المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني
القسمالمناسبات الإسلامية
المجموعةالنصف من شعبان
التاريخ 1430/08/15
التوضيح
لماذا نحن منتظرون لظهور الإمام؟ وفي أيّ شيء تتجلّى حقيقة ذاك الظهور؟ فهل ظهوره يعني الظهور الظاهريّ؟ أم أنّها تتمثّل في شيء آخر؟ أسئلة طرحها وأجاب عنها سماحة آية الله السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهراني قدس سره في محاضرته التي ألقاها باللغة الفارسيّة، في الخامس عشر من شعبان عام 1430 هـ، وبيّن فيها الأهداف التي سعى إليها الأنبياء والأئمّة في حركاتهم وستحقّقها حكومة صاحب الزمان عليه السلام، مقارناً ذلك بأهداف سائر الحكومات وأدواتها.
هو العليم
العلة الغائيّة للحكومة الإسلاميّة
محاضرة ألقيت بمناسبة يوم النصف من شعبان سنة ۱٤٣۰ هـ ق
محاضرة ألقاها
آية الله الحاجّ السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ
قدس الله سره
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلّى الله على سيدنا ونبيّنا أبي القاسم محمّد
وعلى آله الطيبين الطاهرين
واللعنة على أعدائهم أجمعين
تعلّق النفوس بصاحب الزمان وعلته
اليوم يوم ميلاد إمام الزمان عجّل الله تعالى فرجه الشريف، هذا الميلاد الذي يتمتّع بخصوصيّات ينفرد بها، ويقترن بتوقّعات خاصّة لا نجدها في سائر الموالد ومناسبات الأئمّة والمعصومين عليهم السلام؛ فميلاد إمام الزمان عليه السلام توأم مع توقّع ظهوره.. وتوأم مع شعور الشيعة بالالتجاء إليه والتوجّه نحوه.. بالحاجة والعوَز.. بالإفلاس والعجز في ميدان التجاذبات المختلفة، وبين الحوادث الواقعة... فعمّت الحاجة إلى ذلك المنجي للجميع، والرافع راية العدل والقسط والصدق.
وهذا ما نلمسه مشهوداً في نفوس الناس كافّة.. في قلوبهم وضمائرهم وأفكارهم، شيعة كانوا أم من سائر النحل المختلفة، بل وحتّى سائر الأديان...
ما هي علّة ذلك؟ وما هو سببه؟ ولماذا نحن منتظرون لظهور الإمام؟ وفي أيّ شيء تتجلّى وتتبلور حقيقة ذاك الظهور؟ فهل ظهور الإمام يعني الظهور الظاهري له؟! أهذا هو الظهور؟!! أم لا.. بل هو كما صُرّح من أنّه تحقيقٌ لحكومة التوحيد وبسطٌ لها، وإحقاق لحكومة العدل؟ ولذلك نحن محتاجون لظهور الإمام، فنحن مفتقرون إلى هذه الحقيقة، ومجتمعات الدنيا كلّها بل البشريّة كلّها متلهّفة لظهور هذا المنجي.. إنّهم ينتظرون ظهور العدل الإلهي.
معنى الظهور على ضوء رواية "وضع الله يده على رؤوس العباد"
فلا بدّ أنْ يتجلّى العدل الإلهيّ في هذه الدنيا.. كما لا بدّ أنْ يتجلّى الصدق الإلهيّ في هذه الدنيا واضحاً ملموساً.. ولا بدّ أنْ تُشاهد الحقيقة التوحيديّة في أرجاء هذه الدنيا.. ولا بدّ أن تشدّ إليها أنظار الجميع. وهنا تكمن حقيقة المسألة؛ يقول الإمام الباقر عليه السلام في إحدى الروايات: «إذا قام قائمنا وضع الله يده على رؤوس العباد، فجمع بها عقولهم وكملت به أحلامهم» ۱ وهي رواية عجيبة جداً، فحقيقة الظهور بأكملها مستبطنة في هذه الرواية، أي حينما يظهر قائمنا يضع الله يده على رؤوس العباد.
ويمكن أن نفسّرها بأحد نحوين:
إما أنْ نقول: إنّ الله يضع يده على رؤوس العباد، كما نقول في الآية الكريمة {يد الله فوق أيديهم} أي: إنّ يد الله فوق الجميع وقدرته ومشيئته قاهرة فوق الجميع.
وإما أن نفسّرها بهذا المعنى: بأن يكون معنى قوله عليه السلام «وضع الله يده»: هو أنْ يبسط الله يد صاحب الزمان فوق رؤوس جميع عباده، وبواسطة هذه السيطرة والهيمنة الولائيّة للإمام على جميع الأفراد، يوصل عقولهم إلى رتبة الكمال. والنكتة كامنة في هذا المعنى؛ فحينما تتجلّى الولاية المطلقة للمعصوم عليه السلام.. نعم الإمام المعصوم.. أي: هذا النوع من الولاية.. حينما تصبح ولاية الإمام المعصوم عليه السلام هي الحاكمة حينئذ تصل العقول إلى رتبة الكمال.
ظهور أنواع الأمن في حكومة صاحب الزمان عليه السلام وآثارها
فحينما تأخذ حكومة إمام الزمان عليه السلام بأيدي الناس ـ بعيداً عن أيّ خوف أو قلق من أبناء الزمان وحكّام الجور والظالمين ـ حينها تخرج عقول الناس من مرحلة الاستعداد إلى مرحلة الفعليّة، ومن مرحلة الكمون والخفاء إلى مرحلة الظهور، و كلّ ذلك بالتوازي مع تهيئة الأرضيّة المناسبة، وتحقيق الأمن الاجتماعيّ والفكريّ ـ لا مجرّد الأمن الاقتصاديّ والسياسيّ فحسب ـ بل بواسطة ظهور وتبلور الأمن الفكريّ والأمن الاعتقاديّ والأمن النفسيّ والقلبيّ، فبواسطة جميع ذلك سوف يظهر العقل ويتجلّى في جميع شراشر وجود الإنسان، وسيصل إلى مرتبة الرشاد، ويطوي جميع مدارج الفعليّة.
إنّ من لم يدرس المرحلة الثانويّة من المدرسة سيبقى عقله يعيش الطفولة، وسيبقى ثابتاً على تلك المرحلة من الاستعداد، ولكي يرشد هذا العقل ويرتقي ويزداد فعليةً لا بدّ أنْ تهيّأ له الأرضيّة المناسبة للرشد العقليّ والتكامل العلميّ، فأين يتحقّق ذلك؟ إنّه يتحقّق في المدرسة؛ و بالتالي فلا بدّ أن يذهب إلى إليها.. إلى الصفّ الأوّل.. ثمّ الصفّ الثاني.. ثم الصفّ الثالث... مع انتفاء أيّ نوع من الخوف من بعض الظروف أو من البيئة المحيطة، ومن المعلّم، ومن الناظر، ودون أيّ خوف من أيّة مسألة جانبيّة تؤثّر على تكامله.. لا بدّ أن يشعر الطفل بالأمن والأمان، ليمكنه بالتدريج أن ينمّي تلك الاستعدادات التي غرسها الله فيه، وذاك العقل الذي وهبه الله له وزرعه في وجوده كامناً، فيوصلها إلى الفعليّة، ويجتاز مراتب الرقيّ الواحدة تلو الأخرى، إلى أن يصل إلى الكمال الظاهريّ، والكمال الاجتماعيّ، فينال إحدى التخصّصات ضمن مرتبة من المراتب العلميّة. فإنْ عمل على هذا الأساس وفي هذا الجوّ وصل، وإلاّ بقي على حاله ولم يصل.
فلو كان الطفل صاحب الاستعداد في محيط يملؤه الخوف والاضطراب والتهديد، فلا يمكنه أن يدرس ويتعلّم.. لا يمكنه أن يدرس ويتعلّم مع الاضطراب. وهكذا لو كان لديه استعداد علميّ لبلوغ المراحل العالية من الدراسات والعلوم، إلاّ أنّه كان يعيش حالة من العَوَز اقتصاديّاً، فإنّه سيبقى على حالته وسيتوقّف تكامله العلميّ، ولذلك نجد أنّ عدد الذين يمتلكون استعدادات متميّزة لنيل الدراسات العالية وبلوغ المراحل الشامخة يفوق بكثير عدد المتصدّين الفعليّين في المراكز العلميّة، فهم بسبب الفقر الماديّ والضعف الاقتصاديّ بقَوا عاجزين عن بلوغ هذه المراتب من العلوم.. أليس كذلك؟!
حسناً، ولو بلغ الإنسان مرحلة علميّة عالية، إلا أنّه لم يكن لديه الاطّلاع الكافي على هذه المسائل، ولم يكن يمتلك الوسائل الكافية لإدارة هذا الجانب ورعاية هذه الشؤون التي ذُكِرت، فمع استعداده ومُكْنته الاقتصاديّة، وكذلك مع انتفاء جميع الموانع من أمامه، ورغم أنّه يرتاد المراكز العلميّة إلاّ أنّه مثلاً كان يفتقد الكتب المفيدة ليقرأها!! فكيف له أن يرتقي ويفيد من دراسته مع عدم وفرة الكتب؟ فلا كتب متينة.. لا يجد إلاّ ضعيفة المستوى.. أو القديمة غير المعاصرة من حيث المحتوى.. أو التاريخ القديم الذي لا ينفعه...!!! حينها سوف يخسر مثل هذا الشخص كلّ استعداداته.. ولن يمكن لها أن تتفتّح، ولا أن تبلغ كمالها.
هل رأيتم كم هي المقدّمات التي ينبغي أن نتعاضد لتهيئتها في سبيل إيصال شخص واحد من مرتبة الإمكان والنقصان، إلى مرتبة الفعليّة والكمال؟!! فهذه هي المسألة أعني ضرورة إعداد الظروف العامّة لتكامل البشريّة وبلوغها إلى مرتبة الكمال العقليّ ومرحلة العقل المستفاد، وهذا ما لا يحصل إلا بعد تهيئة الأرضيّة وإيجاد المناخ المناسب لتزكية النفس وتهذيبها.
شعور البشرية بعجزها عن تهيئة المناخ الملائم للتكامل
فما لم تتهيّأ الأرضيّة ولم تعدّ هذه المقدّمات سيبقى هذا الاستعداد على كمونه، وستظلّ البشريّة تكابد للوصول إلى قُلّة الكمال، وستبقى تائقةً تسعى وراء تحقيق كمالها الفعليّ، لأنّها تشعر بعدم امتلاكها لهذه الكمالات، ولو لم تشعر بفقدانها لكانت كالحجارة والشجر، فالحجر لا يشعر بفقدانه لشيء أصلاً، لذلك هو لا يتوقّع أن يحصل على شيء أصلاً، فالطين لا يروم شيئاً ولا يحسّ بفقدان شيء، كذلك الشجر لا ينتظر شيئاً ولا يتوقّع أيّ شيء، في حين أنّنا نلحظ في البشريّة سعياً وراء تحقيق الأمان والاستقرار في هذه الدنيا، وهي تعيش حالة الانتظار لظهور الإمام، وما ذلك إلاّ لكونها تشعر بفقد الأمن والأمان.. وما ذلك إلاّ لأنّها تشعر بانعدام الأمن الحقيقيّ، وأنّه لا وجود له ولا طريق إليه وأنّها عاجزة عنه؛ فالبشريّة ترى أنّ الوسائل والآليات المطروحة أمامها ناقصة دائماً، ولا وسيلة لبلوغها مرحلة النضج والكمال، إنْ هي إلا تجارب متوالية، تجربة تلوَ الأخرى.. تجربة.. ثم تجربة.. ثم تجربة...!!
ما الذي سيؤول إليه الأمر إذاً؟ فحيث أنّ الإنسان يشعر بالخلأ و الفراغ، ويسعى لملئ هذا الخلأ، وحيث أنّه يحسّ بأنّ وجوده ليس هو ما يبدو له فحسب، وحيث أنّه يحسّ بأنّ هذا الغذاء والقوت الذي يقدّم له، ويوضع بين يديه وضيع جداً و لا يليق إلاّ بالبهائم ولا قيمة له، نعم.. يحسّ الإنسان بذلك من أعماق وجوده، ويدرك ذلك من ذاته، ويشعر به؛ فيقضي عمره بين هذه التجربة وتلك، ويطرق هذا الباب وذاك، ويبقى يسعى ويجول... وهذا هو حاله إلى أن يعرف الباب الذي ينبغي أن يدخل منه، ويعرف أيّ هذه الأبواب هو الذي سينفتح أمامه، والذي سيلبّي كلّ احتياجاته، ويحقّق له طموحاته، ويسدّ له فاقته.
حكومة الإمام عليه السلام هي حكومة العدل والصدق التي تلبّي حاجة الإنسان
الإمام عليه السلام يقول: حينما يظهر قائمنا يضع يده الولائية بواسطة إرساء حكومة العدل وحكومة الصدق، فلا مجال لتطرّق الكذب في تلك الحكومة، كذلك لا مجال للمكر والتلاعب في تلك الحكومة، فالأصل الحاكم في تلك الحكومة هو الشفافيّة والوضوح، فلا فرق في شفافيّتها بين تعاملها مع الطفل الذي يولد لتوّه وبين الرجل الكهل الذي يموت عن مائة عام، فالشفافيّة والوضوح واحدة بالنسبة للجميع، فلا إبهام في أيّة زاوية من زوايا الحياة، ولا شكّ ولا ترديد، بل الحاكم هو الصدق المطلق، والشفافيّة المطلقة، والصفاء المطلق، والبهاء المطلق، والنور المطلق. وهو ما يروي الإنسان ويرفع عطشه الروحي، ويداوي جميع آلام الجهالة والغواية، والضلالة والأنانيّة، والاعتباريّة والتوغّل في الدنيا والرياسات، هذه هي المسألة.
ولذلك فإنّ الإمام عليه السلام يقول: «وكَمُلتْ به أَحلامُهم»، أي يوصل الإنسان إلى جميع ما يتمنّاه، فلا يعود إلى القول: لماذا لم أصلْ وأبلغ هدفي؟! لماذا وقعت تحت تأثير الظلم؟! ولا يقول بعدها: لو كان كذا لما كان حالي ووضعي الآن على ما هو عليه!! لا أبداً، أي لا يبقى عذر ولا ذريعة لأحد في أيّة مرتبة من المراتب، بل يشعر جميع الناس بالمساواة، وأنّهم من صنفٍ واحد، وفي صفٍّ واحد، ومن نوع واحد أمام الفيوضات الإلهيّة المتنزّلة.
وجميع الأفراد يتمتّعون وينهلون من نفس الرتبة مقابل مقام الولاية، ولا يخطر على ذهن أحدٍ منهم أنّه لماذا كان عطاء الإمام متفاوتا بالنسبة للناس!!؟ لماذا أعطى الإمام فلاناً منصب المحافظ ولم يعطه لي؟! لماذا جعل ذاك حاكماً على تلك البلدة في تلك المنطقة دوني؟! لماذا أعطى الإمامُ المنصبَ الفلانيّ لرفيقه أو لابن أخيه أو ابن أخته أو أبناء أعمامه وأخواله؟! أصلاً في زمان حضور الإمام لا يخطر على مخيّلة أحد أن يعترض ويقترح على الإمام.. ولا يقول للإمام: يا بن رسول الله! إن لم ترد إعطائي مسؤوليّة المحافظة فرئاسة البلديّة كحدٍّ أدنى!!! فنحن قد جئنا يا بن رسول الله.. فعلى الأقلّ مُنَّ علينا بمسؤوليّة تمكنّنا من الأمر والنهي والتحكّم بحيث لا نترك هذه الدنيا ونحن في غصّة وحرمان..
كمال العقل سيجعل الناس تفرّ من الرئاسة والزعامة
وما شاهدناه ونشاهده في الدنيا وفي أيّامنا هذه من الترامي والتسابق والاستفادة من جميع الحيل الشيطانيّة والوقوع في جميع أنواع الجنايات وبذل النفس والنفيس للوصول إلى المطامع الدنيويّة والرئاسة والحكومة، فبعد ظهور الإمام سيبذل الناس جميع ذلك فراراً من الرئاسة والزعامة.. في زمان ظهور الإمام يفرّ الناس من رئاسة البلديّة والمحافظة تماماً كما يقتتلون عليها الآن. فهم آنذاك لا يُبرزون أنفسهم أمام صاحب الزمان ولا يلوّحون له أنْ: نحن ها هنا.. لا تنسانا.. بل يبقى واحدهم مختبئاً خلف الحائط كي لا يراه صاحب الزمان فيعيّنه.. هكذا يتبدّل فكر الناس زمان ظهور صاحب الزمان، وبنفس السرعة التي نسير بها في الوقت الحالي للوصول إلى الرئاسة وتسلّم المسؤوليّة، يفرّ الناس زمانَ الإمام من الرئاسة والحكومة!! هذا هو الفارق بين حكومة التوحيد وبين حكومة عالم الاعتبار، هل التفتّم؟! فالناس يفرّون.. تصوّروا مالكاً الأشتر حينما ولاّه أمير المؤمنين عليه السلام حكومة مصر، فهل كان في قلبه وفكره يصبو إلى حكومة مصر؟! أقسم بالله العليّ العظيم أنّه لو كان ذلك في مخيّلة مالك الأشتر وفكره ولو بمقدار رأس الإبرة ـ وأنا أنقل ذلك نيابة عنه ويوم القيامة أجيب عن ذلك!! لماذا؟ لأنّه واضح من أوصافه وما ينقله التاريخ ـ أصلاً لم يخطر على باله تمام عمره أن يبتعد عن أمير المؤمنين، وفجأة يرسله إلى حكومة مصر!! فما هذا الكلام؟!! أو حكومة الشام؟! ما قيمة ذلك؟ أو حاكم إيران.. حاكم مصر.. حاكم الشام.. حكم الحجاز.. حاكم اليمن.. ما قيمة جميع ذلك؟! فلحظة واحدة يبتعد فيها عن أمير المؤمنين تعني موته بل هي أشدّ من ذلك، وهو ما يعني إعدامه وهلاكه.. فإلى أين يذهب مالك؟! وإلى أين يذهب سلمان؟!
حينما أراد عُمَر أن يسلّم سلمان حكومة "المدائن"،
- أجابه: خذها لك عزيزي!! أعطها لـ "عمّتك"!!! [يضحك سماحة السيّد] اذهب فهي تنفعك أنت وأمثالك..
- فيقول له عمر: عجيب! ألا تحتاج المدائن لوجود حاكم؟
- فيجيبه سلمان: فلتكن بحاجة لوجود حاكم، ولكن ما علاقتي أنا بذلك؟!
- حسناً تريد الذهاب أم لا؟
- أنا!! أنا لديّ مولى يتولاني، وجميعُ أعمالي بيده هو، لا بيدك أنت، ولا بيد الذي كان قبلك، ولا بيد الذي يأتي من بعدك؛ فهناك شخص جالس هنا إن قال لي: اذهبْ.. أذهب، وإن لم يأمرني بالذهاب، فلو قطّعتني إرباً إرباً فلا أتحرّك..
فجاء إلى أمير المؤمنين وسأله فقال له الإمام: اذهب.
حسناً لو أنّ مالك أحسّ أنّ عناية أمير المؤمنين قد انقطعت عنه لحظة واحدة، فإنّ تلك اللحظة هي لحظة موته، ولو حصل ذلك لثانية واحدة لسلمان الذي كان بعيداً عن أمير المؤمنين في الظاهر إلاّ أن باطنه كان متّصلاً، وهذا الارتباط لا يشوبه بوجه من الوجوه أيّ خلل أو نقصان.. لو أنّ هذا الاتصال تزعزع للحظة واحدة فقط، لكانت تلك اللحظة لحظة البوار.
لماذا كان الأمر على هذا النحو؟! لأنّه من أمير المؤمنين، لماذا كان الأمر على ذلك النحو؟ لأنّ يد أمير المؤمنين كانت فوق رأسه، لأنّ ولاية أمير المؤمنين كانت حاكمةً غالبةً على أفعاله وتصرّفاته، لأنّ عمله يتشكّل ويتمّ توجيهه تحت السيطرة الولائيّة للإمامة. هكذا كانت المسألة.. هكذا كانت.
ولذا نجد في حكومة إمام الزمان عليه السلام تلك الأرضيّة وذاك المجال وتلك المعلومات.. نعم تلك المعلومات!!
الفارق بين الحكومات الدنيويّة الملتزمة بالقانون وبين حكومة الإمام
لنفرض أنّنا جئنا وأجرينا حكومة العدل، فالآن نجد أنّ العدالة هي الحاكمة في كثير من البلدان، ففي كثير منها القانون هو الحاكم، وفي كثير منها ليس لأحد أن يتعدّى على حقوق الآخرين، فليس صحيحاً أنّ الأمور بشكل عام تجري على هذا النحو الذي يجري، لا.. فالقانون هو الحاكم في بعض الأماكن، والقانون هو الجاري بين الناس، نعم في بعض الموارد الاستثنائيّة نجد خللاً، وهذا من لوازم النقصان البشري، ومن لوازم فقدان مراتب الكمال البشريّة، فلكلّ إنسان أن يصل إلى المرتبة التي يريد، فبإمكانه أن ينجز ما بوسعه على المستوى الاقتصاديّ ـ نعم إن لم يقدم على شيء فهذا أمرٌ آخر ـ وهكذا هو الحال بالنسبة للمجالات العمليّة ومستوياتها، والعمل على تكميل تلك الاستعدادات الموجودة في الحِرَف والفنون والتخصّصات المختلفة، فالأمر متاح للجميع، والوصول إلى المراتب العالية منها ممكنٌ لمن أراد، فيمكن للجميع أن ينتسبوا للجامعات وينالوا أعلى التخصّصات، فمثل هذه الأمور متاحة ومتوفّرة، صحيح؟!
لكنّ كلامنا هو حول هذه النقطة الهامة: هل الكتب التي توجب كمال النفس، واستكمال العقل متوفّرة أيضاً؟؟!
كلاّ فهذه الأمور ليست موجودة هاهنا.. تلك الأمور التي توجب تسامي النفس، وتوصلها إلى مرتبة الكمال، وتقتلع منها جذور النقص، وتبلغ بها مرتبة الفعليّة، وتبدّل الإنسان إلى إنسان كامل، هل هي موجودة أيضاً في تلك الدول؟ لا، ليست لها أيّ وجود هناك.
الحكومة من أجل العدل وليس العدل من أجل الحكومة
في زمان ظهور الإمام، ستنصبّ جميع الجهود في هذا المجال، وستعمل كلّ قوى الحكومة من أجل تثبيت الصدق وغرسه في المجتمع، فالحكومة هناك هي من أجل تثبيت الصدق، وليس الصدق فيها من أجل تثبيت الحكومة، فلا تشتبهوا!! فحكومة الإسلام تهدف إلى إحلال الصدق، وإحلال العدل، وإحلال الإنصاف، وإحلال الصفاء والبهاء والبهجة، وإيجاد أرضيّة العدل في كل الشؤون وفي كل المراتب، لا أنّ العدل هو من أجل تثبيت أركان الحكومة الإسلاميّة، فذلك يعني أنّه: حينما لا نستطيع تثبيت حكومة الإسلام من خلال العدل، نثبّتها من خلال الظلم!! لا.. أبداً ليس الأمر كذلك. يعني: حينما لا نستطيع الوصول إلى الحكومة من خلال الصدق نصل لها من خلال الكذب!! هل ستكون حينها حكومة الإسلام؟! ها؟! هل هذه حكومة الإسلام؟! يعني؛ عندما لا نستطيع الوصول إلى حكومة الإسلام من خلال البهاء والصفاء والشفافيّة، نصل لها من طريق آخر ممّا هو رائج ودارج في العالم الآن، هل هذه هي حكومة أمير المؤمنين؟! أم أنّ الأمر مختلف؟! فالحكومة هي التي تعمل من أجل إيجاد الصدق: {ليقوم الناس بالقسط} والعدل.
لماذا أتى الأنبياء؟ ولم أنشؤوا الحكومات؟ أنشؤوها ليعمل الناس بالعدل، فهل يمكن للنبي أن يظلم لكي يصل إلى الحكومة؟! هل سيكون حينها نبيّاً؟! لا ليس هذا بنبيّ، بل هو نبيّ مزيّف.
علّة خروج الإمام الحسين وقيامه
ماذا قال الإمام الحسين؟ وحينما أراد الإمام أن يخرج من المدينة، فلماذا خرج؟ أراد أن يخرج لإنشاء حكومة إسلاميّة، «إنّي لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً، وإنّما خرجت لطلب الإصلاح في أمّة جدّي» هذه عين عبارة سيّد الشهداء عليه السلام، لقد صرّح بهذا الأمر، فما معنى الخروج؟ الخروج يعني: إنشاء الحكومة، "آمر وأنهى الناس". لماذا خرجت؟ خرجت لأصلح أمّة جدّي. لأنّ الناس ارتدّوا.. لأنّ الناس ارتدّوا عن دين النبيّ، لقد شاع الكذب بينهم، وأمسى بعضهم يتلاعب بحقوق البعض الآخر، وغدَوا يمارسون النفاق في علاقاتهم، ويحتال بعضهم على بعض. لقد ابتعدوا عن الإنسانيّة، وخرجوا من حالة الصفاء والبهاء والنورانيّة، فعمّت الظلمة أرجاء العالم، وها أنا خرجت من المدينة لأعيد العدل من جديد.. وليسود الصدق مرّة أخرى.. خرجت كيما إذا جاء أحدهم ليفتح دكّانه؛ فتحه بنيّة أن يكون صادقاً مع المشترين، وكيما إذا فتح الطبيب عيادته؛ فإنّه يفتحها ليقرّر مصلحة المريض، وما يرضي الله، لا ليكذب ويأخذ تلك الملايين من الأموال الملعونة مع علمه بأنّ المريض لن يصل إلى النتيجة المرجوّة.. خرجتُ لكي يصمّم ذلك المهندس خارطة على أساس الصدق، وعلى أساس رعاية المصلحة، لا أن يرسم الخارطة التي تجلب الأموال الأكثر... لقد خرجت من المدينة لتحقيق هذه الأمور.. خرجت لطلب الإصلاح في أمّة جدّي.. لأصلح الناس.. أولائك الذين ينظر بعضهم في وجه بعضهم ثمّ يكذبون عياناً.. أريد أن أقود هؤلاء الناس إلى الصدق: أيّها المحترم!! لا تكذب.. الكذب حرام، تحدّث بالصدق فقط.
نحن ندّعي التشيّع لإمام الزمان!! نحن ينبغي أن نعلم أنّنا عندما نتكلّم فهل الإمام يجلس بجانبنا ويستمع كلّ ما نقول، أم أنّه غافل عنّا، ولا يعرف شيئاً؟! والله لو كنّا نحتمل احتمالاً واحداً من ألف أنّ الإمام مطّلع على ما نقول ويسمع ما نقول، ويشاهد أفعالنا وتصرّفاتنا، لما كنّا نكذب إلى هذا الحدّ!! وما كنّا لننافق ونحتال إلى هذا الحدّ!! وما كنا لنشوّه الوجه النورانيّ لسنّة الأنبياء إلى هذا الحدّ، صحيح؟
لماذا كلّ ذلك؟ لأنّي أريد الإصلاح، لطلب الإصلاح، لأصلح هؤلاء الناس. أيّها الناس لا تكذبوا في حياتكم، أيها الناس عندما ترون أنّكم ستتضرّرون فهنا ينبغي ألاّ تكذبوا، فليست الميزة في أنّ يصدق الإنسان حينما يكون ذلك من مصلحته، فعندما يكون الأمر لصالحكم فأين البطولة في أن تصدقوا؟! لكنّ البطولة تكون عندما ترى أنّك ستخسر أمام خصمك، عندها ينبغي أن لا تكذب، عندها ينبغي أن لا تخادع، وينبغي أن تكون مستقيماً. فالإمام يقول: «لطلب الإصلاح في أمّة جدي.. أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر». فأصلاً حكومتي هي لأجل هذا، لكي أُوجد المعروف بين الناس. هل المعروف هو الاحتيال؟! هل المعروف هو إخفاء الأمور؟! هل المعروف هو الكذب؟! هل المعروف هو ظلم عباد الله؟! هل المعروف هو القتل والإغارة؟! أم الصدق والصفاء والعدل والأمن والشفافيّة والمحبّة والرأفة والعطف والإحساس بالأبوّة تجاه جميع الناس، الإحساس بالأخوّة نحو جميع الناس، هذا ما أريد أن أُحضره.. هذا ما أريد أن أعيده؛ أريد أن أعيد وأحضر تلك السنّة التي قام الأنبياء لأجل إحلالها، فهذا معاوية المحتال قد أمضى صلحاً مع أخي، وقد اتفقا في ذلك الصلح على عودة الحكم إليّ بعد وفاة معاوية، هذا حقّي، وها هو الآن قد خادع واحتال وأراد أن يعطي الحكومة إلى يزيد، نعم! وها أنا ذا أخرج الآن من أجل إقامة العدل، فحكومة معاوية لم تكن حكومة صدق، بل كانت حكومة خداع.. كانت حكومة معاوية حكومة غش وحكومةً ذات وجهين، حكومة معاوية كانت حكومة الكيل بمكيالين، وأنا أريد اقتلاع هذا الأمر، أنا أريد أن أجلب العدل للجميع، أنا أريد أن أجري القانون على الجميع بنحو واحد، هذا ما أريده. «أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر وأسير بسيرة جدّي». هذا طريقي وهذه سبيلي.
الأئمّة ينظرون للجميع بعين واحدةً وهذه ميزة حكومة إمام الزمان عليه السلام
حسناً، فأيّة حكومة هي هذه؟ إنّها حكومة إمام الزمان بعينها، فسيّد الشهداء جاء وأعلن هذا الشعار: أريد أن أوصل عقولكم إلى مرتبة الكمال، فعقولكم كانت في أجواء غير مناسبة في حقبة حكومة معاوية الظالمة التي لم تكن تعرف إلاّ القتل والإغارة والسجن وتسخير الجميع لخدمة هوسه وأهوائه، ولم يقدّم شيئاً لهذه الأمّة، وأنا أريد أن أبدّل هذا الجوّ والمناخ غير المناسب الذي أوجده معاوية خلال تلك المدّة، إلى جوّ من الأمان. وسأنظر إلى الجميع على أنّهم أبنائي، وأنا سأكون أباً للجميع، وسأكون للجميع، والجميع سيكونون سواسية أمامي، ومحبّتي ستكون للجميع، ولن يكون لأحد فضيلة على الآخر، فالجميع متساوون.
كيف كانت نظرة الناس إلى الأئمّة عليهم السلام؟ هل كانت غير هذه؟! هل كان للأئمّة أنانيّة أو بطانة وأمثال ذلك؟!
لم تكن حكومة معاوية الظالمة لتقدّم لهذه الأمّة إلاّ السلب والنهب والإغارة والقتل والسجن، وكانت تجعل جميع الناس أسرى لأهوائه ورغباته الدنيّة، أمّا أنا فأريد أن أبدّل هذه الأرضيّة السيّئة التي أوجدها معاوية وأحوّلها إلى أرضيّة آمنة، حتّى ينظر الجميع إليّ نظر الابن لأبيه، فأنا بمثابة الأب لجميع الناس فأنا للناس أجمعين، وحتّى يكون الناس كلّهم سواسية عندي فيشملهم جميعاً عطفي ومحبتي.. وحتّى لا يكون أحدُهم مقرّباً والآخر مبعداً محروماً... كيف كانت نظرة الناس إلى الأئمّة عليهم السلام؟ أوَلم تكن نظرتهم بهذا الشكل؟ أوَ هل كان الأئمة يتعاملون على أساس القرابة فيقرّبون من يخصّهم ويبعدون الغريب؟! كلاّ، بل كان الجميع مقرّبين منهم، ومن يخرج ويبتعد فهو الذي يُخرج نفسَه بنفسه، أمّا الأئمّة فكانوا للجميع، لأنّ لطف الله ورحمته للجميع دون فرق، فالجميع عبيد الله وبالتالي فالجميع سواسية في حكومة الإمام عليه السلام.
لماذا تحدّث أمير المؤمنين عليه السلام عن إغارة جيش معاوية على إحدى البلدان وذكر أنّ الواحد منهم كان ينتزع الخلخال من رِجل المرأة اليهودية... و قال أنّ أحداً لو مات من بعد هذا أسفاً لكان به جديراً، لماذا يقول ذلك؟ هل يقوله لإبراز نفسه؟ أم لأنّه يريد الدعاية لنفسه استعداداً للانتخابات.. حتّى ينتخبه الناس؟! هل الأمر كذلك؟ أم أنّ أمير المؤمنين عليه السلام ليس بحاجة إلى الدعاية؛ بل إنّ الناس كسروا باب بيته لكي يبايعوه.. إنّ بيعة أمير المؤمنين تمّت بهذا الشكل، فأمير المؤمنين لم يفتح لهم الباب بل قال لهم: دعوني والتموسوا غيري اذهبوا وبايعوا رجلاً آخر، فقد بايعتم حتّى الآن ثلاثة أشخاص، وقد حكموا لمدّة خمس وعشرين سنة، فاذهبوا الآن أيضاً وبايعوا رجلاً آخر؛ ألم أجلس في البيت مدّة خمس وعشرين سنة؟ فدعوني أقضي ما بقي لي من عمر هكذا مرتاح البال، فأنا لا أصلُح لكم.
وواقعاً هو لا يصلح لهم، حيث أنّه عندما وصل ـ سلام الله عليه ـ إلى الخلافة ماذا حصل؟ لقد بدأت المخالفة منذ اليوم الأوّل.. لم تكد تأتِ الليلة الثانية من خلافته حتّى جاء أولئك الرجلان (طلحة والزبير)، فبدأت المشكلات منذ ذلك اليوم، ولم تنته حتّى ضربه ابن ملجم على رأسه الشريف! هكذا كانت حكومة أمير المؤمنين عليه السلام.
ومن هنا يتضّح أنّ أمير المؤمنين لم يقل ذلك الكلام لأنّه يريد الدعاية لنفسه، فلماذا قاله إذاً؟ إنّ الإحساس الذي كان عند أمير المؤمنين عليه السلام تجاه تلك المرأة اليهوديّة رغم أنّها كانت من دين آخر غير دينه، فهي كانت يهودية لا مسلمة، ولكن حيث أنّها كانت تعيش تحت حكومة أمير المؤمنين وتحت قيموميّته وسيطرته، فإنّ تلك القيموميّة والسيطرة لم تكن لتميّز أبداً بين تلك المرأة وبين أقرب الأشخاص إلى أمير المؤمنين.. والله! لم يكن هناك أيّ فرق عنده.
إنّ الألم الذي كان يحسّه أمير المؤمنين عند إلقاء خطبته تلك، والـ "آه" التي خرجت من حنايا صدره حينئذٍ لا يفهم حقيقتها أحدٌ إلاّ من وصل إلى مقام الولاية، فمثل هذا الشخص يدرك الألم الذي شعر به أمير المؤمنين حتّى قال: «فَلَوْ أَنَّ امْرأً مُسْلِماً مَاتَ مِنْ بَعْدِ هَذَا أَسَفاً مَا كَانَ بِهِ مَلُوماً بَلْ كَانَ بِهِ عِنْدِي جَدِيراً»، أجل.. إنّ من قال هذا الكلام كان إماماً.. إماماً معصوماً، ولهذا خرج هذا الكلام من صميم قلبه وتمام وجوده وبصدق تامّ... قال ذلك لأنهم انتزعوا خلخالاً من قدم امرأة يهوديّة!
إنّ أمير المؤمنين يريد أن يقول لنا: إنّ تلك المرأة اليهوديّة التي تعيش تحت حكومتي عندما تضع رأسها على الوسادة في الليل، فإنّها تنام باطمئنان لأنها تعتمد عليّ أنا، وتؤمّل فيّ أنا، ولأنّها واثقة بي أنا ومطمئنّة أنّني سأحميها وأصونها، فأيّ جواب عندي كي أقدّمه لله سبحانه؟ لقد كانت تعتمد عليّ أنا، ولولا ذلك لرحلتْ ولتوطّنتْ عند معاوية، أو على الأقل كانت ستقطع علاقتها وروابطها بنا و تقول: إنّ عليّاً مثل الباقين: يطلب الرئاسة والحكومة، وهو مستعدّ لأن يقتل ويظلم الآخرين لكي يصل إلى مبتغاه مهما أصاب الناس...
ألم يكن هذا ديدن الآخرين فعلاً؟ ألم يفعل يزيد ذلك؟ فما هي التهمة التي ألصقوها بالإمام الحسين عليه السلام؟ أصلاً هل يمكن اتّهام الإمام الحسين بأي أمر قبيح؟ نعم، لقد اتّهموه بالثورة ضدّ "حكومة الإسلام"، وأنّه عرّض "أمن الأمّة" للخطر، وسبّب اضطراباتٍ وشغباً!
عن أيّة "حكومة إسلام" تتحدثْ يا يزيد؟ فحكومة الإسلام ليست لك.. اتركها وامض في سبيلك.. إنّما الحكومة لسيّد الشهداء، وأبوك بنفسه قد وقّع على ذلك في وثيقة الصلح.
الحكّام الظالمون تذرّعوا بالحفاظ على الإسلام لقتل الأئمّة عليهم السلام
[إنّ منطق يزيد يقول:] هل رأيتم؟ لقد ثار ضدّ حكومة الإسلام.. انظروا: فهذه حكومة الإسلام وها أنا ذا أصلي الجمعة والجماعة، (فيزيد كان يصلّي الجمعة وكلّ الناس كانوا يشاهدون ذلك)، انظروا: ها نحن نرفع الأذان ونؤدّي الصلاة... طبعاً نحن نشرب الخمر والعرق أيضاً، ونلعب بالقرود والكلاب ونفعل الفواحش، ولكنّ ذلك طبعاً لا ينبغي أن يُقال للناس، فما يُقال للناس هو إقامة الصلاة ورفع الأذان في المساجد وما شابه ذلك، لأنّه لو أظهر فعل الفواحش في المسجد أمام الناس فإنّهم سيقولون: دع تلك المرأة تصلّي بنا، فهي على الأقلّ عندها صفاء وشكلّها أفضل!
أولم يفعل الوليد بن عبد الملك ذلك؟ لقد قضى الليل مع تلك المرأة، ثم لمّا طلع الصبح وضع العمامة على رأسها وأرسلها لتصلّي بالناس! هؤلاء هم خلفاؤنا! وهم بحمد الله خلفاء صار الإسلام منيعاً وعزيزاً بهم! لقد بنى حوضاً وملأه بالشراب، فهو لم يكن لِيَقنَع بكأسٍ أو إبريقٍ من الشراب، فقام ببناء حوضٍ كامل ثمّ ملأه خمراً وألقى بنفسه فيه كأنّه مسبح. هؤلاء هم خلفاؤنا! هل رأيتم أيّة مصائب نزلت على الإسلام؟ واقعاً ما أفظع الأمور التي قرأنا عنها وشاهدناها في هذه الألف والأربعمائة سنة؟! وجميعها كان باسم الإسلام، فكلّ جناية كانوا يفعلونها كانوا يلصقونها باسم الإسلام.. يا عزيزي، لقد قتلوا الإمام الحسين عليه السلام بكلّ بساطة كأنّها شربة ماء، لقد جاؤوا ودفعوا الأموال وخدعوا الناس بالكذب والزور..
لقد بلغ بهم الأمر أن قتلوا أطفال الإمام الحسين عليه السلام.. عجيب! واقعاً عجيب جدّاً، وعلى الإنسان أن يستعيذ بالله لأنّ الشيطان دائماً موجود، وليس الشيطان مختصّاً بذلك الزمان قبل ألف وأربعمائة سنة، بل إنّه بحمد الله يزداد كلّ يوم قوّةً عن اليوم السابق؛ إذ إنّ خبراته وتجاربه تزداد يوماً بعد يوم، ومعلوماته تنمو كلّ يوم أيضاً، فالشيطان يتكامل أيضاً، فحيث أنّه لا يخلو شيء من الكمال، فالشيطان يتكامل في مجال الشيطنة أيضاً... أليس كذلك؟ بلى، فما نراه من الشيطنة في هذه الأيّام لا يُقَارن بالشيطنة التي كانت قبل ألف سنة أو ألف ومائتي سنة أو في زمان آدم عليه السلام، فالشيطان يتكامل ويقوى باستمرار وعلومه تنمو وتجاربه تزداد بشكل دائم، فالشيطان عنده مراتب كماليّة أيضاً.
مسيرة الأنبياء كانت لتهيئة الأرضيّة المناسبة للتكامل والرقي
ما هو هدف الانبياء إذاً؟ ولأجل أيّ شيء جاؤوا؟ لقد جاؤوا لأجل إيصال الإنسان إلى تلك المرتبة من الكمال من الناحية العقليّة. فالإمام عليه السلام يأتي ليهيّئ الأرضيّة المناسبة لذلك التكامل والرقيّ، ويُحضر معه الأمان؛ يحضر معه الأمن الفكريّ والأمن الاجتماعيّ والأمن الاقتصاديّ، ويرفع الظلم والتمييز والمحسوبيّات، فيصبح كلّ الناس فريقاً واحداً وحزباً واحداً، ففي عصر صاحب الزمان لن يكون هناك مائة حزب، بل سيصبح جميع الناس سواسية.
ثمّ إنّ هذه المسائل جميعاً ليست إلاّ من باب المقدّمة للأمور المهمّة التي تبدأ من هنا وتبتني على هذه الأرضية التي تمّ إعدادها.. فتلك المعلومات وتلك الأوامر وتلك البرامج والأحكام وتلك التكاليف التي ينبغي الاستفادة منها في هذه البيئة هي ما سيأتي به الإمام عليه السلام. فهل نستطيع نحن أن نأتي بتلك الأمور؟ أم أنّها مختصّة بالإمام عليه السلام؟ فالتكاليف التي يأمر بها الإمام، والأوامر التي يلقيها والبرامج التي يعدّها لنا بشكلّ مرتّب ومنظّم: ماذا تفعل صباحاً؟ وماذا تفعل ظهراً؟ وماذا تفعل ليلاً؟ كيف تتعامل مع الناس؟ كيف تتعامل مع عائلتك؟ كيف تتعامل مع جيرانك؟ ماذا تفعل مع نفسك؟ كيف تتصرّف في خلوتك بعيداً عن أعين الناس؟ وكيف ينبغي أن تتعامل في العلن والملأ؟ جميع هذه الأسئلة سيقدّم لها الإمام جواباً وبرنامجاً، وخطّة متكاملة قد صيغت بشكلّ منظّم ودقيق.. يأتي الإمام ويبيّن لنا ذلك كلّه، وحينئذٍ من ذا الذي لا يصل إلى الكمال؟ فمع توفّر كلّ تلك العوامل المساعدة من ذا الذي لا يصل إلى الكمال؟
فمع الأمن الاجتماعيّ الذي سيتوفّر... ألم يُذكر أنّ الأمن سيبلغ إلى درجة لا تخشى الشاة من الذئب؟! هذا بالنسبة للأمن الاجتماعي... (طبعاً حتّى الآن الشاة لا تخاف من الذئب!!)
وأمّا الأمن الاقتصادي: فإنّ كلّ الناس سيصبحون أغنياء، ففي رواية عن الإمام الصادق عليه السلام يصف فيها الأمن الاقتصادي في ذلك الزمان فيقول: إنّ المؤمن حينئذً يضع يده في جيب أخيه المؤمن فيأخذ ما يحتاجه من المال، أليس هذا هو الأمن الاقتصادي؟ إنّ حالهم سيكون بحيث يذهب الشخص إلى الخبّاز مثلاً، فيأخذ ما يحتاجه من الخبز ويذهب، فإذا كان يحتاج قرصين من الخبز أخذ قرصين فقط لا ثلاثة، أي أنّه يأخذ بمقدار حاجته لا أكثر، وفي المقابل يذهب الخبّاز إلى محل الخضار والفاكهة الذي يملكه الشخص الأوّل، فينظر إلى الموز ويقول: ما شاء الله، ما أجمل هذا الموز والتفاح والبرتقال... فيأخذ واحدة من كلّ نوع؛ يأخذ تفاحة واحدة وبرتقالة واحدة وموزة واحدة وخوخة واحدة وبطيخة واحدة، فهذا هو المقدار الذي يحتاجه ليوم واحد، فيكون ما أخذه مقابل الخبزتين اللتين أخذهما صاحبه، وهكذا تجد كلّ الناس يعيشون بهذه الطريقة. ونسأل الله أن يمنحنا توفيق لقاء صاحب الزمان وإدراك زمانه لنرى بأنفسنا هل ما أقوله صحيح أم لا؟ فهذا الكلام كلام الإمام الصادق عليه السلام لا كلامي أنا.. إنّه كلام المعصوم عليه السلام.
فلماذا أحاول أنا الآن الاستزادة، و لماذا أسعى جهدي للجمع والزيادة؟ لماذا؟ لأنّ لديّ خوفاً.. فهناك خوف من المستقبل وممّا سيحصل في الغد من أمور، فالشيطان يسيطر عليّ من خلال التخيّلات والأوهام، أمّا في عصر صاحب الزمان عليه السلام فإنّ ذلك جميعاً سيرتفع وينتفي؛ إذا أحسسنا بالجوع فالخبز متوفّر عند الخبّاز، وإذا احتجنا إلى الفاكهة فهي متوفّرة كذلك، وهكذا جميع الأمور... فعند ذلك، ما الذي يجعلني أحمل في يدي أكثر من حاجتي فأثقل على نفسي.. ما الذي يجعلني أشتري كميّة كبيرة لأملأ الثلاجة بأنواع الأطعمة؟ أصلاً في ذلك الزمان قد لا نحتاج الثلاجة من أساسها، إذ لا حاجة عندئذٍ لتموين الطعام وتخزينه؛ فالإنسان في ذلك الزمان يستهلك بمقدار حاجته فقط، ودائماً يأكل الطعام طازجاً دون تجميده وتحويل الغذاء الذي فيه إلى سموم كما نفعل في هذه الأيّام... في ذلك الزمان لن يستخدم الناس المجمّدة، والمصانع ستتوقف عن تصنيعها تماماً!! [يضحك سماحة السيّد]، لماذا؟ لأنّ كلّ فرد يذهب صباحاً إلى القصّاب فيشتري نصف كيلو من اللحم الطازج أو بالمقدار الذي يحتاجه لذلك اليوم، ثم يرجع إلى بيته؛ فحينئذٍ لماذا يضعه في المجمّدة بحيث يفقد جميع خواصّه الغذائيّة، فيأكلّ طعاماً فاسداً؟! لماذا؟! لماذا يضع الإنسان الخبز في المجمّدة ليفقد جميع خوّاصه الغذائية، وبدل أن يتحوّل النشاء فيه إلى سكّر مغذٍ، فإنّه يتحوّل إلى سمّ مضرّ؟! لماذا؟! فليأكل خبزاً طازجاً بدلاً من ذلك... إنّ جميع ذلك سينتفي تماماً في ذلك الزمان، ففي ذلك الزمان سيكون الحاكم على تصرّفات الناس هو العقل، وستكون حياتهم حياة عقلائيّة.. في ذلك الزمان سيكون العقل هو المسيطر على أفعال الناس وعلى اكتسابهم ومعاشهم؛ فكلّ شخص يأخذ مقدار الطعام الذي يحتاجه لذلك اليوم الذي هو فيه، وبهذا فلن نحتاج الثلاجة ولا المجمّدة ولا غيرهما، وبنفس الطريقة يتعامل مع الأمور التي يحتاجها في باقي جوانب حياته من لباس ووسائل نقل وما شابه ذلك، فستكتسب جميع هذه الأمور الظاهرية صبغة عقلائيّة، وسيكون العقل هو الحاكم لا الأوهام والتخيّلات والمجاز والاعتبار: فكلّ ما يلزم الإنسان يوفّره، لا أكثر. وأمّا الناحية الباطنيّة فلها مراتبها الخاصّة بها.
هذه المسألة هي ما ينبغي الالتفات إليه، وهذه القضيّة هي ما ينتظره الجميع من ظهور صاحب الزمان؛ ففي زمان ظهور حضرته يتوقّع جميع الناس أن يحصلوا على هذه الحياة، ولن يكون الأمر منحصراً بصنف خاصّ من الناس؛ فجميع الناس سيدركون حينئذٍ أنّ جميع ما قيل لهم حتّى ذلك الوقت لم يكن مفيداً، وأنّ كلّ ما طُرح حتّى الآن من أساليب الإدارة الاجتماعيّة ونظريات الحكومة لم تكن ناجحة ولا نافعة، ولم تشف غليل البشريّة! حسناً ماذا نفعل إذاً؟ هل يجب أن نموت؟! إذا كان كذلك فما هو الهدف من خلقة الإنسان وإيجاده؟ وماذا حصل لتلك الكمالات التي وُعدنا بها؟!
هاهنا سيسود الشعور بأنّ فطرة الإنسان وقلبه وعقله ستمضي به مع إحساسه بالفقر والاحتياج الكامل إلى مبدأ النور والحياة هذا، ومن أجل هذا ينبغي للإنسان أن يستعدّ.. يجب على الإنسان أن يهيّء نفسه للوصول إلى هذا الأمر.
الانتظار الصحيح الواقعي والانتظار الخاطئ الكاذب
هل تتوقّعون أنّ شخصاً يقوم بما يحلو له من الظلم والجور والتعدّي، ويرتكب كلّ أنواع الجنايات، ويتفوّه بكلّ أنواع الكذب؛ سوف ينقلب حاله رأساً على عقب فجأة بمجرّد ظهور صاحب الزمان؟! كلاّ وحاشا! إنّ الذين يتخيّلون أنّ بإمكانهم أن يفعلوا كلّ ما يحلوا لهم، وفي نفس الوقت يعتبرون أنفسهم منتسبين إلى صاحب الزمان؛ عليهم أن يعلموا أنّ صاحب الزمان إذا ظهر فإنّه سيضربهم أنفسهم أوّلاً بسيف ذي الفقار، ثمّ بعد ذلك سيتوّجه نحو الأديان والمذاهب الأخرى! في البداية سينحّي هؤلاء عن طريقه، ثمّ سيتوجّه إلى باقي الأفراد.
هل تتخيّلون أنّ الأمر ينتهي بقراءة دعاء الندبة ودعاء الفرج ودعاء «اللهمّ عجّل لوليّك الفرج...»؟ هل يكفي ذلك؟ وهل ينفع ذلك بدون أن يُلزم الإنسان نفسه بالأمور التي من أجلها سيظهر صاحب الزمان؟ فمهما جلسنا وقرأنا دعاء كميل، ودعاء الندبة، ودعاء الاستغاثة بصاحب الزمان، وأقمنا الاحتفالات بمولده في النصف من شعبان، وتظاهرنا بالاستنان بسنّته؛ فهل ينتهي الأمر بذلك، وهل نصل إلى النتيجة المرجوّة؟ كلا، أبداً أبداً أبداً. لن يكون لكلّ ذلك أيّة فائدة!
ما لم يسمع الناس منّا الصدق، فلن يكون لكلّ ذلك فائدة، وحتّى لو ذهبنا لقراءة دعاء الندبة مائة ألف مرّة على هذه الحال فلن نزداد إلاّ كدورة وظلمة، ولو ذهبنا مائة ألف مرّة لقراءة دعاء كميل، ولكنّ منهجنا كان منهج عالم الشيطنة والخداع والنفاق والاحتيال على الناس؛ فإنّ جميع ذلك لن يُنتج إلاّ النكبة والوبال والتعاسة. بدلاً من قراءة دعاء كميل فلنصلح أنفسنا، ولا نغترّ بهذين اليومين من الدنيا، فهذا هو الانتظار الحقيقيّ لصاحب الزمان.
إنّ الانتظار الواقعي لصاحب الزمان إنّما يكون كما بيّنه الإمام الباقر عليه السلام بأنّه: سعي الإنسان لاستكمال عقله من خلال ما أُعطي، وبواسطة المبادئ التي وضعت بين يديه، وأن يؤدّي التكاليف التي يستطيع أداءها في تلك المرتبة، فلا أحد يتوقّع منّكم أن تبيّنوا تلك المسائل العرشيّة الراقية التي يبيّنها أولياء الله والمعصومون عليهم السلام، ولكن بإمكانك ألاّ تكذب، فلا تكذب على الأقل! هذا المقدار كافٍ ولا أحد يريد منك شيئاً آخر، ولا أحد يتوقّع منّا أن نؤدّي تلك التكاليف العالية أو أن نبيّن تلك المباني الراقية التي تختصّ بأولياء الله وخواصّ شيعة أمير المؤمنين، حيث أنّنا لو فكّرنا إلى يوم القيامة فلن نصل إلى تلك الحقائق، ولكن فلنطبّق على الأقل تلك الأمور التي تعدّ من الضروريّات والبديهيّات!!
فيا لها من مصيبة يجب التنبّه لها، ولكن من ذا الذي يسمع ويعي أنّه: بدلاً من أن نسعى لنكون نموذجاً للآخرين، يجب علينا أن نشتغل بإصلاح أنفسنا نحن، وأن نسعى لعلاج أمراضنا نحن.
فنحن هكذا حالنا، ومع ذلك نتوقّع أن يظهر صاحب الزمان من أجلنا، وأن يكون نصيراً ومعيناً لنا، وأن يقول لنا: تفضّلوا.. تفضلوا، هلمّوا إليّ، فقد ظهرتُ من أجلكم، فبعد هذه الغيبة الطويلة، ها قد خرجتُ من خلف الستار من أجلكم أنتم! كلاّ، فأفعال الله لها حساب وكتاب؛ فصاحب الزمان سينادي كلّ واحد من هؤلاء ويسأله: أنت كنت تدّعي أنّك من شيعتي، وتتظاهر بذلك أمام الناس، ولكنّني إمامُ الحقّ والعدل، وإذا كان يجب عليّ أن أقتل أحداً وأعدمه، فالأولى أن أبدأ بأولئك الذين ينتسبون إليّ، ومع ذلك اتخذوا سبيلاً غير سبيلي وتصرّفوا خلافاً لمنهجي ومدرستي في هذه الدنيا، فهؤلاء هم أوّل من سأحارب، وسأطهّر الأرض من لوث وجودهم، ثمّ بعد ذلك سأعالج أمر الآخرين الذين لا يعرفون حتّى اسمي؛ فأولئك يقفون في آخر الصفّ وفي المراتب النهائيّة.
إنّ الإمام عليه السلام إمامٌ بالعدل وهو الذي سيقيم العدل بين الناس، وبالتالي فنحن أوّل من ينبغي أن يحقّق العدل والإنصاف والصدق في وجوده، و يجب أن نوجد المحبّة والعطف والرأفة بيننا، ثمّ بعد ذلك يحقّ لنا أن نقول لصاحب الزمان عليه السلام: يا سيّدي هذا ما استطعنا تحقيقه، فقد بذلنا قصارى جهدنا.. حينئذٍ يمكن لنا أن نقول له: إنّ هذا أقصى ما تمكّنا من فعله، ولم نقدر على أكثر من هذا.. ولكن علينا أوّلاً أن نؤدّي ذلك المقدار الذي نستطيع أداءه، فذلك سيجعل نور الولاية الذي سيتجلّى في زمان الظهور يتجلّى الآن ويظهر لنا الآن في زمان الغيبة! أفلم يكن هناك أحد من أولياء الله في زمان الغيبة؟! أليس عندنا أحد من العرفاء بالله في زمان الغيبة؟! أوَلم يوجد العلماء بالله وبأمر الله وما زالوا؟! أولم يكن كلّ أولئك العلماء والعظماء موجودين على مدى الألف وأربعمائة سنة الماضية؟! فهل وُلد هؤلاء العظماء في زمان الظهور؟! وهل أدركوا زمان الظهور؟! أم لا؟! إنّ تلك الولاية التي ستتجّلى في زمان الظهور موجودة في هذا الزمان وستأخذ بأيدي أولئك الأفراد الطالبين والمنتظرين الحقيقيين، ولهذا يقول الإمام الباقر عليه السلام: إنّ من يصل إلى تلك المرتبة بحيث يكون ممّن أعدّ نفسه لظهور صاحب الأمر، ويكون من المسلّمين والمطيعين له بتمام وجوده إذا ما ظهر، وليس مّمن يعترض عليه ويستشكل في أوامره(فذلك لا فائدة فيه)، بل المقصود ذلك الشخص الذي سلّم تمام وجوده لصاحب الزمان، فلا يرى أنانيّة واستقلالاً لنفسه، فمثل هذا الشخص يقول عنه الإمام الصادق: إنّه بمثابة الجالس في فسطاط صاحب الأمر فهو معه سواءً أدرك زمان الظهور أم لم يدركه.. سواء أدرك الظهور أم لم يدركه!۱
التحذير من الاهتمام بالتوقيت الكاذب للظهور وترك تزكية النفس
لماذا يجب أن نجلس بانتظار الغد؟! ولماذا نقضي عمرنا بالقول: إنّه قد يأتي غداً، وربّما سيظهر غداً؟!
فما الذي يستفيده أولئك الذين يدعون الناس و يسوقونهم نحو الظهور الظاهريّ للإمام؟ ما أكثر الأفراد الذين كانوا يشكّلون المجالس ويتحدّثون فيها عن الظهور الظاهريّ لصاحب الزمان، فبعضهم يقول: إنّه سيظهر بعد سنتين، والآخر يقول: إنّه سيظهر بعد أربع سنوات...
وسمعت أنّ أحدهم جمع الناس في إحدى المناطق وقال لهم: إنّ هذه الحادثة هي قطعاً تلك الحادثة التي ذُكر بأنّ الظهور سيعقُبها مباشرة. فوقعت تلك القضيّة المزعومة، وما زالت الأعوام تنقضي عليها دون أن يظهر صاحب الزمان! فلماذا يفعلون ذلك؟ وبأي دليل؟ لماذا نفعل فعلاً يجعل الناس تشكّك وتقول: لماذا حصل ذلك؟ ما الذي يجبرك على قول مثل هذه الأمور؟
لماذا لا ندعو الناس إلى الظهور الباطنيّ لصاحب الزمان؟ ولماذا لا ندعوهم إلى تحقيق تلك المباني الأصيلة في وجودهم؟! لماذا نستمرّ بإعطاء الوعود الكاذبة ونحدّد للناس مواعيد غير صحيحة للظهور؟ من أين جاء ذلك وعلى أيّ دليل يستند؟ وما أكثر الذين حاولوا توقيت الظهور دون جدوى، فنحن بأنفسنا رأينا وسمعنا أحدهم يقول: إنّ صاحب الزمان سيظهر في السنة الفلانية، وها قد مرّت اثنتا عشرة سنة.. بل أربع عشرة سنة على الموعد المضروب دون أن يظهر عليه السلام؛ فما الذي حصل؟ الذي حصل أنّ المطلب الذي ذكره كان خاطئاً... لقد سمعته بنفسي يقول: إنّ صاحب الزمان سيظهر بين هذا الوقت وهذا الوقت، فقلت في نفسي: خيرٌ إن شاء الله، سننتظر موعد الظهور هذا ونرى، فرأينا أنّ شيئاً لم يحدث... وفي آخر الأمر أرسلنا له رسالة أن: ماذا حصل؟ لقد اقترب الموعد فما الأمر؟ ولم يجد جواباً إلا أن يقول: لقد حصل "بداء" في المسألة! نعم، فالبداء حجّة جيّدة وحلّ ممتاز لمثل هذه المآزق؛ فكلّما تورّط في أمر قال: حصل البداء، ولكنّ التعلّل بالبداء أمر سهل؛ فأيّ شخص يستطيع أن يدّعي ادّعاءً، ثمّ إذا لم يتحقّق ادعاؤه تعلّل بالبداء.
من يعرف وقت الظهور لا يوقّت، ومن يوقّت لا يعرف
ولكنّنا لم نتعلّم ذلك من زعماء الدين عليهم السلام، وليس هذا ما أمرونا به، فأولياء الله رضوان الله عليهم كانوا قطعاً مطّلعين على زمان ظهور صاحب الزمان، ولكنّهم ما كانوا ليطلعوا أحداً على ذلك ولا ليبيّنوا الأمر لأحد أبداً. وأمّا أولئك الذين يتحدثون ويخبرون عن موعد الظهور فليس على أيّ اطلاع، ولكن لو تحرّك الأفراد باتجاه تحقيق أهداف ظهور الإمام، فعندئذٍ تصبح الأرضيّة جاهزة لظهوره، وحينئذٍ يكون المجتمع جاهزاً لتقبّل مباني الإمام وتكاليفه، وفي ذلك الوقت سيتخلّى الناس عن التقليد الأعمى، وسيصبح العقل حاكماً على التقليد المتحجّر، ولن يجد كلّ ناعق آذاناً صاغية تتبعه، ولن يميل الناس مع كلّ ريح ولن يتّبعوا كلّ راية.. في ذلك الزمان لن ينخدع الناس بكلّ شعار يُكتب على اللوحات والجدران، وفي ذلك الزمان لن تفلح الكلّمات المعسولة الجذّابة في سلب عقول الناس وألبابهم، وفي ذلك الزمان سيواجه الناس الانحراف بقوّة، وفي ذلك الزمان سيتعامل الناس مع الحوادث والأمور التي تواجههم وسيحاكمونها من خلال الفطرة التي أودعها الله فيهم؛ فالله قد أعطى "الفطرة" للجميع، ومن خلال الفطرة يمكن لنا أن نميّز الحق من الباطل والعدل من الظلم، ويمكن لنا أن نعرف العدوان والجشع، كما يمكن لنا من خلال الفطرة أن نشخّص الصدق ونميّزه عن الكذب...
حاسبوا أنفسكم قبل أن يحاسبكم صاحب الزمان!!
فيا من يعرف الكذب ويشخّصه؛ لماذا اتّبعت الكذب؟ ويا من رأيت الانحراف وعرفته؛ لماذا أغمضت عينيك عنه؟ فأنت رأيت كلّ هذا الانحراف والغلط بأمّ عينك؛ فلماذا توجّه ذلك كلّه وتبرّره؟ إنّ جميع هذه الأسئلة ستطلب أجوبة في زمان ظهور صاحب الزمان، وهو سيسأل عن كلّ واحدةٍ من هذه الـ «لماذا؟»: «لماذا رأيت الكذب فأغضيت عنه؟! ولماذا لم تلتفت ولم تهتمّ عندما شاهدت الانحراف والغلط؟! لماذا؟!» فأنت لم تكن حجراً ولا خشباً ولا حيواناً، ألم تكن إنساناً ذا عقل وفهم وفطرة؟! فلماذا خدعك الظاهر؟! ولماذا وضعت جميع مباني دينك تحت قدميك من أجل يومين من هذه الدنيا الفانية؟ سيسأل صاحب الزمان هذه الأسئلة واحداً تلو الآخر، وسيقول: هل كنت تحتاج إليّ كي أظهر وأخبرك بكلّ هذا؟! هل يلزم أن أخبرك بنفسي أنّ الكذب حرام وأنّ الصدق واجب؟! ألم يخبرك أحدٌ بذلك طوال هذه المدّة؟ ألم تقرأ ذلك في الكتب؟ وحتّى لو لم يكن موجوداً في الكتب، فماذا عن فطرتك؟! إن فطرتك موجودة وهي لا تزول أبداً، فجميع الناس عندهم فطرة ويميّزون الصدق من الكذب سواء كانوا ملتزمين بالمباني أم لا، فحتّى أولئك عندهم فهم وإدراك سواء كانوا من المصلّين أم لم يكونوا، وسواء كنّ من المحجّبات أم لم يكنّ ؛ فالجميع يتمتّعون بالفطرة والجميع يفهمون ويدركون هذه الأمور، وهم من خلال فطرتهم وإدراكهم سيحاكموننا ومن خلال ميزان المنطق سيستجوبونا، وفي يوم القيامة سيوقفونا بهذه الفطرة، وسيطالبوننا بحقوقهم بنفس هذه الفطرة.
فحتّى متى ندفن رؤوسنا في التراب، ونتجاهل الحقائق، ونتعامل كأنّ القيامة والمعاد ليسا موجودين وكأنّ إمام الزمان ليس موجوداً، نتجاهل كلّ ذلك ونقتصر على إقامة الاحتفالات والتزيين للمولد، ونقرأ دعاء الندبة وننوح من أجل ظهور صاحب الزمان، ثمّ نخرج لنرتكب أقبح الأفعال وأشنعها!
أهكذا يكون اتّباع إمام الزمان؟! أوَ هذا هو الانتظار الحقيقي لصاحب الأمر؟! وهل هكذا يكون تطبيق أوامره وتعليماته، وهل بهذا نصل إلى المرتبة التي يريدها منّا عليه السلام؟!
كلا يا عزيزي! عندما يظهر صاحب الزمان سترون أنّ تلك المرأة غير المحجّبة ذات الضمير الصافي والطاهر والتي ليس في قلبها أي غلّ وغشّ... وأنّ ذلك الشخص التارك للصلاة الذي لم يصِلْ إلى الأحكام الإلهيّة بسبب الاستضعاف ولكنّ فطرته ما زالت سليمة غير فاسدة... سترون أنّ أولئك الأفراد هم الذين سيكونون إلى جانب صاحب الزمان وفي جواره، بينما سينزل سيف ذي الفقار على رأسنا أنا وأنت، فذلك الإمام إمامٌ ينظر إلى البواطن والضمائر، وليس إلى وجهِي الخدّاع المتظاهر بالقداسة والطهارة، ولكنّه في الواقع طافح بالكذب والاحتيال... فالإمام لن ينخدع بذلك أبداً، فذلك إمام الزمان.. ذلك إمامٌ معصومٌ لا يمكن خداعه، ولا يمكن الاحتيال عليه، وذلك إمامٌ لا يمكن أن يغيّر رأيه بسبب شخصين يذهبان إليه سرّاً فيقنعانه ويقلبان رأيه وقراره، وهو شخص لا يمكن خداعه بتلفيق قضيّة كاذبة ووضعها أمامه؛ فذلك «إمامٌ».. «إمامٌ» يا عزيزي! ويجب علينا أن نفكّر جيّداً بما سنجيبه به، فالوقت لم يفت بعد، حيث يقولون: في أيّ وقت يخرج السمك من الماء فإنّه سيكون طازجاً، وفي أيّ وقت تواجه فيه الشرّ فإنّ ذلك خير.
ما هو المعيار الذي نزن عليه الأفعال والأقوال؟
ينبغي أن نشعر أنّ إمام الزمان يراقبنا، يراقب أعمالنا، وينبغي أن نشعر بحضوره، فهو جالس في مقام الحقّ، وولايته هي الولاية الحقّة التي تجب إطاعتها.. ولايته هي الولاية المطلقة التي تجب طاعتها، فهل يُعقل أن تتعارض الأحكام الإلهيّة مع المباني والموازين العقليّة؟! هل يمكن لهذا أن يتحقّق؟! انظروا إلى جميع الأحكام.. إلى جميع الآيات القرآنيّة؛ ستجدونها عقلائيّة ومنطقيّة بأجمعها.. ينبغي أن توزن تلك الأحكام وتقيّم طبقاً للمباني العقليّة؛ فعلى أيّ أساس أقام أمير المؤمنين عليه السلام احتجاجاته التي احتجّ بها على الناس في زمن خلافة أبي بكر؟! ألم تكن على أساس العقل؟! ألم تكن على أساس المنطق؟! أوَ لم تكن هذه سيرة الإمام الحسن؟! ألم يكن هكذا الإمام الحسين؟! وكلّ هذه الروايات التي تتحدّث عن العقل ممّا رُوي عن الإمام الصادق عليه السلام وعن الإمام موسى بن جعفر عليه السلام... لم كانت كلّ هذه الروايات؟! أوَ لم يَردنا في الروايات أنّه: «إنّما يداقّ الله العباد الحساب في يوم القيامة على ميزان عقولهم» فسيحاسبهم بناءً لمستوى العقول التي أعطاهم. أوَ لم يرد لدينا في الروايات أنّه عندما خلق الله العقل والحياء والدين، قال لهما (أي: للدين والحياء): عليكما أن تكونا حيث يكون العقل؟! فما معنى ذلك؟ يعني: أنّ الدين الذي يخلو من العقلانية ليس بدين! و [أيّ دينٍ هو ذلك] الدين الذي لا عقلانيّة فيه ولا ينطبق على الموازين العقليّة؟!
عقلانيّة أوامر الله والنبيّ والأئمّة
لو جاء رسول الله وقال: أيّها الناس تعالوا واتّبعوا طفلاً في الخامسة من عمره! فهل يمكن واقعاً أن يتفوّه الرسول بكلامٍ كهذا؟! أبداً أبداً!! ولو قاله لسقط عن مقام الرسالة!! لماذا؟ لأنّ الطفل ذو السنوات الخمس يفتقد إلى العقل، ولأنّ الطفل ذو السنوات الخمس يسوق الناس إلى الضلال، يودعهم في الغابة ويسّلمهم إلى الوحوش، إلاّ أن يأتي إلى ذلك الطفل ذو السنوات الخمس فيرفع مستوى عقله إلى أفق أعلى من خلال قوّة الإمامة والولاية، وحينها يصبح الموضوع أمراً آخر، وهذه مسألة أخرى!
ولكن لو بقي هذا الطفل ذو السنوات الخمس على نفس المستوى من العقل فلن تجد الرسول في أيّ وقت من الأوقات يقول: تعالوا واتّبعوا هذا الطفل. ولو قال ذلك، فكلامه لغوٌ وعبثٌ وباطلٌ، ولا حجيّة له!
نعم، كان هناك طفلٌ عمره خمس سنوات، ولكن أيّ طفلٍ؟ طفلٌ وصل عندما كان في الخامسة من عمره إلى مقام الإمامة؛ فكم كان عُمْر إمام الزمان عليه السلام عندما صار إماماً؟ كان عمره خمس سنوات، وعندما كان إمام الزمان في الخامسة من عمره، جعل جميع عالم الملك والملكوت بأجمعه مسخّراً تحت قوّةِ وِلايته!! نعم لدينا من هو في الخامسة من عمره كهذا الإنسان!! ولكن أين هذا من أبنائنا الذين في الخامسة من عمرهم؟!
هل يمكن للإمام أن يقول لي: عليك أن تقلّد رجلاً من العوام؟! ولو قال ذلك، فماذا يكون؟ يكون كلامه باطلاً؛ والإمام لا يمكن أن يتفوّه باللغو والباطل. فإمّا أن يتصرّف في باطنه، فيوصله إلى مرتبةٍ بحيث تصبح له القابليّة والأهليّة للإفتاء، فهذا أمرٌ آخر، و لكن إذا بقي على ما كان عليه ولم يتغيّر فيه شيء، [وطلب هذا الطلب] فكلامه باطلٌ؛ لأنّه لا يتطابق مع الموازين العقليّة، ولا ينطبق عليها. فمتى أمكن أن يتفوّه الإمام بهذا الكلام؟!
يُروَى عن الإمام الرضا عليه السلام: أنّ الله أمر (في تلك الآية الشريفة التي تقول: {وَ وَصَّيْنَا الإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً} ثمّ ماذا بعدها؟ {وَ إِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما} أنّ طاعة الوالد والوالدة واجبةٌ) ؛ فطاعة الأب والأمّ الواجبة ليست متعلّقة بالأب والأمّ الشيعيّين الإماميّين الإثنا عشريّين.. أو الأب الذي يكون وليّاً لله..أو العارف به، لا! بل حتّى الأب والأمّ الشيوعيّان طاعتهما واجبة! وحتّى الأب والأمّ اليهوديّان طاعتهما واجبةٌ! واحترامهما واجب! وهذا هو الحكم الشرعيّ الإلهي. لماذا؟ لأنّهما علّتنا التكوينيّة، وكلّ شيء في عالم التكوين له حسابه الخاصّ، ولكن [نفس هذين الأبوين] إذا حصل أن طلبوا منّا أن نعصي الله، فحينها يتغيّر الأمر ولا تجب طاعتهم! بل هي حرام! فإذا حكموا بمعصية الله، كأن قالوا مثلاً: اشرب الخمر، أو لا تصلّ، حينها لا ينبغي طاعتهم في ذلك، بل هي حرام. ولكنّ الأصل هو أنّه ينبغي المحافظة على احترامهم وينبغي طاعتهم، مهما كان دينهم، ومهما كان مذهبهم؛ فهذا هو منهجنا ومذهبنا! هذا هو المنطق، وهذا هو العقل.
لكن لو قال الله تعالى: إذا أمرك والداك بالمعصية، فينبغي الطاعة لهما أيضاً؟! حينها ينبغي أن نتعجّب وأن نسأل ما الذي حصل؟! كيف صار الأمر كذلك؟! لقد وُضع الدين جانباً! ووُضع النبيّ جانباً! وقد وُضع كلّ شيءٍ جانباً.
هذا الحكم الذي حكم الله به: {وَ إِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما} (الإشراك هنا يعني: إشراك شخصٍ آخر في التصرّفات التي أقرّرها).. هذا الحكم، ما هو؟ هو حكم عقلائي.. حكم عقلائي.
حسناً، لو قال الله تعالى: إذا كان أبواك مسلمين ومن الشيعة ويصليّان صلاة الليل فعليك بطاعتهم، وأمّا إن لم يكونا كذلك فلا تطعهما. حسناً، في هذه الحال لن نستسيغ ذلك في قلوبنا، فكم تعب هؤلاء الآباء من أجلنا، وهم الذين أحضرونا إلى عالم الوجود، وهم السبب في كلّ هذه البركات، ولولاهما لما كان هذا التكامل أصلاً، فإن كانوا هم السبب وراء تكاملنا، فهل من الصحيح ألاّ نطيعهم ولا نحترمهم فقط لكونهم من غير الشيعة؟! لكونهم من السنّة مثلاً؟! أو فقط لكونهم نصارى؟! فهل يجب أن نترك طاعاتهم فقط لأنّهما من النصارى ونحن مسلمون؟! فمثلاً لو قالوا لنا: اجلب لنا الماء! فهل أقول لهم: اخرسوا وابتعدوا عن وجهي فأنتم لستم بشيعة!! سُقيتم سمّ الحيّة!! هل هذا التصرّف صحيح؟!! يعني: هل يتقبّل عقل الإنسان وفطرته هذا النوع من التصرّفات؟! كلاّ، لا يقبله. ولهذا كنّا سنقول: كيف لله أن يحكم بهذا الحكم؟! ولماذا ينبغي أن يكون هناك حكمٌ كهذا؟!
