المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني
القسممباني الإسلام
المجموعةطلاب العلوم الدينية
التاريخ 1432/12/25
التوضيح
أهم محتويات المقالة:
- مقدّمة في بيان مظلوميّة العرفان؛
- المشاركة الصِرفة في مجالس العرفاء لا تجعل الإنسان عارفاً؛
- عرض لبعض أساليب الشيطان في النفوذ إلى النفس؛
- بيان لأصناف الناس الذين يتتلمذون على يد العرفاء والأولياء؛
- بيان لأنواع دساتير وأوامر العرفاء والأولياء، والفرق بينها؛
- على الإنسان أن يمضي في طريق الحقّ وأن ينفّذ تكليفه مهما كان الثمن المدفوع؛
- على الإنسان أن يمضي في طريق الحقّ دون الالتفات إلى الآخرين؛
- بعض الوصايا والتنبيهات للأصدقاء؛
- و...
هو العليم
السلوك بين الحقيقة والادّعاء وبعض وظائف المبلّغين في عاشوراء
محاضرة ألقيت في ليلة الثلاثاء
الخامس والعشرين من شهر ذي الحجّة سنة ۱٤٣۲ هـ ق
في جمع من طلاب العلم وفضلاء الحوزة
محاضرة ألقاها
آية الله الحاجّ السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ
قدس الله سره
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
و الصلاة والسلام على سيّدنا محمّد
وعلى آله الطيبين الطاهرين
و اللعنة على أعدائهم أجمعين
مقدّمة في بيان مظلوميّة العرفان
إنّ المواضيع التي سنذكرها للإخوة والرفقاء مُوجّهة في الرتبة الأولى لإخوتنا من طلاّب العلوم الدينيّة، ولكنّ الأمر يمكن أن يسري إلى بقية الإخوة والأحبّة سواء من الرجال أو النساء بحسب موقعيّة كلّ واحدٍ وحدوده.
لقد تحدّثنا حول هذه المسائل سابقاً وقد بيّنها الحقير للرفقاء والأصدقاء، وحيث أنّ ما يتوقّعه الأصدقاء منّي هو أن أبيّن مطالب العظماء ومبانيهم من باب أنّ الحقير كان على علاقة بهم، وأنّني مطّلع أكثر من غيري على مسائلهم، وذلك بالرغم من أنّني مقصّر في العمل والتطبيق، وهذا محفوظ في محلّه، ولكنّنا إن شاء الله قد راعينا الأمانة في نقل المطالب... إنّ الأصدقاء والإخوة ينتظرون منّي أن أبيّن المطالب كما هي، وبنفس الكيفيّة التي فهمها الحقير من مباني الأولياء والعظماء، وأمّا ما هو مقدار التوفيق للعمل بهذه المطالب التي ينالها كلّ شخص فذلك أمرٌ آخر، وتلك مسألة ترجع إلينا نحن، ومقدار اهتمامنا برعاية الموازين، ومراعاة المِلاكات من أجل الورود في محيط وجوٍّ كهذا.
إنّ الرفقاء ـ سواءً كانوا من أهل العلم أو لا ـ ليسوا غافلين ولا قليلي الاطّلاع على المدارس والتوجّهات المختلفة، فربما كانوا جميعاً أكثر اطّلاعاً منّي، فبعض الأشخاص يراجعونني في رغبتهم في دخول الحوزة، فيسألونني: يا سيّد، كيف الأوضاع في المدارس الحوزويّة؟ وما هي المسائل التي فيها؟ فأجيبهم: إنّ الإخوة والأصدقاء أكثر اطّلاعاً منّي على هذه المسائل، فاذهبوا إليهم واسألوهم عن وضعية كلّ مدارسة أو معهد لكي تتعرّفوا على خصائصها، فمعلوماتي عن هذه المسائل ربما هي أقلّ من كثير من الأصدقاء.
بالنسبة لما يحصل من الأمور التي تحدث؛ سواء كانت في الحوزة أم غيرها، وبشكل عام في المناهج والنِحل المختلفة، وكذلك المسائل التي تصدر من الأفراد الذين ينسبون أنفسهم إلى مدرسة المرحوم العلاّمة الطهراني، فجميعهم قد أظهر حقيقة ما لديه من خلال أفعالهم وتصرّفاتهم بعد ارتحال العلاّمة، وهذا الأمر مستمرّ حتّى الآن، ومع الأسف.. بل مع ألف تأسّف.. إنّ قلوبنا لتعتصر ألماً ـ والله يشهد على ذلك ـ بسبب ما نراه من الورطات التي وقع فيها بعض الأفراد المنتسبين إلى رجل عظيم كالسيّد العلاّمة.. واقعاً إنّ ما يحصل يسبّب الخجل، وإراقة ماء الوجه، ولكن على كلّ حال، كلّ شخص له طريقه الذي هو
سالكه، وكلّ واحد منّا له ملفّه الخاصّ، وكلّ شخص عليه أن ينشغل بمسائله الخاصّة.. إنّ هذا آخر ما يمكن أن نقوله.
لقد قام السيّد العلاّمة رضوان الله عليه ذات يوم قبل ارتحاله بسنتين أو ثلاث سنوات بجمع رفقائه وأصدقائه الذين كانوا في مشهد آنذاك، وقد كنتُ حاضراً في مشهد وقتها، وربّما كان بعض الرفقاء والأصدقاء الموجودين الآن حاضرين في ذلك المجلس، ثمّ قال سماحته:
«لقد قمتُ بأداء وظيفتي وتكاليفي، والآن قد جاء دوركم من خلال الالتزام بهذه المسائل والعمل بها، وأنا لا أستطيع أن أتحمّل أثقال الآخرين على ظهري، فأنا إنّما أتحمّل ثقلي وحملي أنا»
إنّ هذه الجملة التي قالها سماحته جملةٌ عجيبة جدّاً، وهذه الجملة موجّهة لنا، ومن أجلنا ومن أجل ليلتنا هذه!
فعبارة سماحته هذه: «أنا لا أستطيع أن أتحمّل أثقال الآخرين على ظهري» تعني التالي: أنا لا أستطيع أن أضمن أفعال الأفراد، أي: هل أنّه بمجرّد أن يأتي الإنسان إلى هنا، ويظهر أنّه من أتباع هذه المدرسة، فقد انتهى الأمر بالنسبة له، فمنكر ونكير لن يحاسبانه بعد الآن، ولن يتعرّض له أحد من الآن فصاعداً، وأيّ عمل يقوم به هذا الشخص فسيتحمّل سماحته المسؤوليّة، ولن تترتّب أعباؤه على ذلك الشخص؟! كلاّ، الأمر ليس كذلك!
فنفس سماحته كان قد تتلمذ على أيدي أساتذته، وكان سماحته يقول: عندما كنت أذهب إلى مجلس أحد أولئك العظماء، فلم أكن بعد ذلك ألتفت بأنّه: من هم الأشخاص الذين يأتون إلى هذا المجلس؟ وأين يجلسون؟ هل يجلسون إلى جانب أستاذي أم في زاوية المجلس؟ لم يكن ذلك يعنيني أبداً، بل كنت أجلس وأقول الكلام الذي أريد قوله، وأستمع إلى الحديث الذي يلقيه، ثمّ كنت أقوم لأسعى في أداء أعمالي، وبعد ذلك لم أكن لأفكر بأنّه من الذي يأتي ومن الذي يذهب؟ ولماذا يشارك الشخص الفلاني في هذا المجلس؟ [ولم أكن أقل في نفسي:] أصلاً لماذا يفسح السيّد المجال لهذا الشخص للدخول إلى منزله؟
ما هي علاقتك بذلك؟ «لماذا يفسح المجال»؟! أو مثلاً لماذا كان المرحوم الأنصاري...؟ فقد كان الكثير من الأشخاص يأتون إليه، فكانوا يبقون معه لمدّة شهر أو سنة ثمّ كانوا يتركونه ويذهبون، واضح؟ مثلاً هذه الأشعار الراقية جدّاً التي سمعها الرفقاء من الحقير في عيد الغدير كانت من تأليف شخصٍ قضى سنوات عديدة في خدمة المرحوم الأنصاري، ولكنّه تركه وذهب، وهذه الأشعار كان قد ألّفها وألقاها في تلك الفترة [التي كانت تحت تربيته]، وهذا الأمر ليس مستبعداً أبداً، فـ «بلعم بن باعوراء» كان مقرّباً لسنوات طويلة وكان مستجاب الدعوة، ولكنّ الشيطان في النهاية تمكّن من خداعه، فذهب! والأفراد الذين كانوا في خدمة المرحوم الأنصاري لم يكونوا قليلين، وبعض أولئك الأفراد كانوا في خدمته، ثمّ تركوه وذهبوه، وصاروا هم يعيّنون التكليف له!! ثمّ بعد ذلك صاروا يدرّسون العرفان!! وهم موجودون حتّى الآن، وهاهم يُدرّسون العرفان، وأمّا ما يحصل في أجواء منازلهم، فماذا أقول؟! فلنترك الحديث عن ذلك!
و الخلاصة أنّ هذا العرفان المظلوم يبدو أنّه لا يوجد حائط أخفض من حائطه، فكلّ من يفرّ من مكان ما، تجده قد جاء وجلس على هذا الحائط!
المشاركة الصِرفة في مجالس العرفاء لا تجعل الإنسان عارفاً
حسناً هؤلاء من أيّ الأفراد كانوا؟ لقد كانوا من الأشخاص الذين كانوا يذهبون عند العظماء ويشاركون في مجالسهم، ويستفيدون من حديثهم، بل كانت حالهم تنقلب، وكانوا يبكون عند سماعهم لمواعظ أولئك الأعاظم، بل إنّ بعض هؤلاء كانوا يبكون بشكل محسوس بحيث كانوا سبباً لحسرة الآخرين! نفس هؤلاء الأشخاص تراجعوا وذهبوا! نفس هؤلاء الأشخاص صاروا يوجّهون الأوامر للمرحوم الأنصاري، ويعطونه التكاليف والدستورات: ينبغي أن تفعل كذا، وينبغي أن تفعل ذاك! نفس أولئك الأشخاص.. هم نفسهم!! وهم نفسهم يعطون الآن دروساً في العرفان!
حسناً، فهل هذا أمرٌ مستبعد؟ فهل من المقرّر أنّ كلّ من يأتي فإنّ ملفّه سيختم بخاتم السعادة والأمان من أوّل ليلة حتّى آخر حياته؟ كلاّ.. ليس الأمر كذلك، فالشيطان يرافق الإنسان حتّى آخر يومٍ من حياته، وهو معي حتّى أنا، وإذا ما استولت عليّ الغفلة فإنّ الشيطان سيعمل على انحرافي فوراً، وأنا لا أقول هذا من باب التواضع: فأنا أقسم بالله العظيم بأنّه حتّى أنا مشمول لهذه القاعدة، فإن أردتم أن تصدّقوا أو لا تصدّقوا! ومن هنا يجب على الإنسان أن يكون يقِظاً متنبّهاً، ويجب عليه ألاّ يتّكئ على نفسه، بل ينبغي فقط أن يتوسّل بالأئمّة، ويتوسّل بالله تعالى، ويجب على الإنسان أن ينتبه بحيث لا يفلت زمام الأمور من يده، فالشيطان يقترب من الإنسان بشكل تدريجيّ خفيّ ومستور وبألوان جذّابة... فالأفعى عندما تمرّ من جانبك، هل تشعر بذلك؟ إنّك لا تشعر أبداً، فهي تتحرّك دون إحداث أيّ صوت، فأنت لا تلتفت إلاّ أنّ شيئاً قد مرّ من هنا وذهب، فهي تتحرّك بنعومة وخفّة شديدة بحيث لا تشعر بها أبداً، وفجأة: «آخ» قدمك تؤلمك بشدّة، ويبدأ صراخك بالتصاعد... لقد تسلّلت ولدغتك.. إنّها تأتي بنعومة ولطف حتّى لا ينتبه الإنسان لها، لأنّه لو التفت لقام وهرب، أو لدافع عن نفسه. وهذا الشيطان يأتي بنفس هذه الطريقة!
وردتنا رواية عن النبيّ الأكرم صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول فيها: «إنّ الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدمّ»، والظاهر أنّ هذه الرواية مذكورة أيضاً في كتاب «المطوّل»... فكيف يجري الدمّ في جميع أنحاء وجودنا وجسمنا؟ فهو ليس مختصّا بالشرايين والأوردة الكبيرة كالشريان الأورطي، بل إنّ الدمّ يتحرّك في جميع أنحاء الجسم، وينتقل من الشرايين الكبيرة إلى الأوعية الدموية الدقيقة حتّى يصل إلى تحت هذا الرمش [يشير سماحة السيّد بيده إلى رموش عينيه].. إنّه يصل إلى تحت هذا الرمش، فلو أنّكم ضربتم هذا الموضع تحت رمش العين بإبرة فستجدون أنّ الدمّ يخرج منه، وهذا يكشف أنّ الدم يصل على هنا أيضاً! إنّه يصل حتّى إلى شرايين الصلبيّة من العين! هل رأيتم ذلك؟ إنّه يصل إلى هنا أيضاً، فالدم يجري إلى جميع خلايا البدن الحيّة، ولو أنّه لم يصل إلى إحدى الخلايا فإنّها تفسد، وحينئذٍ فلابدّ من التخلّص منها لأنّها صارت عديمة الفائدة... وبشكل عام؛ لا يوجد أيّ
مكان من بدن الإنسان لا يصل إليه الدم، فالدمّ يمثّل الحياة، وحياة الجسم قائمة بجريان الدم فيه، ولهذا تجد أنّ أيّ مكان يقلّ الدم فيه فإنّ الألم سيظهر فيه، فعندما يتألم الإنسان من ظهره، تجدهم يقولون له: إنّ الدم لا يجري فيه كما ينبغي فيبدؤون بعمل المساج والتدليك له حتّى يتحسّن، وقد يتألّم الإنسان من قدمه بسبب شدّ عضلي فيها، فيقال له: إنّ الدم لا يجري فيها كما هو مفترض... وهكذا فحياة البدن قائمة بجريان الدم هذا، واضح؟
عرض لبعض أساليب الشيطان في النفوذ إلى النفس
حسناً.. النبيّ الأكرم صلّى الله عليه وآله يقول لنا: إنّ الشيطان تماماً كهذا الدمّ نافذٌ فينا، ويجري في عروقنا وشراييننا، فهو يحاول أن ينفذ إلينا من طريق السرقة، ومن طريق حبّ الدنيا، ومن طريق الذنوب والمعاصي، والأهواء النفسيّة الدنيّة، فإن لم يتمكّن من ذلك من هذا الطريق، فإنّه يلجأ إلى طريق آخر؛ فهو حينئذٍ يحاول الدخول من طريق الله وطريق الدين، ومن طريق أداء التكليف وتحمّل المسؤولية: إذا لم أقم أنا بهذا فإنّ المسؤولية ستسقط... إذا لم أقم أنا بهذا العمل فماذا سيفعل هؤلاء الأفراد؟! وإذا لم اذهب أنا إلى هنا فمن سيجيب على أسئلة أولئك؟! وإن لم أتحمّل أنا هذه المسؤوليّة، فإنّ المجلس الفلانيّ سيتعطّل، وكثير من الأفراد يأتون إلى هذا المجلس، فيسألون ما عندهم من أسئلة، ويتكلّمون وما شابه ذلك... من أين جاءت هذه العبارات: «إذا أنا لم أفعل...»، «إذا أنا لم أشارك...» وما شابهها؟! فهل أنت الشخص الوحيد القادر على ذلك؟! ألم يخلق الله في هذه الدنيا شخصاً آخر مثلك في هذه الدنيا؟!
عندما كان المرحوم السيّد الوالد في النجف، فقد كان العديد من فضلاء يعترفون بأنّه لو بقي سماحته في النجف لانحصرت مرجعيّة النجف فيه، بحيث أنّه عندما قرّر أن يرجع إلى إيران، وكان سماحته قد أخبر بعض أصدقائه بقراره أن يعود فانتشر الخبر هناك بأنّ السيّد محمّد الحسين يريد أن يرجع إلى طهران، فذهب مجموعة منهم قبل موعد السفر بأسبوعين تقريبا إلى المرحوم السيّد عبد الهادي الشيرازي۱، وطلبوا منه أن يصدر حكماً شرعيّاً يُحرّم فيه على السيّد العلاّمة العودة إلى طهران، حتّى لا يرجع سماحته إلى إيران، وكان أستاذه المرحوم السيّد الحداد قد قال له: يجب عليك أن ترجع إلى إيران، فقد أحالوك على إيران... هل كتب ذلك في كتابه أم لا؟ لا أدري بالدقّة، ولكنّه على كلّ حال قد ذكر ذلك في أحد المجالس، قال:
ذهبت بمعيّة السيّد الحدّاد لزيارة أمير المؤمنين عليه السلام، فلمّا خرجنا معاً، توقّف فجأة في إيوان الذهب، والتفت إليّ وقال: لقد أحالك أمير المؤمنين على إيران.. يجب عليك أن تذهب إلى إيران!
كان المرحوم السيّد الوالد يقول: «أنا كنت أصلاً قد حذفت خارطة إيران في ذهني من خارطة العالم!» يعني: في ما مضى كانت قد واجهت سماحته بعض المسائل في إيران قبل
هجرته إلى النجف بحيث كان يقول: أنا حذفت إيران من الخارطة الجغرافية للكرة الأرضيّة، ولم يكن ليخطر في ذهني أن أرجع إلى إيران.. لم يكن حتّى ليخطر ذلك في بالي! هل خطر في بالنا يوماً أن نذهب للسكنى في القمر؟! إنّ هذا أمر غير عقلائي! فلنذهب ونسكن في القمر أو في كوكب عطارد! إلى هذا الحدّ وبهذا الشكل كانت حالة سماحته تجاه العودة إلى إيران! ولكن عندما سمع من أستاذه قوله: يا فلان.. لقد أحالوك على إيران، وأرسلوك إليها، لم يتوقّف حتّى ثانية واحدة ليفكّر ويتأمّل! ماذا يعني ذلك؟ يعني أنّه انقلب من هذا الاتّجاه إلى ذلك الاتّجاه في لحظة واحدة! لم يقل: سيّدنا! كيف ذلك؟ ماذا تقول؟ وكيف يكون ذلك؟
يرسل بعضهم لي في بعض الأحيان رسائل يكتبون فيها مناماً شاهدوه، ويطلبون منّي أن أفسّره لهم «بشكل مفصّل»!! بشكل مفصّل!
-فأجيبهم قائلاً: هو خيرٌ إن شاء الله! [تبسّم من سماحة السيّد].
-فيقولون لي: يا سيّد! نحن طلبنا أن تفسّره بشكل مفصّل، وأنت تكتفي بقولك: خيرٌ إن شاء الله!
-يا عزيزي، أنت عرضت عليّ المنام، طلبت منّي أن أفسّره لك، وأنا قلت لك: هو خيرٌ، فلماذا تريد التفاصيل بعد ذلك!
حسناً.. فقد كان بإمكان السيّد العلاّمة أن يقول لأستاذه: سيّدنا.. كيف حصل ذلك؟ ومتى؟ أو يطلب منه أن يؤخّر الأمر قليلاً ريثما يرتّب أموره بشكلٍ أكبر... وأنا أحسّ بوضع سماحته في ذلك الوقت، فقد كان سماحته يقول: «لو رأيتُ في المنام أنّني سأعود إلى إيران، لبقيت مذعوراً لمدّة أسبوع كامل خوفاً من أن يتحقّق ذلك!» [تبسّم من سماحة السيّد] لقد كان سماحته إلى هذا الحدّ متنفّراً من الرجوع إلى إيران، وكان يقول: «نحن أصلاً ذهبنا إلى النجف، لكي نجاور أمير المؤمنين عليه السلام، وانتهى الأمر، وفي نيّتنا أن نظلّ عنده إلى آخر العمر!» ولكنّ سماحته في مقام الطاعة كان بهذا الشكل؛ بمجرّد أن قال له أستاذه: عليك أن ترجع إلى إيران [لم يتردّد لحظة واحدة]... ومتى كان ذلك؟! حصل ذلك بعد أن كان قد عثر لتوّه على أستاذه، وكانت حلاوة اللقاء به لم تزل باقية في فمه! نعم.. في مقام بيان احتياجه وفقره قال لأستاذه: سيّدنا، ما كدنا نصل إليك حتّى حصل هذا الأمر! وهاهنا أجابه: «إذا كنت في شرق العالم وأنا في غربه فالأمر لا فرق فيه عندي»، هذه العبارة قالها له هناك في إيوان الذهب. حسناً.. في النهاية جاء، والمرحوم الأنصاري أيّد ذلك بعبارة أخرى قد ذكرتها للرفقاء سابقاً. هكذا كانت كيفيّة مجيء سماحته إلى هنا، وكما قال هو نفسه: «إنّني لم أقض ساعةً واحدةً في طهران بناء على رغبتي الشخصيّة».
جيّد.. والآن انظروا إلى هذا الإنسان، الذي جاء لأجله البعض إلى المرحوم السيّد عبد الهادي الشيرازي وطلبوا منه أن يُحرّم عليه المغادرة.. هل فكّر في الأمر؟ هل فكّر في نفسه بأنّه لا بأس أن أبقى هنا؟ لقد أقاموا عليه كلّ أنواع الاستدلالات: يا سيّد محمّد الحسين، ألا ترى وضع الحوزة؟ إنّك بنفسك ترى ما يحصل وما يجري! إنّ أصدقاءه هم الذين كانوا يقولون له ذلك، أصدقاؤه الذين كانوا معه هناك في ذلك الزمان.. رحمهم الله تعالى، وكان من بينهم المرحوم الشيخ حسن السعيد الذي كان إماماً للجماعة في مسجد «چهل ستون» الواقع في سوق طهران، وقد كان من أصدقاء العلاّمة في ذلك الزمان، وكانا يقرآن دعاء
السمات عصر الجمعة في النجف، وكان منهم ابن المرحوم آية الله الميلاني، وكلّ هؤلاء قد توفّوا، ومنهم المرحوم الشيخ عبّاس القوچاني، فهو أيضاً كان يصرّ على السيّد العلاّمة بالبقاء، واثنان منهم كانا من أقارب المرحوم السيّد عبد الهادي الشيرازي نفسه، حتّى بعض المراجع الحاليّين في النجف ممّن كان يباحث المرحوم الوالد في الدروس كانوا يصرّون عليه بشكل عجيب أن يبقى في النجف، وهم نفسهم يعترفون بذلك، فقد كانوا يقولون: إذا بقيت فإنّ المرجعيّة ستنحصر فيك، فوضعيّة سماحة السيّد الوالد وتقواه وخصوصيّاته كانت شاهدة على ذلك، والجميع كانوا مذعنين لهذا الأمر.
و لكن عندما جاء حكم أستاذه انتهى الأمر، وما قيل له من أنّ بقاءه تكليفٌ شرعيٌّ، وأنّ مصلحة النجف تقتضي بقاءه، وأنّه ماذا ستقول لله تعالى إذا حاسبك، وأمثال ذلك من عبارات.. كلّ ذلك وضعه جانباً ولم يعبأ به، فالأستاذ قد قال: اذهب! ونحن نقول: في أمان الله، ذهبنا! فهل أنا القيّم على الدين حتّى يحترق قلبي على الدين، وأقول في نفسي: إذا لم أذهب إلى هذا المجلس فإنّ هؤلاء الأفراد سيضيعون، فلا بدّ أن أذهب وأصير محطّاً لإعجاب الجميع!! فهل أنا القيّم على الدين؟! كلاّ، إنّ القيّم على الدين رجلٌ آخر، إذا لا يوجد قيّم للدين في هذا العالم سوى رجلٍ واحدٍ لا غير وهو حضرة وليّ العصر أرواحنا فداه وحسب. وأمّا باقي الأفراد فنحن نسعى لأن نتقرّب منه، فبعضنا قريب بمقدار متر واحد، وبعضهم أقرب، والبعض الآخر أشدّ قرباً وهكذا، وفي المقابل هناك من يبعد نفسه بشكل مستمرّ، فتجده في كلّ يوم أبعد وأبعد! وفي النهاية فإنّ قيّم الدين واحدٌ لا أكثر!
قبل بضعة ليالي كنت في مشهد، وكنت أتحدّث مع الرفقاء هناك، فقلت لهم: ينبغي على الإنسان أن يحافظ على حالة من الاعتدال؛ الاعتدال بين طرفين، وكيف أنّ بعض الناس يسألون: كيف يمكن للدين والتصوّر الديني والتوهّم الديني عند الإنسان أن يصير مانعاً للإنسان؟
إنّ بعض الناس يميلون دائماً إلى جانبٍ دون آخر، مثلاً لو قيل لهم: إنّ الله تعالى قد خيّركم بين أن تتولّوا إقامة الصلاة في هذا المسجد... (انتبهوا، فهذا الموضوع دقيق جدّاً، وينبغي لنا أن نختبر أنفسنا بالنسبة له، ونحاسب أنفسنا جيّداً!!)، افرضوا أنّ الله تعالى قد خيّركم بين أن تتولّوا إقامة الصلاة في هذا المسجد أو في تلك الثكنة العسكريّة الكبيرة، فتجد أنّه يقول فوراً: بل أريد أن أذهب إلى الثكنة العسكريّة! فلماذا ذلك؟ سبب ذلك أنّه يميل إلى هذا الجانب، فحتّى شكله وشاكلته كذلك، والحال أنّ الأمر لا يختلف بالنسبة إلى الله تعالى، فالله تعالى يقول له: أنا سأعطيك نفس الثواب هنا أو هناك، وستحصل على نفس الدرجة سواء ذهبت إلى ذلك المسجد الواقع في محلّة صغيرة ولا يحضر فيه أكثر من خمسة عشر شخصاً، أم ذهبت إلى تلك الثكنة العسكريّة التي تضمّ خمسة آلاف شخص، كما أنّ العديد من الضباط والقادة يحضرون فيها ويستمعون إلى خطبك! حسناً.. إذا كنّا نحن في هذه الموقع فماذا كنّا سنقول؟ طبعاً كنّا سنختار الذهاب إلى الثكنة العسكرية، فأوّلاً هنا يحضر خمسة عشر شخصاً بينما يحضر خمسة آلاف شخص هناك، فما نقوله هنا لن يسمعه إلاّ خمسة عشر شخصاً، بينما هناك سيسمعه خمسة آلاف شخص، وهنا لن يعمل بكلامنا إلا خمسة عشر شخص بينما هناك سيستفيد منه خمسة آلاف شخص... وهكذا نقوم بنسج وحياكة هذه التوجيهات
من عندنا! هل تعرفون كيف تقوم النساء بالنسيج والحياكة؟ فنحن نفعل ذلك أيضاً.. نشرع بالنسيج في نفسنا فإذا بالنسيج قد بلغ ارتفاعه مائة متر! وقد أنجزت ذلك خلال دقيقة واحدة فقط! نستجير بالله، فأفضل مصانع النسيج في «يزد» لا يستطيع أن ينتج مثل ذلك في دقيقة واحدة فهو يحتاج إلى نصف ساعة على الأقلّ! وهكذا يستمرّ بالحياكة والنسيج فيقول في نفسه: ثمّ إنّ هؤلاء الذين يحضرون هنا في المسجد ليسوا من المتعلّمين، فهم من أهل القرى ومن المزارعين، قد تعبوا من العمل فجاؤوا للمسجد! أمّا أولئك فمن هم؟ إنّهم أفراد محصّلون ومثقّفون، ومن أصحاب الوجاهة والمراكز المهمّة، ومن المفيد أن نذهب إلى هناك فنتعرّف عليهم، وهكذا... يستمرّ حتّى يتخّذ قراره بالذهاب إلى الثكنة.
جيّد؟ هذا نوع من الناس، ويوجد نوع آخر مثلي أنا، تجدهم يميلون إلى الجانب الآخر تماماً، فما إن يُعرض علينا مثل هذا الأمر، فإنّنا نختار المسجد فوراً، فهؤلاء الأفراد يحبّون الهروب من المسؤوليّة [تبسّم من سماحة السيّد]، فتجدهم يفكّرون بهذه الطريقة؛ يقولون: حسناً.. إذا كان من المقرّر أن الله سيعطي ثواباً واحداً في كلتا الحالتين، فما الذي يجبرني أن أُتعب نفسي وأرهق صدري وحنجرتي في إلقاء الخطب هناك، فهؤلاء الخمسة عشر شخصاً يكفونني وأنا سعيدٌ بهم، فتجده يبادر قائلاً: نحن نختار المسجد! واضح؟
ولكن هناك قسم ثالث، ليسوا من القسم الأول ولا الثاني، فكلاهما غلط! فهؤلاء يقولون: أنت ماذا تريد؟ فالله تعالى يقول لهم: اختاروا لأنفسكم.. أيّهما تريدون؟ فيجيبونه: أنا لا أريد أيّاً منهما! أنت ماذا تريد يا ربّ؟ هل تريدني أن أذهب إلى المسجد حيث لا يوجد إلاّ خمسة عشر شخص من الأمّيين والفقراء والمساكين والضعفاء، من الناس العاديين؟ أم تريدني أن أذهب إلى هناك حيث الاحتفاء والترحيب، والصخب... وحيث ينادون: قد جاء سماحة السيّد فارفعوا أصواتكم بالصلوات! (و لكن يبدو أنّهم لا يستقبلون الشخص بالصلوات هناك!! بل يكبّرون وما شابه ذلك)، فيستقبلون الإنسان استقبالاً صاخباً، ويقومون بإعداد القاعات، ويقومون بإعداد «التريبون»۱ له لكي يتكلّم من خلاله (طبعاً من المعروف أن التريبون للكفّار!!)... فأيّ الخيارين على الإنسان أن يختار؟ فلنختبر أنفسنا عندما يعرض لنا أحد الخيارات والقرارات في مسائلنا، فالمراقبة التي كان يوصي بها العظماء محلّها هنا، فعلى الإنسان أن يختبر نفسه، ويرى إلى أيّ جانب يميل قلبه؟
لقد أمر أمير المؤمنين الربيع بن خثيم أن: اذهب إلى الثغور وقاتل هناك، فقال له: يا علي، لقد كبر سنّي وصرت عجوزاً، فأرسلني إلى مكان أتفرّغ فيه لصلاتي وعبادتي، فقال له الإمام عليه السلام: حسناً.. اذهب إلى خراسان، والمقام المعروف هناك باسم «خواجة ربيع» يعود له... إنّ الربيع بن خثيم لم يستمع لأمر الإمام، فالإمام يقول لك: اذهب إلى هناك! وأمّا هو فماذا يريد؟ إنّه مثلنا؛ فهو يقول للإمام: أعطني ذلك المسجد الصغير! فطالما أنّهم يعطوننا ثواباً فهذا يكفي!
فمن هو الذي أطاع أمر الإمام؟ الذي أطاعه هو «مالك الأشتر»، فقلب مالك الأشتر كان يرفرف حِرصاً على البقاء إلى جانب أمير المؤمنين، فـ«مالك» لم يكن يبحث عن الرئاسة والقيادة.. لم يكن مالك الأشتر من هذا النوع من الأفراد، بل كان يقول لأمير المؤمنين: أنا أحبّ أن أبقى معك هنا في الكوفة، فأرسل أحداً غيري إلى مصر، فأجابه أمير المؤمنين عليه السلام: حتّى لو كنت هناك، فإنّك ستكون معي! ولا فرق بين الحالين، فيقول مالك: حاضر، ثمّ يمضي لتنفيذ أمره عليه السلام، فيذهب إلى هناك ويُستشهد في وسط الطريق. لقد استشهد مالك الأشتر وأُلحق بمولاه، أما الربيع بن خثيم فلا يُلحق به! هذا يُلحق بمولاه، وأمّا ذاك فلا! لماذا؟ لأنّ مالك أطاع أمر إمامه، ولم يقل: بل أنا أريد هذا، وأريد ذاك!
ونحن في قراراتنا التي نتّخذها كذلك؛ فإمّا أن نميل إلى هذا الجانب أو على ذاك الجانب، ولكنّ الأعاظم لم يكونوا كذلك، فهم لم يكونوا ليعتنوا بكلام من قبيل: «المصلحة تقتضي أن تفعل كذا...»، أو «إنّ المرجعيّة ستكون منحصرة فيكم»، أو «أنت المرجع الوحيد لعالم التشيّع..» وبعضهم يقول: «آية الله العظمى في العالمين»!! يعني في الدنيا والآخرة!! يعني في يوم القيامة نحن آية الله العظمى، أمّا النبي والمعصومون الأربعة عشر فلا علاقة لهم، بل نحن آية الله العظمى في العالمين!! وأمثال ذلك من عبارات....
إنّ أمثال هذه العبارات لا تدخل في آذاننا، فما يهمّنّا: ما هو التكليف؟ أخبرني ما هو التكليف يا عزيزي حتّى أفعله، فالدين له صاحب، والدين له قيّم، والدين له وليّ! ولا ينبغي لي ولأمثالي أن نتطفّل في أفعال قيّم الدين، يقال: «إذا ذهبت وتركت الأمر فإنّ الحمل سيسقط، والمسؤولية لن يتحمّلها أحد»، من الذي قال لك ذلك؟! اترك الأمر ولا تتدخّل لترى إذا كانت المسؤولية ستسقط! جرّب وسترى بنفسك! ويقال: «إذا لم أقم أنا بهذا العمل فإنّ دين الله سيضعف»، من الذي قال أنّه سيضعف؟! هل أخبروك أنّه سيضعف؟! هل أرسل لك صاحب الزمان رسالة يخبرك فيها أنّك إذا لم تتحمّل المسؤولية فإنّ الدين سيضيع؟! إذا كان قد أرسل لك مثل هذه الرسالة، فذلك جيّد جدّاً ونحن نحترم ذلك ونضعه على رؤوسنا وعلى عيوننا! ولكن حيث أنّه لم يرسل لك مثل هذه الرسالة، فمن أين جئت بهذا الكلام؟ من الذي قاله؟ كيف؟ ولماذا؟!! إنّ هذه أمورٌ نحن نختلقها لأنفسنا، وتكاليف نصطنعها ونوجدها بأنفسنا، فنحن نضع القيد في أعناقنا بيدنا، ثمّ نضغط عليه بقوّة.. نحن الذين أوجدنا التكليف لأنفسنا! لماذا؟ لأنّنا نميل فوراً إلى هذا الجانب! لأنّنا نميل إلى جانب «الثكنة العسكريّة»! ذلك الميل إلى «الثكنة العسكريّة» الذي بيّناه قبل قليل هو هذا بعينه! ولأنّنا نميل إلى هذا الجانب خصوصاً، فإنّ النفس تأتي فوراً وتشرع باصطناع التكاليف، وتختلق المسؤوليات، وتؤلّف المصالح... حتّى يصل بنا الأمر إلى أن نتخيّل أنّ وجود الأرض والسماء متوقّف علينا! أصلاً لو ذهبنا نحن فإنّ نظام العالم سيختلّ بالكامل؛ فجبرائيل سيتوقّف عن عمله، وعزرائيل وميكائيل سيتوقّفان عن أداء أعمالهما أيضاً، بل إنّ كلّ العالم سيتوقف عن أداء وظيفته لأنّنا قد متنا ودُفنّا تحت التراب! كلاّ يا عزيزي! ليس الأمر كذلك! أقسم بروحك العزيزة بأنّه لو أنّنا أنا وأنت متنا وذهبنا تحت التراب فإنّ هذا الكأس من الماء لن يتحرّك من مكانه ميلّيمتراً واحداً! إنّ هذا الكأس لن يتحرّك ميلّيمتراً واحداً من مكانه فضلاً عن اختلال نظام الأرض والسماء! ما هذا الكلام؟! إنّها جميعاً ليست إلاّ تخيّلات وأوهام!
بيان لأصناف الناس الذين يتتلمذون على يد العرفاء والأولياء
لقد جاء المرحوم الوالد رضوان الله عليه، وأوضح لنا الطريق، وبيّن لنا المسير الذي ينبغي أن نسلكه، ولكن في نفس ذلك الزمان كان هناك بعض الأفراد الذين كانوا لا يعتقدون فيه أبداً، إنّهم لم يكونوا يؤمنون به بمقدار رأس الإبرة حتّى! ومع ذلك فقد كانوا رعايةً لمصالحهم يتقرّبون منه أكثر من الجميع، وكانوا يحشرون أنفسهم في كلّ قضيّة، ويدخلون أنفسهم في كلّ مسألة رغم أنّهم لم يكونوا يعتقدون فيه أبداً! إنّ هؤلاء كانوا من المنافقين الذين كانوا حاضرين في ذلك الزمان وتسبّبوا بإدماء قلب والدنا. إنّ هؤلاء هم بعينهم الذين أوجدوا تلك الفتنة بعد وفاة سماحته!
إنّ أسلوب السيّد العلاّمة كان واضحاً، ومطالبه كانت بيّنة، وقد كانوا يدعونا نحن أيضاً إلى ذلك أيضاً، وكان يريد لنا أن نستفيد من حياتنا، وألاّ تنقضي حياتنا ـ كسائر الأفراد وباقي المدارس والمناهج ـ بالمجيء والذهاب والجلوس والحديث، فيتلف وقتنا وينتهي عمرنا، ثمّ نجد أنّنا لم نحقّق شيئاً من أهدافنا ولم نتحرّك إلى الأمام، هذا إذا لم ننحرف في الأثناء أيضاً لا سمح الله! كان يريدنا أن ننتفع من هذه الحياة، ونحصل على نتيجة من انقضاء عمرنا، وكان سماحته إذا رأى أنّ هناك بعض الأفراد يستطيعون أن يستفيدوا بشكل أكبر، فإنّه كان يغيّر كيفيّة علاقته معهم، فعندما يكون شخصٌ قادراً أن يستفيد بشكل أكبر فلماذا نسمح له أن يُحرم من الفائدة بسبب شخص آخر لا يريد أن يستفيد؟! لماذا؟! إنّ هذا ظلمٌ.. ظلمٌ بيّنٌ! فواحد يريد أن يستفيد ويستزيد، بينما الآخر يريد أن يظلّ مرتاحاً هانئ البال.. أصلاً ذلك حرامٌ شرعاً.
افرضوا مثلاً أنّ عندكم طفلاً رضيعاً ينبغي أن يشرب الحليب، ويأكل الحساء، بل حتّى الحساء ينبغي أن يخفّف بالماء حتّى يتمكّن من هضمه، ولا ينبغي أن يوضع في حسائه العدس والرزّ وأنواع الحبوب الأخرى حتّى لا تسببّ له سوء هضم وتؤذيه، فمثل هذا الطفل إذا أعطيته جزرة غير مطبوخة فإنّه سيقضمها، فتعلق في حلقومه ممّا يسبّب اختناقه وموته! نعم.. إنّ هذا الطفل الذي لم يتجاوز عمره سنة أو سنتين سيموت بسبب ذلك! هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإنّ الشابّ ذو العشرين سنة لو قدمت له الحساء المعدّ للطفل الرضيع بدلاً من الطعام المناسب له فهذا سيكون ظُلماً له أيضاً، وهو كذلك سيموت بعد يومين! ومن هنا، فينبغي أن نضع كلّ شيء في محلّه، وينبغي أن نقدّم لكل شيء ما يقتضيه حاله، بحيث يتمكّن الإنسان من أداء حقّ كلّ شخص وحقّ كلّ أمر من الأمور.
ولهذا نجد أنّ ارتباط سماحته بالأفراد كان مختلفاً، ولا تتخيّلوا أنّ علاقته بالرفقاء والأصدقاء كانت منحصرة بعصر أيّام الجمعة، وأيّام الأعياد والوفيّات؛ فأوّلاً بالنسبة للأعياد والوفيّات فسماحته كان قد انتقل في آخر سنوات حياته إلى المنزل الآخر، ومنذ ذلك الوقت لم يعد يشارك في المجالس سوى في يومين لا غير، وهذان اليومان هما يوم عيد الغدير، والثاني هو يوم النصف من شعبان، وأمّا باقي الأيام فقد كان في ذلك المنزل، وذلك لأنّ الأطبّاء كانوا قد منعوه من الظهور في المجالس العموميّة، حتّى أنّهم قالوا له أنّ ذلك يمثّل خطراً على حياته، ولذا لم يكن ليشارك إلاّ في هذين اليومين، وكان عادةً ما يقوم بتعميم طلاب العلم في هذين اليومين، كما كان يتحدّث سماحته أيضاً في تلك الأيّام. ولكن حتّى في
تلك الفترة كان هناك بعض الأفراد الذين كان يتصرّف معهم بشكل مختلف، ويقول لهم أموراً مختلفةً عن باقي الأشخاص، والحقير كان مطّلعاً على ذلك، ولم يكن أحدٌ آخر يعلم عن حالهم شيئاً.
بيان لأنواع دساتير وأوامر العرفاء والأولياء، والفرق بينها
إنّ طريقة كلام سماحته كانت تختلف باختلاف الأفراد، كما أنّ مجالس الملاقاة التي كان يحدّدها سماحته مع الأشخاص مختلفة، والدستورات التي كان يعطيها للأفراد متفاوتة.. لقد كان هناك أفراد في ذلك الزمان يحضرون هديّة لسماحته فكان يقول لي: اذهب وأرجع لهم هديّتهم! وهؤلاء كان البعض يعتبرهم من رفقاء سماحته وأصدقائه! فهذا نوع من الأشخاص، كما كان هناك بعض الأفراد الذين كان يقول سماحته عنهم: إنّنا لا نقبل بهؤلاء إلاّ من أجل أشخاص آخرين؛ يعني مثلاً كان هناك بعض النساء المخدّرات من تلاميذ سماحته، ولكن زوجها لم يكن كذلك أصلاً، فكان سماحته يقول: إذا أنا لم أستقبل زوج هذه المرأة، فإنّه سيؤذي زوجته وسيزعجها، وسيبدأ باختلاق الموانع لها، وسيضع الحواجز في طريقها! يعني هذه الرفاقة مع أمثال هؤلاء كانت «رفاقة مصلحة»! كما أنّ العكس كذلك كان موجوداً. لهذا فإنّ الكثير من الأفراد الذين كانوا يعتبرون أنفسهم من تلامذة سماحته، كان الحقير يعلم أنّهم ليسوا كذلك واقعاً، وأنّهم من أولئك الذين كان سماحته يستقبلهم لمصلحة ما، وكان عدد هؤلاء كبيراً.. كان عددهم كبيراً! وقد ظهر هؤلاء وبرزوا للعيان بعد وفاة سماحته... على كلّ حال، فإنّ مطالب أولياء الله دقيقة جدّاً، وليست تصرّفاتهم جزافية بدون حساب.
في ذلك الزمان كان سماحته يبيّن بعض المطالب، ولكنّها لم تكن لتلقَ ما تستحقّه من العناية والاهتمام، وكان ذلك يزعجه ويضايقه، حتّى أنّه كان أحياناً يواجه المسألة بشدّة وصرامة، وفي بعض الأحيان كنت أقوم بتلطيف كلام سماحته لبعض الأفراد، وتخفيف شدّته، فقد كنت أنظر أنّه: إذا قلنا هذا الكلام لهذا الشخص فماذا سيحصل؟ وربّما كان تصرّفي صحيحاً وربما كان خاطئاً.. فقد كنت أقوم بتلطيف الكلام قليلاً بحيث لا يكون ثقيلاً صعباً على نفس ذلك الشخص... ولكنّني طبعاً كنت بعد ذلك أخبر سماحة العلاّمة بما فعلته!
لقد كان سماحته يهتّم ببعض المسائل، وكان ـ بناء على تلك المسائل ـ يسوق رفقاءه وأصدقاءه إلى ذلك الاتّجاه، ومطالب سماحته كنت على قسمين ومجموعتين:
مجموعة منها: كانت تمثّل خطّاً أحمراً لا يحقّ لأحد تجاوزها؛ يعني: رعاية هذه الأمور كانت شرطاً لحضور أيّ شخصٍ في ذلك المحيط وفي تلك البيئة، وإذا ما خالف تلك الضوابط والأمور، فإنّه بذلك قد تجاوز الخطوط الحمراء، وكان ذلك يتسبّب في أن يطرده العلاّمة بطبيعة الحال، وقد وقع ذلك عدّة مرّات، سوف أذكر بعضاً منها وأبيّنها.
وأمّا المجموعة الثانية من الأوامر: فلم تكن تمثّل خطّاً أحمراً، بل كان الهدف منها تكامل الإنسان نفسه، فإن شاء عمل وإن شاء ترك، وبمقدار ما كان يعمل كلّ شخص فإنّ سماحته كان يرفعه درجة متناسبة مع ذلك، وإذا لم يعمل فإنّه سيتوقّف في تلك الدرجة، ولم يكن سماحته ليتعرّض له أبداً. مثلاً، كان يقول له: عليك أن تصلّي صلاة الليل. فإن صلّى فبِها ونِعمت، وإلاّ إذا لم يصلّ فإنّه لم يكن ليفعل معه شيئاً.. لم يكن ليضربه بالعصا، ولم
يكن ليحرجه ويريق ماء وجهه أمام الآخرين.. لا تريد أن تصلّي فلا تصلِّ. أو كان يعطي بعض الأشخاص ذكراً ليؤدّوه، فمن كان يداوم عليه ويلتزم بالدستور المعطى له فقد كان يتكامل ويترقّى، ولكنّه إذا لم يؤدّ ذلك، فإنّ سماحته ما كان ليؤاخذه ويعاتبه أن: لماذا لم تؤدّ ذكرك؟! وحيث أنّك لم تؤدّ ذكرك فلا يُسمح لك بالمشاركة في الجلسة! كلاّ لم يكن الأمر كذلك، ولكن إذا قام ذلك الشخص بأداء دستوره فإنّ السيّد العلاّمة كان يعطيه مطالباً أخرى أعلى وأرقى، وهكذا كان يرتقي هذا الشخص حتّى تصل المسألة إلى إعطائه الأسرار، فكثير من أصدقائنا في ذلك الزمان كانوا محرماً لأسرار سماحته.. لقد كان يخبرهم بأمور لم يكن ليجرؤ على قولها للآخرين!! وقد ذكرت مراراً أنّ هناك العديد من المسائل التي لم أذكرها لأحد، وهم الذين علّموني إيّاها، فهم كانوا يخبرون الحقير بتلك الأمور، ونحن بدورنا ينبغي أن نحفظها..
ونحن نعلم من هم هؤلاء.. هؤلاء هم الأذكياء.. هؤلاء هم الذين يريدون أن يستفيدوا من أيامهم.. لم يريدوا قضاء أوقاتهم بالقيل والقال.. وكنا نذهب إلى هؤلاء ونخالطهم، ونستفيد منهم، لكن كان هناك الكثير من الأشخاص الذين كانوا يلعبون، وكان هناك الكثير من الكلام.. كان أكثرهم يسعون وراء المُبررات والإشكال والاشتغال بمسائل جزئية.. وكانت تجري الكثير من هذه القضايا والمسائل. وكان المرحوم العلامة ـ طبقاً للمسألة التي ذكرتها لكم ـ يتعامل مع الأشخاص بناءً على تلكما المرتبتين.. حيث طرد الكثير من الأشخاص الذين تجاوزوا الخط الأحمر لديه، كما أن الكثير من الأشخاص بقوا في مرتبتهم دون أن يترقوا ولو بمقدار بسيط، واستمروا على تلك الحالة إلى حين وفاتهم، لكن بعضهم استفاد.. وهذه الاستفادة كانت على مراتب؛ فبعضهم استفاد بمقدار متر، وبعضهم مترين وبعضهم ثلاثة أمتار وهكذا... فقد ترقى بعض الأشخاص بحسب سعتهم وظرفيّتهم، ولم يكن يبخل عليهم بالاهتمام. وقد أوصاني مراراً في حياته بأن لا أقصر أبداً في مراعاة المطالب التي كان يشير إليها، حيث كان يرى أني أردت التخفيف من حِدّة التعاطي مع الرفقاء، وأتعامل معهم بشكل لطيف، فأوصاني بهذه الوصايا، بل إنّه قبل وفاته بثلاثة أشهر ذكر بعض المسائل الأخرى، وممّا أكد على الاهتمام به: هو أنّه إذا شعرت بأن علاقتك بالآخرين مضرة لك فاقطع تلك العلاقة.
على الإنسان أن يمضي في طريق الحقّ وأن ينفّذ تكليفه مهما كان الثمن المدفوع
الجميع يعلم ما هي المسائل التي وقعت بعد وفاته، وقد وصلتُ مع تلك الأحداث إلى حد الهلاك؛ بسبب ما حصل من أمور ومسائل وانحراف بدرجة مائة وثمانين درجة، وما زال الأمر كذلك إلى وقتنا هذا، والحمد لله في كلّ يوم تفتح وردة من وردات هذا الروض وتُثمر.. وبناء على ذلك، فقد كان سعي الحقير متوجهاً إلى اختيار منحى آخر، وذلك بعد ثلاثة أو أربعة أيام من وفاته، حتّى لا أُضايق أحداً من الرفقاء.. وكان الوالد قد أمرني قبل وفاته بالبقاء في قم؛ حيث كنت فيها في السنوات الثلاث الأخيرة من حياته، وما دام لم يأت دستور جديد، فعلى الإنسان أن يعمل طبقاً لتكليفه السابق. وفي نفس الوقت منَّ الله علينا بالتوفيق لمرافقة ومصادقة الإخوة والأحبّة، وأشكر الله تعالى على أنّه وإن كان لدينا الكثير من المشاكل، لكن في المقابل عوضنا الله بهذه العلاقة مع الإخوة، الذين أقول فيهم أن عيبهم الوحيد
أنهم لم يروا المرحوم العلامة في حياته.. عيبكم الوحيد هو هذا، إذ من الحيف أن لا تكونوا قد التقيتم به في حياته. لكن من جهة أخرى أرى أنه لا فرق عنده بين الحياة والموت، إذ أولياء الله لا فرق بين حياتهم ووفاتهم، والآن أنفاسه مُمِدّة ومُؤيّدة لنا جميعاً. وهذا من الأمور الواضحة في وجوه الذين لا يريدون أن يلعبوا.. إذ يأخذ أولياء الله بأيديهم ويدلّونهم على الطريق ويحلون مشاكلهم ويرفعون موانع طريقهم ويهيؤون السبيل أمامهم، وهذه المسألة واضحة جداً بالنسبة إليّ فيما يرتبط بالإخوة.
لذا بعد وفاة المرحوم العلامة، وبناء على ما كان قد أوصى به الحقير، قمنا بالعمل على طبق ذلك، وتنحينا جانباً مع الكثير من المصاعب التي كانت موجودة، وقد خسرنا في هذا المسير الأصدقاء المقربين لنا!! الذين كان بيننا وبينهم عهد على التعاون واستمرار مسير الوالد، لكنهم خذلونا وتركوا ظهورنا خالياً من الحماية. أما نحن فلن يثنينا ذلك، إذ ما دام الإنسان يرى المسألة واضحة أمامه عليه أن يمضي قدماً؛ سواء خذله الناس أم لا، وعليه أن لا يرتب أثراً على ذلك أبداً. ألم يبين ذلك في كتاب «الروح المجرد»؟! إن جميع ما صرح به في هذا الكتاب دستور يجب العمل به نقطة بنقطة، وقد نقلت للإخوة بأني قلت له في لقاءٍ معه: بأني أطلق على هذا الكتاب اسم «قانون السلوك»، فضحك وقال: اسم حسن. لم يذكر العلامة في هذا الكتاب قصصاً أو ينقل تاريخاً، بل جميع المسائل المذكورة فيه تتناسب مع كلّ ظرف وموقع.
لقد ذكرت للإخوة بأن القرآن بكل آية من آياته.. خلافاً لما يدعيه بعض الأفراد الجاهلين من أن آيات القرآن عبارة عن تاريخ وقصص عن الماضي؛ كقصة النبي يوسف وقصة النبي يعقوب والنبي إبراهيم وغيرهم، وإذا كان قصصاً فما علاقتها بنا، وهذا الأمر خطأ، بل هذه القصص ترتبط بنا مباشرة.. إذ كلّ منا عبارة عن يوسف وكل منّا مبتلى بابتلاءات يوسف والامتحان الذي جرى على أولئك.. وكلّ منا عبارة عن إبراهيم، وكلّ منّا عبارة عن هاجر وإسماعيل، وكل منّا عبارة عن نوح، وكلّ منّا عبارة عن فرعون ونمرود.. يمكن أن نكون جميع هؤلاء. فالقصص القرآنية لم تذكر دون وجود حكمة فيها.
وكذا المطالب التي ذكرها المرحوم العلامة في الروح المجرد لم يذكرها دون غاية ودون حكمة، فهذه القضية التي يذكرها السيد الحداد من أن السيد محمد حسين يجب أن يذهب أيضاً.. هذه القضية درس لنا؛ بأنه إذا كنت تعمل في سبيل الله وفقدت جميع أصدقائك بسبب ذلك؛ كأن يقول شخص لا أريد أن أصادقك.. فعليك أن تقول حسناً! اذهب في أمان الله.. واذكرنا في دعائك.. وإذا قال فردٌ: أنا لا أرتاح إليك، فدعه وقل له رزقنا الله وإياكم حسن العاقبة.. فلماذا نأتي ونشتم ونسب بعضنا؟ بل قُل: في أمان الله والسلام، إذ إنّ أحدهم قد يريد والآخر قد لا يريد.
وكان الحاج... الذي ذكر اسمه في هذا الكتاب.. يتحدث مع السيد الحداد دائماً ويقول له: لقد ذهب فلان وذهب فلان!! وقد شاهدت هذا الحاج بنفسي عندما يعلم بأن فلاناً ذهب كان يحرك رأسه تأسفاً، ويتعجّب من ذلك ويقول: عجب عجب.. والآن عندما أفكر في ذلك أقول لا داعي للعجب، ماذا يعني التعجب من ذلك؟ دعه يذهب حتّى يبارك الله في عمره، ويمنحه الخير في الدنيا والآخرة.. فليذهب وليهتم بحياته وعمله.. فهل لدينا تحميل على أحد أو
إجبار؟ تلك المطالب التي ذكرها المرحوم العلامة لم يذكرها كقصة، بل ذكرها لأنها قد تحصل مع كلّ واحد منا، لذا علينا أن نلتفت إلى ذلك.. لقد جرّبنا هذا الأمر، حيث كنت في منزل المرحوم السيد الحداد في ذلك الوقت، عندما رأينا أنه قد تخلى عنه أعز أصدقائه، وأقرب رفقائه.
رحم الله المرحوم الشيخ بيات فقد كان رجلاً عظيماً ومثابراً، وكان صاحب تجربة، وبحسب نقل المرحوم العلامة كان لديه تجربة سلوكية بعدد كلّ شعرة بيضاء في وجهه ورأسه.. رحمة الله عليه.. كان يقول: كنت أحبّ أحد الأشخاص، وكان عزيزاً عليّ وقريباً منّي.. بحيث أنّي كنت مستعداً أن أضحي بابني شرط أن لا يحصل بيني وبينه فراق.. إلى هذا الحدّ وصلت العلاقة بينهما. ولكن ذلك الرجل انفصل عن المرحوم العلامة، وكان في همدان، وشرع بالكلام عليه.. حيث قال: بأنا لم نجد من السيّد محمد الحسين شيئاً، أو أنّه رجلٌ لا يمتلك شيئاً، أو أنه هل من ضرورةٍ لاتّباعه.. وغيرها من الأمور التي كانت تحصل معه.. وقد ذكر بعضاً منها في «الروح المجرد»، لكن ما لم يذكره والذي شاهدناه منه أكثر بكثير ممّا ذكر..
والحاصل أن ذلك الرجل انفصل عنه، لكن الشيخ بيات كان يقول: إنّ محبة هذا الرجل بقيت في قلبي ولم تكن تذهب أبداً.. فمع أنه انفصل وينبغي أن تنقطع محبته من قلبي.. فعندما ينقطع الشخص عن أستاذه لماذا تبقى محبته في قلبك؟ بل يجب أن تقطع محبته من قلبك، لكن كان يقول: لا تذهب محبته من قلبي.. إلى أن قال: أتيت مرّة من همدان إلى منزل المرحوم العلامة، وبعد أن رجعنا من المسجد وجلسنا في المنزل.. وتحدّث المرحوم العلامة بأمر، ففهمت من ذلك الأمر أشياء.. حيث قال المرحوم العلامة: أتى رجلان إلى مشهد للقائنا، وكلا هذين الرجلين توفي الآن، وكان أحدهما صاحب الفتنة بعد السيد الحداد، وهو السيد الهندي الذي جمع الناس حوله، حيث ادّعى الاستقلال وعدم الحاجة إلى أستاذ، وأمثال ذلك.. وفصل الناس.. وعندما كان في كربلاء كان تلميذ السيد عبد الغفار المازندراني.. أتى إلى منزلنا مع سيّد آخر كان أفضل منه حالاً، لكن على كلّ حال كانا من وادٍ واحدٍ.. وذكر أمراً.. وأذكر أنّي كنت عند ذكر هذا الأمر حاضراً في المجلس في المنزل الذي كنّا نستأجره في مشهد لقضاء شهر في الصيف هناك في عهد الشاه، وكنت صغيراً حيث كان عمري حوالي اثني عشر أو ثلاثة عشر عاماً.. فنقل عن ذاك السيّد:
«أنّ ثعلباً مرض ولم يكن قادراً على الصيد والافتراس، وكاد يموت جوعاً، فقال في نفسه إني أموت.. ماذا يفعل الآخرون في مثل هذه الحالة؟ ماذا يفعل الأسد؟ عندما يريد الأسد أن يصطاد ينفخ صدره فترتفع أوباره ويزأر فيرعب فريسته ويهجم عليها ويفترسها، وأنا ينبغي أن أكون كذلك.. ماذا ينقصني حتّى أكون مثل الأسد؟ لوني.. ووبري.. وجلدي.. فرأى فيلاً قادماً فنفخ الثعلب صدره وهجم على الفيل.. فما كان من الفيل إلا أن حرك خرطومه ورماه بعيداً...
عزيزي ذاك الذي ينفخ صدره ويزأر ويهجم على الفريسة أسدٌ.. لا ثعلب يمثل نفسه على أنّه أسد.. ».
عندما نقل ذاك السيِّد [الهندي] هذه القصة كان مراده الطعن على أستاذ المرحوم العلامة والتجرؤ عليه[أي: السيّد الحداد رضوان الله عليه]؛ بأنّه يريد أن يقوم بما يقوم به العظماء وأولياء الله.. فقال المرحوم العلامة: عندما سمعت هذه القصة منه فجأة انغلق قلبي اتجاهه، وأما ذاك السيد الآخر فأمره مختلف.. لكنهم مع ذلك كانوا يتعاملون مع هذا السيد على أنه
شمع محفلهم، وأنّه كان يقرأ الفاتحة على مريض فيشفيه وغير ذلك.. وكان المرحوم بيات ينقل هذه الواقعة لي، فقال: عندما قال المرحوم العلامة: «بأن قلبي انغلق بعد سماع تلك القصة»، شعرت بأن قلبي أنا أيضاً انغلق بالنسبة إلى ذاك الشخص الذي كنت أحبّه ولم يكن يخرج من قلبي، فلم يعد في قلبي كما كان، وكأني لم أكن على علاقة به أبداً، وكأنّه لم يكن رفيقاً لي، ومنذ تلك الليلة شعرت أن صلاتي اختلفت.. (هذه هي المسألة).. حيث لم يكن ذاك الرجل يدعني أتقّدم، بل كان تلك المحبة تقطع الطريق أمامي.. فرأيت أن صلاتي وأحوالي تغيّرت بشكل كامل منذ ذلك الوقت؛ وكأنّ السماء انفتحت في وجهي.. فانكببت أقبّل يدي المرحوم العلامة ورجليه.. فقال له العلامة ماذا تفعل؟ قال مهما أفعل فهو قليل.. فلقد جعلتنا ننجو..
على الإنسان أن يمضي في طريق الحقّ دون الالتفات إلى الآخرين
ما هي هذه المسائل؟ هذه الأمور تنفعنا.. الإنسان يختار في حياته مسيراً ويتقدّم على أساس ذلك المسير.. (التفتوا إلى ما أريد أن أذكره لكم!!).. هذا المسير الذي يختاره الإنسان عليه أن يمضي دون أن يلتفت إلى كلام هذا، ولا إلى كلام ذاك، فكلُّ شيء ينفعه يأتي به، وكلُّ ما لم يكن نافعاً يرحل عنه.. ليس عليَّ أن أنظر إلى ردود فعل الآخرين؛ هذا يعجبه هذا الأمر، وذاك يزعجه.. الطريق الذي بيّنه لنا العظماء ـ لا الحقير ـ ذاك الطريق علينا أن نمشيه وننطلق.. فإنّ كان شخص موافقاً له يأتي ويتبعنا، فلماذا أتحسّر عليه أنا، ولماذا أتلف أعصابي لأجله؟ من قال لي ذلك؟ بل لديّ نهي عن هذا الأمر، لا أنّني لم أكلّف بذلك وحسب بل هناك نهي عن الالتفات إليه.. كلّ من لا يتوافق مسيره مع هذا الطريق يرحل بنفسه.. لماذا أتحسّر؟ أليس الله موجوداً؟ أليس إمام الزمان موجوداً؟ ألا يوجد لدينا ملائكة أيضاً؟ فلماذا نتحسر على هذا الأمر؟ ولماذا نتكلّم بذلك؟ لماذا نصرف أوقاتنا بالكلام حول أن فلاناً رحل وفلاناً أتى وفلاناً تراخى أو اشتد..؟!
في الكلام الذي ذكرته في مدينة كرج كان مرادي هذا الأمر، وهو أني أشعر منذ مدّة بأنّي ـ لا سمح الله ـ أعمل على خلاف ممشى المرحوم العلامة ورأيه، وأني في علاقتي مع الرفقاء والإخوة أعمل على خلاف المسؤولية الملقاة عليّ، والسبب في ذلك ـ لا أريد أن أتجرأ على أحد لكن المسألة تقتضي الكلام بوضوح ـ هو أن هناك أشخاصاً يشعرون واقعاً بأنهم مرضى ويسعون لأخذ الدواء، ويمكن أن لا أعلم بهم أنا؛ ولا أعلم بما يجري في نفسه وفي قلبه.. وفي فكره.. وكل منّا يشعر بهذا الأمر.. إذ لكل شخص علاقة بينه وبين ربه.. فالشمر له علاقة بينه وبين ربه، مع أنّه قد أنزل هذه العلاقة إلى نهاية الضعف والبعد، لكن مع ذلك علاقته بالله لم تذهب، وإلا إذا ارتفعت العلاقة فسوف يُعدم.. نعم علاقته علاقة بعد وابتعاد ولعن.
كلّ شخص لديه علاقة بينه وبين ربه، وهذه العلاقة ليست بيدي ولا بيد أحد آخر غير الشخص نفسه، فلا نُلقي بالمسألة على الله تعالى.. فأنا الآن أتيت إلى هنا باختياري، وأنتم أتيتم باختياركم، وهذا ممّا لا شك فيه.. فلو شِئت لما أتيت.. لقد كنت في طهران اليوم مع صديقنا العزيز السيد... وشاركنا هناك في مجلس عزاء بمناسبة وفاة أم أحد الإخوة، وقلت:
علينا أن نذهب إلى المجلس الساعة الثالثة، ونتركه في الساعة الثالثة والنصف، لنصل إلى مجلس قم، والحال أنّنا لم ننم بعد الظهر ولم نسترح.. لكن بما أني وعدت الإخوة بالمجيء.. فقد تحمل السيد معنا هذه الدورة العسكريّة الشاقة، فجزاه الله خيراً.
كنت أستطيع أن أعتذر للإخوة وأقول لهم: نقيم الجلسة غداً.. لكن أتيت بكامل اختياري؛ حيث رأيت أنّ الإخوة لديهم همّة عالية ومستعدين لسماع المطالب وفهم الأمور، وهذه المسألة تفرض على الإنسان مسؤوليّة، فكما أن الإخوة يشعرون في أنفسهم بمسؤولية فيما يرتبط بسعادتهم وطريقهم.. فهذه المسؤوليّة ستتوجه إليّ أيضاً.. فذاك الذي ترك جميع أعماله ليأتي ويستمع إلى هذا الكلام، يفرض عليّ مسؤولية في المقابل على أن أجيبه وأضع بين يديه ما ينفعه.. وأعرّفه على المسير الذي يصلحه.. ولا ينبغي أن أقول: أتركه فالله يهديه.. جميعنا الله يهدينا.. وبناء على وجود هذه المسؤولية التي على الأشخاص يتوجّه إليّ مسؤولية بهذا المقدار.
فعندما يعتمد شخص عليّ في بيان هذه الأمور، يتوجّه إليّ مسؤولية جديدة.. وليته لم يعتمد عليّ.. فإن لم يعتمد فلا مسؤولية تتوجه إليّ.. بل يمضي في سبيله، ولا إشكال في ذلك، ولا أعود أفكر فيه.. إنّما أفكر فيه وفي مصلحته عندما يكون قد اعتمد عليّ، فإني بأي صفة كنت وتحت أي عنوان.. ففي النهاية يمكن أن يستفيد منّي ولو بكلمة أو أمر.. فقد توصّل إلى أني أمينٌ ـ بحد أدنى ـ في نقل المطالب ولا أخون في ذلك، مع غضّ النظر عن أعمالي السيئة وأخطائي التي أقترفها.. فهذا المقدار الذي تمّ فيه الاعتماد عليّ كافٍ في وجود مسؤولية عندي.
فإذا فرضنا أنّه كان هناك أفرادٌ يمكن أن يشكلوا تضاداً مع مسير هذا الشخص، فإنّ المسؤول عن ذلك هو الحقير، فإذا فرضنا أن شخصاً لا ينسجم مع هذا المسير وفكره لا يتوافق معه، فلا يقبل الأمور التي تُطرح هنا.. فتارة تكون المسألة مسألة عادية يرى نفس الإنسان ضررها بشكل مباشر، وقد ذكرت أنّه يكون من القسم الثاني الذي ذكرته في البداية، وتارة تكون الفعل الذي يقوم به والأمر الذي يفعله مضاداً لمسير سائر الأشخاص؛ كأن يُوجب لهم الشكّ والشبهة والإشكال.. بل قد يصل الأمر إلى أن يسدّ الطريق أمامهم، ففي هذه الحالة يكون قد تجاوز الخطوط الحمراء!!
وبناءً على ذلك، فقد تحدثتُ في ذلك المجلس وأكرر هنا بأن هذا الجمع يقوم على أساس الاعتقاد؛ وبأن يمكن أن يستفاد من هذه الجلسات بأمرٍ معين، فإذا فرضنا أن هذا الاعتقاد لم يكن موجوداً، فما المبرر لوجودنا في هذا الجمع؟ فإذا كان المفترض أن يكون الجمع على أساس هيئة وجماعة، فيمكن أن يكون هناك جماعات وهيئات أكبر وأشد حماسة من هنا، وهذا الأمر موجود في كلّ مكان، وإذا كان المفترض أن يكون المجلس عبارة عن اجتماع وقراءة بعض الأشعار السلوكيّة.. حيث يأتي بعض الناس ويطلب منّا ذلك، وقد طلب منّي أنه لماذا لا تأتي إلى طهران وتشارك في مجالسنا، إذ نرسل لك سيارة تأخذك من المنزل وإلى المنزل، وكنت أقول لهم لا مجال لدي.. وكانوا يصرّون على طلبهم.. لا جهة واحدة، بل أكثر من جهة.. ولعلّه طلب مني المشاركة في ستة مجالس أو سبعة مجالس من جهات مختلفة، وبعضها مختصّ بالنساء.. لماذا كانوا يطلبون منّا ذلك؟ فإذا كنتُ ابن العلامة الطهراني، فأي لزوم يفرض عليّ الذهاب إلى هناك؟ إذا كانت تلك المجالس قائمة على أساس التوهمات
والخيالات والنفسانيات فلماذا أذهب إلى هناك؟ ولماذا أضيّع وقتي في ذلك؟ لقد ابيضَّ شعري، ولم يعد لدينا وقت لهذه المطالب وإضاعة العمر فيها.
بعض الوصايا والتنبيهات للأصدقاء
لذا أقول لكم هذه المسألة بشكلٍ جادٍّ: إذا كان لدينا أشخاصاً واقعاً ـ وهذه المطالب ستصل إلى جميع الإخوة سواء داخل إيران أو خارجها!! ـ يريدون إعمال سليقتهم الشخصيّة فما علاقتنا بهم؟ فإذا قلتُ: بأنّه لا ينبغي التصفيق في مجالس الأئمة.. يُقال: بأنّ العديد من المراجع يجيزون ذلك.. ما علاقتي أنا بذلك؟ فهل سأوسّد أنا في قبرهم؟ أو أنهم سيوسّدون هم مكاني في القبر؟ كلّ شخص له فتواه ورأيه الخاص.. وقد يرى بعضهم: أنّه لا إشكال في الرقص في مجالس الأئمّة، وقد أفتى بعضهم بذلك: في عيد مولد السيّدة الزهراء عليها السلام.. لا إشكال في ذلك!! أو أن يُقال الذي يقوم بهذا الأمر لا يقلدك.. لا إشكال فليفعلوا ذلك، لكن لا ينسبوا هذا المجلس إليّ!! فكلُّ شخص يعمل بمقتضى فتوى مرجعه ومقلده، ولا ضرورة لانتساب الأمر إلى الحقير. لكن المجلس الذي يكون مرتبطاً بالحقير لا ينبغي أن يكون فيه تصفيق.. مجالس الأئمة لا ينبغي أن يكون فيها تصفيق. نعم إذا كان ذلك بشكل بسيط وهادئ وفي مجلس النساء، فلا إشكال فيه، أما إذا كان بشكل عال فهو إهانة. إذ مجلس الإمام يختلف عن مجلس غير الإمام.. التصفيق في مجلس الإمام يندرج تحت عنوان الإهانة ـ أنا لا أقول: إنّه حرام ـ والاحتياط يقتضي عدم الإتيان به.
وهكذا في سائر المسائل الأخرى؛ المشاركة في ذاك الأمر.. الدخول إلى تلك الإدارة.. المشاركة في بعض المعاملات.. والتي قد لا يرى الآخرون فيها إشكالاً، لكن إذا كان الشخص في مثل هذا الفضاء فالدخول في هذه المسائل يعدُّ خطوطاً حمراء، ولا ينبغي لأيّ شخص أن يتعدى الخطوط الحمراء.
في المسائل التي يفتي بها البعض، لا نعترض عليهم في ذلك، نعم من الناحية الفقهيّة لا قيمة للفتوى، القيمة إنّما هي للمعصوم فقط، والفتوى عبارة عن رأي الحقير، رأيي اليوم هذا، وغدا قد يختلف. وإذا كان للفتوى قيمة فهي بسبب انتسابها لروايات المعصوم، نعم، لها حجيّة شرعية من باب الضرورة إليها، لكن الكلام في القداسة والطهارة والقيمة الذاتية.. وهذه الأمور مختصة بكلام الإمام المعصوم فقط. لذا الروايات اللفظية لها قداسة وطهارة أكثر من الروايات المنقولة بالمعنى؛ لأنّ الروايات المنقولة بالمعنى تتأثر بالراوي؛ مثلاً: الإمام يذكر كلمة «إن» بعد الكلام، بينما الراوي يأتي بها أوّلاً، أو أن الإمام يعطف بالواو، بينما هو يعطف بالفاء.. كلّ هذه الأمور تترك أثراً، فعندما يقول الإمام فاء تكون الفاء صحيحة، وعندما يقول واو تكون الواو صحيحةً وهكذا.. لكن أبا بصير قد يغير الكلام ـ لا عن قصد ـ ويجب علينا أن نأخذ بروايته؛ لأنّه لا مناص عن الأخذ برواياته. لكن إذا كان الإمام موجوداً فلا بد من الأخذ بكلامه مباشرة. وبما أنّ هذا الكلام مرتبط بالإمام عليه السلام حتّى لو كان نقلاً بالمعنى فهو مقدّس من الناحية الشرعية، وله قيمة ذاتية، أما الفتاوى فلا تتمتع بهذه القداسة.
تلك المطالب التي أعرضها أمام الإخوة هي ما سمعته من العظماء، وفي يوم القيامة يمكن أن أتحمل مسؤولية ذلك وألقيها بعهدة المرحوم الوالد وسائر العظماء. لكن إذا قيل: سوف نفعل هذا الأمر في المكان الفلاني، فلا يمكنني أن أتحمل مسؤولية ذلك، بل المسؤولية تكون بعهدة هؤلاء الأشخاص أنفسهم. والأشخاص الذين يقلدون فلاناً أو فلاناً لا علاقة لهم بي، فهم يعرفون تكليفهم ومسؤوليتهم. وبناء على ذلك، فإذا كنا نشعر بأنه يمكن أن نحصل على جوٍّ أفضل من هذا الجوِّ الموجود في مكان آخر؛ كأن يصل بعض منا إلى أنه لماذا نتبع السيّد محمّد محسن ففي كلّ يوم يأمر بأمر؟! و.. بل نذهب ونأخذ الأذكار وحدنا من كتاب «الروح المجرد» أو من أماكن أخرى... فإذا كان هذا الأمر ممكناً فلماذا لا نقوم به قبل أن تصل الأمور إلى حدٍ غير مناسب؟ قبل أن نتكلم بكلام، فالحقير سيستمر في مسيره ولا يمكنه التوقُّف عن هذا المسير، إلا أن يقال لي: قف! أو عُد! وهذا مطلب آخر. لكن المطالب التي أذكرها للإخوة ليست عبارة عن فكرة عابرة، بل هي عبارة عن فكرة مستمرة منذ زمن المرحوم العلامة إلى الآن، غاية الأمر أنها الآن صارت أشد وأكثر صلابة، وسوف تستمر على هذا الأساس.
فعندما يكون الأمر كذلك يمكن للشخص أن ينسحب من هذا المسير بشكل هادئ، ويسعى وراء الأمور التي يفهمها ويعرفها، وقد فعل هذا الأمر الكثير من الأفراد. ولا شأن لنا بهم، ومن جهة أخرى لا مبرر لقطع علاقة السلام بهم، بل عليه أن يسلم عليهم ويسأل عنهم.. لماذا يشتمهم الإنسان؟ ولماذا يقول فيهم ما لا يليق؟ بل قد يكون عمل ذلك الإنسان هو الصحيح، لا عملي، وقد يكون مسيره هو الصحيح، من يعلم؟ لكن عندما يكون لدى الحقير يقين بأمر، فأنا مكلّف بيقيني، ولا بد من إبراز هذا التكليف. هذه مسألة ترجع إلى الحقير والإخوة جميعاً.
مدرسة العرفان هي مدرسة إمام الزمان عليه السلام، وهي الأكثر تحمّلاً للمسؤوليّة تجاه الولاية
هذه المسألة هي المسألة المهمّة، وإن كان لدينا بعض المسائل الأخرى التي سمع بها الإخوة، لكن لا بأس بعرضها ثانياً بشكل مجمل، إذ قد تتضح بعض الأمور من خلال ذلك. على كلّ حال لا بد من التعامل مع المباني بجديّة وصلابة، ولا بد من أخذ الأمور بشكل جادٍّ، وإذا أراد الإنسان أن يتقدم فلا بد أن يأخذ الأمر بجديّة.. هذه المدرسة مدرسة أهل البيت وهذه المدرسة مدرسة إمام الزمان عليه السلام، ولا يوجد أحدٌ أكثر اهتماماً وحرصاً من إمام الزمان على هذه المدرسة، ولا يوجد مدرسة في العالم كهذه المدرسة تتحمّل مسؤولية الولاية بروحها، ولا يوجد أحد أشدُّ حرصاً على تثبيت الولاية من أفراد هذه المدرسة. والإخوة يشهدون بذلك، فالحقير لا يحاول أن يمدح نفسه بهذا الكلام، بل الحقير هو فردٌ من هؤلاء الأفراد، فعندما رأيتم أنّه تمّ تأليف كتاب عن حياة المرحوم العلامة، وأنّهم طبعوا «ببلوغرافيا» عن المرحوم الوالد، وذكروا فيه العلّة من عدم ذكر الألقاب هناك. فماذا
قلتُ؟ ذكرتُ في مقدمة كتاب «مطلع أنوار»۱ أنّ هذا القول خيانةٌ للمرحوم العلامة ولمدرسته، فإنّ رأي المرحوم العلامة بالنسبة إلى هذه المسألة هو هذا الأمر، وقد كتب المجلد الثامن عشر من «معرفة الإمام» لإثبات ذلك، وصرّحتُ بهذا الأمر، وقيل لي ماذا سيحصل من هذا الكلام..؟!! وغير ذلك. لكن لم يحصل شيء، وليكن ما يكن، فهل علينا أن نكون خرساً؟ وهل علينا أن نسكت عن كلّ ما يجري أمامنا؟ إذا كان كذلك فما الفرق بيني وبين هذا الجدار؟ أي شخص يهرب من بيته ومن قريته يأتي ويكتب لنا قانوناً يُلزمنا به، وعلينا القبول بذلك، لا ليس الأمر كذلك! إذا كان الآخرون يسكتون عن تكليفهم ولا يعملون بمسؤوليتهم، فلا يعني أنّه يجب أن أسكت أيضاً؛ إذ بعضهم يأنسون بالسكوت.
لا يوجد عندنا مدرسة تدافع عن أهل البيت وعن ولاية أهل البيت كهذه، انظروا إلى الذين يدافعون عن أهل البيت واقرءوا المقالات التي كتبت في ذلك واسمعوا ما يقال في ذلك؛ انظروا كيف يتم تعريف إمام الزمان، وكيف يقدّم أمير المؤمنين؟ اسمعوا ذلك واقرءوه وتعالوا وانظروا ما كتبه وقاله المرحوم العلامة وقارنوا بينهما، وعند ذلك نفهم ما هي المسؤولية التي تحملتها هذه المدرسة بالنسبة إلى أهل البيت عليهم السلام، وعند ذلك نفهم الكلام الذي ذكره من أنّ: «أفضل كتاب عندي هو كتاب «معرفة الإمام»، حيث عملت على تعريف الإمام الذي تم نسيانه في حياة الناس». وعليه فلا حاجة لكي يأتي بعض الأشخاص ويوصونا باتباع مدرسة أهل البيت، بل نحن نتّبع أهل البيت بالمقدار.. ليس المقدار المطلوب؛ إذ أيدينا ممتدة إلى صاحب الزمان، لكن نقول: بأنه إن لم يكن أفضل من الآخرين في تحمل المسؤولية اتجاه أهل البيت، فلسنا أقل منهم. لكن الذي لدينا هو العمل على تربية الشيعي مع الفهم، لا الشيعي الجاهل.. قلبنا يحترق أكثر من الآخرين على أهل البيت وإمام الزمان.
بعض الوصايا والتنبيهات للخطباء والمبلّغين في مجالس سيّد الشهداء عليه السلام
أوّلاً: ينبغي إبراز عاشوراء الفهم والعقل والمعرفة لا عاشوراء الإحساسات والوهم!
إنّ الذي ينبغي أن نقوله: أيُّ عاشوراء هي التي نريد أن نبرزها لأهل العالم؟ عاشوراء التي تعكسها هذه المدرسة أو عاشوراء التي تعرضها سائر المدارس وتروج لها؛ والتي تكون فقط عبر الضرب واللطم وإخراج الدم وتمزيق الثياب؟ أم عاشوراء التي يستخرج منها الفهم وعقل والمعرفة والتي يتم التعرف فيها على الحسين عليه السلام؟ عاشوراء التي ينبغي أن تعكسها هذه المدرسة هي الثانية.. وفي كلمة بديلة: هل المراد ترويج الإحساس والشعارات،
أم ترويج العقل والعلم والمعرفة؟ هذه المدرسة هي المدرسة التي تسعى لتثبيت المعرفة بالأئمّة عليهم السلام.
وبناء عليه، فالمطالب التي ينبغي أن تذكر في هذه المجالس يجب أن تكون منطبقة على ما ذكره العظماء.
ثانياً: ضرورة رعاية مسألة عدم الاختلاط بين النساء والرجال أشدّ مراعاة
من الموارد التي ينبغي الاهتمام بها في مدرسة المرحوم العلامة، مسألة عدم الاختلاط بين النساء والرجال، حيث كان يقول: ينبغي أن لا يحصل اختلاط بين الرجال والنساء. إذا كان الخطيب يتحدّث ينبغي أن لا يكون أمامه نساء، بل يمكن أن يكون النساء في مكان آخر يسمعون كلامه. وكذا غرفة الدرس، فما المُبرّر لمن يلقي الدرس أن ينظر في عيون النساء أثناء الدرس؟ لماذا؟ بل يمكن أن يكون في مكان آخر وهُنّ يستمعنَ إليه. أعتقد بأنه جرى التسامح بهذه المسألة.
لكن! مِن هذه الليلة أخاطب جميع الإخوة الذين هم من أهل العلم وينتسبون للحقير بأنه ينبغي أن لا يكون هناك اختلاط أبداً في المجالس؛ سواء في مجالس الدرس أو الخطابة أو أي مجلس آخر! يعني: إذا هناك درس لعدد قليل؛ بعضهم نساء وبعضهم رجال، فلا بد من جعل ستارٍ بينهم، بحيث لا يمكن للرجال أن يروا النساء ولا للنساء أن يرين الرجال؛ كأن يكون الرجال في غرفة والنساء في غرفة أخرى ويستمعون إلى الدرس أو إلى مجلس العزاء عبر الميكروفون، وكذا الأمر إذا كانت الجلسة فيها سؤال وجواب.. بحيث لا يحصل اختلاط ولا تَقَابُل بأيِّ شكلٍ من الأشكال. وإذا كنت قد أجزت لأحد حتّى الآن بخلاف هذا الأمر، فمن هذه الليلة جميع هذه الإجازات ملغاة. نعم، هناك بعض الحالات الخاصة الاستثنائية، وفي هذه الموارد سأذكر بنفسي للشخص المعني بهذا الأمر بشكل مباشر، ولا ضرورة لأن يعلم بها أحد. فإذا قام أحد الإخوة خطيباً، يمكن أن يكون النساء في مكان والرجال في مكان.. كما نفعل نحن، وكما كان يفعل المرحوم الوالد، وكذا كان يفعل في مسجد القائم؛ حيث كان النساء في الطابق العلوي والرجال في السفلي، وكان النساء يستمعن لكلامه. أو في غرفة الدرس.. فإذا استطاع الإنسان أن يحافظ على هذا الأمر، وإلا فليعطل الدرس.
لا ينبغي أن يكون هناك إرسال رسائل عبر الهاتف [الموبايل] بين الرجل والمرأة، وهذا الأمر لجميع الأفراد، فإذا كان لدى امرأة عمل مع رجلٍ معينٍ، فما المبرر لإرسال رسالة له على هاتفه؟ أليس لهذه المرأة زوجٌ، فلترسل رسالةً عبر زوجها، فلتقل الزوجة لزوجها أريد من هذا الرجل قطعة قماش مثلاً من ذاك البائع، فليرسل زوجها الرسالة له، فما المبرر لتتكلم هي معه... ولماذا يتكلم الرجل مع امرأة متزوّجة؟ لماذا تسأل المرأة عن أمور عبر الرسائل، إذا كان لديها مسألة تكتبها في ورقة وترسلها، فلا حاجة لتتصل هي مباشرة أو ترسل رسالة عبر الهاتف.. وأمثال ذلك.
بناءً على ذلك، إذا كان لدى المرأة زوج، فلا بد أن يكون زوجها مطلعاً على ما تريده، وهو الذي يسأل حول تلك المسألة الشرعيّة، وإذا لم يكن لديها زوج، فيمكنها أن تصل إلى ما تريده عبر والدها أو أخيها أو عبر رجل من أرحامها أو عبر أُمّها... والارتباط المباشر بين الرجل والمرأة في جميع حالاته حرام.. قبل عدة أيام قال لي أحد الإخوة في طهران: بأنا دعونا لإقامة مجالس عزاء، لكن مجلسنا لا يمكن الفصل بين الرجال والنساء، فقلت له:
فليعَطَل المجلس.. وعندما تستطيع الفصل وسمحت لك إمكاناتك أقم المجالس، وإلا فلا، فليس ذلك واجباً.. هذا خط أحمر!!
ثالثاً: وجوب الاحتياط الشديد في موارد الكلام، وخصوصاً اجتناب الغيبة والمزاح الفاحش
من جملة الموارد التي ينبغي لفت نظر الإخوة لها هي أني أشعر منذ مدة بأنه ينبغي أن نلتفت أكثر إلى ما يصدر من لساننا.. فيما يرتبط بأعمال الآخرين وأمور الآخرين، نجلس ونتحدث عن هذا وعن ذاك.. هذه الأمور تكشف عن أننا لا نريد أن نقوم بما ينبغي علينا.. ما علاقتنا بما يقوم به فلان أو فلان، ما التأثير السلبي الذي تتركه الغيبة علينا؟ دعنا عن مسألة الافتراء والبهتان فلا ينبغي الكلام فيها أبداً، كلامنا عن الغيبة فقط. لماذا يغتاب الإنسان، ويقول فلان فعل هذا؟ أيهما أكثر فائدة لي: إذا علمت بأن فلاناً عمل عملاً حراماً، أو إذا لم أعلم؟ حتماً عدم العلم، وعندئذٍ لا ينشغل ذهني ولا فكري، فأستطيع أن أصلي وأقرأ القرآن وآتي بالذكر بدون أي شاغل لذهني. لكن عندما أستمع الغيبة وأريد الصلاة تأتي هذه الأمور إلى الذهن؛ بأن فلاناً كذب في كلامه، وفلاناً فعل هذا الحرام... ما الفائدة التي نحصل عليها من ذلك؟ هذه المسألة تؤدي أولاً إلى تلويثنا وحرماننا من الفيض، وثانياً تؤدي إلى نقل سوء الظن بالأخ إلى الآخرين، فتتكدر الأمور وتتعكّر الأجواء.
في زمن المرحوم العلامة لم نكن نراه يفعل هذا الأمر.. لم يكن يغتاب أو يتكلّم على أحد، ولم يكن يتحدث بشكل غير مناسب على أحد. بينما الآن صرنا نتصور ـ وإن كان هذا الأمر موجودٌ سابقاً أيضاً ـ بأن كلّ من كان أقرب إلى هذا المسير يتكلّم بكل ما يأتي على لسانه.. يرى بأن هذه هي علامة القرب؛ حيث وصل الأمر بالبعض إلى حدّ أنه لو كان لديه مقدار من الأدب قبل المجيء إلى هنا، يتخلّى عنه عند مجيئه.. لماذا يحصل هذا الأمر؟ لماذا لا ينبغي علينا أن نحتاط في كلامنا وفي مزاحنا إذا كان كلاماً مخالفاً؟ وكذا في الرسائل التي ترسل عبر الهاتف؛ حيث أرى الكثير من المسائل السخيفة والقبيحة فيها؟ والحال أن لدينا طرقاً كثيرة أخرى في التعبير عن المزاح، فلماذا نستخدم هذا النوع من المزاح السيئ وغير المؤدّب في علاقاتنا.
هل تعرفون أيها الإخوة ما الأثر السيئ الذي يتركه هذا النوع من الكلام؟ أثر هذا الكلام السيئ يؤدي شيئاً فشيئاً إلى طرد الملائكة، الملائكة تفرّ من الكلام البذيء.. الملائكة تفر من المزاح الذي يؤذي الإنسان. أنا لا أبالغ لكم في هذه الأمور، بل الواقع هو هذا. ما الإشكال في أن نبرز العلاقة الوطيدة فيما بيننا عبر عبارات وأعمال أخرى غير هذه؟ ليس هناك ضرورة في أن يمزح الإنسان مع أخيه بخصوص هذه المطالب... بعضهم يعتقد بأن عليه أن يقوم ببعض الأعمال السيئة كي يبعد الناس عنه، وهؤلاء يسمون "الملامتية".. لا حاجة إلى هذه الأمور. بل هذه المطالب التي نذكرها إذا عمل بها الإنسان لا داعي لسلوكه طرقاً أخرى.
كنت أرى في زمن المرحوم العلامة بعض الأشخاص الذين كان يوصيهم بالسكوت في مجالسهم، لكنهم كانوا بعد الانتهاء من جلستهم يشرعون بالتحدث بأمور سخيفة يخجل
الإنسان منها واقعاً، وكانوا يبررون ذلك باسم العلاقات الوطيدة بين الإخوة، وإذا أراد شخص أن ينكر عليهم ذلك، كانوا يتهمونه بأنه يتدخّل في شؤونهم... يعني إذا أراد شخص أن يمشي في الطريق الصحيح، ويقول لهم: اعملوا بما أمركم به المرحوم العلامة، كانوا يعيبون عليه ذلك. وأذكر أنهم كانوا يطلقون على أحد الإخوة بأنه «أنتين هوائي».
إذاً من الذي عليه أن يطبق كلام المرحوم العلامة؟ كان يقول: لا تتكلموا بعد الصلاة! لكنهم كانوا يشرعون بالحديث بمجرّد الانتهاء من الصلاة. وفي يوم من الأيام غضب عليهم نتيجة ذلك ـ وكان ذلك بعد صلاة المغرب ـ فقال مغضباً: لمن أقول لا تتحدثوا بعد الصلاة؟ حيث كان يظن الأشخاص الذين في مؤخرة الجماعة أن أصواتهم لا تصل إليه، وحتّى لو فرضنا بأن صوتك لا يصله، لماذا لا تحافظ على الفوائد التي حصلت عليها من صلاة المغرب؟ هذه مسألة والمسألة الأخرى هي أن كلامك يسد الطريق أمام الآخرين الذين يريدون العمل بهذه الأمور، فإذا أراد فردٌ أن يعمل بوصايا المرحوم العلامة، فلماذا تمنعه أنت من ذلك؟ إذا كنت لا تريد أن تلتزم أنت فلا تلتزم.. بل اذهب وأقم صلاة جماعة لك وللأشخاص الذين هم أمثالك.. عند ذلك لا تتكلم فقط بعد الصلاة، بل قم وارقص وصفق وافعل ما يحلو لك.. لن يطالبك أحد بذلك.
لكن عندما يقول المرحوم العلامة لا تتكلموا بعد الصلاة، فإن أراد أحدٌ أن لا يتحدّث ويحافظ على حالة التوجّه لديه.. فحينما يبدأ بالكلام، يفقد حالة التوجّه عنده وعند الآخرين, وهذا يؤدي إلى تضييع الفائدة التي ينبغي استفادتها. وبناء عليه، ينبغي علينا أن لا نكون في علاقاتنا ـ لا قدر الله ـ موجبين لسدّ الطريق أمام الآخرين، فإن صرنا سداً أمامهم، فسوف يكون وزر ذلك ووباله علينا.
ومن جملة ذلك مجالس عيد الزهراء.. لماذا يحصل كلام فاحش في عيد الزهراء؟ يعني: هل الفحش حرام إلا في ذلك اليوم فيصير حلالاً؟!! هل الفعل القبيح قبل هذا اليوم حرام، بينما في هذا اليوم يصير كلّ فعل قبيح حلالاً؟! هذا خطأ، فالقبيح قبيح والصحيح صحيح، لا يختلف حاله أبداً. عادة في مثل هذه المجالس يظهر كلّ شخص هويته الواقعية.. فنحن نحاول أن نبرُز بشكلٍ جميلٍ، لكن ماهيتنا شيء آخر، فهذا المجلس عندما يقام يُظهر كلّ شخص ماهيته الحقيقيّة.
لقد شاركنا في مجالس عيد الزهراء في زمن المرحوم العلامة، وكان العلامة يضحك ويمزح، لكن شخصيته كانت ثابتة، لم يكن يتغير، كان يمزح ويضحك.. لكنه لم يكن يقرأ الشعر الذي فيه كلام بذيء وسيئ.. فوليُّ الله وليُّ الله سواء كان في مجلس... أم مجلس إمام الزمان، لا يفرق الأمر بالنسبة إليه، وكذا الحال بالنسبة إلى تلميذ وليّ الله، ما الفرق بين هذا المجلس ومجلس الإمام السجاد؟ نعم، في مجلس الإمام السجاد ينبغي أن يكون بنحو معين؛ فإن كان في يوم شهادة يقرأ قصائد بشكل معين، وإن كان في يوم ولادة يقرأ بشكل آخر.. أمّا ذاك المجلس فهو مجلس فرح.. فيه مزاح وضحك.. لكن ينبغي أن لا يكون المزاح بحد يُخجل الآخرين، أو يريق ماء وجههم، فإن كان شخص لا يحب القيام بهذه الأعمال، فلماذا تأتي وتجبره على ذلك؟ هذا فعل حرام! فإنّه بمجرّد أن يشعر هذا الشخص بالأذية
والمضايقة، سوف يتحوّل المجلس إلى مجلس ظلمة، والحال أنه لا بد في المجالس التي توجب سرور أهل البيت أن تكون الجهة الروحانية والنورانية هي الحاكمة فيه.
كما أن التولي موجب للنور، كذلك التبري فيه نور أيضاً. لكن هؤلاء بأعمالهم السيئة وأفعالهم غير الحسنة يحوّلون المجلس إلى حالة من الظلمة والكدورة والانقباض، وقد يؤدّي ذلك إلى حصول أمورٍ أخرى، إذ قد يحصل لبعض الأشخاص شبهة وخطر نتيجة ذلك، لماذا ينبغي أن يحصل هذا الأمر؟
لقد شاركت في مجلس عيد الزهراء وكان المرحوم السيد الحداد حاضراً فيه عندما كان في طهران، وكان المرحوم العلامة حاضراً أيضاً، وكنت في ذلك الوقت صغيراً حيث كنت في حدود السبعة أو الثمانية أعوام، وكان هذا المجلس في منزل جدنا المرحوم السيّد معين في طهران... وجرى فيه الكثير من المزاح والضحك، وكان السيد الحداد يضحك بشكل عجيب من المشهد المضحك الذي كان يشاهده... بحيث أن عينيه دمعتا لذلك.. إذ كان المجلس مجلس مزاح. في عيد الزهراء لا يقرأ دعاء كميل.. لكن لماذا نقوم بإيذاء الآخرين؟ ولماذا نتكلم بكلام غير صحيح؟ ولماذا نفعل أموراً محرمة في هذا المجلس؟
وهذا المقدار لا إشكال فيه.. بل حتّى التصفيق في هذا المجلس لا إشكال فيه أيضاً، إذ يسأل البعض عن التصفيق وغيره في مثل هذا المجلس، وهو لا إشكال فيه في هذا المجلس بالذات.
من هنا، علينا أن ندقّق في هذه المسائل. وهذه المطالب ينبغي لجميع الناس أن يلتزموا بها، وليست من الأمور المختصة بل شاملة لجميع الشيعة، إذ جميع الناس ينبغي أن لا يحصل عندهم اختلاط بين الرجال والنساء، والجميع مكلفون بأن لا ينظر المتكلم إلى وجه النساء غير المحارم ويختلط بهن. هذه المسائل التي نراها هنا وهناك من أين تنشأ؟ هل تتصورون أن الشيطان مختصّ بالشباب المراهقين في عمر الثالثة عشر أو الرابعة عشر؟ كلا بل يأتي إلى كبار السنّ أيضاً، ويأتي إلى الذين يصلون صلاة الليل، يأتي إلى الأشخاص الذين يراقبون أنفسهم.. فهو ـ كما ذكرت لكم ـ مثل الدم يجري في عروق الإنسان، ولا نشعر إلاّ ونحن قد وقعنا في المشكلة، ويعلو عندها صوتنا.. سيدنا تعال ساعدنا! بماذا أساعدكم؟ عندما كنت أقول لكِ: لا تتصلي بالرجال! فينبغي أن لا تتصلي! وعندما كنت أقول: عندما يتصل رجل بهاتف المنزل فلا تجيبي! دعي الهاتف يرن حتّى ينقطع.. إذا لم يكن أحدٌ في المنزل، ماذا يحصل؟ وإذا كنت مشغولة في أمرٍ معين فماذا كنت لتفعلين؟ إذا لم يكن الزوج موجوداً فلماذا تجيبين وتقولين للمتصل بأنّه غير موجود، ويتطرق الكلام إلى السؤال متّى سيأتي زوجك وغيرها من الأسئلة؟ هذه من الأمور التي لا يمكن أن نبرئ أنفسنا منها! فلا نقول: سيدنا أين نحن من هذه الأمور؟ كلاّ بل نحن المعرّضون لمثل هذه الأمور! هذه الأمور لا تحصل دفعة واحدة، والشيطان يأتي ويوسوس ويقول: انظر إلى هذه الكلمة التي صدرت من الطرف المقابل، فيبدأ الشيطان من تلك الكلمة، ويعيد الاتصال ويقول لها: لقد ذكرت في كلامك هذه الكلمة، لم أفهم المراد منها.. إن لم تفهم فلا تفهم، لكن لماذا تتصل مرّة أخرى؟ فيكون ذلك مدعاة لكلام آخر.. ما أقوله لكم إنما أقوله لأنّي على اطّلاع بما يجري، وما أقوله
من أن الشيطان لا يأتي فقط إلى الأشخاص الذين هم في عمر الثالثة عشر إلى العشرين، وأنه يأتي إلى الأشخاص الذين هم في سن الستين أيضاً وفي سن الخمسين.. لا أقول ذلك عبثاً.
هذه الأمور التي أذكرها للإخوة إنّما أذكرها للمحافظة عليكم أنتم، ولأجل استمرار حياة هؤلاء الأفراد. أما نحن فإنا ذاهبون. حسناً، لا بد من الالتفات إلى هذه المسائل جيّداً، ولهذا السبب أقول لكم بأنه قد حصل تسامح في وصايا العظماء من هذه الجهة. ولا زالت الأمور تصل إلى مسامعي حول بعض المسائل التي تبعث على التأسُّف! ونحن لدينا الكثير من الأمور المجرّبة ولدينا بعض الأشخاص الذين كانوا من العلماء والفضلاء والمجتهدين.. ولم يحافظوا على هذه المسائل التي ذكرتها لكم فابتلوا... لماذا؟ لأن الشيطان يَرِد من هذا الباب، لا يكتفي الشيطان بالجلوس والمشاهدة، بل يأتي ويدخل في الأمور من أنحاء مختلفة.. يأتي ويقول: أنا لا أريد جواب هذه المسألة إلاّ من فلان فقط، أنا لا أفهم هذه المسألة إلا من هذا العالم مباشرة! كلاّ بل يمكن أن تحصلي على الجواب من أي شخص آخر... ما هذه؟ هذه جميعها لعب شيطانيّة، هذه تسويلات نفسانيّة، غاية الأمر أنها أتت بهذه الصورة. وبعد ذلك يرى الإنسان أن فعلاً واحداً قد يغير الأمور كلها.. عندما أقول: بأنه ينبغي مراعاة الحدود الشرعية، فذلك لأجل هذه المسألة، حتّى لا يأتي الشيطان ويسيطر على قلبك ويذهب بعقلك ودينك، وعندما يحصل ما يخالف توقعاتك تدع كلّ شيء جانباً.. حتى الله تدعه جانباً. وعند ذلك إذا صليت لا تكون هذه الصلاة كالصلاة السابقة، لماذا لم تعمل؟ لماذا عندما كنت أقول لك بأن العمل يجب أن يكون حلالاً من الناحية الشرعية.. وأن هذا النمط من التحدّث حرام، وأن إرسال الرسائل بهذا الشكل حرام.. وهذا النوع من التعامل حرام.. لماذا لم تسمع حتّى وصلت الأمور إلى هذا الحد؟ الأمر كان بيدك أنت.
فهل تظنون بأن الإنسان إذا قام وصلّى وقرأ العزاء يكفيه ذلك؟ فالرجل الآلي يمكنه أن يفعل ذلك أيضاً، بل يمكنه القيام بأفضل ممّا نقوم به. لكن هذه الصلاة صلاة آلية، ليست صلاة واقعية. الصلاة التي يكون علاقة القلب مقطوعة، ليست صلاة، والصلاة التي تكون علاقة الولاية منقطعة فيها فليست بصلاة.. والصلاة التي يكون فيها ألف نوع من الشكِّ والشبهة فليست بصلاة.. أين الصلاة من هذه الأفعال؟
هذه المطالب هي المطالب التي كانوا يوصونا بها.
رابعاً: الاهتمام بمجالس الأعياد والوفيّات في الصباح
من الأمور التي ينبغي على الإخوة الالتفات إليها هي المطالب المرتبطة بأيام الأعياد والوفيات في الصباح.. الجميع يعلم بأن الأشخاص الذين يريدون المشاركة في هذه المجالس ينبغي أن يكونوا من الذين يريدون الاستفادة واقعاً، الذين يأتون لإدراك المطلب وينبغي ألاّ يتصوّروا أنّ ذهابهم للمجلس ـ سواءً كان هنا أم في طهران، وسواء كان في إيران أو غير إيران ـ هو من أجل مجرّد المشاركة، بل عليهم أن يذهبوا ويروا ما الذي سيقال في المجلس، وما هو المطلب الذي سيبيّن فيه، فإذا جاؤوا بهذه النيّة، فإنّ الله سيعطيهم ما يطلبونه وما هم بصدده في ذلك المجلس، وإلاّ فإن أرادوا أن يأتوا ليأكلوا الخبز والجبن،
ويسمعوا دعاء الصباح، ثمّ نستمع إلى مجلس العزاء، ونقنع بذلك، ثمّ بعد ذلك نجلس فنتكلّم مع هذا ونضحك مع ذاك، فهذا لا فائدة فيه، وسيضيع المجلس منهم، ولن يحصلوا على الفائدة والنفع الذي كان ينبغي لهم أن يحصلوا عليه!
ولهذا فإنّ الرفقاء قد اهتمّوا بهذه المسألة ورتّبوا الأثر عليها، وهذا فعلاً ما ينبغي عليهم أن يفعلوه... قلنا لا ينبغي أن يحضر أحد هاتفه الجوال معه إلى المجالس حتّى وهو مغلق، ولنفرض أنّ الجوال لم يخترع بعد من الأساس، ألم يكن الجوال غير موجود سابقاً.. لم يكن موجوداً في السابق أصلاً.. فماذا كان يصيبنا في حينها؟! هل يجب أن يكون الجوال حتماً في جيبنا أو إلى جانبنا؟! كلاّ.. ولذا ينبغي ألاّ نُحضره معنا! الآن يأتي بعض الأشخاص الغرباء، ويحضرون معهم جوّالهم دون التفات، ألا ترون كيف أنّه إذا رنّ الجوّال فإنّه يسبّب تشتّت حواسّ الحاضرين؟ إنّ ذلك خلاف للشرع! وقد سمعت أنّ بعض النساء لا يلتزمن بدقّة بهذه المسألة.. فينبغي عليهنّ الالتزام، ولا استثناء في هذه القضيّة! لأنّنا إذا فتحنا باب الاستثناء فكلّ شخص سيصير مستثنى، فكلّ شخص عنده سبب للاستثناء، فأنا اليوم مستثنى، وغداً أنت.. لا! ينبغي مراعاة هذه القاعدة حتّى لا نتسبّب بحصول إيراد أو خطأ.
خامساً: وجوب مراعاة النساء للحشمة في اللباس في المجالس
وكذلك الأمر بالنسبة للباس: سمعت أنّ بعض المشاركات في مجالس الصباح يرتدين لباساً غير موزون وغير مناسب، وأنّ ذلك يحصل في مجالس وفيّات الأئمّة عليهم السلام أيضاً! إنّ ارتداء هذا النوع من الثياب يعتبر إهانة لمجلس الإمام عليه السلام! ومن الممكن أن تجدوا أحد العلماء يفتي بأنّ ذلك لا إشكال فيه، ولكنّ هذا العبد يرى أنّ ذلك إهانة، فإذا أراد شخصٌ أن يقلّد شخصاً آخر في هذه المسألة وهو يعتبرها جائزة، فلا يشاركْ في مجالسنا هذه! لا يشارك! وأمّا إذا كان الشخص قادراً على ارتداء ملابس مناسبة ومحترمة ومناسبة لمجالس الأئمّة عليهم السلام فذلك ممتاز جدّاً ومرحباً به مثل باقي الأفراد، ولكن إذا كان هذا الشخص يريد أن يعمل برأيه ويعمل طبقاً بما يريده ويناسبه، ثمّ يؤول الأمر إلى الكلام بأنّ هذا هو مقتضيات الشباب والفتوّة وما شابه ذلك.. فلا، والمشاركة في المجالس ليست إلزاميّة، فلا داعي أن يشارك، وعندما يجد أنّه مستعدّ للمشاركة [مع الالتزام بالضوابط] فليشارك! هذا ما أردت الإشارة إليه والتذكير به.
السالك الحقيقي هو الذي يلتزم بالمنهج والمباني حقيقةً لا الذي يدّعي ذلك
وقد رأيت أن الحديث الذي يقوله هذا الرجل [ملفت] ۱، فقد قال لي:
-لقد وعدتَنا أن تكتب كتاباً عن «النوروز»، ونحن دائماً نقول لأصدقائنا أن عيد النوروز بدعة وأنّ كتاباً سيصدر في إثبات ذلك، ولكن لم تفعلوا ذلك بعد!
-فقلت له: لا.. ادعوا لنا أن نتمّه عن قريب إن شاء الله.
ثمّ رأيت أنّه يستمع إلى كلّ المطالب، ويعمل بكلّ دستورات المرحوم العلاّمة! هل رأيتم إلى هذا الشخص الذي لم يرَ المرحوم العلاّمة، وهو من أطبّاء القلب المعروفين في طهران، وعمره أكثر من ستّين سنة، ولكنّه تحرّك وطبّق وعمل، وآثار ذلك بادية على وجهه، وقد قلت له ذلك أيضاً! قلت له: آثار عملك بادية على سيمائك!
من هو السالك؟ إنّ مثل هذا الشخص هو السالك، لا أنا الذي أُطمئِن نفسي بعلاقتي مع العظماء والاتّصال بهم، ولكنّني من الناحية الأخرى لا أطبّق ما يقولونه ولا أرتّب الأثر على مطالبهم! هل كنتم تظنّون أنّه لا يوجد سالك غيرنا... كلاّ يا عزيزي! فالسالك هو هذا، وقد قلت له: السالك هو أنت، فماذا تريد بعد ذلك؟! فأنت تطبّق كلّ ما قالوه، فهل السالك شيء غير هذا؟!
لقد قال: أنا لا أشارك في مجالس النوروز... وعندما كنّا هناك أحضروا قرآنا مجزّئاً إلى أجزاء كثيرة، فلم يأخذ جزءً منه وقال: إنّ والدك كان يقول: إنّه لا ينبغي أن يقسّم القرآن إلى أجزاء بهذا الشكل! فقلت له: بارك الله فيك! أحسنت! هل ترون.. إنّ المطالب تصل إلى الناس، بينما نحن هنا عالقون في أيّ مسائل! إنّني لم أكن قد رأيت هذا الشخص، وقد قلت له: أحسنت، بارك الله فيك! وأنا كذلك لم آخذ جزءً من ذلك القرآن المقطّع! وقلت له: أنت السالك، وأنت الذي ستصل! اعلم أنّ أولياء الله لا فرق عندهم بين الموت الحياة، واعلم أنّ يد ذلك الرجل العظيم تدفعك من خلفك، وتؤيّدك حتّى صرت موفّقاً بهذا الشكل، وبحيث صرت تتحرّك في هذا المسير، وتطبّق دستوراته! إنّ كلّ من يأتي ويسمع ويطبّق فقد فاز، ومن لم يطبّق فلم يفُزْ!
و من ناحية أخرى رأيت شخصاً آخر، في نفس هذا اليوم، وهو من أهل الذكر والفكر، ولكنّني عندما نظرت إليه رأيت أنّه: يا الله! ما أسوأ حاله..كلاّ.. ليس هذا هو ما أريده! هل ترون؟ فذاك لا يدّعي أنّه من أهل السلوك والمعرفة، ولكنّ سيماءَه سيماءُ المؤمنين والصالحين، وأما هذا فهو منقبض بشدّة! فلماذا ذلك؟ لأنّه لا يعمل ولا يطبّق! إنّه لم يأت ليسلّم ويعمل! وهذه هي النتيجة الطبيعيّة لذلك. والخلاصة: أيّها الرفقاء إنّ عمل الله تعالى ليس جزافاً بدون حساب بل هو مبني على حساب دقيق، فيجب أن يتحرّك الإنسان بناءً على حساب دقيق لا جزافاً.
العمل هو الموجب لتقدّم الإنسان
حسناً.. كانت هذه هي المواضيع التي كنت أودّ بيانها للرفقاء والأصدقاء، ولكنّ ما كان يهمّني بشكل خاصّ هو ما ذكرته في المقدّمة، وليعلم الرفقاء هذا أيضاً: إنّ الشخص الذي يريد واقعاً أن يتقدّم، ويريد أن يجتاز هذه المراحل، فإنّه سيحصل على المطلب التالي شاء أم أبى، ثمّ الذي يليه، ثمّ الذي بعده... ولكن إذا لم يرغب في الحركة، وقصّر في التطبيق فإنّه سيخسر ما عنده شيئاً فشيئاً، وسيضعف ارتباطه بالتدريج، وسينطفئ النور الذي في قلبه شيئاً فشيئاً ويتّجه نحو الأفول، حتّى يصل الأمر إلى خسارة كلّ شيء.. في أمان الله! إنّ هذا هو قانون عالم التربية وعالم الشريعة، فهذا القانون هو السائد، ولهذا ينبغي أن نكون مجدّين ومجتهدين ونهتمّ بهذه المسألة.
و أودّ أن أكرّر ثمّ أكرّر هذا الأمر: إنّ الله تعالى يبيّن لكلّ فرد ما يرى أنّ فيه الصلاح في مكانه المناسب، وأمّا ما يرى أنّ فيه سدّاً للطريق وقطعاً للمسير فإنّه سيُرفع ويُزال تلقائياً، و نحن جميعاً في هذا المسير مع بعضنا كأسنان المشط، وكلّنا نجلس على سفرة واحدة، وأنا أقول هذا الكلام جادّاً فلا يوجد تفاوت بيننا، بل ينبغي لكلٍّ منّا أن يدعم الآخر، ومن يظنّ أن عليه أن يبتعد ويترفّع لأنّ فلاناً يأتي وفلاناً يشارك، فهو إنّما يظهر ضعفه هو! أفَهل تظنّون أنّ الأفراد الذين كانوا يأتون في زمان المرحوم السيّد العلاّمة رضوان الله عليه كانوا جميعاً من أمثال سلمان وأبي ذرّ؟! إذا كان ينبغي أن يكون الأمر كذلك، فكان عليّ أنا أن أبتعد قبل الجميع لأنّني كنت أرى أشخاصاً هناك لا يعلم أحدٌ بحالهم وأوضاعهم، ولكن نحن إلى منْ كنّا ننظر؟ لم نكن ننظر إلاّ إلى العلاّمة نفسه.. إلى نفس المرحوم السيّد العلاّمة، وانتهى الأمر! فليأت من يريد، وليذهب من أراد أن يذهب! بعضهم يقول: لماذا يذهب فلان إلى هناك؟! يا عزيزي، اذهب أنت إلى هناك أيضاً!
ذات يوم ذكر لي أحد أقاربنا (وهو قد توفّي الآن) هذا الانتقاد على المرحوم العلاّمة، حيث قال: لماذا لا يقيم السيّد العلاّمة علاقة مع السيّد الفلاني (و ذكر اسم أحد علماء طهران وهو قد توفّي الآن)، بينما تجده يقيم علاقة مع الشيخ المطهّري ويرتبط به؟! فأجبته قائلاً: وما علاقتك أنت بذلك؟! لو كان بإمكانك أن تفهم أسرار ذلك لكنتَ الآن جالساً مكان سماحة السيّد العلاّمة لتتولّى إدارة الأمور! فما علاقتك أنت بذلك؟! هل أنت أستاذٌ في السير والسلوك؟! إنّ أقصى ما لديك أن تكون متخصّصاً في مجالك ومهنتك فقط، فما الذي تفهمه حتّى تنتقد بهذا الشكل؟! فأنت لا تعرف خبايا الأمور!
سادساً: لزوم بيان المعارف الحسينية جنباً إلى جنب مع مصائبه
ومن المطالب التي ينبغي لأهل العلم من الرفقاء أن يعرفوها خصوصاً في شهر محرّم الذي صرنا على أبوابه هو هذه المسألة: ينبغي أن تبيّن مسألة نهضة الإمام الحسين عليه السلام للناس، وتوضّح معالمها، فاليوم قد اختلفت الظروف والشرائط عن الأزمنة الواقعة قبل عشرات السنين، فالناس في هذه الأيّام يسعون لفهم المطالب وإدراك الحقائق.. فالظروف قد اختلفت وتغيّرت، فلطم الصدور لم يعد يشفي غليل الناس، ولا يستطيع لوحده أن يعالج
أَلَمهم! فالعزاء واللطم يجب أن يكون موجوداً، ويجب أن يبقى، فأنا لا أنكر هذا الأمر، فلا بدّ من البكاء والحزن.. أصلاً نفس البكاء على سيّد الشهداء يوجب تطهير الإنسان من كلّ الكدورات ومن ذلك الغين الذي استولى على قلبه، ومن تلك المسائل التي ابتلينا بها أثناء حياتنا.. فهذا البكاء يسبّب نزول الرحمة، فـ «عند ذكر الصالحين تنزل الرحمة»، فإذا كان الأمر كذلك بالنسبة للصالحين فما بالك بمجالس سيّد الشهداء عليه السلام! إنّ هذا البكاء يأتي بالرحمة معه، وعندما تنزل الرحمة فإنّها تطهّر الإنسان فيشعر بالصفاء والخفّة؛ فهو لم يكن قادراً على أداء بعض الطاعات قبل هذا البكاء، ولكنّه الآن يرى أنّه صار قادراً على أدائها بسهولة.. فما هو سبب ذلك؟ سببه نزول هذه الرحمة.. إنّ هذه الرحمة تتنزّل من نفس حضرة سيّد الشهداء عليه السلام إلى هنا.. إلى هنا الأمر جيّد.. فالبكاء ولطم الصدور وحتّى الوقوف أثناء اللطم من أجل سيّد الشهداء أمرٌ جيّد جدّاً.
بالنسبة للشعارات التي يردّدها الإنسان ينبغي أن تكون شعاراتٍ قد تمّ اختيارها بناءً على حساب دقيق بحيث تكون لائقة لأن يتمّ إلقاؤها في مدرسة الإمام الحسين، وأمّا الشعارات الرخيصة والمُسفّة فلا تصلح، بل ينبغي أن تتضمّن هذه الشعارات منهج الإمام الحسين عليه السلام ومدرسته! ما معنى أن يقال: «ابني هو عليّ الأكبر المختصّ بي، وزينب هي...»؟! إنّ هذه الشعارات لا فائدة فيها البتّة.
ينبغي أن يكون الشعر والنعي المقروء من الشعر والنعي الذي يمنح الإنسان الفهم، من النوع الذي يهزّ أعماق الناس، فيجعله يفكّر في نفسه ويقول: ها، إلى أيّ مجلس أتيت؟ هل أتيت إلى مجلس البكاء وحسب، أم أتيت إلى مجلس مَن قال: «خرجت لطلب الإصلاح في أمّة جدّي».. لأحيي سنّة جدّي.. لأحي تلك السنّة التي أضاعها الناس، «وأسير بسيرة جدّي وسيرة أبي»، وأحيي تلك السيرة.. أريد أن أقيم العدل.. أريد أن يأمن الناس، هذا ما أريد أن أقوم به.
هذا هو المجلس الذي أتيتَ إليه يا عزيزي، أليس كذلك؟
سابعاً: ينبغي مراعاة الأدب في مجالس الأئمّة ومحضرهم
لا ينبغي للإنسان أن يجعل جوّ المجلس حاكماً عليه، فيخرج بسبب ذلك عن حالته الطبيعيّة، إنّ الصياح والنواح العالي والصراخ كلّها تخرج الإنسان من حاله الطبيعي، وتسوقه إلى عالم الإحساس، تسوقه إلى شعورٍ مجازي.
قبل فترة توفّي أحد الأفراد، وحينها رأيت بعيني تلك المظاهر المتصنّعة والفذلكات في التصرّف وكيفيّة مجيء بعض الأفراد، وبكائهم...، صدّقوني! إنّ الذي رأيته ممّا صنعوه، لم يفعلوا منه حتّى واحداً بالألف للإمام الحسين عليه السلام. أمّا لهذا الشخص.. فماذا أقول؟! نعوذ بالله.. نعوذ بالله.. مزّقوا ثيابهم.. مزّقوا الثياب التي يلبسونها.. أخذ الواحد منهم عمامته وضربها بالأرض!! [أنا أسألهم:] متى كنتم تفعلون ذلك في عزاء الإمام الحسين عليه السلام؟ ما معنى كلّ هذه التصرّفات؟! بلى: صاروا يحثون التراب على رؤوسهم!!
[أقول لهم:] احثوا التراب على رؤوسكم، فأنتم تستحقّون أن تحثوه على رؤوسكم!! احثوا التراب، أصلاً لا ينبغي أن تحثوا على رأسكم شيئاً غير التراب. أليس كذلك؟
ما هذه الأمور كلّها؟ كلّها إحساسات.. إحساسات وحسب.
مات؟ ليرحمه الله، فهو قد مات، أليس عبداً من عبيد الله وقد مات، بكيت عليه فلتبكِ عليه لا بأس، فنحن لا نستطيع أن نسيطر على دموعك، ففي نهاية المطاف الإنسان حينما يحترق قلبه لوعةً على أحد يبكي، ولكن أنت إنسانٌ، ولديك عقلٌ.. لديك فهمٌ.. ولقد درست العلوم الدينيّة لفترة من الزمن.. وهناك العديد من الأفراد الذين يرجعون إليك في مسائلهم، فما هذا التصرّف؟! وكيف تحسب الأمور؟!
إنّك لم تحثّ التراب على رأسك في وفاة النبيّ!!
ما حقيقة هذه التصرّفات؟ حقيقتها هو الخروج عن متن الواقع والحقيقة، الخروج عن الاعتدال الحقيقي، وعند الخروج عن الاعتدال نذهب إلى الإحساسات، وعندما يدخل الإنسان في بوتقة الإحساسات، فإنّه يقوم بأيّ فعلٍ كان، فهل هذه هي الولاية؟!! ما معنى أن يمزّق الإنسان ثيابه؟! ما هذه التصرّفات؟!
قبل ليلتين تشرّفت بالذهاب إلى الحرم (حرم الإمام الرضا عليه السلام)، وأتيت فإذا بشابٍ يضع على رقبته «شالاً»، ماذا يسمّونها...؟ نعم وضع شيء من هذا القبيل على رقبته، وفجأةً رأيته عند الضريح من جهة رأس الإمام الرضا عليه السلام، (التفتوا!! نحن شيعة أليس كذلك!!)، هناك عند جهة رأس الإمام الرضا عليه السلام [رفع يده وبدأ يصرخ هناك:] عبّاس!! (يريد من صديقه أن ينتظره وأن لا يتركه)، فقلت له بغضب: اصمت فهل هذا منزل خالتك لتصرخ هكذا؟!! فقال لي [معترضاً]: إييه!!، فقلت له: إييه تأخذك إلى جهنّم!! فأنزل رأسه إلى الأسفل، وكان هناك شخص خلفه فقال له: اذهب سريعاً سريعاً... نعم قلت له: هل هذا منزل خالتك؟!!
إنّ هذا النوع من الناس هو نفسه الذي يُعرّبد في الهيئة في عزاء الإمام الحسين عليه السلام، وهو يأتي ويصرخ عند رأس الإمام عليه السلام: عبّاس!! (فلتذهب «عبّاس هذه» إلى جهنّم) الناس هناك بين قارئ للدعاء وقائمٍ يصلّي، فهل يلعب الناس في الحرم حتّى تأتي وتنادي صديقك وتصرخ: عبّاس؟!! هل هذا هو الأدب الذي يتحلّى به زائر الإمام الرضا عليه السلام؟!! هل هذا هو؟! هل هذا هو الأدب الذي يتحلّى به من يضع على رقبته تلك الخرقة...؟! ماذا يسمّونها؟!! يريد أن يلصق نفسه بالولاية!!
إنّ زائر الإمام الرضا عليه السلام ينبغي أن يكون آدميّاً، ينبغي أن يكون ذو فهم.. ذو معرفة.. عليه أن يذهب وأن يقرأ الزيارة ثمّ يجلس ويتأمّل في نفسه: ما الذي حصل حتّى قتل الإمام هنا؟ ما الذي حصل حتّى دفن الإمام الرضا عليه السلام ها هنا؟ ما الذي حصل لكي يقول الإمام الرضا هذا الكلام؟ عليه أن يأتي بكلمات الإمام الرضا عليه السلام ويطالعها ويتأمّل بها، إن كان لا يعرف أن يقرأها بالعربيّة، فليأتِ بترجمتها ويقرأها، عليه أن يتأمّل بالروايات المرويّة عن الإمام الرضا عليه السلام.
فلماذا استشهد الإمام الرضا عليه السلام؟ لقد استشهد لكي يُفهمني وأنا وأنت أن لا نأتي ونعرّبد ها هنا، بل كونوا أوادماً وذوي عقل وفهم، من أجل هذا!! لا أنّ نأتي فنصلّي.. نقرأ.. نذهب.. ثمّ ندّعي بأنّنا أصحاب ولاية...!!
هذا التصرّف خارجٌ عن مدرسة أهل البيت عليهم السلام، إنّ منهج ومدرسة أهل البيت لا تقوم على الإحساسات، بل منهجهم ومدرستهم مدرسة العقل.. مدرسة الفهم.. مدرسة الأدب.. مدرسة السكوت.. فالسكوت له مقام محفوظ وباقي الأمور لها مقامها المحفوظ أيضاً، هذه هي المسألة المهمّة.
ولهذا، علينا أن نطرح هذه الأمور؛ فكلمات الإمام الحسين عليه السلام ليست بالقليلة أبداً: سواءً طوال حياته، أم خلال سفره وسيره، أم حتّى في أيام عاشوراء، في كلّ تلك المواطن كلمات الإمام عليه السلام ليست بالقليلة أبداً، وما طرحه ليس بالقليل.
عليكم أن تأتوا وتبرزوا وتظهروا ثورة الإمام الحسين للناس، عليكم أن تبيّنوا وتوضّحوا جوانب قيامه وتحرّكه، وهي التي تتجلّى بوضع العقل والمعرفة مكان الإحساسات والتوهّمات، ممّا ينتج الجلوس والفهم وعدم انتخاب الأفراد بنحوٍ خاطئ، ها!! وحينها لن تقول في نفسك: ها، ما الذي حصل؟!! (أنتم رأيتم بأنفسكم، أليس كذلك؟).
إنّ ثورة الإمام الحسين عليه السلام هي ثورة الجلوس وعدم القيام بأيّ تصرّف ما لم تكن متيقّناً من صحّته!! هذه هي ثورته!! طالما لم يحصل لديك الوثوق فلا تخط بقدمك خطوة واحدة، طالما ليس لديك علم فلا يكن لك يدٌ في العمل!! هذا ما عليكم أن تُعلّموه للناس، وعندها: كم سيتغيّر الناس، وكم ستتبدّل أحوالهم!! نعم نحن لا ننكر المصائب التي حلّت بالإمام الحسين عليه السلام فهم لم يتركوا مكاناً من جسده المبارك إلاّ وجرحوه أو أدخلوا فيه سيفاً أو رمحاً أو سهماً، نعم دخل في جسمه تسعين جرحاً ذي ثلاث شعب، نعم هذا صحيح وقد وقع، وهي مصيبة كبيرة جداً جداً، ولكن حقيقة المسألة أعلى بكثير من هذه المسألة الظاهريّة، حقيقة الأمر أعلى.
لقد بيّنت لكم في المرّة السابقة، حيث رأيت كلاماً جميلاً يقول: إنّ مظلوميّة الإمام الحسين عليه السلام هي أنّهم بدلاً من يجعلونا نرى أفكاره وطروحاته، جاءوا وأرونا فقط الأسهم والسيوف والرماح التي قتلته؛ طُعن كذا طعنة.. ضُرب بالسيف كذا ضربة..، نعم هذا صحيح، فتصوّروا أنّ رجلاً يواجه ثلاثين ألف رجل، فلو أنّ كلّ واحدٍ منهم رماه بسهم سنعلم ببساطة ماذا سيحصل به!! وهذا أمر طبيعي، فهم لم يكونوا يوزّعون الحلوى، والإمام الحسين عليه السلام مثلنا من هذه الناحية، يشعر بالألم ويحسّ به، وهو يتوجّع....
لكن علينا أن نأتي وأن نستفيد جيّداً من ثورة الإمام الحسين عليه السلام، وأن لا نهدر تلك المشقّة التي تجشّمها الإمام الحسين، ينبغي أن لا نهدرها بأفعالنا، ولا بنحو تبليغنا للدين.
لقد ضحّى الإمام الحسين عليه السلام بأعزّ الأفراد في عالم الخلقة في كربلاء، فلا ينبغي لنا أن نهدر هذا الجهد الذي بذله، بل ينبغي أن نقطف الثمرة، هل كان عليٌّ الأكبر قليل القيمة؟! بل كان تالي تلو المعصوم!! هل كان أبو الفضل قليل القيمة؟! بل كان تالي تلو المعصوم!! وهؤلاء هم الذين ضحّى بهم الإمام الحسين وجعلهم فداءً، فهل نختصر أبي الفضل العباس بأنّهم قطعوا يديه وحسب؟!! هذا ليس إلاّ إهداراً لدمه، وهذا ليس إلاّ إزالةً لمقامه وحقيقة الأمور والمسائل.
نسأل الله أن يتفضّل علينا ويوفّقنا للعمل بمباني الأعاظم، ويزيد مقدار فهمنا للمسائل، وأن يزيد من شوقنا وهمّتنا، ونسأله أن يزيد من عشقنا وتعلّقنا بأهل البيت عليهم السلام، والوحدة مع أهل البيت أكثر وأكثر.
اللهم صلِّ على محمّد وآل محمّد