المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني
المجموعةسنة 1432
التوضيح
في محاضرته الحادية عشرة من سلسلة شرح دعاء أبي حمزة الثمالي لعام 1432 هـ والتي ألقيت في الليلة الثامنة عشرة من ليالي شهر رمضان المبارك في بلدة قم باللغة الفارسيّة تحدّث سماحة آية الله السيّد محمّد محسن الحسيني الطهراني قدس سره عن ضرورة تغليب جانب الأمل و الرجاء في تعاملنا مع الله تعالى، كما بيّن سماحته طرفاً من مسألة حجّية أفعال أولياء الله و أقوالهم مجيباً على بعض الأسئلة و الإشكالات المطروحة بهذا الشأن، فكانت أهمّ المواضيع التي طرحها في المحاضرة ما يلي: رحمة الله تعالى قد سبقت غضبه وباب التوبة مفتوح للجميع، لا ينبغي أن يسبّب انحراف بعض السلاّك اليأس والقنوط، كلام أولياء الله وأفعالهم عين "الكتاب والسنّة" ، أولياء الله يشاهدون ما يخفى علينا من المصالح والمفاسد، يجب دعوة الناس إلى لطف الله ورحمته، لا مكان للاضطراب والتشويش في مدرسة أولياء الله، إمام الزمان حاضر معنا، ولكنّنا نحن نرى أنفسنا في حال الغيبة، لا ينبغي عرض كلام رسول الله والإمام على الكتاب والسنّة، التكليف نوعان: عامّ وخاص، وكلاهما منجّز وحجّة. هذا و قد سماحته المحاضرة بدعوة الحاضرين إلى التفكّر في مسألة موسى مع الخضر عليه السلام على أمل أن يبحث هذه المسألة الدقيقة في جلسات لاحقة إن شاء الله.
هو العليم
كلام أولياء الله وأفعالهم عين (الكتاب والسنّة)
شرح دعاء أبي حمزة الثمالي - سنة ۱٤٣٢ هـ ق – المحاضرة الحادية عشر
ألقاها:
آية الله الحاجّ السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ
قدس الله سره
أعوذ باللـه من الشيطان الرجيم
بسم اللـه الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين
والصلاة والسلام على سيّدنا ونبيّنا أبي القاسم محمد
وعلى آله الطيبين الطاهرين
واللعنة على أعدائهم أجمعين
«وقد رجوت أن لا تخيّب بين ذين وذين منيتي فحقق رجائي واسمع دعائي يا خير من دعاه داع وأفضل من رجاه راج».
مناي يا إلهي أن لا تؤيسني من الوصول إليك، والحال أنّي أرى نفسي بين هذين الأمرين وهذين الأمرين، وعندما يكون لهذه المطالب وجوداً حقيقيّاً لا اعتباريّاً فقط فإنّي أجد نفسي في موقعيّة لا أرى فيها أيّة منافاة في أن أسألك من كرمك وعفوك مع معصيتي وارتكابي ما تكره، فمعصيتي لها موقعيّتها الخاصّة، وفي المقابل طلبي منك له موقعيّته الخاصّة.. والمطلبين الآخرين هو أن رأسمالي في التعامل في الابتلاءات مع أنّي أشعر بالحياء نتيجة تقصيري فيما يرتبط بالإتيان بما أمرتني به.. هذا الرأسمال عبارة عن رأفتك ورحمتك.. وهذا من الأمور العجيبة، فهذه الرحمة قد شملت كلّ شيء دون أن تردّ أحداً في ذلك.
رحمة الله تعالى سبقت غضبه و باب التوبة مفتوح للجميع
يسأل يزيدٌ الإمام السجّاد عليه السلام ـ مع أنّ يزيد كان أسوأ شخص على وجه الأرض ـ :هل يقبل الله توبتي؟ فأجابه الإمام: «إن تبت تاب الله عليك»، و لكن هل توفّق للتوبة أم لا؟ فهو مطلب آخر، يعني أنّ يزيد في تلك الموقعيّة إذا تاب يقبل الله تعالى توبته، وذلك بأن يتوب ويهيّئ نفسه للقصاص وسائر التبعات المترتّبة على جنايته الكبيرة التي قام بها، فقد قام بأفظع الجنايات، لكن لا يعني ذلك أن باب الرحمة موصد أمامه، كلاّ.. فإذا تاب وجعل نفسه تحت اختيار الإمام السجّاد عليه السلام، وقال له: أنا تحت أمرك، فإن شئت أن تقطع رأسي اقطعه، وإن شئت أن تقطّعني إرباً فأنا مستعدّ، وإن شئت أن تحرقني بالنار فأنا مستعدّ .. فافعل بي ما تشاء.
بينما لا نجد هذا الاستعداد عندنا نحن.. فنحن عندما نغتاب أو نفتري على الآخرين ونلتفت إلى النتائج التي أسفرت عنها كلماتنا، نحمل التلفون ونتصل بصاحب العلاقة لنعتذر منه سرّاً فيما بيننا.. فما قيمة هذا الاعتذار؟ بل عليك أن تقوم وتعتذر أمام جميع الأشخاص الذين تحدّثت أمامهم، وتبيّن لهم أنّك أخطأت في كلامك اتّجاه ذاك الشخص. أمّا أن نقول للشخص: هل تتكرّمون علينا بالمسامحة.. (و أنا لا أتحدّث هنا عن نفسي بل أبيّن ما هو موجود و متداول).
نقل لي أحدهم هذه القصّة بأنه: عندما كنّا في عرفات ـ وكان ذلك في عهد الشاه، حيث كانت الأمور مختلفة جداً في المشاعر، حيث لم يكن هناك دورات مياه، ولم تكن عرفات ولا المشعر ولا منى كما هي عليه اليوم ـ قام أحد الأشخاص الذين كانوا معنا واستيقظ نصف الليل ، و كان بحاجة لأن يغتسل بالماء [ضحك من سماحة السيّد]، فوجد إناءً كبيراً و ظنّ أنّ ما فيه ماء، و لكنّه كان في الواقع شراباً قد أعدّه شخص آخر كي يشربه الناس في اليوم التالي، حيث أنّ الهواء كان حارّاً جدّاً، فأخذ هذا الشخص إناء الشراب و صبّه كاملاً على رأسه ظنّاً منه أنّه ماء، و بطبيعة الحال فقد كان الشراب حلواً ، ممّا أدّى إلى التصاق بدنه كاملاً، بحيث لم يعد قادراً على الحركة بسهولة [ضحك من سماحة السيّد]، و قد كان هناك شخص له ذوق شعري حاضراً، فلمّا فهم ما حصل في صباح اليوم التالي حيث افتضح الأمر أمام الجميع، قام بتأليف بيت شعر ساخر و صار يقرؤه بشكل عزاء و صار الجميع يلطمون صدورهم في عرفات ...
و ناقل هذه القصّة كان موجودا بنفسه عندما حصلت و شارك فيها، و كان رجلاً كبيراً في السنّ و لكنّه كان مزوحاً مرحاً...
و الخلاصة أنّه في ذلك الزمان لم يكن هناك إمكانات و لا خدمات في تلك الأماكن، و كانت الأمور تختلط و تحصل أمثال تلك الحوادث... وقد نقل لنا أحدهم ـ وكان خطيباً، و اعتقد أنّه ما زال حيّاً ـ فقال: كنّا في عرفات، فقام أحدهم و قضى حاجته في مكان قريب ثمّ عاد، وبعد ذلك قام شخص ورأى في ذلك المكان بعض آثار التخلّي.. فظن أنّي أنا الذي فعلت ذلك، فأتى هذا الرجل أمام الجميع ...(كم نرى أشخاصاً بدون أدب ولا تربية، فحتى لو فرضنا أن شخصاً اشتبه وأخطأ دون أن يشعر به أحد، فلماذا نفضحه أمام الجميع؟!) ... حسناً.. قام هذا الرجل وقال لي أمام الجميع: لماذا فعلت هذا بالقرب منّا، لو ابتعدت قليلاً عن هذا المكان، فقلت له: لم أفعل ذلك، فأصرّ قائلاً: لقد شاهدناك أنّك أنت الذي ذهبت وعدت، فلا شكّ أنّك أنت من فعل ذلك!! وفي اليوم التالي التفت ذاك الرجل الذي اتّهمني إلى حقيقة الأمر، فأتى وجلس بالقرب منّي واعتذر منّي بصوت خافت وقال: لقد تحدّثت بالأمس بهذا الكلام... و قد تبيّن أنّي مخطئ فأرجو أن تسامحني، فقلت له: لقد أحرجتني و أهدرت ماء وجهي بالأمس أمام الجميع.. أمام ثلاثين أو أربعين شخصاً، ثمّ جئت الآن لتعتذر منّي بيني وبينك، قم واعتذر أمام الجميع كما تحدّثت أمام الجميع، لكنّه لم يكن على استعداد أن يعتذر أمام الجميع!! هل ترون كم تفعل الأنانيّة والنفسانيّة؟ فهل حجّ هذا الرجل مقبول؟ وهل تُقبل أعماله في عرفات؟ لقد أرقتَ ماء وجه إنسان مؤمن أمام الجميع، وبعد أن تبيّن أنك كنت خاطئاً اعتذرت منه بشكل خاصّ؟ ماذا ينفع هذا الاعتذار بينك وبينه؟ بل عليك أن تقوم وتعلن أمام الجميع بأنّك أخطأت في أنك أوّلاً أعلنت هذا الأمر أمام الجميع، وثانياً في أنّك اتّهمته ظلماً بهذا الفعل أيضاً.
يبيّن الإمام السجّاد عليه السلام بأن موقعتيّنا هي هكذا.. ووضعنا بهذا الشكل: فنحن نرتكب محرّماً، ومن جهة أخرى نرى كرمكَ وجودك، ونحن لا حياء لنا فيما نقوم به، و لكن من جهة أخرى نرى عفوك ورحمتك، هذه هي الوضعيّة التي لديّ الآن مع الله، ثم يقول الإمام: «وقد رجوت أن لا تخيّب بين ذين وذين منيتي» إنّها بشارة يريد الإمام أن يزفّها إلينا، وهي أن حالنا وقلبنا وذهننا بالنسبة إلى هذه الحالة التي وضعنا أنفسنا فيها هي حالة رحمة يغلب عليها الرجاء، وعلينا أن نغلّب الرجاء على اليأس.
لا ينبغي أن يسبّب انحراف بعض السلاّك اليأس و القنوط
يقول بعضهم لماذا نصلّي صلاة الليل، لماذا نأتي بالذكر، فلدينا الكثير من الأشخاص عملواهذه الأعمال، و طبقوا الأمور التي كتبها الأولياء في كتبهم.. و مع ذلك لم يصلوا ؟!! بل انظر ماذا حلّ بهم! و إلى أيّ حالٍ سيء آلَ أمرهم! ولكن يا عزيزي انظر إلى الجهة الأخرى، حيث هناك الكثير من الأشخاص الذين مشوا ووصلوا.. فلماذا تغلّب على نفسك حالة اليأس، فتقول بأن شخصاً قام بهذا العمل ولم يصل..
نعم..يوجد الكثير من الأشخاص الذين لم يصلوا ، و حتّى في زمن المرحوم العلاّمةكان يوجد مثل هؤلاء، سواء من المعمّمين أو من غيرهم، وكان بعضهم قد حصّل حالات ومسائل وأمور، ولكنّهم بعد مدّة [ابتعدوا] ، و ذلك عندما جاء الامتحان ، فكلّ شخص لديه امتحان خاص، وكل شخص لديه توقّع مختلف.
فبعضهم كانوا مع السيّد العلاّمة واستمرّوا معه إلى أن بدأت الأحداث التي حصلت في زمن الشاه، إذ كان هؤلاء يتوقّعون أن يستمرّ العلاّمة بالسير في ذاك الاتجاه بشكل كامل، والحال أنّه لم يستمر في ذلك أبداً، بل كان يعمل بتشخيصه، إذ ليس المفروض أن يسمع الإنسان ويطيع كلّ من يتكلم بأيّ شيء، ولا يمشي خلف أي شائعة تنـتشر، بل عليه أن يرى بنفسه هذا الطريق الذي يُطرح الآن وهذه الأمور التي يتمّ تداولها.. في أيّة جهة تتحرك؟ فهل ينبغي أن يمشي الإنسان خلف أيّة جماعة تمشي؟ كلاّ! لأنّ الله تعالى يقول له: ألم أعطك عقلاً؟ ألم أعطك فهماً؟ ألم أعطك علماً ومعرفة؟ فهل ينبغي أن تمشي خلف أيّة جماعة، فقط لأنّ عددهم كبير؟ كلاّ، بل عليك أن تعمل وفقاً لميزان عقلك وفهمك وعلمك وبصيرتك ومعرفتك بمسائل الدين والمسائل الاجتماعية، سواء كان هناك موافق لك أم لا، فلا أنت ستحاسب بدلاً عنهم ولا هم سيحاسبون بدلاً منك، فلكلّ واحدٍ منّا ملفّه الخاصّ به في الحساب. هؤلاء الأشخاص كانوا يتوقّعون بأنّ المرحوم العلاّمة يمكن أن يتّبعهم في تلك الأمور، فلمّا عمل على أساس علمه ابتعدوا عنه..فما الذي كنت تؤمن به حتّى هذا اليوم؟ وما كانت تلك الدموع وذاك البكاء في مجالس عصر الجمعة؟ وماذا كان دعاء السمات وصوت البكاء الذي كان يعلو منك؟ حيث كنت تقرأ ذلك في مجالس المرحوم العلاّمة...
فتلك الحالات التي كنت تبرزها في تلك الفترة وتكشف بها عن موقعيّتك أمام الجميع، وكنت تعتبر أنّها إنّما حصلت بإطاعتك لهذا الرجل.. أين ذهبت؟ وما الذي حصل؟ ماذا حصل بحيث صرت تغمز السيّد العلاّمة بقولك: "بعض الأشخاص يخافون" وأمثال هذا الكلام؟!نعم.. لقد قيل ذلك.. حتى قيل: لقد صار بعض الأشخاص خائفين وبعضهم ترك العمل بالتكليف، وبعضهم الآخر يعملون خلاف ما يقال لهم، وبعضهم يعرفون الكلام فقط.. لقد سمعنا ما شاء الله من هذا الكلام..إذا كانت المسألة مسألة عدم الخوف، فنحن أكثر منك لا نخاف، فنحن لم نخف في تلك الأوقات التي كان يفرّ فيها الآخرون...
ممّن كان يصدر هذا الكلام الذي فيه اتّهام بالخوف و بالمخالفة وعدم العمل بالدستور؟ كان يصدر من الأشخاص الذين كانوا هنا يدْعون ويبكون.. و هم أنفسهم كانوا يقولون عن مجالس السيّد العلاّمة: إنّ هذه المائدة تتبدّل إلى نور.. إنّها تتحوّل إلى تجرّد وتتبدّل إلى رَوح و رضوان.. هذا كلام من؟ هذا كلام أولئك الأشخاص الذين انقلبوا في اليوم التالي وقالوا: هؤلاء جميعهم خائفون! هذا كلام هؤلاء.
فهل ينبغي القبول بأيّ شيء يصدر من أيّ إنسان؟! كلاّ ليس الأمر كذلك، و في النهاية سيظهر الحقّ و يتبيّن المحقّ من المبطل، فالأمور لن تبقى على منوال واحد دائماً.وتلك الأمور التي كنا نذكرها و ننبّه لها فيما مضى فكنّا نُتهم بالجهل وعدم المعرفة، بدأت تنكشف ، فصار معلوماً من هو الذي كان عديمالاطّلاع. و منها فعلى الإنسان أن يعمل طبقاً لما يشخّصه، ويعمل بناء للتكليف الإلهي.. بناء على التكليف الإلهي.
هذه هي موقعيّتنا.. والإمام يقول ينبغي أن يغلب جانب الرحمة الإلهية على فكرنا وذهننا وقلبنا، وعلينا أن نرى أنّتلك الرحمة أعلى مما نشعر به من مظاهر الأسماء ومظاهر الجلال والجمال الإلهي:
آن خداي دان همه مقبول ونا مقبول | *** | من رحمة بدا وإلى رحمة يؤول |
خلقان همه بطرة توحيد زاده اند | *** | اين شرك عارضي بود وعارضي يزول |
(جميع ما خلق الله تعالى سواء كان من المرضيّ عنهم أم من المغضوب عليهم
هم في الواقع من رحمة الله بدأوا ، كما انّهم كل واحد منهم إلى رحمة الله يؤول.
وجميع الخلق ولدوا على فطرة التوحيد *** وهذا الشرك عارض وكل عارض يزول)
إنّ هذا هو ما نراه نحن ونشعر به في الروايات والآيات وكلمات العظماء.
لقد قسّم بعض المعاصرين في كلامهم ومقالاتهم وكتاباتهم الإله إلى قسمين:إله أهل الظاهر والفقه، وإله أهل العرفان والمعرفة، هكذا عرّفوا الله.. أمّا إله أهل الظاهر فهو إله العذاب والمؤاخذة والحساب والميزان والحشر والنشر... يقولون: إذا لم تصلّ فسوف تعذّب، وإن لم تصم فستُلقى في جهنم، وإذا لم تحجّ فستُسلط عليك الحيّات والعقارب و... هكذا قالوا عن إله أهل الظاهر، أما إله أهل المعرفة فهو إله الرحمة والعفو؛ إن تبتَ قبل منك، و حتى لو نقضت توبتك مائة مرة فسيتوب عليك:
اگر توبه شکستی بازا | *** | درگه ما درگه نا اوميدی نيست |
(حتى لو نقضت توبتك مراراً فارجع، إذ ليس حضرتنا مكاناً لليأس)
«يا من وسعت رحمته كل شيء»..{إنّ الله بالناس لرؤوف رحيم}، وكذا أوصاف الجمال التي يصف الله تعالى بها نفسه، وكذا الحديث القدسي: «لو علم المدبرون عني كيف اشتياقي لهم وشوقي إلى رؤيتهم لماتوا شوقاً»۱... هؤلاء يقولون بأنّ هذا هو إله أهل المعرفة.
والحال أنه ليس لدينا إلاّ إله واحد، لا يوجد لدينا إله أهل المعرفة إله أهل الفقه، وليس لدينا إله العرفان وإله الفقهاء.. ليس لدينا شيء من ذلك، بل لدينا إله واحد وهو الإله الذي يبيّنه الإمام السجّاد هنا..إنّ الإله الذي يبيّنه لنا الإمام السجّاد عليه السلام كرمه ولطفه يغلب على ذنوبنا ومعاصينا.. والإله الذي يبيّنه لنا الإمام السجّاد هو الإله الذي تغلب رأفته وَ جوده على قلّة حيائنا.. إنّه الإله الذي يجعل الأمل دائماً حياً في قلوبنا، ولكنّ الشيطان هو الذي يأتي ويوسوس لنا ليوقعنا في اليأس، ويجعل الإنسان في حالة من القنوط، ويجعله آيساً من رحمته تعالى، يقول له: انظر إلى صلاتك وصومك.. ما الذي حصل منها؟ فهؤلاء قد سبقوك و أتوا والتزموا بالسير والسلوك، فإلى أين وصلوا؟ إنّ بعضهم طُرد وبعضهم الآخر ذهب و ترك!!
كم رأينا في زمن المرحوم العلاّمة من المعمّمين ومن أهل الفضل الذين أتوا وذهبوا ولم يبقوا، بل ومن غير أهل الفضل أيضاً، وعددهم ليس قليلاً.. ولكن علينا أن ننظر إلى الجهة الأخرى، فأولئك الذين أتوا ثمّ ذهبوا لم يكونوا يريدون الوصول ولم يكن لديهم أمل، بل كان فكرهم وحالهم مختلف، وكانوا يتبّعون العلاّمة إلى الوقت الذي كان العلاّمة موافقاً لنواياهم وأمورهم، وكانوا يريدون العلاّمة ما دام أنّه يمشي وفقاً لمسائلهم الاجتماعية...
كنت في أحد الأيّام مع أحد هؤلاء في سيارته، وكان ذلك عندما كان العلاّمة يدرّس رسالة رؤية الهلال وكنّا نحضر الدرس سوياً في طهران، وعندما ركبنا السيارة ووصلنا إلى ميدان بهارستان، وكان ذلك أثناء الثورة وفي أواخر أيام الشاه، و كانت الفوضى عارمة، وكنّا ثلاثة معمّمين في السيارة، فما إن رآنا بعض الشباب الذين كانوا هناك طاروا فرحا و انقضوا علينا وبدؤوا يطلقون بعض الشعارات، فقام أحدهم وقال عبارة انجليزية: We want just …، وتعني: لا نريد إلاّ فلاناً ، وذكر اسم أحد الأشخاص، فاشتعل هذا الشخص الذي كان معي حماساً، وبدأ يردّد الشعارات، ويهتف معهم وينادي بأعلى صوته!! فتعجّبتُ كثيراً واستغربت من تصرّفه، إذ لم أرَ داعياً لكلّ ذلك.. لماذا تهتف؟! ومن أجل أيّ شيء تنادي: We want just … We want just … ؟!
وهناك فهمتُ ما هو مقدار سعة الأفراد وظرفيّتهم وما هو حجمهم.. فبعض الأفراد سعتهم بمقدار كأس واحد من الماء.. تشربه بجرعتين فينتهي، وبعضهم لا تتجاوز سعتهم فنجان الشاي، فهو ينتهي بجرعة واحدة، ولكن بعضهم لا تتجاوز سعته أكثر من عقلة الإصبع، أرأيتم ذلك الغطاء الصغير الذي يضعه الخياط على طرف إصبعه حتى لا تدخل الإبرة في إصبعه؟ فهؤلاء حجمهم لا يتجاوز ذلك، والماء الذي فيه ينتهي بمجرّد أن يصل إلى فمك، فبعض الناس هكذا !! سعتهم وظرفيّتهم لا تتجاوز الأطفال.. عيناً كالأطفال، إنّهم أفراد خفيفون!
بعد وقوع هذا الأمر، جلست أفكّر في نفسي، وقلت: "ألن يواجه هؤلاء الأفراد مشكلة مع والدي؟!".. أصلاً كان الأمر عجيباً كيف جاءت هذه القضيّة إلى ذهني فجأة، وعندما فكّرت في الأمر وجدت أنّه إذا كان والدي على ما هو عليه، وكان هؤلاء على ما هم عليه؛ فقطعاً سيواجهون مشكلة معه! وإنّما يبقى أن أجلس وأفكّر لأعرف متى سيحصل ذلك!
كلام أولياء الله و أفعالهم عين "الكتاب و السنّة"
ولم تمرّ مدّة طويلة حتّى رأينا أنّ الكلام والغمز واللمز قد بدأ بالظهور.. فواحد يقول: نعم.. كنّا جالسين في أحد المجالس وفلانٌ كان يقول كلاماً تفوح رائحته، ثم جاء شخص ثانٍ وقال كلاماً مشابهاً، والآخر كذلك، وبالتدريج تصاعدت وتيرة المسألة، وتجاوز الأمر الكناية والتلميح حتّى وصل الأمر إلى الصراحة والمجاهرة، صارت المسائل صريحة.. صريحة.
ثمّ مرّت عدّة سنوات على هذه القضيّة... انظروا هذا هو أسلوب الأولياء الإلهيّين، فالإنسان عندما يؤمن بشخص معتقداً أنّه وليّ إلهي، فلا ينبغي له بعد ذلك أن يعرض كلامه على "الكتاب والسنة"، لماذا؟ لأنّ عمل الوليّ الإلهي هو عمل الكتاب والسنّة، وسيحصل هنا دورٌ، والدور باطل، وذلك أنّ الإنسان ليس له اطّلاع على كثير من المطالب، فهذا الرأس.. هذا الرأس محدودٌ، وبالتالي فأنت لا تقدر ـ أيّها الجاهل ـ أن تدرك المطالب التي تتجاوز حدود رأسك هذا.. لا تستطيع ذلك، ومع ذلك فأنت تأتي وتقول: "حتماً يجب أن نعرض عمله ونطابقه مع كتاب الله وسنّة رسوله، وبناء على الكتاب والسنّة فهذا العمل واجب، وحيث أنّ هذا الوليّ لم يؤدّ هذا العمل الواجب فهو خاطئ وكلامه مردود، ونحن سنتركه و سنمضي في سبيلنا وطريقنا."
حسناً.. لقد مرّت عدّة سنوات على هذه القضيّة، وذات يوم.. كنّا مع نفس هذا الشخص والسيّد الوالد وشخص آخر راكبين في السيّارة.. كنّا أربعة أشخص جالسين في السيّارة نريد الذهاب إلى مكانٍ ما، وبعد بعض الكلام والحوار، جاء هذا الشخص [الذي كان يعترض على السيّد العلاّمة سابقاً لعدم مشاركته في الأحداث] وقال: "إنّ كلّ الأمور التي أدّيناها لم يكتب لها التوفيق ولم يصل أيّ منا إلى النتيجة التي كنّا نرجوها، وقد ضاعت كلّ جهودنا سدىً" ، فقال السيّد الوالد: الآن... (انظروا بعد عدّة سنوات!) "الآن" فهم السيّد فلان لماذا نحن لم نتدخّل في هذه المسائل!
وما إن قال السيّد الوالد هذه الكلمات، طأطأ ذلك الشخص رأسه، وصار وجهه أحمر ممتقعاً، ولم ينبس ببنت شفة بعد ذلك! "الآن" فهم!
أولياء الله يشاهدون ما يخفى علينا من المصالح و المفاسد
إنّ ذاك [الوليّ] يشاهد ما يحصل "الآن" ولكن قبل عشر سنوات، أمّا أنت فلا ترى؛ولهذا تقول: لا بدّ أن نعرض كلامه على كتاب الله وسنّة رسوله! أنت ماذا تفهم من كتاب الله وسنّة رسوله حتّى تعرض كلامه وفعله عليهما؟! ذاك الوليّ الإلهي يشاهد ما يحصل بعد عشر سنوات من الآن، وهو يرى ما سيحصل بعد خمس سنوات منذ الآن.. إنّه يرى الآن ما سيحصل بعد عشرين سنة! إنّه يقول لك: إنّ هذا المقدار الذي درسته فجعلك تأتي وتقول: "لا بدّ أن نعرضه على كتاب الله وسنّة رسوله".. أنا قد درست ثلاثة أضعافه بل عشرة أضعافه، فأنا لم آت من خلف الجبل، ولا خرجت من الغار، ولا كنت أقضي وقتي في المقاهي، أنا درست خمسة أضعاف ما درسته أنت، فأنت درست ثلاثة أو أربع سنوات، أمّا أنا فقد قضيت خمس عشرة سنة بين قم والنجف، فكم يصير؟ خمسة أضعاف.
هذا بالنسبة للدرس، وأمّا بالنسبة للاستعدادات والقدرات فإنْ لم أكن أعلى منك فأنا قطعاً لست أدنى منك.. هذا بالنسبة للقدرات والذكاء وما شابه ذلك. وأمّا بلحاظ التقوى فالأوضاع معلومة، فماذا تقول بعد ذلك؟ ففي النهاية نحن عندنا خوف من الله، ولسنا بدون دين إن شاء الله! هذا إذا كان عندك حسن ظنّ. إذاً نحن درسُنا أكثر منك، وقدراتنا وذكاؤنا أعلى مما عندك، ومعلوماتنا أكثر منك، فما الذي أصابك إذاً؟! وما بالك؟!
ولكنّ النفس تأتي هنا وتجادل، كما يشرع الشيطان بالوسوسة ويستمرّ في ذلك. جيّد جدّاً، ستمرّ السنوات، وحينئذٍ يعطيه السيّد الوالد جوابه.. حينئذٍ! هل فهمت الآن يا عزيزي؟! وفعلاً في "ذلك الوقت" ينبغي أن يُعطى الجواب فيقال له: تفضّل.. انظر إلى المسائل والأوضاع.. تفضّل.. فالأمر العيان لا يحتاج إلى بيان!
إنّ الربّ الذي عندنا هو ربّ أولياء الله، والوليّ الإلهيّ هو الإمام السجّاد عليه السلام، والإمام السجّاد يقول: "أنا لم أفقد يوماً حسن الظنّ برأفتك ورحمتك"، فإذا وجدتَ أنّك فقدتَ ذلك فاعلم أنّ الشيطان قد حضر في قلبك، فهذه الحالة من اليأس التي تحصل في قلب الإنسان فيقول: يا إلهي! إنّ هؤلاء قد جاؤوا ثمّ ذهبوا وتركوا الطريق فماذا حصل؟! وكيف بنا نحن؟!
حسناً، لماذا لا تقول: يا إلهيّ، إنّ أولئك الآخرين قد جاؤوا وتحرّكوا حتّى وصلوا إلى غايتهم؟! قل ذلك أيضاً! فإذا أردت أن تقول: يا إلهي.. يا إلهي..، فلتجعل ذلك في هذا الطرف لا ذاك.. فما أكثر الذين جاؤوا وتحرّكوا ووصلوا وأخذوا من الفيض كلٌ بحسب مرتبته، فكلّ شخص له مراتبه... فأولئك قد ذهبوا واستفادوا وحصلوا على مرادهم.
إذا كان هذا يقتضي أن يغلب علينا اليأس، فلماذا جاء كلّ هؤلاء الأولياء الإلهيّين؟! ولماذا أسّسوا هذه المجالس؟! فإذا كان اليأس حاكماً فلتذهب في حال سبيلك، هذا هو اليأس! فإذا كان هذا يقتضي أن يغلب اليأس على الإنسان فلماذا يشكّلون المجالس ويؤلّفون الكتب ولماذا يدعون الناس إلى الطريق؟! فلنجلس بدلاً من ذلك ونقول: "يا عزيزي ما هي هذه الادّعاءات؟ وأيّ طريق هذا؟! من الذي رأى شيئاً أصلاً؟ فنحن رأينا بأنفسنا الأفراد الذين جاؤوا وانحرفوا، وحصلت لهم مسائل ومشاكل و..." ، إنّ هذا الكلام غلط ولا ينبغي أن يقال، بل يجب على مبلّغي الإسلام والتشيّع أن يحقنوا القلوب والنفوس بالرأفة والرحمة الإلهيّة لا باليأس والقنوط.. يجب أن ندعو الناس إلى لطف الله ورحمته وندفعهم بهذا الاتّجاه.
يجب دعوة الناس إلى لطف الله و رحمته
كان عند الشيخ المطهّري رحمه الله كتابٌ باسم "العدل الإلهيّ "، وهو كتابٌ جيّدٌ جدّاً فهو كتاب علميّ ومفيد، ولكنّ فيه عيباً واحداً؛ وعيبه أنّه لم يُختم بالخير واللطف والرحمة، فآخر الكتاب مختوم بالقول بأنّ الله سيعذّب الجميع، وكلّ من يخالف أمره فلا يظنّن أن الشفاعة ستنفعه ولا يعتمدنّ على الشفاعة وهكذا...
وكان المرحوم الشيخ المطهّري قد أرسل نسخة من الكتاب للمرحوم السيّد الوالد، وكتب بخطّ يده بعض العبارات على ظهر الكتاب، وتلك النسخة التي أرسلها موجودة عندي في المنزل والعبارات التي كتبها بخطّه موجودة في آخره...
المرحوم الوالد قال له في إحدى الجلسات التي جمعتهما بعد ذلك: أجل.. لقد قرأت الكتاب ووجدته جيّداً ، ولكن لماذا ختمتَ الكتاب بهذه الطريقة؟ لماذا لم تغلّب رحمة الله ولطفه ورأفته؟ أجل، نحن ليس عندنا شفاعة بهذا الشكل [بحيث تسبّب الجرأة على المعصية]، والحساب محفوظ في مكانه، ولكن إذا كان الإنسان مؤمناً ثمّ ارتكب ذنباً فإنّه سيكون مورداً لرحمة الله ورأفته إن شاء الله.
أوَليس عندنا ـ وهذا كلامي أنا لا كلام السيّد العلاّمة ـ هذه الآية في القرآن حيث يقول تعالى: {وَ آخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ}۱ ؟! إنّ هذه الآية تصِفُ حالنا نحن، فنحن مّمن {خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وآخَرَ سَيِّئاً}، فنحن أحياناً نؤدّي عمل خير وذلك حينما تكون الجنبة الرحمانيّة حاكمة على نفسنا، وفي أحيانٍ أخرى نفعل أعمالاً سيّئة وذلك عندما تكون الجنبة الشيطانيّة والنفس الأمّارة والكدورة والوساوس هي الحاكمة؛ فنحن بشر في النهاية وأفعالنا هكذا... ومع ذلك فإنّ الله سبحانه وتعالى يقول: نحن نسامحكم! لا تنزعجوا وتتضايقوا كثيراً.. المطلوب ألاّ تكونوا في مقام الإنكار ولا العناد.. آهٍ من العناد ! آهٍ.. آه !! العناد، وما أدراك ما العناد !! نستجير بالله من العناد! لا تكونوا في مقام العناد والإنكار فحينئذٍ سنصفح عنكم ونتوب عليكم.. {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} ماذا يفعل هذا الكلام ؟ إنّه يعطي الأمل للإنسان.
ومن هنا قال المرحوم العلاّمة له: إنّ الكتاب الذي كتبتَه كتابٌ جيّد، ولكن كان من الأفضل لو أنّك ختمت الكتاب بالأمل والرجاء والبشارة وبتبليغ لطف الله ورحمته.
واتّفاقاً فقد سمعت أنّ شخصاً آخر قدّم له نفس هذه الملاحظة بخصوص الكتاب، فقد ذكر ذلك في إحدى الرسائل التي أرسلها للمرحوم الوالد.
على كلّ حال.. الإمام السجّاد عليه السلام يقول: يا ربّ إنّ موقعيّتي هي هكذا ـ والإمام لا يكذب ـ إنّه يقول: نحن هكذا ! فنحن من جهةٍ عندنا قلّة حياء، ولكن من جهة أخرى رأفتك ورحمتك موجودة، يعني؛ نحن موجودون في موقعيّة كهذه، وهذا هو حالنا! حسناً، فحيث تبيّن أنّ هذه حالنا وموقعيّتنا، فالقاعدة ـ بناء على ذلك ـ تقتضي ألاّ يخيّب الله آمالنا! يا لها من بشارة عجيبة! الإمام السجّاد يقول لله تعالى: يا ربّ أنت خلقتنا بهذا الشكل [نعصي و نخطئ]، ولكنّك أنت على ذلك النحو [من الجود و الرحمة]، وبالتالي فلا ينبغي لمثلك أن يخيّب رجاءنا ويردّ طلبنا.. فلا تجعلنا من الآيسين من رحمتك يا ربّ ، فهذا لازمٌ لذاك..
يقولون: "الذاتيّ لا يتغيّر ولا يُعلّل" ؛ فالذاتيّ لا يحتاج إلى علّة، وذاتيّ الله تعالى هو غلبة الرحمة، فماذا يعني ذلك؟ إنّه يعني حصول ما يترتّب على هذه المسألة من اللوازم ؛ وما ذلك إلاّ استجابة دعاء من كان مثلنا من الأفراد، وتحقيق رجائنا، وبالتالي فعلينا نحن أن نرفع سقف آمالنا ونزيد رجاءنا، فنحن في وضعيّة تقتضي أن يكون بالنا مرتاحاً، ونترك هذا القلق للناس وللآخرين.
الإمام السجّاد عليه السلام يقول: «يا خير من دعاه داعٍ وأفضل من رجاه راجٍ» فأين يمكن العثور على مدعوّ أفضل منك حتّى نذهب إليه؟! ألا يجعلنا هذا الكلام مطمئنّين ومرتاحي البال؟ أن يا للعجب فنحن قد جئنا إلى مكان يُؤخذ عنّا فيه كلّ حملنا وجميع أثقالنا ويتحمّلون عنّا مسؤوليّته! [يقولون لنا:] اذهبوا وأدّوا هذا العمل، وكونوا في غاية الاطمئنان وراحة البال.. اذهبواو أدّوا العمل المطلوب منكم، وبعد ذلك كونوا مطمئنين مرتاحي البال.. بعد ذلك لا داعي للقلق والتوتّر.
لا مكان للاضطراب و التشويش في مدرسة أولياء الله
انظروا إلى الناس لتشاهدوا كم عندهم من القلق وتشويش الخاطر! خصوصاً أولئك الذين عندهم مقدار من التديّن والالتزام فتجدهم يقولون: آخ.. ماذا سيحصل اليوم؟! آخ.. ماذا سيقع غداً؟! آخ..آخ!! ولكن أنتم قد أُحضرتم إلى مكان أوّل أمر يُقدّم لكم فيه هو أنّهم قد نزعوا منكم القلق والاضطراب، فهناك في ذلك المكان لا يوجد تشويشٌ ولا اضطرابٌ.. المطالب تُبيّن بشكل واضح وجليّ. إنّما الاضطراب والقلق يحصل عند أولئك الذين تتعالى نبضات قلبهم ليلاً ونهاراً من الخوف أن: ماذا سيحصل اليوم؟ وماذا سيقع غداً؟ حصلت القضيّة الفلانيّة... ماذا قال فلان؟ وماذا كان جواب الطرف الآخر ؟ هذا هو حالهم.
إنّ الله يعلم مقدار الألم الذي تحمّلته في زمان المرحوم السيّد الوالد بسبب بعض أصدقائه عديمي الفهم الذين كانوا يشاركون في الجلسات وبدلاً من التوجّه إلى المطالب كان بالهم مشغولاً بتلك الأمور التافهة.
أذكر أنّه ذات يوم في عصر يوم الجمعة وبعد قراءة القرآن ودعاء السِّمات (السِّمات بكسر السين لا فتحها، فالسَّمات بالفتح خطأ)... بعد دعاء السِّمات والقرآن والتوجّه.. وفي الوقت الذي ينبغي أن يسكت الجميع ليسمحوا لهذه الأمور أن تترك أثرها في نفوسهم، قام أحد هؤلاء الجاهلين، وقال للسيّد الوالد: يا سيّد هل وصلكم الخبر أنّ أحد ملوك الدول العربيّة قد مات، ويقال أنّ الشخص الذي سيحلّ محلّه أوضاعه كذا ، وموقفه من الشيعة كذا؟ فما الذي سيحصل الآن... وما شابه ذلك.
ماذا يقول الإنسان لمثل هذا؟! أيّها الجاهل، هل هذا هو مكان هذه المطالب؟! يا عديم الفهم، هل أمَرَك أحدٌ أن تقول هذا الكلام؟! هل كلّفك أستاذك بذلك؟! متى ستصبح إنساناً واعياً؟ ومتّى سيدخل الكلام في هذا الرأس، و تفهم أنّه: يا عزيزي، بمجرّد أن تأتي إلى هنا، فإنّ الأمر انتهى، فقد ذهب عنك الخوف والاضطراب، ولو كان هناك ما يقتضي البيان فإنّهم سيبيّنونه لك، ولو كان هناك مطلب مهمّ فسيخبرونك، ولو كان هناك نكتة ينبغي أن تدركها فإنّها ستصلك حتماً... فبعد كلّ ذلك ما معنى هذه التصرّفات؟
لقد كنتُ جالساً ذات يوم في الحجرة في مشهد، وكانت قد وقعت قضيّةٌ ما، وفجأةً رأيت شيخاً قد جاء (وهذا مثل ذاك أيضاً)، فبحمد الله كان يوجد الكثير من هذا النوع، و الأمر الآن كذلك أيضاً.
قال لي [بصوت يملؤه الاضطراب]: السلام عليكم يا سيّد محمّد محسن.
فقلت له: وعليكم السلام.
قال: يا سيّد ما الذي حصل؟!
قلت له: ما الذي حصل هل وقعت السماء على الأرض؟ هل انشقّت السماء؟! لا لم تنشقّ السماء ولا غير ذلك، فما الذي حصل؟! إنّ ما حصل ليس إلاّ قضيّة بسيطة، فتعال واجلس لنشرب الشاي، فالأمر لا يستحقّ هذا الاضطراب.
فهدأ روعه قليلا وجلس. و عند ذلك قلت له: نحن لم نكن ننتظر منك بعد كلّ هذا أن تنسى [المباني] وتصير كمن أضاع يده في وضح النهار، فهذه المسائل هي مسائل بسيطة تحصل كلّ يوم ألف مرّة.
فقال: عجيب، يعني أنت ترى أنّ المسألة بسيطة إلى هذا الحدّ !!
قلت له: بلى بسيطة وأبسط من البسيطة، ورغم أنّها بسيطة أراك قد انقلبت أحوالك كلّ هذا الانقلاب، وإن كنت لا تصدّق، جرّب إذاً أن لا تفكّر في الأمر وانظر ما الذي سيحصل؟ عِدْني أنّك اليوم لن تفكّر في المسألة أصلاً، مثلاً اركب سيّارتك واخرج وتنزّه.. اذهب إلى «طرقبة»۱للنزهة و تناول الطعام.
فجلسنا قليلاً وتحدّثنا مع بعضنا البعض، وخفضنا قليلاً من درجة حرارته المرتفعة!! فحرارته كانت قد وصلت إلى ۷۰۰ أو ۸۰۰ درجة.. ولذا كان المسكين سيذوب.. فالآن هم يُذيبون العديد من المواد بهذه الدرجة كالحديد وأمثاله، ولذا قمنا بتخفيض حرارته.. أنزلناها وأنزلناها.. وقلت له: يا عزيزي، أين ذهب إلهك؟! أين ذهب رسولك؟! أين ذهب إمامك؟! فنحن لدينا إمام، وإمامنا حيٌّ، فلم كلّ هذا الاضطراب؟! فهذه الأمور ليست إلاّ مسائل سطحيّة. فعندما يكون لديك «أفضل مدعوّ» و«أفضل مرجوّ» فأيّ غمّ لديك؟! أيّ غمّ تشعر به؟! عندما يكون لديك إمام الزمان، وعندما يكون إمامك حيٌّ لا تأخذه سنةٌ ولا نوم...
في الليلة السابقة بيّنت لكم أنّ نفس مقام الحياة والعلم والشعور والإدراك الموجود في ذات الباري تعالى يكون ظهوره بنفسه في وليّه إمام العصر عجّل الله تعالى فرجه الشريف، وبالتالي ما الداعي لأن نغتمّ أو ينشغل فكرنا في أيّ شيء؟! وكيف يمكن أن يكون لدينا ما يعكّر صفونا؟!
إمام الزمان حاضر معنا، و لكنّنا نحن نرى أنفسنا في حال الغيبة
لكن حقيقة الأمر أنّنا نرى أنفسنا في حال الغيبة، كما أنّنا نرى أنفسنا في غيبة عن حضور الله عزّ وجلّ، ولذا تأتي هذه الأفكار، ولذا تواجهنا هذه المسائل، فنقول: يا سيّد حصل كذا وحصل كذا.. يا ويلي حصل كذا هنا.. يا ويلي حصل كذا هناك.. و أنا في مثل هذه الحال أجيب الأصدقاء قائلاً: كأنّك تفكّر بكلّ شيء إلاّ الله، وكأنّه لا وجود لله!! وكأنّه لا وجود لله!! فتقول: يا ويلي حصل كذا، ويا ويلي حصل ذاك..
بل عليك أن تعرض هذا الاضطراب والتأسّف والتحسّر على الله، فلم تتصرّف وكأنّه لا وجود لله!! نحن نعتقد أنّه ينبغي أن يكون هناك أمر مادّي بيدينا حتّى نستمدّ منه القوّة، أو ينبغي أن يكون هناك شخصٌ بجانبنا بشكل مادّي حتمّاً حتّى نشعر بالقوّة والمنعة، فإن ذهب هذا الشخص قليلاً إلى منزل جارنا نجد أجسامنا ترتعش من الخوف، أو ينبغي حتماً أن يكون إمام الزمان بقربنا ماديّاً وجسده ملتصقٌ بنا حتّى نشعر بالطمأنينة والسكينةقليلاً، أمّا إذا خرج إمام الزمان من هذا المنزل فإنّنا نصرخ حينها وتبدأ أيدينا وأرجلنا بالارتعاش.. ونقول: ماذا سيحصل الآن؟
يا عزيزي: الذي خرج هو جسمه فقط!
ما السبب في حصول هذا التصرّف؟ سببه عدم الإدراك وعدم معرفتنا لحقيقة هذه المسألة، فعندما يكون لدينا «أفضل مرجوّ» فأيّة غصّة ستكون لدينا؟!
لا ينبغي عرض كلام رسول الله و الإمام على الكتاب و السنّة
كان الإمام موسى بن جعفر عليه السلام ـ وهو إمامٌ معصوم ـ قد أمر عليّ بن يقطين أن يبقى في جهاز السلطة وبين أعوان هارون الملعون ..هارون الكافر المشرك الذي لا دين له وذو الصفات القبيحة بأجمعها، فهارون هو هارون الذي قتل ابن رسول الله، وهو قاتل الإمام عليه السلام.
ولكن عندما يقول له الإمام ابقَ في جهاز السلطة عند هارون، فقد انتهت المسألة بذلك، ولا ينبغي له أن يعترض أيّ اعتراض، فالإمام هو الذي قال:اعملفي جهاز السلطة عند هارون، لأنّه عندما يقول الإمام كُن هناك، فهل يمكن لعليّ بن يقطين أن يقول في هذه الحالة: «ينبغي أن نعرض أمر الإمام موسى بن جعفر عليه السلام على كتاب الله وسنّة رسول الله صلى الله عليه وآله فإن كان موافقاً قبلناه وإلاّ رددناه»؟!! هل يمكن له أن يقول ذلك؟!
وأنا أسألكم أيضاً: ألم يكتب موسى بن جعفر عليه السلام رسالةً إلى عليّ بن يقطين يأمره فيها بأن يتوضّأ على النحو الذي يتوضّأ به أهل السنّة؟ ألم يكتب له تلك الرسالة؟ وأسألكم أيضاً: أليس وضوء أهل السنّة باطلاً؟ بلى هو باطلٌ.. أليست الصلاة المترتّبة على ذلك الوضوء باطلةٌ؟ نعم.. هي باطلة أيضاً. فلمَ أمر موسى بن جعفر عليه السلام ـ إذاً ـ بالباطل وبالحرام؟ لماذا؟ أعطوني إجابة؟
التفتوا إليّ: أنا أجيب الآن عن الشبهات التي طُرحت ها!!
أصلاً هل يحقّ لموسى بن جعفر عليه السلام أن يأمر بأمرٍ ويكون حراماً ومخالفاً لكتاب الله وسنّة نبيّه؟! نعوذ بالله من ذلك.
هل يحقّ له ذلك؟! إنّه موسى بن جعفر وهو إمام، فهل يمكن له ذلك؟! كلاّ لا يمكن له ذلك.
إذاً فلم أمر بذلك الأمر؟! لم أمر موسى بن جعفر عليه السلام عليَّ بن يقطين بأن يتوضّأ وضوءً باطلاً وحراماً، مضافاً إلى أنّ الصلاة بذلك الوضوء باطلةٌ أيضاً؟! أمره بالوضوء المنكوس عند غسل الأيدي، ثمّ يغسل رأسه ورجليه، وهكذا... أليس هذا الوضوء باطلٌ؟ أليست الصلاة باطلةٌ؟ فلم أمر به موسى بن جعفر؟
هنا ينبغي أن تحلّ هذه المسائل من خلال طرح المباني «الأصوليّة»، فيذكر: ما هو التكليف؟ وما هي الأحكام الأوّليّة؟ هل لدينا حكم عامهنا ؟ أم حكم خاصّ؟ أم ليس لدينا لا حكم عامّ ولا خاصّ؟ و هذا بحث أصوليّ ينبغي أن يطرح و يعالج في موضعه.
و أما المقدار الذي يعنينا هو التالي:
«التكليف»: هو عبارة عن الكُلفة، وعبارة عن الإلزام.
و«الإلزام»: هو عبارة عن الحكم الصادر عن الله والذي يتعلّق بشخصٍ خاصّ. وهذا يسمّى إلزاماً وتكليفاً.
التكليف نوعان: عامّ و خاص، وكلاهما منجّز وحجّة
والتكليف إمّا أن يكون له جنبة عموميّة لسائر الأفراد، أو يكون له جنبة خاصّة به، وفي كلا الحالتين التكليف واحدٌ، أيّ أنّ التكليف واحدٌ سواءً كان عامّاً أو خاصّاً.
فالتكليف العامّ للوضوء ـ مثلاً ـ هو نفس التكليف الذي نقوم نحن به عادةً: نغسل وجهنا أوّلاً، ثمّ نغسل اليد اليمنى، ثمّ نغسل اليد اليسرى، ثمّ نمسح على الرأس بأربعة أصابع، (و ما يقال من أنّه ينبغي أن يكون المسح على الشعر المختص بمكان المسح فقط دون غيره، فغير صحيح، فالأمر ليس كذلك، بل المفروض هو مسح الرأس سواءً كان الشعر مختصّاً بهذه المنطقة أم من شعر القسم الأيمن أو الأيسر فلا فرق بينها، وما ينبغي هو المسح على المحلّ وليس للشعر دخالة في المسألة) فتمسح إذاً بأربعة أصابع على الرأس، ثمّ تمسح على الرجل اليمنى ثمّ اليسرى. هذا هو الوضوء الذي جاء به الرسول، وهو الوضوء الواجب. أليس كذلك؟ حسناً هذا يسمّى تكليفاً.
والآن إذا جاءني نفس الرسول الأكرم الذي أمرنا بهذا الوضوء وقال: أيّها السيّد الطهراني: لا تتوضّأ بهذا الوضوء ولكن توضّأ بوضوء آخر، فهل من الصحيح أن أسأله وأقول: لماذا؟ وما هو السبب والدليل؟
[أقول لمن يقول بذلك:] أيّ حديثٍ سخيفٍ هذا؟!إذ لا معنى للسؤال عن الدليل هنا!! فعندما يقول رسول الله: عليك أن تتوضّأ بهذا النحو، فهل يصحّ لي أن أسأله عن الدليل؟!! هل يصحّ أن أسأله: لم أمرت الجميع بالوضوء بنحوٍ معيّنٍ، وأمرتني وحدي بنحوٍ آخر من الوضوء؟!!
إذا قلت له: يجب أن نعرض كلامك على كتاب الله وسنّة رسوله!!
سيقول لك: أنا الرسول، فعلى ماذا تريد أن تعرض هذا الكلام؟!! يقول لك: أنا الرسول، أنا.. أنا.. أنا محمّد بن عبد الله (اللهم صلِّ على محمّد وآل محمّد)، سيقول لك: أنا الرسول و أنا آمرك بهذا التكليف، فعلى ماذا تعرض كلامي؟! تقول له: كلاّ!بل ينبغي أن تذكر لي العلّة والدليل، فيجيبك: لا أستطيع أن أذكر العلّة والدليل لك. تقول له: إن لم أعرف العلّة والدليل فلن أعمل طبقاً لهذا الأمر!!
أسألكم: هل هذا التصرّف وهذا الكلام صحيح؟! هل ينبغي أن نتصرّف هكذا مع النبيّ صلى الله عليه وآله؟!
(التفتوا! هذا هو جواب الشبهة، وأنا الآن أجيب عنها!!)
هل ينبغي أن نتصرّف هكذا مع النبيّ؟! فإن أمر النبيّ صلى الله عليه وآله بأمرٍ مخالفٍ لحكمٍ عامٍّ؛ مثلاً لو جاء رسول الله وأمر إنساناً بأمرٍ معيّنٍ، فهل ينبغي في مقام تنجّز التكليف وفي مقام الحجيّة والإلزام أن يبيّن النبيّ علّة الحكم؟! فلو أنّ النبيّ صلّى الله عليه وآله لم يبيّن العلّة والدليل؛ألا يتنجّز الحكم؟! هذا الكلام واهٍوباطل جداً، وهو هذيان كبير.. إنّه هذيان كبير.
إنّ التكليف يعني: الإلزام الصادر عن الشارع تجاه الفرد.هذا هو التكليف. والتكليف إمّا أن يكون له جنبة عمومية أو له جنبة خصوصيّة.
فمثلاً لو قال رسول الله: بلّغوا طريقة الوضوء هذه إلى كلّ فردمن الأفراد إلى يوم القيامة، فمع أنّ الحقير لم يرَ النبيّ صلى الله عليه وآله، ولم أسمع صوته، ولم أشاهد كتابه؛ لكن الوضوء ينبغي فيه غسل الوجه ثمّ غسل اليد اليمنى ثمّ غسل اليد اليسرى ثمّ المسح... ، هنا ينبغي على الحقير أن يعمل طبقاً لهذا الأمر، وكفى.
ولكن تارةً أخرى يأتي رسول الله، ويقول لي: يا فلان عليك أن تتوضّأ بالطريقة التالية: أوّلاً تغسل وجهك ثمّ تغسل يدك اليمنى ثمّ تغسل يدك اليسرى ثمّ تمسح على رأسك، ثمّ تمسح... ، فما هذا؟ هذا تكليفٌ خاصٌّ، و وفي هذا المثال نجد أنّ هذا التكليف الخاصّ يوافق التكليف العامّ.
ثمّ تارةً أخرى يأتي رسول الله ويقول: عليك أن تتوضّأ أنت يوم الأحد بالطريقة التالية (وهذا تكليفك): أوّلاً تغسل وجهك، ثمّ تغسل يديك منكوساً (كما يفعلون هم) ، ثمّ تغسل رأسك... (أي: تتوضّأ كما يتوضأ أهل السنّة)، وهذا أيضاً يُعدّ تكليفاً، وهو تكليفٌ خاصٌّ، إلاّ أنّه مخالفٌ للتكليف العامّ، لكنّهما من حيث الحقيقة أمر واحد، فكلاهما «تكليف». ومن الذي أمر بهما [طبقاً للفرض]؟ الذي أمر بهما النبيّ صلى الله عليه وآله.
فهل ينبغي في الصورة الأولى حيث كان الحكم عامّاً أن نسأل النبيّ عن دليله من أجل أن يتنجّز التكليف في حقّنا؟! لا،أصلاً هذا الأمر لا يقبل السؤال! إن كان الأمر كذلك، فكيف يسوغ لنا أن نسأل في الصورة الثانية؟! بل السؤال في المرّة الثانية خطأ أيضاً!
وعليه عندما يُلزمنا رسول الله صلى الله عليه وآله ويُكلّفنا بأمرٍ معيّن، لا يحقّ للمكلّف أن يسأل عن علّة الإلزام في هذا الخصوص، وذلك سواءً أكان التكليف تكليفاً موافقاً للتكليف العامّ، أم كان مخالفاً للتكليف العامّ أيضاً؛ لأنّ المسألة لا تتعلّق بكونه موافقاً أو مخالفاً، بل عندما يأمر الرسول صلى الله عليه وآله، ينتهي الأمر عند ذلك الحدّ، ولا ينبغي أن نتطفّل ولا أن نتدخّل و نظهر رأينا بعدها، أليس كذلك؟
نعود إلى مسألة الإمام موسى بن جعفر عليه السلام، نسأل: هل الإمام موسى بن جعفر عليه السلام بصفته إماماً، مشرّعٌ أم لا؟
لا، موسى بن جعفر ليس بمشرّع، وإنّما المشرّع هو رسول الله، فكم عدد المشرّعين إذاً؟ واحد فقط، الله ورسوله هما من يشرّع، والأصل أنّ الله هو المشرّع، غاية الأمر أنّ النبيّ هو المبيّن والمبلّغ لذلك التشريع (و هذه المسألة بطبيعة الحال تحتاج إلى مزيد من البحث، و من المقرّر أن يبحثها الحقير قريباً في مقالة منفصلة سأكتبها في هذا الموضوع و أبيّن فيها الأمر إن شاء الله) من هو المشرّع إذاً؟ هو رسول الله صلى الله عليه وآله، والأئمّة ليسوا بمشرّعين.. أمير المؤمنين ليس بمشرّع.. ولا الإمام الحسن.. ولا الإمام الحسين.. ولا الإمام موسى بن جعفر.. ولا إمام الزمان سلام الله عليهم أجمعين.
إنّهم مبيّنون: يبيّنون الأحكام، موضّحون: يوضّحون المسائل، مفسّرون: يفسّرون الآيات والروايات. فنحن لا اطّلاع لدينا على التكليف، ونحن جاهلون، لذا يبيّن الإمامُ عليه السلام التشريعَ بواسطة اتّصال نفسه القدسيّة مع مبدأ التشريع، فيأتي ويأخذ المطالب من مبدأ التشريع لتستقرّ في نفسه ثمّ يلقيها، فبناءً على هذا: ما هو دور الإمام؟ هو المبيّن والموضّح.
وهنا نسأل: إن جاء الإمام وأمر بأمرٍ مخالف، فهل يجب علينا أن نسأل الإمام: ما الدليل الذي جعلك تحكم بهذا الحكم، أمّ ينبغي هنا السكوت لأنّ التطفّل ممنوع؟! بل التطفّل هنا ممنوع!! ولا ينبغي أن نسأله عن ذلك، لأنّ الإمام عليه السلام يبيّن التكليف الإلهي المتعلّق بهذا الفرد الخاصّ، فيقول مثلاً: يا حضرة عليّ بن يقطين، إنّ التكليف الإلهي المتعلّق بك هو التالي، وحينها لا ينبغي له التطفّل. فهل ينبغي لعليّ بن يقطين أن يسأل؟ لا أبداً.
البعض يقول: علينا أن ننظر إلى هذا التكليف الذي أمر به موسى بن جعفر، هل يوافق كتاب الله وسنّة نبيّه، أم يخالف كتاب الله وسنّة نبيّه؟
لكنّ هذا القول عجيب!! فكلام الإمام ليس ممّا ينبغي عرضه على كتاب الله وسنّة نبيّه، لأنّ الذي يأمر هو الإمام!! إنّ الإمام الذي له وظيفة بيان التكليف هو الذي أمر بالأمر!! فما معنى أن نسأله عن هذه المسألة؟! لا .. هذا المقام ليس مقام السؤال!
هل اتضحت المسألة؟
وبالتالي، لا ينبغي لعليّ بن يقطين الاعتراض على هذا التكليف المخالف.
نعم نحن نقرّ أنّ هذا التكليف [بالأصل] تكليفٌ مخالفٌ، وهو تكليف بالحرام، ولذا الوضوء بهذا النحو باطلٌ، والصلاة المترتّبة على هذا الوضوء باطلةٌ، وينبغي على من يتوضّأ بهذا الشكل أن يقضيها. ولكن!! بمجرّد أن يكون هذا التكليف قد صدر عن إمام معصوم كالإمام موسى بن جعفر عليه السلام، ندئذٍ تنتهي المسألة ويصبح هذا التكليف كالتكليف العامّ؛ لأنّ حكم تنجّز هذا التكليف الخاصّ وحجيّته بالنسبة لعليّ بن يقطين هي كحجيّة التكليف العامّ للوضوء الذي كلّف به النبيّ صلى الله عليه وآله تماماً، وكلاهما يقعان بجانب بعضهما البعض وفي نفس الرتبة من الحجيّة والتنجّز.
وسواءً ذكر موسى بن جعفر عليه السلام علّة هذا التكليف لعليّ بن يقطين أم لم يذكره، بل لو قال له: أنا لا أريد أن أذكر لك علّة هذا التكليف لأنّ الأمر لا يعنيك؛ نسأل هنا: ألا ينبغي لعليّ بن يقطين أن يعمل طبقاً لهذا التكليف؟! بلى يجب عليه أن يعمل طبقاً له.
إذا قال الإمام: أنا الإمام.. أنا موسى بن جعفر أقول لك: عليك أن تقوم بهذا العمل،فينبغي أن أجيب حينها: سمعاً وطاعةً!! وانتهت المسألة، فقط نقول: سمعاً وطاعةً.
نعم أنا أقول لكم: لقد طرأت هذه الشبهة في ذهن عليّ بن يقطين، ولكنّ عليّ بن يقطين لم يكن «عارفاً» !! بل كان شيعيّاً وكان مطيعاً. ولكن أنتم لو كنتم مكانه فلا ينبغي لكم أن تشتبه عليكم المسألة أبداً.. ونحن طبعاً نسأل الله ألاّ يبتليكم بأن تكونوا من جهاز سلطة هارون ومن بين أعوانه.
إنّ ما أذكره لكم الآن يتعلّق بالكليّات، وما ذكرته في المجلّد الثاني من كتاب >أسرار الملكوت< جوابه يكون الليلة، الليلة أجبتُ عنه، و بعد قليل سنصل بالبحث إلى مسألة «وليّ الله» !
عندما يتمّ تكليفكم من قبل الإمام المعصوم عليه السلام بأمرٍ مخالفٍللحكم العام، لا ينبغي أن تخطر في بالكم هذه الأفكار، فتقولوا: ما هذا؟!! لماذا ذكر الإمام هذا الكلام؟! لأنّه في نفس الوقت الذي تعترضون فيه وتسألون فيه عن السبب تكونون قد خسرتم.
وحتّى لو عملتم بقوله [بعد ذلك]، فستحصلون على الأجر والثواب، ولكنّكم لن تحصلوا على تلك الفائدة المترتّبة على التسليم؛ ولذا ينبغي أن يكون حالنا عندما يقول لنا الإمام: «توضأ بالنحو الفلاني» هو التسليم والرضا، وانتهى الأمر، ولا ينبغي أن يكون هناك شبهة. إذا قال لك الإمام: عليك أن تشرب هذا الكأس، فعليك أن تقول له: سمعاً وطاعةً، فليس في الأمر شبهة، ليس في الأمر أيّ شبهة، بل الأمر منتهٍ.
أريد أن أسألكم سؤالاً....إنّ القرآن عجيب!! وهذه الآية التي فيه عجيبةٌ فعلاً! عجيبةٌ جداً! ومن العجيب كيف أنّ جميع مراتب التوحيد جاءت في هذا القرآن لكنّنا غافلون عنها! فلماذا ذكر الله قصّة موسى عليه السلام مع الخضر في القرآن؟ هل فكّرنا بهذا الأمر؟ ما هي حقيقة قصّة موسى مع الخضر؟ هل هي مجرّد قضيّة حدثت وانقضت؟!
للأسف صارت الساعة الآن الثانية عشر ليلاً، ولذا سأترك هذه المسألة إلى الغدّ؛ لأنّنا إن أردنا الدخول في هذه المسألة فلن يكفي الوقت لأنّها طويلة نوعاً ما. ولكن ما ذكرته اليوم لم يكن قليلاً، فاذهبوا الليلة وفكّروا فيه حتّى الغدّ وإن كان هناك إِشكالٌ أو شبهة طرأت في أذهانكم فاطرحوها في الغدّ إن شاء الله إن وُفِقنا وجئنا لخدمة الأصدقاء، لأنّ المسائل ينبغي أن تطوى دون إشكال.
فهنا ليس الموضع الذي ينبغي أن تحنوا رؤوسكم فيه وتطأطئوها ، بل ينبغي أن تكون المسائل خالية من كلّ إشكال تماماً !! ينبغي أن تكون المطالب والمسائل خالية من السؤال وبدون إبهام، وهذا هو ما يتيح للإنسان أن يتقدّم نحو الأمام، فالمطالب كلّها مطالب علميّة، ونحن لم نجلبها من المقهى و الدكّان، بل هي مسائل علميّة، ونحن نقول لكم تفضّلوا، فنحن منذ سنين ذكرنا الكثير من المسائل و بينّـاها، ولكن نرى أنّ دأب البعض وديدنهم أن يرموا أسهمهم رجماً بالغيب وأن يتصرّفوا بأمثال هذه التصرّفات.. ولذا المسائل ينبغي أن تكون واضحة.
ستكون تتمّة هذا الموضوع ـ إن شاء الله ـ في الليالي التالية، خاصّة أنّ المسألة دقيقة جداً، وخاصّة للأصدقاء والفضلاء الموجودين، والذين يمكن أن يقعوا في خضمّ هكذا مسائل، وإن شاء الله نسأل الله أن يُوفّقنا لفهم مباني التشيّع الواقعيّ والعلويّ .. تشيّع أمير المؤمنين، وتشيّع الإمام السجّاد عليهما السلام، ونسأل الله أن يُفيض علينا من عنايته، وأن يفيض علينا من بركات شهر رمضان.
اللهم صلّ على محمّد وآل محمّد