المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني
المجموعةسنة 1437
التوضيح
في هذه المحاضرة التي ألقاها سماحة آية الله الحاجّ السيّد محمد محسن الطهراني قدس سره تعالى في الثامن عشر من شهر رمضان المبارك، استمرّ سماحته في شرح فقرة (فلو اطَّلَعَ اليَوْمَ عَلى ذَنْبِي غَيْرُكَ ما فَعَلْتُهُ وَلَوْ خِفْتُ تَعْجِيلَ العُقُوبَةِ لاجْتَنَبْتُهُ...) مستعرضًا في ضمن ذلك النقاط التالية: ـ خوف الإنسان من العقوبة الدنيويّة بدل الأخرويّة راجع إلى ترجيحه للظاهر على الباطن ـ احتمال وقوع الجميع في خطر ترجيح الدنيا على الآخرة ـ عدم اهتمام الإنسان بالتأثير الذي يتركه نفس العمل ـ الهداية بيد الله تعالى يوصلها لمن يشاء كيف يشاء ـ النظر إلى البدن بنظرة آليّة لا استقلاليّة أسلوب تعامل الأولياء مع البدن
هو العليم
نظرة الإنسان للبدن من منظور الأولياء
شرح دعاء أبي حمزة الثمالي - سنة ۱٤٣۷ هـ ق - المحاضرة السابعة
محاضرة ألقاها
آية الله الحاجّ السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ
قدس الله سره
أعوذ بالله من الشّيطان الرّجيم
بسم الله الرّحمن الرّحيم
وصلّى الله على سيّدنا ونبيّنا أبي القاسم محمد
وعلى أهل بيته الطّيّبين واللّعنة على أعدائهم أجمعين
«فلَوِ اطَّلَعَ اليَوْمَ عَلى ذَنْبِي غَيْرُكَ ما فَعَلْتُهُ وَلَوْ خِفْتُ تَعْجِيلَ العُقُوبَةِ لاجْتَنَبْتُهُ لا لأنَّكَ أَهْوَنُ النَّاظِرِينَ وَأَخَفُّ المطَّلِعِينَ بَلْ لأنَّكَ يا رَبِّ خَيْرُ السَّاتِرِينَ وَأَحْكَمُ الحاكِمِينَ وَأَكْرَمُ الاَكْرَمِينَ»
خوف الإنسان من العقوبة الدنيويّة بدل الأخرويّة راجع إلى ترجيحه للظاهر على الباطن
لو أنّني أعلم حين ارتكابي للمعصية أنّ هناك أحدًا غيرك يطَّلِع على معصيتي، فإنّني لن أرتكبها أبدًا، فحيث إنّني أرى أنّه لا يوجد في البين أحدٌ، وليس لأحد اطّلاع عليّ أثناء قيامي بالمعصية، فإنّني أرتكب تلك المعصية.
وكذلك فيما يتعلّق بك، لو أنّني أيضًا أمتلك الخوف من تعجيلك العقوبة، فإنّني لن أكرّر ارتكابي المعصية؛ لأنّني أعلم أنّه حينها لن يحلّ الصّباح أو اللّيل إلاّ وقد وُفّيتُ حقّي من العقاب؛ وحينئذٍ، فإنّني لن أرتكب أيّ ذنب نهائيًّا؛ إذ لو تقرّر أنّه إذا كذب أحد الأشخاص، فإنّه يُرمى بقطعة من الآجر على أمّ رأسه، فإنّه لن يكذب، و إلا كان أحمقاً! وكذلك لو تقرّر أنّه حينما يأخذ أحدٌ مالاً أو يسرقه، أن تنشقّ الأرض وتبتلعه من دون أن يُمهل ولو لساعة من الزمان، فلن يقوم أحد بهذا العمل أبدًا، ولكنّ الحال أنّ السّارق يقوم بالسرقة ويتحرّك في الشوارع بحريّته ولا تعترضه أيّة مشاكل.
وهكذا، لو أنّني أخاف إذا عجّلتَ بالعقوبة في هذه الدنيا وكانت طريقتك وأسلوبك أنّه بمجرّد ارتكاب شخص ما ذنبًا، فإنّه سيلقى نصيبه من العقوبة خلال ساعة من الزمان، فإنّني والحال هذه، لن أقدم على ارتكاب أيّ ذنب؛ فهذا الخوف هو الذي يجعلنا نمتنع عن القيام بهذه المعاصي.
فجميع هذه المسائل ترجع إلى هذه النقطة؛ وهي أنّنا نرجّح الظاهر على الباطن، حيث نعلم بأنّ هناك في الآخرة حساب وعقاب وتحقيق وما شاكل ذلك، غير أنّنا لا نرتّب عليه أيّ أثر، ولكن، حينما يطال الخطر روحنا في هذه الدنيا، فإنّنا نرتّب الأثر على هذا الأمر؛ فماذا يعني ذلك؟ يعني أنّنا نرجّح الجسم على الروح! إذ هذه الدنيا جسمٌ: رأس ودماغ وساق وشعر وجلد ورجل وقلب وأمعاء وبقيّة الأعضاء.. هذه هي الدنيا!
فمع أنّنا نعلم بأنّ هناك عقوبة في ذلك العالم (الآخرة)، إلاّ أنّ الذي يحجزنا عن ارتكاب المعصية هو خوفنا من العقوبة في هذا العالم (الدنيا)! افرضوا مثلاً أنّ الله سبحانه يقول: «أنا في هذه الدنيا، سأعاقبك على كلّ ذنب بعد ساعة واحدة من ارتكابه؛ فإذا ما ارتكبتَ سرقة، فإنّ بلاءً سينزل على رأسك بعد ساعة، كأن تتوقّف إحدى كليتيك عن العمل، فافعل ما شئت! وإذا كذبتَ، فإنّ أمعاءك ستتوقّف عن العمل، وأيّ شيء تأكله، فإنّه يقف هناك! كما يحصل مع الأشخاص الذين يخضعون للتخدير في العمليّات الجراحيّة حيث تتوقّف أمعاؤهم عن العمل لفترة من الزمان، فيسعون بعد ذلك لتنشيطها، وإذا ما سرقت، فإنّ معدتك تتوقّف عن العمل ، وهكذا ...»
ثمّ إنّ السّرقات تختلف فيما بينها؛ فمرّةً تسرق تومانًا واحدًا، وتارةً تسرق عشرة تومانات، وأخرى مليون تومان، ورابعة مليار تومان، وخامسة ثلاثة آلاف مليار تومان، أو عشرة آلاف! فالسرقة لها مراتب ودرجات مختلفة! [يقول سماحته ممازحاً:] ولا يخفى أنّه من الممكن ألاّ يهتمّ الحقّ تعالى لحال الذي يسرقون مائة مليون فصاعدًا! بل يتركهم وشأنهم ويركّز على الذين يسرقون المبالغ القليلة، والظاهر أنّ هذا يتوافق مع ما نُشاهده! فكأنّ الله تعالى لا يأبه لهؤلاء!! يقول: «بما أنّهم تجاوزوا الحدّ، فإنّنا لن نهتمّ لحالهم، فليفعلوا ما يحلو لهم!!»
أو أن يقول الحقّ تعالى: «إذا ارتكبت المعصية الكذائيّة، سأوقف قلبك عن العمل!»، وهنا يكون الخطر عظيمًا؛ لأنّه إذا توقّف القلب عن العمل، فإنّ كلّ شيء سينتهي!
وهكذا فلو أخبرنا الحقّ تعالى بأنّه سيُعيِّن لكلّ ذنب عقابًا [دنيويًّا] خاصًّا، فكم يا تُرى من الأشخاص سيتجرّؤون على ارتكاب الذنوب في هذه الدنيا؟ أنا لا أظنّ بأنّنا سنعثر على شخصين يتجرّآن على فعل ذلك! اللهمّ إلاّ أن يكون هناك أحدهم تخلّى عن كلّ شيء، حتّى روحه؛ نظير أولئك الذين يلقون بأنفسهم من شاهق، أو في البحر، رغبةً في الانتحار؛ وعليه، فإنّ هذا دليل على أنّنا نركّز الاهتمام على جسمنا لا روحنا؛ فلا نهتمّ أبدًا بروحنا، وتجدنا نعلم بأنّ روحنا ستتضرّر، لكنّنا لا نُلقي بالاً لذلك.
احتمال وقوع الجميع في خطر ترجيح الدنيا على الآخرة
في ليلة عاشوراء، قال عمر بن سعد للإمام الحسين عليه السلام: «أقسم بالله أنّني أعلم بورودي جهنّم بسبب هذا العمل»، ولم يكن يكذب! فهو لم يكن إنسانًا عاديًّا، بل كان من الشخصيّات المعروفة بالكوفة، ومن أهل الدراية، وكان يأتي عنده الناس، ويسألونه عن مسائلهم الشرعيّة؛ وكان عبيد الله بن زياد يعرف ذلك، حيث قام بانتخابه لأنّه شخص معروف و محترم بين الناس؛ لأنّ الشخص الذي يريد أن يقف في وجه سيّد الشهداء لا ينبغي أن يكون بقّالاً أو لحّاماً، بل يجب أن يكون ذا شأن وموقعية بين الناس، حتّى يستفيد من وجاهته وسلطته وشهرته للوصول إلى أطماعه الدنيئة؛ وهكذا هو الأمر دائمًا!
فقال له الإمام عليه السلام: «إذا كنت على علم بذلك، فلماذا أتيت [لقتالي]؟! فها أنت تعترف بنفسك!»، فأجابه قائلاً: «لا أستطيع أن أغضّ الطرف عن حكومة الريّ».. إنّ هذا لعجيب جدًّا!
ما معنى ذلك؟ إنّ معناه هو أنّه يقدّم الجسم على الروح، ويفضّل الدنيا على الآخرة؛ فهو يقول: «أنا أعلم بورودي جهنّم، وأنا على يقين من ذلك، لكن لا توجد هناك أيّة مشكلة». فما هي حقيقة هذا الأمر؟ وما هو سرّ هذه المسألة بأن يكون الإنسان عالمًا بدخوله جهنّم وتعرّضه لسخط الله تعالى وغضبه، لكنّه في نفس الوقت يُرجّح هذه اللذّة الدنيويّة المحدودة جدًّا على العقاب الأبدي؟ إنّه لأمر عجيب جدًّا، ويُثير تعجّب الإنسان! ونرجو من الله تعالى ألاّ يصيبنا ويحلّ على رؤوسنا مثل ذلك!
في أحد الأيّام بعد انتصار الثورة، كنت بمسجد القائم، وكان ذلك اليوم من الأيّام التي يُخصّصها الرفقاء لتنظيف المسجد، وحتّى المرحوم العلاّمة كان هناك. وكنت قد جلست جانبًا على حجر برفقة أحد الأشخاص؛ وهو على قيد الحياة حاليًّا ومن الأقرباء، وهذا الشخص لم يكن حاله سيّئًا في ذلك الوقت؛ وجلسنا نتحدّث قليلاً، فكان يتساءل عن أحد الأشخاص من أقاربه بأنه: كيف يُمكنه أن يرى الشمس عيانًا، ثمّ يُنكر وجودها، ويتّخذ مسلكًا مخالفًا، فكيف يُمكن لهذا أن يحدث؟! وكان يقصد أنّ ذلك الشخص أتى، واطّلع على كلّ شيء، وأدرك كلّ شيء، وذاق من هذا الماء المعين والعذب والحلو، ورفع عطشه به؛ فكيف يُمكنه أن يُعرض عن كلّ ذلك، ويسلك طريقًا آخر، ويقطع علاقته بهذا الطريق؟! أَوَ يُمكن أن يحدث مثل هذا من الأساس؟!
فنظرت إليه ثمّ قلت له: «يا عزيزي! اذهب وتعلّق بأذيال الحقّ تعالى، حتّى لا يأتي يومٌ ويُسلب منك هذا التوفيق، فإنّني أقسم بالله أنّ الإنسان يصل إلى درجة بحيث يرى الشمس في رائعة النهار، ومع ذلك يُنكر وجودها»؛ وقد حصل معه نفس الشيء! إذ سقط في بعض الأمور التي نعجز عن الحديث عنها الآن. فعلينا أن ندعو الله تعالى ونضجّ ونبتهل إليه حتّى لا نُبتلى بمثل هذه الأمور، بحيث يصل الإنسان إلى درجة يُرجّح فيها بدنه على روحه.
إنّ معنى كلام الإمام السجّاد عليه السلام هو: «لولا خوف العار، لارتكبت المعصية؛ فالخوف من العار هو الذي يحجزني عن الذنوب»؛ فإذن، لقد رجّحتُ هنا الظاهر على الباطن.. وعندما تقول: «لو كنت أخاف العقوبة، لما ارتكبت المعصية»، فإنّك رجّحت الظاهر على الباطن؛ أي: لأنّ الله تعالى قال لك: إنّه لن يهتمّ لحالك في هذه الدنيا، فإنّك ترى أنّ المسألة محلولة بالنسبة إليك، وأمّا لو قال لك بأنّه سيُجازيك على المعصية الفلانيّة في يوم الغد، فإنّك لن ترتكبها؛ وعليه، فبما أنّ الله تعالى يُرتّب الجزاء بالنسبة للإنسان بشكل سريع، فإنّ ذلك يُؤدّي إلى لامبالاة هذا الإنسان تجاه الذنوب؛ و الحقيقة أنّ السبب في ذلك يرجع إلى جهل الإنسان.. جهله بنفسه وبمصيره وبكماله ورقيّه... .
على الإنسان أن يهتم بالتأثير الذي يتركه نفس العمل لا على اطلاع الناس عليه
وعلينا نحن أيضًا أن ننتبه؛ لأنّنا على نفس هذه الشاكلة! غاية الأمر أنّ المسألة اتّخذت عندنا صبغة أخرى، وإلاّ فلا فرق من ناحية الطاعة والمعصية؛ وكنت قد ذكرت للرفقاء في الليالي السابقة أنّنا لا نلتفت كثيرًا إلى نفس العمل، وإلى التأثير الذي يتركه فينا، وأنّنا نهتمّ فقط بمسألة هل اطّلع علينا أحد أم لم يطّلع، لا بمقدار التأثير الذي يتركه فينا العمل؛ إذ لو كنّا نهتمّ لذلك، لما فرُق لدينا اطّلاع الناس أو عدم اطّلاعهم؛ فحينما أحسّ بالعطش، فإنّني أشرب الماء من دون أن ألتفت هل رآني أحد أم لا.. أَفَهل يملك علمك بشربي للماء أو عدم علمك أيّ تأثير في عطشي ورفعه؟! وهذا لأنّني أعلم بأنّ هذا الماء مفيد بالنسبة إليّ وأنّه يرفع عطشي.
