري في الموارد التي ينحصر فيها القتل بفرد واحد؛ ولهذه الحالة عدّة أحكام:
الحكم الأوّل أن يُعطي الأبُ للطبيب نصفَ دية الطفل الذي كان حيًّا، ثمّ يقتله؛ لأنّ مسؤوليّة هذه الدية موزّعة على الطبيب والأمّ معًا؛ إذ كلاهما قاتل؛ أو يغضّ الأب الطرف عن القصاص والقتل، ويقبل بالدية؛ وفي هذه الحالة، تُقسّم ألف مثقال من الذهب بين الأمّ والطبيب، ويُعطي كلّ واحد منهما خمسمائة مثقال من الذهب للأب.
وأمّا إذا لم تلج الروح في هذا الطفل، فإنّ ديته تُساوي مائة دينار؛ وهنا أيضًا، إذا تصدّت المرأة والطبيب معًا لهذا العمل، فإنّ الدية تُقسّم بينهما، ويلزم كلّ واحد منهما أداء خمسين مثقال من الذهب.
وإذا كان الجنين لا يزال نطفة، ولم يتحوّل بعدُ إلى علقة، بل كان قد استقرّ للتوّ في الرحم، فإنّ كلاًّ من الطبيب والأمّ مُلزمان بدفع عشرة مثقال شرعيّ من الذهب.
وأمّا إذا لم يُباشر الطبيب هذه العمليّة بنفسه، بل حينما جاءت عنده المرأة، أعطاها دواءً وأقراصًا لكي تتناولها، وتُسقط الجنين، فلن يكون الطبيب حينئذ مباشرًا للعمل، بل سببًا فقط؛ وبما أنّ المباشر أقوى من السبب هنا، فإنّ الدية بأجمعها ستدخل في عهدة المرأة التي ستُعدّ قاتلة لهذا الجنين.
وعلى أيّ تقدير، فإنّ الإجهاض وإسقاط الجنين حرام، وتتعلّق به الدية في كلّ حالةٍ بالطريقة ذاتها التي ذكرناها سابقًا، بل حتّى لو كان الرجل منهمكًا في مجامعة زوجته، وأفزعه أحدٌ، إلى درجة أنّه توقّف عن هذا العمل، وأراق منيّه خارج رحم المرأة، تعلّقت به الدية؛ أي ينبغي على [الذي أفزعه] دفع عشرة مثقال شرعيّ من الذهب.۱
فهذه هي أحكام الجنين؛ وعلى المسلمين أن يُراعوا هذه المسائل، ولا يتخلّوا عن دينهم وعن الإسلام؛ وحتّى إذا وُضعت أحيانًا قوانين مخالفة للقوانين الإسلاميّة، فلا ينبغي على المسلمين التخلّي عن دينهم، وقتل النفس المحترمة اتّباعًا لأهواء النفس الأمّارة ونزواتها؛ إذ لدينا في القرآن الكريم:
﴿وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا﴾.٢
وإن أجبر رجل زوجته على الإجهاض، فلا ينبغي عليها طاعته، ولو أفضى ذلك إلى الطلاق والخصام؛ نظير أن يُجبر أحدٌ آخرَ على القتل، حيث يتعيّن على الأخير ألاّ يُطيعه، مهما حصل، ولو أدّى ذلك إلى الطلاق والخصام.
ومتى ما ضرب الرجل زوجته في بطنها برجله أو يده، فأسقطت الجنين، يُعدّ الرجل قاتلاً، وتدخل في عهدته الدية بالطريقة ذاتها التي ذكرناها آنفًا، [ويتوجّب دفعها لبقيّة الورثة]؛ فهذه هي الأحكام المتعلّقة بالجنين.
حكم المـُثلة والتشريح وديتهما
ومن الأحكام الإسلاميّة الأخرى أنّ الإنسان لا يحقّ له التمثيل بالميّت المسلم؛ فإذا ارتحل أحدهم عن دار الدنيا، وكان مسلمًا، فإنّ [جسده] يكون محترمًا، وينبغي غسله، وتكفينه، ودفنه؛ كما أنّ جرحه، وتقطيعه، وتشريحه حرام في الدين الإسلاميّ، بل وتتعلّق به الدية.
والدية التي تلزم عند تشريح الرجل المسلم أو المرأة المسلمة ـ من دون أن يوجد بينهما هنا أيّ فارق ـ هي عُشر الدية الكاملة لرجل حيّ، مع العلم أنّ دية الرجل الحيّ هي ألف دينار؛ أي ألف مثقال من الذهب المسكوك. فإذا توفّي أحد، وقطع آخر رأسه؛ فبمجرّد قيام القاطع بهذا الفعل، يتعيّن عليه ـ علاوةً على كونه قد ارتكب معصية ـ دفع مائة دينار؛ أي مائة مثقال من الذهب المسكوك؛ وإذا قطع إحدى يديه، يُؤدّي نصف هذا المبلغ؛ أي خمسين مثقالاً؛ وإذا قطع كلتا يديه، يدفع مائة مثقال؛ وإن فقأ إحدى عينيه، يُسدّد خمسين مثقالاً؛ وإن فقأهما معًا، يُؤدّي مائة مثقال؛ وإذا قطع إحدى أذنيه، فديتها خمسون مثقالاً؛ وإذا قطعهما معًا، فمائة مثقال؛ وهكذا... .
ومن هنا، يتعيّن [على المـُشرّحِ] أداء عُشر دية الرجل الحيّ؛ وهو ما يُعادل نفس الدية التي تتعلّق بالجنين الذي كان تامًّا في بطن أمّه، ولم تلجه الروح بعدُ؛ غاية الأمر أنّ دية الميّت [المشرَّح] يتمّ توزيعها على الأعضاء، بحيث يكون لكلّ عضوٍ منها دية خاصّة مثلما جاء في كتاب «الديات»؛ كما أنّ هذه الدية لا تُعطى لخلفه وورثته، بل ينبغي أن تُنفق في وجوه البرّ ومصالح المسلمين؛ كإطعام المساكين، ومساعدة المحتاجين والأيتام، وأمثال ذلك؛ وعليه، فإنّ هذه الدية تختلف عن دية الجنين في أنّ حكم دية الجنين حكم التركة، وأنّها تتعلّق بورثة هذا الجنين؛ نظير الإنسان الذي كان حيًّا، فُقتل، فأخذ أولياء دمه ديته؛ فهكذا أيضًا فيما يخصّ دية الجنين التي يستلمها ورثته، ويكون لها حكم الأموال التي تركها هذا الجنين، ويتعيّن تقسيمها بينهم، ويُستثنى من ذلك كلّ من تصدّى لقتله. وأمّا بالنسبة لدية قطع أعضاء الميّت، فيجب إنفاقها في وجوه البرّ؛ أي في أفعال الخير والمبرّات والأمور الحسبيّة، ولا تصل إلى ورثة الميّت الذي شُرّح وقُطعت أعضاؤه.۱
وعليه، فإنّ التشريح حرام، وتتعلّق به الدية على نفس المنوال الذي أشرنا إليه سابقًا؛ لكن، لا يوجد إشكال في تشريح جسد الذين ليست لهم نفس محترمة؛ أي الخارجون عن الإسلام؛ كالمشركين، والبوذيّين، وعبّاد الأصنام، والنواصب، واليهود، والنصارى؛ ولا تتعلّق الدية بهؤلاء؛ وبالتالي، إذا احتاج البعض إلى تشريح جثّةٍ أثناء فترة تعلّمه وتدرّبه، فلا يُمكنه استعمال جسد مسلم، ولزمه الاقتصار على تشريج جثث غير المسلمين.٢
ضرورة الالتزام بقوانين السير الممضاة من قِبل الحاكم الشرعيّ
وأمّا بالنسبة للتكليف الذي يقع على عاتق الإنسان في حوادث السير التي تحصل جرّاء اصطدام السيّارات، فما هو؟
أوّلاً: إذا كانت القوانين الموضوعة لتنظيم السياقة والسير ممضاةً من قبل الحاكم الشرعيّ، وبإذنه، فستكون بأجمعها قابلة للتنفيذ، ومُبرمة تمامًا، وواجبة التطبيق، حيث جُعلت هذه القوانين لأجل المحافظة على أرواح الناس؛ ولهذا يتعيّن عليهم مراعاتُها، وإلاّ أوقعوا أنفسهم في الهلاك؛ وكمثال على ذلك: يُمنع تجاوز الإشارة الضوئيّة الحمراء، ولا يجوز الانعطاف إلى الجهة اليُسرى، ولا يجوز السير في الاتّجاه الممنوع.
ثانيًا: لا ينبغي على الإنسان الاكتفاء بالقوانين الموضوعة؛ لأنّنا نجد بعض هذه القوانين تتعارض مع التحديد الشرعيّ للجناية؛ وكمثال على ذلك، أن يكون هناك رجل لا يُجيد السياقة، وحصل على رخصة قيادة رسميّة عن طريق دفع الرشوة، ورجل آخر بارع بشكل كامل في السياقة، غير أنّه لم يحصل على تلك الرخصة؛ فلو حصل اصطدام بينهما في الشارع، فإنّ المقصّر والمذنب في هذه الحادثة سيكون بكلّ تأكيد هو الرجل الذي لا يُجيد السياقة، ويمتلك رخصة قيادة زائفة حصّلها بالرشوة؛ لكن، حينما يأتي الشرطي المسؤول عن تحديد المقصّر في هذه الحادثة، فإنّه سيقول أوّلاً: «أيّها السيّد، أين هي رُخصتك؟»، فيقول ذلك الرجل: «أنا لا أمتلك رخصة»، فيقول له الشرطيّ: «فإذن، أنت المذنب!»؛ وبالتالي، سيعدّه مجرمًا.
وأمّا القانون الإسلاميّ، فيقول هنا: إعطاء الرشوة حرام؛ ولهذا، فإنّ المجرم هو الذي حصل على رخصة قيادة من دون إذن شرعيّ، ودفع الرشوة؛ فهذه الرخصة التي استلمها لم تكن ممضاة؛ وبالتالي، فإنّه هو المذنب.
وعليه، حينما يحكم القانون هنا بأنّه «على السائق الذي لا يملك رخصة قيادة تحمّل خسائر الغير»، فإنّ المسألة تكون معاكسة تمامًا، حيث ينبغي على الذي استلم الرخصة عن طريق الرشوة تحمّل تلك الخسائر.
ومن هنا، لا بدّ للناس الذين يسوقون سيّاراتهم في الشوارع والطرق أن يطّلعوا على هذه المسائل؛ إذ من الممكن أن يأتي الخبير في هذا المجال، ويجعل المسؤوليّة على عاتق أحد، في حين أنّها تكون في الواقع وباطن الأمر على عاتق آخر، أو يكون من الواجب ـ كحدّ أقلّ ـ توزيع الخسائر على الطرفين، طبقًا لجناية كلّ واحد منهما.
طبقات العاقلة وشروط تحمّلها للدية في الجناية الخطأ
ذكرنا سابقًا في الجناية الخطأ أنّ المجنيّ عليه وورثته ووليّ دمه لا يملكون حقّ القصاص، وأنّ الدية أيضًا لا تتعلّق بمال الجاني، بل يجب على العاقلة أداؤها.
الطبقة الأولى من العاقلة هم العَصَبة؛ أي أقرباء الجاني وذووه من جهة الأب؛ ويقع في الطبقة الثانية المولى الذي أعتق الجاني، إن كان هذا الجاني عبدًا؛ وفي الطبقة الثالثة الذي ضمن جريرة الجاني وجنايته؛ وفي المرحلة الرابعة، إذا لم يوجد في الخارج أحدٌ من هذه الطبقات الثلاث، أو لم يقدروا على تحمّل كلّ الغرامة والدية، وجب أن يدفعها الإمام عليه السلام أو نائبه من بيت مال المسلمين.
وتُشترط في أداء دية الجناية الخطأ ـ التي لا تتعلّق فيها هذه الدية بمال الجاني بل على الآخرين [أي العاقلة] أداؤها بالترتيب الذي ذكرناه آنفًا ـ مجموعة من الأمور:
أوّلاً: ألاّ تكون الجناية عن عمد.
ثانيًا: ألاّ يكون الجاني عبدًا أو أمة؛ إذ لو كان كذلك، وكانت الجناية عمديّة، لوجب تسليمه للمجنيّ عليه أو ورثته؛ وأمّا إذا لم تكن الجناية عمديّة، وكانت قيمة الغرامة أقلّ من قيمة هذا العبد أو الأمة، تعيّن على مولاهما أداؤها؛ لكن، إن بلغت قيمتها قيمتهما، أمكن ـ عوضًا عن الدية ـ تسليم نفس العبد أو الأمة الجانِيَيْن للمجنيّ عليه أو ورثته، سواءً كان هذا العبد أو الأمة خالصين في العبوديّة (قنّين)، أو مُدبَّرين، أو كانت الأمة أمّ ولد.۱
و«المدبَّر» هو الغلام أو الأمة اللذين وصّى مولاهما بعتقهما بعد وفاته؛ و«أمّ الولد» هي الأمة التي أنجبت من مولاها، وصار عندها ولد؛ وهنا، إذا ارتكب هؤلاء جناية خطأً في حقّ أحد، فإنّ أقاربهم ومولاهم المـُعتق وضامن الجريرة والإمام عليه السلام لا يتحمّلون الغرامة والدية، بل عليهم بأنفسهم تحمّل هذه الجناية وديتها؛ فإمّا أن يدفعوها بأنفسهم، أو تُقتطع من ثمنهم.
ثالثًا: الشرط الثالث أن تصل هذه الجناية إلى درجة الموضِحة؛ لأنّ الجناية التي يرتكبها أحد في حقّ آخر على عدّة أقسام:
فتارةً، تُفضي هذه الجناية إلى اقتلاع الجلد فقط من دون بلوغ اللحم؛ وتارةً، تصل إلى اللحم، وتنزع قليلاً منه؛ وتارة، تكون أعمق، لكنّها لم تكن قد وصلت بعدُ إلى العظم؛ وتارة، تستأصل جلد الرأس، وتبلغ الجلد الرقيق الذي يُغطّي الجمجمة؛٢ وتارةً، تصل هذه الجناية إلى العظم، فتُمزّق الغشاء الرقيق الذي يُغطّيه، ويصير هذا العظم ظاهرًا؛ وتارةً، تُؤدّي هذه الجناية إلى كسر العظم، حيث إنّ لكلّ واحدة من هذه الجنايات دية خاصّة في الشريعة الإسلاميّة؛ وهي بأجمعها معيّنة ومحدّدة.٣
فالجناية الخطأ التي لا تدخل ديتُها في عهدة الجاني، بل على العاقلة سدادُها ينبغي أن تصل إلى مستوى الموضِحة؛ أي إلى درجة ظهور العظام، أو أكثر؛ ومثالها: انكشاف العظم، وكسر العظام، وقطع اليد، وبتر الرجل، وقطع الرأس، وقتل الإنسان، ونظائر ذلك.۱ وأمّا إذا كانت الجناية أقلّ درجة من الموضِحة؛ كأن تُفضي إلى قطع الجلد أو تمزيقه؛ فإنّ الدية تدخل في عهدة الجاني بعينه؛ ولو كانت خطأً.
رابعًا: الشرط الآخر ألاّ تكون هذه الجناية التي صدرت من الجاني قد ثبتت باعترافٍ منه هو؛ إذ من الممكن أن يأتي إلى المحكمة الشرعيّة، ويُقرّ بارتكابه لهكذا جناية، فيلزم كافّة أقاربه وعَصَبته وعاقلته أداء الغرامة والدية؛ مع أنّه قد لا يكون هذا الأمر حقيقيًّا؛ ولهذا، ينبغي إثبات الجناية في الخارج بالطرق التي عيّنها الشرع، سوى الإقرار؛٢ لأنّ إقرار الجاني لا يجري هنا.٣
خامسًا: الشرط الآخر ألاّ يكون الجاني بعد ارتكابه للجناية قد صالح المجنيّ عليه أو ورثته على شيء؛ ومن هنا، إذا صدرت جناية من أحدٍ، واتّفق الجاني مع المجنيّ عليه أو ورثته، وتصالحوا على مبلغ معيّن، لم يعُد واجبًا على العاقلة أداء الدية، بل يجب على الجاني أن يدفع بنفسه ذلك المبلغ الذي تصالحوا عليه.٤
سادسًا: الشرط الآخر ألاّ يكون الإنسان قد ارتكب هذه الجناية الخطأ في حقّ نفسه؛ ومن هنا، إذا لوّح أحدٌ بسكّين، فقطع يده ـ كأن يكون جزّارًا مثلاً فيبتر يده خطأً ـ فإنّها تكون جناية عن خطأ؛ لكن، بما أنّه ارتكب هذه الجناية في حقّ نفسه، فإنّ غرامتها وديتها لا تدخل في عهدة العاقلة.
سابعًا: الشرط الآخر ألاّ تكون هذه الجناية قد وقعت بسبب بهيمة وحيوان؛ فإذا فرضنا أنّ أحد الأفراد يملك حمارًا أو جملاً أو فرسًا، وأُطلق هذا الفرس، فارتكب في حقّ فرد آخر جناية خطأً ـ كأن يقتله مثلاً ـ، فإنّ الدية حينئذ لا تقع على عاتق العاقلة، بل توجد هنا بعض التعاليم الخاصّة التي يلزم اتّباعها.٥
ثامنًا: الشرط الآخر ألاّ تكون هذه الجناية ماليّة، بل تكون نفسيّة؛ ومن هنا، إذا ارتكب أحد جناية في حقّ مال آخر؛ كأن يكسر قارورته، أو يهشّم سيّارته، أو يصدم سيّارته بسيّارته، فيُصيبها بأضرار، وأمثال ذلك، فمع أنّ الجناية في كافّة هذه الموارد قد تكون خطأ؛ لكن، بما أنّها ماليّة، فإنّها تقع على عاتق الجاني بعينه.
وعليه، فإنّ الجناية التي تُصيب نفس الإنسان وجسده على ثلاثة أقسام: الجناية العمديّة، وشبه العمديّة، والخطأ، حيث تختلف هذه الجنايات في الأحكام. ولا يخفى أنّ الجناية الماليّة لا تُسمّى في الشرع بالجناية، بل يُطلق عليها اسم الخسارة، سواءً كانت عمديّة أو شبه عمديّة أو خطأ؛ فيجب على المسبّب لهذه الخسارة تحمّل نتائجها، ولو كانت عن خطأ؛ وعلى سبيل المثال، أن يكون أحد نائمًا، فيُحرّك رجله بدون إرادته، ويُكسر قارورة أحد آخر، أو يُسقط جرّة ماء، فتنكسر؛ ففي هذه الحالة، إذا لم تكن هذه الأشياء مملوكة له، يلزمه تحمّل الخسارة؛ أي أداء مِثلها إن كانت مِثليّة، أو قيمتها إن كانت قيميّة.
فإذا كان أحد يمشي في الشارع، فاصطدم من غير قصد بحمولة من الزجاج أو الفاكهة لأحد آخر يسير هو أيضًا في هذا الشارع، فسقط ذلك الزجاج على الأرض، فانكسر، وسُكبت تلك الفاكهة على الأرض، ففسدت، فعليه أن يتحمّل الخسارة، ولو صدر منه الفعل خطأً؛ حيث لا يوجد هنا أيّ فارق بين المرأة والرجل والطفل والكبير.
فمع أنّ الأطفال غير مكلّفين، لكنّ الأحكام الوضعيّة تتعلّق بهم؛ وعلى سبيل المثال، إذا كان هناك طفل لم يصل بعدُ إلى سنّ البلوغ، فعليه تحمّل الخسائر التي يُلحقها بممتلكات الآخرين؛ ولو كانت له سنتان أو ثلاثة سنوات، وسواءً كان ولدًا أو بنتًا؛ أي: إذا كان يمتلك أموالاً، فإنّ وليّه يدفع الخسارة من هذه الأموال؛ وإلاّ، عليه أن يصبر إلى أن يصل إلى سنّ البلوغ، فيدفع هو بنفسه الخسائر التي صدرت منه قبل بلوغه من الأموال التي يحصل عليها.
وعليه، فمن شروط الدية التي تتحمّلها العاقلة ألاّ تلحق الخسارة والجناية بالأموال، بل تُصيب البدن أو الجلد أو اللحم أو العظم أو أمثال ذلك.
الدية في حوادث السير بين القوانين الوضعيّة والقوانين الإسلاميّة
وفيما يخصّ هذا المسألة، أشرنا سابقًا إلى أنّه على الإنسان في حوادث السير التي تقع في المدن والبراري أن يُعمل نظره، ليتعرّف على الحكم الخاصّ به؛ إذ حينما تصطدم سيّارتان ببعضهما، أو تقوم سيّارة بدهس أحدٍ، فتقع على إثر ذلك جناية، فإنّ هذه الجناية تكون على عدّة أقسام:
فتارة، تكون جناية ماليّة لا نفسيّة؛ أي أنّه لا يُصاب جسد أيّ أحد بالأذى، بل يلحق الضرر بالسيّارات، وتُصاب هذه السيّارات بعُطل، وتكون بحاجة إلى إصلاح وحسب؛ ففي هذه الحالة، ينبغي على المذنب تحمّل الخسائر.
وأمّا إذا قام الإنسان بصدم [سيّارة] إنسان آخر عن طريق الخطأ، ولم يكن هناك أيّ أحد أمامه؛ كأن تكون سيّارة واقفةً على حافة الطريق، وكان أحد مارًّا من هناك، فصدمها خطأً، فإنّ عليه تحمّل الخسارة.
وإذا طرقت سمعكم هذه العبارة: «التعويض حرام»، فإنّها لا تجري هنا، حيث يُراد من التعويض [في تلك العبارة] أن يكون في يد الإنسان مالٌ لآخر أخذه منه بإذنه، فيُتلفه عن غير قصد أو تقصير؛ كما في العارية والوديعة. وكمثال على هذا الأمر أن تستعير من منزل الجيران إناءً أو سجّادًا، حيث تكون يدك بالنسبة لهذا المال أمينةً، وليست غاصبة؛ ولهذا، عليك أن تبذل قصارى جهدك للمحافظة عليه، إلى أن تُرجعه إلى صاحبه؛ لكن، إذا أفرغت وُسعك في ذلك، وأصيب هذا السجّاد بضرر من غير قصدك أو تقصيرك؛ كأن تكون وضعته في فناء البيت، فسقط حجر من دون قصدك من منزل الجيران، وأصاب السجّاد بثُقب؛ أو تكون وضعت الكأس والوعاء في مكان مناسب لا يكون فيه عُرضة للتلف، فقفزت قطّة، وكسرت هذا الوعاء، فإنّك غير ملزم هنا بتحمّل الغرامة؛ لأنّك بذلت جهدك في المحافظة على هذا المال؛ والضرر الحاصل هنا لا يُنسب إليك، ولو أنّك يدك أمينة. أو لنفرض مثلاً أنّ أحدًا وضع عندك سجّادًا أو رداءً أو عباءةً كأمانة، فأفرغت كلّ وسعك في المحافظة عليها، لكنّ ضررًا لحق بها من دون قصدك؛ فهنا أيضًا يحرُم أخذ العوض.
لكن، إذا قام أحد بإتلاف مالِ آخر عن عمد واختيار، أو عن سهو ونسيان، أو عن خطأ، فإنّه يتحمّل الغرامة في كافّة هذه الموارد.۱
وعليه، إذا كانت سيّارةٌ مثلاً واقفةً على حافة الطريق، فصدمتها سيّارة أخرى، لكن ليس عن عمد أو شبه عمد، بل ارتجفت يدا السائق عن طريق الخطأ المحض، فصدم هذه السيّارة، أو أنّ سيّارته كانت جيّدة، وقام أيضًا بفحصها، لكن، بسبب إصابتها بخلل تقنيّ مفاجئ، لم يتمكّن من كبح الفرامل، فصدم تلك السيّارة القابعة في الجانب، وألحق بها الضرر، حيث نجد هنا أنّ المـُورِد للضرر غير مقصّر بتاتًا، غير أنّه ملزم بتحمّل الغرامة؛ لأنّ مال ذلك الإنسان كان محترمًا، وهو الذي ألحق به الضرر؛ ولهذا، عليه أن يتحمّل الخسارة بكلّ ما للكلمة من معنى، ويعوّض الآخر عن كلّ ما يحتاج في العرف والعادة إلى الإصلاح؛ هذا كلّه في حالة الخطأ.
وأشرنا سابقًا إلى أنّه: نظرًا لكون القوانين المذكورة في مدوّنة السير قد وُضعت بواسطة الخبراء في هذا المجال، وأنّ مراعاتها تُساهم في المحافظة على أرواح الناس، فإنّها تكون قابلة للتنفيذ بعد إذن الحاكم الشرعيّ، بحيث يتعيّن على الجميع طاعتها، من أجل تفادي الأضرار والحوادث والخسائر الماليّة والنفسيّة؛ لكن، إذا وقعت أحيانًا حادثةٌ، وجرى تحديد المذنب طبقًا لهذه القوانين، فعلينا أن نرى هل يعتبره القانون الإسلاميّ مذنبًا أيضًا أم لا؟
وبيّنا أنّ هناك عدّة حالات يُمكننا فرضها تكون فيها القوانين الموضوعة للناس متعارضة مع الإسلام، حيث إنّ رأي الإسلام يتّصف بدقّة وعمق أكبر؛ فمادام المسلم لم يخرج عن عهدة الخسارة والجناية التي ارتكبها في حقّ الغير، يجب عليه ـ بمقتضى عقيدته وإيمانه بالله تعالى ـ ألاّ يبتعد من مكان الحادثة، بل عليه أن يسعى لإرضاء الخصم.
وذكرنا أيضًا أنّ من بين هذه الحالات: أن يكون أحدٌ حصل على رخصة قيادة، لكنّها لا تكون نابعة من فهمه وإدراكه وعمله، بل حصل عليها بواسطة إعطائه للرشوة، ولم يكن هذا الشخص ماهرًا في السياقة؛ ويكون شخص آخر ماهرًا جدًّا في السياقة، غير أنّه ـ بالمناسبة ـ لا يملك رُخصةً؛ وأثناء سير هذين الإثنين في الطريق، يصطدمان ببعض، ويكون المذنب الحقيقيّ هو صاحب الرخصة الذي لا يُحسن السياقة؛ لكن، حينما تأتي الشرطة لتحديد المـُذنب، وتعيين غرامته، فبمجرّد أن يكتشفوا عدم امتلاك الآخر للرخصة، فإنّهم سيقولون له: «أنت هو المذنب!»؛ في حين أنّ التقصير لم يكن منه هو. ففي هذه الحالة، على صاحب الرخصة الذي كان هو المذنب الحقيقيّ أن يتحمّل فيما بينه وبين الله تعالى كافّة الخسائر التي لحقت بالطرف الآخر؛ ولو أنّ هذا الأخير قصّر أيضًا، وقاد سيّارته من دون رخصة؛ لكنّ التقصير بدر في الحالة التي ذكرناها من الذي يمتلك رخصة قيادة.
والحالة الأخرى أن يُخالف أحدٌ قوانين السير، ويقوم أحد آخر لم يُخالف هذه القوانين بصدمه عن عمد؛ وكمثال على ذلك، أن يتجاوز أحدٌ الخطّ المتّصل، وحينما يرى الآتي من الجهة المقابلة أنّه خالف القانون، يقول في نفسه: «سأصدمه عن عمد، وبما أنّه تجاوز الخطّ، فإنّ قانون السير سيعدّه هو المذنب»، حيث نجد قانون المرور يقول هنا: «كلّ من تجاوز الخطّ يكون مذنبًا»؛ في حين أنّ القانون الإسلاميّ يقول: «الذي كان يقصد ذلك الفعل، وصدر منه عن عمد، واعترف بنفسه أنّه صدمه عمدًا هو المذنب»؛ وبالتالي، يتعيّن عليه أن يتحمّل الخسارة هو، وليس الآخر.
والمسألة الأخرى التي تتّصف بدقّة أكبر من البقيّة أنّ معظم الحوادث التي تقع يكون فيها التقصير من الطرفين؛ غاية الأمر أنّ تقصير أحدهما يكون أكبر، وتقصير الآخر أقلّ؛ وفي هذه الحالة، ينبغي توزيع الخسارة أو المخالفة عليهما طبقًا لدرجة تقصير كلّ واحد منهما؛ لكنّنا لا نجدهم يلجؤون إلى هذا الأمر، بل يعتبرون ـ بمقتضى قوانينهم ـ أحد الأطراف مذنبًا، ويضعون على عاتقه كافّة الغرامات.
وعلى سبيل المثال، يوجد في هذه القوانين أنّ سرعة الدرّاجة الناريّة لا ينبغي أن تتعدّى في الشوارع خمسين كيلومتر في الساعة؛ فهذا قانون؛ وهناك قانون آخر يقول: إنّ الاستدارة في الشارع الذي له خطّ متّصل ممنوعة؛ وفي هذه الحالة، إذا كان أحد يمشي بسرعة أكثر من خمسين كيلومتر في الساعة؛ كأن تبلغ سرعته سبعين أو ثمانين كيلومتر في الساعة، ولجأ أحد آخر يسير في الاتّجاه المقابل إلى الاستدارة، فوقعت بينهما حادثة، فإنّ قانون السير يقول هنا: «المذنب هو الذي استدار؛ لأنّ الاستدارة حينما يكون الخطّ متّصلاً ممنوعة»، ولا يُحمّل الذي زادت سُرعته عن المقدار المحدّد أيَّة مسؤوليّة، بل يتعيّن على الذي استدار في الخطّ المتّصل تحمّل خسارة الطرفين؛ في حين أنّهما مقصّران معًا؛ غاية الأمر أنّ مخالفة الذي استدار في الخطّ المتّصل أكبر؛ لأنّ هذا العمل أقرب إلى الخطأ من زيادة السرعة.
وفي هذه الحالة، يجب تحديد مقدار مخالفة وتقصير كلّ واحد منهما بغاية الدقّة؛ أي: يجب ملاحظة استدارة ذلك الشخص، وسرعة الآخر، وتقسيم [مسؤوليّة] هذه المخالفة بينهما؛ فإذا قام الأوّل مثلاً بالاستدارة في الخطّ المتّصل، وفاقت سرعة الثاني الخمسين، لتصل إلى الستّين؛ أي أنّه تجاوز السرعة المسموح بها بعشرة كيلومترات في الساعة، فإنّه على الشرطيّ المختصّ أن يقول: «يتحمّل الذي استدار في الخطّ المتّصل تسعة أضعاف ما يتحمّله الآخر من المخالفة»؛ وحينئذ، ينبغي أن نأتي إلى الخسارتين النفسيّة والماليّة التي لحقت بالإثنين، ونُوزّعها عليهما بنسبة الواحد والتسعة؛ أي: يجب ملاحظة مقدار خسارة كلّ واحد؛ كأن يبلغ الضرر اللاحق بالسيّارة الأولى ثمانية عشرة ألف تومان، والضرر اللاحق بالسيّارة الثانية ألفي تومان، ثمّ يُجمع المبلغان، فيصير عشرين ألف تومان؛ وبما أنّ مقدار مخالفة الذي استدار كان هو تسعة، ومقدار مخالفة الذي تجاوز السرعة المسموح بها كان هو واحد، ومجموعهما هو عشرة، يلزم تقسيم تلك العشرين ألف تومان إلى عشرة أقسام، يتحمّل قسمًا منها [أي ألفا تومان] الذي تجاوزت سرعته الحدّ القانونيّ، ويتحمّل تسعة أقسام منها ـ أي ثمانية عشرة ألف تومان ـ الذي استدار في الخطّ المتّصل؛ وبالتالي، لا يُمكن للشرطيّ أن يقول: «الذنب على الذي استدار، ولا شيء على الآخر»؛ لأنّ هذا الأخير تسبّب أيضًا في الحادثة بواسطة سرعته الزائدة؛ وإلاّ، لو لم يكن يمشي بهذه السرعة، وسار بسرعة عادية، لما وقعت تلك الحادثة.
وهكذا أيضًا، إذا كان ذلك الشخص ـ الذي فرضناه في هذا المثال يسير بسرعة ـ قد وصلت سرعته إلى المائة، وكان الآخر يستدير في الخطّ المتّصل، فإنّ مخالفة السرعة مائة تزيد على مخالفة السرعة ستّين؛ وبالتالي، حينما يأتي الشرطيّ، فإنّه سيحدّد مثلاً أنّ الذي استدار يتحمّل ثمانية أضعاف من المخالفة، في حين يتحمّل الذي كان يمشي بسرعة مائة الضعفين؛ وحينئذ، يلزم توزيع الجناية عليهما بنسبة الإثنين والثمانية؛ أي الواحد والأربعة، وتقسيم الخسارة إلى خمسة أقسام، بحيث يتحمّل قسمًا منها صاحب السرعة الزائدة، ويتحمّل أربعة أقسام منها الذي استدار [في الخطّ المتّصل].
وعليه، في كلّ حادثةِ سيرٍ، يجب حسابُ مقدارِ المخالفة بنحو تامّ، وتوزيعه على الطرفين، سواءً أفضت هذه المخالفة إلى قتل أحد، أو كسر عظام، أو تمزيق لحم، أو إذهابِ عقلٍ وإصابةٍ كلّيةٍ بالجنون، أو كانت ضربةً تُسبّب الإغماء؛ إذ لكلّ واحدة من هذه الأمور حكم خاصّ في قانون الإسلام؛ بل حتّى إذا أصيب بدن أحدٌ بخدش، فإنّ فيه دية، بحيث يتعيّن ملاحظة هذه الدية بالطريقة ذاتها التي أُشير إليها آنفًا، وذلك باعتبار نسبة عِظم جناية كلّ طرف أو صغرها.۱
وأمّا إذا جاءت الشرطة، وحدّدت الطرف المذنب، بينما كان الطرف الآخر يرى فيما بينه وبين الله تعالى أنّه أيضًا مذنب، فينبغي عليه إرضاء خصمه، من دون الاكتفاء بذلك الحكم، أو أن يقول: «أيّها السيّد، أنا مسلم، وأرى نفسي مقصّرًا أيضًا في هذه الحادثة؛ وصحيح أنّ تقصيرك أكبر، لكنّني كنت أيضًا مقصّرًا هنا؛ ولهذا، علينا أن نحسب معًا، لكي نرى مقدار نصيبي من هذه الخسارة، ومقدار نصيبك منها أنت»؛ أو يقول: «لا أملك مالاً، فاعف عنّي»؛ فإذا قال الآخر: «عفوت عنك»، فهذا أفضل، وإلاّ، عليه أن يخرج عمّا في عهدته.
وعليه أيضًا أن يُفهم الطرف المقابل أنّ الخسارة التي وقعت قيمتها كذا، وأنّ نصيبه منها مثلاً أربعة آلاف تومان، ثمّ يقول له: «اصفح عن هذا المبلغ»، لا أن يقول له: «مهما كان الأمر الذي حدث، اصفح عنه بنحو مجمل».
وكما أسلفنا الذكر، فإنّ الدية الكاملة للرجل المسلم هي ألف دينار من الذهب؛ فإذا أدّت الحادثة إلى وقوع قتل، لزم القاتل دفعُ ألف دينار ديةً، أي ما يُساوي ثلاثمائة ألف تومان، ولو كان هذا القتل خطأ. ولا يخفى أنّ العاقلة هي التي تتحمّل هذه الدية في القتل الخطأ؛ لكن، إذا كان القتل شبهَ عمد، تعيّن على القاتل أن يُسدّدها من جيبه؛ وفي حوادث السير التي تقع، يكون القتل غالبًا شبهَ عمد؛ ولهذا، تقع الدية على عاتق الذي حصلت له هكذا حادثة، وليس على عاتق العاقلة؛ وفي هذه الحالة، إذا وقع قتل بواسطة هذه الحادثة، تعيّن على القاتل إفهام ورثة المقتول الأمر التالي: « في هذه الحادثة، أنا مدين لكم وذمّتي مشغولة بمبلغ ثلاثمائة ألف تومان؛٢ فإن عفوتم عنّي، فبها ونعمت؛ وإلاّ، خذوا منّي أيّ مبلغ ترغبون فيه؛ وحتّى إذا كنتم تريدون الدية كاملة، فإنّها تقع على عاتقي»؛ لا أن يقول مثلاً: «في هذه الأيّام، إذا وقع قتل، فإنّهم يأخذون عشرة آلاف تومان، أو عشرين ألف تومان، أو إنّ شركة التأمين تُعطي المبلغ الكذائيّ»، بل إنّ المقدار الذي يقع على عاتقه ويتعيّن عليه أداؤه هو ما حددّه الشارع، وعليه أن يُفهمهم هذا الأمر تمامًا، لا أن يقول: «أيّها السيّد، سأمنحك عشرة آلاف تومان، فاصفح عنّي، وتنازل لي عن حقّك»؛ فيفرح هذا [الوريث] بتسلّمه عشرة آلاف تومان، ويتنازل عن حقّه؛ لكنّ هذا لا يصحّ، وهو أمر باطل! فعليه أن يقول: «إنّ المبلغ المعادل للجناية التي ارتكبتها في هذه الحادثة هو ألف مثقال من الذهب، وذمّتي مشغولة به؛ فهل يُمكنك أن تعفو عنّي في هذا المبلغ الذي يُساوي ثلاثمائة ألف تومان، أو لا؟»؛ فإن قال له: «عفوت عنك»، فإنّ هذا العفو يكون صحيحًا.
كما ينبغي أن يقول له حقيقةً: «اعف عنّي!»؛ لا أن يشقّ عليه، ويسعى لمماطلته، ويقول له: «اذهب اليوم، وتعال غدًا»، ويتساهل قليلاً في هذا الأمر، ويلجأ للتضييق عليه، بل عليه أن يطلب منه الصفح بشكل واقعيّ، فيصفح عنه الآخر بكلّ وضوح؛ ففي هذه الحالة فقط، يكون الصفح صحيحًا؛ وأمّا إذا سعى للتضييق عليه، حتّى يُجبره على الصفح، فإنّ هذا لا يصحّ.
فإذا فُقأت مثلاً العين اليُمنى أو اليُسرى لأحدهم بسبب حادثة سير، فإنّ ديتها هي خمسمائة دينار شرعيّ؛۱ أي مائة وخمسون ألف تومان؛ وعلى الجاني أداء هذا المبلغ؛ وأمّا إذا دفع أقلّ من ذلك، وقال للمجنيّ عليه: «ارض عنّي»، فلن يفيده ذلك في شيء.
وتتعلّق بالجروح التي تُصيب البدن ـ سواءً بلغت العظم أم لا ـ ديةٌ معتدٌّ بها؛ فإذا قال أحد للمجروح: «سأعالجك في المستشفى إلى أن تتعافى»، فقد لا يكون ذلك كافيًا؛ إذ حتّى لو تعافى، وكان سيكسب مائة ألف تومان إضافيّة، لكان ذلك من حقّه؛ لأنّ هذه الجناية قد وقعت عليه، وكانت ديتها تساوي مائة وخمسين ألف تومان مثلاً، في حين أنّ تكلفة المستشفى بلغت بأجمعها خمسين ألف تومان؛ ولهذا، ينبغي إعطاؤه مائة ألف تومان إضافيّة.
فهذه تعاليم يجب على الإنسان مراعاتها على الدوام، حيث نجد الإسلام يولي أهمّية بالغة لمسألة الدية والقصاص؛ شأنها في ذلك شأن بقيّة الأحكام الإسلاميّة.
أحكام دية قتل الحيوان أو جرحه
فحتّى لو رمى الإنسان حيوانًا لآخر، فقتله، أو جرحه، أو بتر أعضاءه، فإنّنا نجد له حكمًا في الشريعة الإسلاميّة، حيث ينقسم هذا الحيوان إلى ثلاثة أقسام: فإمّا أن يكون مأكول اللحم، أو لا؛ وفي الحالة الثانية، إمّا أن يكون قابلاً للتذكية، أو لا. فالحيوانات مأكولة اللحم هي التي يحلّ أكل لحمها؛ نظير البقر والغنم والإبل؛ وهنا، إذا قتل أحد جمل آخر أو خروفه أو بقرته بنحوٍ تتسنّى معه الاستفادة من هذا الحيوان، والانتفاع بلحمه وجلده؛ أي أنّ قتله جرى عن طريق الذبح الشرعيّ، فلا يلزم حينئذ أداء قيمته؛ لأنّ الحيوان الذي قُتل بهكذا طريقة لم يخرج عن مال صاحبه، ولو أنّه قد جرى التصرّف فيه؛ ولهذا، ينبغي أن يُدفع لصاحبه الفارق بين قيمته حيًّا وقيمته ميّتًا؛ وهو ما يُعبّر عنه بالأرش؛ وعلى سبيل المثال، إن كان الجمل الحيّ يُساوي عشرة آلاف تومان، والمقتول يُساوي ثمانية آلاف تومان، ينبغي أن يُلجأ هنا إلى التسعير، ويُدفع إلى صاحب الجمل الفارق بين حالة كونه حيًّا، وحالة كونه مقتولاً بالذبح الشرعيّ؛ أي ألفي تومان.
وعليه، إذا قتل أحدٌ بقرةَ آخر أو خروفه بذبح شرعيّ، فلا يُغرّم كلّ القيمة؛ لأنّ لهذا الحيوان ماليّة، بل ينبغي عليه تسديد الأرش؛ أي الفارق بين قيمتي المقتول من هذا الحيوان، وغير المقتول منه.
وأمّا إذا لم يُذبح هذا الحيوان بذبح شرعيّ؛ كأن تُقتل بقرة بواسطة حجر، أو يُلقى بجملٍ من أعلى جبلٍ، فيموت في أسفل الوادي، أو يُرمى خروفٌ في الماء، فيختنق، فلن تعود له أيّة ماليّة؛ وبما أنّه سيكون ميتة، فسيحرم بيعه وشراؤه، وسيحرم أيضًا أكل لحمه وشحمه؛ وفي هذه الحالة، يتعيّن على الجاني أن يُؤدّي لصاحب هذا الحيوان ثمنه بأجمعه.
كما أنّ الذي يدخل في عهدة الجاني هو قيمة الحيوان في اليوم الذي أتلف فيه؛ وعلى سبيل المثال، إذا قتل هذا الجاني خروفًا البارحة، وكانت قيمته آنذاك خمسمائة تومان، لكنّها صارت الآن ستّمائة تومان، فإنّ عليه أداء تلك الخمسمائة تومان؛ لأنّ ذمّته صارت مشغولة بثمن الخروف في نفس الوقت الذي أتلفه فيه؛ وعلى العكس من ذلك، إذا كان ثمن الخروف البارحة ستّمائة تومان، وصار الآن خمسمائة تومان، يتعيّن على الجاني دفع ستّمائة تومان، والتي تُمثّل قيمة الخروف في زمان التلف.
وأمّا إذا لم يقتل الجاني الحيوان، بل ضربه، فصار أعرجًا، أو قطع أذنه، أو بتر رجله، فإنّ هذا أيضًا من وجوه الأرش؛ بمعنى أنّه يُلجأ هنا إلى تسعير هذا الحيوان حالة كونه تامّ الأعضاء، وحالة كونه معيبًا قد أُصيب بهذا العيب؛ ثمّ يُجعل الفارق بين قيمتي الصحيح والمعيب في عهدة الجاني الذي يتعيّن عليه أداؤه لصاحب الحيوان؛۱ هذا كلّه إذا كان الحيوان مأكول اللحم.
وأمّا إذا لم يكن الحيوان مأكول اللحم، لكنّه لم يكن أيضًا غير قابل للتذكية؛ كالكلب والخنزير، بل كان مثل الثعلب والذئب وابن آوى، وهي حيوانات غير نجسة العين، إلاّ أنّ لحمها ليس بحلال؛ غاية الأمر أنّه بوسع الإنسان الانتفاع من جلودها إذا ذُبحت ذبحًا شرعيًّا؛ ففي هذه الحالة، لن يكون الحيوان ميتة، ويُمكن بيع جلده وشراؤه؛ ومع أنّ الإنسان لا يستطيع الصلاة في هذا الجلد؛ لأنّه غير مأكول اللحم، إلاّ أنّه يجوز بيعه وشراؤه من دون أيّ إشكال، كما يتسنّى له أيضًا الجلوس عليه، واستعماله. وحينئذ، إذا قتل أحدٌ هذا الحيوان بذبح وتذكية شرعيّين ـ أي قطع رأسه مع احترام شروط التذكية ـ فإنّه لا يخرج عن ملك صاحبه، ولا يجب على الجاني أداء قيمته، بل عليه دفع الفارق بين قيمته حيًّا وقيمته ميّتًا؛ كأن يُسعّر مثلاً الثعلب الحيّ بخمسين تومان، والثعلب المقتول بثلاثين تومان، فيكون عليه أداء الفارق بينهما؛ أي عشرون تومان.
وإذا لم يُقتل الحيوان بذبح شرعيّ ـ كأن يرمي أحدٌ ثعلبًا أو ابن آوى بحجر فيموتان ـ فسيكون هذا الحيوان ميتة، ولن يتسنّى بيعه وشراؤه، بل ولا بيع جلده؛ وبالتالي، يجب على المرتكب لهذه الجناية تحمّل خسارة قيمته؛ أي قيمته في الزمان الذي أتلفه فيه.
ويسري هذا الحكم بعينه على الأعضاء؛ فعلى سبيل المثال، إذا رمى أحدٌ حجرًا، فكسر رِجل حيوان كالثعلب، لزم تحديدُ قيمة هذا الثعلب حالة كونه حيًّا وسليمًا، وقيمته حالة كون رجله مكسورة، ويتحمّل الجاني أداء الفارق بين هاتين القيمتين.۱
وقد يكون الحيوان غير قابل للتذكية؛ أي أنّه لا يطهُر ولو بقطع [أوداج] رأسه؛ نظير الكلب والخنزير اللذين لا يقبلان التزكية، ولا قيمة لهما؛ ففي هذه الحالة، إذا قتل أحد كلب آخر، فلن يتعلّق بذمّته أيّ شيء؛ هذا، ويحرم أيضًا بيع الكلب والخنزير وشراؤهما، ولا يجوز للإنسان أخذ المال في مقابل بيعهما؛ لأنّهما نجسا العين، والمال المأخوذ عوضًا عنهما سُحت وحرام؛ اللهمّ إلاّ في أربعة أنواع من الكلاب التي يحوز بيعها وشراؤها، ولا يوجد أيّ إشكال في الاحتفاظ بها؛ ألا وهي:
استثناءات حرمة بيع الكلب وشرائه
الأوّل: كلب الصيد، والذي يُربّى من أجل الصيد، فيصطحبه الصيّاد معه، ويُطلقه [على الصيد] طبقًا للتعليمات التي لقنّه إيّاها؛ فيقول الصيّاد بنفسه: «بسم الله»، ويذهب ذلك الكلب، ويلتقط هذا الصيد، ويأتي به، حيث تكون لهذا الكلب قيمة، ولا يوجد أيّ إشكال في بيعه وشرائه.
الثاني: كلب الماشية الذي يصطحبه الرعاة معهم لأجل حراسة الأغنام.
الثالث: كلب الزرع الذي يوضع وسط بيادر القمح والشعير والأرز وأمثال ذلك، حتّى لا يأتي حيوان، فيُفسد هذه البيادر، ويذهب بهذا الزرع.
الرابع: كلب الحائط، وهو الذي يضعه حارس البساتين الكبيرة التي تُزرع فيها الفواكه، ويُحتمل أن يأتي سارق ليلاً، وينهب هذه الفواكه، حيث يجوز أيضًا بيع هذا الكلب وشراؤه.
فصارت لدينا أربعة أنواع: كلب الصيد، وكلب الزرع، وكلب الماشية وكلب الحائط، حيث ورد في بعض الروايات أنّ ثمن كلب الصيد أربعون درهمًا، وثمن كلبي الماشية والحائط عشرون درهمًا لكلّ واحد، وثمن كلب الزرع قفيز من البرّ؛٢ وهو مكيال خاصّ من القمح؛ لكن، يبدو أنّ هذه العبارة مرتبطة بذلك العصر؛ فإذا زادت قيمة هذه الكلاب أو نقصت، بحسب اختلاف الأحكام والأعصار، فبوسع الإنسان بيعها وشراؤها بأقلّ من ذلك الثمن أو أكثر منه.
وفي هذه الحالة، إذا ارتكب إنسانٌ جنايةً في حقّ أحد هذه الكلاب؛ كأن يضرب كلب صيد ويقتله، لزم تسعير هذا الكلب، وتحديد قيمته، ليتحمّل هذا الإنسان أداء غرامته؛ كما أنّه إذا قتل كلب زرع أو حائط، وجب تعيين قيمته، لتتعلّق ذمّة هذا الجاني بكلّ ثمنه.۱
اللهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد