المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني
القسمعنوان البصري
المجموعةتفريغ القلب لتلقي دستورات الأولياء
التاريخ 1429/03/28
التوضيح
كشف سماحة السيّد الطهراني (قدّس الله روحه) في هذه المحاضرة اللثام عن مسألة الوحي مُبيّنًا أنّ المناط فيه هو القلب المُفرّغ، فذهب عميقًا في بيان هذه العلاقة، مستهلًّا الكلام بقاعدة أنّ المدار في التوحيد هو الحقّ وحسب. ومِنْ جملة ما تضمّنته المحاضرة أن فعل الله هو عين الحقّ لا أنّه ينطبق على الحقّ كما هو الحال معنا. ثمّ بسط الكلام تحت العناوين الفرعيّة التالية؛ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوْحَى إِلَيَّ – كيف بلغ رسول الله مقام يُوْحَى إِلَيَّ – وليّ الدين والقائم بأمره هو الحجّة ابن الحسن وحسب – سيكون في آخر الزمان أقوام متعمّقون – لكلّ مقام مقال وحال يجب مراعاتهما – لِوجودنا بطون وحقائق متداخلة – حصل للنبيّ هذا التجلّي والوحي لأنّه فرّغ قلبه.
هو العليم
الوحي واتّباع الحقّ
معنى قول عنوان البصريّ (ففرّغتُ قلبي له) - القسم ٣
شرح حديث عنوان البصريّ -۱٥٢
ألقاها:
آية الله الحاجّ السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ
قدس الله سره
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلّى الله على سيّدنا ونبيّنا أبي القاسم محمّد
وعلى آله الطيّبين الطاهرين واللعنة على أعدائهم أجمعين
ذَكَرَ الإمام الصادق عليه السلام لعنوان [البصريّ] تسع وصايا – وذلك بعد أن بيّن له بعض المطالب – في قوله «ثَلاثَةٌ مِنْها في رِيَاضَةِ النَّفْسِ، وثَلاثَةٌ مِنْها في الحِلْمِ، وثَلاثَةٌ مِنْها في العِلْمِ». ثمّ قال له «فَاحْفَظْها وإيِّاكَ والتَّهَاوُنَ بِها».
إنَّ الوصايا الخاصّة بالحِلْمِ هي وصايا مهمّة للغاية، يغفل عنها الكثير منَّا. أمّا ما يتعلّق منها بالعِلْمِ، فعلى الإنسان أن يتعرّف على ما يجب عليه تعلّمه، ويجب أن يكون له هدفٌ مِنْ وراء رغبته في ذلك العلم. ثمّ قال الإمام لعنوان: فاحفظها واجعلها نصب عينيك وحافظ عليها. وكلمة (احفظها) لا تعني مجرد الحفظ في الذاكرة كما [هي وظيفة] مسجّل الصوت، بل تعني هنا أن يتقبّل هذه الوصايا والتعليمات وأن يعمل بموجبها، هذا هو معنى الحفظ. فهو يقصد أن يسعى لتطبيقِ ومتابعةِ التعليمات الّتي قالها الإمام عليه السلام. [ثمّ قال له] «وإيَّاكَ والتَّهَاوُنَ بَهَا»، أي عليك أن لا تقصّر في تطبيقها ولا تستصغر شأنها ولا تصل إلى حدِّ عدم الاهتمام بأمرها.
سنرى – إن وفّقنا الله لإدامة الحديث مع الإخوة – كيف أنَّنا نتهاون بالفعل في الكثير مِن هذه المطالب. فمع كون هذه المطالب واضحة، غير أنَّنا لا نتعامل معها بجديّة تامّة. وبالرغم مِنْ أنّ السير والسلوك مبنيّ على هذه المطالب الّتي أوضحها الإمام الصادق عليه السلام في هذه الرواية، غير أنّه يوجد عندنا تصوّر آخر عن السير والسلوك. ولو أنَّنا التزمنا بالعمل بها، لما حصلت لنا أيّة مشكلة في أيّ جانب مِنْ جوانب الحياة، ولمَا وردت على أذهاننا أيّة شبهة، ولمَا احتجنا إلى أيّ شيء آخر معها.
المدار في التوحيد هو الحقّ وحسب
ثمّ قال عنوان «فَفَرَّغْتُ قَلْبِي لَهُ»، أي أَخرجتُ كلّ ما كان في قلبي. لقد رأيتُ ضرورة تقديم شرح مختصر لهذه العبارة، وقد جرى بالفعل توضيح بعض جوانبها في المجالس السابقة. ويمكن تلخيص ذلك بما يلي: إن لم يتمّ تفريغ القلب، فلن يحصل الإنسان على أيّة نتيجة. وها أنا أقولها لكم بكلّ صراحة وبساطة ومِن دون أيّ تكلّف؛ فإن أراد أحدهم التّتلمذ على يد رجل ما، وهو يحمل في ذهنه أمورًا يعتبرها أصلًا أساسيّا وأنّها مِنَ المسلّمات بحيث لا يمكنه أن يتجاوزها، [لن يجني مِنْ تتلمذه هذا أيّة ثمرة]. على أنَّ كلّ واحد منَّا يمتلك بعض المعلومات والتجارب الشخصيّة والمدّخرات الفكريّة، وهذا مما لا شكّ فيه، ولكن يجب أن يترك دومًا في ذهنه وقلبه احتمال وجود خطإ في معلوماته تلك، وإلّا لا يمكن للمرء أن يعتقد بصحّة معلوماته ويماشي أستاذه فيما لا يتقاطع مع مدّخراته الذهنيّة، فلذا عندما يطرح الأستاذ ما يتعارض مع مدّخراته الذهنيّة، تراه – قبل التفكير في الأمر – يقوم بالاحتجاج والمواجهة واتّخاذ موقف مضادّ مِنَ الأستاذ. هذا هو الخطأ بعينه، فالسبب الرئيسيّ والمنشأ في بروز جميع الأمور الباطلة والانحرافات هو عدم قابليّة التلميذ لسماع ما يخالف مدّخراته الفكريّة.
أنا أذكر لكم هذا الأمر هنا، لأنّه كثيرًا ما حصل معي؛ فما إن أتحدّث مع أحدهم وأسترسل معه في الحديث وأصل إلى أمر يعتبره ذا قدسيّة، إلّا وأراه قد اضطرب وانزعج بشكل يرتبك معه مجرى الحديث ويمنعه مِنَ الاستمرار، [فينقطع الحديث] ويبقى الموضوع أبترًا. فما هي المشكلة الّتي حصلت يا هذا؟! فإن كنتَ تعتبر الموضوع الّذي نتحدّث عنه واحدًا مِنَ الأصول الّتي لا يمكنك العدول عنها، فلماذا – والحال هذه – أتيت إلى هنا للتكلّم حوله، كان عليك أن تحدّد خطّك الأحمر منذ البداية وتُعلن أنّك لا تقبل أن يُتجاوز، وحينئذ سأقول لك: أستودعك الله، فأنا لا خطّ أحمر عندي غير الحقّ، فهو الخطّ الوحيد الّذي لا يمكنني أن أتجاوزه، وذلك لأنَّ ملاكنا في الإسلام والتوحيد يتمثّل في الحقّ والحقيقة، فأينما كان الحقّ علينا اتّباعه. وعليه ففي الموارد الّتي ينتفي وجود الحقّ فيها أو نشكّ في ثبوت الحقّ فيها، علينا مراعاة الاحتياط أو التوقّف۱.
هذا ما كان أمير المؤمنين عليه السلام يقول ويوصي به، وهذا ما قاله سائر الأئمّة أيضًا، وكلامهم هذا مأخوذ مِنْ كلام الله حيث قال {ذلِكَ بِأَنَّ الله هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ}٢، إنَّها لآية عجيبة حقًّا، فهي تشير إلى إحدى الأمور الّتي نمرّ عليها كثيرًا دون أن نعيرها الاهتمام المطلوب. فلو أنَّ أحدنا استحضر معنى هذه الآية في ذهنه قبل خروجه مِنْ بيته صباحًا، لَمَا ارتكب في يومه ذاك أيّ خطإ. وأنا لا أقصد الخطأ البشريّ هنا، فلسنا معصومين عن ارتكاب الخطإ، هذا مِنْ جانب، ومِنْ جانب آخر، فإنَّ الله يتجاوز عن مثل تلك الأخطاء، فما قصدته [بالخطأ] هو اقتراف الذنب.