فنفس العمل مهمّ بالنسبة إلينا، ولا تأثير في هذه المسألة لاطّلاع الناس وعدم اطّلاعهم، بينما تجدهم في أماكن أخرى ينظرون دائمًا لبعضهم البعض، فيعقدون الجلسات، وينصبون اللافتات، ويُوزّعون الإعلانات في رؤوس الأزقّة، وهنا وهناك بأنّه سيُعقد مجلس للهيئة الفلانيّة في المدينة الكذائيّة، وأنّ الخطيب هو الحاج فلان، وقارئ العزاء الحاج فلان، فتعالوا إلى هناك وشرّفونا بالحضور! يا عزيزي ، إذا كان محلّ هذه الهيئة هنا، فلماذا تذهب إلى الشارع الواقع في أعلى مشهد لكي تضع هناك الملصقات الإعلانيّة؟! فحينما يكون الحضور قليلاً، تجد بأنّه مطبق على شفتيه [تعبيرًا عن عدم الرضا]، وحواجبه معقوفة على شكل العدد سبعة، وفمه على شكل ستّة، وعيناه على شكل أربعة!!!
وحينما يحضر أربعة أشخاص، تراه يقول: «تفضّلوا، مرحبًا بكم، لقد شرّفتمونا بالمجئ، لقد آنستمونا بالحضور، تفضّلوا أنتم إلى الأعلى.. يا سيّدي، هذا ليس مكانكم، تفضّلوا إلى الأعلى!»؛ فتجد وجهه منشرحًا جدًّا، والضحكة تعلو وجنتيه، ويقول مع نفسه: «لقد كان اليوم مجلسًا رائعًا، وحظينا ولله الحمد في هذه الليلة بعناية الأئمّة عليهم السلام ورعايتهم!» فنجرّ الأئمّة عليهم السلام إلى الوسط، ونعمد إلى استغلالهم، فنحن نُجيد استغلال الأئمّة! ولا يوجد هناك من يفوقهم في المظلوميّة! فكلّ من يُريد القيام بفعل، يأتي بإمام الزمان عليه السلام، أو الإمام الرضا عليه السلام، أو الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم، ثمّ يقول: «لقد حظيَ مجلسنا بالعناية في هذه الليلة!» لأنّ أربعة أشخاص انضافوا إليه!
فصاحبنا كان يُريد الذهاب إلى منزله، لكنّه قال في نفسه: «لا يوجد عندي ما أفعله هناك إلاّ التحديق بالحائط، أو النظر في وجه زوجتي المبارك (أو بالعكس حتّى لا يعترض علينا أحد)!! فلأذهب إلى مجلس العزاء، علّني أظفر بكأس من الشاي، بل ربّما يُوزّعون معه الحلوى والكعك!»، ثمّ تراه يظنّ بأنّه جاء لأجل الإمام الحسين عليه السلام! أو أن يقول في نفسه: «فلأذهب الآن إلى مجلس العزاء، لعلّني ألتقي بفلان، فيُجازيني على ما أقوم به لأجله، ويُمشّي لي أموري».. أجل، فيأتي عدّة ليالٍ للمجلس بهذه النية، لكن أين هو الإمام الحسين وأين هو الرسول وأين هو المجلس من كلّ ذلك؟! إنّ جميع هذه الأمور لا تعدو كونها عبثًا وضياعًا للجهد! كما تجد أيضًا صاحب العزاء مسرورًا ويقول في نفسه: «ما أكثر الحضور هذه الليلة!».. فكلّ ذلك على نفس هذا المنوال.
في أحد الأيّام، رأيت أحد الخطباء ذهب لإلقاء خطبة في مكان ما، فكان مبتهجًا جدًّا لمشاركة العديد من الأشخاص في خطبته؛ أي أنّه كان يتحدّث بكلّ جذل وبهجة، وكان طربًا جدًّا لابتهاج الحضور إلى درجة أنّه صار مأخوذًا بتلك الأجواء! لكن بعد مدّة قليلة، وجد بأنّ العديد من أولئك الأشخاص الذين حضروا عنده ورحّبوا به، قد تخلّوا عنه وأداروا وجوههم له.. نفس أولئك الذين كان يطرب لهم؛ فهذا هو حال الدنيا!
فحينما سمعت بقصّته، لا أعلم كيف خطرت ببالي هذه المسألة، حيث انتابني الضحك، وقلت في نفسي: «لن يمرّ وقت طويل حتّى يوفّيه الله تعالى حسابه!»، وقد وفّاه الله تعالى حسابه، إلى درجة أنّه انقضى عليه وقت طويل وهو حيران لا يدري من أين تلقّى الضربة!!! وهذا يحصل مع جميع الطوائف من الناس.. مع أصحاب العمائم، والعلماء، والأمّيين، وأهل الصناعات الأخرى.. مع الطبيب والمهندس والعامل وربّ العمل؛ فكلّنا على هذا النحو ﴿إِلاَّ ما رَحِمَ رَبِّي﴾۱، اللهمّ إلاّ أن يرحم الحقّ تعالى أحدنا، فيُخرجه من هذا الوادي، ويُنجيه من هذه الأجواء.
الهداية بيد الله تعالى يوصلها لمن يشاء كيف يشاء
في يوم من الأيّام، كنت حاضرًا بجلسة عنوان البصري، وقد بلغ الحضور من الكثرة إلى درجة أنّه صعُب عليّ الحديث، وحينما دخلت إلى المجلس، أحسست مباشرةً بالاختناق؛ وفي أحد الأيّام، ما إن شرعت في الكلام حتّى خطر ببالي أن: يا إلهي، هل يُمكن أن يأتي يومٌ ونعقد هذه الجلسة بحضور لا يتعدّى ثلاثين أو أربعين شخصًا، فنتمكّن بذلك من الحديث بكلّ راحة؟! فكأنّ الحقّ تعالى استجاب لي دعائي بسرعة، حيث توجد بعض الأشياء التي يستجيب لها بسرعة، بينما هناك أشياء أخرى يحتفظ بها ولا يستجيب لنا مهما دعونا بها؛ فكان هذا الدعاء من الأدعية التي يستجيب لها بسرعة! فلأيّ شيء الازدحام؟ وما هي الفائدة منه؟ فإذا كان مقرّرًا أن تصل هذه المطالب إلى أسماع الناس، فإنّها ستصل إليهم، ولو بواسطة هؤلاء الأشخاص الثلاثة أو الأربعة، بل ستصل إليهم بشكل أفضل، والأمر بيد الله تعالى.
في هذه الليلة، تشرّفت بزيارة الحرم، وتعجّبت كثيرًا، حيث التقيت هناك بشابّ في مقتبل العمر له مظهر جذّاب، وتظهر عليه آثار النبل والتقوى، وقد كان ذلك واضحًا جدًّا من ملامحه! فقال لي: «السلام عليكم أيّها السيّد الطهراني»، فرددت عليه السلام، ثمّ قال: «يا سيّدي، أنا من السويد، وأستمع إلى محاضراتكم كلّ ليلة»، فقلت له: «يبدو أنّك تملك الكثير من الوقت!!!»، فقال: «أنا مستعدّ لتخصيص كلّ شيء لأجل محاضراتكم»، فتلاطفنا قليلاً، ثم قال لي: «أسألك أن تدعو لي»، فقلت له: «بشرط واحد، فهذه الدنيا هي دنيا الأخذ والعطاء، فإذا دعوت لي أنت، فإنّني سأدعو لك أيضًا»، فقال: «لا بأس، أعدك بذلك»، فقلت له: «حسن جدًّا، سأدعو لك أيضًا»، وتبادلنا بعض الكلمات، ثمّ أتيت إلى هنا.
بعد ذلك، قلت في نفسي: «إلهي، إنّ كلّ من يستحقّ أن توصل إليه هذه المطالب، فإنّك توصلها إليه»؛ فكلّ من تكون له الأهليّة لسماع هذه المطالب، تصل إليه، بينما تجد أحدهم يضع أصبعيه في أذنيه إلى الأعماق، ومع أنّ أصبعيه لا يستطيعان أن يتجاوزا حدًّا معيّنًا، إلاّ أنّه يدخلهما في أذنيه إلى أن تبلغا دماغه! ومهما حاولت إقناعه، فإنّه يرفض، حيث يُقفل على نفسه كلّ الأبواب، فلا يسمح بعبور أيّ شيء! بينما تجد شخصًا آخر في الناحية الأخرى من العالم وتصله هذه المطالب.
في الرحلتين الأخيرتين اللتين تشرّفت فيهما بزيارة العتبات المقدّسة بالعراق، مع أنّني كنت أرتدي لباسًا عربيًّا، إلاّ أنّني أينما ذهبت؛ سواءً في الكاظميّة أو النجف أو كربلاء، كان أحدهم يأتي فجأةً ويقول لي: «أنت هو السيّد الطهراني؟» فقلت مع نفسي: «يا للعجب، يبدو أنّ أحد هؤلاء جاء أيضًا!!»، فقال لي أحدهم: «أنا من بغداد، وإنّني أستمع مع أصدقائي إلى محاضراتك»، ثمّ جاء شخص آخر أيضًا ونحن جالسون: «السلام عليكم، هل أنت السيّد الطهراني؟»، فقلت في نفسي: «لقد نزعت العمامة حتّى لا يتعرّف عليّ أحد، لكن يبدو أنّ ذلك مكتوبًا [على جبهتي]!!!»، ثمّ أجبته قائلاً: «أجل، أنا هو السيّد الطهراني»؛ وفي بعض الأماكن، كنت أجيبهم: «سوف أرى»، فكانوا يقولون لي: «لا.. أنت هو، لكنّك تحاول الإنكار»، فقلت في نفسي: «يبدو أنّ المسألة...».
أفهل أنّ ذلك بيدي أنا؟ أم بيدك أنت؟ أم بيد أيّ أحد منّا؟ فمن هو الذي يُدير الأمور ويُدبّرها؟ ومن الذي ألقى في روع ذاك أن يذهب تلك الليلة إلى منزل رفيقه، فيجده يستمع إلى محاضرة، فيقول له: ما الخبر؟! فيُجيبه: تعال، واستمع أنت أيضًا، لترى ماذا هناك! فيجد ذلك الشيء الذي كان يهرب منه! ثمّ يذهب إلى مكان آخر، وهكذا.
فترى أحدهم ملازمًا لبيت الرسول؛ نظير مالك بن أنس الذي كان خادمًا له صلّى الله عليه وآله وسلّم، لكن، عندما سأله أمير المؤمنين بعد وفاة النبيّ الأعظم عن وقوع تلك الحادثة [المرتبطة بحقّ أمير المؤمنين عليه السلام] قال له: «يا علي، نسيت من كِبَري!» هذا مع أنّ العهد قريب!! وقد نقلتُ هذه الحكاية في الجزء الأوّل من كتاب أسرار الملكوت.۱ وهنا، ينبغي لله تعالى أن يُظهر قدرته! فلا يُمكن أن تمرّ المسألة هكذا! فقال له الإمام عليه السلام: «إذا كنت تقول الحقّ، فلا شيء عليك، لكن لو كنت تكذب، فليأخذ الله تعالى بصرك، وليرمك بالبرص على جبهتك حتّى لا تستطيع أن تخفيه»؛٢وقد عمي في الحال، فلم يقم من مكانه وإلاّ وقد أصابه العمى، وأصابه برص في نفس تلك اللحظة، بحيث مهما حاول أن يخفيه بعمامته، لم يكن يستطع.. فلا ينبغي اللعب بذيل الأسد! فمع أنّه كان ملازمًا لبيت الرسول، إلاّ أنّ مصيره كان بهذا النحو!
فالسبب من وراء جميع هذه الأمور هو أنّنا لا نهتمّ بأرواحنا وأنفسنا ومصيرنا، وبالعوالم الأخرى التي تنتظرنا، وبارتقائنا في مدارج الكمال، بل نكتفي بالقول: يا للهول، لقد أصيبت يدي بخدش! يا للهول، لقد ظهر دمل هنا، وهكذا! فنحصر اهتمامنا بالظاهر، وبالبدن، من دون أن نكترث بالروح، والعالم الآخر، والمصير، والجنّة والنار، والكمالات، والمسائل الأخرى.
فلو كنّا نعتني بهذه الأمور، لما كانت هناك حاجة لكي يتحدّث الإمام السجّاد عن هذه المسائل، وإلاّ، فلمن يقول عليه السلام ذلك؟ لنا نحن الذين نُرجّح الظاهر على الباطن، والبدن على الروح، والدنيا على الآخرة؛ فيقول لنا: مشكلتنا نحن البشر الذين هم على هذه الشاكلة هي هنا!
ينبغي النظر إلى البدن بنظرة آليّة لا استقلاليّة
لكن، حينما يفتح الله تعالى عيني الإنسان، ويلتفت إلى حقيقة المسألة، وإلى الهدف الذي ينبغي عليه أن يصبو إليه، وإلى الأمر الذي عليه أن يُرجّحه في هذه الدنيا، فإنّك ترى بأنّك أفكاره قد تبدّلت دفعةً واحدة، ولم يعُد ينظر إلى البدن بنظرة استقلاليّة، بل يراه كوجود جعله الله تعالى تحت سلطته في هذه الأيّام المعدودة، حتّى يبلغ عن طريقه بالروح إلى المنزلة المنشودة.
فارتقاء الروح وكمالها يحصل في أحيان كثيرة بواسطة البدن؛ لأنّ البدن هو الذي عليه أن يُؤدّي الصلاة حتّى ترتقي الروح، وهو الذي عليه أن يصوم لكي تتكامل الروح، وهو الذي عليه أن يقوم بالحجّ حتّى تحصل الروح على فائدة معيّنة، وهو الذي عليه أن يذهب لميدان العمل والتجارة حتّى تحصل الروح عن طريق هذه العلاقات على نضج معيّن وتجارب خاصّة؛ وهذا البدن هو الذي عليه أن يسعى لتلبية احتياجات الفقراء والمساكين وأمثال ذلك؛ لأنّ الذي يجلس في منزله، ويضع رجلاً على رجل، لا يمكنه أن يفعل شيئًا! فالكثير من المسائل تحصل بواسطة البدن.
لقد كان المرحوم الشيخ الأنصاري رضوان لله عليه يقول: إنّ الموت لا يتبدّل عمّا هو عليه، وحينما يحلّ وقت مجيئه، فإنّه سيأتي، غير أنّ الحقّ تعالى منح الإنسان الصحّة والسلامة حتّى يتمكّن من أن يعيش في هذه الحياة بشكل أفضل، وهذا يمنحه فرصة للقيام بأعماله بنحو أحسن؛ نعم، أحيانًا، قد تحلّ بالإنسان بعض المصائب؛ وهذا محفوظ في مكانه. فكان يقول: إنّ [موعد حلول] الموت لا يتغيّر، وما هو مقدّر للإنسان سيأتي من دون أن يتقدّم أو يتأخّر... والحقّ هو هذا: فحينما يكون الإنسان سليمًا في بدنه، يستطيع أن يشعر بالراحة أكثر في فكره وذكره، ويكون توجّهه أفضل، ويُمارس عباداته بشكل أحسن، ويُؤدّي أعماله بنحو أليق.
ثمّ بعد ذلك، تُصبح هذه المسألة واضحة كثيرًا عند الإنسان؛ فقد كان إلى الآن يمنح استقلالاً للبدن، بحيث يظنّه هو الذي يُشكّل حقيقته، فيحرص عليه كثيرًا، ويُشكّل لديه هاجسًا كبيرًا، ويقول: «يا للهول، ما هو سبب ظهور هذه البقعة هنا؟ لماذا صار هذا الموضع أبيضًا والآخر أسودًا والثالث أصفرًا؟ عليّ أن أذهب للطبيب فورًا! لقد ظهر هنا دمّل، وبرز هناك قمّل!!!!»، إلاّ أنّ تلك الحالة تتبدلّ إلى حالة وساطة وآليّة وتوسّل؛ فتتغيّر تلك الجنبة الاستقلاليّة وذلك النظر الاستقلالي إلى نظر آلي؛ والآلي هنا بمعنى الواسطة؛ فتُحافظ على سلامة بدنك بمقدار ما يُمكّنك من القيام بأعمالك.
وقد كانت هذه المسألة هي السبب الذي دفع العديد من الفلاسفة (ومن ضمنهم أبو علي ابن سينا) إلى القول بأنّ الثواب والعقاب يرتبطان ـ بشكل عامّ ـ في عالم القيامة بالروح، من دون أن يكون للبدن أيّ دخل في ذلك؛ أي أنّ توصّلَهم إلى تلك المسألة هو الذي دفعهم للقول بهذا الأمر، حيث إنّهم يقولون بأنّ البدن يضمحّل وينعدم تمامًا، ويتحوّل إلى تراب ورماد؛ فإذا شققتم القبر بعد ثلاثين سنة [من دفن صاحبه]، فإنّكم لن تجدوا فيه شيئًا؛ وعليه، فإنّ الأمر الذي ينبغي أن يُشكّل موضوعًا للثواب والعقاب هي الروح التي لا تتبدّل، والتي قد تخلّت عن البدن؛ هذا، وقد جاء بعض الجهّال وقالوا بأنّ حقيقة المسألة هي أنّ هناك أمران يأتيان معًا، ويذهبان معًا، ويقومان ببعض الأفعال، إلاّ أن مثل هذه الأبحاث خارجة عن محلّ البحث.
فهؤلاء يقولون بأنّه إذا كان المفروض هو تعلّق الثواب والعقاب بالروح، فإنّ البدن لن يكون له أي دخل في ذلك؛ ولا يخفى أنّ هذه المسألة صحيحة إلى حدّ معيّن، إلاّ أنّنا نقول بوجود بدن في ذلك العالم يكون متناسبًا مع الظروف التي تحكمه، وليس أنّه يبقى بهذه الحالة والوضعيّة التي عليها الآن؛ بمعنى أنّه إذا وزنت نفسك يوم القيامة، فلن تجد بالضرورة أنّك تزن ثمانين كيلوًا، بل قد يحصل الإنسان على بدن هناك لا يصل حتّى إلى عشرة غرامات.. هل التفتّم؟ فهذه هي حقيقة المسألة، وليس أنّ أحدهم يكون له مائة وأربعين كيلو، والآخر ثلاثين، والثالث مائة وثمانين.. لا، ليس الأمر بهذا النحو!! ففي ذلك العالم، يوجد بدن، إلاّ أنّه يكون متناسبًا مع أحوال يوم القيامة، وأحوال الجنّة، وأحوال جهنّم؛ وهكذا الأمر بالنسبة للنار ونِعم الجنّة؛ فكلّها تخضع لنفس هذا القانون وهذه الأوضاع.
فحينما ترون شخصًا ميّتًا في النوم، هل يُمكنكم أن تعلموا كم يزن من كيلو؟ ففي نهاية المطاف، يحصل لكم أن ترون أباكم أو صديقكم الذي رحل عن الدنيا في النوم؛ فهل تعلمون في النوم كم يزن من كيلو؟ فهو لا يمتلك أيّ وزن؛ والسبب في ذلك أنّه يمتلك بدنًا يُطلقون عليه اسم البدن المثالي؛ هذا، مع أنّ هذا البدن في عالم القيامة يُصبح أكثر لطافة من ذلك...
لقد كنت أودّ الحديث في هذه الليلة عن مسألة مراتب اطّلاع الحقّ تعالى وإشرافه، إلاّ أنّ الكلام انجرّ للبحث عن هذه الأمور؛ ولعلّ الله سبحانه يُوفّقنا في الليلة القادمة للحديث عنها.
فما نراه [أثناء النوم] لا وزن له، وما يراه الشخص في عالم المكاشفة لا وزن له؛ ومع ذلك، فإنّنا نأتي ونحصر حقيقتنا في هذا البدن، ونجعل الروح والنفس في الهامش، من دون أن نكترث لهما، بل نحصر اهتمامنا بهذا البدن الذي هو عبارة عن لاشيء، والذي سيتحوّل إلى تراب بعد مرور ثلاثين سنة؛ فإذا نظرت في القبر بعد هذه المدّة، فإنّك لن تجد شيئًا، وحتّى لو وجدت شيئًا، فإنّ ذلك لن يتعدّى بعض العظام؛ وقد حصل لي أن شاهدت قبرًا فتحوه بعد مرور ثلاثين سنة، فلم أر فيه إلاّ بعض العظام البالية.. فما الذي حصل؟ وأين هو ذلك البدن؟ وأين ذهب ذلك الجسم؟
وهذه المسألة [أي حصر الاهتمام بالبدن] هي التي تسلب التأثير عن العبادة؛ أي أنّه: ما دمنا نحمل هذا الفكر، فإنّ تأثير العبادة سيكون بهذا المستوى، لكن، كلّما ارتفعت النظرة الاستقلاليّة للبدن، وحلّت محلّها النظرة الآليّة والتوسطيّة والتوسّلية، كلّما ارتفع مستوى هذه العبادة، وارتفعت قدرتها، وازداد تأثيرها في النفس وتجرّدها، حتّى يبلغ الإنسان درجةً لا يعود معها يحسب أيّ حساب للبدن.
أسلوب تعامل الأولياء مع البدن
رحمة الله على المرحوم العلاّمة والسيّد الحدّاد رضوان الله عليهما؛ فقد كان المرحوم العلاّمة يقول أنّه حينما كان في كربلاء، لطالما كانت زوجة السيّد الحدّاد ـ أمّ مهدي رحمها الله تعالى ـ تُهيّء لهما الطعام، ثمّ يُصيبها التعب، وتشعر بالنوم، فتجد بأنّهما لا يزالان يتحدّثان معًا، فتقول لهما: «ما كلّ هذا الكلام؟»، حيث كانت هناك غرفة تقع خلف الباب يُمكن الوصول إليها بعد قطع درجين، فكانت تقول لهما من وراء الباب: «ما كلّ هذا الكلام؟ لماذا لا تأتيان لتناول العشاء؟».
فكان السيّد الحدّاد يقول: «تعال يا سيّد محمّد حسين، فهي لن تدعنا أبدًا، وقد تعلّق هذا الطعام برقبتنا، فتعال بنا نتخلّص منه! فقل لها أن تأتي»، فكانت تأتي بالمائدة، فيقول [المرحوم الحدّاد] بعد ذلك: «انظر، لقد تخلّصنا منه!». فقد كان هؤلاء على هذه الشاكلة، إذ لم يكن لهم توجّه بتاتًا [للبدن]، فكانوا يقولون: «تعال نتخلّص من الطعام، فقد تعلّق برقبتنا، وعلينا أن نرتاح منه، وهي لن تدعنا لحالنا؛ لأنّها تُريد أن تنام، فتراها تقول: «لقد جلسا يتحدّثان من دون انقطاع!»».
وبالمناسبة، فقد كانا فعلاً كذلك؛ ففي الليالي التي كنت أبيت هناك، كنت أستيقظ في الساعة الحادية عشرة، فأراهما يتحدّثان معًا، ثمّ أستيقظ في الساعة الواحدة بعد منتصف الليل، فأراهما يتحدّثان أيضًا معًا؛ فمتى كانا ينامان؟! ثمّ أستيقظ بعد ذلك عند اقتراب أذان الصبح، فأراهما يتحدّثان معًا من دون انقطاع؛ ولا يخفى أنّني كنت أستمع خلسةً لبعض ما يقولانه من تلك الأسرار المكنونة، حيث كنت يومًا ما مع المرحوم العلاّمة في أواخر عمره، فكشفت له عن أحد تلك الأسرار، فقال لي: «يا للعجب، من أين لك علم بهذا؟!» فقلت له: «حسنًا، لقد سمعتها في إحدى الليالي التي كنتما تجلسان وتتحدّثان فيها معًا إلى الصباح»، فقال لي: «لا تخبر أحدًا بذلك!»، فقلت له: «ليطمئنّ بالك، فأنا لن أكشف الأسرار».
فما هي تلك العوالم والأجواء التي كانا يعيشان فيها؟ وهل كانا مثلنا نحن؟ لقد كان هؤلاء لا يلتفتون إلى البدن أبدًا، ولا يتوجّهون للظاهر بتاتًا، وكان توجّههم مقتصرًا بأجمعه على الروح والنفس والنور، ولا يفتحون مجالاً للبدن إلاّ حينما يرون أنفسهم مجبورين على ذلك، وإلاّ سيحصل لهم توقّف؛ لأنّه إذا انتاب الإنسان الألم، فإنّه سيكون عُرضة للمتاعب؛ ولهذا، فإنّهم من باب الاضطرار فقط كانوا يقولون: «ما العمل؟ ففي نهاية المطاف، نحن مضطرّون للحفاظ على هذا البدن سالمًا، وإلاّ سنجلب المتاعب لأنفسنا»؛ وهذا يعني أنّهم كانوا ينظرون للبدن نظرة اضطراريّة (حتّى لا يجلبوا المتاعب لأنفسهم)، وليس نظرة استقلاليّة.. نظرة الوساطة وليس نظرة الموضوعيّة؛ ليضعوا في ضمن هذه الظروف جميع أعمالهم وتصرّفاتهم وأفعالهم في خدمة التكامل الروحي.
أعتقد بأنّ هذا يكفي لهذه الليلة؛ فلم يعد لنا وقود لنكمل به!! ولنترك بقيّة الكلام لليلة القادمة إذا وُفّقنا لذلك إن شاء الله تعالى.
اللهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد