المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني
القسممباني الإسلام
المجموعةطلاب العلوم الدينية
التاريخ 1433/11/08
التوضيح
أهم محتويات المقالة:
- اللقاء بالإخوان ضرورة سلوكية؛
- محوريّة الأمور السلوكية في حياة السالك الاجتماعية؛
- وصيّة العلاّمة الطهراني بعدم الاهتمام بمن لا يجعل الأمور السلوكية هي الأصل؛
- انعكاس مستوى فهم الإنسان على تصرّفه؛
- حب الإمام يجعل الإنسان أكثر عقلانية؛
- عدم معرفة العوام للإمام معرفة واقعيّة بل معرفة خيالية؛
- اختلاف حالة الإمام قبل الإمامة وبعدها؛
- الإمام فقط هو الذي يجري المشيئة الإلهية دون غيره؛
- و...
هو العليم
الثبات والاستقامة في السير والسلوك
ألقيت ليلة الثلاثاء في الثامن من ذي القعدة ۱٤٣٣ هـ ق
محاضرة ألقاها
آية الله الحاجّ السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ
قدس الله سره
أعوذ باللـه من الشيطان الرجيم
بسم اللـه الرحمن الرحيم
و صلّى اللـه على سيّدنا ونبيّنا أبي القاسم محمّد
وعلى أهل بيته الطاهرين
واللعنة على أعدائهم أجمعين
اللقاء بالإخوان ضرورة سلوكية
لقد كان أصل وأساس قدومنا إلى هنا في خدمة الرفقاء بدافع تقوية العلاقة ومن أجل الاطّلاع على بعض الأمور المبهمة وبيانها، والجواب على بعض الأسئلة خصوصاً ما يتعلّق منها بالأحبّة من طلاّب العلم، ولكن بسبب الظروف الصحية التي ابتلينا بها مؤخّراً فقد قلّ نصيبنا من التشرّف بخدمة الرفقاء، والليلة لم يكن من المقرّر أن أكون في خدمة الإخوة، وعندما سألني جناب السيّد (...) هل ستأتي هذه الليلة [إلى جلسة ليلة الثلاثاء]؟ اعتبرت ذلك فرصة ينبغي اغتنامها لرؤية الإخوة والأصدقاء، فنفس ملاقاة الإخوة والأصدقاء غنيمة ومكسب.
أجل.. أذكر أنّه في الزمان السابق.. زمان السيّد الوالد رضوان اللـه عليه كانت تقام جلسات ليلة الثلاثاء، وكان البعض لا يشاركون فيها، ولعلّ السبب في ذلك كان التعب أو بعد المسافة، أو لبعض الأسباب الأخرى التي كانوا يرونها وجيهة، وطلبوا منّي أن أتحدّث مع السيّد الوالد رحمه اللـه في إلغاء جلسات ليلة الثلاثاء من برنامج الرفقاء إن كان ذلك ممكناً، والاكتفاء بجلسات عصر الجمعة فقط. ولمّا نقلت له الأمر؛ قال سماحته: يا للعجب! إنّ هؤلاء لم يدركوا حقيقة الأمر بعدُ! فالرفقاء ينبغي أن تكون لهم جلسة في كلّ ليلة! ولكن نحن مراعاةً لأوضاعهم وظروفهم وصعوبة ذلك عليهم قد استبدلنا ذلك بجلسة واحدة في الأسبوع، ومع ذلك هم يرفضون ذلك ويتساهلون ويتسامحون فيها! وكان ذلك الأمر عجيباً جداً بالنسبة لسماحته بحيث أنّني كنت أشاهد نوعاً من التعجّب في وجه سماحته كأنّه يقول: كيف يمكن لبعض الرفقاء الذين قضوا كلّ هذه المدّة معنا، ومع ذلك لم يفهموا بأنّ علاقة الرفقاء مع بعضهم تمثّل إكسيراً عظيماً، ولم يدركوا مدى التأثير العميق لهذا الارتباط بينهم في مسائل الإنسان، ولم يفهموا مقدار أهمّية هذا الأمر بعدُ.
محوريّة الأمور السلوكية في حياة السالك الاجتماعية
ذات يوم عندما كانت جلسات "عنوان البصري" تقام في منزل جناب الدكتور، وكان عدد الحاضرين كبيراً، وكان ذلك مزعجاً جداً لي، فقد كنت أحسّ بالضيق بسبب هذا العدد الكبير من الحاضرين، وذلك لأسبابٍ عديدة، وأهمّها هو الجانب المعنوي للجلسة، وبحمد اللـه فقد انتفى ذاك الشكل من الجلسة، فارتحنا ورجع المجلس إلى الحالة التي نرغب فيها... [في تلك الفترة] دار حديث بيني وبين أحد الأشخاص فسألته.. كلاّ.. بل هو ابتدأني بالكلام، فليس من عادة الحقير أن يسأل عن حضور الإخوة والأحبّة في الجلسات والمحاضرات، فبعض الرفقاء لا يحضرون بعض الجلسات بسبب السفر أو الانشغال أو ما شابه، ولكنّني لا أسألهم: أين كنتم؟ ولماذا لم تحضروا؟ فذلك ليس من عادتي، رغم أنّ من حقّه أن أسأله عن ذلك، ولكن ذلك ليس من عادتي، فماذا أفعل؟! ويمكن أن نعتبر ذلك من نقاط ضعفي.
حسناً.. عندما رآني ذلك الأخ سألني: سيّدنا، هل يمكن لنا بدلاً من القدوم من طهران يوم الجمعة لحضور المحاضرة أن نكتفي باستماع المحاضرة من الشريط؛ إذ إنّ تسجيل المحاضرة سيصل إلينا بعد مدّة بسيطة، ويمكن أن نستمع إلى المحاضرة أثناء قيادة السيّارة، (مع ارتفاع أصوات السيارات من هنا والفرامل هناك!! وربما كان إلى جانبنا شخص فنتحدّث معه قليلاً في أثناء ذلك!! ونسمع في الوقت نفسه محاضرة السيّد!! وبهذا نستفيد من الفرصة المتاحة بأفضل طريقة ممكنة!!) قال: هل يمكن لنا ذلك، أم أنّ من اللازم أن نأتي إليكم في قم لنحضر المحاضرة مباشرة؟ فأجبته قائلاً: ليس من الضروري أن تأتي أبداً، ولا يوجد آية في القرآن الكريم تأمركم بالحضور والإتيان إلى قم، ولا أنّ ذلك مفروض عليكم في لوح المحو والإثبات!! كلاّ يا عزيزي!! لا تضيّع وقتك في هذه الأمور، ولا تتعب نفسك بل اذهب واقض وقتك في الأمور التي تحبّها!! هل التفتّم؟!
إنّ المسألة ترجع إلى هذه النقطة وهي: ما هو المقدار الذي استوعبناه؟ وما هي أهمّية القضيّة بالنسبة لنا؟ وإلى أيّ حدٍّ لهذا الطريق أهمّية عندنا؟ وإلى أيّ حدٍّ نحن قد صدّقنا بما أُخبرنا به؟ وما هو المقدار الذي أدركناه واهتممنا به من الأمور التي سمعناها؟ هذا هو الأمر، فجميع طريقنا وحركتنا وجلوسنا وقيامنا وذهابنا وإيابنا ومحاسباتنا وتقييمنا للأمور المختلفة في حياتنا تدور حول هذا المحور، وعلى أساس هذا المحور نحن نحدّد أهمّية الأمور المختلفة التي تجري في حياتنا، ونحدّد لكلّ مسألة قيمة وأولوية معيّنة. فالشخص الذي لا يعتبر لطريقه وسلوكه أهمّيةً كبيرة، فهو بطبيعة الحال سيضع هذه المسائل في المرتبة الثانية والثالثة والعاشرة من أولويّاته، وأمّا الشخص الذي يهتمّ بطريقه وسلوكه، فهو يجعل هذا الأمر أصلاً ومحوراً، ثمّ يرتّب باقي الأمور بناء عليه وعلى أساس محوريّته؛ فهو عندما يريد أن يلتقي بالأفراد؛ فإنّه يسأل نفسه أوّلاً بأنّه ما هو مدى انسجام هذا اللقاء مع طريقه؟ وهل في هذا اللقاء مع ذلك الشخص ضررٌ له أم فيه منفعة؟ وكذلك الأمر عندما يريد أن يقرّر بشأن قضيةٍ ما، فهو ينظر هل هي نافعةٌ له أم مضرّة؟ وإذا أراد أن يقيم علاقة مع شخص ما فهو ينظر هل في هذه العلاقة منفعة له أم أنّها مضرّة؟
ذات وقتٍ سافرت مع بعض الأشخاص إلى أحد المناطق، وكان لدى أحد الأشخاص عمل هناك يريد أداءه، وكنت قد لفتُّ نظره إلى الطريقة التي يظهر بها، وقلت له: إنّ الخروج بهذه الحالة الظاهرية فيه إشكال شرعاً، (و لا أريد أن أذكر مزيداً من التفاصيل)، وبناءً على ذلك فإنّ هذا الشخص بعد أن قلت له ذلك رتّب أثراً على كلامي وقام بتعديل الوضع الخاطئ، ولكن ليس بنحو كامل بل بنسبة أربعين بالمائة، وعندما وصلنا إلى تلك المدينة التي سافرنا إليها، أراد هذا الشخص أن يذهب لمقابلة أحد الأفراد، وعندما أراد الذهاب نظرت إليه فتعجّبت من مخالفته ما أخبرته به في السابق [بخصوص مظهره]!! وذلك لأنّه أراد أن يقابل بعض الأشخاص الذين كان يرى أنّ ذلك المظهر لا يروق لهم، فقام بتغييره! فقلت في نفسي: لأنّه عمل بخلاف ما يقتضيه السلوك فسوف يرجع خائباً، وذلك ما حصل فعلاً! حسناً.. انظروا إلى هذا الشخص.. فهذا الموقف منه يكشف أنّ السلوك بالنسبة له يقع في درجةٍ متأخّرةٍ من الأهمية، وأنّ ما يحتلّ عنده الدرجة العليا من الأهميّة هو شغله وعمله وكسبه.
وهكذا البعض الآخر.. المهمّ عنده زوجته، (أو زوجها!) والبعض الآخر يهتمّ بعلاقاته الأسرية بالمقام الأوّل، أو بجيرانه أو بشأنيّته ومكانته... فهو يضع هذه الأمور في مقام الصدارة، فإذا بقي مجال بعد ذلك، فإنّه لا يرى بأساً في قراءة دعاء السمات!! أو ربما يقرأ ذكر "يا اللـه" بين الطلوعين، وذلك إذا لم تتزاحم مع المسائل الأخرى!
وصيّة العلاّمة الطهراني بعدم الاهتمام بمن لا يجعل الأمور السلوكية هي الأصل
إنّ هذا النوع من الأفراد هم الذين قال لي السيّد الوالد رحمه اللـه عنهم أن: لا تصرف وقتك مع أمثال هؤلاء! (وربّما كانت هذه أوّل مرّة أذكر فيها هذا المطلب، مع أنّني قد أشرت إليه بنحوٍ أو بآخر فيما سبق) فسماحته في الشهور الأخيرة من حياته الشريفة، عندما تشرّف الحقير بالذهاب إلى مشهد، ذكر مجموعةً من الأمور للحقير، ولا شكّ أنّ سماحته كان مطّلعاً على المسائل التي ستجري لاحقاً.
وقد حاولت في هذه المدّة أن لا أكون بذلك النحو من الشدّة والقسوة التي رُسمت، ولكنّني أحسّ أنّ الأمر ليس في يدي، فبعض القضايا التي تحصل ليست باختياري، فقد حصل في كثير من الأحيان أنّني أتصرّف بطريقة معيّنة لغرض معيّن، وبدون أن أقصد وأختار فإنّ تصرّفي ذلك يظهر بعكس المراد منه تماماً، ولم يكن ذلك باختياري، فأنا أرى أنّ الموقف المناسب هو كذا مثلاً، ولكن بسبب مراعاة حال نفس هذا الشخص المقابل، كنت أحاول أن أتصرّف بشكل وسطي يراعي كلّ الحيثيّات، ولكن كنت أحسّ أنّ المطلب كان يأتي من مكان آخر...، والخلاصة فإنّ الأمر هو {فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغ}۱، ولا ينبغي لي أن أزيد وأنقص من عندي ومن تلقاء نفسي، وهذا لا يختصّ بي بل هو يشمل الجميع، فأنا لست إلاّ فرداً من الأفراد المنتسبين إلى هذا الطريق وهذه المدرسة، فكلّ شخص منتسب إلى مدرسة العلاّمة الطهراني رضوان اللـه عليه له تكليفه الخاصّ به، والحقير قد ذكر للرفقاء مراراً بأنّه لا ينبغي في هذا الأمر لأحدٍ أن يتصوّر بأنّ لي حساباً خاصّاً هنا، فالغيرة الإلهيّة لا تقبل بأيّ "غير".. الغيرة الإلهيّة لا تعرفني ولا تعرف من هو أعلى منّي ولا من هو أدنى منّي ولا من هو مساوٍ، بل الغيرة الإلهيّة لا تعرف إلاّ اللـه سبحانه وتعالى، ويجب على الإنسان أن يلتفت كثيراً إلى هذه المسألة، وذلك بأن ينظر ما هو الأمر الذي يريده اللـه منه، وما الذي يتوقّعه اللـه منه، وهذه المسألة مسألة مهمّة!
والوصيّة التي أوصاني بها السيّد الوالد رضوان اللـه عليه وقالها لي بصراحة: "اصرف وقتك مع الأشخاص الذين لن تندم بعد ذلك على صرف الوقت معهم، وإلاّ فإنّ ما أنفقته فقد ضاع من رأس مالك، دون أن تنال شيئاً من ورائه"، وهذه الوصيّة ليست مختصّة بي وحدي، بل هي في الواقع شاملة للجميع!
هل تتخيّلون أنّكم إذا قمتم بقراءة الكتب، ومطالعة صفحتين من كتاب "الروح المجرّد"، وقراءة حكايتين من هنا وقضيتين من هناك، فيحصل لكم بذلك حال جيدة.. هل تتخيّلون أن ذلك يكفي وأنّ القضية تنتهي بذلك؟! كلاّ يا عزيزي، فهذا حالٌ ليس أكثر.. إنّ هذا حالٌ يأتي ويذهب!
انعكاس مستوى فهم الإنسان على تصرّفه
كنت ذات مرّة في المسجد الحرام جالساً في مقابل المستجار، وكان هناك مجموعة من الأفراد عددهم حوالي عشرون أو ثلاثون نفراً، وكانوا يقرؤون أحد الأدعية بشكل جماعي.. يعني كان أحدهم يقرأ الدعاء وكان الباقون يستمعون له، وبينما هم كذلك فإذا بأحد الأشخاص المعمّمين المعروفين والمشهورين قد جاء ومرّ أمامهم، فترك هؤلاء دعاءهم وتوجّههم والمسجد الحرام والكعبة.. وانصرفوا إلى هذا الشخص المشهور ليسلّموا عليه ويعانقوه!! أيّها الحمقى، لقد كنتم تقرؤون الدعاء!! واعجباه لكم!! لقد كنتم جالسين في مقابل الكعبة تدعون اللـه!!! ولنفرض أنّ شخصاً مشهوراً قد جاء، فما قيمة ذلك؟! وما أهميّته؟! فهو ليس إلاّ إنساناً مثلكم، ولا داعي لترك الدعاء والوقوف والمعانقة بهذا الشكل أبداً! والطريف أنّهم بعد ذلك بدؤوا يلتقطون الصور معه واحداً واحداً!! بخٍ بخٍ لكم بهذا الدعاء! إنّ هؤلاء هم أنفسهم الذين يدّعون أنّهم من أهل الولاية، ويلهجون بذكر أمير المؤمنين والإمام الحسين عليهما السلام! فانظروا إلى شعورهم وإلى عقلهم ومستوى فهمهم، وانظروا إلى مستوى ولايتهم!! ثمّ بعد ذلك يتّهموننا نحن بأنّنا ضدّ الولاية!! هذا مستوى عقلهم، وهذا مقدار فهمهم وشعورهم! فالواحد منهم لا يعرف قدر المسجد الحرام، ولا يقدّر قيمة الكعبة المشرّفة، ولا يفهم ما هو الدعاء، ولا يعرف معنى التوجّه، ولسان حاله يقول: ها قد جئنا إلى مكّة ونحن سنبقى هنا بضعة أيّام، وبما أنّنا باقون كذلك، فلا بأس أن نقضي وقتنا بأمرٍ ما حتّى يحين موعد رجوعنا! ولو كان هناك مركز للسينما بجوار المسجد الحرام، فصدّقوني أنّهم كانوا سيذهبون في كلّ ليلة لمشاهدة فيلم من الأفلام هناك! ولو فتحوا هناك مسرحاً، لذهبوا إليه أيضاً!
ذات مرّة كنت في مشهد، وتشرّفت بزيارة حرم الإمام الرضا عليه السلام، فتعجّبت عندما رأيته خالياً!! فالحرم عادة ما يكون مليئاً بالزوّار في هذا الوقت من الليل! ولم أكن أعلم ما هو السرّ في ذلك، وبينما أنا داخل إلى الحرم فإذا ببضعة أفراد يركضون خارجين إلى منازلهم، فسمعت أحدهم يقول للثاني:
هيّا اركض بسرعة فإنّ المسلسل الفلانيّ سيبدأ بعد لحظات!! اركض بسرعة!
فأجابه صاحبه: دعني أزور قليلاً ثمّ نذهب.
فقال له الأوّل: قم يا عزيزي، فالمسلسل يكاد يضيع من يديك، بينما الإمام الرضا سيبقى في مكانه ولن يذهب!! ولكنّ المسلسل سيفوتك!!
هل التفتّم؟! إنّ قيمة الإمام الرضا عليه السلام أقلّ عنده من مشاهدة أحد المسلسلات، وبغضّ النظر عن نفس المسلسل، وهل هو جيّد أم سيّء، فذلك أمرٌ آخر، وليس كلامنا عنه، بل نحن نتحدّث عن فهم هؤلاء الناس، فما هو المقدار الذي استقرّ في قلب هذا الشخص وعقله من الإمام الرضا عليه السلام؟ وما المقدار الذي فهمه عن الإمام الرضا عليه السلام ذلك الذي يقول: هيّا اركض فالفيلم سيفوتك؟!! وهنا قلت في نفسي: يا للعجب!! الآن فهمنا سبب قلّة الناس في الحرم الشريف، فخلق اللـه قد ذهبوا ليشاهدوا المسلسل التلفزيوني، وأمّا الإمام الرضا عليه السلام فـ "هو باقٍ في مكانه ولن يذهب إلى أيّ مكان" كما قال ذلك الرجل!!
وفي أحد الأيّام ذهبت إلى أحد المجالس، ورأيت هناك رجلاً معمّماً، وكان من الأشخاص المحترمين بشكل عامّ، وكان قد وصل لتوّه إلى مدينة مشهد المقدّسة، فسأله أحدهم: هل تشرّفت بالذهاب إلى الحرم للزيارة؟ فقال: كلاّ، لأنّني رأيت بأنّني إذا ذهبت الآن إلى الحرم فسوف تفوتني مشاهدة مباراة كرة القدم بين الدولة الفلانية والدولة الفلانية!! وكان جادّاً فيما يقول، بل إنّه سأل صاحب ذلك المنزل: أليس عندك تلفزيون هنا لنشاهد المباراة؟ إذا كان عندك تلفزيون فأحضره إلى هنا كي نشاهد المباراة، (فاللاعبون يركلون الكرة إلى هنا وهناك ونحن نريد أن نشاهد ذلك!!).
فهذا حال المعمّم وذلك حال الناس العاديّين، وهؤلاء هم الذين يزعمون أنّهم أهل الولاء! هذا حالهم، وهذا مستوى شعورهم وإدراكهم! وهذا مقدار ولايتهم ومعرفتهم بإمامهم!
حب الإمام يجعل الإنسان أكثر عقلانية
وذات مرّة كنّا قد تشرّفنا بالذهاب إلى مشهد، وكان عمري حوالي عشرين أو ثلاثةً وعشرين سنة تقريباً، وعندما تشرّفنا بالذهاب إلى الحرم رأينا بعض الأفراد الذين كان عندهم بعض الاختلالات العقلية، وكانوا في الحرم أيضاً يمشون تارة ويجلسون أخرى، ولم يتعرّض أحدٌ لهم بشيء. ولمّا عدنا إلى المنزل قال أخي للسيّد الوالد رحمه اللـه: إنّ هؤلاء الأفراد الذين رأيناهم بهذا الوضع وكان حالهم مختلاًّ، هل عشق الإمام الرضا عليه السلام هو الذي أجنّهم وأصابهم بذلك!!
فقال له السيّد الوالد رضوان اللـه عليه: إنّ عشق الإمام الرضا عليه السلام يجعل الإنسان عاقلاً!! وهذا الجنون الذي أصابهم سببه أمور أخرى، وينبغي لهم أن يذهبوا إلى الطبيب ويخضعوا للعلاج. وأمّا عشق الإمام الرضا عليه السلام فهو لا يسبّب الجنون، بل هو يجعل الإنسان عاقلاً، وهو يزيد من فهم الإنسان.. عشق الإمام الرضا عليه السلام يسوق الإنسان في طريق الإمام الرضا عليه السلام.
إنّنا نتخيّل أنّ الشخص كلّما زاد صراخه وعويله [فإنّ ولايته أشدّ]...
قبل مدّة، كان هناك أحد علماء الهند يقرأ في أحد المجالس، وكان هذا العالم إنساناً طيّباً وكان سيّداً أيضاً، وقال هذا السيّد كلاماً فحواه أنّ سيّد الشهداء وأصحابه قد اغتسلوا في ليلة عاشوراء ونظّفوا أنفسهم استعداداً للشهادة، وذلك لعلمهم بأنّهم سوف يستشهدون في اليوم التالي فأرادوا أن يلاقوا ربّهم على حالة من الطهارة والنظافة.. وبمجرّد أن قال هذا السيّد هذا الكلام شرع مجموعة من الأشخاص بتأليب الناس عليه، وصاروا يقولون: ما أقبح الكلام الذي تقوله! فمن أين لسيّد الشهداء وأصحابه بالماء حتّى يغتسلوا؟! فهؤلاء القوم لم يذوقوا طعم الماء لمدّة عشرة أيّام، وأنت تقول بأنّهم اغتسلوا في ليلة عاشوراء!! إنّك ضدّ الولاية! بل أنت ضدّ الإمام الحسين عليه السلام!! وهكذا صاروا يحرّضون الناس عليه بأمثال هذه الكلمات والعبارات، حتّى بلغ بهم الأمر أن استصدروا فتوىً بقتله!! بحيث أنّه لو لم يهرب في تلك الليلة لقتلوه فعلاً!! يعني كان هؤلاء الناس سيقتلونه... نفس هؤلاء الناس اللذين يلطمون صدورهم على الإمام الحسين عليه السلام!! لماذا؟ لأنّه قال: إنّ الإمام الحسين عليه السلام وبعض أصحابه قد اغتسلوا ليلة عاشوراء.
فقلت لهم: إن كان الأمر بهذا الشكل فينبغي أن تقولوا بأنّ الإمام الحسين عليه السلام وأصحابه حُرموا من الماء قبل شهر كامل!! بل إنّهم منذ أن تركوا المدينة المنوّرة لم يتمكّنوا من الحصول على الماء!! فهذا أفضل والولاية تثبت بشكل أكبر بهذه الطريقة!! أجل.. قولوا بأنّهم منذ أن خرجوا من المدينة لم يكن عندهم ماء وقد قضوا كلّ هذه المدّة عطشى هم وأطفالهم!
عدم معرفة العوام للإمام معرفة واقعيّة بل معرفة خيالية
هذا هو حال العوامّ! فهم رسموا صورةً خياليةً للإمام في أذهانهم، واخترعوا لأنفسهم ولايةً من عندهم، فتجدهم يقولون: "إنّ الإمام لا ينبغي أن يذهب إلى اليمين ولا ينبغي له أن يذهب شمالاً ولا ينبغي أن يفعل كذا وكذا؛ حتّى يبقى مقام الإمامة والولاية محفوظاً! فالإمام لا ينبغي له أن يصاب بالزكام، ولا ينبغي للإمام أن ينام، فالنوم خلاف شأن الإمام!! وهل يمكننا أن نتصوّر أنّ الإمام عليه السلام ينام؟!".. صدّقوني إنّ هذه الأمور موجودةٌ في هذه الرؤوس الجوفاء! فهؤلاء الأفراد قد اصطنعوا للإمامة والولاية شخصيّةً خياليةً وهميّةً وموقعيةً غير واقعيّة، بحيث أنّه قد صار عندهم تصوّر غير واقعي لمسألة الإمامة والولاية...
ذات مرّة كان السيّد الوالد رحمه اللـه في طهران، في الفترة الأخيرة التي قضاها في طهران، فتحدّث في جلسةٍ مع الرفقاء، والظاهر أنّها كانت المرّة الأخيرة التي يتحدّث فيها في طهران، وبعد ذلك تشرّف بالانتقال إلى مشهد. في تلك الليلة تحدّث سماحته حول الإحساسات والتعقّل، حيث كان يقول: أنتم الآن تتعاملون معي باحترام (وكانت الجلسة خاصّة ببعض الإخوة، لم يتجاوزوا العشرين أو الثلاثين شخصاً)، فعندما آتي تقفون احتراماً لي، وتفتحون الطريق أمامي، وتقولون تفضّل.. اجلس.. إنّ ما تشاهدونه مني بحسب الظاهر هو العمامة والجبّة والعباءة ووضعيّتي وكلامي و [ولهذا تتعاملون معي بكلّ هذا الاحترام!!] فلو أتيت إلى هذا المجلس دون أن أضع عمامة على رأسي وألبس جبّة وعباءة، بل أتيت بالقميص والسروال، دون أن أرتدي لباساً طويلاً.. (إذ لا إشكال في هذا اللباس، حيث يكفي القميص والسروال، بل يكفي أقل من ذلك شرعاً؛ إذ يكفي ثلث هذا اللباس [ضحك]) فقال: إذا جئتكم بهذا الشكل فقطعاً نظرتكم إليّ ستتغيّر عما كانت عليه عندما آتيكم بعمامة وجبّة وعباءة.. وهذا أمرٌ قطعيٌّ! لماذا هذا؟ لأجل أنه علينا أن نلتفت بأنفسنا إلى أنّنا إلى ماذا نسعى؟ هل نسعى وراء التخيّلات والتوهّمات، أم أنّنا نسعى نحو الواقع؟!
اختلاف حالة الإمام قبل الإمامة وبعدها
لقد تحدّثت في كلام لي بأنّ الإمام عندما يكون في مرحلة الإمامة يكون في أفقٍ مختلف، وغير الإمام وإن كان سيصل إلى مرتبة الإمامة، لكنّه في تلك الحالة ليس لديه ذلك الأفق الذي لدى الإمام، والمسألة هي كذلك؛ لذا ليس له درك الإمام، ولا يتمتّع بالسعة الوجوديّة التي لدى الإمام، بل هو سيصير إماماً بعد ذلك.
الإمام الحسن والإمام الحسين عليهما السلام كلاهما إمام؛ فهما "إمامان قاما أو قعدا"، ولكنّ ذلك لا بمعنى أنّهما في الوقت ذاته كلاهما إمام، بل ليس لدينا في زمان واحد إلا إمام واحد فقط. ففي زمان الإمام المجتبى كان الإمام هو الإمام المجتبى لا الإمام الحسين عليهما السلام، والسعة الوجوديّة التي لدى الإمام المجتبى ليست عند الإمام الحسين في ذلك الوقت؛ لأنّه لم يصل بعدُ إلى الإمامة، وإدراكه وشعوره ومعرفته بالأسماء والصفات الإلهيّة مختلفة عما هو عليه الإمام المجتبى، ولذا اعترض على الإمام المجتبى.. ألم يعترض عليه؟! أليس لدينا في الروايات أنه قال: أردت أن أعلم إمام زماني فعلّمني۱؟ هذا كلام الإمام الحسين!! طبعاً قصّة هذه القضية مفصّلة...
ألم تعترض السيدة فاطمة الزهراء على أمير المؤمنين؟! عندما قالت: "اشتملت شَمْلَةَ الْجَنين، وَقَعَدتَ حُجْرَةَ الظَّنين، نَقَضْتَ قَادِمَةَ الأجْدَلِ فَخَانَكَ رِيشُ الأعْزَل..."٢ وغيرها من المطالب التي حار الكثير فيها وفي حلّها، ولم يستطيعوا أن يجيبوا عليها. ألم يكن ذلك اعتراضاً على الإمام؟ فماذا تقول في ذلك؟!
إنّ السعة الوجودية للإمام لا توجد عند السيّدة فاطمة صلوات اللـه عليهما حتماً، وذاك التصوّر الذي لدينا عن الإمام هو تصوّر خاطئ؛ حيث نتصوّر بأنّ الإمامة عبارة عن منصب يعطى له، بمعنى أنّه حتّى الأمس لم يكن له، ومن اليوم حصل له!
الإمام فقط هو الذي يجري المشيئة الإلهية دون غيره
إنّ الإمامة عبارة عن الحقيقة الـمُجرية والمظهر المنزِّل للمشيئة والإرادة الإلهية، وهذه منحصرة فقط في شخص واحد، لا اثنين! وذاك الشخص هو الذي يعلم ما هي إرادة الحق تعالى، وهو الذي يعلم بماذا تعلّقت مشيئة الباري تعالى الآن، وبأيّ طريق وصراط ينبغي أن تحصل! الإمام الحسين عليه السلام لم يكن يعلم تلك الإرادة في زمن الإمام المجتبى؛ لأنه لم يكن هو الإمام؛ لذا فقد اعترض على الإمام المجتبى! ولا إشكال في ذلك؛ لأنّ اعتراضه على الإمام المجتبى لم يكن من قبيل القول بأن عملك خطأ وأنك تشتبه في هذا العمل.. بل كان يريد أن يسوقَ الإمامَ المجتبى عليه السلام إلى مقام المجري والمنزِل للإرادة الإلهية الذي في ذهنه هو، لا أنّه كان [يتّهم الإمام الحسن عليه السلام بالخطأ أو يشكّك في صحّة تصرّفاته] و يقول له: لماذا فعلت هذا وذاك؟! مثلما قال له حجر بن عدي: السلام عليك يا مذلّ المؤمنين! فذاك قد أخطأ خطأً كبيراً، وكلامه هذا عبثٌ ولغوٌ! لماذا تقول له: "يا مذلّ المؤمنين"؟! أمّا الإمام الحسين عليه السلام فلم يكن في هذه الموقعيّة..
كم كان عمر إمام الزمان عليه السلام عندما صار إماماً؟ الجميع يقول بأنه كان في الخامسة من عمره.. فكيف كان قبل أن يصل إلى الإمامة يلعب بالكرة أمام الإمام العسكري عليهما السلام؟ البعض يزعم بأنّ الإمام [قبل إمامته] لا ينبغي أن يلعب بالكرة! فهذه إهانة! ولكنّ ذلك وارد في الروايات!
أليس لدينا في الروايات بأن الإمام العسكري كان مشغولاً بالكتابة، وكان إمام الزمان يلعب في حضنه وكان عمره سنتين أو ثلاث سنين، وكان يعيقه عن الكتابة.. ويمسك يده، فرمى له الإمام العسكري كرةً أمامه فذهب خلفها فأكمل الإمام العسكري كتابة الرسالة۱؟! لقد شاهدنا هذا الأمر في كثير من المصادر الروائيّة، أم تزعمون أنّه خطأ؟! لأنّ الإمام لا ينبغي له أن يلمس الكرة منذ أن يخرج من بطن أمه! ما هذا الكلام؟
إنّ مُقتضى طفولية الطفل والصبي أن يلعب.. ألم يكن الإمام الحسين عليه السلام يلعب مع الصبية في الأزقة؟! هل فعل خلاف الشرع بذلك؟! أم أنّه لا يلعب أبداً ولا ينبغي له ذلك منذ يومه الأوّل؟! ما هذا الكلام الفارغ؟!
ولكن نفس إمام الزمان عليه السلام عندما يتجاوز هذه المرحلة ويصل إلى الخامسة من عمره؛ يصير إماماً!! فهل يلعب في هذه الحالة؟ كلاّ! لأنّه صار إماماً، والإمام لا يلعب بالكرة. نعم يمكن أن يمارس الرياضة، وما الإشكال في أن يمارس الإمام الرياضة؟! هل في ذلك إشكال؟ فلو فرضنا أن الإمام مارس السباحة مثلاً، فهل في ذلك إهانة له؟! أو أنّه ينبغي على الإمام أن يجلس كالخشبة تماماً، ثم يأتي الناس فيقبّلون يده؟ هذا الذي نفهمه من الإمام.
وعليه فلو فرضنا أنّ الإمام أتى ومارس الرياضة.. رياضة الكرة الطائرة مثلاً، فسيقول هؤلاء: عجيب! هذا خلاف شأن الإمامة! يا أخي ما هو شأن الإمامة؟! قل لي ما هو شأن الإمامة؟! وكذا إذا فرضنا أنّ الإمام ركب الخيل، ألم يكن الإمام يركب الخيل في وقته؟! أم هنا أيضاً يقال: لا ينبغي للإمام أن يركب الخيل.. أو إذا فرضنا أن الإمام قاد السيارة مثلاً، فيقال: عجيب!! كيف ذلك؟! يعني لو فرضنا أنّ إمام الزمان أتى الآن، فهل عليه أن يجلس في الكرسي الخلفي للسيّارة؟! (إذ الآن لم يعد الناس يركبون الدواب للتنقّل)، فإن رأينا إمام الزمان يقود سيّارة يحصل لدينا شكّ، هل الإمام يقود السيّارة؟! هذا الذي أذكره لكم كلام جِدّي! إذ إنّ هؤلاء هم الذين أوقعونا في المشاكل، هؤلاء مثل العوامّ قد أتوا وطرحوا الشكوك والشبهات وهذه المسائل.
نحن لم نبذل جهدنا لنفهم ما هي الإمامة، فالإمامة لا علاقة لها بالقيادة. نعم، العمل الذي يكون خلاف شأن الإمام أو خلاف المروءة لا ينبغي لأيّ شخصٍ فعله؛ مثل الركض في الشارع، فهذا العمل خلاف المروءة ونحن أيضاً لا ينبغي لنا فعله، لا أنّ ذلك مختصّ بالإمام فقط. أمّا أن نضع الإمام عليه السلام في عالمٍ من عندنا وفي أفق معيّن [نخترعه من تلقاء أنفسنا فغير مقبول]...
العمل بالتكليف دون الالتفات إلى شيء آخر
أذكر أن المرحوم الوالد رضوان اللـه عليه ذهب فيما سبق إلى منزل السيّد الخميني وكان مقيماً في قم، وذلك في أيّام النوروز.. ذهب لكي يتحدّث معه في بعض المسائل، لكن لم يحصل ذلك بشكل مفصّل، مع أنه كان قد أخذ موعداً خاصّاً منه.. إذ في ذلك اليوم كان المرحوم القرني قد استشهد على يد مجموعة الفرقان، وفي الليل جاء أقاربه ودخلوا إلى غرفة السيّد الخميني حيث كان يجلس مع المرحوم الوالد في جلسة خاصة. فبدءوا بالصراخ والعويل والبكاء، وبقي السيّد ساكتاً.. وكأنّه لا يوجد نظم ولا تدبير ولا شيء.. إذ كان ينبغي أن يؤمروا بالخروج إلى أن ينتهي اللقاء، لذا رأى المرحوم الوالد بأنّه لا مجال بعد ذلك للكلام، وعندما عاد رأيت أنّه كان منزعجاً.
وسألته بأنّه عندما كان يتحدّث إليه قبل مجيء الناس (لم أكن معهم بل كان برفقته أحد الأصدقاء): ما هي المطالب التي طرحتها معه؟ فأجاب من المسائل التي طرحتها معه مسألة صلاة الجمعة، وسألته ما رأيك في صلاة الجمعة؟ فقال السيد الخميني: أنا أرى أنّ صلاة الجمعة ليست واجبة، حتّى في عصر النبي لا أرى وجوبها، بل المكلّف مخيّر بين صلاة الظهر وصلاة الجمعة. فقال له المرحوم الوالد: ما هو دليلك على هذه المسألة؟ وكان يريد أن يفتح معه بحثاً علميّاً ويثبت له الوجوب، ولو أتيح له المباحثة العلمية معه لأثبت له ذلك، إذ كانت المكانة العلميّة للمرحوم العلاّمة محرزة، لكن حدث ما حدث من دخول أقارب ذلك المرحوم وانفضّ المجلس.
ثم قال: كنت أريد أن أقول له سواء كنتَ ترى وجوب صلاة الجمعة وجوباً عينياً وتعيّنياً أو وجوباً تخييرياً، فبناء على ما تقتضيه الظروف الحالية يجب أن تقيم صلاة الجمعة، وعليك أن تؤمّ الناس أنت بنفسك، لا أن ترسل غيرك للصلاة!
هنا سألت المرحوم الوالد لو أنّكم اقترحتم ذلك عليه فماذا تتوقّعون أن يجيبكم؟ فلم يقل شيئاً عندئذٍ وبقي صامتاً.
غير أنّ حقيقة المسألة هي أنّ الإنسان إذا أدرك وجود تكليفٍ ما فعليه أن لا يلتفت إلى المسائل الأخرى، ونحن هنا نكتفي بالإشارة فقط.. وقد ذكرتُ للمرحوم العلاّمة أنّه لن يقبل بهذا المطلب لأسباب معيّنة عنده.
عدم التفات الإمام إلى شيء عند وقوفه بين يدي اللـه
إنّ ما نعرفه عن الإمام وما ينبغي أن نعرفه عنه هو أعلى من التخيّلات والتوهّمات التي نسجناها من عند أنفسنا. فقد تحدّثت يوماً عن الإمام الحسن المجتبى عليه السلام وأنّه نسي أمراً ما في حياة أمير المؤمنين عليه السلام، جيّد، فهل في ذلك إشكال؟! فالإمام أيضاً ينسى، وهل كلّ نسيان فيه إشكال ويوجب نقصاً؟! فأنا أودّ أن أطرح عليكم هذا السؤال: هل الإمام عندما يشرع في الصلاة، يفكّر أثناء صلاته في طعام الغداء الذي سيتناوله عند الظهر؟! أي عندما يقول: إياك نعبد وإياك نستعين...
فنحن منذ بداية الصلاة التي نصلّيها نفكّر في كلّ شيء سوى الصلاة، وحالنا معلوم، وأجرنا وتقرّبنا معلومان، ولكن عندما يقول الإمام عليه السلام: {إياك نعبد وإياك نستعين ، اهدنا الصراط المستقيم}، فهل يفكّر في الطعام الذي يُعدّ له؟! ذاك الذي يُنزع السهم من رجله حال الصلاة دون أن يشعر.. هل يفكّر في الطعام الذي سيأكله؟! هل يفكّر في سيخ اللحم المشويّ الذي سيُحضر إليه، وهل يفكّر في الكبد المشويّ أو القلب المشوي الذي اشتهاه (اشتهى كبداً مشويّة)، هل الإمام يفكّر في ذلك حين الصلاة؟!! لا، هو لا يفكّر. يقال: إذا كان لا يفكّر بذلك فهذا جهل! وهذه نسبة للجهل والنقص إليه! وعلى الإمام أن يفكّر في ذلك!! فحين يقول: إياك نعبد! عليه أن يفكّر في اللحم المشويّ الذي سيؤتى به بعد الصلاة أو الذي اشتهاه! لأنّ الإمام في جميع الأحوال عليه أن يكون عارفاً كاملاً عالماً بكل شيء، مطّلعاً على جميع الأمور... ( نعم هو مطّلع على جميع الأمور ولكن ليس كما تتصوّر أنت، بل هو مطّلع بنحو آخر..) فإن قلتم بأنّ فكر الإمام في حال الصلاة كان ملتفتاً إلى ذلك، لأنّ المفروض أن يكون الإمام عالماً في كلّ حال، ولا يطرأ عليه النسيان.. إذا كان الأمر كذلك؛ فلا بدّ أن يكون حين قوله: إياك نعبد وإياك نستعين ملتفتاً إلى الكبد المشوية!! وإن قلتم ذلك فهذه الصلاة لا تنفعه بشيء. إنّ الصلاة التي يغشى على الإمام الصادق فيها حين يقول إياك نعبد، أين نجد فيها محلاً لمثل هذه الأمور؟! أمّا تلك الصلاة ـ التي ليست بصلاة أصلاً ـ فهي تليق بنا وبأمثالنا. وما دام الإمام غير ملتفت إلى الطعام والكبد وهذه الأمور فهو إذاً ناسٍ لها في تلك الحال، والنسيان موجب للنقص والإهانة!! فما جوابكم على ذلك؟!
تأمّلوا في الأمر، وما هو تصوّرنا عن الإمام؟ هل هذا النسيان نقص؟ أم أنّه عين الكمال. فالإمام هنا يقوم بالعمل الذي نعجز عنه نحن.. العمل الذي لا قدرة لنا عليه إلى درجة أنّنا منذ بداية الصلاة وحتّى نهايتها نفكّر في كلّ شيء إلاّ بذكر اللـه، في حين أنّ الإمام يضع كلّ شيء جانباً ولا ينظر إلاّ إلى المعبود، فهل هذا النسيان موجب للنقص أم للكمال؟!
وهنا علينا أن نعلم بأن علم الإمام هو ذو مراتب إراديّة في النفس، فبحسب مشيئته وإرادته يُحضر الشيء في ذهنه أو لا يحضره، فالأمر بيده هو، في موضعٍ ما يُحضِر المطلب وفي موضعٍ آخر لا يحضر هذه المسائل، فهل صار الأمر واضحاً لكم؟
الفرق بين الإمام وغيره من المعصومين هو في سعته الوجودية
هذا في حين أنّنا نأتي من هنا وهناك بمطالب خاطئة وناشئة من التخيّل والتوهّم، لماذا؟ ما حقيقة الأمر؟ نأتي ونقول: على الإمام أن لا يعترض! ألم تعترض السيّدة الزهراء على أمير المؤمنين عليهما السلام؟ فبماذا تجيبون عن ذلك؟! ألم يقل الإمام الحسين لأخيه الإمام المجتبى عليهما السلام: أردت أن أعلّم إمام زماني فعلّمني؟! ما العلّة في ذلك؟ إنّ السرّ في ذلك هو السعة الوجوديّة التي تكون لدى الإمام، وهذه السعة إنّما تكون في الواصل إلى مرتبة الإمامة دون الذي لم يصل بعد.
عندما قال أمير المؤمنين عليه السلام للسيّدة الزهراء: ألا تريدين أن يبقى هذا الاسم ـ اسم أبيك ـ على المئذنة؟ فقالت: بلى يا علي! فقال لها: فلا بدّ من السكوت إذاً ۱. هناك حصلت للسيّدة الزهراء عليها السلام تلك السعة الوجوديّة، في ذلك الوقت حصلت! أمّا قبلها فلم تكن حاصلة. هذه هي حقيقة الأمر، فهي [السعة الوجودية] لم تكن حاصلة ثمّ حصلت. أو أنّ نقول أنّ كلّ تلك المسائل هي مجرّد أفلام ومسرحيّات والعياذ باللـه، وأنّهم قاموا بذلك فقط من أجلنا، كلاّ..
إنّ السعة الوجوديّة لفاطمة الزهراء عليها السلام لم تكن بمقدار السعة الوجوديّة لأمير المؤمنين عليه السلام، ولو كانت؛ لما اعترضت. وأمير المؤمنين عليه السلام قام بتصرّفٍ مّا وبإعمالٍ معيّنٍ لولايته، فوهبها تلك السعة الوجوديّة في قالب ذلك الكلام الذي خاطبها به، فإذا بالأمر قد انكشف لها ففوجئت به.. وفهمت أنّه: عجباً إنّ الأمر هو كذلك!! هل حقيقة المسألة هي هذه؟! وبعدها سيكون كذا وكذا؟! فكلّ عمل يقوم به الإمام له خصوصيّاته التي تجعله يفعل ذلك العمل.
وهنا، علينا أن نرفع من مستوى فهمنا للمباني والأصول؛ كما كان المرحوم العلاّمة يوصي دائماً، ومن لم يرتقِ بفهمه وعقله فإنّه سيواجه تعقيدات وستبرز لديه إشكالات، فيقول بدايةً: هذا لا سند له، فإن قيل له: هذا سندها الصحيح؛ فإنّه يحاول التملّص منها بأيّ طريقة. وأقصى ما يمكنه أن يقول: يا سيّدي هي خبرُ واحدٍ. فلتكن خبر واحد، فما دامت مسندة ومعتبرة وراويها ثقة فلماذا تضعها جانباً؟! ينبغي علينا أن نرفع من مستوى فهمنا نحن! فلماذا نعمل ـ بدلاً من ذلك ـ على تنزيل الإمام عن مقامه الذي هو فيه؟!
كانت هذه إحدى المسائل التي كنت أريد طرحها منذ مدّة بعيدة، وقد وجدت هذه الليلة فرصة مناسبة لطرحها.
ضرورة صرف الاهتمام إلى النفس وترك الاشتغال بأخطاء الآخرين
ومن المسائل الأخرى التي كنت أرى ضرورة طرحها، وإن كنتُ تعرّضتُ لها بالإشارة فيما سبق؛ هي مسألة اشتغال الإنسان بنفسه، وعدم التوجّه إلى الأفراد من حوله واتّخاذهم ميزاناً له. التفتوا أيّها الإخوة! إنّ لكلّ إنسان ملفّه الخاص، ولا يُعطى أيّ إنسان ملفّ إنسان آخر، ولم يُجعل أحدٌ قيّماً على أحد. إنّ ملفّنا موكول إلينا، ولكلّ إنسان ملفّه الموكول إليه، ولا بدّ له أن يقرأه بنفسه، وأن يتصفّح أوراقه ورقةً ورقةً. وقد قلت للإخوة مراراً عديدة أنْ لا يهتمّوا ولا يعتنوا بما يصيب الأفراد من حولهم من شبهات ومشكلات، فكلّ إنسان يشرب من ماء وعائه الخاص، وكلّ إناء بالذي فيه ينضح.. كلّ إنسان يجري وراء أفكاره هو، ووراء الغاية التي خطّط لها منذ البداية، [والمشكلة فينا نحن؛] فنحن الذين كنّا ولا زلنا نشتبه في حكمنا على الأفراد، حيث أنّنا نظنّ أنّ إنساناً ما لو كان لديه شيء من الحرارة والنشاط وموقعيّة الأمر والنهي، فهذا يدلّ على أنّ المسألة قد انتهت لديه، وقد بلغ إلى الغاية، لا! فالمسألة ليست كذلك، ولكلّ إنسانٍ في موقعٍ ما حالة ما، فبعض الأمور تجعله يتحمّس ويندفع، وأمورٌ أخرى تجعل حماسه يبرد، فإذا وقعت قضيّة ما تضاءلت حماسته، وإذا ما حلّت تضاعفت. ومن هنا فإنّ الميزان الذي ينبغي أن يوزن به الإنسان هو ـ كما قال المرحوم العلاّمة ـ هو فهمه لطريقه ومسيره، هذا هو المعيار، أما كثرة الذهاب والإياب، وكثرة الضجيج الذي يحدثه الإنسان، فهذا لا يدلّ على شيء.
وكنت قد نقلت لكم هذه الحادثة.. نقلتها في جلسةٍ سابقة؛ أنّ هناك رجلاً جاءني وبألف التماسٍ والتماسٍ أنْ: ها أنا في خدمتكم، في أيّ وقت تأمرون، وإذا ذهبتم إلى طهران فأنا في خدمتكم، أينما ترغبون أكون في خدمتكم، وكان يحضر سيّارته ليكون كذلك، في حين أنّه وضع هاتفه النقّال إلى جانبه، وراح يسألني عن بعض المسائل، وأنا أجيبه، وأستجمع كلّ قواي الذهنية والفكرية لأقدّم له جواباً صحيحاً ولا أقع في خطأ أو اشتباهٍ معه، وبينما نحن كذلك إذا بصوت هاتفه النقال يرتفع!! والمتّصل كان شخصاً يريده لعملٍ ما، فقال لي: عفواً أعتذر هل تسمحون لي أن أجيب؟ فقلت له: تفضّل يا عزيزي! (إذ ماذا أقول له؟! فهل يعقل أن أقول له لا تجب؟! انظروا! هذا هو مقدار إدراك هذا الرجل وفهمه، فهو لم يدرك شيئاً. )
وهذا مثال واحد أضربه لكم، ولا أريد أن أضرب لكم أمثلة عديدة... لكنّ المهمّ هو أنّ علينا أن لا ننظر إلى الآخرين ونجعل همّنا منصبّاً على حركاتهم وأفعالهم، بل يجب أن يكون نظرنا عميقاً، وأن نعرف ما هو الأساس الذي تنطلق منه هذه الحركات؟ هل هي مؤقّتة أم مستمرّة؟ هل هذا الحماس والنشاط مستمرّ، أم أنّه يأتي في برهة معيّنة وفي برهة أخرى يُفقد؟
التحقّق من صحة الكلام قبل التصديق به
علينا أن نرى هل يحصل لدى الشخص تزلزلٌ من خلال كلمةٍ واحدة تقال له أم لا؟ كلمةٌ واحدةٌ!! وقبل أن يحقّق في صحّة هذا الكلام أو عدم صحّته، يصدّق ويقول: عجيب لم أكن أعلم أن الأمر كذلك! والحال أنّ هذا الكلام ليس له أيّ منشأ، بل هو كذب من أوّله إلى آخره.. فهذا إلى أيّ شيءٍ يشير؟ يشير إلى أنّ إحساساتنا غالبةٌ على عقلنا في النظر إلى المسائل، وهذا ما ينبغي أن نغيّره، لا بدّ أن نفكّر أكثر! ولنعتمد من الآن فصاعداً هذه القاعدة في حياتنا، وهي أن نقول لمن يخبرنا بأيّ شيء: (لا بدّ أن أحقّق في ذلك!)، فلنقل هذه الجملة في ذلك الوقت، ولننظر كم سيختلف الحال؟
وذلك بدلاً من أن [نتلقّى الخبر فنقبله ببساطة] ونقول: (نعم! نعم.. عجيب! عجيب!! لم أكن أعلم!) فتأتي جملة "لم أكن أعلم" هذه فتخرّب في النفس وفي القلب وتفسدهما، حتّى إذا ما مضى زمان وتفاعلت نفسك مع ذلك الخبر بحيث صرت تريد أن تُقدم و تتّخذ موقفاً من ذلك الشخص؛ فإذا بك تتفاجأ بأنّ أصل القضية كان كاذباً من أساسه! والحال أنّ هذا الكلام كان يخرّب طيلة هذه المدّة ويترك آثاره السيّئة، ثمّ بعد ذلك تبيّن أنّه لم يكن هناك من أصل ولا حقيقة، فلماذا لا نقوم بالعمل صحيحاً منذ البداية، ألم يقل النبيّ الأكرم أو الإمام الصادق عليه السلام: ليس المؤمن من يحمل على الصحة لسبعين مرّة ولا يحمل لإحدى وسبعين؟۱
القرب والبعد من الأستاذ ليس دليلاً على الصلاح
إن هذه المسألة (أي: أن ننظر إلى الأفراد ونراقبهم، ونجعل حركاتهم وتصرّفاتهم ملاكاً ومحوراً لنا، ونقيس أنفسنا عليهم) تعدُّ من الأخطاء المهمّة التي كانت موجودة في السابق ولا تزال، والتي كان المرحوم العلاّمة كثيراً ما يحذّر منها تلامذته؛ أن التفتوا ولا تنظروا إلى الأفراد، بل انظروا إلى أنفسكم وما أنتم عليه، انظروا إلى أنفسكم وزِنوها بالموازين، أمّا أن تنظر إلى فلان الذي كان يأتي إلى المرحوم العلاّمة بكلّ عشق ومحبّة.. فهل كان عشقه ومحبّته واقعاً أم وهماً؟! أو تقول: لقد رأينا السيّد يتكلّم مع فلانٍ ويضحك، فإذن لا بدّ أن عمله صحيح! لا يا عزيزي، ربّما كانت المسألة مغايرة لذلك، وربّما كان الأمر بعيداً عمّا تفكّر به. [إنّ هذا الشخص الذي يفكّر بهذه الطريقة عندما يرى ذلك الودّ الظاهري فإنّه يخدع به] فإنّه يشرع بتحويله إلى صنم في ذهنه، ويكبر هذا الصنم ويكبر.. حتّى إذا ما جاء يومه ووقع يقع ذلك معه أيضاً قائلاً: (يا للعجب ماذا حصل؟! هذا الذي كان مقرّباً إلى ذلك الحدّ، هذا الذي كان كذا وكذا، فجأة يقع!! فالويل لنا إذاً ثمّ الويل، كيف بي أنا؟ وكيف لحالي وأموري وأعمالي؟) كلّ ذلك وسوسة شيطان، لماذا من البداية كنت تفكّر بنحو خاطئ حتّى وصلت إلى هذا المقام؟
"فلانٌ يضحك مع فلانٌ".. فليضحك كما يشاء، فهل ذلك يعني أنّه صار من المقرّبين؟!
"فلانٌ قد شاور فلاناً في المسألة الفلانية"..فليكن! وهل يدلّ ذلك على قربه؟!
"فلانٌ كلّف فلاناً بالمسؤوليّة الكذائيّة".. فليكن! و هل يدلّ ذلك على التقرّب؟!
يا سيّدي ألم يعهد رسول اللـه صلّى اللـه عليه وآله بمسؤوليّة قيادة بعض الحروب إلى خالد بن الوليد الملعون؟! فهل صار خالد رجلاً صالحاً الآن؟! ألم يعهد إليه بالقيادة؟! كلّ ذلك لأنّا لا نعتمد على المعايير والموازين في تفكيرنا! نقول: فلان صار مسؤول الأمر الفلاني، فليكن.. ما صلتي أنا بذلك؟ فلانٌ نزع المسؤوليّة من فلان وأوكلها إلى آخر، فلا بدّ أنّه ارتكب مخالفةً! لا يا عزيزي لم يرتكب مخالفة، ولا هو إنسانٌ سيّئ، ولكن تقرّر أن تؤخذ منه هذه المسؤوليّة ويعهد بها إلى آخر، فلا في إعطائها إليه أوّلاً دلالةٌ على حسنه وقربه، ولا في أخذها منه دلالةٌ على سوئه ونقصه، فليس الفعل الفلاني يدلّ على القرب ولا غيره...
في أحد أسفار المرحوم العلاّمة إلى الحجّ، وهو السفر الذي كان في عهد الشاه حيث سافر برفقة جمع من تلامذته يبلغ عددهم حوالي عشرة إلى اثني عشر حاجّاً، وهذا السفر كان بعد حجّه الذي رافقناه فيه أنا وأخي الأكبر، وكان الحجّ في فصل الشتاء، وكان من بين هؤلاء المرافقين عدد من كبار السنّ ومن السابقين وأصحاب الشأن، فكان بعضهم يقول: ما شاء اللـه!! يا له من حجّ! فقد شارك فيه السيّد فلان والسيّد فلان، وقد جاؤوا من مختلف المناطق؛ من همدان ومن طهران ومن مدن مختلفة، فقيل: هنيئاً لهم لقد وصلوا إلى الفيض الأعلى، وعندما رجعوا من حجّهم، صار كلّ واحد منهم يتحدّث عن حجّه ويقول: يا لها من فيوضاتٍ قد فزنا بها و يا لها من بركات...
وفي ليلة من الليالي، كنّا نجلس مع المرحوم العلاّمة قرب المدفأة، فقال المرحوم العلاّمة: هناك اثنان من هؤلاء الحجّاج حصلا على الفيض والفائدة لا أكثر!! ولم يذكر اسميهما. فقلنا: يا عجباً! فقط اثنان من أصل عشرة أو اثني عشر شخصاً، فقط اثنان!! ثمّ لم يمض على هذا الكلام إلا بضعة أشهر، حتّى تشرّفنا بزيارة مشهد في الصيف، حيث كنّا في كلّ صيف نسافر إليها، وفي إحدى الليالي ذكر المرحوم العلاّمة أثناء حديثٍ له أنّ فلاناً وفلاناً كانت لهما حال جيّدة جدّاً أثناء سفر الحجّ الأخير، فقلنا في أنفسنا: إذاً صار معلوماً مَنْ هما ذانك الرجلان اللذان تحدّث عنهما سابقاً. لقد كان هناك شخصان فقط حصلا على الفوائد، وإذا نظرنا في شخصيّة هذين الرجلين نجد أنّهما لم يكونا من أصحاب الشأن أو الأسماء اللاّمعة، وربّما لا يخطران أصلاً في بال أحد، فما دام هناك كبار القوم والسابقون والأعاظم وتلامذة المرحوم الأنصاري.. فهل تصل النوبة إلى أمثالنا ومن هم على شاكلتنا، علماً أنّي لم أكن معهم في ذلك الحج. لقد كان هذان الرجلان من الأفراد الذين يأتون ويجلسون جانباً في زاوية المجلس، دون أن يلتفت إليهم أحد أو يُسمع لهم حسيس!
ثمّ بعد ذلك تبيّن أنّ هؤلاء الذين هم من أصحاب الشأن والمقام والأمر والنهي كانوا يقومون بتصرّفات عجيبة.. سأنقل لكم واحدة منها لا غير، فعندما كان المرحوم العلاّمة يريد الخروج كانوا يقولون له: انتظر قليلاً حتّى تأتي عيالنا وتكون من المستفيدين من محضركم!
لقد اتضح الأمر جيّداً فيا ليتك قلت ذلك منذ البداية أيّها الرفيع الشأن! هل تُوقف وليّ اللـه نصف ساعة على قدميه في الطريق حتّى ترسل إلى زوجتك لتأتي وتستفيد!! هذا هو الفهم والإدراك!؟ و السيّد الوالد رحمه اللـه لم يكن يقول: لا، بل كان يقف وينتظر، وينتظر وينتظر... أما أصحاب العقل والفهم والمعرفة والوعي فهم يسيرون معه إذا سار، وإن كان هناك ضرورةٌ لأن يذهبوا برفقة عيالهم فإنّهم لا يعطّلون وليّ اللـه بل يعتذرون ويقولون: تفضّلوا أنتم الآن ونحن سنلحق بكم. هكذا كان المرحوم العلاّمة مع أستاذه المرحوم السيّد الحدّاد، وهذا هو الفهم.
المدار في العلاقة مع الإخوة هو ارتباطهم باللـه
لذا فالكلام بأنّا نحن أدركنا زمان فلان، ونحن استفدنا مدّة طويلة من محضر فلان، ونحن كذا ونحن كذا، أيّ كلام هو هذا؟! فينبغي أن يقال له: ما فائدة كلّ ذلك؟ إذ المهمّ أنّه ما هو نصيبك الذي حصلت عليه من هذه الصحبة و الرفقة؟ وكم أضيف إليك بسبب ذلك؟
ومن هنا فإنّ الأمر المهمّ الذي ينبغي الالتفات إليه هو أنّنا يجب ألاّ نهتمّ كثيراً بالأشخاص الآخرين، وينبغي أن نعلم بأنّه قبل أن تحصل العلاقة بين أحد المؤمنين وأخيه المؤمن، وقبل أن تنشأ العلاقة بين الرفيق ورفيقه، فإنّ لهذا الشخص علاقة في مرتبة سابقة مع ربّه فالعلاقة بين هذا الشخص وبين ربّه سابقة على ذلك كلّه، ولكن نحن ننسى العلاقة مع اللـه! فعلاقة هذا الشخص مع ربّه في أيّ مرتبة هي؟ نحن لا نعلم ذلك، ولا نرى إلاّ علاقتنا مع الشخص الآخر وارتباطنا به، فنقيّم الناس على أساس ذلك، ونمنحهم درجات مختلفة، ولكن ماذا عن علاقة هذا الإنسان بربّه، والمرتبة التي هو فيها مع ربّه؟ لقد نسينا هذه المسألة مع أنّها سابقة ومقدّمة على تلك. والحال أنها متقدّمة في الأهميّة على ارتباطنا معه، فهذه هي التي ينبغي أن يؤخذ مستواها وزيادتها ونقصانها بعين الاعتبار، وعلى أساسها نقيم العلاقة والارتباط والأخوّة والصداقة، فعلى هذا الأساس ينبغي أن تقوم الأمور، لكنّنا نغفل عن هذا الأمر، وبالتالي يترك آثاره علينا، وبعد أن يتوقّف هذا الرجل ويتراجع تدريجياً؛ نتعجّب ونحتار؛ لماذا حصل ذلك؟ والحال أنّه كان في ارتباطه مع اللـه يسير إلى الوراء، ويتراجع القهقرى، غاية الأمر أنّ الذين يملكون بصيرة أو حدّة في النظر، يدركون أنّه في سيرٍ تراجعي.. يدركون ذلك من لحن كلامه ومن نظراته، وأسلوبه في الحديث، ويعرفون أنّه يتّجه إلى ما لا تحمد عقباه.
كان هناك أحد الأفراد كثير الادّعاء وكان يقول دائماً: لو أنّ السيّد يأمرني أنفّذ، وأنا لا أشرب الماء بغير إذنٍ من السيّد! (وهذا النوع من الكلام الذي سمعنا منه الكثير حتّى ملأ آذاننا)، فجاء أحدهم وقال: فلانٌ يقول كذا وكذا، فقلت له: لا تلتفت ولا تعتن، فقال: يا سيّد هو يقول ذلك بجدّ وتأكيد! قلت له: لا تلتفت. ومضت مدّة من الزمان، وحدثت بعض المسائل التي لم نستطع معها أن نستمرّ معه في التواصل والارتباط، فراح ذلك الرجل يحاول يميناً وشمالاً، ويقول: لقد ظُلِمنا وهضم حقّنا!
فلنفترض أنّك ظلِمتَ، فما أكثر المظلومين في العالم فلتكن واحداً منهم! وما أكثر الظالمين في العالم فلأكن أنا واحداً منهم أيضاً [ضحك].. فهذا ليس بالأمر المهمّ، ولا يضرّ شيئاً، فلنتعامل مع الأمر ببساطة، فإنّه يريحك ويريحنا.
ثمّ جاءني رجل كان متأثّراً جداً من كلام ذاك الرجل ـ وكان قلبه يحترق لذلك، والواقع أنّ حرقة قلبه كانت بسبب إخلاصه واقعاً ـ فقال لي: إنّ فلاناً يقول كذا ويقول كذا، ويقول أنّه مستعدّ لتنفيذ ما تأمرون به، ويقبل بكلّ ما تقولون، فقلت له: هل أنت تصدّق ذلك؟ قال: ليس لديّ ما أقوله، قلت له: لا بأس، أنا أقبل بكلامك، وما دمت تقول أنّه يقبل بما أقول، فأخرج ورقة واكتب فيها:
أولاً: عليه أن يفعل كذا، فاختطف لونه.
ثانياً: عليه أن يفعل كذا وكذا، فاختطف لونه أكثر.
ثالثاً: عليه أن يحضر في كلّ أسبوع ليلتين إلى المكان الفلاني بشرط أن يكون وحيداً ليس معه أحد أبداً.
فقال: لا بأس أنا أنقل له ذلك. وبعد ستّة أشهر التقيت بذلك الرجل [الذي كان يحاول الإصلاح والوساطة]، فابتدأني هو ـ وأنا كما قلت لكم لا ألاحق هذه الأمور، فإذا قلت شيئاً أغلق الملف ولا أعود إليه ـ فقال لي: لقد تحدّثتُ معه، ولم أتمكّن من لقائكم بعد ذلك، وقد بقي الأمر على ما كان.. ولكن هناك مسألة وهي أنّه قال في ضمن كلامه:
أنا لا أستطيع أن أنفّذ هذه الأمور التي طلبها سماحة السيّد.
فقلت له: و لم ذلك؟
فقال: لأنّ الأمور التي ذكرها على خلاف مطالب والده!
فقلت له: ما هو الأمر الذي عندي على خلاف مطالب والدي؟!
فقال: إنّ والده كان قد أمرني أن أفعل الفعل الفلاني! (و أنا أذكر الكلام مجملاً دون توضيح)
فقلت له: و هل الذهاب إلى المكان الفلاني ليلتين في كلّ أسبوع هو على خلاف أوامر السيّد الوالد أيضاً؟! و هل أداء الفعل الثاني الذي أمليته عليك سابقاً في تلك الورقة هو كذلك على خلاف دستور السيّد الوالد أيضاً؟!
فقال: كلاّ!! ليس كذلك.
فقلت له: هل فهمت الآن أنّ الكلام كلّه لم يكن إلاّ كذباً لا واقعيّة له؟! فإن كان الأمر الأوّل على خلاف دستور السيّد الوالد، فماذا عن الأمرين الآخرين؟!
هل التفتّم؟! الضوضاء كثيرة، ولكن كم هناك من عمق؟! الكلام والادّعاء كثير ولكن كم له من مغزى؟! وهذا العمق هو الذي يعيّن الصواب وهو المعيار والميزان، لا كثرة إثارة الضوضاء وإنشاء الدروس وتأليف الكتب ونشر الأقراص هنا وهناك، فهذا ليس هو المعيار؟ بل عمق القضيّة والوصول إلى حقيقة المسألة هو الذي يعيّن طريق الإنسان ومسيره.
عدم اشتغال الإنسان بنفسه يرديه في المهالك
وبناء على ذلك، على السالك أن ينظر إلى نفسه هو، ويرى هل عمله مطابقٌ للموازين أم لا؟ وهذه هي حقيقة المسألة، أما إذا كان يلحظ ما لهذا أو لذاك، فإنّ هذا الأمر هو الذي سيرديه يوماً ما. فبعد وفاة المرحوم العلاّمة وقعت الكثير من الأحداث، ونحن أغلقنا ذلك الملف وانتهينا منه، وكان هناك أحد الإخوة كلّما رآني قد رجعت من مشهد يسألني عن أخبار مشهد وما فيها، فقلت له: يا عزيزي لقد أغلقنا هذا الملفّ وانتهى أمره، ولنسعَ من الآن فصاعداً لإنجاز مهامّنا نحن. وكان هذا الرجل يتأذّى من كلامي هذا...
وليعلم الإخوة أننّي أقول هذا الكلام لأنّ هذه المسألة مسألة مهمّة جداً، ولذلك سأذكرها ثمّ نرفع الزحمة عن الإخوان، وإذا وفّقنا اللـه سنحاول أن نكون في خدمة الرفقاء الكرام في الجلسات القادمة التي تعقد في ليالي الثلاثاء إن شاء اللـه، وكما قلت فإن ذلك مرتبط بوضعي وحالتي الصحية، ومقدار التوفيق الذي يكتبه اللـه لي...
حسناً.. لقد كنت منزعجاً من [إصرار هذا الشخص]، و كنت أقول له: يا عزيزي، دعك من هذا الأمر؛ فحينما يعلم الإنسان بأنّ طريقه صحيح وصائب، فما الذي يدفعه ليسأل عن فلانٍ من الناس في المكان الفلاني ماذا فعل وكيف تصرّف؟! وما أهميّة ذلك بالنسبة له؟ ولماذا ندخل أنفسنا في الكثرات بهذه الطريقة؟! ولمَ ننزل بأنفسنا ونكدّر ذهننا وأنفسنا؟! واضح؟!
ولكن حيث أنّ هذا الرجل لم يستطع أن يخرج من هذا الجوّ، فقد وصل إلى مرحلةٍ صار فيها سبباً للفساد، وأدّى إلى الانحراف، وسبّب بانحرافه هذا صدمة لعدد كبير فابتعدوا عنه. كلّ ذلك كان لأجل هذا الأمر، فبدلاً من الاهتمام بشأن نفسه، حيث على الإنسان أن يكون مهتماً بها، فإنّه كان يصبّ اهتمامه على هذه المسألة: ماذا هنا؟ وماذا هناك؟ وأيّ شيء سيحدث في ذاك المكان؟ ويقول: جيّد أنّه حدث هذا الأمر، فهو لصالحنا، وعلينا أن نمنع من حدوث ذلك الأمر، فإنّه بضررنا وسيفرح مخالفونا.. فكان دائماً يسير في الكثرة، كان يفكّر دائماً في الكثرات وأفعال الآخرين.
فبناء على ذلك وظيفتنا ووظيفة الإخوان وطريقنا هي أن لا نصبّ اهتمامنا على أفعال الآخرين، ولا نلتفت إلى سلوكهم.. نعم إن كان هناك من هو في مقام التكليف، فشأنه مختلف، فإنّ عليه تكليفاً أن يقوم ببعض الوظائف، ولكن بصورة عامّة ما دام رأسك لم يؤلمك فلماذا تعصّبه بعصابة؟ أما نحن فنفعل ما نشاء ثمّ نسمّيه تكليفاً، لا بل مسألة التكليف شيء آخر.
إذن لكلّ إنسان ملفّه الخاص وكلّ إنسان يسير في طريقه الخاص، فيمكن أن يكون للأب طريقه المغاير لطريق ابنه، ويمكن أن يكون طريق الابن مغايراً لطريق أبيه، ويمكن أن يكون طريق الأخ مغايراً لطريق أخيه، وكذا الجار و... فيمكن لكلّ واحد من هؤلاء أن يكون له طريقه الخاص، وهذا ما يراه الإخوان؛ حيث سلكنا في سبيلنا بعد وفاة المرحوم العلاّمة رغم المسائل الكثيرة التي وقعت، ولا نتدخّل في أعمال الآخرين، وقد مرّت السنوات العديدة حتّى أدرك الكثيرون حقيقة الأمر، وإنّما سارت الأمور بشكلها الصحيح والطبيعيّ ولم تؤدّ إلى مشكلات لأجل مراعاة هذه المسألة، لا غير؛ هي أنّنا لم نكن نشغل أنفسنا بالآخرين!
فمثلاً ينبغي أن أنظر الآن إلى كلامي الذي أقوله هذا، هل يجب أن أتفوّه به أم لا؟ هل العمل الذي أريد أن أقدم عليه هو صحيح أم لا؟ هل هذا الفعل الذي يجري الآن هو صحيح أم لا؟ وقد بيّنت للإخوة أمثلة ذلك، وقد وقعت حتّى الآن الكثير من المسائل التي تتعلّق بذلك، فكلّ موضع كانت النفس فيه هي الآمرة وقعنا في الخسارة، وفي كلّ موضع نحّينا النفس فيه جانباً ونظرنا إلى ما يريده اللـه تعالى ـ وإن كان في الظاهر يؤدّي إلى تعجّب الناظرين، و مستنكراً في أعين الناس، ولكن كنّا نقول لا شأن لنا بذلك والمهمّ هو رضا اللـه تعالى ـ ففي مثل هذه المواضع رأينا أنّ ذاك العمل هو الصواب، وأنّا كنّا نتقدّم خطوات إلى الأمام، فما دام الأمر كذلك فلماذا لا يستمرّ الإنسان على ذلك؟ فليستمرّ على ذلك.
كثرة الأشخاص ليست دليلاً على الصحة ولا القلّة دليل على الفساد
ومن هنا، على السالك أن يعلّق آماله فقط وفقط على اللـه تعالى وعلى الإمام عليه السلام، هذا أوّلاً، وثانياً عليه أن يراعيَ المباني، فالمباني التي تعطى إليه، عليه أن يأخذها بجدّ، ويسير على أساسها، واللـه تبارك وتعالى يقدّر له الطريق الأفضل؛ فيهيّئ له الأخ الصالح والصديق الصالح ويعدّ له المحيط المناسب، ويزيل له الموانع من طريقه. فمثلاً الآن هناك الكثيرون ممّن ابتعدوا.. نسأل اللـه أن يطيل أعمارهم وأن يجزيهم على فعلهم هذا خير الجزاء، فليتهم كانوا قد ابتعدوا من قبل، فكم تحمّلنا من الضربات والصدمات بسبب حضورهم بيننا، ولم يكن بإمكاننا أن ننبس ببنت شفة، فللـه الحمد؛ هم يقولون لنا الآن: في أمان اللـه. فجزاهم اللـه خيراً وأطال أعمارهم! كم أدخلونا في الورطات والمضائق! كم كانوا يسبّبون لنا توتّر الأعصاب! فجيّد، فإن كان لكلّ إنسان رؤيته أو تشخيصه الخاص فليطرحه وليرحنا، فكم أتلفنا من عمرنا جرّاء الخلافات التي كانوا يسبّبونها، فالآن لم تعد هذه المشكلات على ذلك النحو، فرحم اللـه والديهم، رحم اللـه والدي الذين ابتعدوا، وحفظ اللـه والدي الذين بقوا أيضاً!! وأعطى الخير لكلتا الطائفتين. لا تتصوّروا أنّ الأمر خلاف ذلك، وأنّ هناك مشكلة من أنّ فلاناً مثلاً يفعل كذا وكذا، لا بل لتكن فرحاً ولتكن مرتاح البال، وفي الوقت نفسه لا تكن مغروراً بنفسك؛ إذ من الممكن أن نصاب نحن بذلك أيضاً.. وحتّى الحقير! وقد قلت مراراً للإخوة: لا تظنّوا أنّي جالس هنا وأقرّر أن أتعامل مع هذا بنحو ومع ذاك بنحو آخر، وهذا الكلام الذي يقال الآن عنّي من أنّ فلاناً قد غيّر طريقة تعامله خلال السنتين الماضيتين، ولم يعد كما كان في علاقاته.. ليس صحيحاً، فالحقير لم يقم بذلك أبداً من تلقاء نفسي، وهذا أمر فرض نفسه عليّ ولم يكن باختياري أبداً.
إذن على كلّ إنسان أن يلتفت إلى هذه المسألة؛ وهي أنّ كلّ إنسان هو نفسه يشكّل المعيار، وطريقة ارتباطه هي المعيار، وعليه أن يقيس أحوال نفسه بنفسه، ففي الرواية عن المعصوم عليه السلام من أنّ المؤمن يفرح لدخول مؤمن في جمع المؤمنين ولا يحزن لمفارقته، أما المنافق فيفرح لدخول أحد في جمعه، ويحزن لمفارقته، فيقول لقد نقصت جماعتنا رجلاً. أسمع أحياناً حين أذهب إلى بعض المناطق نوعاً من هذا الكلام، وهو من أوّله إلى آخره أنّ فلاناً اقترب وفلاناً ابتعد، فما هذا الكلام؟! كم بقي لنا من العمر؟! وكم من الأنفاس قد بقيت لنا حتى نشتغل بهذه الأمور؟! وكم ستبقى رؤوسنا فارغة أو مملوءة بالتبن والحجارة؟! كم بقي لنا من العمر؟ أحدهم قال لي: قلت لفلان إن شئت أن تبتعد عن هذه الأجواء فابتعد، ولكن إيّاك أن تقترب من الجوّ الفلاني كيلا تثقل كفّة الميزان.. أفهل هذا ما تعلّمته من المرحوم الوالد، فوا أسفاه على ما بذل المرحوم الوالد من وقته وكلامه مع أمثال هؤلاء، وا أسفاه! يقول: لا تقترب من ذلك الجوّ كيلا تثقل كفّة الميزان، فهل نحن في مقام وزن الأثقال حتّى تفكّر بالزيادة والنقصان! فما هذا الكلام؟! وما هذا المنطق وما هذه الخرافات؟!
نأمل من اللـه تعالى أن يأخذ بأيدينا ويحفظنا من الزلّات، وأن يجعل لنا نصيباً من الفهم ومن ذلك العقل الذي رزقَه أولياءه وعباده المقرّبين فطوَوْا الطريق به حتّى النهاية.
اللهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد.