المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني
المجموعةسنة 1436
التوضيح
يعتقد البعض بأنّ أدعية الأئمة عليهم السلام إنّما الغرض منها هو تعليمنا نحن، و لا تمثّل حقيقة حالهم هم عليهم السلام. ناقش سماحة آية الله السيد محمد محسن الطهراني هذه الفكرة، مبيناً أن تصحيح نظرتنا لهذا الموضوع مؤثر في استفادتنا من الدعاء. كما أنّ سماحته استطرد في الأثناء ببيان الفرق بين مقام الاجتهاد وبين مقام التصدي للمرجعية. و أهم عناوين هذه المحاضرة التي ألقيت ليلة السابع عشر من شهر رمضان لعام 1436 هجري قمري كانت كالتالي: كلام الأئمة في الدعاء يمثّل حالهم حقيقةً وليست تعليمية. الفرق بين الاجتهاد والتصدّي للمرجعية. على المرجع أن يراعي حال الشخص وخصوصياته الفردية في الفتوى. ينبغي الالتزام بأدعية الأئمة وعدم اختراع أدعية من عندنا. الإمام المعصوم لا يقاس به أحد حتى الأولياء الإلهيين. التصديق بأنّ الإمام يبيّن حاله بالدعاء يؤثر على كيفية قراءتنا له. شكر الله على أعمال الخير أثره على النفس أعظم من الاستغفار من الذنب.
هو العليم
أدعية الأئمة عليهم السلام تبين حقيقة حالهم
شرح دعاء أبي حمزة الثمالي - سنة ۱٤٣٦ هـ ق - المحاضرة العاشرة
محاضرة ألقاها
آية الله الحاجّ السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ
قدس الله سره
أعوذُ باللهِ منَ الشيطانِ الرجيم
بسمِ الله الرحمنِ الرحيم
وصلَّى الله على سيِّدنا ونَبيِّنا أبي القاسم محمّدٍ
وعلى آله الطيِّبين الطاهرين
واللعنة على أعدائِهم أجمعينَ إلى يوم الدين
يقول الإمام السجّاد عليه السلام في دعاء أبي حمزة الثمالي: هَبْنِي بَفَضْلِكَ وَتَصَدَّقْ عَلَيَّ بِعَفْوِكَ؛ أَيْ رَبِّ، جَلِّلْنِي بِسِتْرِكَ وَاعْفُ عَنْ تَوْبِيخِي بِكَرَمِ وَجْهِكَ.
كلام الأئمة في الدعاء يمثّل حالهم حقيقةً وليست تعليمًا
كنت قد قلت لكم فيما مضى بأنَّ جميع هذه الفقرات تصبّ في اتجاهٍ واحدٍ وهي بصدد بيان حقيقةٍ واحدةٍ، وهي تلك الحقيقة التي تتعلّق بنا من جانبٍ وبالله من الجانب الآخر؛ وهي عبارة عن أمرٍ واقعيٍّ وليس بأمر تخيلي واعتباري. وعلينا الاعتقاد بأنَّ ما يلقيه الأئمة علينا عبارة عن حقائق واقعية، فعلينا التصديق بهذا الأمر؛ نعم، علينا التصديق بأنَّ ما يقولونه يمثل واقع حالهم في المقام الأول؛ فعلينا الاعتقاد بهذه الحقيقة من دون الشعور بالخجل أو أنَّنا في مقام التجاسر والتجرّي على مقامهم، وبدون الحاجة إلى اللجوء إلى تأويل تلك المفاهيم أو التصوّر بأنَّها جاءت من باب المجاز والمسامحة والاعتبار.
ترى الكثيرين يقولون: إنّ الأئمة قد قالوا هذه العبارات من أجل تعليمنا نحن، ولا علاقة لها بحالهم؛ فمتى ارتكب الإمام السجّاد ذنباً لكي يأتي ويقول: إلهي اعف عن توبيخي. فكيف يطلب الإمام من الله مسامحته عن ذنب لم يرتكبه أصلاً؟! فما هو السرّ في ذلك؟! إنَّ أبسط جواب يمكن تقديمه على هذا التساؤل هو: إن كان الإمام في معرض بيان تلك الأمور للناس، فلماذا نراه يفعله في ذلك المكان المظلم الذي يختلي فيه بنفسه؟ فكان عليه أن يُعلن ذلك للناس في مسجد المدينة من على المنبر، مثل ما نفعل ذلك نحن اليوم؛ فنحن وعندما نريد أن نوضّح للناس أمراً، تجد أنّنا نرتقي المنبر ونعلن عن ذلك بواسطة مكبرات الصوت، أو عن طريق الصحف أو المجلات.
أمّا أن يقوم المرء بدعوة أحد إخوته المؤمنين إلى بيته، ويجلس معه في إحدى زوايا البيت ويُخبره أمراً، فهل يُطلق على عمل كهذا على أنَّه إعلان للناس؟! لا يمكن أن يعبّر عن مثل هذا بأنَّه إعلان، بل يصدق عليه أنَّه كلام قد أسرّ به أحدهم لصديقٍ له، فالإعلان إنّما يكون إعلاناً عندما يقوم صاحبه بإظهاره للملأ.
الفرق بين الاجتهاد والتصدّي للمرجعية
مثلاً قد يكون أحد الأشخاص مجتهداً، وهو يحتفظ بهذا الأمر لنفسه، ولا يُعلن ذلك للآخرين قائلاً: يا أيّها الناس، أنا مجتهدٌ فتعالوا وقلّدوني، تعالوا وضاعفوا من الحمل الذي أحمله على أكتافي، وذلك أنّ ما كُلّفت به من عمل لكي أقوم به قليلٌ، فهلمّوا إليَّ بأحمالكم لكي أحملها لكم، فلديّ أكتاف من القوّة بحيث تستطيع حمل جبلٍ على هذا الجانب وآخر على الجانب الثاني، فأستطيع حملها والمضي بها في طريقي الذي أسلكه.
أنا شخصيّاً لا علم لي بواقع الأمر، فلربما تكون لهم هكذا قدرة بالفعل؛ غير أنَّني لا أستطيع تصوّر شيءٍ كهذا، وذلك بأن يأتي أحدهم ليطلب من الآخرين تحميله متاعهم. فافرض بأنّك ستواجه في الغد وأثناء سيرك في الشارع رجلاً عجوزاً يمشي أمامك حاملاً زنبيلاً بيده فيه شيء من الفاكهة فتقول له: أعطني هذا الزنبيل لكي أحمله لك، ثم تتقدّم خطوات إلى الأمام فترى امرأةً تحمل في إحدى يديها طفلها وتحمل متاعاً لها في اليد الأخرى، فتقول لها: ناوليني ما عندك لأحمله لك فأنا قادر على ذلك؛ إذ لديّ أيدٍ قويّة قادرة على حملها، كما أن الله قد منَّ عليّ بأكتافٍ قوية تستطيع حمل المزيد من الأثقال؛ وهكذا وكلّما تقدّمت في مسيرك أضفت على حملك المزيد من الحمل حتّى يصل وزن ما تحمله عندما تصل إلى نهاية الشارع إلى ثلاثمائة كيلوغراماً، فتضع بعضاً منه على كتفك الأيمن وبعضاً على الكتف الأيسر وآخر على رأسك وعلى عمامتك، إذ لا أعتقد بأنَّ اليدين ستتمكّن من ذلك لوحدها!
هل يمكن أن يقوم أحد بعملٍ كهذا؟ بأن يقوم بحمل أثقال الناس نيابة عنهم فيقول: لا تُتعبوا أنفسكم أيّها الناس في حمل أمتعتكم، فيا أيّها السيّدة، ها أنت تحملين في إحدى يديك طفلك، فناوليني المتاع الذي معك لكي أحمله لك، ثم يتقدّم في المسير، فيحمل متاع ذلك الرجل العجوز وحقيبة هذا الرجل وزنبيل ذاك وهو يقول: ضعوا أمتعتكم على أكتافي، فتعال يا هذا، وتعال أنت، وأنت أيضاً، تعالوا فحمّلوني أمتعتكم؛ ليزداد بذلك حِمله لحظةً بلحظة!
فما الذي يحصل بحيث أنَّنا نعجز عن حمل الكيلوغرامين أو الثلاثة من أمتعة الآخرين، لا بل وحتّى الكيلوغرام الواحد منها، في الوقت الذي نقوم فيه بتحميل ذمّتنا أعمال الآخرين، فترانا نقول: أيًها الناس، أنا أتحمّل عنكم مسئولية الأعمال التي تقومون بها، فأنا أحملها على أكتافي وأتحمّل مسئولية الحساب عنها يوم القيامة. فلو أنَّ أحدكم قال لله يوم القيامة: (إلهي لقد قمت بهذا العمل بناءً على الفتوى الصادرة عن هذا الرجل، وها أنا أشاهد اليوم كم أكون قد حُرمت من السعادة وكيف لم أتمكّن من الوصول إلى تلك الدرجة من الكمال والفعلية التي كان يجب أن أصل إليها)، فأيّ إجابة يستطيع تقديمها عن هذا الأمر في ذلك اليوم؟!
إنّ هذا هو معنى تحمّل أعباء مسئولية أعمال الآخرين، فالأمر لا يقتصر على مسائل الشكّ في الطهارات الثلاث وتلك المسائل التي لا أذكرها هنا، ولا يقتصر الأمر على الأحكام العاديّة فقط، بل يتجاوزه إلى ما يتعلّق منها بأرواح الناس، وما قد يؤدّي منها إلى هلاك الآخرين وإلى ضياع الاستعداد الروحي لهم، فبالنسبة إلى جميع هذه الأمور، ما لم يصل المجتهد على تلك الدرجة من اليقين وانكشاف حقائق الأمور له؛ وكما ورد ذلك في حديث الإمام عليه السلام بأنَّ الفقيه هو ذلك الرجل الذي يشعّ على قلبه النور من الملأ الأعلى، وتُكشف له حقائق الأمور عن طريق اتّصاله بالملأ الأعلى... فإن لم أكن على هذه الكيفية، فكيف يمكن أن تكون لي الجرأة على القول بأنَّني قادر على تحمّل مسئولية أعمال الآخرين، وأن أحمّلها ذمّتي، وأنّني سأكون حاضراً للجواب عن ما قلته لكم في جواب أسئلتهم يوم القيامة؟ منْ ذا الذي يستطيع الالتزام بأمر كهذا؟! فبالنسبة لي، فأنا لا أستطيع التعهّد بأمر كهذا؛ وها أنا أقولها لكم بكلّ وضوح وبكلّ صراحة.
[وكيف يتجرأ الإنسان على ذلك] حينما يرى بأنَّه وبعد وفاة المرحوم الشيخ [الأنصاري]، كيف اجتمع كبار تلامذته من أجل انتخاب مرجعٍ من بعده؛ فاجتمعت مجموعة مكونة من سبعة أو ثمانية من العلماء كان من بينهم المرحوم الميرزا [محمّد حسن] الشيرازي والمرحوم الحاج الميرزا حسين الخليلي والمرحوم الحاج الميرزا حبيب الله الرشتي والمرحوم الميرزا حسن النجم آبادي والذي كان مرجعاً كبيراً للتقليد في طهران في ذلك الوقت.. فلقد كان أولئك من تلامذة المرحوم الشيخ البارزين واللامعين.. فعندما اجتمعوا وتداولوا الحديث فيما بينهم، لم يتقبّل أيٌّ منهم تحمّل أعباء مسئولية المرجعية.
منْ كان أولئك الناس؟ لقد كانوا على درجة من العلم بحيث لا يمكن العثور على نظيرٍ لهم في يومنا هذا، ومع ما لهم من التضلّع العلمي ومع ما لهم من الاستعداد والقابلية على الحكم وإصدار الفتوى، إلاّ أنّهم لم يقدموا على ذلك؛ فلقد كانوا من أهل التقوى، وكانوا يخافون وترتعد فرائصهم [من تولّي هذا الأمر].
أحياناً يأتي منْ يسألني عن أمرٍ ما، وكثيراً ما يكون خارجًا عن المسائل الشرعية أو [ما شابه ذلك]، بل كلّ ما في الأمر هو أنَّه قد وثق بي عندما جاء ليسألني، وأنا أعلم أنّني إن قلت له شيئاً، فسوف يعمل به. اعلموا بأنَّ فرائصي ترتعد حينما أريد أن أقول له شيئاً بهذا الشأن؛ فأنا أقول في نفسي: إنّ هذا الرجل سيعمل بما أقوله له بناءً على ثقته بي؛ فما هو المقام الذي أمتلكه أنا بحيث يمكنني أن أقدم على أمره بشيء ما؟! [هذا بالنسبة للأمور العادية]، فكيف تكون لي الجرأة بأن أقوم بمخاطبة الناس قائلاً: يا أيّها الناس، عليكم جميعاً القيام بهذا العمل أو ذاك؟ فعلى أيّ أساس يمكنني فعل ذلك؟! أليس لاستعداد المكلّفين تأثير في ذلك، أولا ينبغي مراعاة قابليات كلّ فرد وحالته الخاصة عند إصدار الحكم؟!
على المرجع أن يراعي حال الشخص وخصوصياته الفردية في الفتوى
هنالك قضيّة حصلت مع المرحوم الشيخ بهجت رحمة الله ورضوانه عليه ولها علاقة بهذا الموضوع، ويبدو بأنَّني كنت قد نقلتها في مكان ما۱، ولا أتذكر الآن أين كان ذلك. فلقد تشرّف بزيارة مدينة مشهد يوماً، وكان ذلك في أواخر حياة المرحوم العلاّمة، ولقد كنت أسكن في مدينة قمّ وقتها، وكان ذلك في أيّام الصيف؛ فقال لي المرحوم العلاّمة: سيأتي الشيخ بهجت برفقة رجل أو اثنين من الذين يسكنون في مدينة قم ـ ولن أذكر أسماءهم لأنَّهم لا يزالون على قيد الحياة ـ إلى هنا عصر هذا اليوم، فقم بتهيئة ساحة البيت، بغسلها بالماء وفرشها. ولقد كان الجو حاراً، إذ كان ذلك في أحد أيام الصيف، فقمت بغسل الساحة [ورشّ الماء] على الأشجار وفرش المكان.
فحضروا قبل ساعة أو ساعة ونصف من غروب الشمس وجلسوا وجرى الحديث عن مواضيعٍ مختلفةٍ. ولقد كان المرحوم الشيخ بهجت يكنّ المحبة والود للمرحوم العلاّمة كثيراً، ولقد كانت جميع حركاته وسكناته وكيفية تعامله تحكي عن نظرةٍ خاصة يحملها تجاه المرحوم العلاّمة... وبعد مرور لحظات قام المرحوم العلاّمة بطرح مسألة معينة فقال: لقد مضت عليّ مدةٍ وأنا أفكر في هذا الموضوع... انظروا إلى مقدار أدب المرحوم العلاّمة عندما يريد أن يطرح موضوعًا ما، وكان ذلك في الوقت الذي لم يكن فيه موضوع مرجعية الشيخ بهجت قد تم تداوله بعد، بل كان صدى هذا الموضوع يتردّد في الأوساط، ولم يكن هذا الأمر قد أخذ طابعاً رسمياً بعد ولم ينتشر الموضوع في العلن ولم يقم بنشر رسالته العملية آنذاك. على أنَّ رسالته العملية بأيّ هيئة كانت؟
ذهبتُ بمعية المرحوم العلاّمة لزيارة أحد السادة يوماً، فجرى الحديث عن الرسالة العملية للشيخ بهجت هناك، فقال: لقد كتب الشيخ في بداية رسالته: العبد محمّد تقي بهجت.. "العبد"!! فالتفت ذلك الرجل إلى المرحوم العلاّمة قائلاً: فهي رسالةٌ بهجتيةٌ إذاً، نعم إنّها رسالة بهجتية، أي إنّها خالية من تلك الألقاب: العالِم في العالَم وآية الله في الدنيا والآخرة وما بعدها وما دام الله موجوداً وقبل ذلك... إلى غير ذلك من الألقاب من أمثال آية الله العظمى، والأعظم والأكبر والكبرى وما شابه ذلك؛ فلم تكن تحتوي من ذلك شيئاً، بل لم يزد عن أن كتب فيها: العبد محمّد تقي بهجت. فهذا الاسم يكفي فهو كافٍ للدلالة على شخصيته إذاً. ولهذا السبب نرى كيف أن الناس تحبّه، فلماذا شارك كلّ ذلك العدد من الناس في تشييع جنازته؟ لماذا؟ لأنَّ الناس تنظر بأعينها فترى ماذا كتب في رسالته؛ فالناس تنظر إلى هذا التفاوت بينه وبين الآخرين، وتعرف قدره.
أجل لم يكن قد طُرح موضوع مرجعيّته في ذلك الوقت، فسأله المرحوم العلاّمة قائلاً: هنالك سؤال يدور في ذهني منذ مدّة، وأردت أن أعرف وجهة نظركم بشأنه ألا وهو: لو أنَّ أحدهم كان يغتسل ولمدة ثلاثين عاماً بشكل خاطئ ـ [يعلّق سماحة السيد ممازحاً:] لمدة ثلاثين عاماً وهو على هذا الشكل؟!! فيا له من رجل غير أبالي!! نعم هو غير أبالي بكلّ شيء ـ كأن يقوم بغسل جانبه الأيسر أولاً ثم يقوم بعدها بغسل رأسه وهكذا؛ فيكون قد نسي أحد أجزاء الغسل ولم يغسل الجزء الثاني بالمرّة ويكون قد نوى غسل جزء آخر؛ فعلى أيّة حال، فهو قد أمضى ثلاثين سنة من عمره وهو يغتسل بشكل خاطئ، ثم انتبه إلى خطأه بعد هذه المدّة، فما هو تكليفه في هذه الحالة؟ أو أنّه كان يغسل الجزء الأيسر قبل الأيمن ويقول في نفسه: الغسل غسلٌ على أيّة حال، فمن قال إنّ الله قد أمر بغسل الجانب الأيمن أوّلاً؟! سأقوم أنا بغسل الجانب الأيسر بدلاً عنه ولأرى هل سيتبلّل أم لا؟!
ذهب أحدهم إلى مكّة فجاءني يسأل قائلاً: لقد طفت اليوم في الاتجاه المعاكس (جاعلاً الكعبة على يميني) ؛ فأردت بذلك أن أرى إن كان ذلك ممكناً أم لا، فما الضير في ذلك، فهل يتحتّم عليّ الطواف بذلك الاتجاه فقط؟! لقد طفت اليوم بالاتجاه المعاكس؛ فالدوران حول الكعبة هو دوران على أيّة حال؛ ولقد أمرنا الله بالطواف حول الكعبة، فلا فرق في ذلك إن كان الطواف بهذا الاتجاه أو ذاك! فضحكنا قليلاً، فلقد كان هذا شيئاً موجبًا للمرح بالنسبة لنا، فرأينا كيف أن الله قد خلق أناساً لا أباليِّين، كان يقول: أريد أن أطوف بعكس الاتجاه، وليحصل ما يحصل! فقلت له: لا يا عزيزي، عليك فعل كذا وكذا ولتكن شاباً جيداً فتستمع لما أمر الله به لكي تستفيد بشكل أفضل. فتقبّل كلامي، ووعد بأن يعمل بذلك اعتباراً من الغد. ولقد كان قد أتمّ عمرته بذلك النوع من الطواف، فتعال وأصلح الأمر وجِد له حلاًّ، بل إنَّه كان قد خرج عن إحرامه، وعمل أعمالاً أخرى !!! فمشكلته لم تكن بسيطة! قلتُ له: يمكن إصلاح الأمر، لا بأس عليك، فكن مطمئناً، ولا تخف، فسيسامحك الله.
حسناً تابع المرحوم العلاّمة كلامه قائلاً: فما دام جميع غسله قد تمّ بشكل خاطئ وعلى مدى ثلاثين سنة، فما هو حكم صلاته في تلك المدّة؟ فقال الشيخ بهجت رحمه الله: (لا إشكال في ذلك، فلم يحصل خللٌ في صلواته؛ وذلك لعدم وجوب الموالاة في الغسل، إذ أنّ الغسل ليس كالوضوء، حيث أنّ الموالاة لا تلزم في الغسل، ولذا فلا ضير إن حصل تأخير في بعض أجزاءه، فيمكن أن يغسل المرء رأسه، ثم يغسل جانبه الأيمن بعد مدّة وجانبه الأيسر بعد أخرى. فيمكن تجميع غسل الرأس والجانب الأيمن والأيسر معاً من أغسال متعدّدة فينتج منها بالنتيجة غسلٌ كاملٌ. فلو كان قد غسل رأسه الأسبوع الماضي أو قبل شهر والجزء التالي بعد شهر ـ [يعلّق سماحة السيد ممازحاً:] ويعتمد الأمر بالطبع على مقدار حاجته للغسل، فهل يحتاج إلى الكثير أم القليل منه! ـ فيجري لصق هذين الجزأين ببعضهما ثم يجري ضم غسل الجانب الأيسر إليهما، فيكون قد حصل غسلًا كاملًا بعد مرور شهرين أو ثلاثة [على غسل الرأس]. فستكون الصلوات التي أدّاها خلال هذه الفترة صحيحة).
يبدو أنّ الشيخ بهجت رحمه الله كان يعتبر الشرط المتأخر في هذه الحالة مجزياً [إذ لا يصحّ الكلام بدونه]! وعلى كلّ حال، لن نخوض في بحث كلامه الآن، فهو كلام خاطئ، فلا معنى لما تم طرحه، فهو غير صحيح من الأساس، ولكن الكلام في جانب آخر.
حسناً، عندما سمع المرحوم العلاّمة ذلك، تأمّل قليلاً ثم قال: هذا فيما إن قلنا بإمكانية أنَّ يكون الأمر بهذا الشكل، ولكن ماذا لو لم نتمكّن من قبول هذا الأمر؟ فما هو الحكم المترتب على هذه المسألة؟ فقال: لا حاجة إلى حكم آخر في هذه الحالة، فهذا الحكم سيحلّ المشكلة.
فتدخّلتُ في هذا الوسط ـ فأنا ممّن يحشر نفسه في بعض المواقف ـ وقلت: دعني أبدأ ببحثٍ كما يحصل بين الطالب والأستاذ في الدروس العلمية، فهذه الفتوى فتوىً غير صحيحة وهذه الموالاة التي يتم التحدّث عنها ليست في محلّها. وذلك لأنّه أوّلاً هذا التأخير الذي يقال بأنّه مسموح به في الغسل يجب أن يكون تأخيراً عرفياً، فلا يصدق هذا على من يكون قد غسل رأسه قبل شهر على سبيل المثال ثم يأتي ليكمل الجزء الثاني من الغسل بعد شهر من ذلك؛ بل التأخير المتحدّث عنه هو التأخير البالغ لساعة أو ساعتين، لا ذلك التأخير الذي يُفقد [الاتصال والوحدة بين أجزاء الغسل عرفاً].
هذا من جانب، ومن الجانب الآخر، فإنَّ غسله خلال مدة الشهر تلك سيكون باطلاً، فتكون الصلاة قد أُدّيت من قبل رجل مُحدث ولم يتم رفع الحدث عنه، بل سيتم رفع هذا الحدث بعد شهر أو أربعين يوم من ذلك؛ ففي ذلك الوقت فقط سيتم رفع الحدث عنه، لا أن يتم تبديل حالة الحدث بحالة الطهارة خلال تلك المدّة المنصرمة.
فعندما ينتهي أمد الحيض بالنسبة للمرأة الحائض، وتقوم بالاغتسال بعده، فستحصل لها الطهارة من هذا الوقت فصاعداً، لا أن تصبح طاهرة حتّى في مدّة حيضها، فنقول بصحة الأعمال العبادية التي أدّتها خلال تلك الفترة؛ ولذا فإن كانت قد أدّت صلاة لها خلال هذه المدّة، فصلاتها باطلة، بل ليس عليها الإتيان بأيّة صلاة أو صيام، لأنها مُحدثة ولم يتم رفع الحدث عنها بعد... وهكذا الأمر بالنسبة إلى بقيّة الأعمال، فعندما يتم الإتيان بالجزء الأخير من الغسل، تحصل الطهارة منذ تلك اللحظة فقط. فما هو دليلك على تبديل حالة الحدث بالطهارة خلال مدة الشهر تلك؟ ما هو دليلك على ذلك؟ فالجزء الأخير من عوامل رفع الحدث لم يحصل إلاّ في هذه اللحظة، فمتى ما حصل الجزء الأخير، فقد تمّت العلّة النهائية للطهارة، فتحصل الطهارة عندها؛ فماذا عن تلك الفترة السابقة؟ فقد كان فيها مُحدثاً. فبناءً على هذا، تكون جميع الصلوات التي أدّاها في هذه الفترة باطلة. فلا نستطيع الحكم بصحتها.
فلم يقل عندها شيئاً، كما أنَّ المرحوم العلاّمة لم يعلّق بشيء. ولقد علمت في تلك اللحظة بأن قصد المرحوم العلاّمة من إثارة هذه المسألة هو تنبيهه على أنَّ موضوع إصدار الفتوى ليس بالأمر اليسير، فعليك الانتباه لذلك، فلا يستطيع أيٌّ كان أن يصدر فتوىً.
فهل تستطيع أن تقول لذلك الرجل بأنَّ جميع صلواتك التي صليتها في تلك السنوات الثلاثين باطلة، وعليك أن تقضي صلاة ثلاثين سنة؟! [لو قلت له ذلك] لقال لك عندها: لقد تخلّيت عن الله وعن نبيّه، فقد صليت لمدة ثلاثين سنة، ثم يأتي من يطلب منِّي إعادتها؛ لأتركنّ الصلاة من الأساس وسوف لن أصلّي بعد الآن أبداً.
فهل يمكن لك أن تلتزم بشيء كهذا؟ أم يجب أن يمتلك المجتهد بصيرةً وإدراكًا باطنيّاً يتمكن بواسطته من تشخيص الأحكام ومواضيعها، فتشخيص موضوع الحكم هو أصعب من تشخيص الحكم نفسه؛ وذلك بأن يعرف المرء الظروف المحيطة بالموضوع الذي يريد أن يصدر الحكم بشأنه حتّى يتمكّن من الحكم وفقاً لتلك الظروف المحيطة بالموضوع. فكيف لك أن تعرف ذلك؟!
يحصل أحياناً أن يأتيني أحدهم ويتكلّم لمدّة ساعة كاملة حول موضوعٍ ما، فيتصوّر الإنسان أنّ التكليف المترتب على هذا الشخص هو بشكلٍ معينٍ، وفي ختام كلامه ينطق بجملة واحدة فيقول: كما وأنَّني كنت قد فعلت كذا؛ فما أن ينطق بهذه الجملة حتّى يتلاشى مضمون كلّ ما تكلّم به خلال تلك الساعة. لقد كان عليك أن تقول هذه الجملة منذ البداية، فلماذا تركتها إلى نهاية الكلام؟! أيّ أنَّ هذه الجملة تعمل على تغيِير مجرى الحدث بأكمله، وتعمل على تبديل الموضوع من موضوعٍ إلى موضوعٍ آخر مما يترتّب عليه تبديل الحكم.
لذا يجب تحصيل اليقين والإشراف على كافّة جوانب القضيّة وتفحّص الظروف المحيطة بها وتدقيقها والسؤال عنها؛ فعندما يحضر أحدهم إلى المحكمة، فلا يفترض بالقاضي أن ينظر فقط في الملف فيحكم على المتّهم، بل عليه طرح القضية واستدعاء الأشخاص والحديث معهم أمام الآخرين، ثم عليه أن يتحدّث معهم على انفراد، وعليه استخدام مختلف الأساليب حتّى يتّضح له ما الذي قام به المتّهم واقعاً، لكي يتمكّن من إصدار الحكم الشرعي المتناسب مع فعلته. فلا يصحّ أن يقول للمتهم: إنّ هذا ما ذُكر في ملفّك، فبناءً عليه يكون هذا هو الحكم المترتب عليك، فانصرف وليأتي صاحب القضية التالية! ما هكذا يكون القضاء والحكم، بل على المجتهد والحاكم أن يبذل قصارى جهده في التفحّص والتدقيق في كافّة جوانب القضيّة وعليه استجواب المتهم بأنواع الأسئلة وبأسئلة متناقضة لكي تتبيّن له حقيقة الأمر، فهذا هو معنى الاستبصار، وهكذا يجب أن يتمّ الأمر في المحاكم لكي تتّضح كافّة جوانب القضية، ويتمّ إصدار الحكم بشأنها.
ومن هنا، فذلك الذي يكتب في رسالته العملية: (إنَّ من بطلت صلاته للسبب الفلاني، فعليه قضاؤها)، عليه أن يلتفت أنّ هذه الرسالة تصل إلى أيدي جميع الناس، وهذا الرجل من ضمن من تصل إلى يديه تلك الرسالة، وعندما يقرأها سيقول: (يا للهول! فصلاتي التي صلّيتها لثلاثين سنة كانت باطلة بأكملها، ويترتب عليّ قضاؤها؛ ولما كنت لا أمتلك الصبر الكافي لقضائها، فلكم منّي السلام!) فهل يمكن لأيٍّ كان والحال هذه على الإقدام على هذا العمل [إصدار الفتوى]؟!
سنؤجّل الحديث عن تفاصيل هذا الموضوع إلى وقت آخر، فلقد أشرت إلى إحدى زوايا الموضوع فقط. فما هو السبب وراء ذلك؟ إنَّه إعلان ذلك المجتهد عن نفسه؛ فهو عندما يُعلن عن نفسه، فهو إنّما يقول: (يا أيّها السادة، أنا قادر على هذا الأمر، وقادر على إصدار الفتوى)، ويقوم بنشر رسالته العمليّة، فهو يقول بإصداره هذه الرسالة: أنا قادر على هذا الأمر. أتلاحظون ذلك؟ فهو يفتتح رسالته بهذه العبارة: العمل بهذه الرسالة مجزئ إن شاء الله تعالى.
هكذا هو حال بعض المجتهدين، ولكنّنا نجد مجتهداً آخراً يكون قد حاز درجة الاجتهاد، ولكنّك مع هذا تجده ساكتاً، فلا تجده يُعلن عن نفسه أو يقوم بعمل من هذا القبيل. فلنفرض أنّ هناك مجتهداً، ومع كونه مجتهداً، إلاّ أنّه لا يخبر أحداً بكونه مجتهداً ولم يقم بالإعلان عن ذلك ولا بنشره على مواقع الانترنت داعياً خلق الله لتقليده، ولا يقوم بإصدار رسالة عملية ولا يعمل دعاية لنفسه. فإن جاءه أحد ليسأل عن الحكم الشرعي لمسألة ما، تراه يقول: إنَّ الحكم الشرعي لهذه المسألة هو كذا في نظري. فهذا ليس بالإعلان، بل هو بيان لحكمٍ شرعي، فيحرّم عليه والحال هذه بيان حكم مجتهدٍ آخر؛ فهو يعتقد بأنَّ حكم الله في هذه المسألة هو هذا الحكم الذي قد توصّل إليه بنفسه. فهذا المقام ليس بمقام الفتوى، بل هو مقام بيان الحكم الذي توصّل إليه المجتهد بنفسه عندما تمّ سؤاله عن ذلك، فهو لم يعلن للآخرين قائلاً: هذا هو حكمي في هذه المسألة وعليكم الطاعة. ومن الجانب الآخر فقد يأتي إلى المجتهد من يقول له: أريد أن أسألكم عن حكمكم في هذه المسألة، فيقول المجتهد: إن كنت تريد أن تعرف حكمي فيه، فحكمي هو كذا. فهذا المقام لا يمثل مقام الإعلان والإثبات، بل هو مجرد مقام ثبوت وهو يتعلّق بفردٍ واحد أو أكثر ممن يأتون للسؤال وأخذ الحكم منه.
جاء المرحومَ العلاّمة رضوان الله عليه في الزمان السابق من يطلب منه نشر رسالة عمليّة له، فقالوا له: لم لا تقوم بنشر رسالة عملية؟ (وقد حصل هذا الأمر في الماضي البعيد)، فقال لهم: توجد وبحمد الله الكثير من الرسائل العملية، ولقد كان البعض يلمس بنفسه مقدار التفاوت بين ما هو موجود في هذا المكان والأماكن الأخرى. فلقد كان هنالك من يأتي إلى مسجد القائم في عهد شاه إيران السابق ويستمع إلى أحاديث المرحوم العلاّمة، فلقد كان المرحوم العلاّمة يقوم بتوضيح بعض المسائل في أيّام شهر رمضان بين الصلاتين، فكان يتحدّث لمدة عشرة دقائق أو ربع ساعة حول المواضيع المختلفة والمتعلّقة بالصيام، ثمّ تلك المتعلّقة بالمعاملات؛ ولقد كان حديثه متقناً ومُشبَعاً ووافياً، وأتذكّر بأنَّه كان يجلب معه كتبًا مختلفة أحياناً مثل كتاب الوافي، وكان يقرأ منه ويشرح محتواه، وكان ذلك يحصل بين الصلاتين.
فجاءه عدد من العاملين في مجال التجارة والذين تربطهم علاقات مع الكثير من المعروفين، فقالوا له: لم لا تُصدِر رسالة عملية؟ فقال لهم: يوجد الكثير من الرسائل العملية، وما شابه هذا من الكلام. فأصرّوا عليه في هذا الأمر قائلين: نحن نعرف حقيقة الأمر، فأجبنا الإجابة الشافية فلا نستطيع الاقتناع بما تجيبنا به.
فتأمّل قليلاً وقال ما مؤدّاه (اعذروني عن نقل ما قاله بالضبط): لا أستطيع أن أضع قدمي في هكذا بيئة. كان هذا هو الملخّص الشديد لما قاله لهم؛ ولكن الجواب الذي أجابهم به كان بالشكل الذي جعلهم يُطأطئون رؤوسهم إلى الأرض وتحمرّ وجوههم. فكان الجواب بهذا المضمون: ما دامت الأمور على هذا النحو، فهذا ليس بالمكان المناسب لي.
فعندما يرى أحدهم بأنَّ هذا هو العالم الذي يستطيع أن يصدر الفتوى والذي يجب أن يكون مرجع التقليد، غير أنَّه لا يُعلن عن نفسه، ولا يقوم بإصدار رسالة عملية، ولا يقوم بالدعاية لنفسه، فعندما يرى ذلك بنفسه، فهل يمكنه والحال هذه أن يذهب إلى مكان آخر؟! هل يمكن له ذلك؟! وهكذا يقوم الله وبمقدار ما منح كلّ أحد من الفهم وإدراك الحقائق، بمحاسبته وفقاً لذلك المقدار، فيقول له: لقد وهبتك معرفة وإدراكاً، فاليوم هو وقت الحساب، فهل عملت بمقتضى ذلك أم لم تعمل؟ وهل عملت وفقاً لما منحتك إيّاه من المعرفة والإدراك أم لا؟
تلك هي حقيقة القضيّة التي ذكرتها للإخوة، وهي الحقيقة التي يبيّنها الإمام عليه السلام للناس؛ [فلو كانت قراءته للدعاء] من أجل تعليم الآخرين، لأعلن ذلك من على مسجد المدينة، ولصعد فوق المسجد وجمع الناس عند السحر وبدأ بقراءة دعاء أبي حمزة ولقال: يا أيّها الناس ويا شيعتي ويا أيّها الموالون لي، عندما يحين وقت السحر من ليالي شهر رمضان، فاقرؤوا دعاء أبي حمزة كما أعلّمكم أنا قراءته الآن: هَبْنِي بَفَضْلِكَ وَتَصَدَّقْ عَلَيَّ بِعَفْوِكَ؛ أَيْ رَبِّ، جَلِّلْنِي بِسِتْرِكَ. نعم اقرؤوه بهذا الشكل، فسيقول الناس: (سمعاً وطاعةً، نعم، فتلك العبارات تليق بمقامنا حقاً، فإن لم تكن تليق بمقامه، فهي تليق بمقامنا نحن، فلنسمعها ولنقوم بترديدها).
لماذا يختلي الإمام بنفسه في غرفة ويُغلق عليه الباب ويقوم بإطفاء النور لكي لا تستيقظ زوجته وأطفاله؛ أو أن يخرج من المدينة، أو أن يذهب إلى مكان مفتوح في المدينة بحيث لا يراه أحد. فترى الراوي يقول: كنت أطوف وإذا بي أسمع صوتَ مناجاةٍ، فلما اقتربت رأيت رجلاً يناجي الله، فلما سألت عنه، قالوا: هو الإمام السجّاد، أو ما نقله الأصمعي عندما قال: كنت أطوف بالبيت في منتصف الليل، وإذا بي أسمع صوت بكاء ونحيب، فلما اقتربت رأيت رجلاً متعلّقاً بأستار الكعبة وهو يناجي الله ويقول: إلهي عُبيدُك بِفنائِك، مسكينُكَ بِفنائِك، سائِلُكَ بِفنائِك، فقيرُكَ بِفنائِك۱. أو تلك الأشعار التي كان يقرأها [بعدما قال]: غلقت الملوك أبوابها، وأقامت عليها حراسها، وبابك مفتوح للسائلين، فإن لم تفتح لي بابك، فإلى منْ ألتجئ؟ وإن لم تغفر لي ذنوبي، فمن يستطيع أن يغفرها لي؟!٢.
إنّ الإمام السجّاد لم يقرأ ذلك وقت الظهر، وعندما تجتمع الناس للصلاة، بل قرأها في منتصف الليل في المسجد الحرام حيث يكون الظلام قد خيَّم على المكان، فلم يكن وضع المسجد الحرام والكعبة في ذلك الوقت على ما هو عليه اليوم، فصادف أن مرّ الأصمعي من جنب الكعبة وسمع صوت البكاء [ونقل لنا ذلك]. فإلى مَنْ قرأ الإمام هذا الدعاء؟ ومن يريد أن يُعلِّم؟
وكم هو مقدار الأدعية التي كان الأئمّة يدعون بها والتي لم تصل إلى أيدينا؟ فهل كانت الأدعية التي يدعو بها الإمام السجّاد أو الإمام الصادق أو الإمام الرضا هي هذه الأدعية التي بين أيدينا الآن فقط؟! كلاّ، بل هنالك الكثير من الأدعية الخاصّة بهم والتي كانوا يقرؤونها في قلوبهم؟ وهل وصلت إلينا جميع الأدعية التي كانوا يقرؤونها في القنوت؟ هل يمكننا أن ندّعي ذلك؟! وهل وصلت إلينا جميع تلك المناجاة والأدعية التي كانوا يقرؤونها في شهر رمضان أو شهر رجب؟ نعم، يحصل أن يسمع أحدهم جزءً منها [فيقوم بنقلها]، كما أنّ الأئمة قد علّموا بعضًا منها لأصحابهم وكان الأصحاب يدوّنونها، مثل دعاء الإمام الحسين عليه السلام في يوم عرفة، فقد كان هنالك جمعٌ غفير من الناس في ذلك اليوم وقام الإمام بقراءة ذلك الدعاء المعروف: الحَمْدُ للهِ الذي لَيْسَ لِقَضائِهِ دافِعٌ، وَلا لِعَطائِهِ مانِعٌ، وَلا كَصُنْعِهِ صُنْعُ صانِع. وكان بشر وبشير حاضرين هناك فقاما بكتابة الدعاء، وإلاّ لما كان هذا الدعاء ليصل إلى أيدينا. فهل كان هذا هو الدعاء الوحيد للإمام الحسين، ولا يوجد هنالك دعاء غيره؟ كلاّ، بل لعلّه يوجد الكثير منها مما لم يصل إلينا؛ ولعلّ الإمام سيقوم بنشرها بين الناس عند ظهوره، فتلك أدعية قد تمّ إنشاؤها من قبل وليّ الله، فهو ليس بالكلام العادي؛ وذلك أنّ الإمام عندما يقرأ الدعاء فهو يقرأه وهو في حال المناجاة مع الله، وهو يوضّح فيه الكثير من المواضيع.
وبالطبع فيوجد هنا الكثير مما لا يمكن التصريح به، فلعلّ الكثير من الأدعية التي تُسمع على لسان أولياء الله ولا يمكن العثور على سندٍ لها في الكتب، فلعلّها تكون من هذا القبيل؛ فلعلّ الأئمة هم الذين قالوها غير أنَّها لم تصل إلى أيدينا.
رحم الله أحد الرجال الكبار في مشهد، فقد توفي الآن... كنت أسير بصحبته يوماً فنقل لي أمراً عن المرحوم الشيخ حسنعلي النخودكي الاصفهاني فقال: قال لي الشيخ: من غسل يديه قبل تناول الطعام وبعده حتّى وإن كان يستعمل الملعقة في تناول الطعام وقرأ هذا الدعاء ومسح عينيه بعدها، فسيعمل ذلك على حفظ عينيه من الكثير من الآفات. لقد كتبت ذلك الدعاء بالطبع ولكنّني لا أخبر به أحداً. وقال لي: اقرأ أنت هذا الدعاء وعلّمه لغيرك فأنا أُجيزك نقل هذا الدعاء عنِّي.
فمن أين جاء المرحوم الشيخ حسنعلي بهذا الكلام؟ بالطبع فإنَّني لم أخبر أيّ أحد بهذا الدعاء، فلي حساباتي الخاصّة بي، غير أنَّ هذا الموضوع يُنقل عن رجل من الأعاظم، فالمرحوم الشيخ حسنعلي الاصفهاني رجلٌ عظيمٌ، وكان من أهل المعنى والباطن؛ فلعلّ هذا الدعاء كان من هذا القبيل، فلعلّه قد كُشف له عن طريق الباطن، فعلم بأنَّ أحد الأئمة عليهم السلام قد فعل ذلك، ولكنّه لم يكن يستطيع التصريح بذلك وإفشاء هذا الأمر، فقد يؤدِّي ذلك إلى مفسدة ما؛ حيث أنّ ذلك قد يؤول إلى أن يقوم في الغد كلّ رجلٍ عاديٍّ كبائع البنجر واللفت بالادّعاء بأنَّ أمراً ما قد كُشف له، فيعمل ذلك على إشاعة الفوضى وفقدان النظام.
ولهذا السبب نرى بأنَّ العظماء يكونون حذرين دائماً في نقل مثل هذه الأمور ولا يُخبرون كلّ أحدٍ ببعض المسائل ولا يتحدّثون معهم بأيّ موضوع كان. وأنا أتذكر كيف أنَّ المرحوم العلاّمة كان يقرأ سابقاً بعض الأدعية في السجود أو القنوت، وكذلك بعض الأدعية الأخرى التي كان يدعو بها، فلقد كنت أشعر بأنَّ تلك الأدعية ليست من تلك الأدعية التي من الممكن صدورها أو تركيبها بواسطة رجل عادي.
فهنالك بعض الأدعية يمكن تشخيصها وبسهولة على أنَّها مختلقةٌ موضوعةٌ، كأدعية أيام شهر رمضان على سبيل المثال، كدعاء اليوم الأول والثاني والثالث، فمن الواضح كونها أدعية تمّ تجميعها وتركيبها وإخراجها من المصنع؛ ومن المعلوم بأنَّها تمت على أيدٍ غير خبيرة، أيّ أنَّ المهندس الذي قام بالتجميع لم يكن خبيراً بكيفية التجميع، فعمل على لصق هذه العبارة بتلك على أمل أن تخرج بشكل مسجوع وعلى وزن وقافية واحدة، فمن الواضح جداً بأنّها أدعية موضوعة.
والعجب من المرحوم الشيخ عباس القمّي، فلِم قام بنقلها في (مفاتيح الجنان)؟! فهذا الأمر مما يبعث على الأسف حقاً؛ فما الحاجة إلى ذلك؟! لقد كان عليك أن تقول: ليس لدينا أدعية خاصّة بأيام شهر رمضان، فهل سيكون في ذلك ضير؟! أفيجب أن تكون هنالك أدعية لكل يوم، وذلك بأن يكون لليوم الثاني عشر، واليوم السابع عشر دعاءه الخاص به؟! بل كان عليك أن تقول لم ترد أدعية خاصّة بالأيام، فأنت لم تذكر لها أيّ سندٍ، فإن كان سندها ضعيفاً، فبأيّ دليل تقوم بنقلها؟ وبناءً على أيّ شيء تنقلها؟ فذلك من المسائل التي تبعث على توهين مذهب أهل البيت وإضعافه، وتسبّب التشكيك في نسبة الأحاديث إلى الأئمة، يجب أن يكون الدعاء متقناً وصحيح الانتساب لأهل البيت، فالمتخصّصين في هذا المجال يعرفون ذلك، فهم يعلمون أيّ الأحاديث صادرة عن الإمام، فهنالك من لا يحتاج إلى الرجوع إلى سند الرواية أو سند الدعاء أصلاً [لكي يتيقّن من صحته أو ضعفه].
فالزيارة الجامعة الكبيرة لا تحتاج إلى الرجوع إلى سندها [للتأكد من صحّة صدورها عن المعصوم، بل إنّ نفس متنها يجعلك تقول:] لا بدّ وأن تكون هذه الزيارة صادرة عن الإمام، فلا يمكن لغير الإمام أن يقول مثل هذا.
أو انظروا إلى المناجاة الشعبانية، فلا يمكن لغير الإمام أن يبيّن ما جاء فيها؛ فالعبارات التي جاءت فيها ليست بتلك العبارات التي يمكن لأحد أن يقوم بتجمعيها وإعادة تركيبها، وإلاّ لافتُضح فوراً؛ إذ سيفضحه المتخصّصون فوراً وسيقولون: لقد وضع هذا الرجل هذه المناجاة بنفسه واخترعها من عنده.
ينبغي الالتزام بأدعية الأئمة وعدم اختراع أدعية من عندنا
جاء أحدهم إلى الإمام الصادق وقال: لقد اخترعت دعاءً يا بن رسول الله. فقال له الإمام: دعنا من اختراعك، فما لك ولاختراع دعاءٍ؛ فمن تكون أنت لكي تقوم باختراع دعاءٍ؟ بل علينا نحن أن نقوم بتعليمكم۱، وعلينا نحن أن نعلّمكم ما الذي يجب أن تقولوه أو لا تقولوه. نعم، يستطيع المرء أن يقرأ في قنوت صلاته ما شاء من الدعاء، أمّا أن يأتي ويُوجد شيئاً ويلقيه إلى الآخرين كما نرى اليوم من تلك الزيارات التي عملوها لهذا وذاك [فهذا أمر غير مقبول].
كنت قد ذهبت إلى لبنان يوماً... رحم الله مسؤول [حزب الله السابق] السيّد عباس الموسوي؛ لقد كان رجلاً طيباً، ولقد سمعت مدحاً وثناءً بحقّه، فقد كان رجلاً طيّباً وكان يمتلك حالاتٍ معنوية، وقد نُقلت عنه بعض الأمور... أجل، فقد ذهبت بمعيّة عدد من الأصدقاء المتواجدين هناك لزيارة قبره، وكان هذا قد حصل قبل وقت طويل، فعندما وصلنا هناك، وجدت بأنَّهم قد قاموا بالتحضير لبعض المراسم بسبب قدومي إلى هناك وأعدوا الكاميرات وحضروا لقراءة الزيارة والقيام بتصوير الحفل، فما إن وصلت حتّى عرفت ما الذي يجري. فقلت: سأذهب لقراءة الفاتحة والصلاة ركعتي التحية؛ فتقدّم أحدهم وبدأ بقراءة الزيارة؛ فقلت له: أنا سأقرأ الفاتحة وأصلي ركعتي التحية ـ ولقد تم تصوير هذا الأمر، ولا أدري إن كان قد تم نشره أم لا ـ فوقفت هناك وقرأت الحمد والإخلاص.
هذا مع أنَّني أحبّه حقاً ولقد كنت أراه رجلاً صالحاً جداً، حتّى أنَّني قد بتّ تلك الليلة في بيته؛ ولقد كانت ليلةً جيدة أمضيناها مع الإخوة والأصدقاء هناك الذين لا يزالون على قيد الحياة حفظهم الله ووفقهم، وجرت بيننا أحاديث في ذلك المجلس.. كان مجلساً جيداً في النتيجة. وعلى أيّة حال فقد قرأت الفاتحة والإخلاص، ثم ذهبت جانباً وصليت ركعتي صلاة التحية، وقلت لنذهب؛ فقالوا نريد أن نقرأ الزيارة، فقلت لهم: أستودعكم الله، دعوا ذلك إلى أفراد آخرين.. إن وصل ثواب الفاتحة التي قرأتها إلى روحه ففي ذلك الكثير؛ فليس لدينا من الخير والبركة ما يمكننا إضافته، بل علينا أن نفعل ما أُمرنا به فقط، دون إضافة.
فانظروا بأنفسكم لتروا ما الذي يريده منّا المرحوم نفسه ـ أقصد المرحوم السيد عبّاس ـ وهو الآن في تلك الدار؟ فهل يقول: (أقيموا لي مراسم واحتفالات، وليصطفّ الناس عن الميمنة والميسرة ويتم تصوير المراسم ويتم قراءة الزيارة: السلام عليك يا فلان، السلام عليك يا ...)؟! هل هذا ما يريده منّا؟ لنرى ما الذي يريده منّا الآن، وما الذي تطلبه روحه منّا في هذا الوقت؟ ففي ذلك العالم قد ذهبت جميع تلك الأمور الاعتبارية جانباً، فما الذي يريده منّا الآن؟ إنّه يقول: أقرأ لي سورة الحمد والإخلاص وصلّ ركعتي التحية وانصرف جزاك الله خيراً، فلا حاجة لي بأكثر من ذلك. وأمّا باقي الأمور فلا تنفعني، فما هو الشيء الذي أنا بحاجة إليه؟ كلّ ما أحتاج إليه هو مجلس الترحيم (لا التجليل!)، فمجلس الترحيم قد سمّي بهذا الاسم لأنَّه يتضمن طلب الرحمة للمتوفّى؛ فهذا هو الذي يطلبه ويتوّقعه منّا؛ فالذي يحتاج إليه الآن هو أن يجتمع الناس ليُرسلوا إليه الرحمة والبركة وهو في تلك الدار، والله تعالى هو الذي جعل هذا الأمر، وتلك هي واحدة من تلك النِعم الإلهية؛ فنظام العالم قائم على هذا الأساس وهو: إن رحل الإنسان عن الدنيا، فسوف لن تنقطع علاقته بهذا العالم، بل سيقوم المتواجدون في هذا العالم بالمحافظة على ديمومة هذه العلاقة عن طريق الأعمال والتصرفات التي يقومون بها وما يفيضونه عليه، فعندما يرحل أحدهم عن الدنيا، يُوصي بأن تُقرأ له سورة يس في ليالي الجمعة، والصلاة ركعتين له في حرم الأئمة عند الذهاب للزيارة؛ وذلك لكي يستمر هذا الارتباط ولا تنقطع حلقة الارتباط تلك.
وأمّا تلك الأمور التي اخترعوها، فلا نعلم على أيّ أساس كان ذلك! يجب أن تكون هذه الأمور صادرةً عن المعصوم، فالأوامر والتعليمات يجب أن تكون صادرة عن المعصوم؛ وإن كانت هنالك زيارة، فيجب أن تكون صادرة عن المعصوم.
الإمام المعصوم لا يقاس به أحد حتى الأولياء الإلهيين
باعتقادي الشخصي، فأنا لا أعتقد ـ وحتّى هذه اللحظة ـ بوجود وليٍّ إلهي أو عارفٍ أو عالمٍ يكون بمرتبة المرحوم الوالد رضوان الله عليه؛ فلم أرَ ولم أسمع بوجود أحد مثله، فهذا هو اعتقاد هذا العبد، فلقد قرأتُ الكتب وتراجم الرجال وما جاء عن العظماء واطّلعت على مؤلفاتهم وأحوالهم، كما وأنَّني قد رأيت الكثير منهم بعيني وشاهدت تصرّفاتهم واطّلعت على خصائصهم، غير أنَّ ذلك السرّ وتلك الحقيقة والخصوصيّة التي شاهدتها في المرحوم العلاّمة هي شيء آخر!
ومع كلّ هذا فأنا أقول هنا: إنّه لم يحصل لي ولو لمرّة واحدة أن قصدت زيارة الإمام الرضا عليه السلام وضممت إليها نيّة زيارة قبر المرحوم العلاّمة رضوان الله عليه۱؛ فهنالك يوجد الإمام الرضا ولا غير.
فكثيراً ما يحصل أن أتشرف بزيارة الإمام، ثم أذهب بعدها لزيارة قبر المرحوم العلاّمة لقراءة الفاتحة، فتلك هي عادتي منذ البداية وأنا مسرور بذلك، ثم أجلس ساعة في زاوية من زوايا الصحن، وها أنا أفعل ذلك الآن أيضاً، ويحصل كثيراً أن أرى بأنَّ حالي لا يكون مساعداً، فأذهب لزيارة الإمام فقط وأعود إلى المنزل، حيث أقرأ له الفاتحة من هناك، وهو يقبل ذلك منِّي إن شاء الله.
أنا أقول هذا الأمر للإخوة وهو أنَّني رأيت وسمعت بعض الإخوة يقولون: لقد ذهبنا لزيارة الإمام ومزار المرحوم العلاّمة. فما أن يقولوا "و"، أقول لهم: لا مكان للواو هنا؛ فعليك أن تقول ذهبت للحرم وانتهى الأمر. فإن كنت تقول: أريد زيارة الحرم وقبر المرحوم العلاّمة، أقول لك: لا مكان للواو ولا للمعيّة هنا؛ فلم يأتِ المرحوم العلاّمة ليعرض نفسه إلى جانب الإمام الرضا، بل كان قوله أنّ هنالك حقيقة واحدة ولا غير، وهي حقيقة الإمام علي بن موسى الرضا فقط. وكان يفتخر بقوله: ادفنوني في جهة أرجل الإمام، فهذا مما يفتخر به الوليّ الإلهي. ويجب أن يكون الجميع هكذا.
قال لي أحدهم: عندما أتشرّف بزيارة الإمام وأخرج من الحرم ذاهباً إلى مزار المرحوم العلاّمة، فأنا أعتبر جميع هذه المسافة من الحرم إلى المزار جزءً من الحرم ومن الرواق، ولذا أقطع هذه المسافة حافي القدمين؛ فقلت له: لا مبرر لما تقوم به، وما تقوم به هو عمل غير سائغ. ثمّ قلت له: أمّا أنا، فكلّما ذهبت إلى الزيارة وأردت أن أذهب لقراءة الفاتحة لوالدي، كنت أرتدي حذائي عندما كنت أخرج من الحرم بشكل طبيعي، فإن كان مزاجي مساعداً، ذهبت إلى قبر السيّد الوالد لقراءة الفاتحة له، وإن لم يكن حالي مساعداً، انصرفتُ وقرأت الفاتحة له وأنا في طريقي. أتلاحظون؟!
وها أنا ذا أكرر بأنَّني لم أرَ حتّى الآن أحداً من العلماء والأعاظم يمتلك سعة المرحوم الوالد وإدراكه وأفقه ودرجته، ولم أسمع بذلك. ولكنّ الإمام له مكانته الخاصّة به؛ فالإمام إمام وله شأنه الخاصّ به، فمكانة الإمام الرضا والإمام الجواد ومكانة الإمام موسى بن جعفر لها حسابها الخاص بها، فلكلّ شيء مكانته الخاصّة به.
أنا أعتبر أنّ أفعال الولي الإلهي وأقواله وتصرفاته حجّة محضة ومطلقة بالنسبة لي، ولكن وفي نفس الوقت فأنا أفرّق بين مكانته ومكانة الإمام؛ فلكل أحد مكانته الخاصّة به، ولكلّ أمرٍ موقعيّته الخاصة المناسبة له، ولكلّ شخص درجته الخاصّة، فهكذا هو مذهب الشيعة ومدرستهم، وهذا ما يُعلّم المذهبُ أتباعه. واعلموا يا إخوان أنّ المرحوم العلاّمة نفسه كان حسّاساً جداً تجاه هذا الموضوع وكان حريصاً على تمييز الإمام عليه السلام عن باقي الأفراد؛ فهذا مما أعلمه أنا جيداً، واعلموا أنّه قد كتب الجزء الثامن عشر من كتاب معرفة الإمام لهذا الغرض، وهو أنَّ للإمام المعصوم مكانته الخاصّة به التي لا يشاركه بها أحد.
علينا أن نتحرّك ونهتزّ، نعم، علينا أن نوجد انتفاضة وهزّة في أنفسنا، فلا يجب علينا أن نعمل على الحطِّ من مكانة الإمام بحيث نجعلها متناسبة مع ميزان فهمنا ودرجتنا. انظروا إلى رواية الإمام الرضا عليه السلام، لتروا ما الذي قاله بشأن الإمامة ۱؛ لقد قال: إنَّ أوهام عقولكم لا تتمكّن من إدراك المقام الذي نحن فيه، فهو عليه السلام يُسمي عقولنا بالأوهام، إنّه يُطلق على عقولنا هذه التي نُدير بها كلّ العالم اسم "الأوهام" في مقابل تلك الدرجة التي هو فيها.
كنت متواجداً قرب مزار المرحوم العلاّمة يوماً، فجاءتني امرأة تسأل، أيّ الأئمّة هذا المدفون هنا؟ رقمه كمْ بين الأئمّة؟
- فقلت لها: ماذا تقولين يا امرأة؟!!
- قالت: هذا المدفون هنا أيّ الأئمّة هو وما هو ترتيبه؟
- فقلت لها: هل أنت سليمة، أمتأكدة من أنَّك لستِ بمريضة؟!
لقد قلت لها ذلك حقاً، فلم أكن أمزح، قلت لها: ألستِ بمريضة؟ فما هذا الكلام الذي أسمعه إذ تقولين: الإمام كمْ هو؟ قلت لها: ألم تسمعي لحدّ الآن بأنَّ عدد أئمتنا هو اثنا عشر إماماً فقط؟ ثم قالت أموراً أخرى. فقلت لها: لدينا اثنا عشر إماماً ولا غير، يرقد منهم هنا الإمام الثامن وهو الإمام الرضا، ويوجد بعده أربعة أئمة آخرهم حيّ وهو إمام الزمان.
أمّا هؤلاء، فهم من العلماء والعظماء والأولياء وهم تلامذة أولئك الأئمة، فتلك حقيقة واقعة ونحن بها من المؤمنين؛ فما هذا السؤال: الإمام كم هو؟ فتصوّروا فلقد كانت امرأة كبيرة تبلغ الأربعين أو الخمسين من العمر وهي تسأل: كم هي مرتبته بين الأئمة؟ فمن هو المسئول عن ذلك؟ من هو المسئول عن هذا الفهم الخاطئ؟!
التصديق بأنّ الإمام يبيّن حاله بالدعاء يؤثّر على كيفيّة قراءتنا له
حسناً.. علينا أن نعي هذه الحقيقة، فهذا أمر حقيقي وواقعي ولقد كرّرت هذا الأمر مراراً ومع هذا فأنا أشعر بأنَّنا ومهما تكلّمنا عن هذا الموضوع فلن نتمكّن من أن نعطيه حقّه، فعلينا أن نعرف أولاً أيّها الإخوة بأنَّنا وما لم نحصّل في أنفسنا هذا الشعور وهو أنَّ هذه الأدعية تبيّن واقع حال الأئمّة، فسوف لن نجني من قراءتنا لها تلك الفائدة المرجوّة. فعندما نعلم بأنَّ هذا هو بيان حال الإمام، فسنقول عندها: حسناً، إن كان الإمام يتكلّم مع الله بهذا الشكل، فمن الأولى بنا أن نفعل ذلك نحن أيضاً. فعلينا أن نعرف بأنَّ تلك الأدعية هي بيان حال الأئمة حقاً؛ فعندما يقرأ الإمام الرضا أحد تلك الأدعية التي أنشأها أحد الأئمّة السابقين، [فهو يُطبّق تلك المضامين على حالته الشخصية]، فالأئمة اللاحقون كثيراً ما يقرؤون نفس تلك الأدعية التي كان قد أنشأها أحد الأئمة السابقين، فكان الإمام الرضا على سبيل المثال يقرأ نفس هذه الأدعية كدعاء أبي حمزة أو دعاء الافتتاح وغيرها. فلدينا رواية عن الإمام الصادق يقول فيها: كان جدّي علي بن الحسين يدعو بالدعاء الفلاني بهذا الشكل، فها نحن نسمع الدعاء الذي كان يدعو به الإمام السجاد عن لسان الإمام الصادق، فالإمام الصادق ينقل لنا الدعاء الوارد عن الإمام السجّاد أو الإمام الباقر عليهم السلام أو الأدعية الواردة عن سيّد الشهداء عليه السلام.
فيجب علينا أن نعي تلك الحقيقة وهي: أنَّ تلك الأدعية وما فيها من مواضيع ومضامين ومفاهيم ومعانٍ هي بيان حال الأئمّة حقاً وهي تبيّن لنا كيفية ارتباطهم بالله، فإن أدركنا تلك الحقيقة، فسيأخذ الدعاء مكانه في نفوسنا تدريجياً، وحينئذٍ سنقول: وهذا هو حالنا نحن كذلك. فعندما يقول الإمام: (إلهي تصدّق عليَّ بعفوك، فلست مستحقاً للعفو)، فكيف لنا والحال هذه أن نحسب للأعمال التي نأتي بها حساباً؟! وعندما نتنبّه إلى تلك الحقيقة، فعلى أيٍّ من أعمالنا نستطيع الاتّكاء في هذه الحالة؟ وكيف لنا ـ عندما نقوم بعمل خيّرٍ ـ أن نذكره ونحسب له حساباً، يعني فضلاً عن عدم ذكره باللسان، يجب ألاّ يخطر أي خطورٍ له في الذهن.
شكر الله على أعمال الخير أثره على النفس أكبر من الاستغفار من الذنب
نعم، قد يفرح ويبتهج المرء عندما يوفّقه الله للقيام بعمل خير، فهذا مما لا بأس به؛ بل هو أمر مستحسن، وقد أقوم بالحديث عن هذا الموضوع إن شاء الله وسأُبيّن لكم بأنَّ الثواب الحاصل من شكر النعمة هو أكثر من ذلك الحاصل نتيجة الاستغفار عن الذنب، فكما أنَّ استغفار المرء عن الذنب الذي ارتكبه يعمل على تكفير الذنب وغسل آثاره وتطهير النفس، فكذلك الشكر على التوفيق لعمل الخير له آثاره على النفس، بل آثاره أكبر من آثار الاستغفار عن الذنب.
انظروا ماذا قال المرحوم العلاّمة والعظماء عن المراقبة والمحاسبة قبل النوم، وأنا أتحدّث عن المحاسبة المعروفة، فعندما تريد أن تنام، عليك أن تتذكّر أعمال البِرّ التي صدرت عنك ذلك اليوم، وتشكر الله على ذلك، كما وتتذكّر الأعمال الطالحة والزلّات التي صدرت منك وتستغفر الله عنها ثم تخلد إلى النوم، فتلك هي المحاسبة إذاً.. هذا هو معنى المحاسبة والتوبة.. وشكر الله على أعمال الخير التي صدرت من الإنسان أثره على النفس أكبر وأعظم من الاستغفار على الذنب؛ فلماذا يجري الأمر على هذا المنوال؟ سنؤجِّل الحديث عن هذا الموضوع إلى ليلة أخرى.
لقد تأخّر الوقت، والإخوة والأصدقاء والأطباء يُذكِّرونني دائماً ويقولون: عليك الالتزام بالتعليمات، وإلاّ فلن يكون هناك مناص حينئذٍ من إيقاف هذا المجلس! فلكي لا يصل الأمر إلى هذا الحد، لا بدّ لي إرضائهم والالتزام بتعليماتهم.
إن سنحت لي فرصة فسأقوم إن شاء الله بتقديم توضيحات حول هذا الموضوع وهو: كيف يمكن أن يكون للشكر على التوفيق للقيام بعمل الخير من تأثير على النفس أكبر من ذلك التأثير الذي يتركه ندمنا على ارتكاب المعصية واستغفارنا عن ارتكابها؟ كلّ ذلك يعود إلى هذا الأمر وهو: أن يرى الإنسان أن جميع الأمور تأتي من جهة واحدة ومن نافذة واحدة، وألاّ يرى لنفسه دورًا فيما يحصل.
نسأل الله أن يمنَّ علينا بواسطة عنايات الله عزّ وجلّ وبواسطة هداية مقام ولاية إمام الزمان عليه السلام ولطفه وكرامته وببركة هذه الليالي المباركة التي يشعر فيها بكيفيّة نزول هذه المواضيع وهذه الحقائق في هكذا جوّ معنوي ويرى كيف تتضح تلك الحقائق وتستقر في أنفسنا. وكأنَّ هذا الجو بحدّ ذاته يقتضي نزول هذه البركة والرحمة واللطف والفيض والفضل الإلهي... نسأل الله أن يمنَّ علينا بالتوفيق لفهم هذه المواضيع أولاً ثم الالتزام بها وتطبيقها.
الّلهمّ صلِّ على محمّد وآلِ محمّد.