يعني فقط لأنّهم ليسوا بشيعة، وفقط لأنّهم لا يُصلُّون في أوّل الوقت، وفقط لأنّ حجابهم ليس بصحيح، فلن أحترمهم! ولن أطيع كلامهم! ولن أسعى بحوائجهم! وسأتركهم وحدهم! فما هذا الأمر؟! هذا الأمر خلاف الفطرة. أمّا ذلك الحكم فهو حكمٌ عقلانيّ.
نصب أمير المؤمنين عليه السلام يوم الغدير أمر عقلائي
لقد نصب الرسول الأكرم أميرَ المؤمنين يوم الغدير. صحيح؟ فهل كان نصبه لأمير المؤمنين عقلائيّاً، أم غير عقلائيّ؟
إن كان إخواننا من أهل السنّة يشعرون بالألم من مسألة الخلافة إلى هذا الحدّ، ويصرّون على إثبات الخلافة لأولئك، فعندي لهم سؤال: لو أنّ رسول الله نصب عمراً يوم الغدير مكان أمير المؤمنين، فهل كنتم ستأخذون نفس هذا الموقف الذي تتّخذونه الآن؟! ها؟! هل كنتم ستقفون وتقولون: كان نصبه خاطئاً، لأنّها من حقّ عليّ؟! إذاً لماذا تصمّون آذانكم؟ لماذا تنكرون إذاً؟
لو كان الله اختار عُمَر لينصّبه، فنزلت آية {اليوم أكملت لكم دينكم...} فيه، فالسؤال موجّهٌ لنا.. موجّهٌ لنا باعتبارنا عقلاء، لا باعتبارنا شيعة نسير خلف رسول الله، بهذا الاعتبار: إذا نصّب النبيّ صلى الله عليه وآله هذا الشخص مع بقائه بهذا المقدار من الفكر الذي له، وبهذا الحد من العلم، جاء وجعله حاكماً علينا، وعلى أيّ نحو؟ على النحو الذي يقول فيه: كلامه كلامي، وتصرّفه تصرّفي، وهو وجودي الباقي بعدي بينكم، ألم نكن لنضحك من قول النبيّ صلى الله عليه وآله لو قال ذلك؟! أسألكم هذا السؤال بشكلٍ واقعيّ! ألم نكن لنقول: يا رسول الله ـ وأستغفر الله فهذا الخطاب ليس لرسول الله بل لشخص آخر لا يكون رسولاً ـ نقول لذلك الشخص: على ما يبدو أنّ حرارة الشمس قويّة، و[قد أضرّت بعقلك] ، وأنت الآن بحاجة إلى الراحة والظلّ!!
إذاً هذا الفعل الذي قام به النبيّ حين نصب أمير المؤمنين، كان مع ما له من خصائص: علمه، ولايته، تقواه، شجاعته، وإيمانه، فهو المقول فيه: «أنا مدينة العلم وعليّ بابها»، و هو المقول فيه: «عليٌّ مع الحقّ والحقّ مع عليّ»، نعم مع جميع هذه الخصائص التي للإمام عليّ، ولو أنّ رسول الله لم ينصبه لنا خليفةً بعده، لكنّا أشكلنا على النبيّ فيما فعل، ولقلنا: يا رسول الله لماذا لم تنصّب أمير المؤمنين؟ أليس كذلك؟
إذاً هل التفتّم للمسألة؟ إنّ تصرّف النبيّ بالخلافة كان تصرّفاً عقلانيّاً.. تصرّفاً عقلانياً، ولا يمكن لأحد أن يُشكل عليه أيّ إشكال، والمعترضون هم الذين عليهم أن يطأطئوا رؤوسهم خجلاً. أمّا نحن فنرفع رأسنا عالياً، فهذا عليّ وهذه الكتب، واحكموا أنتم بأنفسكم، أنتم احكموا!
كلّ دساتير الإسلام هي دساتير وقوانين مطابقة لحكم العقل، فمتى وجدتم أنّ النبيّ قال: أطيعوا هذا الرجل حتّى لو أمركم خلافاً لأمر الله ورضاه؟! بل هذا حرامٌ! حرامٌ! وأيّة ولايةٍ هي هذه؟
لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق
كان رسول الله صلى الله عليه وآله يريد إرسال جماعة تحت إمرة رجل، فقال لهم: هذا هو أميركم، وعليكم بطاعته، واقبلوا منه ما يطلب منكم. لكنّ الأصحاب كان لهم فهمٌ وشعور، فقالوا: يا رسول الله! (كانوا يريدون أن يفهموا، فهم كانوا يعلمون أنّ هذا الشخص مثلهم، أو أعلى منهم قليلاً، فلم يكن ذلك الشخص أمير المؤمنين! وهم يعلمون أنّه مثلهم، وقد خطر بذهنهم عين ما خطر ببالي الآن، وقالوا:) يا رسول الله هل نطيعه في كل ما يأمرنا؟ فقال لهم: كلا، «أطيعوه ما أطاع الله» فطالما لم يأمركم بالمعصية يمكن أن تطيعوه. ألم يقل النبيّ: «لا طاعة لمخلوقٍ في معصية الخالق»؟
فهل على الإنسان أن يذهب ويطيع بلا بصيرة مثل الأعمى؟ اجلس! يجلس.. قف! يقف.. اذهب! يذهب.. لا أبداً هذا غير صحيح، بل هو حرامٌ فـ «لا طاعة لمخلوقٍ في معصية الخالق»، لا يجوز لنا أن نطيع من يأمرنا بالمعصية ولا أن نتّبعه، وإلاّ سيحاسبنا الله حساباً عسيراً! عسيراً جداً! فليس من الصحيح أن نغمض أعيننا وأن نفعل ما يحلو لنا، ثمّ نقول: ما ذنبنا نحن؟ وما علاقتنا بذلك؟ لا أبداً، بل سيأتون وسيكشفون الطالح من أعمالنا كما يتمّ اكتشاف الفايروسات الصغيرة في اللبن، فهم أكثر دقّةً من أفضل «مكروسكوب»، حتّى لو كان الـ «مكروسكوب» نوَوِيّاً! وسيفتّشون في كلّ ذرّة من ذرّات أعمالنا، وسيستخرجونها جميعاً.
فأنت يا من تطلق النار على هؤلاء الشباب و تقتلهم؛ لو كان ذاك الشاب ابنك هل كنت ستطلق النار؟! ها؟!
حسناً، ماذا قال أمير المؤمنين؟ الإمام يبيّن هذا المبنى العقلائيّ الذي تبتني عليه الطاعة وعدمها بعينه، حيث يقول الإمام (بعد أن يبيّن الطائفتين اللتين ينبغي للإنسان أن يحذر منهما): «احذروا دينكم من ثلاث» أو «ثلاثاً» ما هو الثالث؟ «ورجلاً أعطاه الله سلطاناً فزعم أنّ طاعته طاعة الله ومعصيته معصية الله» بعد ذلك يقول الإمام: «كذب على الله، لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، وإنّما الطاعة لأولي الأمر، {أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمرمنكم}» إذاً فالطاعة لله طاعةٌ مطلقةٌ، والطاعة للرسول طاعةٌ مطلقةٌ، والطاعة لأولي الأمر طاعةٌ مطلقةٌ، ثمّ يقول: «وإنّما أمر بطاعة الرسول... (لماذا ينبغي أن نطيع الرسول في كلّ ما يقوله؟ فلو قال: كُلْ! ينبغي أن نأكل، ولو قال: طلّق زوجتك! ينبغي أن نطلّقها. ولو قال: ينبغي أن تتزوّج فلانة! عليك أن تتزوّجها. ولو قال: عليك أن ترمي نفسك من السطح! إذاً عليك أن تفعل. وعليه فطاعة الرسول طاعةٌ مطلقةٌ، لماذا؟)...لأنّه لا يأمر بمعصيته! لأنّه مطهّرٌ معصومٌ» فلأنّه وصل إلى مقام الطهارة والعصمة، لذا وضعه الله بجانبه في الآية حيث يقول: {أطيعوا الله وأطيعوا الرسول...} ولم يستثنِ كأن يقول: أطيعوا الرسول في المواضع التي توافق عقولكم.. أطيعوه حيث يعجبكم، وإلاّ فاقترعوا أو استخيروا! لا بل طاعة الله جنباً إلى جنب مع طاعة الرسول؛ لأنّه مطهّر معصوم.. ولاية رسول الله هي ولايةٌ مطلقة؛ لأنّه وصل إلى مقام الطهارة والعصمة وليس حاله كحالنا.. فلأنّه وصل إلى مقام الطهارة؛ لذا فطاعته مطلقة على أساس الولاية المطلقة. ثمّ يقول الإمام عليه السلام: «وإنّما أمر بإطاعة أولي الأمر لأنّهم مطهّرون معصومون»، لماذا أمر بطاعتهم؟ لماذا كانت ولايتهم مطلقة؟ لأنّهم مطهّرون ومعصومون، هذا بديهيّ كالقضيّة القائلة: «اثنان + اثنين تساوي أربعة»، فهذه قضيّة عقليّة واضحة، وليس من قضيّة أوضح منها!
إذاً من لم يكن مطهّراً ومن لم يكن معصوماً ومن كان كسائر الناس لا يمكن طاعته؛ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، في كلّ مورد يوافق الشارع تجب طاعته، وفي كلّ مورد يخالفه تحرم طاعته وتستوجب العقاب. وبذلك تكون هذه المسألة عقلانيّة، هل يمكن لأحد أن يشكّ في ذلك؟ إذا قيل هذا الكلام لمن لم يكن لديه اعتقاد فهل يمكنه أن يعترض؟ لا يمكنه! و نحن إن شاء الله سنبحث هذا الموضوع بنحو وافٍ في بحث «الارتداد في الإسلام»، وسنبيّن الفروع المختلفة لذلك، فلمسألة الطاعة مراتب، وهي واضحة جداً، وهي على النقيض من التقليد الأعمى الذي لا بدّ فيه أن تطيع كلّ ما يقال، فالعقلانيّة تقول أنّ عليك أن تعمل بما كنت على يقين منه، وهذان نقيضان، وعلى الإنسان أن يشخّص بعقله.
بشائر العقلانيّة عند الشعوب تمهّد لظهور صاحب الزمان عليه السلام
وها نحن نشاهد في هذا الزمان، في جميع أنحاء العالم رواجاً للعقلانيّة، وتوجّهاً من قبل الناس نحوها، وبدأت طلائع ذلك وآثاره بالظهور؛ فقد بدأ الناس يتفاعلون مع استعداداتهم وقابليّاتهم الكامنة والتي لم تكن لتجد مجالاً للظهور والبروز، ونحن نلمس ذلك في كلّ أرجاء العالم، لقد بدأ كلّ الناس يتحرّكون شيئاً فشيئاً من مرتبة التقليد إلى مرتبة العقلانيّة، لذا نحن نشاهد أنّ الاعتراضات والانتقادات قد بدأت بالظهور في العالم، ولم يعد يقنع الناسَ أنّ فلاناً هو الذي صنع ذلك، ولم يعد هناك من يصغي إلى مثل هذا الكلام. من الملموس بوضوح أنّ طلائع هذه العقلانيّة وذلك الرجوع إلى الفطرة قد بدأت بالبروز، وإن شاء الله إذا استمرّت فسيتحقّق ذلك الوعد الذي وعد به أولياء الله من أنّ هذه الحالة ستمهّد لصاحب الزمان؛ فهذه الثورة الفكريّة والعقليّة والاعتقاديّة لا بدّ أن تهيّئ الناس وتسير بعقولهم في سبيل النموّ والتكامل، وإلاّ فلو بقيت العقول على تحجّرها فماذا سيصنع بها صاحب الزمان؟ فما دمتُ أنا غير مستعدّ فماذا عساه أن يصنع بي؟! لا بدّ أن أعدّ نفسي.. لا بدّ أن أخرجها من التقليد الأعمى الذي يرجع إلى القرون السالفة حتّى يمكنني أن أتذوّق بروحي نسمة من عبير ذلك الوادي.. لا بدّ أن أنجو بنفسي من هذه البوتقة لكي أرى حقيقة الأمر.. لأرى ما هو الفضاء الذي يحيط بي، وإلاّ إذا بقيت مجهداً لنفسي.. مخادعاً لها.. أدعُ الدنيا تغرّني، وأسمح للمراكز والمواقع والكراسي أن تمنعني عن معرفة الحقّ.. إذا ما برحت أزيد نفسي توغّلاً في هذا السجن؛ فسوف لن أصل إلى النتيجة المرجوّة، لذا يقول الإمام عليه السلام أنّ المتمسّك بدينه في فتن آخر الزمان هذه كخارط القتاد، وهي عبارة عجيبة تبيّن صعوبة حفظ الدين وأنّها بمثابة فلّ أشواك القتاد من الأعلى إلى الأسفل، وليس من الأسفل إلى الأعلى!! هكذا يحفظ الدين في هذا الزمان، فالشبهات التي تنشأ، والمشكلات التي تبرز، والمدّ والجزر اللذان يحدثان، والمسائل المختلفة التي يشاهدها الإنسان، كلّ واحدة منها كفيلة بنفسها أن تمنع الإنسان من الاستمرار في طريقه، كالشبهات الاعتقاديّة، و الشبهات الدينيّة.. تلك الشبهات الثقيلة التي تقعد بالفيل الضخم على الأرض عاجزاً عن حملها؛ من هنا يقول الإمام أنّ على الإنسان أن يتمسّك بدينه في مثل هذه الظروف، عليه أن يتمسّك بتلك المباني!!
واقعاً عجيب!! أنا لم أكن لأدرك حقيقة هذا الكلام إلا بعد أن خضت العديد من التجارب، كيف يقول الإمام أنّ على الإنسان أن يتمسّك بدينه كي لا تنحرف به الشبهات، فما هو الدين؟ الدين هو تلك المباني والاعتقادات التي يستيقن بها الإنسان، فاليوم لا بدّ من الاستفادة من تلك المباني والاعتقادات، وإلا عصفت به الريح. على الإنسان أن يتحرّك قُدُماً بالاستناد إلى تلك الاعتقادات التي عُجنت في ضميره والتي تنسجم مع فطرته وعقله، ولا داعي للعجلة في السير، ولا داعي لاختلاق الاختلاف وإيجاد التشتّت، والقيام بما لا فائدة منه، وتخريب الاعتقادات، بل عليه أن يعمل بتكاليفه، فإن كان المطلوب منه التوقّف يتوقّف، وإن كان المطلوب أن يتحرّك يتحرّك، وإن كان المطلوب أن يتكلّم يتكلّم، وإن كان المطلوب أن يسكت فعليه أن يسكت، و يجلس جانباً.. عليه أن يرى ما هو التكليف الذي يفرضه عليه يقينه واعتقاده؟ ماذا علّمه العظماء في مثل هذه الأمور؟ فهذا هو محلّ العمل بها، لا أن نقول: كان هناك عالم قبل خمسة عشر سنة وذهب وانتهى الأمر، كلاّ!! فالأولياء موجودون وأحياء، وكلّ ما قالوه هو من أجل يومنا هذا، ولكن نحن نغمض أعيننا، فإذا نحن أغمضنا أعيننا فإنّ الله يأتي ويزيدها إغماضاً، فيسير الإنسان ويسير ويسير حتّى لا يدري من أين يخرج.
ما هي المطالب التي قبل بها، ما العقائد التي وافق عليها؟ لصالح من تصير المكاسب! لماذا أغمضت عينك؟ لماذا؟ لماذا لم تعمل بما كنت تعلم؟! سيأتي يوم تُسأل فيه عمّا أعطاك الله.
نسأل الله أن يجعل هذا العيد مباركاً لنا، ومعنى كونه مباركاً أن يجعل الله لنا فيه مزيداً من الفهم والإدراك، وإن لم نكن حتى الآن قد انتبهنا فنسأل الله أن ينبّهنا من الآن فصاعداً.
لنفرض أنّ الإمام سيظهر بعد سنة، فماذا سأصنع من الآن حتّى نهاية السنة؟ هل سأستمرّ على أفعالي وأقوالي ـ وليس ظهوره محدّداً ومعلوماً. أو لنفرض انّني سأرحل عن هذه الدنيا قبل أن ظهوره، فهل أرحل و أنا جاهلٌ بإمامي؟ هل أرحل من هذه الدنيا قبل أن أعرفه بحقيقة المعرفة فأصل بذلك إلى مرتبة الكمال؟ أفتظنّون أنّ أولياء الله الذين رحلوا من هذه الدنيا ليسوا مع صاحب الزمان؟! إنّهم الآن في عالم الآخرة يستفيدون من إمام الزمان أكثر مما يستفيد منه المستفيدون بعد ظهوره، نحن نظنّ أنّ الإمام لنا فقط، و أنّ ولايته للكرة الأرضيّة فقط، وأنّه يجلس في مدينة معيّنة.. كلاّ! فولاية الإمام هي لعالم الوجود كافّة، والذين خرجوا من الدنيا هم أيضاً على مائدة إمام الزمان، أولياء الله الذين رحلوا عن الدنيا هم على سفرته أيضاً.
هذا هو معنى الولاية، ولا بدّ أن ندرك هذا المعنى و هذه الحقيقة حتّى يكون هذا اليوم مباركاً لنا.
بيان فضيلة طلب علوم أهل البيت والمسؤولية الملقاة على عاتق العلماء
واليوم وبهذه المناسبة سيتمّ تعميم أحد الإخوان في الدين والأخلاء الروحانيين.. من الأصحاب ورفقاء الطريق.. من الأصدقاء الأعزّة والأحبّة.. فهو سيتزيّن بلباس أهل العلم وتحصيل علوم أهل البيت عليهم السلام بعد أن قضى سنوات في هذا المجال، وحاز الكثير من المراتب، وهو بحمد الله ذو فهم واستعداد.. استعداد لمدارج وكمالات أرفع.. تلك الكمالات التي جعلها الله لأهل العلم والمتّبعين لمدرسة الإمام الصادق، وهي على حدّ تعبير المرحوم الوالد رضوان الله عليه: لا تخطر على مخيّلة أحد، ويتمّ تحصيل هذه الكمالات من خلال اتّباع سيرة المعصومين وسنّتهم، ومعرفة موقعيّتنا أمام هذه المدرسة: مدرسة الحريّة.. مدرسة الصدق.. مدرسة الفطرة.. مدرسة الإيمان.. مدرسة الإتقان.. مدرسة المسؤوليّة أمام صاحب الزمان، هذه هي المدرسة. ولا بدّ أن نعرف أنّ مسؤوليّتنا هي أمام من؟ هل نحن مسؤولون أمام زيد وعمرو أم أمام صاحب الزمان؟ هذا ما يجب أن نفهمه! وهذا ما يجب أن نجعله نصب أعيننا عندما ندرس و عندما نقرأ (قال الصادق) و (قال الباقر) عليهما السلام، وهذا ما ينبغي أن نحسب حسابه عندما نبحث و نستخرج النتائج.. هذا فقط وفقط هو ما ينبغي أن نجعله نصب أعيننا و هو: نحن مسؤولون أمام من؟ ومن هو مخاطبنا؟ و من هو الذي سيقيّم أعمالنا؟ هل نعمل لإرضاء المجتمع؟ فالمجتمع يأتي ويزول.. هل نحن مسؤولون أمام الناس؟ أم من؟
علينا أن نكون مسؤولين أمام الإمام عليه السلام، و نكون ممّن (لا يخافون في الله لومة لائم)، فالإمام هو المنجي الحقيقي و هو المهيمن والمسيطر على جميع المقدّرات، فالولي المطلق هو إمام الزمان عليه السلام.
لباس طلاّب العلم هو لباس الملائكة في صورهم المثاليّة
اليوم سيرتدي هذا الأخ لباس الملائكة وسيتوّج بهذا التاج؛ فالعمائم تيجان الملائكة، والملائكة في صورهم المثاليّة يرتدون العمائم، نعم.. ليس في مراتبهم المعنويّة والروحانية والعقلانيّة حيث لا لباس لهم هناك، وتقيّد الوجود في تلك المراتب لا يستلزم التلبّس بلباس، ولكن من حيث التنزّل إلى مراتب المثال والملكوت فإنّ للملائكة عمائم، ومن الواضح أنّ الإنسان إذا لبس هذا اللباس فإنّه سيترك عليه آثاراً، و يجعله إنساناً آخر يختلف عن الأمس، فرغم أنّه حتّى الآن لم يقم بشيء جديد ولكنّ ملكوت هذا اللباس الظاهري يؤثّر على حال الإنسان.
مثلاً إذا جلست في حسينيّة فكيف تكون حالتك بالمقارنة مع الجلوس في مكان ترتكب فيه المعاصي؟ ألا يختلف؟ مع أنّ الأحجار والطين واحد في كليهما، لماذا تختلف الحال؟ لأنّ ملكوت هذا المكان يؤثّر عليك، إذا أردت أن تصلّي، فجرّب أن ترتدي ـ كما كان يوصي المرحوم العلاّمة ـ ثوباً أبيض مع عمامة خضراء إذا كنت سيّداً، و عمامة بيضاء أو صفراء لغير السادة (فلا إشكال في ارتداء العمامة الصفراء بل إنّها مستحبّة أيضاً)، ثمّ صلّ بهذه العمامة العباءة و الثوب الأبيض، و بعد ذلك انزع هذه الثياب و البس قميصاً و بنطالاً ثمّ صلّ بها، ثمّ انظر ألا تحسّ بالفرق من حيث حضور القلب؟ فما هو سبب ذلك؟ سببه أنّ هذا اللباس مؤثّر...
لماذا يؤثّر العطر في الإنسان؟ لأنّ العطر يجلب الملائكة، وكلّما شعرت بالانبساط والروحانيّة فاعلم أنّ هناك ملائكة، فالروحانيّة مساويةٌ لوجود الملائكة بل معلولةٌ له، وكلّما وجدت كدورة وظلمة في مكان ما أو حضرت في موكب من المواكب فأحسست بالكدورة، فاعلم أنّ الملائكة قد خرجت من ذلك المكان، تاركة مكانها لموجودات أخرى، و الإنسان يشعر بذلك، كما أنّه إذا جلس مع أخيه على الأرض وتحدّثا فإنّ حالهما وحديثهما يختلف عنه فيما لو جلسا على الكرسيّ والطاولة، و يمكن لكم أن تضعوا مسجّلاً و تسجّلوا الحديث الذي يدور في كلتا الحالتين لتروا الفرق بأنفسكم. فلماذا يحصل ذلك؟ لأنّ العوامل المؤثّرة في ملكوت الأشياء تتغيّر بتغيّر الظواهر أيضاً؛ فالعالم مقسّم بين الملائكة والشياطين.. بين النور والظلمة.. بين الحياة والموت.. بين الانبساط والانقباض، فإذا حضر هذا غاب ذاك، ولا يمكن اجتماعهما معاً.
فما دام الأمر كذلك، فما أجمل أن يجعل الإنسان نفسه في هذا المجال؛ [مجال النور و الحياة و الانبساط]، فيلبس لباس الأنبياء ولباس الملائكة.. ذلك اللباس الذي له قيمته الخاصّة في حدّ نفسه فهو يحول بين الإنسان وبين الكثير من الاشتباهات و الأخطاء. و من هنا فعلى الإنسان أن يتلبّس بهذا اللباس و أن يضمّ له مراقبة الباطن واتّباع سيرة الأولياء الإلهيين (و هذا هو المهمّ).. فذلك اللباس وتعلّم علوم أهل البيت عليهم السلام إذا ترافقا مع تزكية النفس وتربيتها واتّباع العظماء والعرفاء بالله ومتابعة سيرة أولياء الله وسنّتهم، فحينئذٍ سنرى ما أعظم النتيجة التي سيحصل عليها الإنسان! حيث سيصل الأمر إلى درجة يعبّر عنها رسول الله صلّى الله عليه وآله في الرواية بأنّ كلّ موجودات العالم تدعو له حتّى الحيتان في البحر، وليس هذا بمبالغة أو هزل وعبث، فقد شاهد ذلك من كشف لهم الغطاء فرأوا الحيتان في البحر تدعو لطالب العلم، ورأو أنّ الأشجار التي يجلس تحتها من يتذاكر علوم أهل البيت تدعو لهم، لقد رأوا ذلك، وعلى كلّ حال ما أخبرونا به حقّ وما علينا إلا أن نتّبعه.
اللهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد.