المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني
المجموعةسنة 1437
التوضيح
تحدث سماحة آية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني في شرحه لفقرة ولو اطلع اليوم على ذنبي غيرك ما فعلته، ولو خفت تعجيل العقوبة لاجتنبته في الليلة الرابعة عشرة من شهر رمضان المبارك لعام 1437هـ، حول النقاط التالية: نشوء الستارية من مقام الكرم الإلهي. قصة علي الأصغر عليه السلام دليل على حقانية كربلاء. اختلاف الحكم على العاصي بحسب اختلاف ظروفه. ترتب الحدود على مقام الإثبات لا الثبوت. تأكيد الأولياء على مسألة ستارية العيوب. كيفية تأثير ستر العيوب في سير الإنسان وسلوكه. الأمن من تعجيل العقوبة سبب آخر للجرأة على ارتكاب الذنوب. الجهل وعلاقته بارتكاب المعاصي
هو العليم
علاقة ستر العيوب بالسير والسلوك
شرح دعاء أبي حمزة الثمالي - سنة ۱٤٣۷ هـ ق - المحاضرة الرابعة
محاضرة ألقاها
آية الله الحاجّ السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ
قدس الله سره
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على سيدنا ونبيّنا أبي القاسم محمد
وعلى آله الطيّبين الطاهرين واللعنة على أعدائهم أجمعين
«فَلَوِ اطَّلَعَ الْيَوْمَ عَلَى ذَنْبِي غَيْرُكَ مَا فَعَلْتُهُ وَ لَوْ خِفْتُ تَعْجِيلَ الْعُقُوبَةِ لَاجْتَنَبْتُهُ»
نشوء الستّارية من مقام الكرم الإلهي
ذكرت للرفقاء البارحة أنّ صفة الستّارية هي من الصفات الإلهيّة المهمّة جدًّا التي يتعامل من خلالها الحقّ تعالى مع مخلوقاته ويُواجههم ويُداريهم بها؛ وذلك من ناحيتين: الناحية الأولى ترجع إلى مقام الكرم الإلهي؛ فالشخص الكريم يقتضي ذاتًا أن يترشّح من وجوده الجمال لا السوء والقبح والقذارة، والشخص الذي يكون عظيمًا تجده كريمًا ويتّصف بالنبل والعزّة والأنفة والرجولة والشهامة؛ ألا تُلاحظون أنّنا نقول في كلامنا: إنّ فلانًا شهم جدًّا، ويمتلك الكثير من المروءة، والشخص الفلاني نبيل جدًّا، ويتّحلى كثيرًا بالاستقامة، وسلوكه قويم؟!
فما معنى كلّ ذلك؟ معناه أنّ كلّ صفة من هذه الصفات التي نُطلقها على ذلك الشخص تعني ظهور إحدى الصفات الجماليّة منه، في مقابل ظهور إحدى الصفات السيّئة والقبيحة من أناس آخرين؛ فإذ كان فلان جوادًا وسخيًّا، فإنّ ما يقابله هو فلان البخيل الذي لا يضع يده في جيبه، والحريص الذي لا يهتمّ إلاّ بنفسه ولا يلقي بالاً للآخرين؛ وإذا كان الشخص الفلاني عطوفًا ورحيمًا، فإنّ مقابله هو الشخص العلاّني العديم الشفقة، والذي إذا رأى عشرة أشخاص يموتون أمامه، فلن يُحرّك فيه ذلك ساكنًا وسيمرّ من أمامهم من دون أن يُلقي لهم بالاً.. فهذا هو حال القسوة! وقد يصل الإنسان في القسوة إلى حدّ يتغلّب فيه حتّى على ذئب الصحراء.. نعم، ذئب الصحراء!
وفي بعض الأحيان، قد يُشاهد الإنسان بعض التصرّفات من هذه الحيوانات الضارية ما يُثير العجب، فيقول: يا للعجب.. هذا دليل واقعي على قدرة الله! فما أعجب أن يأتي حيوان مفترس ويعمد إلى حماية حيوان ضعيف ورعايته! فهذا تجلّ للقدرة الإلهيّة، حيث يقول سبحانه: كما أنّني جعلت في هذا الحيوان صفة الافتراس، فإنّني قادر أن أجعل فيه صفاتي الأخرى أيضًا؛ وأنت لا ترى فيه إلاّ هذه الصفة، فتعال الآن وانظر إلى صفة العطف والمحبّة في هذا الفهد وهذا النمر وهذا الحيوان المفترس!
قصّة علي الأصغر عليه السلام دليل على حقّانية عاشوراء
وحينئذ، يأتي هذا الإنسان ذو القدمين ويبلغ من القسوة حدًّا لا يُمكن وصفه أبدًا؛ فحينما وضع حرملة السهم في القوس، ورمى حضرة علي الأصغر، فأيّ وصف يُمكننا أن نُطلقه على مثل هذا الشخص؟! وأين يُمكننا أن نجد حيوانًا مفترسًا يستطيع الإقدام على تصرّف كهذا؟! ومتى كان هناك حيوان قام بمثل هذا الفعل؟! لقد رأينا كثيرًا من الحالات عمدت فيها حيونات مفترسة إلى حماية أطفال رضّع! فإذا كنت في حرب مع أبيه [الإمام الحسين عليه السلام]، فلترمه هو، مهما يكن الأمر! لكن، مع أنّه كان يعلم بأنّ سهمه سيُصيب ذلك الطفل... يا للعجب، لقد كان طفلاً رضيعًا! فما حقيقة هذه المسألة وهذه الحكاية؟!
وكنت قد تحدّثت سابقًا عن هذا الموضوع، وأشرت إلى أنّ الدليل على حقّانية عاشوراء هو حضرة علي الأصغر؛ أي أنّ حكايته لا تتطرّق إليها أيّة شبهة؛ فالبقيّة كانوا كبارًا في السنّ، والإمام الحسين عليه السلام كان عمره كبيرًا، وكذلك حضرة أبي الفضل عليه السلام؛ سواءً كان الحقّ مع هذا أو مع ذاك، فلا علاقة لنا بذلك الآن، لكنّ المهمّ في الأمر أنّهم كانوا كبارًا في السنّ، والإنسان عندما يأتي للحرب، إمّا أن يقتل أو يُقتل؛ وقد جاء أولئك الأشخاص للحرب، فدافعوا وحاربوا وقتلوا! وكذلك الأمر بالنسبة لحضرة عليّ الأكبر الذي كان شابًّا في ذلك الوقت وكان شجاعًا، وحتّى فيما يخصّ حضرة القاسم؛ فهؤلاء بلغوا من العمر [ما يُؤهّلهم للحرب]، وأمّا حضرة عليّ الأصغر، فقد كان طفلاً لم يتجاوز عمره بضعة شهور، ولا يوجد أساسًا أيّ معنى لمهاجمته!
ففي مسألة كربلاء، حينما يصطدم الإنسان بقصّة حضرة عليّ الأصغر سواءً كان شيعيًّا أو سنّيًا أو حتّى ملحدًا، فإنّ وجدانه يُندّد بذلك، ولا يرضى ضميره بما وقع، ويحكم على الطرف المقابل باتّباع الباطل واقتراف الظلم؛ مهما كان هذا الطرف ومن دون وجود أيّ فارق.
فكأنّ قصّة حضرة عليّ الأصغر كانت برنامجًا من قبل الحقّ تعالى لإبراز حقّانية طريق الإمام الحسين عليه السلام، وليأتي الناس، وينظروا في هذه المسألة، وينتبهوا، ويتذكّروا، ويتنبّهوا، ويروا إلى أيّ حدّ من القسوة واللؤم والحيوانيّة والوضاعة والدناءة يُمكن أن يصل الإنسان، بحيث لا يتورّع عن الإقدام على مثل هذا الفعل؛ فهذا كلّه موجب لعبرتنا واتّعاظنا! فعلينا أن نكون حذرين؛ لأنّ هؤلاء كانوا مثلنا ونحن مثلهم! فلا يوجد بينا أيّ فارق إلاّ في الزمان؛ ولو لم يكن الأمر كذلك، لكنّا ننظر إلى واقعة كربلاء كواقعة فريدة من نوعها ومقصورة على ذلك التاريخ، وقد طُوي ملفّها، ولن تتكرّر أبدًا؛ لا! فحادثة كربلاء حيّة بالنسبة إلينا جميعًا، وعلينا أن نُقيّم أنفسنا دائمًا بحسب تلك الأوضاع والظروف، غاية الأمر أنّ هناك فرقًا على مستوى الصورة والشكل!
ففي ذلك العصر، كان هناك القوس والسهم والسيف والحجارة، والآن هناك أمور أخرى؛ وعلى الإنسان في خضمّ هذه الأحداث أن يرى إلى أيّ طرف من هذين الطرفين يميل، فيختبر نفسه ويمتحنها.
في أحد الأيّام، سأل أحد الرفقاء المرحوم العلاّمة: كيف يتسنّى للإنسان أن يعلم بأنّه يتقدّم [في السير والسلوك] أم لا؟ فأجابه قائلاً: المسألة بسيطة جدًّا! على المرء أن ينظر إلى نفسه، ليرى هل صار شوقه تجاه هذا الطريق أكثر أو أقلّ، وهل أضحى اشتياقه، ميله، رغبته، ثباته، استقامته، عشقه، محبّته وصموده أكثر أم أقلّ.. وبوسعه معرفة ذلك.
فجميع هذه الأوصاف الإلهيّة الجماليّة مترشّحة عن ذات واحدة كريمة؛ لأنّ الكريم لا يترشّح عنه ولا يظهر منه إلاّ الكرم، والشخص الذي يكون كريمًا في جميع الأبعاد: في البذل والعطاء، في الرحمة والعطف، في الصفح والستر، في الجود، في الرزق، في العلم، في الرحمة، فإنّ جميع هذه الأوصاف يُشاهدها الإنسان في ذات الحقّ تعالى.
هذا فيما يخصّ الجهة الأولى التي تتعلّق بأنّ الله تعالى لا يرغب في إفشاء عيوب عباده، وإبدائها أمام الملأ العامّ.
اختلاف الحكم على العاصي بحسب اختلاف ظروفه
وأمّا بالنسبة للجهة الثانية، فإنّ الله تعالى يعلم بذاته ما الذي خلق، ومطّلع أكثر على أوضاعنا وأوضاع مخلوقاته، ويعلم بأنّ هذا هو حال الإنسان، وأنّه خطّاء، وبأنّ تعلّق الإنسان بعالم المادّة وتوجّهه إلى عالم الظاهر ـ مع جهله بالحقائق ـ يوقعه في الأخطاء؛ لا سيّما وأنّ الناس يختلفون مع بعضهم البعض في هذا المجال، وكلّ شخص محكوم بظروفه الخاصّة؛ فلا يُمكننا أن نضع جميع الناس في خانة واحدة! لأنّ لكلّ واحد مكانته الخاصّة؛ فإذا ما صدرت مخالفة واحدة من ثلاثة أشخاص، فلن يكون بمقدورنا أن نحكم عليهم بحكم واحد؛ لأنّ لكلّ واحد منهم حكمه الخاصّ بحسب الظروف الخاصّة التي يعيشها.
في أحد الأيّام، كان أمير المؤمنين عليه السلام جالسًا بالمسجد، فدخلت عليه فجأةً امرأة، وقالت له: يا علي، أقم عليّ حكم الله! فقال لها عليه السلام: وما الذي ارتكبته؟ قالت: ارتكبت معصية [الظاهر أنّه الزنا والعياذ بالله]، فقال لها: اذهبي لحال سبيلك، لقد اختلط عليك الأمر! ما الذي أكلتيه في الصباح حتّى اضطربت أحوالك؟!!! هل انخفضت أو ارتفعت درجة حرارتك؟!! اذهبي لحال سبيلك! لماذا تهذين في الكلام؟! فذهبت تلك المرأة، ثمّ رجعت مرّة أخرى: يا علي، لقد... فقال لها: قومي لحال سبيلك، ولا تنبسي بكلمة، فأنا لم أسمع شيئًا!
فهو عليه السلام لم يكن يرغب في ظهور هذا الأمر، بينما لو كنّا نحن مكانه، فما الذي كنّا سنفعله؟ أقلّ شيء أنّنا كنّا سنضربها على رأسها حتّى تقول: لقد فعلتُ! وأمّا أمير المؤمنين فكان يقول لها: ما هذا الذي تقولينه؟ اذهبي لحال سبيلك! ما هذا الذي تفعلينه، هل ضربك أحدهم على رأسك؟!! فتراه يحرص على الدوام على إخفاء الأمر وستره.
ترتّب الحدود على مقام الإثبات لا الثبوت
وهنا يوجد بحث فقهي مفاده: هل إنّ الحدّ مترتّب على مقام الثبوت أو مقام الإثبات؟ والذي يظهر لهذا الحقير أنّه مترتّب على مقام الإثبات؛ وحديثنا هنا بطبيعة الحال عن الحدّ لا القصاص؛ لأنّ القصاص يرتبط بالجريمة والجناية التي يرتكبها الإنسان، وبالضرر الذي يُلحقه بشخص آخر؛ وهو أمر يترتّب على مقام الثبوت، وأمّا الحدّ، فله علاقة بحقّ الله تعالى؛ كأن يشرب أحدهم الخمر مثلاً، أو يُفطر في شهر رمضان، ونظير ذلك من المعاصي؛ فهي أمور مترتّبة على مقام الإثبات؛ بمعنى أنّ نفس مقام الثبوت لا يوجب الحدّ، بل لا بدّ من حصول إثبات فيه، فإذا وصل إلى مقام الإثبات فعندئذٍ يقام عليه الحدّ. فأمير المؤمنين عليه السلام أراد أن لا يصل الأمر إلى مقام الإثبات ليُقام الحدّ.
في يوم من الأيّام، كنّا في محضر المرحوم السيد الحدّاد، وكان قد حصل أمر قبل ذلك بيومين أو ثلاثة، حيث كان أحدهم ـ وقد مات فعلاً رحمة الله عليه ـ قد تكلّم بكلام، ونبّهه المرحوم العلاّمة على عيوبه ونقاط ضعفه ونقصانه في مجال مشاهداته ومكاشفاته، حيث كانت لديه مكاشفات، وبطبيعة الحال يعتبر هذا نقصًا فيه.. وبعد يومين أو ثلاثة على هذه القضية، قام السيّد الحداد ـ وبدون أيّة مقدّمات وبدون اطّلاعه على هذه القضية ـ بطرح مسألة مفادها: هل إنّ الشيطان يظهر بصورة إنسان أم لا؟ ووجّه سؤاله إلى المرحوم العلاّمة؛ بمعنى أنّه قام ببيان تلك المسألة التي كانت قد حصلت قبل أيّام، فأجاب المرحوم العلاّمة: نعم، قد يظهر بصورة إنسان! ثمّ سأله: حسنًا، وهل يظهر بصورة أفراد صالحين؟ فأجاب المرحوم العلاّمة: نعم يمكن أن يظهر أيضًا بصورة أفراد صالحين، فضلاً عن الفاسدين. فقال السيّد الحدّاد: كيف يمكن للإنسان أن يُشخّص ذلك؟ فكيف له أن يُشخّص أنّ ما ظهر أمامه الآن وشاهده ودعاه إلى فعل معّين هو شيطان أم ملك؟
فقال العلاّمة: لا بدّ أن يكون للإنسان معيار وميزان يُمكّنه من تشخيص أنّ ما طرح أمامه هل هو أمر شيطاني، أم أنّه مرتبط بالملائكة، فقال المرحوم السيّد الحدّاد: نعم الأمر كذلك!
تأكيد الأولياء على مسألة ستر العيوب
ثم قال السيّد الحدّاد: لا ينبغي للإنسان أن يظهر عيوب الناس.. انظروا لقد أشار بكلامه هذا إلى ما قاله لذلك الرجل من أنّ مكاشفته فيها إشكال، وأنّك لا يمكنك تشخيص أنّ ما تشاهده هو شيطان أم ملك، فلا تفرّق بينهما، بل تظنّ بأنّ كل ما تشاهده هو ملك، وهذه منقصة له. قال السيّد الحدّاد: لا ينبغي للإنسان أن يظهر عيوب الآخرين، ثم قرأ هذا الشعر لمولانا:
داند و خر را همیراند خموش | *** | در رخت خندد برای رویپوش |
«يعلم ولكنه يقود حماره بصمت، ويضحك في وجهك لكي يستر علمه»
وبعد ذلك ذهبنا للتشرّف بزيارة الحرم، فقال لنا الوالد: تعالوا كي أخبركم شيئًا! فأتينا فقال لنا: هل عرفتم تلك المسألة التي ذكرها أمس السيّد الحدّاد ماذا أراد بها؟ لقد أراد بها تلك المسألة التي حصلت بيني وبين ذلك الشخص ـ وقد كنت أنا موجودًا في تلك الحادثة ـ فانظروا كيف أنّه أشار إلى تلك المسألة، وبيّن لي خطئي بهذا الشكل؛ فقال: لقد أتيت وذكرت عيب ذلك الشخص، وهذا ليس صحيحًا، بل ينبغي على الإنسان أن يكون لديه صفة الستّارية، ولا يصحّ أن يبيّن عيوب الناس ويواجههم بها.
هكذا هم أولياء الله؛ فبما أنّهم تجاوزوا أنفسهم وصار وجودهم هو نفس وجود الحقّ تعالى، فإنّ ظهوراتهم صارت أيضًا عين ظهوراته عزّ وجلّ بتلك الظهورات الجماليّة في مقام الكرامة؛ يعني أنّ لديهم نفس هذا الظهور.
عندما كنّا نذهب إلى المرحوم العلاّمة، وكذلك كان حال سائر الأشخاص، لم يكن بمقدورنا أن نقول بأنّه ليس له اطّلاع على ما فعلناه، لكن عندما كنّا نصل إليه، كان يتجاهل الأمر تمامًا؛ نعم، في بعض الأوقات، كان يتطرّق في كلامه إلى ذلك بنحو الإشارة فقط، وحتّى لا نتمادى في الأمور..
وفي ليلة من الليالي، قمت بعمل ما برفقة أحد الرفقاء؛ ومع أنّني كنت أعتقد بأنّ هذا العمل صحيح، لكنّه كان قاسيًا بعض الشيء أو لم يكن في محلّه؛ وعندما ذهبت إليه في اليوم التالي، وجلست قرب الطاولة التي يجلس خلفها، قال لي وهو يكتب: ﴿فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّك﴾ (سورة الطور، مقطع من الآية ٤۸) قال ذلك وهو مشتغل بالكتابة دون أن يرفع رأسه! يعني ما تقوم به فإننا نراه، عند ذلك علمت بأنّي أخطأت في تلك المسألة! فقد كان يقوم أحيانًا بذلك من باب التربية وبحسب ما تقضيه الضرورة فقط.
وأمّا في غير هذه الموارد، فقد كان يضحك، ويتبسّم، بحيث يظنّ الشخص بأنّ هذه القضيّة لم تصله بعد، وأنّها مازالت تجري في العالم العلوي، ولم تنزل عليه بعد.
كيفيّة تأثير ستر العيوب في سير الإنسان وسلوكه
فقد كان هؤلاء بهذا النحو، والله تعالى يريد من عباده أن يكونوا كذلك.. أن يستر عبادُه العيوب، وأن تُستر عيوب الناس، ولا يتمّ إفشاؤها؛ لأنّ ذلك تترتّب عليه مجموعة من التبعات والمسائل؛ فالجميع يصدر منهم خطأ أحيانًا، لكن أن يأتي الشخص ويفشي الخطأ الذي صدر عنه، فسوف يؤدّي هذا إلى حصول أثر في نفس الطرف المقابل، بحيث ما إن تقع عينه عليه بعد ذلك، حتّى تطفو على ذهنه تلك المسألة[ذلك العيب]! أمّا إذا لم يحدّث بها ولم يفشي عيبه، فإنّ الطرف المقابل سيتعامل معه وكأنه لم يطلع على عيبه؛ وحينئذ، سيتعامل معه معاملة بحسب الظاهر وبشكل عادي؛ فيجلس معه ويضحك ويتحدّث؛ إذ ليس في قلبه شيء عليه؛ وأمّا إذا علم بذلك العيب، فإنه عندما يراه سيقول: هذا هو الشخص قد ذَكر عيبه بين الناس، فإنّ هذا الأمر لن يذهب من نفسه.
والحال أنّ الإنسان ينبغي عليه أن يقلّل من حِمله لا أن يزيد فيه، فالسالك هو الذي يكون حمله خفيفًا؛ يعني توجّه الناس إليه توجهًا أقل، توجههم السيء بالنسبة إليه لا توجههم الخير، فإنّ توجه السوء ذلك كلّما كان أقل كلّما كان حمله أخف؛ لأنّه كلّما كان نظرهم السيء بالنسبة إليه أكثر، كلّما كان حِمله أثقل، وسوف يجعله يشعر بالتعب والكسل بشكل أكبر، ويوجب عليه أن يتحمّل تبعات هذه المسألة بشكل أكبر؛ ولذلك، ليس من الصحيح أن يسمح الإنسان بحصول المسألة بهذا النحو.
فمقام الستّارية التي ينبغي للإنسان أن يتّصف بها ـ يعني ظهور الستّارية الإلهية عنده ـ تبعث في داخله بشكل تدريجي الشعور بحالة من الوحدة والانسجام مع سائر الناس؛ لأنّ مراعاة هذه المسألة يوجب تقدّم الإنسان؛ بمعنى أنّه: حينما يتحرّز الإنسان عن إفشاء مسألة معيّنة، فإنّ ذلك يُحدث لديه حالة من الوحدة بينه وبين الناس في خصوص هذه المسألة؛ وهكذا أيضًا في المسألة التالية، والتي بعدها.. وشيئًا فشيئًا، يحصل للنفس استعداد لكي تتجلّى فيها حقيقة التوحيد؛ ولهذا، فإنّ مسألة الستّارية ـ كما ذكرنا بالأمس ـ هي مسألة مهمّة جدًا، يعني أنّ للستّارية أثرًا كبيرًا في حركة السالك؛ ولعلّه قليلاً ما نجد موردًا يُمكن للإنسان أن يستفيد منه كما يستفيد من مسألة الستّارية.
وفي المقابل أيضًا، فإنّ كشف سرّ المؤمن وإفشاء ذنبٍ ارتكبه من شأنه تدميرُ بنيان سلوك المرء وذهابه أدراج الرياح، وقطع ارتباطه بالله تعالى؛ والسبب في ذلك كلّه يرجع إلى أنّه ارتكب عملاً يقع في الطرف المقابل تمامًا لطريق التوحيد، حيث إنّ مسألة الستّارية توصل الإنسان للوحدة، بينما نجده يتحرّك في طريق معاكس لها بعدما عمد إلى إفشاء عمل المؤمن وخطئه؛ ولهذا، فإنّ هذه المسألة تحظى بأهمّية قصوى.
يقول الإمام السجّاد عليه السلام: إنّ طبيعتي البشريّة تقتضي أنّه مادمتُ لم أعلم بأنّ أحدًا مطّلع عليّ، فإنّني أرى نفسي محصّنًا ومحفوظًا، لكن، ما إن أشعر بأنّ العمل الذي سأقوم به سينكشف، فإنّني أتوقّف عن أدائه؛ فأنا أعلم بأنّ الله تعالى ستّار، لكنّ بقيّة الناس لا يتّصفون بالستّارية؛ ولهذا، فإنّني أحفظ نفسي ولا أرتكب ذلك الفعل؛ هذا فيما يخصّ الناس.
الأمن من تعجيل العقوبة سبب آخر للجرأة على ارتكاب الذنوب
وأمّا بالنسبة للحقّ تعالى، فإنّ مسألة الستّارية محفوظة في محلّها؛ أي إنّ ما يبعث على ارتكابي لذلك الفعل هو أنّني أعلم بأنّك يا إلهي ستستره عليّ، وأعتقد بأنّك لن تفضحني وتكشف أمري وتُلطّخ سمعتي.. فجميع هذه الأمور صحيحة، لكنّ ما يهمّ هنا هو أنّني أعلم بأنّك لن تُعجّل عقوبتي، وهذه أيضًا من الصفات الإلهيّة؛ وهي أنّه تعالى لا يُعجّل العقوبة؛ نعم، يبقى أنّ عدم تعجيل العقوبة هذا صحيح في فيما لو كان [الخطأ] مرتبطًا بحقّ الله تعالى، وأمّا مسألة حقّ الناس، فأمرها مختلف؛ بمعنى أنّ الإمام السجّاد يتحدّث هنا عن حقّ الله وعن تلك الحقوق المختصّة به تعالى، حيث ورد في الأحاديث أنّ الله تعالى يغفر كلّ ما يختصّ به، بخلاف ما يرتبط بحقوق الناس، والتي على الإنسان أن يجبرها ويُعوّضها؛ فليس الأمر بأن يأتي الإنسان ويفعل كلّ ما يحلو له، ويرتكب جميع الأخطاء، ثمّ يقول: سيغفر الله لي! لا، ليس كذلك!
لكنّ المسألة هنا هي أنّ الإمام عليه السلام يقول: أنا أعلم بأنّك لا تُعجّل العقوبة، وإلاّ لو كنتَ كذلك، ولو كنتُ أعلم مثلاً بأنّني إذا ارتكبت اليوم ذنبًا، فإنّك ستقوم غدًا بعمل يُؤدّي إلى فضحي أمام الجميع، أو أنّك ستُعاقبني وتُسلّط عليّ مرضًا من الأمراض؛ كأن لا أؤدّي الصلاة، فأتعرّض غدًا إلى سكتة قلبيّة، أو لا أصوم فتتوقّف كليتيّ عن العمل، أو لا أقوم بعمل عبادي معيّن فأُصاب بقرحة في المعدة، أو أن يكون كلّ مرض من الأمراض المتعارفة في هذه الأيّام في مقابل أحد الأعمال المختصّة بالله تعالى! فتكون الصلاة مرتبطة بالقلب، والصيام متعلّق بالكلية، وذاك العمل مختصّ بالكبد! فإذا كنت أعلم بذلك، فإنّني سأقول: ما معنى كلّ هذا؟! سأُصلّي! بل وبدلاً عن سبع ركعات سأصلّي سبعين ركعة! فإذا لم أُصلّي اليوم، فقد أتعرّض غدًا إلى سكتة قلبيّة، وأبقى طريح الفراش، ولن أسمح بحصول ذلك!
إنّ الله تعالى لا يلجأ لهذا النوع من العقوبة، بل يقول: مع أنّك لم تُصلّ، وارتكبت هذا الذنب، إلاّ أنّني لن أوقف قلبك ولا كليتك ولا كبدك عن العمل، ولا علاقة لي بك! فصحيح أنّك قمت الآن بهذا الفعل، إلاّ أنّني سأصبر، لأرى هل سترتدع عن ذلك أم لا، وكم أثّرت فيك هذه المسألة، أم أنّها لم تُؤثّر فيك من الأساس؛ وعليه، فبسبب هذه المسألة أيضًا، فإنّني لا أُقدم على ذلك.
الجهل وعلاقته بارتكاب المعاصي
لكن إلى ماذا ترجع هاتين المسألتين؟ إنّ مرجعهما إلى الجهل؛ يعني من الناحية الأولى، إذا اطّلع عليّ الناس، فإنّني أُحجم [عن ارتكاب الذنب]، ومن الناحية الثانية، إذا كانت العقوبة سريعة، فإنّني أمتنع هنا أيضًا عن فعله؛ فذلك يرجع بأسره إلى الجهل.. إلى جهلي بالذنب وعدم اطّلاعي على حقيقته، وأمّا لو كنت مطّلعًا على ذلك، فلن أحتاج أبدًا إلى تلك المسألتين، وسواءً عجّل الله تعالى لي العقوبة أم لم يُعجّل، وسواءً فضحني أم لم يفضح، وسواءً اطّلع الناس أم لا، فأنا لا أهتمّ لحالهم من الأساس؛ فحينما أكون مطّلعًا على نفس الذنب، وعلى الكدورة التي يُخلّفها، فإنّ المسألة ستكون محلولة بالنسبة إليّ؛ ولهذا، فإنّ مرجع جميع هذه الأمور إلى الجهل، وإلى أنّني جاهل.
يقول مولانا۱ هنا: اعف عنّا يا إلهي ولا تُؤاخذنا، فحينما تصدّينا لمواجهتك، فلسنا نحن الذين تصدّينا، بل جهلنا هو الذي تصدّى لمواجهتك؛ وهذا كلام لطيف جدًّا! يقول: لسنا نحن الذين تصدّينا لمواجهتك، بل الذي فعل ذلك هو جهلنا بك، وعدم معرفتنا بك، وعدم اطّلاعنا على صفاتك وخصائصك، وعلى هذه الأفعال التي نرتكبها تجاهك، وعلى الآثار التي تُخلّفها فينا؛ فجهلنا هو الذي يقف في مواجهتك، وإذا ارتفع عنّا هذا الجهل، فسنكون مخلصين لك، ونكون عبادًا طائعين لك؛ فإذن، لسنا نحن الذين نجابهك، بل جهلنا هو الذي يجابهك؛ فتعال، وارفع عنّا هذا الجهل، وعرّفنا على حقيقة هذه المسألة.
ويوجد هنا بعض الكلام ومجموعة من المسائل الأخرى، لكن سنتركها إن شاء الله لفرصة قادمة إذا وفّقنا سبحانه وتعالى لذلك.
اللهمّ صلّ على محمد وآل محمّد