المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني
القسمعنوان البصري
المجموعةتفريغ القلب لتلقي دستورات الأولياء
التاريخ 1429/01/24
التوضيح
ذكّر سماحته أنّ وصايا الإمام التسع – كما صرّح الإمام – هي خاصّة لمريدي الطريق إلى الله. وقال سماحته أنّ للبعض أحيانًا كلام يستحقّ التأمّل كقول عنوان البصريّ «ففرّغت قلبي له». ومِنْ دأب الحكيم المتفرّس والفقيه الحذق أن لا تفوته أشرعة هذه المقولة الّتي وجدها سماحته جديرة بالإنزال، فتكرّم بإنزالها واحدة تلو الأخرى مبيّنًا مراتب تفريغ القلب. وإليك بعضًا مِنْ تلك الأشرعة؛ ما تكتسبه يتناسب مع ما عقدتَ عليه قلبك – ميزان الطاعة للولي هو إخلاء القلب – لكلّ مقام مقال – حسيننا اليوم هو إمام الزمان – القلب الخالي هو محلّ الإفاضة – أثر العقيدة في انكشاف الحقيقة – ميزة كلام المعصوم – مقدار القابليّة يحدّدها مقدار تفريغ القلب.
هو العليم
معيار الطاعة للوليّ
معنى قول عنوان البصريّ «ففرّغتُ قلبي له» القسم ۱
شرح حديث عنوان البصريّ ۱٥۰
ألقاها:
آية الله الحاجّ السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ
قدس الله سره
أعوذ بالله مِنَ الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمّد لله ربِّ العالمين
والصلاة والسلام على سيِّدنا ونبيِّنا أبي القاسم محمّد
(اللهمّ صلِّ على محمّدٍ وآلِ محمّد)
وعلى آله الطيّبين الطاهرين واللعنة على أعدائِهم أجمعين
نصائح خاصّة لمريدي الطريق إلى الله
قال الإمام الصادق عليه السلام لعنوان البصريّ: أوصِيكَ بِتِسْعَةِ أشْيَاءَ۱، وأنَّ هذه الوصايا التسع خاصّة بمَنْ شحذ همّته وأراد طيّ الطريق إلى الله، وهي تعتبر مِنْ أشدّ الأمور ضرورة للإنسان. وكنتُ قد بيّنت للإخوة في المجالس السابقة كيف أنّ هذه الأشياء التسعة – الّتي أوصى بها الإمام الصادق عليه السلام – ضروريّة لهذه الفئة مِنَ الناس دون سواهم، ولكن لماذا ؟ السبب في ذلك يعود إلى أنّ الآخرين ليس لديهم هدف في الحياة، فحياتهم تتمحور حول الانشغال بالأكل والشرب والنوم، ولا همّ لهم سوى ذلك، فيصلون اليوم بالغد والغد بما بعده وهم يتمتّعون باللذائذ الدنيويّة.
نعم، هنالك فئة مِنَ الناس يريدون طيّ الطريق إلى الله ويرغبون بذلك، وقد شحذوا هِممهم ووطّنوا أنفسهم على ذلك، وهم الّذين وصفهم الإمام عليه السلام بـ «مريدي الطريق إلى الله تعالى»٢. [ وفي المقابل] يوجد مَنْ لا يرغب في طيّ هذا الطريق ويصف هذا الأمر بأنَّه فارغ ولا يتعدّى كونه ضربًا مِنَ الخيال، [ومنهم مَنْ قال] أنَّ نتائج [سلوك الطريق] ستحصل للإنسان تلقائيّا؛ لعلّ الإخوة قرؤوا ما كتبتُه في الجزء الأول أو الثاني مِنْ كتاب أسرار الملكوت٣ فيما يتعلّق بالحديث الّذي جرى بين المرحوم العلّامة ورجل معروف في النجف؛ حيث نصح هذا الرجل المرحومَ العلّامة وبيّن له عدم ضرورة طيّ هذا الطريق ... وأنَّ ما يبتغيه المرء مِنْ وراء تلك الأعمال سيحصل له تلقائيًّا. وعلينا أن نسأل ذلك الرجل هنا: هل حصل لك ذلك وأنت تغادر الدنيا، فهل حصلتَ على ما كنتَ تنصح الآخرين به، أم لطمتَ رأسك في ذلك العالم ورفعتَ صوتك لغفلتك في الحياة الدنيا ولعمرك الّذي أفنيته وناديت {يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ}٤ !
على أيّة حال، فقد ذكرتُ هذه الحكاية هناك، ويستطيع الإخوة الرجوع إليها ليروا كيف قال البعض أنَّ هذه الأمور تحصل للإنسان بشكل تلقائيّ دون الحاجة إلى الجدّ وإتعاب النفس مِنْ أجل نيلها. كلّا أيّها السادة، فالإمام الصادق يقول هنا: إنَّ نصائحي هذه خاصّة بمريدي الطريق إلى الله، وهي لا تتعلّق بغيرهم، فعلى هذا الغير ألّا يُتلف وقته بقراءة رواية عنوان البصريّ، لأنَّها لن تنفعه في شيء، فليشتغل بقراءة الصحف والمجلات وليُرح نفسه ولا يُتعبها بتقديم النصح للآخرين.
للبعض أحيانًا كلام يستحق التأمّل
إنَّ تلك الوصايا التسعة الّتي أوصى بها الإمام الصادق عليه السلام كانت بالشكل التالي: «فثَلاَثَةٌ مِنْهَا فِي رِيَاضَةِ النَّفْسِ، وَثَلاَثَةٌ مِنْهَا فِي الحِلْمِ، وَثَلاَثَةٌ مِنْهَا فِي العِلْمِ»۱. وقبل أن يبدأ الإمام عليه السلام بتوضيح هذه الوصايا التسع لعنوان، قال عنوان عبارة رائعة ولافتة للانتباه. كنَّا إلى الآن نشرح ما تفضّل به الإمام الصادق، أمّا الآن فسننتقل إلى شرح عبارة قالها عنوان. نعم، لا يمكن طبعًا مقارنة أيّ كلام بكلام الإمام عليه السلام، ولكن هنالك عبارات جيّدة تصدر عن بعض الناس أحيانًا أمّا بعضها الآخر لا يتعدّى كونه هراءً.
یقول عنوان البصريّ: «ففرّغت قلبي له»٢. إنَّه لكلام جميل حقّا، ولذا سأتحدّث عنه هذا اليوم إن سمح لي الوقت، وإن لم يكفِ الوقت سأكمل الحديث عنه في المجلس القادم إن شاء الله، نظرًا ً لأهميّة الموضوع، وهي عبارة تستحقّ التأمّل مِنَ السلّاك خصوصًا.
سمع عنوانٌ الإمامَ الصادق عليه السلام يقول له: استمع جيّدًا لهذه الوصايا التسع الّتي أريدُ أن أوصيك بها. [فلسان حال الإمام يقول:] ها أنا أوصيك يا هذا، أنت الّذي لم تتركني وعُدتَ إليَّ بعد أن صرفتك عنَّي قائلًا: اذهب إلى مالك بن أنس. ولكنّك عُدتَ إليَّ وأنت تقول: ذهبتُ إليه وإلى أماكن أخرى، ولكن لم أعثر على ضالّتي. فلمّا كنتَ قد وصلتَ إلى طريق مسدود – أنبّه إلى أنَّني أنا الّذي أقول هذا الكلام عن لسان الإمام على أنّه كلامٌ مطويّ في الموضوع – وذلك عندما لم تجد في الإماكن الّتي ذهبتَ إليها إلّا الادّعاء الباطل والسعي وراء الشهرة والتظاهر وشهدتَ كلّ ذلك بنفسك، عرفتَ عندها أنَّه إن كان هناك وجود للحقّ فهو عند الإمام الصادق لا غير. فما دام الأمر كذلك سأخبرك بما لديَّ، وسأُعلِّمك كلّ ما عليك أن تعمل بموجبه.
فما ذلك الشيء الّذي كان الإمام يريد أن يخبر عنوانًا به ؟ إنَّها تلك الوصايا التسع. ولَمّا كان عنوان رجلًا مِنْ أهل المعرفة والدراية والفهم، قال: «ففرّغت قلبي له». أي قد فرّغت قلبي مِنْ كلّ شيء ومِنْ جميع الخواطر، واستنفرتُ كافّة حواسي مِنْ أجل الاستماع إلى ما يريد الإمام قوله.
إنَّ مسألة «فرّغت قلبي له» لهو أمر في غاية الأهميّة، لأنّه إن لم يفعل التلميذ ذلك فلا يمكن [للأستاذ] أن يعطيه شيئًا، نعم سيُفيض عليه ممّا لديه غير أنَّ ما سيُفيضه ليس ذلك الشيء الأساسيّ الّذي يمثّل لبّ الموضوع وواقع الأمر. لذا يجب على المرء أن يطهّر قلبه ويُبعد عن حواسه كلّ شيء؛ فإن كان يحمل هاتفًا محمولًا في جيبه فعليه أن يُغلقه قبل أن يحضر عند الأستاذ، أو يتركه في البيت أو في السيارة.
ما ستحصل عليه يتناسب مع ما عقدتَ عليه قلبك
يتصل بي البعض [أحيانًا] ويقول: لديّ سؤال، أو لديّ ما أريد أن أعرضه عليكم. فأقول في نفسي: لا بدّ أنّ أمرًا مهمّا دعاه لأن يطلب منِّي أن أخصّص له وقتًا للمقابلة. وقد أكون مشغولًا حينها، أو ربما كنتُ أنوي الذهاب إلى مكان ما، غير أنَّني أقول في نفسي: ما دام الرجل يريد أن يسأل عن مسألة ولديه ما يودّ طرحه علَيَّ، فلا بدَّ أنّه أمرٌ مهمٌّ. لذا كنتُ أعطّل عملي وأُلغي مشواري مِنْ أجل أن يأتي الرجل، [وأقول] إن كان الرجل يريد أن يأتي فعلى الرحب والسعة.
ثمّ يحضر الرجل ويطرح مشكلته وما لديه مِنْ أسئلة، فألاحظ أنَّ أسئلته مهمّة وجديّة وجيّدة، فأقوم بناءً على هذا بالإجابة على أسئلته، غير أنَّه ما إن تمضي خمسة دقائق حتّى يبدأ صوت رنين هاتفه المحمول يخرج مِن جيبه المبارك، فيستأذن الرجل بضع لحظات ليجيب على المكالمة الواردة. فأقول [في نفسي]: حسنًا، ما دمتَ قد تعاملتَ معي بهذا الشكل، سأتعامل معك بالمثل، فأنا أمتلك عدة أجوبة لأسئلتك، وكنتُ أنوي أن أجيبك بشكل معيّن، غير أنَّك لَمّا جلبتَ عملك معك إلى هنا، فقد عرفتُ مقدار أهميّة سؤالك في نفسك، لذا سأجيبك بجواب يختلف عمّا كنتُ أنوي أن أجيبك به.
لا يمكن لأحدٍ أن يصل إلى هدفه إن كان يتعامل بهذا الأسلوب. فمَنْ كان يريد أن يصل إلى هدفه حقًّا، كان لزامًا عليه أن يغلق هاتفه المحمول منذ اللحظة الّتي يغادر فيها بيته وهو يهمّ بالذهاب إلى مقصده – ألاحظتم ما أريد قوله – لا أن يُشغل وقته وذهنه طيلة طريقه إلى هنا بالاتصال بهذا وذاك ورتّب لنفسه مواعيد مع مائة رجل قبل أن يصل إلى باب البيت، وأنجز كافّة معاملاته ومرافعاته وأجاب عن المراجعات ثمّ يقرع جرس البيت وذهنه مليئٌ بمختلف المواضيع.
أنا لا أقصد بكلامي هذا أن أحدّد كيفيّة التعامل معي شخصيّا، فما أطرحه عامّ فأنا أقصد أصل المسألة [وهو كيفيّة التعامل عمومًا مع المسائل]. فلا يظن الإخوة والأصدقاء [أن المسألة شخصيّة]، بل أنا أقصد أن أطرح الأصل العامّ لهذا الموضوع، وهذا هو دأبي دائمًا، فأنا أطرح على الإخوة ما أعرفه عن سيرة العظماء عادةً سواء أتّعظ الآخرون أم ضجروا.
فإن كنتَ ستصل إلى باب البيت وتقرع الجرس وذهنك ممتلئ بتلك المشاغل، فأيّ سؤال هذا الّذي تريد أن تسأله ؟! وما سأقدّمه لك مِنْ جواب سيزاحمه [ما شغلتَ به ذهنك] مِنْ رتقٍ وفتقٍ الّتي أنجزت ألفًا منها حتّى لحظة وصولك إلى باب البيت، [وحجم تلك المشاغل] يعتمد طبعًا على مكانة الرجل ومقدار علاقاته مع أفراد المجتمع.
فها قد قمتَ بكلّ [تلك المشاغل طوال طريقك] حتّى لحظة كبحك لفرامل السيارة وفتحك الباب ونزولك منها، فكل ذلك سيزاحم ما سأقدّمه لك مِنْ جواب. فما ستحصل عليه يتناسب مع ما عقدتَ عليه قلبك، وهذا الأمر ليس بيدي ولا بيد غيري، فأنا لا أستطيع أن أفيض عليك أكثر ممّا يُفاض مِنْ الأعلى ولو بذلتُ أقصى جهدي، حتّى وإن أُفيض القرآن بأكمله فلن يحتلّ مِنْ قلبك أكثر ممّا كنتَ قد هيّأته له.
قال عنوان البصريُّ «ففرّغتُ قلبي له»، وذلك لأنَّ مَنْ يتكلّم معي الآن هو الإمام وليس رجلًا عاديًّا لا يساوي كلامه فلسًا واحدًا. نعم إنَّ مَنْ يتكلّم معي هو الإمام الصادق، وهو يقول لي: ها أنا أنصحك بتسعِ نصائح، وهي نصائح جوهريّة. فاعلم أمام أيّ رجل تجلس الآن، إنَّك تجلس أمام الإمام الصادق الّذي يأخذ بيدك الآن في طريق الهداية، فكم – والحال هذه – ينبغي أن تكون قد فرّغتَ قلبك له ؟
كنتُ قد ذكرتُ للإخوة أنَّني سألتُ المرحوم العلّامة يومًا عن مقدار طاعة فلان له، فقال لي: إنّه وضع عُشر قلبه تحت تصرّفي واحتفظ لنفسه بتسعةِ أعشارٍ، وهذا لیس تفريغًا للقلب، فإنَّ التفريغ هو إخلاء القلب مِنْ كافّة المواضيع والتخيّلات، يعني أن يمنعه مِنَ التوجّه نحو الكَثرة. أمّا الرجل فقد وضع عند المرحوم العلّامة عُشر قلبه فقط، مع أنَّه كان يحضر عنده أسبوعيًّا ويتحدّث معه ويُكنّ له شديد الاحترام - وإن كان هذا كلّه محفوظ في محلّه أيضًا – والمرحوم العلّامة كان يعرف وضع الآخر دون أن ينظر إليه، فكان يعرف مِنْ عَينَيه إن كان قد وضع عُشر قلبه أو عُشرَين أو ثلاثةَ أعشارٍ منه تحت تصرّفه؛ فإن كان الرجل قد وضع عُشر قلبه تحت تصرّفه فسيُجيبه بذلك المقدار لا بمقدار العُشرَين، وإن كان قد وضع عُشرَيْ قلبه تحت تصرّفه فسيُجيبه بمقدار العُشرَين لا الثلاثة أعشار. [ولكن عندما يجيبه] يعتقد الرجل أنَّه حصل على الجواب المطلوب فيخرج مِنْ عند وليّ الله فرحًا مبتهجًا، والحال أنّ تسعة أعشار سؤاله بقيت دون إجابة.
مقتضى الأمانة والسِعة أن يكون لكلّ مقام مقال
إنَّ ما أطرحه عليكم الآن هو ما كنتُ أشاهده بنفسي في عهد المرحوم العلّامة، فكانوا يقولون [مُستبشرين]: هكذا أجابني المرحوم العلّامة. هذا والحال أنّي كنتُ أعرف حقيقة الأمر؛ فإن كنتَ قد وضعتَ عُشرَي قلبك تحت تصرّفه وأجابك بمقدار العُشر سيكون قد تجاوز مراعاة الأمانة، وإن كنتَ قد وضعتَ عُشر قلبك وأجابك بمقدار العُشرَين سيكون قد تجاوز سعتك.
جرت [يومًا] مناظرة بين أحد أصحاب الإمام الباقر عليه السلام وأخيه زيد. وزيد هذا هو مِنَ الرجال العظام، وقد ذكر المرحوم العلّامة سيرة حياته بشكل مفصّل في كتاب «ولاية الفقيه في حكومة الإسلام»۱، وبيّن الفرق بينه وبين «زيد النار» أخو الإمام الرضا عليه السلام، الّذي خرج على السلطة وطغى وقتل ودمّر وأحرق البيوت. أمّا زيد أخو الإمام الباقر عليه السلام فقد خرج على بني مروان في عهد هشام بن عبد الملك بعد أن بايعه الناس ووعدته بالقتال حتّى النهاية، ولكن بعد أن اشتدّت نائرة الحرب وحمي وطيسها استسلم الجميع سوى ثلاثمائةِ رجلٍ صمدوا معه واستشهد أغلبهم، بينما توارى البعض عن الأنظار، وأما زيد فقد أصاب سهمٌ جبينه بعد ذلك، فسقط شهيدًا .. وقصّته معروفة مفصّلة. لقد كان زيد رجلًا عظيماً تقيًّا ورعًا وشجاعًا، لم يتحمّل الظلم، نعم لقد كان رجلًا عظيمًا. إنَّ زيدًا هذا جدّنا، فأغلب السادة الحسينيّين يرجعون في نسبهم إلى الإمام الحسين عن طريق زيد بن علِيّ بن الحسين. وكان زيد قد أعلن أنَّ قيامه هذا ليس لنفسه، وسيسلّم الأمر لأخيه لو ظَفر، وهو يعترف بأعلميّة الإمام الباقر، وقد كان صادقًا فيما يقول، فلم يكن مِنْ أهل الكذب والحيلة والنفاق. نعم، كان يقول: أنا رجلُ سيفٍ وأخي رجل علم. ولم يتحمّل زيد الظلم فخرج على هشام، ثمّ تفرّق عنه جيشه بعد أن خدعهم الأعداء، فانهزموا وقُتل زيد، فدُفِن ليلًا في مجرى إحدى الأنهار في الكوفة، وفي اليوم التالي استُخْرِج جسده، وفُصِل رأسه وصُلب بدنه قرب باب الكوفة لمدة أربع سنوات، وبعدها أُنزِل جسده ودُفن في المكان الّذي شُيّد له فيه مقام الآن.
فقد جرتْ مناظرة بين «زيد» وبين أحد أصحاب الإمام الباقر عليه السلام المعروف بـ «مؤمن الطاق»۱ في الكوفة، وقد أفحم مؤمن الطاق – الّذي كان رجلًا متكلّمًا – زيدًا، فأثبت له خطأ قيامه قائلًا: إنَّ قيامك الّذي تريد الإقدام عليه يجب أن يكون بموافقة أخيك، فأنت تعترف بأنَّه أعلم منك، فهل هو أعلم منك في هذا الأمر أيضًا أم أنَّك الأعلم فيه ؟ قال: بل هو الأعلم. فقال له: ما دام الأمر كذلك لَزِمَ عليك طاعته. فبذلك سدَّ مؤمن الطاق جميع الأبواب بوجه زيد. ثمّ عندما التقى مؤمن الطاق بالإمام الباقر عليه السلام حكى له ما حصل. ثمّ جرت أحداث كثيرة بعد ذلك وخرج زيد واستشهد. وبعدها سأل مؤمن الطاق الإمام الباقر عن شبهة عالقة في ذهنه فقال له: يا بن رسول الله، ما دمتَ تمدح زيدًا كلّ هذا المدح وتُبيّن لنا مقامه وتبكي على مقتله كلّ هذا البكاء، فلماذا لم تمنعه عن القيام ؟ فأجابه الإمام قائلًا: خشيتُ أن أمنعه فلا يستجيب، فيكون بذلك قد خالف إمام زمانه مخالفةً صريحةً.
أترون كيف تعامل الإمام مع زيد، [فقد تعامل معه] بمقدار ما لزيد مِنْ درجة، فهو قد تكلّم معه وأقام عليه الحجّة قائلًا: إنَّ الزمان ليس زمان قيام، ولا يمكن التعويل على هؤلاء الناس، فهم الّذين فعلوا بجدّك سيِّد الشهداء ما فعلوه، ولقد فعلوا الشيء ذاته مع الإمام الحسن، وكانوا قد غدروا بأمير المؤمنين. نعم، لقد بيّن الإمام جميع هذه الأمور لزيد، [وهو محصّل] ما جاء في عدد مِنَ الروايات. وقد قَبِلَ زيد جميع ذلك ولكنَّه قال: أنا في وضعٍ نفسيٍّ لا يسمح لي بالقعود، وليس لديَّ سِعةُ صدرٍ كافيةٍ لأتحمّل ظلم حكومة بني مروان. وأنا أجيب زيدًا عن لسان الإمام الباقر – فليس هذا كلام الإمام – فأقول: وأنا أشعر بنفس ما تشعر به، فلستُ مِمّن لا يرى الظلم إن كان هنالك ظلم ، بل أنا أراه أكثر ممّا تراه أنت، ولكنّني أزن جميع الأمور في نفسي، فأنظر هل يجب القيام في مثل هذه الظروف أم يجب تأجيله إلى وقته المناسب ؟ فتفضل وانظر بنفسك، فقد أحاط بك الناس ثمّ تخلّوا عنك بكلّ بساطة، ولقد رأيتَ ذلك بنفسك، فلم يكن ذاك الكلام حدْسًا وتخمينًا.
علم الإمام حصن ينجينا مِنَ المصاعب
لماذا أصبح الإمام الباقر إمامًا وزيدٌ زيدًا ؟ لقد حصل هذا لكون الإمام هو الأعلم، ولم يكن زيد كذلك، والإمام هو المطّلع على كافّة الخبايا. ولذا يقول لك: لا تفعل. هذا في الوقت الّذي لم تكن أنتَ فيه كذلك.
إنَّ زيدًا عندما رأى مجموعةً مِنَ الناس ترحّب به وتقبّل يديه وترفع أصواتها بالصلوات عندما تراه وتوسّع له الطريق، اعتقد أنَّه حصل على كلّ ما يلزمه مِنْ أجل القيام. كلاّ يا سيِّدي العزيز، ليس الأمر بهذا الشكل، بل ما إن تأتي ساعة الامتحان حتّى لن ترى ثبات ولو اثنين مِنْ ألف رجل.
إنّ الّذين دعوا الإمام الحسين لنصرته قد فعلوا أكثر ممّا فعله مَنْ كان مع زيد، فكانوا يقبّلون أيادي الإمام الحسين ويكنسون الطريق أمامه ويرشّون الماء حول خيامه، وكانت أصوات نداء «يا بن رسول الله، يا بن رسول الله» تصكّ الأسماع وتصل إلى الأفلاك، وكان أهل الكوفة – الّذين تظاهروا بأنّهم مستعدّون ليفتدوا الإمام بأنفسهم– قد أرسلوا إليه خمسة آلاف رسالة، والّتي نشرها الإمام وسط الميدان في يوم عاشوراء قائلًا: مَنْ بعث إليَّ بهذه الرسائل، [أنتم] أم أنا مَن كتبها ؟! ومثل هذا يحصل في الوقت الحاضر، حيث يكتب البعض رسائل تحمل أسماءً وتواقيعَ وهميّة، غير أنَّ أهل ذلك الزمان لم يكونوا يفعلون ذلك. وقال لهم الإمام: تعالوا وانظروا إلى الرسائل الّتي كتبتموها بأيديكم. ثمّ أخذ يناديهم بأسمائهم ويقول: يا حجّار بن أبجر، ويا فلان ويا فلان، تعالوا وانظروا إلى هذه الرسائل فهل كتبتها أنا أم أنتم الّذين كتبتموها ؟! إنَّ مَنْ أرسل تلك الرسائل هو نفسه مَنْ أغلق شريعة الفرات بوجه الإمام – تلك الشريعة تقع في الوقت الحاضر في المكان الّذي فيه مقام إمام الزمان في كربلاء في الجهة المقابلة لمقام الإمام الصادق، ومَنْ كان قد زاره يعرف المكان – [أغلقوها] بخمسمائة فارس ومنعوا الإمام الحسين وأصحابه مِنَ الوصول إلى الماء. نعم، لقد فعل هذا مَنْ كان قد بعث رسائل إلى الإمام الحسين .. فإن كنتَ قد نقضتَ عهدك الّذي كتبتَه يا هذا، فكان عليك – لا أقل – أن لا تحضر إلى كربلاء، أمّا وقد حضرتَ كربلاء فلِمَ تمنعهم مِنَ الوصول إلى الماء ؟! فكم هو فاقد للدين والوجدان والحياء مَنْ يقوم بهذا العمل، في حين أنّه كان قد دعا الإمام للقدوم، ثمّ استقبله بهذا الاستقبال وتعامل معه بهذا التعامل .. فإن كنتَ قد نقضتَ عهدك كان عليك الاعتذار والانصراف، كأن تقول مثلًا: إنَّ الظروف الحاليّة لا تسمح لي بنصرتكم، وأقول لك بصراحة أنَّني أخاف أن تنفيني السلطة وتُشرّد عائلتي، ولهذا السبب نقضتُ عهدي. كما يفعل الكثيرون. لا بأس، وأما التصرّف بهذه الطريقة العجبية ... .
نحن لا نختلف عن أولئك الناس في شيء، نعم، فنحن الّذين نعيش في هذا العصر وفي يوم الجمعة هذا لا نختلف عنهم؛ فنحن نتبنّى نفس عقيدة القوم، ووضْعنا لا يختلف عن وضعهم. كلّ ما هنالك أنّه كان يوجد حرب في زمانهم ولا يوجد حربٌ اليوم، وإمام زمانهم هو الإمام الحسين، وحسيننا اليوم هو إمام الزمان عليه السلام، الّذي لا نعرف عنه خبرًا، لأنّنا في عصر الغيبة. فهذا كلّ ما بيننا وبينهم مِنْ فرق، وإلّا فالعقائد هي نفسها والوضع هو نفس الوضع والأفكار هي نفسها. وسيختبرُ الله الجميعَ بمثل هذه الاختبارات.
لو نظرنا إلى ما كان يدور بين الإمام وبين القوم في ذلك الزمان، لوجدناه بعينه في زماننا هذا؛ لقد كان الإمام يعدّد للقوم أدلّته الواحدة بعد الأخرى، فيقول لهم: لماذا تريدون قتالي، افرضوا أنَّي لست إمامًا ولا ابن رسول الله، فتعالوا لنحتكم إلى المنطق، فوفقًا لوثيقة الصلح بين أخي الإمام المجتبى وبين معاوية، فإنّ لمعاوية خلافة المسلمين في فترة حياته ولا يحقّ له أن يُنصّب أحدًا مِنْ أبنائه مكانه بعد موته، بل يجب أن يعود هذا الأمر إلى آل بيت النبيّ. فيا مَنْ بعثتم إليَّ بتلك الرسائل ويا عُمر بن سعد، هل ما أقوله صحيح أم لا ؟! [كان يتوجب عليهم] عندها أن يقولوا: نعم هذا صحيح. [ويحتجّ عليهم:] أن افرضوا أنَّي لستُ إمامًا ولستُ ابن النبيّ، فهل عدم بيعتي ليزيد منطقيّة أم لا ... فعلى أيّ أساس يتوجّب عليَّ بيعته، وهذه هي وثيقة الصلح، ولقد كنتَ يا عمر بن سعد حاضرًا وقتها ورأيت ذلك بنفسك ؟! [وبعد هذا كّله] نراهم يقولون: هذا ما قد حصل، ولا يمكن فعل أيّ شيء غيره ! .. أتلاحظون.
وما يحصل هذه الأيّام هو تمامًا ما حصل في ذلك العصر، قد يقول شخص: إذ قمتُ بهذا العمل اليوم فسأقوم به وفقًا للمنطق والدليل الكذائيّ. فيُجاب: نحن لا نقبل بما تقول، بل عليك أن تفعل ما نريده نحن. إنَّ هذا هو نفس الجواب الّذي كانوا قد أجابوا به الإمام الحسين قبل ألف وثلاثمائة عام، وهو نفس ما كان يُقال للإمام الباقر والإمام الصادق قبل ألف ومائتَي عام، فلم يختلف الأمر شيئًا؛ فإن كان التعامل المنطقيّ والعقلائيّ هو الحاكم بين الناس، فلن يَفْرق الأمر سواء كان اليوم أو كان قبل ألف وأربعمائة سنة أو قبل أربعين ألف سنة أو قبل أربعمائة مليون سنة، ففي جميع الأزمنة يكون العقل والمنطق هما الحاكمان، وإن كانت المشاعر والأمور النفسانيّة تقف بوجه العقل [فستفعل كما فعلت في جميع الأزمة أيضًا].
لقد قالوا للإمام الباقر عليه السلام: لماذا لم تنهَ زيدًا عن القيام حتّى لا يحصل له ما حصل ؟ فقال لهم الإمام: لو كنتُ قد نهيته، ما كان سينتهي. هذا مع أنَّ زيدًا لم يكن يطلب الحكومة لنفسه، وهذا أمر مهمّ للغاية، فلاحظوا مقدار إيثار زيد، فهو يقول: لو ظفرتُ لسلّمت الأمر للإمام. وهو صادق فيما يقول، فلم يكن يكذب، كما أنَّ الإمام عليه السلام قد صدّق على هذا الأمر حيث قال: كان هدف زيد هو إسقاط حكومة هشام بن عبد الملك وتسليمي – أنا الإمام – مقاليد الأمور، فهو يعلم أهليّتي للخلافة والإمامة، فلو كان زيد يريد الخلافة لنفسه لكان لي معه حديث آخر. نعم، لقد كانت نيّة زيد نيّة صادقة، غير أنَّ هذا ليس كلّ ما في الأمر، ففي بعض الظروف عندما يرى الشخص أنّه غير قادر على مقارعة الظلم، فعليه أن يسكت.
إن فرّغ الإنسان قلبه سيكون القلب محلّا للإفاضة
كان أمير المؤمنين قد قال للقوم: أنا أعلم أنَّ عثمان ظالم، وهو أسوء مِنْ جميع الظلمة، ومع كلّ هذا فلا تُقدِموا على قتله. لقد كان كلام أمير المؤمنين صريحًا بهذا الشأن، وإن كان البعض قد أوّل كلامه بألف تأويل حيث قِيل: لم يكن أمير المؤمنين يقصد النهي عن قتل عثمان، بل كان قد أمر البعض سرًّا وأرسلهم لقتله. كلّا يا سادة، فما تقولونه كَذِب، فأمير المؤمنين قد قال لهم بكلّ وضوح: لا تقتلوا عثمان.
أريد أن أتحدّث اليوم – إن أسعفني الوقت – عن موضوع المُحْكَمْ والمُتَشَابَه، وبذلك أستطيع أن أُبيّن البحث بتفصيل أكبر، لأنّ أصل البحث في عبارة عنوان يعتمد على مسألة المحكم والمتشابه.
عندما قال لهم الإمام عليه السلام: لا تقتلوا عثمان. كان عليهم ألّا يقتلوه، غير أنَّهم لم يسمعوا كلام الإمام وقالوا: لقد تصرّف عثمان بأموال المسلمين، فوهب جميع خَرَاج أفريقيا لامرأته أو لابنة عمّه أو ابنة خاله أو لأقربائه، كما أنَّه ضرب عمّارًا وكسر ظهره وفعل بابن مسعود ما فعل، وولّى أقرباءه الولايات المختلفة. وقال البعض: لقد أراد أمير المؤمنين بقوله (لا تقتلوا عثمان) التمويه ومراعاة مكانته وسمعته، أمّا في واقع الأمر فقد كان يريد قتله. [أقول] ولكن ما مدى واقعيّة هذا الكلام الّذي تقولونه، فإنَّه لا يتعدّى كونه تفسيرًا بالرأي.
قال الإمام عليه السلام: لو كنتُ قد نَهيتُ زيدًا عن القيام، ما كان لينتهي، لذا حاولتُ إيقافه بقولي: أخاف عليك إن قمتَ أن يُصلب جسدك في كناسة الكوفة. فعندما سمع زيد هذا الكلام ارتجف بدنه، غير أنَّه لم يُرد أن يصدّق ذلك؛ [فكانت تتجاذبه الأفكار] فمِنْ جانب قد سمع هذا الأمر مِنْ أخيه الإمام الباقر، وهو يعلم أنَّ قوله ليس جزافًا، وليس كبقيّة الناس يَعِدُ بالنصر ثمّ تكون النتيجة غير ذلك، بل هو يعلم أنَّ الإمام الباقر إن قال شيئًا فسيتحقّق ذلك الشيء، فإن قال الإمام الباقر أنَّ زيدًا سيُصلب فلن تمرّ الأيّام ليرى نفسه جالسًا على كرسيّ الحكم. نعم، إنَّ زيدًا كان يعلم صدق كلام الإمام الباقر هذا ويقبل منه هذا المقدار [مِنَ العلم]، وذلك لأنَّ الإمامَ إمامٌ ولا بدّ أن يتميّز عن الناس، لذا فقد ارتعش بدنه عند سماعه هذا الكلام للوهلة الأولى. ومِنْ جانب آخر، كان زيد يراجع أفكاره ويتذكّر وعود الآخرين له، الّتي أخذ يستعرضها في ذهنه، فيتذكّر المساعدات الّتي قدّمها الآخرون له. كما أنَّ هِمّة زيد وعِرقه الدينيّ وحميّته، كانت تمنحه المزيد مِنَ الجرأة والشهامة، فكلّما كان يتقدّم في هذا الاتجاه، كان خوفه مِن كلام الإمام عليه السلام يضعف، أي عندما قال: أرى جسدك مصلوبًا في كناسة الكوفة. فعندما ضعف تدريجيّا شعوره بالخوف، أجاب الإمام قائلًا: لا ضير في أن أُصاب بذلك لأنَّ قيامي هو لله، فليحصل لي ما يحصل. فيقول له الإمام عندها: ما دام هذا رأيك، فالأمر متروك لك، ولقد قلتُ لك ما يجب علَيّ قوله.
أترون كيف كانت الأمور تجري. فلو قال زيدٌ للإمام الباقر: أنا أعلم أنَّك الإمام يا أخي – ولا أقل هو يعلم أنَّه أعلم منه وهذا ما كان يعترف به أمام الآخرين حيث يقول لمن يحضر عنده (إنَّ الإمام الباقر يعلم ما لا أعلم) نعم كان يقول ذلك بكلّ صراحة فقد كان رجلًا صادقًا، إنَّ زيدًا كان يمتلك صفة الصدق غير أنَّه لم يتحمّل الظلم الّذي وقع عليهم، وهذا أمر آخر – ولكن هل ترى هذا الظلم والإجحاف الّذي أراه والباطل الّذي يُعمَل به، أم لا ؟ لقال له الإمام: نعم، أنا أراه، بل أراه أكثر ممّا تراه أنت، أتريد أن أخبرك بما خفي عنك منه، فأوّلًا أنا أعلم الغيب وأنت لا تعلمه، وفي هذا الكفاية ولا حاجة معه إلى ذكر المزيد، فإن كنتَ ترى خمسين قضيّة مِنَ الظلم سأضع لك خمسة آلاف منها في ملفّ وأسلّمه لك. فما كان لزيد إلّا أن يقول عندها: قد اتّضح لي الآن أنَّك أعلى مرتبة منِّي وأعلم، وما دام الأمر كذلك فما هو التكليف المترتّب علَيّ بحيث تدفع – بينك وبين الله – عنِّي الحساب يوم القيامة ؟ [وعلى تقدير ذلك] سيقول له الإمام حينئذ: نعم، سأبيّن لك تكليفك الّذي يترتّب عليك القيام به. ولا يمكن للإمام أن يقول له: لا، أنا لا أستطيع ذلك. [بل سيقول له:] ما دمتَ قد جئتَ بهذا الشكل سأقوم بتعيين تكليفك الّذي عليك القيام به، ثمّ أتولّى إجابة الملائكة – فمَنْ تكون الملائكة فجميعها تعمل تحت أمري فكيف لهم أن يؤاخذوك – بل سأدافع عنك يوم القيامة إن سألك الله عن قعودك قائلًا: لماذا لم تقم وقد رأيت الظلم بنفسك يا زيد ؟ [حينئذ] قل لله: منعني أخي مِنْ ذلك. وسترى عندها أنَّني لن أخذلك، وسأستقبل الأمر بصدر رحب وأقف إلى جانبك في ساحة الحساب وعرصات الحشر حيث يُنصَب الميزان، وسأتولّى الدفاع عنك وعن امتثالك للتكليف الّذي فرضتُه عليك، بشكل لن يستطيع أحدٌ الاعتراض علَيّ، فأنا الإمام المعصوم.
غير أنَّ زيدًا لم يفعل ذلك، فلو كان قد فعلها لقال له الإمام: اجلس مكانك. فلو كان زيدٌ قد فرّغ قلبه – كما قال عنوان (ففرّغت قلبي له) أمّا إن كان عنوان قد توفّق في ذلك فيما بعد أم لا فهذا أمر آخر غير أنَّ هذا ما قد قاله آنذاك – وتخلّى عن كلّ ما لديه، ولو كان قد ثبّت في قلبه وفي كلّ وجوده حقيقة ما اعترف به مِنْ كون الإمام أعلم منه، وقام بنقش تلك الحقيقة في قلبه، لتولّى الإمام بقيّة الأمر، وحدّد كيفيّة أخرى لإجابته، فهل كان سيجيبه بشكل صريح أم بغموض وإبهام ؟ وهل كان سيتعامل معه بشفافيّة أم كان سيقول له ما يمكن أن يُحمل على أكثر مِنْ وجه ؟ وبعبارة أخرى؛ هل كان سيترك له بعض الأمر [ليقرّر فيه بنفسه] أم كان سيأمره بكلّ وضوح قائلًا: قم بهذا العمل. [لو سلّم زيد الأمر بتمامه للإمام، فحتّى لو فوّض الإمام الأمر إليه] طبقًا لواقع ما، إلّا أنّه سيعمل على إسناده وتسديده وتنظيم أفكاره وتوجيهها باتجاه الهدف المطلوب، وذلك لأنَّ للإمام ارتباط وثيق بجميع النفوس وجميع القلوب .. فهل يمكن للإنسان أن ينفصل عن إمامه ؟! إنَّ الإمام أقرب إلينا مِنْ الأفكار الّتي ترد إلى أذهاننا والّتي تجعلنا نحبه. فإن فرّغ أحدنا قلبه سيكون هذا القلب محلًّا للإفاضة.
هناك رواية عجيبة عن الإمام الصادق عليه السلام قال فيها:۱ أتى رجل إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله، وكان أبواه مشركين، فقال: يا رسول الله إنيّ جئتك أبايعك على الإسلام – وكان صادقًا في نيته – فقال له رسول الله: أبايعك على أن تقتل أباك. فقبض الرجل يده وانصرف [ولسان حاله] يقول: لقد سمعتُ أنَّه نبيّ الرحمة –الرجل لم يقُل ذلك فأنا الّذي أقول ذلك عن لسانه إذ هذا ما كان يدور في ذهنه – ولقد سمعتُ الكثير مِنَ الوصايا بشأن الوالدين.ولعلّ هذا الرجل لم يكن قد سمع حكاية الشابّ النصرانيّ الّذي اعتنق الإسلام، فقال له رسول الله: مِنْ هذا الوقت الّذي اعتنقت فيه الإسلام، يجب عليك أن تضاعف خدماتك الّتي كنتَ تقدّمها لوالديك قبل إسلامك. فعندما يعود هذا الشابّ إلى والديه ويتعامل معهما بهذا الشكل، سيتعجّبان ويسألانه عمّا حصل له، فيخبرهما بإسلامه وبأمر الرسول له بمضاعفة خدمته لهما، وذلك لكون الدين الإسلاميّ أسمى مِنَ الدين المسيحيّ، وما ينكشف مِنَ الحقيقة لمعتنقي الإسلام أكبر ممّا ينكشف منها لمعتنقي الديانة المسيحيّة. [فما أَمَره به النبيّ]لهو أمرٌ حقيقيّ، وليس مِنْ قبيل النفاق الّذي يقوم به الآخرون، فلم ينو الرسول بأمره هذا أن يستميل قلبيهما لينضمّا إلى حزبه، كما هو الحال اليوم حيث نرى البعض يقومون بإغواء الآخرين وإعطائهم الضوء الأخضر وجذبهم بأنواع الحيل، حتّى إذا رأوا عدم فائدتهم ركلوهم بأقدامهم وأخرجوهم. فهذه هي طبيعة المعاملات السائدة في عالمنا اليوم. كلّا، فإنّ رسول الله لا يفعل ذلك، لأنَّه نبيّ الحقّ وكلامه صدق {إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ * وَما هُوَ بِالْهَزْلِ}٢، نعم، إنَّ كلام النبيّ كلامُ حقٍّ وصدقٍ ولا مكان للنفاق فيه، بل هو الصدق المحض، وقول النبيّ هو كشفٌ للأمر الواقعيّ، ولهذا نرى انجذاب الناس إليه، فهم لم يروا الخداع والنفاق والتراجع عمّا وَعَدَ به، بل رأوا منه الصدق في كافّة معاملاته في ليله ونهاره وفي حربه وسلمه. نعم، إنَّه يتعامل بالصدق، ولا يفكّر في كيفيّة الفوز على الأعداء في الحرب. فلَمَّا شاهدتْ الناسُ منه ذلك انجذبتْ إليه.
فانصرف ذلك الرجل۱ وهو يفكّر بينه وبين نفسه في الأمر [ولسان حاله يقول]: كيف يطلب منِّي النبيّ أن أقتل أبي الّذي هو سبب وجوديّ في هذه الدنيا. ثمّ تعمّق في التفكير وقال: لا بدّ أن النبيّ يعرف أكثر ممّا أعرف، فما دام النبيّ نبيّا وهو أمرني بذلك فسأقبل ما أمرني به وسأنفّذه، ولو أنَّه طلب منِّي قتل نفسي فسأفعل. فقرّر المُضيّ قُدمًا، ويا له مِنْ قرارٍ مليحٍ، فما دام قد قرّر الإقدام فليكن ذلك بنسبة مائة بالمائة. ثمّ قال: لو أمرني النبيّ بقتل نفسي لفعلت، فما كنتُ أبغيه مِنْ قدومي إليه هو الوصول إلى أقصى ما يمكنني الوصول إليه، فما المانع مِنْ تنفيذ ما طلبه الرسول منِّي. فعاد إلى النبيّ، بعد أن انصرف عنه لعدّة دقائق، ومدّ يده إلى النبيّ وقال: يا رسول الله إنّي جئتُ على أن أبايعك على الإسلام. فقال له النبيّ مرّة ثانية: على أن تقتل أباك، فما دام أبوك كافرًا ومشركًا لا بدّ أن تقتله. قال الرجل: أقتله. فقال له رسول الله: إنَّا والله لا نأمركم بقتل آبائكم حتّى وإن كانوا مشركين، فحسابهم على ربّهم، إنَّما أردتُ اختبارك لأرى مدى ثباتك على عقيدتك، أطيعوا آبائكم فيما أمروكم ولا تطيعوهم في معاصي الله.
نعم، عليكم طاعتهم وعليكم احترامهم وتقبيل أيديهم وأقدامهم، فهذا ممّا أمر به الله. نعم على كلّ واحد منّا أن يُقبّل أيادي والديه وأقدامهما، وعليه أن يخدمهما أكثر ممّا كان يفعل وهو على الكفر، وعليه أن يطيعهما ما لم يأمراه بمعصيةٍ، إذ طاعة الله مقدّمة على طاعتهما وهذا أمر طبيعيّ، {وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما}٢ .. {وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ}٣. إنَّها لآية عجيبة جدًّا، فالآية تأمر بالخضوع للوالدين وبلُزوم تخلّي المرء عن أنانيّته ونفسه أمامهما والتذلّل والتواضع لهما، على أن يكون تواضعًا حقيقيًّا، لا أن يكون مستبطِنًا للتكبّر .. فالإنسان يعرف كيف يتصنّع، كما أنَّ الشيطان يدأب على تعليم الإنسان هذه الأساليب لتظهر بأحسن ما يكون.
بمقدار ما تُفرّغ قلبك تزداد قابليّتك لتلقي الفيض
تذكّرتُ هذه الحكاية الآن؛ كان قد حصل خلاف بين اثنين مِنْ أصدقاء المرحوم العلّامة، وكان أحدهما معمّمًا والآخر صاحب ورشة في إحدى شوارع مدينة طهران – لا أريد تقديم المزيد مِنَ التوضيح حوله – فقال المرحوم العلّامة للمعمّم: عليك أن تتصالح مع صديقك وتحلّ النزاع بينكما، فما معنى أن يبقى هذا الجَفاء وكدورة الخاطر بينكما ! فهو أحد إخوتك وعليك إنهاء هذا الخصومة معه. فليس مِنَ الصحيح أن تحضرا المجلس فيدير أحدكما رأسه إلى الجدار والآخر إلى الجانب الآخر، فمِثْل هذا التصرّف يترك أثرًا سلبيّا على الحاضرين وعلى حال المجلس.
إن حضر رجلان مجلسَ ذِكْرٍ وكان بينهما خلاف، فحضورهما سيُفسِدُ حال المجلس بأكمله، وسيكون مجلسًا فاقدًا للروح، وستنصرف عنه الملائكة لتحلّ محلّها الشياطين. عليكم أن تعوا هذه الحقيقة جيّدًا؛ فالمجلس إمّا أن يكون محلّاً للملائكة أو للشياطين، ولهذا السبب كان المرحوم العلّامة يقول: إن كان هنالك خلاف بين رجلين منكم، فلا يجوز لهما حضور المجلس ما لم يُسوّيا خلافهما. ولقد رأيتُ بنفسي كيف أَمَر اثنين مِنَ الإخوة بالخروج مِنَ المجلس لئلّا يُفسدا حال الآخرين، وقد أخرجهما بالفعل على الرغم مِنْ أنَّ الجوّ كان ممطرًا.
كان أَمْر المرحوم العلّامة لذلك المعمّم أمرًا صريحًا بتسوية خلافه مع صديقه. وما دام الأمر بهذه الصراحة كان على الرجل أن يطيع أمر أستاذه. فإنَّ ضمير الإنسان يبدأ بتأنيبه وحثّه على طاعة أمر أستاذه – ذلك الوليّ الإلهيّ – إذ الضمير لا يزال حيّا حينها ولم يصل إلى حدّ أن يُقال: دعه وشأنه فهو يخاطب عمّته بذلك. نعم لقد وصل الحدّ بالبعض في نهاية المطاف إلى أن يقول مثل هذا الكلام، ولكن لم يكن قد وصل الحال بذاك الرجل المعمّم إلى هذا الحدّ في ذلك الوقت – نسأل الله أن يحفظنا مِنْ ذلك – فكان الرجل حتّى تلك اللحظة يمتلك مقدارًا مِنَ الضمير الحيّ، ولا يزال هنالك وجود لجنود الرحمن في نفسه، فلم يغادروه بعدُ. فتأتي الملائكة هنا لتقول له: عليك أن تطيع أمر أستاذك. غير أنَّنا نراه مِنَ الجانب الآخر يقول: لماذا يكون عليّ أن أذهب إليه، فلِمَ لا يأتي هو إليَّ ؟! فهنا يحضر جنود الشيطان ويبدؤون بالوسوسة قائلين: بما أنَّ أستاذك قد أمرك بمصالحته، نفّذ هذا الأمر ولكن بشكل آخر .. فيقرّر أن يذهب إليه وهو يستعرض في ذهنه ما بدر مِنَ الرجل تجاهه، فيتذكّر ما قاله له في أحد المجالس، وكيف لم يحترمه في مجلس آخر، وكيف شوّه سمعته في مجلس ثالث .. [أقول] كان عليك أن تُخرج كلّ ذلك مِنْ نفسك يا هذا، فما دمتَ قد أُمرت بمصالحته فعليك التخلّي عن الخصومة والسخط، فتصوّر نفسك وكأنَّك قد وُلدتَ للتّو وهو قد وُلد للتوّ أيضًا، فتذهب إليه [وأنت على هذه الحالة] وتسلّم عليه وتقول له: أنا مشتاق لك –لِمَ لا يقول الإنسان مثل هذه الأمور – وتَدع كلّ ما حصل جانبًا.
غير أنَّ الشيطان لَمَّا كان يريد الوقوف بوجه أمر الأستاذ – وعقد عزمه على منع أيٍّ كان مِنَ التكامل ولولا ذلك لترقّى كلّ إنسانٍ عاديٍّ – يبدأ بتذكيره بما بَدَر مِنَ الرجل في ذلك المجلس .. ثمّ يبدأ بهزّ رأسه والتأوّه، فيقول: ولكن ما الّذي سأجيب به أستاذي إن ذهبت إلى مدينة مشهد وسألني عمّا فعلته بهذا الخصوص. فإن قلتُ له أنّني لم أفعل، فإمّا أن يؤاخذني على عدم ذهابي أو أن يطرق رأسه إلى الأرض أو أن يتجهّم وجهه بسبب عدم طاعتي له، فأيّة إجابة سأقدّمها لأستاذي ؟!
[أقول] إنَّ الأستاذ يطلّع الآن على جميع ما يدور في ذهنك يا عبد الله، فما الّذي تقوله أيّها المسكين، وعن أيّ جواب وأيّ ذهاب لمدينة مشهد تتحدّث – كان يحصل أن يخطر على ذهني خاطر ما في الليل وعندما أرى المرحوم العلّامة في الصباح كان يقول لي ما يشير إلى ما قد خطر ببالي الليلة الماضية – وما هذا اللفّ والدوران الّذي تقوم به يا هذا ؟! كان المرحوم العلّامة يقول لنا: كان يقف فلان في منعطف الزقاق ليدخن سيجارته، مع أنّي أقول بحرمة التدخين، ثمّ يحضر عندي وهو يتصوّر أنّني لم أره وهو يدخّن سيجارته هناك .. قد يتعامل المرء مع رجلٍ عاديٍّ فيقوم بفعل كلّ ما يشاء، [أمّا وقد حضر في هذا المكان] فعليه أن يعرف أين حضر .. إنّما أطرح عليكم هذا الأمر هنا لنستفيد منه ونتّعظ به جميعًا، ابتداءً منِّي أنا المُبتلى بهذه الشبهات وكلّ واحد منكم بمقدار ونوع الابتلاء. فعلينا السعي لإصلاح أنفسنا بالاستعانة بحول الله وقوّته، فيجب أن لا نرى أنفسنا منزّهة عن النقص والعيب، فنحن جميعًا مبتلون بمثل هذا البلاء، فما الّذي جاء بنا إلى هنا [لولا ذلك] ؟! علينا جميعًا أنا وأنتم أن نفكّر في هذا الموضوع وأن نسعى مِنْ أجل إصلاح أمورنا، حتّى يتمّ الإصلاح بشكل تدريجيّ.
فأخذ الرجل [المعمّم] يستعرض تلك الأمور في ذهنه الواحدة تلو الأخرى، فيتذكّر ما بدر مِنَ الرجل [اتجاهه] حتّى وصل به الأمر في نهاية المطاف إلى محاولة الجمع بين الحالتين – فيخنق نداء الضمير مِنْ جهة ويُصغي لصيحات الشيطان مِنْ جهة أخرى – فيذهب بسيّارته إلى ورشة عمل ذلك الرجل ويسلّم عليه ويسأله عن أحواله، ثمّ يقول له: جئتُ إلى السوق لإنجاز عمل، فلم أعثر على مكان لإيقاف سيارتي، فقلتُ في نفسي أن أذهب إلى الورشة مِنْ أجل إيقاف سيارتي هناك.
يا للحُسن! ويا له مِنْ تصرّف ! جُعلت فداءً لعمّتي ! أيُحسب هذا التصرّف تنفيذًا لأمر الأستاذ، بأن توقف سيارتك في ورشته ؟! ولا أدري هل كان الطرف الآخر قد عرف الهدف مِنْ قدومه أم لا، ومِنْ أين له أن يعرف ؟!
فيقول له: لا بأس دعها هنا .. ثمّ يعود الرجل بعد نصف ساعة ليأخذ سيّارته، ثمّ يذهب إلى مدينة مشهد فيقول للمرحوم العلّامة: لقد ذهبتُ إليه وسلّمت عليه. فيضحك المرحوم العلّامة في وجهه [ولسان حاله يقول]: يا لك مِنْ حمار – طبعًا لم يقل العلّامة هذا الكلام بل أنا الّذي أقوله بلسان حاله، وهذا هو معنى «لسان الحال» الّذي نسمع عنه – ويضحك في وجهه ويقول له: أسأل الله لك التوفيق ..
إنَّ هذا مثال على عدم تفريغ القلب، وعلى احتفاظ المرء لنفسه بمكانته. [أقول] رحم اللهُ عبدَ اللهِ ذاك الّذي سلّم عشرة بالمائة مِنْ قلبه للمرحوم العلّامة، مقابل هذا الرجل الّذي لم يسلّم له سوى واحدًا مِنْ ألف، وبقي مِنْ قلبه تسعمائة وتسعة وتسعين سلّمها لأهوائه وخياله ولكثرات الدنيا. فما الّذي ستؤول إليه عاقبة أمره ؟ إنَّه لن يجني مِنْ ذلك أيّة ثمرة، وليس هذا فقط إذ لَيْتَه توقف عند هذا الحدّ بل أصبح قلبه أكثر قدرة على التأويل، وهنا تكمن المسكنة، أتريد أن تخدع أولياء الله يا هذا – {وَمَكَرُوا وَ مَكَرَ اللَّهُ}۱ – أتريد أن تلتفَّ على كلام وليّ الله ؟! إنَّك لن تتمكّن مِنَ الالتفاف عليه، بل إنَّ نفسك هي الّتي ستلتفّ على نفسها مِنْ دون أن تعلم ذلك. فما قمتَ به الآن سيجعلك عاجزًا عن القيام حتّى بمقداره في القضيّة القادمة. وهذا ما حصل بالفعل، فعندما قال لي المرحوم العلّامة: قُل لفلان أن يقوم بالعمل الفلانيّ. أجابني بكلّ صراحة: كلّا، لن أفعل. أتلاحظون، فإنّ هذا لم يكن ما أجاب به في المرّة السابقة، بل حاول اللفّ والدوران حول الموضوع بإيجاد حلّ يتناسب مع هوى نفسه. فإن كان الأمر كذلك لن تقف الملائكة مكتوفة الأيدي بل ستقول له: ما دمتَ تريد الالتفاف فسنرفع ذلك الواحد بالألف مِنَ التسليم الموجود في قلبك، إذ لسنا بحاجة إليه، لأنّنا نعيش في عالم الغنى ولا نحتاج إلى هذا الواحد بالألف، فلمّا احتفظْتَ لنفسك بالتسعمائة وتسعة وتسعين، فنحن نمنحك الواحد بالألف أيضًا مِنْ أجل أن يكتمل الألف لديك، وعندما سيأتيك الأمر الثاني – وأنت على هذا الحال – ستُجيب: لن أفعل. فيكون بذلك قد خسر الدنيا و .. نسأل الله أن يتجاوز عن تقصيرنا جميعًا. ثمّ ارتحل الرجل عن الدنيا .. نسأل الله أن يعفو عنه، فعلينا أن نطلب العفو والمغفرة للآخرين دائمًا، فلا ينبغي ذكر الموتى بالسوء، غير أنَّ هذه القضايا تعتبر دُروسًا لنا يجب علينا الاعتبار منها لأجل تصحيح مسيرنا.
قال عنوان: «ففرّغت قلبي له». فبمقدار ما يفرّغ المرء قلبه تزداد قابليّته لتلقي الفيض. هناك رواية عجيبة تُنقل عن السيِّدة الزهراء سلام الله عليها، جاء فيها: مَنْ أَصْعَدَ إِلَى اللَّهِ خَالِصَ عِبَادَتِهِ أَهْبَطَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَيْهِ أَفْضَلَ مَصْلَحَتِهِ۱. فالمصلحة الّتي يُهيّئها الله لنا في حياتنا هي بمقدار خلوص عملنا له. وكيف يحصل هذا ؟ إنَّه يحصل نتيجة تفريغ الإنسان قلبه ونتيجة تطهير قلبه.
قد يذهب أحدهم لحضور مجلس معيّن يتحدّث فيه أحد العلماء، وفي طريقه إليه يقول في نفسه: لنرى ما الّذي سيقوله هذا السيِّد في حديثه. فهذا نوع مِنْ أنواع الحضور. وقد يحضر آخر وهو يقول: أنا أعلم أنَّ المتحدّث سيتطرّق إلى مواضيع مهمّة ومفيدة، فسأذهب لأستفيد ممّا يُطرح في المجلس. هذا ما كان يحصل في السابق، وكنتُ أشاهد ذلك بنفسي، فكان يحضر المجالس أنواع مختلفة مِنَ الناس، لكلّ واحد منهم هدفه الخاصّ. وقد يقول ثالث: علَيّ أن أُهيّئ نفسي وأعدّ ذهني وأستعدّ لحضور المجلس الّذي سيُعقد هذا اليوم، وذلك لأتمكّن مِنْ فهم ما سيُلقى فيه. فيقوم قبل ساعات مِنْ انعقاد المجلس بتعطيل كافّة ارتباطاته ويأخذ قسطًا مِنَ الراحة، فلا يسمح لأحد بالاتصال به ولا يتكلّم مع أحد، وذلك ليمنع أيّ خاطرٍ مِنَ الورود في ذهنه وإشغاله، فيحضر المجلس وهو على هذا الحال، فسيكسب هذا الرجل مِنَ الفيض النازل على المجلس بمقدار ما هيّأ له نفسه. لقد كان هنالك أفراد مِنْ كلّ هذه الأقسام الثلاثة يحضرون مجالس المرحوم العلّامة، وكلّ بحسب المرتبة الّتي يحتلها.
أتذكّر عندما كنتُ أحضر مجالس العظماء كيف كان المرحوم العلّامة يفرّغ قلبه عند حضوره لمجالس أستاذه [السيّد الحدّاد]، وأستاذه السابق [الشيخ الأنصاريّ] أيضًا. لقد كنتُ صبيّا في زمن أستاذه السابق، حيث كان عمري بحدود الخمس أو الست سنوات، وذلك عندما ارتحل أستاذه السابق [الشيخ الأنصاريّ] عن الدنيا. أمّا فيما يتعلّق ببقيّة المجالس الّتي كانتْ تُعقد عند قدوم أستاذه [السيّد الحدّاد] إلى إيران أو عندما كنَّا نتشرّف بزيارة العتبات المقدّسة، فلم يحصل ولو لمرّةٍ واحدةٍ أن كان أستاذه يتحدّث في مجلس ولم يكن يصغي إليه بكامل انتباهه، بل كان يصغي إلى أستاذه بالشكل الّذي لو قام أحدهم بحركة ما لَمَا عرف ما الحركة الّتي قام بها الرجل، فكان لا يعلم ما الّذي يجري مِنْ حوله في تلك اللحظة. هذا في الوقت الّذي كان فيه باقي التلامذة الجالسين بجنبه – ومنهم لا يزال على قيد الحياة – يستمعون إليه وهم يدخّنون سجائرهم وينفضون رماد السجائر في الوعاء الّذي أمامهم، أو يُخرجون مسابحهم مِنْ جيوبهم ويلهون بها.
فالثمرة الّتي سيحصل عليها المرء تتناسب مع نسبة الاهتمام الّذي يعطيه لكلام ذلك الرجل العظيم، وتتناسب مع مقدار تفريغ الذهن له. ولهذا نرى كيف حصد المرحوم العلّامة ثمار اهتمامه، فوصل إلى ما وصل إليه وأصبح «العلّامة»، أمّا الآخرون فما وصلوا. هذه هي النتيجة، فالثمرة الّتي يصل إليها الإنسان هي نتيجة الموقف الّذي يتخذه تجاه المطالب الحقّة.
كان هذا مقدّمة للموضوع الّذي كنتُ أنوي الحديث عنه، ولقد طال الحديث فيها، ولا أعتقد أنَّ الفرصة كافية الآن للحديث عن الموضوع الأهم والرئيسيّ. كما أنَّ الجوّ غير مناسب لإدامة الحديث، لذا سنؤجّل الحديث عن المُحْكَمِ والمُتَشَابَه، وعن وجوب العمل في حياتنا بالمحكمات واجتناب المتشابهات الّتي تكون في حالة الشبهة. سأتحدّث للإخوة والأصدقاء عن هذا الموضوع في المجلس أو المجالس القادمة إن شاء الله ووفقنا لذلك.
اللهمّ صلِّ على محمّد وآل محمّد