فقوله{ ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ} يعني علينا أن نعرف أنَّ الحقَّ ينحصر في الله، وأنَّ الحقّ يتولّد وينشأ عن الذات الإلهيّة، وهو يتّبع دائمًا الأثر الوجوديّ لذات الله في عالَمَي التشريع والتكوين، والحقّ هو نتيجة تحقّق ظهور الله في مراتب الأسماء والصفات. نعم، إنَّ الحقّ هو نتيجةٌ لا غاية، وعليكم التركيز على هذا الأمر جيّدًا.
إنَّ الإخوة مِنَ الفضلاء يعلمون الفرق بين غاية الشيء وما يُنتزع منه؛ فبالنسبة إلينا يجب أن نجعل الحقّ غاية أعمالنا الّتي نقوم بها عادةً؛ فعندما نتكلّم مع أحدهم يجب أن تكون غايتنا مِنْ هذا الكلام هي تحقيق الحقّ، ولا ينبغي أن يكون هدف أعمالنا هو تحقيق الأهواء والرغبات النفسانيّة، بل يجب أن يكون ذلك مِنْ أجل تحقيق الحقّ، ويجب أن يكون الدافع والمحفّز في أفعالنا هو تحقيق الحقّ، أي يجب أن تكون الغاية والهدف الّذي يضعه المرء أمامه والّذي تتمحور كافّة أعماله حوله هو متابعة الحقّ.
كلّما أردنا أن نتكلّم عن هذا الموضوع، نجد أنّنا لا نستطيع أن نوفّيه حقّه .. المسألة بالنسبة إلينا تدور برمّتها حول هذه الجملة وهي: كيف نجعل هدفنا متابعة الحقّ؟ وهذا الكلام يصحّ في حقّنا نحن، أمّا بالنسبة إلى الله تعالى فلا يصحّ القول أنّ فعل الله يطابق الحقّ، بل يجب أن نقول أنّ فعل الله هو مصدر الحقّ. أي عندما يتحقّق فعل لله ويظهر أثر مِن آثاره الوجوديّة في الخارج، نفهم عندها أنَّ هذا الفعل هو الحقّ. ولَمَّا كان الحقّ هو المصدر الّذي نشأ عنه الفعل، وجب علينا أن نطابق أعمالنا له. فليس الأمر أن الله يجلس ويفكّر في أنّ العمل الّذي قام به صحيح أم لا، فإنّ الله تعالى لا يتصرّف بهذا الشكل.
كنتُ قد ذكرتُ هذا الأمر للإخوة سابقًا، وشرحته إلى حدّ ما في الجزء الثاني مِنْ كتاب «أسرار الملكوت» على ما يبدو، وأفعال أولياء الله تكون على هذا النحو أيضًا، وإنَّه لأمرٌ عجيب حقًّا. هذا هو الفرق بين سائر الناس وبين مَنْ وصل إلى مقام الولاية؛ كبعض رُسُلِ اللهِ – لا جميعهم – الّذين وصلوا إلى مقام البقاء بعد الفناء الذاتيّ، أي قد حصل لهم الفناء الذاتيّ أوّلًا ثمّ (البقاء بعد الفناء)، فذلك البقاء سيتأثّر بالفناء وبتجلّي أسماء الله وصفاته. وكالأئمّة عليهم السلام قادة بني البشر في هذا المجال. وكالأولياء الّذين وصلوا إلى هذا المقام.
معنى الوحي
{إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوْحَى إِلَيَّ}
لذا فالوحي الّذي يبيّنه (رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم) للناس لا يشبه الكلام الّذي يصدر منّي ومنكم، بل إنَّ شخص الرسول وروحه ونفسه تكون عند نزول الوحي عليه بمثابة المرآة الصقيلة۱ الّتي تعكس تجلِّي مقام التشريع بتمامه.
علينا التركيز هنا على هذا الأمر وهو أنَّ ما جاء في الآية الشريفة {إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ}٢، لا يعني أنَّ رسول الله يشبه عامّة الناس في الآثار والصفات والأفعال، كلّا، لا يمكن أن يكون الأمر بهذا الشكل، فلرسول الله مكانة خاصّة، وكذلك الأئمّة عليهم السلام الّذين يستمدّون ولايتهم مِن ولاية رسول الله فهم حَمَلَة الولاية مِن بعده، فهم جميعًا متحقّقون بهذا الأمر، ولا فرق بينهم وبين الرسول في ذلك، سوى ما اختصّت به نفس رسول الله وهو تجلّي الوحي له بصورته الخاصّة، فنفس تلك الحقيقة تتجلّى في كلام الإمام المعصوم عليه السلام ولكن بدون تلك الخصوصيّة الخاصّة بالنبيّ، والّتي تتمثّل بالجانب الإعجازيّ للوحي، وإلّا فالأمر في كلتا الحالتين واحد وذلك لكونه يصدر مِنْ نفس المصدر.
فآية{إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} تشير إلى حقيقة كون النبيّ، مِنْ حيث طبيعته النوعيّة ومِنْ حيث وجوده المتعيّن الخارجيّ، يحمل نفس الطبيعة البشريّة الّتي يحملها غيره مِنَ الناس، أي إنَّه ليس مِنَ الجنّ ولا هو مِنَ الملائكة، فلا هو موجود مِنَ العالَم المجرّد ولا غيره مِنَ العوالِم. فالآية تقول أنَّ النبيّ مِنْ بنيّ البشر، وهو إنسان مولود مِنْ أب وأمّ كسائر بني البشر، يأكل الطعام وينام ويمشي ويتزوّج. نعم، إنَّه لا يختلف عنهم في ذلك بشيء، فهو ليس كالملائكة الّذين لا يتزوّجون ولا يأكلون ولا يتكاثرون، بل إنَّ رسول الله والأئمّة عليهم السلام يقومون بجميع تلك الأعمال، شأنهم في ذلك شأن سائر أفراد بني البشر. هذا هو المقصود مِنْ أنَّ النبيّ ليس إلّا بشرًا كباقي أبناء البشر.
أمّا الأمر الّذي يختلف فيه النبيّ عنّا هو مسألة {يُوحى إِلَيَّ}٣، فأنا لا يُوحى إليَّ وذلك لأنّ نفسي لا تمتلك تلك القابليّة ولم يتمّ تنقيتها وإخراجها مِن عالم الأهواء والميول النفسيّة. فلو واظبتُ على الدراسة سبعين سنة بدلَ سبع سنوات، ولو عمّرت أكثر مِنْ عمر النبيّ نوح، فما لم أعمل على تزكية نفسي وتشديد المراقبة والالتزام بشروط وعهود السير والسلوك إلى الله، سأبقى بمستوى ذلك الشابّ ذي العشرين عامًا ولو بقيتُ على قيد الحياة لمدّة سبعين ألف سنة. نعم، لن أتكامل أبدًا [والحال هذه] بل كلّ ما سيحصل هو أن يزداد حجم المعلومات في ذاكرتي وأكتسب تجارب إضافيّةً في حياتي، وبهذا لن يتجاوز حالي حال أجهزة تسجيل الصوت هذه، الّتي تُضاف إليها المعلومات الواحدة تلو الأخرى مِن دون أن تغيّر تلك المعلومات طبيعتها الماديّة المصنوعة منها، فكلّ ما يحصل هو أن يُضاف إليها باستمرار معلومات تُحفظ فيها، [فتلك الأجهزة] لا تكتسب أيّة منفعة مِنْ تلك المعلومات.
كيف بلغ رسول الله مقام يُوْحَى إِلَيَّ
ما الّذي أوصل رسول إلى مقام {يُوحى إِلَيَّ}؟ لقد حصل ذلك نتيجة التزكية والتربية والسير والسلوك وسهر الليالي واعتزال الناس في غار حراء وانشغاله بنفسه، فكلّ ذلك قد عَمِل على إيصال النبيّ إلى المقام الّذي قالت عنه الآية {يُوحى إِلَيَّ}. هذا هو الفرق بينه وبيننا، حيث إنّه يُوحى إليه ولا يُوحى إلينا.
بناءً على هذا، فالجنبة البشريّة لرسول الله والأئمّة والأولياء ثابتة في محلّها، وذلك لأنّهم يقومون وفقًا لطبيعتهم النوعيّة البشريّة بما يقوم به عادةً سائر الناس مِنْ أعمال، فهم ينامون ويستيقظون ويأكلون ويمشون ويتكلّمون مع الناس ويحاربون ويصالحون ويعظون الناس ويتزوّجون ويقومون بكلّ ما تقتضيه طبيعتهم البشريّة، وهذا مما لا يشكّ فيه أحد.
أمّا إن نظرنا إلى الجنبة الأخرى، سنلاحظ أنّه يُوحى إلى رسول الله، ولكن لا يُوحى إليَّ وإليك، فما هو سبب هذا الاختلاف؟ علينا أن نركّز تفكيرنا على هذا الأمر لا على الأمر الأول؛ فمِنْ مقتضيات تلقّي الوحي هو أن تمتلك هذه الشخصيّة الاستعداد والقابليّة لتجلّي الأسماء والصفات الإلهيّة فيها، ومِنْ دون أن يكون للنفس دخل في الأمر. وهذه المسألة الأخيرة هي ما نريد بيانه في حديثنا مع الإخوة في هذه المجالس؛ فلا ينبغي للنفس أن تتدخّل عندما ينزل حكم الله مثلًا في هذه الآية {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما}۱، فلم نرَ رسول الله يسعى لتأويل هذا الحكم، ولم يفكّر في تطبيقه على الناس بينما يستثني أقرباءه منه، ولم يرَ أنَّ هذا الحكم مختصّ بزمان دون زمان. ألا يقولون مثل هذا الشيء في هذه الأيّام، ألم يقولوا أنَّ هذا الكلام مرتبط بما قبل ألف وأربعمائة سنة، فما الّذي يعنيه قطع اليد في زماننا؟! نقول لهم: لا.
فما يتواجد في ذهن رسول الله – وهو الأمر الّذي نفتقده – هي تلك الشفافيّة وذلك التلألؤ البرّاق الكامل لتجلّي ذات الله في عالم التشريع على لسان رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ومِن خلال نفسه. فنفس الرسول (صلّى الله عليه وآله) تستلم تلك المطالب [المُوحاة] وتفهمها وتحفظها. لقد قال الإمام الصادق: «فاحفظها» ... فاحفظ هذا في صدرك. فهذا الحفظ هو نفس ذلك الحفظ المتعلّق برسول الله، على أنَّ حفظ الرسول للوحي في نفسه وحفاظه عليه، ليس لمجرد كونه واسطة كواسطة (الميكروفون) وأشباهه [في إيصال الصوت]، بل إنَّ لشخص الرسول القابليّة على إفاضة هذا الوحي مِنْ نفسه إلى الخارج، تلك القابليّة الّتي لا نمتلكها نحن – انتبهوا إلى هذا الأمر جيّدًا – فنحن لا نمتلك تلك القابليّة الّتي يمتلكها رسول الله، لماذا؟ إنَّ السبب في ذلك يعود إلى أنَّ الرسول لا يتصرّف ولا يتلاعب فيما يُوحى إليه ولا يُحاول أن يلفّ ويدور حوله لكي يجعله يصبّ في مصلحته تارة ويسبب ضررًا للآخرين تارة أخرى – إنَّ كلّ هذه المطالب الّتي أبيّنها لكم كنتُ قد شاهدت نظيرها عيانًا في عهد المرحوم العلّامة وسأوضّح لكم ذلك – نعم، لم يكن الرسول يتصرّف فيما كان يُوحى إليه زيادةً أو نقصانًا أو وفقَ ما تقتضيه المصالح الآنيّة. فإن نزل عليه الوحي بأمرٍ ما، عليه تبليغ ذلك الأمر، فلو قال عندها: إنَّ الناس لا تمتلك الاستعداد اللازم للتنفيذ. لقال له الله: إن لم يكن لديهم الاستعداد لذلك فلْيَكُن، فهذا أمر لا يعنيك في شيء أأنت وكيلهم! والقرآن يصرّح بهذه الحقيقة في قوله{طه * ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى * إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى}٢، {وفي قوله لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ}٣، أي إنَّك تلوم نفسك وتنفعل وتحزن بسبب عدم طاعتهم لأقوالك .. إن كانوا لا يطيعون فلْيَكن، فلستَ مسؤولًا عنهم في ذلك، بل إنَّ مسؤوليّتك تتمثّل في {ما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ}٤، فمسؤوليتك لا تتعدّى التبليغ، فإن رفضوا الطاعة فليرفضوها وليذهبوا إلى جهنّم. وهذا أمر عامّ يشمل الجميع.
وليّ الدين والقائم بأمره هو الحجّة ابن الحسن وحسب
إنَّنا نعتقد اليوم – للأسف الشديد – أنَّنا أصبحنا أولياء الدين، وأنَّ الدين قائم بوجودنا المبارك ذي الجود، وكأنّه لو سقطتْ شعرة واحدة مِنْ شعر رأسنا سينمحي الدين عن الوجود. كلّا يا هذا، اعتقادك هذا لا صحّة له، لقد وُجدنا في هذه الدنيا لبرهة محدودة مِنَ الزمن لنؤدِّي الواجب المترتّب علينا، وهو الواجب المترتّب على جميع الناس في الوقت نفسه؛ فلا يقتصر الواجب على أهل الفضل والعلم فقط، بل كلّ واحدٍ منَّا مسؤول بمقدار قدرته على تحمّل تلك المسؤوليّة، وعليه بمقدار قابليّته إيصال ما لديه للآخرين، فلا تتصوّروا أنّه لا يترتّب علينا أيّ تكليف في هذا المجال ما لم نمتلك مواصفات خاصّة.
نحن نتصوّر أنَّنا أولياء الدين والقائمين بأمره. كلّا، ليس الأمر بهذا الشكل، فلستُ أنا وأمثالي أوليّاء الدين، بل إنَّ وليّ الدين والقائم بأمره رجلٌ واحدٌ فقط وهو الحجّة ابن الحسن (أرواحنا لتراب مقدمه الفداء) لا غير. أمّا الآخرون فلا يتعدّون كونهم وسائط، وكلّ بمقدار ذخيرته العلميّة وتجربته الروحانيّة ومدركاته القلبيّة والشهوديّة والنفسيّة؛ فبمقدار قدرتنا على تلقّي المعارف وحفظها سوف تترشّح عنّا المعارف. أمّا بالنسبة إلى الآخرين [مِنْ عوامّ الناس] فعليهم ألّا يصغوا إلى أيٍّ كان، بل عليهم أن يفحصوا ويدقّقوا في كلّ كلام يصدر، مِن دون أن يلتفتوا [ويأخذوا بالاعتبار] عُمْر المتكلّم وتقدّمه في السنّ ومكانته بين الناس، بل يجب التدقيق في محتوى كلامه [مهما بلغ عمره ومكانته]. فكم يحصل أن تصدر كلمات ذات مغزى عميق مِنْ شابّ بعمر العشرين، لا يصدر مثلها مِمَّن مضت عليه سبعون أو ثمانون سنة مِنَ العمر، وهو مِمّن يدّعي ما يدّعيه رغم أنّه لا يستطيع إدراك كنه تلك الكلمات، بل يطرح مواضيع خاطئة على الآخرين بدل المواضيع الصحيحة.
بناءً على هذا، لا ينبغي لنا أن نتجاوز حدودنا ولا ينبغي أن نعتبر أنفسنا مِنْ أولياء الدين. ذلك اعتقاد واهٍ لا يستند على أساس صحيح. فصاحب الاختيار والقائم بدين الله ووليّ أمره والماسك بزمام أمور الشريعة في هذه الفترة الّتي مرّ عليها حتّى الآن قرابة ألف ومائة وخمسين عامًا، أي منذ ارتحال الإمام العسكري [حتّى الآن هو الإمام الحجّة]. ولقد كان وليّ أمر الدين هو نفس رسول الله في فترة حياته، ثمّ جاء مِنْ بعده أمير المؤمنين ثمّ الإمام المجتبى فسيِّد الشهداء ثمَّ الإمام علِيّ بن الحسين فالإمام الباقر والإمام الصادق والإمام موسى بن جعفر والإمام علِيّ بن موسى الرضا والإمام الجواد والإمام الهادي والإمام الحسن العسكري، فهؤلاء هم أولياء الدين خلال ما يقارب مائتين وثمانية وخمسين سنة. أمّا أصحاب الإمام الصادق أمثال هشام بن الحكم أو محمّد بن أبي عُمير أو محمّد بن مسلم أو زرارة أو أبي بصير، فلم يكونوا أولياء الدين، بل كان الإمام الصادق هو وليّ الدين لا غير. نعم لقد كان أولياء الدين هم الإمام الباقر والإمام الرضا .. فأولياء الدين والماسكون بزمام أمره هم المعصومون الأربعة عشر لا غير، [أمّا غيرهم] مِمَّن يأتي بعدهم إنّما يقتفي آثارهم، وهذا أمر ثابت لا نقاش فيه.
إنَّ أصحاب المعصومين وتابعيهم يطغى عليهم الجانب البشريّ، أمّا المعصومين فلا. ولمّا كانوا كذلك فهم غير مصونين عن الوقوع في الخطأ، فطغيان الجنبة البشريّة يعرّضهم للوقوع في الخطأ، وهو الّذي يسبّب أن يفتي أحدهم بفتوى معيّنة في الأمس، ويقوم بتبديلها في اليوم التالي، وأن يُدرج فتوى ما في كتاب صدر له اليوم، ويقوم بتبديل فتواه في الكتاب الّذي سيصدر له لاحقًا. فمثْل هذه الأمور لا تصحّ أبدًا على الإمام المعصوم عليه السلام. فلا يمكن أن يُفتي الإمام المعصوم بفتوى معيّنة اليوم ويتراجع عنها في الغد قائلًا: لقد أخطأتُ في إصدار تلك الفتوى. نعم قد يحصل أن يُفتي الإمام فتوى ما هذا اليوم، فيقول في الغد: إنَّني أصدرتُ تلك الفتوى تقيّةً. فهذا ممّا يصحّ وقوعه عنه.
كتب الإمام موسى بن جعفر رسالة إلى عليّ بن يقطين يأمره فيها بالضوء على طريقة أهل السنّة، وبعد أن انتفت الحاجة لهذا الأمر كتبَ إليه الإمامُ رسالةً أخرى أمره فيها بالعودة إلى الوضوء وفقَ مذهبِ الحقِّ مذهب أهل البيت. نعم، يحصل أحيانًا شيءٌ مِنْ هذا القبيل، غير أنَّه لم يحصل ولو لمرّةٍ واحدةٍ طيل حياة الإمام موسى بن جعفر أن قال لزرارة، أو لمحمّد بن مسلم أو لهشام أو لأيّ أحد مِنْ أصحابه، أنَّه أخطأ فيما قاله؛ بسبب غلبة النعاس عليه، أو لكونه استيقظ لتوّه فلم يكن قد غسل وجهه بعدُ، أو لكونه مشغولًا حينها، أو لأنَّه كان متعبًا، حيث أنَّه بعد مراجعته للكتب الروائيّة توصّل إلى حكم آخر بشأن الموضوع؛ محال أن يحصل مثل هذا الشيء مع الإمام، فهو مستحيلٌ كاستحالة الجمع بين المتناقضين أو الجمع بين الضدّين.
إنَّ إمام الزمان الّذي جاء بعد الإمام الحسن العسكري عليهما السلام هو وليّ وصاحب دين جدّه وهو القائم بأمر الدين لا غير. فما سيكون حينئذ حال غيره مِنَ الناس؟ إنَّ لباقي الناس طابعهم البشريّ، فلكلّ إنسان مكانة محدودة تأريخيًّا وجغرافيًّا وبيئيًّا، فهم محدودون في علومهم وتربيتهم وفي قابليّاتهم وتكاملهم وفي حدّة أذهانهم. فهذه الحدود – الّتي تحدّنا جميعًا وتتفاوت في مقدارها مِنْ رجل لآخر – تعمل على خَفْضِ كلامنا عن مستوى العصمة ليصبح في مرتبة البشريّة، وتعمل على تنزيله مِنْ رتبة الطهارة المطلقة إلى مرتبة احتمال وقوع الخطأ فيه. وجميع الناس متساوون في هذا المجال، فلا فرق فيه بين المجتهد الّذي أصدر رسالة عمليّة وبين طالب العلوم الدينيّة وبين أيّ رجل عاديّ. نعم، إنَّ ميزان ذلك يختلف زيادةً ونقصًا مِنْ شخص لآخر، ولا يوجد مَنِ ادّعى عصمة كلامه وحقّانيته المطلقة الصِّرفة. ولا يمكن لأحد أن يدّعي مثل هذا، وذلك لأنَّ هذا الأمر خاصّ برجلٍ واحدٍ فقط ألا وهو الإمام بقيّة الله (أرواحنا فداه) لا غيره، فهو وحده الّذي مِنْ حقّه أن يدّعي هذا الادّعاء، وهو صاحب ومالك هذه الدعوة حقًّا لأنّه صاحب جنبة ملكوتيّة – على الإخوة الالتفات إلى المواضيع الّتي أطرحها عليهم اليوم فهي غاية في الأهميّة – ولأنَّ شخصيّته عليه السلام هي شخصيّة صاغتها الولاية المطلقة، فلم يعد طابعه طابعًا بشريًّا، بل صار طابعًا إلهيّا.
سيكون في آخر الزمان أقوام متعمّقون
فما هي علاقة الكلام الّذي يصدر عن رسول الله بموضوع زواجه مِنَ النساء؟ وما هي علاقة الوحي الّذي ينطق به الرسول بمسألة أكله للطعام ومشيه في الطُرقات؟ لم يتمكّن مِن معرفة تلك المباني الأخلاقيّةِ والعباديّة والاجتماعيّة والسلوكيّة والعرفانيّة – بعد مضيّ أكثر مِن ألفٍ وأربعمائة سنة [على نزولها] في القرآن – إلاّ ما ندر مِن أولياء الله الخاصّين الّذين طووا جميع مراتب السير والسلوك، فهم وحدهم الّذين عرفوا حقيقة {هُوَ الأَوَّلُ والآخِرُ والظَّاهِرُ والبَاطِنُ}۱، لا أولئك الّذين تعلّموا كلمتين في المدارس وأخطؤوا في فهم كلمات العرفاء والأولياء الإلهيِّين وتصوّروها متناقضة مع القرآن. كلّا أيّها السادة، إنَّ كلمات العرفاء صحيحة غير أنَّكم أنتم الّذين لم تفهموا معناها الصحيح، فلو كنتم قد عرفتم معنى {هُوَ الأَوَّلُ والآخِرُ والظَّاهِرُ والبَاطِنُ}، لفهمتم عندها تفسير أولياء الله والعرفاء لها، ولمَا اعترضتم عليه، ذلك التفسير الّذي يقول: إنَّ حقيقة الذات هي عين حقيقة التعيّنات، وأنَّ التعيّنات هي عين تجليّات الذات. تلك الحقائق الّتي قال عنها الإمام السجّاد عليه السلام أنّه لن يعرف معنى سورة التوحيد والآيات الستّ الأُوَل مِنْ سورة الحديد والأسرار الكامنة فيها، سوى أناس سيتواجدون في آخر الزمان٢. فهؤلاء وحدهم مَنْ سيتمكَّنون مِنْ إدراك ذلك الوجه غير البشريّ، أمّا مَن سواهم فقد شغلوا أوقاتهم بقراءة عدد مِنَ الكتب وتعلّم كلمات قليلة، وأمضوا سنوات أعمارهم فرحين بما اكتسبوا، وقد تصوّر كلّ واحد منهم نفسه علّامة دهره. كلّا، لا يمكن أن يكون الأمر بهذا الشكل، بل لا بدّ وأن يكون وليّ الدين وصاحبه والقائم بأمره هو ذلك الّذي اجتاز في سيره المرتبة البشريّة، فلم يَعُدْ – والحال هذه – مِنْ بني البشر. والمقصود مِن عدم كونه مِن بني البشر هو أنَّ علومه ليست علومًا مكتسبةً عن طريق التعلّم والتجربة؛ فالعلوم المبنيّة على التجارب هي في حال تبدّل مستمرّ، فنراهم يتبنّون نظريّة اليوم وينقضونها غدًا ويتبنّون غيرها، وهكذا هو الحال في جميع العلوم [المكتسبة والمبنيّة على التجارب] .. ألا تتبدّل تلك النظريات، إلّا اللهمّ تلك المتعلّقة بالمسائل الهندسيّة والرياضيّة الدقيقة، أمّا ما يتعلّق بمسائل الكيمياء والفلك فهي في حال تبدّل مستمرّ، وكذلك في مجال الطبّ إذ نرى كيف تحلّ مبادئ جديدة محلّ المبادئ المتبنّاة في السابق، ونراهم يصنعون دواء معيّنًا لمعالجة مرض ما مع بيان مضاعفاته، ثمّ يقولون في الغد أنّه غير فعّال في علاج المرض وله مضاعفات أخرى غير الّتي ذُكرت سابقًا، ثمّ يُعلنون عن وجود مضاعفات جديدة له، وهكذا هو الأمر في بقيّة الأدوية. ففي جميع هذه المجالات يحصل تغيُّر وتبدُّل مستمرّين.
ومِنْ جملة العلوم الّتي تتعرّض للتغيير باستمرار علم الفقه، وهو ذلك العلم الأصيل الّذي يتعامل معه أهل العلم والفضل، فهو علم في حال تغيُّر وتبدُّل مستمرّين أيضًا. نعم، إنَّ الروايات الواردة عن الأئمّة هي روايات ثابتة، والسنّة ثابتة والقرآن ثابت، وهذا ممّا لا شكّ فيه ولا نقاش، غير أنَّ ما يتعرّض للتبدّل المستمرّ هو رؤية العلماء وطريقة فهمهم للروايات والسنّة، فهذه الرؤية تتبدّل نتيجة تبدّل الأفكار والمعلومات الّتي يحصل عليها العلماء. فهل يحكم جميع العلماء بنفس الحكم!
سمعتُ مِنْ مصادر موثوقة أنَّ بعض المجتهدين في الأزمنة الماضية كانوا يحرّمون علم الطبّ، لماذا؟ لأنَّ علم الطبّ يتضمّن تشريح الجثث، ففي الوقت الذي يُبنى فيه علم الطبّ على التشريح، كيف يمكن للطبيب أن يطّلع على بعض الأمور الخفيّة وعلى الأمراض والعلل بدون الاستعانة بالتشريح؟ وها نحن نرى أنَّ أيّة جامعة طبيّة يكون فيها علم التشريح متطوّرًا، تكون جامعة متفوّقة على غيرها مِنَ الجامعات في المجال الطبيّ. نعم، كان الكثير مِنَ المجتهدين في الزمن الماضي يعارضون علم الطبّ بناءً على اعتقادهم بحرمة التشريح، والحال أنّه إذا أُصيب أحدهم بمرض في القلب أو في المعدة نراه يراجع نفس هؤلاء الأطباء! فمِنْ أين جاءك الطبيب بالأقراص الّتي وصفها لك والخاصّة لمعالجة أمراض المعدة كـ (الامبرازول) أو أقراص معالجة أمراض القلب، فهل جاء بها مِنْ بيت خالته أم أنَّها أُنتجت في المؤسسات الطبيّة البحثيّة والمختبرات، وكانت نتيجة ما أفادته التجارب التشريحيّة؟!
أحد أصدقائي مِنَ الأطباء المتديّنين – الّذي لا يزال على قيد الحياة – وهو مسؤول كبير في مجال المختبرات، قال لي شخصيًّا: ذهبتُ يومًا إلى أحد المراجع المعاصرين – لن أذكر اسمه وهو متوفٍّ الآن وكان يحتاط في مسألة الدم – فقال لي: إنَّ عمليّة سحب الدم الّتي تقوم بها حرام، لأنّ الدم نجس، فأنت تتعامل مع مادّة نجسة. فبناءً على رأيه هذا يجب تعطيل كافّة المؤسّسات الخاصّة بنقل الدم، وكلّ ما يتعلّق بتلك المادّة الحياتيّة، والّتي أصبح موضوعها هذه الأيّام مِنَ المواد التخصّصية في علم الطبّ، بل هو تخصّص راجح على بقيّة التخصّصات الطبيّة وأصعب منها جميعًا، وذلك لكثرة ما فيه مِنْ تشعّبات، وجميع هذه التخصّصات مبنيّة على هذه المادّة النجسة [بحسب ادّعاء ذلك المرجع].
أترون كيف ظهرت الابتسامات على وجوه الكثير مِنَ الحاضرين عندما ذكرتُ هذا الموضوع، وهو أمر مُضحك حقًّا، فعندما يُبتلى هذا المرجع بمرض معيّن ويرقد في المستشفى فإنّ أوّل إجراء [طبيّ يفعلونه] معه هو أن يعلّقوا له كيسًا مِنَ الدم، فما الّذي سيحصل حينئذ [هل] سيُفضّل الموت بدلًا مِنْ تعليق الدم؟! ألم يكن هذا هو رأيك، فماذا الّذي تغيَّر الآن [حتّى ترضى بأن يُعلَّق لك كيس دم]؟!
هذا ما يُسمّى بالعلم البشريّ. وإنَّه لأمر واهٍ وباطل أن يُقال بحرمة التشريح، فمَنْ يستطيع أن يقول بحرمته! إذ لولا التشريح لأَغلق علمُ الطبّ أبوابّه. [وعلينا أن نسأل مَنْ يعتقد بمثل هذا] هل يستطيع أن يستعيض عن ذلك بمعجزة مثلًا، كمعجزة عصا موسى ويده البيضاء؟! [طبعًا لا، وعليه] يجب أن نبني أمورنا في الحياة على أساس هذه العلوم وهذه القدرات والمعلومات. إذ كيف يمكن التشكيك في مثل هذه الأمور البديهيّة! على أنَّنا لا نستطيع لوم مَنْ قال بهذا الشيء، لأنّه ليس مقصّرًا، فهو قد بنى قوله على ما أعانه عليه عقله. فعدم التقدير الصحيح للوضع الحاليّ للمجتمع ومتطلّباته الضروريّة الحاكمة، وعدم إدراك أهميّة هذا الأمر، جعله يُفتي بحرمة التشريح وحرمة التعامل بالدم وحرمة الكثير مِنَ الأمور الّتي تُعدّ اليوم مِنَ الضروريّات البديهيّة للمجتمع.
هكذا هو العلم البشريّ. فهل القرآن بهذا الشكل أيضًا، وهل الوحي الإلهيّ مثل هذه الفتاوى الّتي تصدر اليوم وتتبدّل غدًا؟! على أنَّه مِنَ الطبيعيّ أن يحصل هذا التبدّل، لأنّنا لا نشبه إمام الزمان في هذا وليس مطلوب منّا ذلك. فالله يكلّف كلّ واحد منَّا بمقدار ما يمنحه مِن سعة وجوديّة. كما أنَّ لموضوع التقليد مكانته الخاصّة به، فعلى كلّ واحدٍ أن يقلّد المجتهد الأعلم. علماً أنَّ المواصفات الّتي يجب أن يمتلكها الأعلم هو موضوع آخر سأتحدّث عنه – إن وفّقني الله ولم يحصل بداء – في المستقبل القريب، وسيعلم الإخوة عندها أنَّ الموضوع ليس بتلك السهولة الّتي يتصوّرونها، فلا يصحّ تقليد أيٍّ كان ومتابعته، ولا يصحّ العمل بموجب أيّ شيء يجده مكتوبًا. كلّا، بل الأمر يتطلّب المزيد مِنَ الدقّة والتأنِّي.
لكلّ مقام مقال وحال يجب مراعاتهما
على أيّة حال، فالأئمّة عمومًا ورسول الله على وجه الخصوص، هم فوق نطاق الطبيعة البشريّة، أي أنَّهم تجاوزوا مرتبة النفس البشريّة الّتي يمكن لها الوقوع في الخطأ، والّتي يمكن أن تحكم على أمر بحكمٍ يحتمل الخطأ والصواب.
دعونا الآن نضرب مثالًا على ذلك، فلنأخذ مثلًا مجتهدًا مُسلَّم اجتهاده، أو أستاذًا يُدرّس الخارج۱، أو حكيمًا أو فيلسوفًا يدرّس أعلى مستويات الحكمة والفلسفة، فما الّذي يُظهره مِن نفسه عند الدرس؟ إنَّه عندما يجلس على منصّة التدريس ويشتغل بالبحث والمناقشة مع أصدقائه الفضلاء، فهو يستثمر أعمق ما لديه مِن صور ذهنيّة لتوضيح الموضوع الّذي هو بصدد شرحه، فيغوص في أعماق قلبه وفكره وذهنه ليستخرج الحقائق الصافية الزلال، ويستعين بدقائق ولطائف ما توصّل إليه بطريقة أو بأخرى لإثبات موضوع بحثه، هذا مِن جانب.
ثمّ دعونا ننظر إلى الموضوع مِن جانب آخر؛ فعندما يدخل هذا الرجل إلى بيته، وهو صاحب أولاد ثلاثة أحدهم بعمر ثلاث سنين والآخر في الصف الثاني والأخير طالب في الإعداديّة، فأوّل مَن يستقبله هو الطفل ذو الثلاث سنين قائلاً: بابا بابا. فيقوم الرجل بحمله وتقبيله والتكلّم معه ومداعبته وصرف ساعة مِنَ الوقت معه، ويتصرّف معه بمستوى ما يدركه طفل ذو ثلاث سنين.
يقول المرحوم العلّامة أنَّ أحد حقوق العائلة الواجبة على ربّ العائلة هو أن يجلس ويتحدّث معهم عند دخوله البيت، لا أن يتعلّل بكونه متعبًا مِنَ العمل الّذي استمرّ مِنَ الصباح حتّى المساء، فيدخل المنزل ويخلع ثيابه ويتناول طعامه ثمّ يعود بعدها إلى عمله مجدّدًا. كلّا، إنّ أمثال هذه التصرّفات غير صحيحة، وبهذا يكون الرجل مقصّرًا في أداء حقّ عائلته عليه، بل عليه أن ينظّم عمله بالشكل الّذي يتمكّن معه مِنَ العودة إلى البيت قبل المساء، لتكون لديه فرصة ومزاج مناسبين للحديث مع زوجته وأولاده. فليس صحيح أن يعمل المرء مِنَ الصباح حتّى المساء فيصل إلى بيته متعبَ الجسم والأعصاب، فيدخل البيت كالجثّة الهامدة. فهذا تصرّف غير صائب، بل عليه أن يعمل بالمقدار الّذي يكون معه قادرًا على الجلوس مع عائلته والتحدّث معهم ونقل الحكايات المفيدة والروايات وما سمعه مِنْ كلمات العظماء والاستفسار عن أحوالهم والإجابة على أسئلتهم. نعم، على ربّ البيت أن يوفّر بيئة حميمة في منزله.
[ولنعد إلى ذلك العالم ذو الأولاد الثلاثة الّذي ضربناه مثلًا]، فلو تحدّث مع عائلته بعد عودته إلى المنزل بكلمات العظماء والأولياء الإلهيّين، فما الّذي سيقوله لذلك الطفل ذي السنوات الثلاث، هل سيشرح له قاعدة (لا يصدر عن الواحد إلّا الواحد) أو (المُثُل الأفلاطونيّة)؟! لو فعل ذلك، لنظر إليه الطفل بتعجّب وقال له: ما الّذي جرى لك يا أبي؟!
نعم، لو فعل هذا سيكون أمره كأمر تلك الحكاية المنقولة عن الملّا نصر الدين، الّذي رأى يومًا قرويًّا يحمل على حماره حطبًا، فقال له: بكم درهم تبيع الرطل الشرعيّ مِن هذا الحطب المصفّف على الحمار الأسود؟ فالتفت إليه القرويّ قائلًا: إن كنت تريد شراء الحطب، فأنا أبيع المَنَّ منه بثلاثة قروش – مثلًا – وإن كنت تريد أن تقرأ دعاءً فدونك المسجد حيث تستطيع أن تقرأ فيه ما شئتَ مِنَ الدعاء۱.٢
فعندما يدخل المجتهد أو أستاذ الجامعة أو المُفكِّر أو الفيلسوف، إلى بيته، عليه أن يتنزّل عن ذلك الأفق الّذي هو فيه، ويجعل مِنْ نفسه طفلًا بعمر ثلاث سنوات، لكي يتمكّن مِنَ اللعب مع الطفل بألعابه، كأن يُغلق يديه ويقول للطفل: ماذا في يديَّ الآن. لماذا؟ لأنَّ الطفل لا يفهم غير ذلك، فإن لم تلعب معه بهذه الطريقة ستكون قد ارتكبت خطأً، ولم توفِ الطفل حقّه. فالطفل ذي الثلاث سنوات يتوقّع منك أن تلعب معه بما يتلاءم مع مستواه، وهو يريد منك أن تعطيه حقّه. فما دمت أبوه، يجب عليك وفقًا لقواعد التربية الصحيحة والقواعد التكوينيّة أن تجاريه. ولكن كيف [ينبغي أن] تكون هذه المجاراة، فهل تكون بأن تُلقي عليه درسًا فلسفيًّا؟! كلّا، بل عليك أن تتنزّل إلى مستواه، فتحكي له قصّة يحبّها كقصص الحيوانات وأمثالها، وأن تلعب معه، وأن تشتري له سيّارة فتشحنها وتتركها تسير [أمامه]. نعم يجب عليك أن تقوم بهذا، لأنَّ هذا ما يتوقعه الطفل منك، فلسان حاله يقول: أنا طفل ذو ثلاث سنوات، أحبّك يا أبي بكلّ صفاء ونقاء وإخلاص، فبأيّ شيء ستعوّضني عن حبِّي هذا؟ فكيف ستجيب هذا الصفاء والنقاء والصدق، [أمِنَ الصحيح حينئذ أن يقول له:] انصرف عنِّي، لستُ بمزاجٍ مناسبٍ لألعب معك اليوم، اذهب والعب مع أمّك أو أخيك الّذي في سنّك؟ [فلو فعلت ذلك] لحصلت للطفل صدمة، لأنّك واجهته بما لم يتوقّعه منك، وهو تصرّف باطل سيسدّ الطريق أمامك، فعندما تنهض للصلاة ليلًا ستلاحظ أنّك تفتقد الحالة المناسبة للصلاة. نعم، هكذا هو الأمر، وهو منطقيّ وبديهيّ .. علينا مسؤوليّة أمام الله تجاه هذا الطفل، ويجب أن نجيب الله عن تلك المسؤوليّة. كما علينا مسؤوليّة تجاه كلّ فرد مِنْ أفراد الأسرة، كلٌّ بحسب حاله.
ما الّذي قاله مولانا الروميّ، رحمة الله الواسعة عليه وعلى كتابه وأشعاره والمواضيع الّتي طرحها، إنَّه قال:
چون كه با كودك سر وكارت فتاد | *** | پس زبان كودكى بايد گشاد |
(يقول: ما دمتَ تتعامل مع الطفل، فعليك أن تتكلّم معه بلغته)
ها هو مولانا الروميّ يبيّن المسألة ببيان عالٍ وراقٍ ولطيف ودقيق للغاية، ثمّ يعرّج في شعره حتّى يصل إلى الأوجّ، حيث يتناول الموضوع الأصليّ للبحث [وهو (معنى الوحي)].
فهل تبدّل اسمك وأنت تداعب ابنك ذي الثلاث سنوات، كأن يكون اسمك علِيًّا قبل هذا وإذا به يتبدّل ليصبح ناصرًا؟! كلّا، فاسمك لا يزال علِيًّا، وما زلت تمتلك جميع ما كنت تمتلك مِنْ علوم. غير أنَّك لا تستطيع أن تُظهر تلك العلوم هنا، لأنَّها لن تفيده في شيء، ولن تفقد علومك نتيجة مداعبتك للطفل، ولن يتبدّل اسمك أو تتغيَّر ملامحك وشكلك وروحك نتيجة ذلك. كلاّ، فكلّ شيء ثابت في محلّه لا يتبدّل، فأنت الرجل نفسه الّذي اسمه علِيّ، كلّ ما هنالك أنَّك نزلت الآن وظهرت في مظهر الطفل ذي السنوات الثلاث.
وعندما تنتهي مِنْ تفقّد هذا الطفل وتمسح بيدك على رأسه، تأتي الآن نوبة الطفل الثاني ذي السنوات السبع، والّذي يتوقع منك شيئًا آخر، فتقول له: هات واجبك المدرسيّ لأراه، وتقرأ له جُملًا مِنْ كتاب القراءة. فإنَّ لعبة السيّارة لا تعني لهذا الصبيّ شيئًا [فلا يمكن تلعب معه بها]، بل لا بدّ مِنْ متابعة واجباته المدرسيّة المكلّف بها، فوضعه يختلف عن وضع الطفل الأوّل، وبذلك تكون قد أصبحت بعمر سبع سنوات أيضًا. ثمّ تأتي نوبة [ابنك] طالب الإعداديّة، فتنشغل معه في متابعة دروس الجبر والمثلّثات واللغة، إذ لعبة السيّارة وقراءة الأناشيد لا تعنيه شيئًا ولا تثير اهتمامه، فلا بدّ أن تتكلّم معه وتروي له الحكايات. وعلى هذا الأساس تتعامل مع زوجتك بأسلوبٍ وأداءٍ يناسبانها.
وعندما تذهب في اليوم التالي إلى درسك تضع جميع تلك الأمور جانبًا، وتكون لك شخصيّة أخرى. فهل حصل أن قال أحدنا [وهو في مجلس درسه] أنّه كان يداعب طفله ذي السنوات الثلاث في الليلة الماضية؟! فما الّذي يعنيه هذا الكلام [في هكذا مكان]! كلاّ، وذلك لأنَّ لكلّ كلام مكانه الخاصّ به.
لِوجودنا بطون وحقائق متداخلة
إنَّ لوجودنا بطون وحقائق متداخلة، فوجودنا عبارة عن وجود مستمرّ متواصل تتصل إحدى نقاطه بعالَم الكثرة وما يُدرك فيها، وتتصّل نقطة أخرى منه بعالَم الوحدة وما يُدرك في عالَم التجرّد والوحدة هذا، ويوجد بين هاتين النقطتين آلاف العوالِم.
كان المرحوم السيِّد الحدّاد يقول: يحصل أن تُفتح عيني على إحدى العوالِم أحيانًا – ولم يكن يفصّل أكثر مِنْ ذلك – وما أن أُحاول التعرّف على هذا العالَم حتّى أرى نفسي قد اجتازت عدّة عوالِم – وهو أمر يحصل في ثوانٍ معدودة – بحيث يزول عني ذلك العالَم، فما إن أحاول أن أرى ما الّذي يجري فيه وما فيه مِنْ حقائقٍ ومعانٍ وأيّ عِلم قد أُضيف إليَّ وأيّ جهل قد رُفع عنِّي، إلّا وأجد عوالم متعدّدة أخرى قد مرّت علَيّ، وهي عوالم يحتاج السير في كلٍّ منها والتفكير بشأنها لسنوات عديدة .. أتلاحظون.
فهل مِنَ الصحيح أن تركّز نظرك فقط على عبارة {إنَّمَآ أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ}۱، أم عليك أن تنظر أيضًا إلى{ يُوْحَى إِلَيَّ}٢، حيث تُطأطِئ رأسك عندها. فالرجل الّذي يشرح أكثر المواضيع عُمقًا، هو نفسه الّذي كان يلعب مع ابنه ذي السنوات الثلاث، والّذي كان يظهر بمظاهر متعدّدة [تتناسب مع أعمار أهل بيته] في الليلة الماضية، أمّا اليوم فهو يظهر بمظهر مختلف، ولكلّ مظهر مِنْ هذه المظاهر زمانه الّذي يصحّ فيه؛ فإحدى تلك المظاهر عبارة عن مقام تجلّي المشاعر والعواطف عندما يكون مع عائلته، أمّا عندما يتواجد في المدرسة الدينيّة أو الجامعة أو أحد المجامع العلميّة سيتجّلى مقام العلم، هذا مع كون الرجل هو نفسه، فلم يكونا رجلين. هذا هو معنى تداخل المقامات.
إن جاز يمكننا تشبيه الوحي الّذي ينزل على قلب رسول الله، بالمواضيع والبحوث الّتي يلقيها الأستاذ في الدرس، فما يلقيه الأستاذ الآن في الدرس لا علاقة له بذلك الكلام الّذي تكلّم به مع ابنه ذي السنوات الثلاث، فقد كان التجلّي بذلك الشكل في الليلة الماضية، وهو بشكل آخر في هذا اليوم، وسيكون بشكل ثالث حين العبادة، فما يدركه [مِنْ تجلٍّ] في موضع العبادة لا يمكنه أن يبيّنه حتّى للفلاسفة والفقهاء والعلماء إذ ليس لهم القدرة على إدراكه. على أنَّ جميع هذه المظاهر هي عبارة عن شيء واحد، فهي عبارة عن وجود واحد له مراتب متفاوتة؛ ألَا نشاهد التغيير الّذي يحصل في العوالم عند تجلّي الذات في عالم الأسماء والصفات .. ألَا تتفاوت حقائق عوالم الجبروت مع حقائق عوالم اللاهوت .. ألَا تتفاوت حقائق عوالم اللاهوت مع حقائق عالم الملكوت الأعلى .. وهكذا مع عالَم الملكوت الأسفل حتّى نصل إلى عالَم المثال. ونحن نعلم جميعًا ما يجري في عالَم المثال، وهو الرؤيا الّتي نشاهدها في المنام، والّتي هي أمور واقعيّة، فقد نقوم بعمل ما في النهار، فنشاهد حقيقته متجسّدة في المنام، فكيف حصل ذلك، فلم يكن ذلك مِنْ قبيل السحر والشعوذة. وهكذا الأمر في المكاشفات، كالمكاشفات الصوريّة والمكاشفات المعنويّة والروحانيّة الّتي تحصل في درجة أعلى لأولياء الله.
بناءً على هذا، فالوحي الّذي ينزل على رسول الله بالقرآن، هو عبارة عن النبع الّذي ينبع مِنْ داخل وجود الرسول، غير أنَّه ينبع مِن ذلك الباطن المتّصل بالتجرّد والتوحيد. وهذه هي النقطة المغفول عنها، وهذه الغفلة هي الّتي تتسبّب بكلّ هذا الخراب الّذي نشاهده. فهذه الحقيقة المجرّدة الموجودة في باطن رسول الله تَبرز في عالَم الظاهر في نفس الرسول وعلى لسانه.
عندما يجلس الرسول ويتكلّم مع هذا وذاك، لا يعتبر هذا الكلام وحيًا طبعًا. فالرسول يتحدّث ويروي لأصحابه الحكايات ويأمر وينهي، فلو قمتَ بجمْع كلمات الرسول – مِنْ غير القرآن – وقارنتها بالقرآن، فهل ستكون على نفس الشاكلة، هل أمر الرسول للإمام عَلِيّ أن قُم بهذا العمل يا علِيّ، يشبه ما في الآيات القرآنيّة؟ إنَّ للآيات القرآنيّة معانٍ خاصّة بها، ولهذه المواضيع الظاهريّة معانيها الخاصّة بها أيضًا، وإن كان مصدرها جميعًا هو عالَم القدس والطهارة، غير أنَّ كيفيّة ظهورها مختلفة، فشدّة وحدّة التجرّد المعنويّ يجعل مِنْ إحداها وحيًا ومِنَ الأخرى كلام حقٍّ غير أنَّه ليس مِنْ قبيل الوحي. فلا بأس أن يكون كلامٌ ما كلامَ حقٍّ وصحيحًا وهو ليس بوحيٍ، وذلك لأنَّ هذا الاختلاف ناشئ عن التفاوت في مراتب تجلّي الوحي سعةً وضيقًا، قوةً وضعفًا، شدّةً ولينًا.
حصل للنبيّ هذا التجلّي والوحي لأنّه فرّغ قلبه
لماذا يحصل هذا التجلّي لرسول الله؟ إنَّه يحصل له لأنّه كان قد فرّغ قلبه. فعندما نزلت الآية {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما}۱، كان أوّل مَنْ أجرى هذا الحكم هو رسول الله، وذلك على امرأة مِنْ عشيرته كانت قد سرقت. هكذا يكون النبيّ، فهو لم يحاول أن يجد لها التبريرات بشكل أو بآخر، كأن يقول: إنَّها لم تكن تعلم أو أنَّ النوم كان غالبًا عليها عندما فعلت ذلك. وهو ما يجري [عند باقي الناس] حين لا يريدون تنفيذ الحكم، فهم يجدون للسارق ألف تبرير وتبرير لفعلته. [ولكنّ النبيّ لم يفعل ذلك] بل قام بحفظ آية {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما} في نفسه عندما نزلت عليه، أي أنَّه لَمَّا كان لا بدّ مِن تطبيق هذا الحكم الشرعيّ وهذه الحقيقة التشريعيّة الإلهيّة المتعلّقة بموضوع السرقة في المجتمع، فلا مفرّ حينئذ مِنْ تطبيقها بحقّ أيّ كان مِنَ الناس. أمّا نحن فلسنا كذلك، إذ عندما يجري بيانٌ لحكم مِنَ الأحكام لا نفرّغ قلوبنا له، بل نحتفظ في قلوبنا بشيء لأنفسنا، فعندما يُطرح موضوع ما تجدنا نراوغ يمينًا وشمالًا لكي لا يمسّنا ذلك الموضوع.
كنتُ أشاهد رأي العين نظير هذا الشيء في عهد المرحوم العلّامة، فقد كان القلق يظهر على وجوه بعض تلامذته – مِمَّن تسلّموا برامج سلوكيّة منه – عندما كان يتحدّث عن موضوع ما، وذلك خشية أن يمسّهم بكلمة أثناء ذلك الحديث. نعم، لقد كان القلق بائنًا على وجوههم، كما أنّ البعض منهم كان يصرّح عن قلقه هذا. فتراهم بعد انتهاء المجلس والخروج منه [يتنفسون الصعداء] قائلين: الحمد لله على أنَّ كلام العلّامة لم يشملنا. ولعلّنا مثلهم في هذا الأمر.
لماذا تجري الأمور بهذا الشكل، فهل أراد العظماء بأحدهم شرًّا أو كانوا يرغبون في إيذائهم، أم أرادوهم أن يفرّغوا قلوبهم مِنْ عُقدها؟ ما كان يطرحه العظماء هي أمور واقعيّة لا بدّ مِن طرحها، فإن كنتَ تملك الاستعداد لقبولها كان عليك قبولها، فلا يجوز لك عندئذ أن تقول يوم القيامة: لماذا لم ينبّهني السيِّد الطهرانيّ على كذا – أنا أقصد المرحوم العلّامة والعظماء في هذا لا نفسي فحالي معلوم لا يحتاج أن أصرّح عنه – نعم، لا يحقّ لك أن تقول يوم القيامة: لماذا لم تخبرني بهذا الأمر، فلعلّني غيّرتُ مسيري واتّخذت مسيرًا آخر، ولعلّني عملتُ بغير ما كنتُ أعمل به.
كثيرًا ما كان يحصل .. لقد تأخّر الوقت الآن، ولم يعد لدينا وقت كاف لإدامة الحديث في هذا الموضوع، كما أنَّ حالي لا يساعدني أكثر مِن ذلك. وسأقول لكم بصراحةٍ، أنَّني لم أكن أنوي الحديث عن هذا الموضوع، بل كنتُ أنوي الحديث عن مواضيع أخرى، غير أنَّ الحديث انجرَّ إلى هذا بشكل تلقائيّ، لذا سألبّي طلب الإخوة وعلى ما وعدتهم به سابقًا في المجلس القادم إن شاء الله. وكلّ حديث يأتي بنفسه فمرحبًا به، وأنا لست مقيّدًا معكم بحديث ذي طابعٍ رسميٍّ، على أن مثل هذه المواضيع [الّتي نطرحها] قد تكون ضروريّةً.
عندما كان المرحوم العلّامة يتحدّث عن موضوع ما، كنتُ ألمس ما كان يشعر به مِنْ مسؤوليّة تدعوه لأن يطرح مثل تلك المواضيع. فمَن يقبل بمسؤوليّة تربية التلاميذ لا يستطيع أن يسكت عمّا يراه فضلًا عمّا يعلمه؛ فهو لا يستطيع أن يغضّ الطرف عمّا كان يراه، ولا يمكنه التغاضي عن المخاطر والمهلكات الّتي تعترض طريقهم. فما الّذي كان عليه أن يفعله والحال هذه؟ [لا شكّ] أنَّ عليه أن يُنبّههم على ذلك؛ بالرغم أنّه لو قالها لهم بلهجة صريحة ما كانوا سيقبلون منه، وإن طرحها بشكلِ موضوعٍ عامّ وقصدهم بالكلام سيؤوّلونه بأنَّه موجّه إلى غيرهم، [غير أنّه مُلزم بتنبيههم على كلّ حال، لأنّه] أمر مهمّ لا أمر عاديّ. نعم، إنَّها مسألة حياة أو موت، فهي ممّا يترتّب عليها ألف عاقبة وعاقبة، فليس الأمر عاديًّا مِنْ قبيل شراء كيلوغرام مِنَ الخُضار، فإن وجدها فاسدة يستطيع أن يُلقيها في سلّة المهملات ويشتري عوضًا عنها، بل هي مسألة موت وحياة، ومسألة دنيا وآخرة، ومسألة ضلال وسعادة. فلَمَّا كان الأمر بهذه الأهميّة، فهل يستطيع الأستاذ أن يجلس متفرّجًا على ما يجري مِنْ حوله بحجّة الجوّ الحاكم ولكون الأمور تجري بتلك الكيفيّة؟! هل يمكنه أن لا يكون مباليًا ويدع الأمور تسير على ما هي عليه؟! فلو كان الأمر كذلك، لَتمكّن الجميع مِن فعل ذلك، وبالتالي ماذا سيكون الفرق بينه وبين الآخرين، ولِمَ يتحمّل هو هذه المسؤوليّة دونهم؟! لذا نرى هنا كيف تقتضي المسؤوليّة الإلهيّة الملقاة على عاتق هذا النوع مِنَ الناس أن يقوم ببيان الأمور للآخرين.
[فإن كان ذلك واجبهم] فما هو واجب المستمعين إذًا؟ إنَّ واجبهم يقتضي أن يُفرِّغوا قلوبهم كما قال عنوان [البصريّ]. نعم، عليك أن تقوم بإخلاء قلبك، فإن فعلت ذلك سيُفاض عليه ما يجب أن يُفاض. أمّا لو كنت تقبل كلامه ما دام لا يتعارض مع كلام فلان، فلو تحدّث إليك حينئذ المرحوم العلّامة عشر ساعات بدلَ النصف ساعة، لن يفيدك حديثه شيئًا، لماذا؟ لأنَّك قد أصبحت مثل هذا الجدار، وهل للجدار أن يفهم؟ كلّا، إنَّه لا يفهم شيئًا. فها قد تحدّثتُ الآن بما يقارب الساعة مِنَ الزمن، فكم فَهِمَ هذا الجدار ومسجّل الصوت والميكروفون مِنْ كلامي؟!
إنَّ التفاوت بين الإنسان وغيره هو في قدرة الإنسان على تفريغ قلبه وعجز غيره عن ذلك، فلا يستطيع الجماد تفريغ قلبه لأنّه لا يمتلك قلبًا. ولهذا قال عنوان: ففرّغت قلبي مِنْ أجل أن أستمع إلى كلام الإمام عليه السلام، فما سيقوله الإمام سأستقبله بصدر رحب، ولن أُماطل وأتهرَّب مِنَ العمل بموجبه، ولن أحاول تفسيره بهذا الشكل أو ذاك، ولن أخلط معه رأي هذا وذاك، بل سأعمل على تطبيقه كما هو.
ها قد مضى الوقت وما زلنا على منعطف الزقاق. كنتُ عازمًا على الحديث عن موضوع تفريغ القلب وعن موضوع المحكم والمتشابه، فسأتحدّث عنهما في المجالس القادمة إن شاء الله. نسأل الله ألّا يحرمنا مِنْ تلك النعمة العظيمة وهي قبول الحقّ، ونسأله أن يديم ظلّ ولاية مولانا وصاحب أمرنا على رؤوسنا في الدنيا والآخرة، وأن يجعلنا مِنَ المنتظرين الحقيقيِّين لظهوره، وألّا يحرمنا مِن زيارته في الدنيا وشفاعته في الآخرة.
اللهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد