المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني
المجموعةسنة 1434
التوضيح
ما معنى طلب الإمام عليه السلام مقام الولاية من الله تعالى مع تحقّقه بالولاية الكلّية؟ كيف يراعي الإمام عليه السلام حيثيتي الربوبيّة والعبوديّة في نفس الوقت؟ متى تتجلّى حيثيّة الربوبيّة في الإنسان؟ هل للأنبياء عليهم السلام والأولياء تكامل حتّى بعد الوصول للقاء الله تعالى ومرحلة البقاء؟ هي أسئلة سعى سماحة السيّد قدس سره تعالى للإجابة عنها في هذا المجلس الشريف؛ بالإضافة إلى ذكر بعض النكات والملاحظات الأخرى؛ نظير وصيّة المرحوم العلاّمة لتلامذته فيما يختص بما بعد شهر رمضان المبارك.
هو العليم
حيثيتي الربوبيّة والعبوديّة في الإمام والولي
شرح دعاء أبي حمزة الثمالي - سنة ۱٤٣٤ هـ ق – المحاضرة السادسة عشر
ألقاها:
آية الله الحاجّ السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ
قدس الله سره
أعوذ باللـه من الشيطان الرجيم
بسم اللـه الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين
والصلاة والسلام على سيّدنا ونبيّنا أبي القاسم محمد
وعلى آله الطيبين الطاهرين
واللعنة على أعدائهم أجمعين
عظُم يا سيّدي أملي وساء عملي فأعطني من عفوك بمقدار أملي ولا تؤاخذني بأسوء عملي؛ فإنٌّ کرَمَك يجلّ عن مجازات المذنبين وحلمك يكُبر عن مكافات المقصِّرين.۱
(إنّ أملي وما أتمنّاه يا سيّدي عظيم، وسلوكي وأعمالي قبيحة وغير لائقة؛ فأعطني من عفوك بالمقدار الذي يحقّق أملي، ولا تنظر إلى ذنوبي وسلوكي غير اللائق ولا تُحاسبني على ذلك؛ لأنّ كرمك أجلّ من أن يُعاقب المذنبين، وحلمك وأناتك بالنسبة لأعمال عبادك أكبر من أن تُجازي الأشخاص الذين يُقصّرون في أداء تكليفهم تجاهك وتجاه أنفسهم فيما يرتبط بمصلحتهم وسعادتهم)
لقد تمّ الحديث عن مضمون هذه الفقرات من الدعاء مع الأخلاّء خلال هذه الليالي، ويبدو أنّ هذه الليلة هي الليلة الأخيرة من شهر رمضان؛ ولنرى ما الذي يُقدّره الله. ولقد غمرتنا السعادة ونحن نتحدّث حول معنى هذه الفقرات خلال هذه الليالي، ونتمنّى لو استمرّت هذه الأيّام والليالي المباركة، ليستمرّ معها اجتماعنا مع بعضنا البعض، ويستمرّ حديثنا وبحثنا المتبادل حول هذه المواضيع.
أهميّة اختبار الإنسان لنفسه في طريق السلوك
كم هو بنظركم مقدار ما نتكلّم به مع هذا وذاك طوال اليوم والليلة؟ بما أنَّ شهر رمضان قد انتهى، فاختبروا هذا الأمر؛ بأن يضع أحدكم مسجّلاً للصوت في جيبه صباحاً عند نهوضه من فراش النوم ـ بالطبع فإنَّ قيام الليل والصلاة مستثناة من ذلك ـ وبدء نشاطه اليومي سواءً منه العائلي أو الاجتماعي، ليقوم الجهاز بتسجيل جميع محادثاتك مع الآخرين حتّى المساء؛ وعند المساء، استمع إلى ما دار بينك وبين الآخرين من حديث، لترى ما الذي ستحصل عليه من ذلك؛ فمن المُستحسن أن يقوم الإنسان بهكذا عمل أحياناً، وقد كان العظماء في السابق يصدرون إلى تلامذتهم مثل هذه الأوامر ـ بل أشدّ ـ ، ولكنَّني لم أكن أرى في البرامج التي يصدرها المرحوم العلاّمة شيئاً من هذا القبيل، وأمّا السابقون، فقد كانت لديهم الكثير من هذه الأمور.
أتذكّر بأنَّ المرحوم العلاّمة كان في أحد الأيام يُبدي تألّمه [لما يظهر من البعض] ـ ولا أعلم هل كان هنالك شخص آخر غيري أم لا، أو ربّما كان بعض الأصدقاء يحضر ذلك المجلس أيضاً ـ وكان يقول: في السابق، عندما كان أحد الأشخاص يأتي إلى الأساتذة لغرض التتلمذ لديهم، فإنّ أوّل شيء كانوا يطلبونه منه هو أن يُسلِّم كلّ ما لديه من أموال إلى الأستاذ؛ وتبعاً لذلك، سوف لن يخرج موقف ذلك الشخص عن إحدى الحالتين: إمّا أن يرى بأنَّ الأمر لا يروق له، فيُدير ظهره ويغادر بحيث لن يُعثر له على أيّ أثر، أو أن يبدأ بالتفكير بالأمر ليرى هل يستحقّ الأمر هكذا تضحية أم لا.. أتعلمون لماذا كنت أؤكّد على هذا الموضوع خلال الليالي السابقة؟ هذا هو نموذج من ذلك، فالمصداق على ذلك حيّ وحاضر؛ فقد كنت أؤكّد بأنَّه على الإنسان أن يجعل ذلك الهدف كعبة لآماله، وأن تكون جميع تصرّفاته وبرامجه وأعماله مُنصبّة في ذلك الاتّجاه، لكي يعي الإنسان أهميّة ذلك الهدف بالنسبة له.
معنى طلب الإمام عليه السلام من الله تعالى مع تحقّقه بالولاية الكلّية
إنَّ لهذا الهدف أهميّة قصوى لدى الإمام السجّاد عليه السلام، ولهذا يقول: عظم يا سيِّدي أملي، فالإمام السجّاد عليه السلام ليس بذلك الشخص الذي لا يُدرك حقيقة المسألة، فهو إذ يُخاطب الله بهذا الخطاب، فإنّه إمام متحقّق بمقام الولاية الكبرى الإلهيّة، وكلّ ما يجري في العالم يتمّ بإدارة خاتم إصبعه، والأمر جادٌّ لا مزاح فيه! فمن المعلوم إذن أنّه صادق في مناجاته إذ يقول: عظم يا سيِّدي أملي؛ فما هو هذا الأمل العظيم؟ فأنت ـ يا أيّها الإمام السجّاد عليه السلام ـ مُشرف على عالم المادّة وعلى جميع عالم الملك والملكوت، وإشرافك هذا ليس إشرافاً علميّاً فقط، بل هو إشراف عيني وحضوري؛ وإنَّ علمك وإشرافك هو علم حضوري، و الذي هو عبارة عن حصّة من الوجود؛ فإذا كان الأمر كذلك، فما الذي يدور في ذهنك؟ وما هذا التوسّل وهذا البكاء؟ ولماذا تقول: لن أتخلّى عن الطلب، فغايتي هي الوصول إلى جمالك وكمالك؟! أفلم تصل لحدّ الآن؟ ألم يصل الإمام السجّاد عليه السلام إلى هذا الهدف لحدّ الآن إذ يخاطب الله بهذه العبارات؟ بلى، إنَّ الإمام واصل إلى هدفه، ولكنَّ هذا الوصول ليس وصولاً ثابتاً وراسخاً؛ فما الضمان على ذلك؟ من الذي أعطى الإمام السجّاد عليه السلام هكذا ضمان بأنَّك ما دمت قد وصلت إلى مقام القرب، فالأمر بالنسبة إليك قد تمّ، وتستطيع الآن أن تفعل ما يحلو لك؟ مَنْ أعطى هكذا ضمان؟ لا يوجد هكذا ضمان.
مائدة الأولياء مبسوطة للجميع (حتّى لغير المسلمين)
فإن كان قلق الإمام السجّاد عليه السلام على هذا النحو، فكيف هو الحال معنا؟ وكم يجب أن يكون قلقنا بالنسبة إلى مستقبلنا؟ على أنَّنا يجب أن ننظر إلى أنفسنا لنرى مَنْ نكون، وكم هو قدرنا؟! فهل يُحسب لنا حساب في هذا العالم؟ يضحك الإنسان على حاله وعلى كلامه في بعض الأحيان، كما أنَّه يضحك على كلام الآخرين أحياناً أخرى؛ فمَنْ نكون؟ وهل يُقام لنا وزن في هذه الدنيا؟ وقد يصل الأمر بالإنسان بحيث أنّ الشيطان يُريد أن يوسوس له فيقول: مالي ومال هذا الأمر؟ فهذا الأمر يتعلّق بطائفة خاصّة؛ وهم المعصومون وعدد من الأنبياء لا جميعهم، كما يتعلّق بنفر معدود من الأولياء الذين شملهم اللطف الإلهي ولهم شأنهم الخاصّ بهم. نعم، يحصل للإنسان في بعض الأحيان هكذا حال، إلاّ إنَّ الإنسان يرجع إلى نفسه ويقول: صحيح أنَّ هذا هو حالي، ولكنَّ أئمّتنا والأولياء والعظماء يدعوننا لسلوك هذا الطريق؛ فهم لا يكذبون علينا بدعوتهم هذه، ولا يريدون أن يخدعوننا؛ فهل هم يضحكون علينا، أم أنَّهم جادّون بذلك؟ فها هم يقولون: تفضّل على بركة الله، فالمائدة ممدودة، فلماذا لا تأتي لتجلس وتتناول منها؟
كان المرحوم العلاّمة يقول: لا تتصوَّروا بأنَّني كتبت هذه المؤلّفات لكم وحدكم! بل كتبتها أيضاً لتلك المرأة المسيحيّة الساكنة في الطرف الآخر من الكرة الأرضيّة؛ فالمائدة ممدودة للجميع والمسير مهيّأ للكلّ، إلاّ إنَّ هذا الأمر لم يتبلور لدينا بتلك الأهميّة التي هو عليها، بسبب جهلنا به من ناحية، وبسبب تعلّقنا بالكثرات وابتلائنا بالمشاغل الدنيويّة من ناحية أخرى؛ فترانا نُعرض عنه، ولا نُريد أن نقترب منه ونقول: لا تتكلّم عن هذا الموضوع، فهو مختصّ بعدد من الأشخاص!
نموذج من العلماء المتواضعين أمام العرفاء وأولياء الله
ولقد كان آية الله المرحوم الشيخ حسين الحلِّي.. ذلك العالم الكبير والمتضلّع في العلم، والذي كان المرحوم العلاّمة يقول عنه: إنَّني لم أرَ عالماً متبحّراً في الفقه مثله، فقد درس لديه لمدّة سبع سنوات، حيث درس لديه خيارات المكاسب ـ على ما أتذكّر ـ والاجتهاد والتقليد. فكتاب الاجتهاد والتقليد الذي طُبع أخيراً هو عبارة عن تقريرات المرحوم العلاّمة على درس المرحوم الحاج الشيخ حسين الحلِّي. لقد كان شخصاً عظيماً جدّاً؛ وقد أُوردت في الهوامش على كتاب الاجتهاد والتقليد شيئاً من سيرته، فليطالع ذلك الفضلاء وأهل العلم، وكان شخصاً منزّهاً عن هوى النفس، كما أنّه كان أعلم من المرحوم آية الله السيِّد الحكيم بكلّ تأكيد، ولكنَّه كان يتصرّف بالشكل الذي لا يُثير حساسيّة الآخرين وسوء ظنّهم وتخيّلاتهم وأوهامهم، والتي تحصل بطبيعة الحال للبعض في هكذا بيئة بواسطة وسوسة الخنّاسين وأولئك الذين يحيطون بالإنسان ويسلبون منه دينه وإيمانه، حيث كان المرحوم العلاّمة يُحذرنا كثيراً من هؤلاء الأشخاص، ويقول: الحذر الحذر من المحيطين بكم!
لقد كان المرحوم العلاّمة يقول: كان المرحوم الشيخ حسين الحلِّي من العظمة بحيث إنَّه عندما كان يصل إلى المواضيع المرتبطة بالعرفاء وحالاتهم وبأولئك العظماء، كان يُبدي التواضع والتصاغر والتذلّل أمامهم، إلى الدرجة التي كنَّا نعتقد بأنَّ تلك الألفاظ والتعابير التي يستخدمها تشوبها شائبة من التظاهر والتصنّع.
فعندما يتمعّن الإنسان في تلك الرواية الواردة في كتاب الاجتهاد والتقليد والمرويّة عن الإمام الصادق عليه السلام «فَأَمَّا مَنْ كَانَ مِنَ الفُقَهَاءِ صَائِناً لِنَفْسِهِ، حَافِظاً لِدِينِهِ، مُخَالِفاً عَلَی هَوَاهُ، مُطِيعاً لأمرِ مَوْلاَهُ، فَلِلْعَوَامِّ أَنْ يُقَلِّدُوهُ»۱، يُلاحظ الفرق بين ما يتحدّث عنه الإمام وبين واقع حالنا والأجواء التي نعيشها؛ فيضحك الإنسان على حاله؛ وعلى حدّ قول القائل: لقد فرغت من البكاء على سوء حالي ووصل بي الأمر إلى الضحك؛ يعني أنّ الحال هو من السوء بحيث اختلط الحابل بالنابل، وانتهى فصل البكاء ليبدأ فصل الضحك! أمّا بالنسبة لي، فلقد وصلت إلى طريق مسدود وتوقّف ذهني عن التفكير ولا أدري ماذا أقول! فإن كان هذا هو المعيار الذي وضعه الإمام الصادق عليه السلام [لتعيين المُقلَّد]، فليس لديّ ما أقوله، وتوقف ذهني عن التفكير.. هنگ كردم؛٢وأنا أعتقد بأنَّ في هذه الاصطلاح تعبير وافي عمّا يدور في الضمير!!!
كان المرحوم العلاّمة يقول: عندما كان المرحوم الشيخ حسين الحلّي يقرأ هذه العبارة التي تُبيِّن شأن المرجعيّة، وأيّ الأمور يجب على المتصدّي للمرجعيّة مراعاتها وأيّ العوالم يجب أخذها بنظر الاعتبار، كانت الدموع تسيل من عينيه على محاسنه، وكان يقول: ذلك مقام خصَّ الله به بعض المقرّبين من عباده ـ سوى المعصومين بالطبع، فلم يكن يتكلّم عن مقام المعصومين ـ فأنّى لي أنا الحمار التفكير في هكذا مقام! من الواضح بأنَّه لم يكن من أهل التصنّع، فمن يتكلّم بهذه الكيفيّة لا بدّ وأن يكون في قلبه شيء ما، ولا بدّ أن الله قد أودع قلبَه أموراً، وإلاّ لما تكلّم بهذا النحو.. يقول: ما لي أنا الحمار والخوض في الحديث عن هذه العوالم، فتلك عوالم جعلها الله لعدد من خواصّه. فترى هكذا شخص وبهذه العظمة يجلس في مجلس استفتاء المرحوم السيّد الحكيم للإجابة عن الأسئلة التي ترد عليه، على الرغم من كون أعلميّته من السيّد الحكيم أمر قطعي وأظهر من الشمس؛ فلقد كان هو المسؤول عن مجلس استفتاء المرحوم السيّد الحكيم للإجابة عن الأسئلة الفقهية؛ كما هو الحال مع بقيّة المراجع، حيث يكون لديهم هكذا مجلس يجتمع فيه عدد من الفضلاء للتباحث مع بعضهم البعض من أجل التوصّل للجواب.
أين يمكن لنا أن نعثر على مثل أولئك العظماء؟ وأين لنا أن نجد مثلهم الآن؟ أواجه أحياناً بعض الأمور المتعلّقة بالفتوى وتصلني رسائل إلكترونيّة بهذا الخصوص؛ فعندما أنظر فيها وأرى بأنَّ فلان من الناس قد أفتى بأمر ما، أضرب على رأسي، وأقول: ما شاء الله! ما شاء الله! ما هذا! ما هذا! يبدو أنَّ هذا من علامات آخر الزمان إن شاء الله.
رعاية الإمام عليه السلام لحيثيّتي الربوبيّة والعبوديّة
فمن أعطى الإمام السجّاد ضمان بأنَّك ما دمت قد نلت مقام الإمامة فإنَّ أمرك قد خُتم؟ كلاّ، لا وجود لهكذا ضمان، بل إنَّ الإمام السجّاد قد عَلِم للتوّ ما الأمر في ذلك الطرف.. عَلِم للتوّ ما هو مقام الربوبية، ومقام الأُنس ومقام الغيرة الربوبية.. عَلِمّ للتو ما لا نعلمه؛ فنحن نتكلّم بمقدار ما فهمناه وما قيل لنا، ونحن مسرورون بذلك، ولكن هل يكون للشخص الذي يصل إلى ذلك المقام نفس طريقة التفكير التي نحن عليها؟ هل تكون معرفته بالمقام الربوبي كمعرفتنا الفعليّة؟ لماذا لم يقل أمير المؤمنين عليه السلام طوال عمره فزت وربّ الكعبة؟ لقد قالها فقط عندما ضُرب بسيف بن ملجم، ولم يقلها قبل ذلك الحين؛ ففي ذلك الوقت فقط يكون ملفّه قد خُتِم! هل كان أمير المؤمنين يقول للآخرين بأنَّ أمري محسوم، وسأفعل ما يحلو لي؟ نعم، بموجب مقام إمامته كان يقول: «أَيُّهَا اَلنَّاسُ، سَلُونِي قَبْلَ أَنْ تَفْقِدُونِي فَلأَنَا بِطُرُقِ اَلسَّمَاءِ أَعْلَمُ مِنِّي بِطُرُقِ اَلأَرْضِ»۱، وكان يقول: أنا الأوّل وأنا الآخر، وكان يتلفّظ بالكثير من هذه العبارات، ولكنَّ ذلك كان كلّه من مقام العِزّ الربوبي، حيث كانت تتجلّى تلك الحيثيّة في تلك الرتبة؛ وأمّا حينما كان الإمام يتوجَّه إلى نفسه وتتبدّل تلك الحيثيّة الربوبيّة إلى حيثيّة العبوديّة، كانت تظهر عندها مثل هذه القضايا؛ فالإمام السجّاد عليه السلام عندما كان يدعو الله بدعاء أبي حمزة، كان يدعو الله وهو في مقام العبوديّة وفي مقام التذلّل ورؤية نفسه صفراً؛ فهكذا مقام ليس بالمقام الذي يُظهر فيه الإنسان التفاخر، فيقول الإمام: أنا إمام ولديّ القدرة على شقّ القمر وردّ الشمس، فماذا تريد أكثر من هذا؟ فالإمام قد أوقف الشمس في مكانها.
ـ قفي يا أيّتها الشمس مكانك، ولا تدوري حتّى أُكمل صلاتي، ثم أُعيدك بعدها إلى حالة الدوران!
فما الذي يعنيه قوله: توقّفي عن الدوران؟ إنَّ ذلك يعني بأنَّني أمير المؤمنين، أنا الذي أجعلك تدورين، هذا هو معنى هذا الكلام إذاً! كما أنَني أنا الذي حبستك عن الدوران؛ فلو كانت لديك القدرة على الدوران، فدوري! لماذا لا تدورين؟ وعندما يُشير رسول الله إلى القمر ويشقّه نصفين، فهذا يعني بأنَّني أنا رسول الله الذي أجعلك تقفين في مكانك، وإلاّ:
به محض التفاتی زنده دارد آفرينش را | *** | اگر نازی کند از هم فرو ريزند قالبها۱ |
[يقول: إنَّ عالم الخلق قائم بمجرد التفاتة منه، فلو أظهر الدلال لتحطّمت جميع القوالب]
ـ فإن كنت موجوداً الآن يا قمر، فأنا الذي أسيطر عليك، فلو شئت قسمتك نصفين، وإن شئت أعدتك إلى سابق حالك؛ فكلّ ذلك بيدي.
فإن قال رسول الله: أنا شخص أمتلك كلّ هذه القابليات، فسيقول الله: وهل ظهرت قدرة أخرى إلى جانب قدرتي؟ فكم هناك من قدرة في العالم؟ أتوجد قدرتان في العالم: أحدهما قدرتي أنا الربّ، والثانية قدرتك يا رسول الله؟ كلاّ، هذا ممّا لا يمكن أن يحصل! فلا توجد في العالم غير قدرة واحدة، وعلم واحد، وحياة واحدة، ولا يوجد غير جلال وجمال واحد في العالم؛ وأنت يا رسول الله، وأنت يا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب.. أنتم ذلك الجمال الواحد، وتلك القهّارية الواحدة، وأنتم ذلك العلم وتلك القدرة والشعور والحياة الواحدة التي نزلت إلى هنا من دون أن تتكرّر؛ أي أنَّ الأمر لا يماثل وجود هذين القدحين، حيث يكون لكلّ واحد منهما وجود مستقلّ، بل الله واحد، غير أنَّه ظهر في الخارج بهذا الشكل؛ فما هو معنى هذا الظهور الخارجي؟ يعني بأنَّني ظهرت بهذا الشكل.. يعني أنا الذي ظهرت بشكل آصف بن برخيا وقمت بردّ الشمس في ذلك الوقت، وأنا الذي ظهرت بهيأة عليّ ورددت الشمس، وأنا الذي ظهرت بهيأة سليمان وقمت بذلك العمل، وأنا الذي ظهرت بهيأة موسى وقمت بتبديل العصا إلى أفعى، وأنا الذي ظهرت بهيأة عيسى وأحييت الموتى، وليس عيسى هو الذي أحيى الموتى؛ فلولاي لم يكن عيسى إلاّ كبقيّة الأشخاص؛ أفهل نستطيع الآن أن نُحيي ميتاً؟ لا، فليست لنا القدرة على تحريك أيدينا حتّى! ولكن بما أنّ أعيننا مغلقة، فإنّنا ننظر إلى المظهر الخارجي لهذا الإنسان ـ الذي لا نرى منه سوى هذا الطول البالغ متراً وسبعين أو ثمانين سنتيمتراً ـ لنرى بأنَّه قام بإحياء الميت بحركة من يده؛ فترانا نقول: يا للعجب، انظر إلى عيسى كيف أحيى الميت! من دون أن ننظر إلى ما يجري خلف الحجاب؛ كما هو الحال عندما ننظر إلى هذه المروحة التي تدور وتدفع بالهواء البارد إلينا من دون النظر إلى ذلك المولّد الكهربائي الموجود في محطة التوليد الكهربائية، أو ذلك المولِّد الكهربائي الذي يدور بفعل الماء المتدفّق من السَّد والذي يقوم بتوليد تلك الكهرباء اللازمة لتدوير المروحة؛ فنحن عندما نرى المروحة تدور، نقول: لا بدَّ من وجود تيّار كهربائي، ولا بدَّ من وجود طاقة كهربائيّة هي التي تُحرّكها؛ فإذا ما فصلنا السلك عنها، نراها تتوقف؛ فنظرتنا كانت إليها، لا إلى ذلك المولّد الكهربائي الذي يدور الآن في محطة التوليد الكهربائية الذي لو توقّف، لتوقّفت هذه المروحة، ولما تمكّنت الأجهزة الموجودة لدينا من توفير الحرارة أو البرودة المطلوبة.
فنحن عندما ننظر إلى عيسى وهو يُحيي الموتى، نقول بتعجّب: يا للأمر العجيب! انظر ما الذي فعله حضرة عيسى، أمّا الشخص العارف الواقف إلى جنب عيسى في تلك اللحظة فيقول: يا له من إله عظيم! فلا يقول: إنَّ عيسى هو الذي أحيى الميّت، بل يقول: يا له من إله، انظر كيف يظهر الآن بمظهر عيسى! وكذلك الأمر عندما ينظر إلى عليّ وهو يقلع باب قلعة خيبر فيجعله جسراً يعبر عليه العسكر، والذي قال عنه أمير المؤمنين: «ما قلعت باب خيبر بقوة جسديّة ولكن بقوة ربانيّة»۱.. ذلك الباب الذي يقوم بفتحه وغلقه أربعون شخصاً ـ هكذا يُنقل في التاريخ ولا شأن لنا بخصوصيّة العدد، غير أنَّه من الواضح أنّ المسألة كانت خارقة للعادة وتتجاوز حدود الطاقة البشريّة ـ فعليّ لم يقلع الباب، بل قلعه الله؛ وهكذا الأمر مع قضية ردّ الشمس. فهل يستطيع أحد القيام بهذا الأمر في العالم غير عليّ؟ نعم، يستطيع العارف ووليّ الله فعل ذلك، ولكن هل يقوم به فعلاً، أم لا؟ ذلك أمر آخر!
نموذج من إعمال أولياء الله تعالى لحيثيّة الربوبيّة
لقد تذكّرت الآن هذه الحكاية؛ فقد كانت هنالك مشاكل بين المرحوم السيّد الحكيم والسلطة الحاكمة في عهد عبد السلام عارف، حيث كان السيّد الحكيم قد اعترض على بعض المسائل، ممّا أدّى إلى غضب السلطة وفرض الحصار والإقامة الجبريّة عليه ـ فهذا هو شأن الحكومات.. ألا يوجد مثل هذا الشيء؟ فهم يقومون بفرض الإقامة الجبريّة على الأشخاص ويقومون بالتشديد عليهم أحياناً ـ ، ثمّ قاموا بالتضييق عليه أكثر، فقطعوا الكهرباء عن منزله، ثمّ وصل بهم الأمر إلى قطع الماء عنه لعدّة أيام. وأتذكّر جيّداً عندما كان الأصدقاء في العراق ينقلون لنا ما حصل، حيث كنت صغيراً في ذلك الوقت؛ فكانوا ينقلون بأنَّ الماء كان يُوصل إلى بيت السيّد الحكيم عبر سطوح المنازل، ثمّ شعرت السلطة بذلك، فقاموا بوضع الشرطة على السطوح لمنع وصول الماء إلى منزله. لقد اشتدَّ الأمر بالسيّد الحكيم، بحيث وصل بهم الحال إلى أنَّهم قد يموتون من العطش، وازداد قلق الناس من جرّاء ذلك؛ فقام أحد أصدقاء السيّد الحداد من المقيمين في الكاظمين ـ وهو لا يزال على قيد الحياة ـ بالقدوم إلى كربلاء ملتمساً من السيّد الحداد أن يقوم بشيء ما، حيث قال له: لقد أعلموني بعدم إمكانيّة إيصال قطرة من الماء إلى المنزل، والناس في قلق واضطراب، ويبدو أنَّ السلطة لن تتراجع عن موقفها، كما أنَّ السيّد الحكيم مُصرّ على موقفه أيضاً.
لقد كان المرحوم العلاّمة في ذلك الوقت متواجداً في كربلاء، حيث تصادف وقوع هذا الأمر مع وجوده هناك؛ وقد ذكر تلك الحكاية لجمع من الأصدقاء وكنت في وقتها صغيراً، حيث حصل ذلك قبل ما يقارب الخمسين عاماً، وذلك على عهد عبد السلام عارف أو غيره.. لقد حصل هذا الأمر في تلك الفترة على أيّة حال. كان المرحوم العلاّمة يقول: كنَّا جالسين عند السيّد الحداد، إذ رفع رأسه قائلاً: {إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَديرٌ}۱، فخرج ذلك الشخص ـ وهو عبد الجليل ـ من المنزل، ثمّ عاد ليقول: لقد رفعوا الحصار، وانتهت الأزمة.
من فعل ذلك الأمر؟ لقد فعله العارف! أين انتم يا من تتصدّرون المقامات العليا من الجنّة٢؟! تفضّلوا.. ها هي الكرة، وهذا هو الميدان!٣ ففي وقت الرفاه، تكتبون عن العرفاء على أنَّهم كافرون لأنَّهم يؤمنون بوحدة الوجود، وعند الشدة والحصار، تتوسّلون بهم؛ ليكن لديكم إنصاف! فالإنصاف شيء جيّد. ألم يكن الأولياء يفعلون ذلك؟ نعم، كانوا يفعلونه، ولكن من هو مصدر تلك القدرة؟ فذلك الذي يقول الآن: {إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَديرٌ}، من أين اكتسب تلك القدرة التي قام بإنزالها من العوالم العلويّة وألقاها في أذهان أولئك [المتسلِّطين] لكي يقوموا بالاتّصال بأعوانهم لرفع الحصار؟! من هو مصدر تلك القدرة؟ إنَّ مصدرها هو الله؛ فالسيّد الحداد لا يمتلك تلك القدرة، بل لا يمتلك أن يدفع عن نفسه بعوضة واحدة! فهذا هو نهجه، ومدرسته مبنيّة على ذلك؛ غير أنَّنا لا نريد أن نقبل هذا الأمر، فترانا نقول: كانت تلك قدرتك، فأنت الذي قمت بالدعاء، وقد تحقّق هذا الأمر نتيجة لدعائك؛ فنكون بذلك قد وضعنا الله ـ ذلك المظلوم المسكين ـ جانباً! فكانوا يقولون: لقد رُفع الحصار بفعل دعاء السيّد الحدّاد! لماذا تقولون ذلك؟ لماذا لا تقولون بأنَّ الله هو الذي فعل ذلك؟ على أنَّ السيّد الحدّاد لا يُسعَد عندما يسمع ذلك، بل على العكس، فهو يتألّم من هذا الكلام.. كان يقول لأمثال هؤلاء: متى يفهم رأسك الأجوف هذا الأمر؟ متى يفهم بأنَّني لم أفعله؟ كان يقول ذلك، وكنَّا نسمع منه هذا الكلام، وكان يقول: متى يصبح رأسك هذا رأس آدميّ؟ متى تُصدّق بكلّ ما أقول وتعتبره كلاماً واقعيّاً؟ هل سيكون لهذا الأمر أجل معلوم؟ ومع ذلك فهم يقولون: كان ذلك بفعل دعاء السيّد الحدّاد! بينما يكون أقصى ما فعله السيّد الحدّاد هو أنَّه وصل إلى مقام أصبح معه صفراً! فذلك هو الدور الذي قام بإنجازه، وتلك هي مهارته وحذاقته.
تجلّي حيثيّة الربوبيّة في الإنسان لا يتحقّق إلاّ بعد وصوله لدرجة الصفر (العبوديّة التامّة)
فكلّ ما فعله الإمام السجّاد هو أنَّه وصل إلى الصفر، فتدرّج [في العبوديّة] حتّى وصل إلى تسعة وتسعين، ثمانية وتسعين، ستّة وتسعين، خمسة وتسعين، أربعة وتسعين، ثمّ ثمانين، سبعين، أربعين، ثلاثين، اثنى عشر، ثمانية، سبعة، ستّة، ولم يكف ذلك؛ ثمّ وصل إلى الأربعة، الثلاثة، الاثنين، الواحد، النصف ثمّ الصفر؛ وحينما صار صفراً، أصبح بإمكانه عندها أن يُغيّر كلّ العالم، ويُغيّر حال جميع الخلائق. وأمّا نحن، فعلى العكس من ذلك؛ فعند نزولنا من أرحام أمهاتنا ـ رحم الله أمهاتنا وآبائنا الذين كانوا وسيلة خير وسبباً لمجيئنا إلى هذه الدنيا لكي نقع في بعضنا البعض!!! ـ كنَّا صفراً، غير أنَّ هذا الصفر يختلف عن ذلك الصفر ـ وهذا ليس محلّ بيان هذا الاختلاف ـ ، ثمّ بدأنا نكبر، وكلّما كبرنا أكثر، كلّما ارتفعنا أكثر، حتّى أصبحنا واحد، ثمّ اثنين؛ وعندما وصلنا سنّ العامين أصبحت درجتنا خمسة، وعند سنّ الثلاثة أعوام أصبحت درجتنا عشرة، وعند الأربعة أعوام أصبحت ثلاثة عشر.. خمسة عشر، وعند سنّ العشرين عاماً أصبحت درجتنا ستّيناً، حتّى إذا ما وصلنا سنّ الثلاثين، حزنا درجة المليون ومائتين؛ وهكذا نبدأ نرتفع بشكل مضاعف! وقد وصل البعض إلى مقام عظيم جدّاً، بحيث يبلغ طول عدد الأصفار الموجودة إلى جانب الواحد طول المسافة من هنا إلى طهران؛ أولئك قد حازوا مقاماً عظيماً!!! وهم على عكس الطائفة الأولى؛ ففي الوقت الذي يعمل فيه أولئك على تقليل الرقم، يعمل هؤلاء على زيادته؛ فعندما تنظر إلى أحدهم ترى العجب.. ترى درجته قد وصلت إلى ما لا نهاية! فهل هذا عمل صحيح؟ علينا أن نتخلّى عن هذه الدرجات ونعمل على تقليلها من الما لا نهاية لتصل إلى درجات قليلة؛ فتصل إلى عشرين وخمسة عشر وأقلّ من عشرة، والتي هي درجة فشل في العرف المتداول، ولكنَّها درجة النجاح [في هذا الطريق].
لقد وصل الإمام السجّاد عليه السلام إلى درجة الصفر، وعند وصوله إلى درجة الصفر، أصبح إماماً.. هل فهمت الآن بعدم وجود أكثر من قدرة واحدة؟! فهو لم يكن يعلم ذلك قبل هذا. ولا يخفى أنَّ هذا الأمر ينطبق علينا نحن وليس على الإمام السجّاد عليه السلام؛ إذ إنَّ هذه الأمور متحقّقة في نفسه منذ البداية، ونعوذ بالله أن ننسب إليه ما لا يليق. نعم، هذا الأمر ينطبق علينا؛ فلسنا مثل الأئمّة؛ لأنّنا نرى أنَّ لنا قدرة، ولا نكون جادَّين بنفيها عن أنفسنا؛ فإذا ما تمعنّا بالأمر، نجد في أنفسنا شيئاً، فنجد أنَّنا قد حسبنا لأنفسنا حساباً في مقابل الله ولكنَّنا نُخفيه؛ ألا يُلاحَظ ذلك في حديثنا؟ فإذا ما اختلينا بأنفسنا وفكّرنا، ألن يتّضح لنا ذلك؟ ألن نلاحظ ذلك في كلماتنا، وتصرّفاتنا، وردود أفعالنا تجاه تصرّفات الآخرين؟ فإن اعترض شخص على كلام لأحدهم، تراه يُقيم الدنيا ولا يُقعدها؛ فيهدّده ويقول: سأنشر عنك مقالاً أفضحُك فيه! أتعترض على كلامي؟ من تكون أيّها القزم حتّى تعترض على كلامي؟! كلّ هذا يدل على وجود بقيّة في النفس، لا، بل أكثر من ذلك.
لقد قام المرحوم العلاّمة بتأليف كتاب باسم وظيفة الفرد المسلم في إحياء حكومة الإسلام، والذي لم يُنشر في حينها، بل تمّ توزيع نسخ منه على بعض الأشخاص، غير أنَّ الكتاب نُشِر فيما بعد؛ فكان البعض يتّصل بي وبإصرار للتحدّث مع الوالد حول عدم صلاحية نشر الكتاب، فكنت أضحك وأقول في نفسي: اللهمّ اهد قومي فإنّهم لا يعلمون؛ فما الذي يُمكنك فعله مع الشخص الذي لا يفهم! ثمّ قام أحدهم بنشر مقالة في مجلة "بيان" والتي لا أعلم من هو رئيس تحريرها، إلاّ أنّ المقالة كانت كلّها شعارات. فأنت يا كاتب المقال، ألست سيِّداً مُعمّماً فاضلاً دارساً للعلوم الدينيّة في قمّ والنجف؟! فالمفروض منك أن تضع يدك على الموضوع الباطل في الكتاب وتقول: هذا موضوع كاذب وبالدليل الفلاني، لا أن تقوم بالتهويل والتضليل ورفع راية أنَّ ما طرحه الكاتب غير صحيح وأنَّ الكاتب يقوم بالدعاية لنفسه وأنَّ رأيه مخالف لرأي فلان من الناس؛ فلو أنَّك أشرت إلى موضوع معيّن وقلت: إنَّ هذا الكلام كذب بالدليل الفلاني، لكان بالإمكان قبول الأمر بغضّ النظر عن صحّة ما طرحت أو سقمه؛ إذ سيتم الردّ على ذلك وسيتبيّن هل أنّ الكلام كذب أم لا.
فعندما يتمّ جلب شخص وسؤاله: هل قلت هذا الكلام أم لا؟ ثمّ يتلعثم ذلك الشخص، سيكون ذلك دليلاً على كذبه؛ فهذا أمر بديهي وواضح.
أمّا أن نقول: (إنّ ما جاء في هذا الكتاب خلاف للواقع، وأنَّ الكاتب يقوم بالدعاية لنفسه)، فكلّ ذلك من باب طرح الشعارات، والذي هو من شأن العجزة؛ فليس لدى الشخص العاجز من متاع يعرضه، لذلك فهو يلجأ إلى الشعارات، وأمّا الشخص المتمكّن فهو لا يلجأ لهكذا أسلوب، بل يعرض ما لديه من حقائق فيما يتعلّق بما قال أو سَمِع مُشفّعةً بالأدلّة أو الشهود، ويكون مستعدّاً للقَسَم والمباهلة على صحتّها؛ وبهذا يُحسم موضوع الخلاف، وكلّ ما سوى ذلك ممّا يُطرح فهو خزعبلات وأباطيل وترّهات، وممّا لا يستحقّ أن يتوقّف عنده المرء.
فقال في تلك المجلّة بأنَّ العلاّمة أراد من نشر كتابه إبراز نفسه في مقابل فلان من الناس.
هل تتذكّرون بأنَّني قلت لكم في إحدى الليالي السابقة بأنَّ تقديرات الله مبنيّة على حساب دقيق؟ فكلّ صعود غير مدروس وفي غير محلّه يتبعه سقوط، وكلّ ركوب على السرج بغير استحقاق يتبعه سقوط منه إلى الأرض. أنا لا أقول هنا بأنَّه إن لم يحصل السقوط فذلك دليل على صحة العمل، ولكنَّني أقول بأنَّ الأمور لا تجري بشكل عشوائي، بل تجري وفقاً لمعيار محدّد، وحساب خاصّ.
جلب لي ذلك الشخص المجلّة قائلاً:
ـ أرأيت كيف وجّهوا انتقاداً للسيّد العلاّمة، ألم أنصح بعدم نشر الكتاب؟
ـ قلت: هل تعني هذا؟ هذا ليس انتقاد.. ماذا كان يستطيع ذلك المسكين أن يقوله غير هذا؟ كان سيموت غيظاً لو لم يقله! يقول لي البعض: لقد قال فلان عنك كذا؛ فأقول لهم: دعوه يقول ذلك، وإلاّ سيموت غيظاً وحنقاً؛ فلا بدّ لنا من أن نراعي الإنصاف إلى درجة... دعوه يقول بأنَّني أكذب، فلا إشكال في ذلك! بل أساساً أنا أكذب؛ المهمّ ألاّ يموت بالسكتة القلبية!!! التفتُّ إلى ذلك الشخص [الذي نقل لي الخبر] وقلت له: إن لم يكتب ذلك فسيموت بغيظه، فدعه يكتب سطرين من الكلام!
وخلاصة القول أنّ ذلك الشخص الذي جلب لي المجلّة قال لي:
ـ اذهب واعرض هذه المجلّة على والدك.
ـ قلت له: حسناً سأفعل.
فذهبت وعرضت المجلّة على المرحوم العلاّمة وقلت له: لقد جلبت لكم شيئاً عجيباً، ويُقال بأنَّه قد تمّ إفحامكم، والردّ عمّا ذكرتموه في ذلك الكتاب، فقال: وماذا قالوا؟ فأعطيته المقال، فلمّا قرأه، فإذا به يضحك مقهقهاً ـ أنا لم أضحك وقتها كما فعل هو ـ وقال: أهذا كلّ ما في الأمر؟!! ولا أزال حتّى هذه اللحظة أتذكّر ذلك الموقف وكأنَّي أسمع ضحكته الآن. قال: إنَّه لم يذكر أمراً ذا قيمة في مقاله؛ ثمّ أردف بهذه الجملة: يا سيّد محسن، قل لهؤلاء بأنَّني لم أكتب هذا الكتاب لأجلهم، بل كتبته لمن له نصيب من الفهم، وأنا لم أكتبه لهم حتّى يأتوا ليردّوا عليه. نعم، لقد قال: أهذا كلّ ما لديهم؟ إنَّهم لم يأتوا بشيء؟!! قالها بنحوٍ وكأنّه شيء تافه.. إن لم يكتب ذلك فسيُصاب بسكتة قلبيّة، فدعه يُسعِد نفسه ويتباهى بكونه قد كتب ردّاً على الكتاب، وأثبت بطلان كلام الكاتب وكذَّب مقالته! إذا كان ذلك يُسعدك أيّها المسكين، فاكتب عشرة كتب من أمثال ما كتبت؛ فالشمس والقمر لا يبقيان تحت الغيم، فإلى متى هذا الكتمان أيّها المسكين؟ فأنا كتبت هذه الكلمات لأجلك أنت، حتّى إذا كانت لا تزال هنالك نافذة مفتوحة في قلبك الأسود، فإنّها ستشرع في العمل، وأمّا إذا لم تكن ترغب في ذلك، فأنت وشأنك، وأنا من جهتي لست مصرّاً على ذلك {إِنَّكَ لا تَهْدي مَنْ أَحْبَبْتَ ولكِنَّ اللَّهَ يَهْدي مَنْ يَشاءُ}۱..ألم يرد في الآيات القرآنية {إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى ولا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرينَ وما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ}٢؟ حيث يخاطب الله رسوله قائلاً: إنَّك لا تستطيع أن تُحيي الموتى؛ فذلك الشخص ميّت وقلبه ميّت؛ فقلب أبي سفيان ميّت، وقلب ذلك المنافق وذلك الزنديق ميّت، وقلب ذلك المُعمّم الدارس للعلوم الدينيّة والمطّلع على كلّ تلك الروايات، والذي يدَّعي الانتساب إلى مدرسة المرحوم العلاّمة، وهو يدوس على الحق بقدميه، ميّت؛ فماذا أقول لك أكثر من هذا؟!
استمرار تكامل الأنبياء والأولياء حتّى بعد الوصول للقاء الله تعالى ومرحلة البقاء
فالله تعالى لم يُعطِ الإمام السجاد عليه السلام ضماناً، والوصول إلى مقام الإمامة ليس ضماناً ولا يعني الوصول إلى نهاية الخطّ، بل إنَّ الإمام قد أدرك للتّوِ ما الذي يعنيه مقام العِزّ الربوبي، والغيرة الربوبية، والاستقلال والاستغناء الربوبيين، وعدم احتياج الله تعالى للغير واستغناؤه عنهم؛ وعندما أدرك الإمام كلّ هذه المقامات، طفِق يقول: عظم يا سيِّدي أملي.
ـ فما هو هذا الأمل؟
ـ إنَّه لقاؤك يا سيّدي.
ـ ألم يحصل هذا اللقاء؟
ـ نعم، حصل اللقاء، ولكن من يضمن استمراره؟!
مَنْ الذي ضَمِن للإمام السجّاد استمراريّة هذا اللقاء الحاصل؟ نحن الذين نتخيّل بأنَّ الأمر قد وصل إلى آخره! أمّا الإمام فهو يعرف أموراً أخرى وراء ذلك. ولقد بيَّنت لكم بأنَّ بكاء أمير المؤمنين في مسجد الكوفة لم يكن تمثيلاً ولم يكن من قبيل ذلك البكاء الذي يُشاهد في الأفلام السينمائيّة والمسرحيّات؛ فهل كانت مناجاته وبكاؤه ثمّ الإغماء عليه من شدّة البكاء في البستان [في شويحطات النجار] من باب التمثيل؟ كلاّ، لم يكن تمثيلاً! ولقد شاهدت في أيّام حياتي التجاء المرحوم العلاّمة في أواخر عمره، وتوسّله بإمام الزمان عليه السلام؛ لقد كان ذلك الالتجاء من الشدّة في بعض الأحيان، بحيث كان يقشعرّ له بدني؛ فكنت أقول يا للعجب! أهكذا يكون التجاؤه بصاحب الأمر عليه السلام في أواخر عمره؟ فقد كنّا نتصوّر بأنَّ أمره قد وصل إلى آخره ولا يحتاج مع مقامه هذا إلى إمام الزمان، بينما حقيقة الأمر تقول بأنَّه قد عرف للتوّ من يكون إمام الزمان عليه السلام، ومن هو الحجّة الكبرى.
إنَّ علم أولياء الله لا يحصل لهم دفعة واحدة؛ فهم يتكاملون حتّى بعد وصولهم إلى مرحلة البقاء، بل إنَّ تكاملهم يحصل في هذه المرحلة؛ ألم يرد في الدعاء لرسول الله عقب التشهّد: «اللهم صلِّ على محمّد وآل محمّد وتقبّل شفاعته وارفع درجته»؟ فبعد ألف وأربعمائة سنة من رحيل رسول الله ـ على الرغم من انعدام الزمان في تلك العوالم، ولكنّ ذلك حسب تصوّرنا ـ نطلب له علوّ الدرجة.
فما الذي يرجوه رسول الله صلّى الله عليه وآله أكثر من هذا؟ فقد وصل إلى مقام قاب قوسين وخُتم له الأمر! كلاّ، فالمسألة ليست بهذا الشكل، حيث بيّنت لكم في الليالي السابقة بأنَّ الأسماء الإلهيّة الكلّية الجماليّة والجلاليّة غير متناهية؛ فهل أنَّ ذات الله تعالى متناهية، بحيث يكون رسول الله قد أحاط بكلّ ما يتعلّق بالذات الإلهيّة، ويُعتبر الأمر منتهٍ بالنسبة له؟ كلاّ، ففي كلّ لحظة يتحقّق لنفس رسول الله وجود غير ذلك الوجود المُتحقّق له في الرتبة السابقة؛ فما دام لله وجود ـ لأنّه ليس له أمد محدّد، بل هو موجود أزلاً وأبداً ـ تكون نفس رسول الله في حالة حركة؛ وبهذا فقط نستطيع أن نفهم الآن معنى ذلك التوجّه الخاص للمرحوم العلاّمة في سنوات عمره الأخيرة إلى حضرة ولي العصر عليه السلام، حيث كان يُشاهد في تلك اللحظة ـ وبموجب الحال الذي هو عليه ـ قضايا جديدة تجعله يُعيد تقييمه لمقدار احتياجه لوليّ العصر عليه السلام.. إنَّ وراء ذلك أموراً لا يمكننا إدراكها، فليس بوسعنا سوى مشاهدة تلك الأمور الظاهريّة.
في سابق الأيّام، عندما كنت أسمع عن حالات التوجّه الخاصّة للمرحوم القاضي رضوان الله عليه في جوف الليل، كان ذلك الأمر عجيباً جداً بالنسبة لي؛ لأنّ أولياء الله تعالى حائزون على مقام المعرفة؛ فإن لم يكونوا قد أحرزوا ذلك المقام، فمن ذا الذي يمكن أن يُحرزه؟ فكنّا نقول بأنَّ أمرهم قد وصل إلى آخره، لكن من أين لنا أن نفهم حقيقة ما يجري؟ فنحن لا نميّز بين الهرّ والبِرّ، ووضعنا أنفسنا في مقام المعرفة بالإمام! ثمّ خطر هذا الأمر في ذهني ـ ولعلّه من باب التوهّم والخيال ـ وهو أنَّهم قد وصلوا في تلك المراتب التي هم فيها إلى أمور لا نستطيع نحن فهمها، ولا يستطيع فهمنا إدراك كنهها؛ فأيّ مقام ذلك الذي يُشاهده الآن، والذي يجعله يتوجّه بهذا الشكل إلى تلك الذات المُقدّسة، وإلى مقام ولاية حضرة صاحب الأمر عليه السلام؟ فنحن من جانبنا لا نرى سوى ذلك الالتجاء؛ فكما نلتجئ نحن، فنقول: >يا بن الحسن، عجِّل على ظهورك<، فهو يلتجئ أيضاً ولكن بشكل مختلف وبصورة أعمق وألطف قليلاً؛ فنحن لا نستطيع أن نعرف أيّ حال كان عليه عندما كان يستغيث، ولا نفهم ما الذي يجري؛ فمهما حاولنا التفحّص، لن نستطيع التوفيق بين الأمرين.
وحينما سأل شخص المرحوم العلاّمة ـ وكنت حاضراً آنذاك ـ عن كيفيّة ارتباطه بحضرة وليّ العصر عليه السلام، أجابه بكلّ صراحة: هل ترى كيف أكون مشرفاً على هؤلاء الصبية الذين يلعبون في الساحة؟ إنّ إشراف الإمام عليَّ، كإشرافي على هؤلاء الصبية؛ وهذا يعني أنَّه يقول: إنَّني جالس بجوار إمام الزمان؛ فإن كان الأمر كذلك، فهل بقي شيء آخر؟! فهو يقول: كما أنَّني أُسيطر على هؤلاء الصبية، فكذلك أنا الآن واقع تحت سيطرة الإمام، وهو مُشرف على أعمالي؛ أي إنَّني بجواره. فكان يُشير بيده إلى الأطفال ويقول ذلك؛ فهل يوجد أصرح من ذلك؟ وهل يوجد تعبير أوضح من ذلك لإيصال الموضوع إلى الأفهام؟
حسناً، إذا كان الأمر على هذا النحو، فما هو التفسير لكلّ تلك الاستغاثة؟ فإن كنتَ إلى جنب الإمام ، وحائزاً على معيّته، ونفسك متّحدة مع نفسه ـ أي أنَّ الأمر قد تجاوز مرحلة الاتّحاد إلى الوحدة ـ ، فما معنى كلّ تلك الاستغاثة؟ إنّه أمر خارج عن قدراتنا العقليّة!
ذلك هو معنى الحصول على الضمان! فهو يريد أن يُوصل نفسه إلى ذلك المقام لعلمه بأنَّ هنالك أموراً وحقائقاً أخرى؛ فقد علم للتوّ كم هو مقدار الزبد الذي يُمكن استخلاصه من المنِّ من اللبن الخاثر؛ لقد وصل تواً إلى ذلك المقام؛ فهنيئاً لهم! لأنّهم ساروا ووصلوا إلى تلك المقامات وتحقّقوا بتلك المبادئ.
وها قد انتهى شهر رمضان، ولا زلنا في منعطف الزقاق.
هفت شهر عشق را عطّار گشت | *** | ما هنوز اندر خم يك كوچهايم |
[يقول: لقد طاف العطّار مدن العشق السبع، بينما لا نزال نحن في منعطف الزقاق الأوّل]
وصيّة المرحوم العلاّمة لتلامذته في الليالي الأخيرة من شهر رمضان
لقد مضى الوقت وانقضى.. لقد مضى في بيان أوصافه، ولكن عندما نطالع تلك المواضيع، نجد بأنَّنا لا زلنا حائرين في أوّل صفاتك!۱ لقد بقي الكثير من المواضيع المتعلّقة بعبارات الإمام وكلماته، ولم يحصل لنا التوفيق لإتمامها، وخصوصاً فيما يتعلّق بتلك المواضيع التي سأل عنها الأصدقاء؛ فلعلّي أستطيع التحدّث عنها ـ إن شاء الله ـ في بعض المجالس اللاحقة.
كما بيَّنت سابقاً، فقد كانت وصيّة المرحوم العلاّمة لتلامذته ومريديه وأصدقائه في الليالي الأخيرة من هذا الشهر المبارك هي: ألاّ يَدَعوا ذلك الحال الذي تمّ اكتسابه في الشهر الفضيل يتلاشى بسرعة ، لتعود الأمور في بيوتهم وبين عوائلهم إلى سابق عهدها، وعليهم ألاّ يحذوا حذو بقيّة الناس ـ فالناس ينتظرون انتهاء شهر رمضان ليقوموا بتوديعه، ووضع ملّفه جانباً، ثم يعودون إلى ما كانوا عليه ـ ؛ بل عليهم الاهتمام بذلك الحال الذي اكتسبوه في هذه الفترة، والسعي على استمراريّة بقائه، وذلك بالمراقبة والسكوت والخلوة. وعلى الأصدقاء أن يجدوا لهم فرصة في الليل أو النهار لمراجعة تلك المواضيع التي طُرحت في هذه الليالي، ليروا مقدار انسجامها مع ذوقهم وأفكارهم، وإذا توصَّلوا إلى أمر ما، فعليهم المتابعة.
وخلاصة الأمر، علينا أن نغتنم هذه الفرصة التي منَّ الله بها علينا، ونحتفظ بها لبقيّة الأشهر، خصوصاً وأنَّ هناك مناسبات وأشهر أخرى [لها خصوصيّتها] ستقبل علينا، وتساعدنا على استمراريّة هذا الحال وتقويته.
على أيّة حال، فنحن نخاطب الله في هذا الشهر الكريم ونقول: إلهي وإن كانت أعمالنا وتصرّفاتنا ـ بحسب ما تفضّل به الإمام السجّاد عليه السلام ـ غير مؤهّلة للعرض على جنابك، لكنَّنا على الأقل سعداء باستشمامنا لنفحة ممّا يدور في قلب الأئمّة وسرّهم وسويدائهم؛ فتقبّل ذلك منّا وأعنّا على تعزيزه، ولا تدع تلك النار التي توهّجت في وجودنا أن تخمد تدريجيّاً ثم تبرد.. هذا ما نستطيع طلبه من الله في هذه الساعات الأخيرة من الشهر المبارك.
لقد كان دأب العظماء تأدية الشكر لهذه الضيافة الإلهيّة، وذلك بزيارة أوليائهم ومن بيدهم مقاليد أمورهم؛ وهم الأئمّة عليهم السلام، وكذلك التوسّل ببقيّة الله أرواحنا فداه وزيارة المشاهد المشرفة. نعم، لقد كان هذا ـ بحسب علمي ـ هو دأب العظماء وجميع الأولياء وديدنهم، حيث كان المرحوم العلاّمة يتشرّف بزيارة مشهد بعد هذا الشهر، كما كان بكلّ تأكيد يتشرّف بزيارة حرم السيّد عبد العظيم الحسني بعد انتهاء شهر رمضان. لقد كان يُعظِّم السيّد عبد العظيم عليه السلام كثيراً، حيث كان يزوره في كلّ شهر، وبالأخصّ بعد شهر رمضان، وأتذكّر جيداً أنّه كان يهتمّ بهذه المسألة كثيراً، وكان يقول: إنَّ هذا الحرم يفوح برائحة حرم سيِّد الشهداء عليه السلام! فلم يكن قول الإمام الهادي عليه السلام اعتباطاً عندما قال للسيِّد عبد العظيم الحسني: «أنت وليّنا حقاً»، وقال في حقّه أيضاً: «من زار عبد العظيم بِريّ، كمن زار الحسين بكربلاء»۱
وفي أحد الأيّام، رأيت لافتة مكتوب عليها: من زار فلان، كمن زار الحسين بكربلاء!!!
حسناً، فما الذي يعنيه هذا؟ إنَّ ذلك يعني بأنَّ حقيقة ولاية سيّد الشهداء قد تجلّت الآن في السيّد عبد العظيم وأصبح مرآة لها؛ فإذا نظرت إلى السيّد عبد العظيم، تكون كمن يشاهد الحسين عليه السلام.
وعلى الأشخاص المتواجدين في مدينة مشهد زيارة الإمام الرضا عليه السلام، وعلى أولئك المتواجدين في قم زيارة السيّدة فاطمة المعصومة، وإذا ما حصل لهم التوفيق، فليقوموا بزيارة السيّد عبد العظيم وزيارة علي بن موسى الرضا عليه السلام ؛ فتلك هي أوامر العظماء، وهي تبعث على توثيق علاقة الإنسان وإحكامها بمقام الولاية؛ فزيارة الإمام الرضا ليست مجرّد زيارة للضريح، بل هي تجديد للبيعة مع الإمام عليه السلام؛ فلسان حالك يقول: يا سيَّدي، أيّها الإمام الرضا، أنا قادم إليك لمبايعتك بقصد الشكر على ما نلته في شهر رمضان؛ فأرجو منك أن تثبّتني على مسيرك وأَنفاسك وخطواتك وإرادتك ومذهبك، وأن تحفظني من الضلالة والخواطر وفتن آخر الزمان، ومن المخاطر الاجتماعيّة وغيرها؛ لا أن تكون زيارتنا مقتصرة على قراءة زيارة أمين الله والمغادرة، بل علينا البيعة مع إمام الزمان وأن نُسلِّم أنفسنا إليه، ونُرجِّح ولايته على ولايتنا واختياره على اختيارنا؛ أي نقوم بسلب الإرادة منَّا وإحلال إرادته مكانها؛ فهذا هو معنى الزيارة، وهكذا كانت الطريقة التي يزور بها العظماء، على أنَّ هذا هو الحدّ الأدنى، وإلاّ فهم لهم درجاتهم الخاصّة بهم.
نسأل الله أن يشملنا ـ إن شاء تعالى ـ برحمته ولطفه، وأن يتجاوز عن ذنوبنا وقصورنا وتقصيرنا، وعلى حدّ قول الإمام السجّاد عليه السلام ومقتضى حاله: «إلهي، لا تؤاخذنا بذنوبنا»، بحقّ تلك الأنفاس الطاهرة والمطهّرة للمعصومين، الذين يكون كلامهم ونفوسهم وإرادتهم وهمّتهم هو عين كلامك ونفسك وإرادتك وهمّتك؛ فاعفو عنّا بحقهم.
اللهم صلّ على محمّد وآل محمّد