المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني
المجموعةسنة 1432
التوضيح
تناول سماحة آية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني في هذه الجلسة من شرح دعاء أبي حمزة الثمالي مسألة حصول الإنسان على ثواب عمله في الدنيا قبل الآخرة، وأن الآخرة موجودة فعلاً لا أنها ستوجد في المستقبل، مبيناً أن عبادة الأحرار تكون لله لا للجنة أو النار، وأن الذهاب إلى الحج إنما هو للوصول إلى المعارف لا لإسقاط التكليف، شارحاً المراد من عبارة اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً، وقد قسم الأشخاص إلى قسمين: قسم يقدم الأمور الدنيوية على الأخروية وقسم بالعكس، موضحاً أن الله تعالى ينظر إلى قلب الإنسان وإخلاصه لا إلى عمله، وأن أداء العبادة هو للوصول إلى نتيجتها الآن لا لإسقاط التكليف، ومبيناً معنى لا تأخذه سنة ولا نوم. وقد تطرق إلى عدم صحة ما ذهب إليه الأصوليون من استحالة إرادة معنيين من كلام واحد، ووضح حقيقة ولاية إمام الزمان عليه السلام وكونه واسطة في الفيض، وعدم انشغال الإمام ببعض الناس عن بعض، وأن الإمام السجاد يدعونا إلى أفضل من دعاه داع. خاتماً بأن بعض الأصدقاء يخذل بعضاً إلا الله تعالى فلا يخذل أحداً.
هو العليم
ظهور آثار الأعمال في الدنيا قبل الآخرة
شرح دعاء أبي حمزة الثمالي - سنة ۱٤٣٢ هـ ق – المحاضرة العاشرة
ألقاها:
آية الله الحاجّ السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ
قدس الله سره
أعوذ باللـه من الشيطان الرجيم
بسم اللـه الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين
والصلاة والسلام على سيّدنا ونبيّنا أبي القاسم محمد
وعلى آله الطيبين الطاهرين
واللعنة على أعدائهم أجمعين
«وَقَد رَجَوتُ أّن لا تُخيِّب بّينّ ذَينِ وذَينِ مُنيَتي، فَحَقِّق رَجَائي وَاسمَع دُعائِي، يَا خَيرَ مَن دَعَاهُ دَاعٍ وَأَفضلَ مَن رَجاهُ رَاجٍ».
ذكرنا للرفقاء سابقاً أنّ هذه الفقرات تزيد في أمل الإنسان بالنسبة لمصيره ومستقبله ومآله، وإن كان استعمال كلمة المستقبل هنا في غير محله؛ لأنّه لا ينبغي على الإنسان أن يشغل فكره بالمستقبل، بل عليه أن يهتمّ بحاضره فقط. وأمّا الانشغال بما سيحصل في المستقبل، والعمل للمستقبل، والاهتمام بالمستقبل وبما سيأتي.. فإنّها أمور تمّت الإشارة إليها ـ من ناحية ـ في النصوص. فمن باب المثال، ورد في وصيّة الإمام المجتبى عليه السلام إلى جنادة: «وَحَصِّل زَادَكَ قَبلَ حُلولِ أَجَلِكَ»، ويُستفاد من ذلك تحصيل الزاد للآخرة، أي للعالم الآخر، وقد تمّت الإشارة إلى هذا الأمر في الروايات والآيات القرآنيّة. وهو أمر صحيح؛ وذلك لأنّ مآل الإنسان يتحقّق بعبوره من هذه الدنيا ووفوده على عالم آخر، هذا هو المآل!
حصول الإنسان على ثواب عمله في الدنيا قبل الآخرة
أمّا من ناحية أخرى، فإنّ المسألة التي تمّ التأكيد عليها وتمّ تحقيقها في المعارف الإلهيّة والمشاهدات والتجارب الشهوديّة هي أنّ ثواب عمل الإنسان لا يُؤجّل إلى المستقبل، بل إنّ الثواب على العمل هو نفس الحالة التي يحصل عليها الإنسان حين أدائه لذلك العمل. وقد تمّ التشديد على هذه المسألة في الآيات القرآنيّة، وأنّه في نفس الوقت الذي يُؤدّي فيه الإنسان عملاً ما، فإنّه يرى ثواب ذلك العمل ويشعر به، سواء كان عمل خير أو عملاً مخالفاً للشرع، ففي كلتا الحالتين تصير الحقيقة الملكوتيّة للعمل مشهودة للإنسان. فعندما يقوم الإنسان بعمل خير، تتجلّى حقيقته الملكوتيّة في نفسه في تلك اللحظة. وعليه، حينما يكون شخصٌ ما في صدد أداء عمل خير، فما إن تقع عليه عينُ شخص بصير حتى يستنتج بأنّه قام الآن بذلك العمل، وكذا الحال إن قام بعمل مخالف للشرع، فإنّ البصير يطّلع أيضاً على ذلك العمل المخالف.. ألم تُلاحظوا كيف أنّ الصور البرزخيّة للأشخاص في تغيّر وتبدلّ مستمرّين؟! وهذا بسبب أثر أعمالهم وسلوكاتهم التي توضع بين أيديهم في نفس تلك اللحظة؛ فما إن يحصل الكذب حتى تتغيّر فوراً ملامح الوجه من دون فاصل، ولو لثانية واحدة.. الكذب والافتراء يُعادل هذه الصورة. دون الحاجة أن ننتظر دقيقة واحدة من أجل تبديل الملفّات مرّة أخرى ووضعها في مكانها بحسب الترتيب، فيطول الأمر بذلك، والمسألة ليست بهذا الشكل؛ وذلك لأنّ الملفّات الإلهيّة متعادلة، فالافتراء يُعادل هذا الأمر من دون فاصل ولو لثانية أو عُشر ثانية، وحتى لو تعلّق الأمر بخاطرة.. فلو خطرت خاطرة مخالفة للشرع ببال شخصٍ ما، فإنّه يتغيّر في نفس اللحظة، وتتغيّر ملامح وجهه مباشرة.
كنّا في أحد المجالس برفقة المرحوم العلاّمة رضوان الله عليه، وكان هناك بعض الأشخاص، حيث كان من المقرّر أن ينعقد مجلس لإجراء عقد زواج. وكان أحد الأشخاص في ذلك مجلس، وكان شيخاً كبيراً، لكنّه لم يكن مؤدباً. وقد كان من المقرّر أن يقوم المرحوم العلاّمة بإجراء العقد، وحينما كان منهمكاً في الحديث، فإذا بخاطرة شيطانيّة تعرض فجأةً على ذهن ذلك الشخص بأن يقوم بالاعتراض على المطالب التي يوردها المرحوم العلاّمة، فلا يسمح بذلك بإجراء العقد بسبب.. فما إن عرضت على ذهنه هذه الخاطرة، وقبل أن يتعرّض لبيان ذلك وإظهاره، حتى شاهد بعض الرفقاء والأصدقاء الذين كانوا من أهل الباطن ـ وأمّا نحن فقد كنّا ولا نزال عمياناً ـ أنّ فضاء المجلس قد تغيّر فجأةً، أي أنّ فضاء ذلك المجلس ـ الذي كان الجميع يلتذّ ويستمتع بطابعه النوراني والروحاني ـ تغيّر فجأةً. وقد التفت العديد من الأشخاص لهذا الأمر، وذكروا لنا أنّه ما إن حصلت هذه القضيّة، حتى ظهرت ـ فجأةً ـ أبّهته الفارغة، وبدأ بالاعتراض على جانب من كلام العلاّمة، وقام بفضّ كلّ المجلس، فعزف المرحوم العلاّمة بدوره عن إجراء العقد، ولم يُجر الصيغة من الأساس، بل أجراها شخص آخر بعد ذلك في مجلس آخر.
لاحظوا! ما إن تعرض فكرة مخالفة للشرع حتى يتغيّر الفضاء وينتهي الأمر! فيتبدّل فجأةً ذلك الفضاء النوراني والروحاني بفضاء شيطاني، بحيث كان واضحاً أنّ المرحوم العلاّمة كان يرغب في إنهاء الكلام، أي أنّه لم يكن يقوى على مواصلة الكلام.. إلى هذه الدرجة.. إلى درجة أنّ الكلام لم يعد يأتي. فالفكر الفاسد يُعادل الشيطنة، والفكر الفاسد يُعادل الكدورة، والفكر الفاسد يُعادل تغيّر الملامح؛ وقد تغيّرت فعلاً ملامح وجه ذلك المسكين، وقد ذكر من كان في المجلس من أهل المعنى عدّة مسائل.. هذه هي حقيقة الأمر!
ومن ناحية أخرى أيضاً، ما إن تعرض نيّة خير حتى يُلاحظ أنّ الفضاء قد تغيّر فجأةً، أي بمجرّد أن تعرض خاطرة على الذهن، وتكون تلك الخاطرة سليمة، خاطرة إلهيّة وروحانيّة.. تكون الفكرة روحانيّة، فإنّ أوّل أثر تتركه يظهر على نفس صاحب الخاطرة، والأثر الثاني يظهر على الفضاء والمحيط الذي عرضت فيه تلك الخاطرة وتلك الفكرة، فتُغيّر الأحوال والأجواء، واضح؟
كون الآخرة موجودة فعلاً لا أنها ستوجد في المستقبل
وقد كانت هذه المسألة على هذا الشكل! أي حينما يُريد الإنسان ... أفلا توجد آيات قرآنيّة تقول: {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحيطَةٌ بِالْكافِرينَ}۱أيّ أنّ الكافرين في جهنّم الآن، ولا علاقة للأمر بالمستقبل.. وإنّ جهنّم محيطة الآن بالكافرين، غاية الأمر أنّ هؤلاء المساكين لا يُدركون، ولا يشعرون بإحراقها، لا يحسّون بالألم وبتلك الكدورة، فيتقدّمون بملء اختيارهم إليها. لا يشعرون بأنّهم يعيشون الآن في الكدورة ويجب عليهم أن يتراجعوا، بمعنى أنّهم لا يمتلكون تلك الحُرية. ومن ناحية أخرى، أفلا يوجد لدينا: {سيماهُمْ في وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ}٢؟!{سيماهُمْ}: بمعنى أنّه في نفس هذه اللحظة، فإنّ سيماء هؤلاء وملامحهم ظاهرة وبارزة في وجوههم من أثر السجود.. في نفس هذه اللحظة يتجلّى أثر السجود في ملامح وجوههم وفي شمائلهم. ويوجد عندنا أيضاً: {يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسيماهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصي وَالْأَقْدام}٣فجباه المجرمين تدلّ الآن وتُشير إلى أنّهم مجرمون، وإلى المعصية التي ارتكبوها، وكذلك: {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ في لَحْنِ الْقَوْلِ}٤أي أنّك ستتعرّف على المنافقين والكذّابين والمحتالين من خلال طريقة كلامهم، فإنّك ستعرفهم في نفس اللحظة التي يتكلّمون فيها، حيث ستظهر تلك الصورة الشيطانيّة، وملامح النفاق تلك. {لَتَعرِفَنَّهُم}: يلجؤؤون لتغيير الكلام...
وكان يحصل ذلك في كثير من الأحيان؛ حيث كانوا يأتون إلى المرحوم العلاّمة ويرغبون أن يعرضوا مسألة ما بطريقة مغايرة، ففي نفس اللحظة التي يُريد فيها أن يتحدّث، يقول له المرحوم العلاّمة: يا سيّد، تحدّث بطريقة صحيحة!! فهو لم يتحدّث بعد، لكنّ العلاّمة يقول له: تحدّث بطريقة صحيحة. ففي نفس الوقت الذي يُريد فيه أن يتكلّم تكون ملامح الوجه بارزة وتُظهر بأنّك تكذب وتُبدّل وتقلب المسألة، فلا يُمكنك هنا المراوغة، وإذا أردت أن تُراوغ، فاذهب إلى مكان آخر حيث يُوجد من يرغب في ذلك، وأمّا هنا فلا يرغب أيّ أحد في ذلك. فنفس ملامح الوجه تُبرز بأنّ هذا الشخص محتال، وأولئك الذين يكذبون يظهر كذبهم في أعينهم، فإذا التقطنا صورة لأعينهم، فإنّها ستظهر بشكل معيّن [ضحك من السيّد].. ستظهر أنّها عيون كذّاب، فحتى لو أجرى عمليّة تجميل، فستبقى عيني كذّاب، وحتّى لو تكحّل لآلاف المرّات وغيّر و... فستبقى عيناه تقول: إنّه يكذب، إنّك كذّاب، فلا تُتعب نفسك كثيراً، فأنت كذابّ! وكذلك الأمر بالنسبة للإنسان الصادق، فإنّه صادق ولو أغلق عينيه أو فتحهما، فالصادق صادق! فهذه المسألة يحصل الإنسان على أثرها في نفس تلك اللحظة، وهذا العمل يشتمل من الناحية الملكوتيّة على هذا الأثر، وهو يشتمل الآن على ذلك الأثر، وأثره واضح.
وأمّا ما يُقال من أنّه: اعمل لآخرتك، فهو أمر صحيح بسبب أنّ مآل الإنسان هو في تلك الدار، وهي مسألة صحيحة، لكن لا يعني هذا أن يرغب الإنسان في العمل من أجل تلك الدار، وللوصول إلى تلك الدار؛ فهذا أمر خاطيء، ونفس هذا العمل هو خاطيء، وهو عمل غير صحيح من الأساس؛ لأنّه من اللازم على الإنسان أن يؤدّي العمل من أجل خصوصيّته الفعليّة، لا من أجل أن يرى في المستقبل ما هي النتيجة التي حصّلها منه. فذلك الشخص الذي يعمل عند شخص آخر لكي يحصل منه على راتب في أوّل كلّ شهر، لا يُدفع له الراتب كلّ يوم.. فهو يشتغل كلّ يوم، اليوم الأوّل، اليوم الثاني.. وهو في انتظار لليوم الثلاثين، وهو يوم عظيم بالنسبة إليه، إذ يكون هذا الشخص دائم الاهتمام بهذا اليوم من بين جميع أيّام الشهر، وهو يحلم به، ويُفكّر فيه، وكلّ كلامه وحديثه هو حول اليوم الثلاثين، أمنيّته هو اليوم الثلاثون، كلّ هذه الأشياء مرتبطة باليوم الثلاثين، لماذا؟ لأنّهم لا يُعطونه راتبه قبل اليوم الثلاثين. فلو أنّهم كانوا يُعطونه أجره كلّ يوم وفي نفس تلك اللحظة، لما كان يوجد عنده فرق بين اليوم الثلاثين واليوم العشرين، ولكانت كلّها عنده على حدّ سواء. إلاّ أنّهم كانوا يتركون ذلك المسكين منتظراً لمدّة شهر كامل، فيشتغل في اليوم الأوّل، ثمّ يجيء الليل ويذهب إلى المنزل، ويرجع في الغد، ثمّ يُشغّل إلى الليل وهكذا.. إلى أن يأتي اليوم الثلاثون، فيبدأ شوقه في الازدياد تدريجيّاً... [ضحك من السيّد حفظه الله]؛ إذ موعد اللقاء صار قريباً، وموعد الوصال بنتيجة مجهودات شهر كامل صارت تقترب شيئاً فشيئاً، وفي الأيّام الأخيرة لم يعد يُغمض له جفن، وصار يحلم بأنّه يعدّ الأموال واحداً واحداً، فيأنس بذلك. وكلّ هذا مرتبط بالتفكير في المستقبل، غير أنّ هذا لا معنى له على مستوى أعمال الإنسان وأفعاله، فحينما يُصلّي الإنسان، لا معنى من الأساس لأن يجول في فكره بأنّ هذه الصلاة ستُكتب في ديوان أعماله يوم القيامة، فماذا يعني يوم القيامة هنا؟! لو فرضنا أنّه لا يوجد يوم القيامة من الأساس، فإنّ الصلاة التي تُصلّيها تترك أثرها عليك في نفس تلك اللحظة التي تُؤدّيها فيها، سواء كان هناك يوم القيامة أم لا.
من كه ديدار تو ام امروز حاصل مى شود | *** | وعده فرداى زاهد را چرا باور كنم |
*** |
(إذا كان موعد لقائي بك سيتحقّق في نفس هذا اليوم، فلماذا أُصدّق بما يعدني به الزاهد في المستقبل؟!)
صوفى ابن الوقت باشد اى رفيق | *** | نيست فردا گفتن از شرط طريق |
(كن صوفيّاً ابن وقتك أيّها الرفيق، فالتأجيل ليس من شروط الطريق.)
في نفس هذه اللحظة..
عبادة الأحرار تكون لله لا للجنة أو النار
لاحظوا، إنّ هؤلاء يعملون كلّهم على إرشادنا إلى وضعنا الحالي، وليس إلى تعليق الآمال بالمستقبل، ويوجد فرق كبير بين أن يُعلّق الإنسان آماله على المستقبل على مستوى تفكيره وأهدافه من دون الأخذ بعين الاعتبار للوضعيّة الفعليّة، وبين أن يعيش الإنسان الحاضر في فكره على الدوام، وأن يتحرّك دائماً من خلال الوضع الفعلي الذي يعيشه، بحيث يحسّ في أعماق وجوده بالحيويّة والنشاط، وكما يقول أمير المؤمنين عليه السلام: لم أعبد ربّاً لم أره؛ بمعنى أنّني أرى الله تعالى الآن، وليس رجاءً للجنّة وخوفاً من جحيم المستقبل، بل في نفس هذه اللحظة.. بل وجدتك أهلاً للعبادة فعبدتك، هذه هي عبادة الأحرار، عبادة تخلّصت من المستقبل، عبادة تخلّصت من الأمل في المستقبل، هذه هي العبادة! وهي عبادة حرّرت نفسها من الارتباط بالمستقبل، فمن هو الإنسان الحرّ؟ هو ذلك الشخص الذي قطع علاقته بكلّ شيء.. بما سيُوعد به في المستقبل، بما سيُعطونه في الغد ـ سواءً أتى الغد أم لم يأت بالفعل ـ بما سيفعلونه به في الغد، بالعذاب الذي ينتظره غداً، بالجنّة التي يتوقّعها في الغد، بحيث لا يكون مثل ذلك الذي يرى نفسه في هذه المدّة مكبّلاً بالأغلال ومقيّد الأيدي والأرجل بالنسبة للمستقبل. عجيب جدّاً كيف أنّ أمير المؤمنين يُبيّن هنا للإنسان وضعه الحالي، وأنّ العبادة التي تُؤدّيها من أجل الجنّة تُصيّرك عبداً للجنّة، وتجعلك مكبّل الأيدي والأرجل، وتبيّن أنّك ترجو المستقبل فقط، وأنك نحيّت الله تعالى جانباً هنا. فمع أنّك تُؤدّي العبادة في الظاهر لأجل الله، إلاّ أنّك في الباطن تُؤدّيها لأجل موعد أوّل الشهر. فمع أنّك تلجأ أمام ربّ العمل إلى التعظيم والتبجيل.. يا سيدي أنا رهن إشارتك في كلّ ما تأمر به.. لكنك تكذب عندما تقول أنا رهن إشارتك! فإذا قال لك ربّ العمل بأنّه لن يُعطيك راتب في هذا الشهر، فسوف تأتي في اليوم التالي وأنت تشتكي من وجع البطن، وتعتذر عن عدم التمكّن من المجيء للعمل. أفلم تقل بأنّني رهن إشارتك، فلماذا كنت تكذب إذن؟! لقد كنت رهن إشارة المال الذي يُدفع لك في أوّل الشهر، غاية الأمر أنّك عوضاً أن تقول أنا رهن إشارة راتب أوّل الشهر، فإنّك تقول أنا رهن إشارتك. أنا حاضر لتنفيذ كلّ ما تأمر به، سمعاً وطاعة يا سيّدي، أنا رهن إشارتك! وصاحب العمل بدوره يقول له: عفواً، فهذا المكان هو مكانك من الأساس! كلّ واحد منهما يكذب على الآخر.. هذا يكذب على ذاك، وذاك يكذب عليه، هذا لأجل راتب أوّل الشهر، وذاك لأجل ألاّ يتعطّل عمله. فهنا لا وجود للحريّة، على من يُطلق اسم الحرّ؟ يطلق على الشخص الذي يُصلّي مثل أمير المؤمنين، فلا يطمع في الجنّة، ولا يلتفت إلى جهنّم. عندما يقول الله أكبر، لا تخطر الجنّة على باله، ولا يلتفت إلى جهنّم حتى يكون خائفاً منها. وأمّا نحن، فكيف هي صلاتنا وصومنا وحجّنا؟!
الذهاب إلى الحج للوصول إلى المعارف لا لإسقاط التكليف
[نحن نقول:] علينا أن نذهب إلى الحجّ، لأننا إذا لم نذهب، فإنّ الله سيعاقبنا غداً !! أليس الأمر كذلك؟! أليس ذهابنا إلى الحجّ بهذه النيّة؟ اسألوا هؤلاء الأفراد الذين يذهبون إلى الحجّ: لماذا تذهبون؟ فستجدهم يقولون: إن لم نذهب فإنّ الله سيعاقبنا بشدّة، وإن كان مستوى فهمهم أكثر قليلاً فسيقولون: إن لم نحجّ فسوف نُحسب من النصارى أو اليهود عند الموت، أو يقولون: فلنذهب إلى الحجّ لنرفع هذا التكليف عن كاهلنا!!
هل رأيتم؟ الأمر كلّه يرجع إلى هذه المسألة عندهم: لنرفع التكليف عن ذمّتنا، ونزيل هذا الثقل وهذا الحمل عن كاهلنا، وندفع العقاب عن أنفسنا، وإذا كان أملنا أكثر قليلاً فإنّ غاية ما نصل إليه هو أن نقول: فلنذهب لكي نحجز لنفسنا مكاناً في الجنّة.. هذا ما يقوله الأفراد الذين تغلّب جانب الأمل والرجاء عليهم، وأمّا أولئك الذين يغلب عليهم جانب الخوف فيقولون: في النهاية يجب أن نذهب، فإنّنا إن لم نذهب فإنّ الله سينزل بنا أشدّ العقوبة!
قبل مدّة بسيطة، رجع أحد معارفنا من الحجّ، فسألته: حسناً أخبرنا كيف كانت رحلتكم إلى الحجّ؟ فقال: الحمد لله.. لقد ذهبنا إلى الحجّ وأزلنا هذا التكليف عن ذمّتنا، وبهذا لم نعد مدينين لله بشيء! هذا ما قاله.. لقد قام وذهب إلى الحجّ لمدّة شهر كامل بهذا المقدار من الشعور والمعرفة.. فهو يقول: لم يعد في ذمّتنا لله شيء! ومن الواضح أن الله سبحانه وتعالى إنّما يتقبّل من أمثال هؤلاء بهذا المقدار فقط لا أكثر من ذلك!
وأمّا ذلك الشخص الذي يذهب ليشاهد ويرى ما الذي يجري هناك؟ ماذا يحصل في مكّة؟ وماذا يجري في منى وعرفات؟ فهو أصلاً لا يفكّر في الجنّة، ولا يخطر في باله التكليف وأنّ الله قد أوجب هذا الأمر عليه وما شابه ذلك، بل هو يقول: يا ربّ.. لقد جئت هنا لكي أفهم.. جئت إلى هنا لكي ألقاك.. جئت إلى هنا لكي أشاهد جمالك وأرى آثارك، فالتفكير في الجنّة والنار لا يخطر في باله أبداً...
كان يجري أحياناً بعض الحوارات مع بعض رفقائنا وأصدقائنا الذين كنّا في خدمتهم في الحجّ حول هذا الموضوع، وكنّا نرى أنّهم لم يكن يخطر في بالهم هذا التفكير بأن أداء الحجّ هو ذخيرة لهم للمستقبل.. لم يفكّروا بذلك أبداً؛ لا عند التلبية والإحرام، ولا في عرفة ولا في منى ... أصلاً لم يفكّروا في الجنّة والنار، بل كان كلّ تفكيرهم منحصراً في الرغبة بمشاهدة حقيقة ما يجري، وما هو الأمر الذي سيكتسبونه لأنفسهم فعلاً، وما هي المعارف التي سيحصّلونها، وأيّ انفتاح وشهود سيحصل لهم.. هكذا يكون الإنسان الحرّ.. الإنسان الحرّ هو هذا!
من كه امروزم بهشت وصل حاصل مى شود | *** | وعده فرداى زاهد را چرا باور كنم؟ |
[يقول: أنا سأحصل اليوم على جنّة وصال المحبوب، فما الذي يجعلني أصدّق وعود الزاهد المستقبليّة؟!]
هذا هو المراد من هذا البيت من الشعر.. فأنا اليوم أريد أن أرى ما هي الجلوة التي ستظهر لي من الحبيب؛ كيف سيتجلّى في عرفات؟ وما هي الجلوة التي ستظهر لي في منى والمشعر الحرام وعند رمي الجمرات؟ وأيّ تجلٍّ سأشاهد بسبب الطواف حول بيته الحرام؟ فأنا أسعى لهذا الأمر، وهذا هو المهمّ عندي.. لا أنّه تكليف واجب عليّ، ولا أنّني إذا لم أؤدّ هذا التكليف فإنّني سوف أحاسب غداً وأعاقب على التقصير، ولا المهمّ عندي أن أعرف الثواب الذي سيعطونني إياه في الجنّة إذا ما أدّيت هذا التكليف... ليس هذا هو ما يشغل بالي أصلاً.
إنّ مثل هذا الشخص يمكن أن يقال عنه أنّه ليس متعلّقاً في عبادته بأيّ شيء، فهو ليس عبداً لأيٍّ من هذه الأمور.. ليست رقبته مقيّدة بهذه الأمور، أمّا نحن فعبيد؛ لأنّ رقبتنا مقيّدة.. مقيّدة بأمل المستقبل.. مقيّدة بجهنّم والجنّة والحور العين والبرتقال والتفاح الموجود هناك، ولكنّ رقبة أمير المؤمنين عليه السلام ليست مقيّدة، فالبرتقال والتفاح والعقارب والحيّات وجهنّم لم تتمكّن من تقيّيده واستعباده، والأمر الوحيد الذي تعلّق به هو وصال المحبوب ولا شيء غيره، فهو عبد لهذا الأمر فقط؛ وهو أن يصل إلى وصال محبوبه وفقط.. فما هي الجنّة، وما هي النار؟ وما قيمتها أمام ذلك؟! فأين هذه المطالب والمسائل من تلك؟!
عندما كنّا نشارك في مجالس العظماء والأولياء، لم أسمعهم في حيّاتي يتحدّثون حتّى مرةً واحدةً عن النعم والآثار الظاهريّة للجمال والجلال الإلهيّ، بل كان حديثهم منحصراً عنه هو لا غير.. كان يدور كلامهم حوله هو.. حول لطفه ورحمته وعفوه.. حول الأمل والرجاء لا عن الخوف..
لطف إلهى بكند كار خويش | *** | نكته ى سر بسته چه گويم، خموش |
[يقول: فليفعل اللطف الإلهي فعله، إنّ سرّ ذلك أمر مغلق خفيّ فكيف يمكن أن أتحدّث عنه؟ ولذا سأظلّ صامتاً]
لقد كان حديثهم منحصراً في الأمل والرجاء واللطف الإلهيّ، وأمّا الكلام عن الجنّة وما فيها من نعيم، والدرجات الموجودة فيها، وما هي المسائل والآثار المتوفّرة في كلّ درجة.. فلم يكن يجري على لسانهم، بل لم يكونوا ليتنزّلوا بكلامهم وأحاديثهم وعلاقاتهم وتصرّفاتهم عن مقام الذات أصلاً.
المراد من عبارة اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً واعمل لآخرتك
إنّ لدى الإمام المجتبى عليه السلام عبارة عجيبة، قالها لجنادة عندما جاء لعيادته في آخر ساعات حياته الشريفة، في ذلك الحين قال الإمام عليه السلام لجنادة مجموعة من المطالب، ومن جملتها هذه العبارة: «اعمل لدنياك كأنّك تعيش أبداً، واعمل لآخرتك كأنّك تموت غداً» ، ويمكننا أن نقول إنّ المقصود من "الآخرة" في كلامه عليه السلام ليس يوم الآخرة والقيامة، بل المقصود هو باطن الدنيا، كما ورد ذلك في قوله تعالى: {يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ}۱، فالآخرة هنا ليست بمعنى المستقبل الذي سوف يأتي، بل هي بمعنى الباطن .. بمعنى "يساوي" في قولنا: إنّ عمل الصدق "يساوي" تلك النورانية الخاصّة، وأداء الصلاة "يساوي" هذه النورانيّة والقرب الخاصّين، والصوم "يساوي" ذلك التجرّد الخاصّ، وتلاوة القرآن "يساوي" ذلك الربط الخاصّ... فذلك الـ "يساوي" هو الآخرة المقصودة في كلام الأئمّة عليهم السلام، وإنّما يُسمّى يوم القيامة بالآخرة، لأنّ حقيقة ما نفعله في هذه الدنيا يظهر ويبرز في ذلك العالم الآخر، ولذا تُسمّى الآخرة بهذا الاسم. فالآخرة تعني ذلك الوجه الآخر، والظهور الآخر، والطرف الآخر. فأحد طرفي العملة المسكوكة يُظهر لنا أمراً معيّناً، بينما يُظهر لنا الطرف الآخر منها أموراً أخرى.. وهذا هو ما يسمّى بالآخرة؛ أي ذلك الفضاء الآخر الذي ينتقش في النفس.
يقول الإمام عليه السلام: لماذا التأخّر والتواني في تحصيل ذلك الفضاء الآخر، وهو فضاء النفس والروح والقلب؟ لماذا التأخّر فيه؟ وأمّا بالنسبة للدنيا وأمورك الدنيوية فلا داعي للاستعجال، فإذا وجدتها قد تأخّرت فلا تهتمّ بذلك، وليس من الضروريّ أن تستعجل كثيراً وتسعى جاهداً لتحصيلها. فمثلاً إذا كان عندك شغل مع أحد الأشخاص، وفي نفس الوقت وجدت أنّ حالك مُقبلة وجيّدة، ولم تكن قد قرأت ما عليك من القرآن لذلك اليوم، فعليك أن تقدّم قراءة القرآن، لا أن تقول لنفسك: دعني أتصّل بهذا الشخص وأقضي حاجتي معه أوّلاً، وعندما أنتهي من ذلك سوف أذهب لقراءة القرآن؛ لأنّك إذا اتصّلت به فلن يظلّ عندك ذلك الإقبال لقراءة القرآن. ولهذا عليك أن تؤجّل الاتّصال والحديث نصف ساعة أخرى، فنصف ساعة لا تؤثّر شيئاً.. هل عندك حاجة تريد أن تقضيها؟ لا بأس بتأجيلها ساعة أخرى .. «اعمل لدنياك كأنّك تعيش أبداً».. افرض أنّك ستعيش إلى الأبد.. فإن كان الأمر كذلك فلن تتحسّر على شيء.. فمن أيّ شيء تخاف؟ هل تخاف أن يفوتك هذا الأمر الدنيويّ؟ لا داعي للخوف فأنت ستظلّ موجوداً إلى الأبد في هذه الدنيا؛ فلأي شيء يصيبك الهمّ والغمّ؟! فالهمّ والغمّ ينبغي أن يكون حيث يخاف الإنسان أن تفوته الفرصة قبل أن يتحرّك، ففي هذه الحالة ينبغي عليه أن ينطلق بسرعة. مثلاً عندما يكون الإنسان بحاجة إلى دواء ما، وهو يعلم أنّ الصيدليّات سوف تغلق بعد قليل؛ لأنّ الساعة هي العاشرة ليلاً، فسوف يركب سيّارته ويذهب سريعاً إلى أقرب صيدليّة؛ ليدركها قبل أن يغلق الباب ويأخذ منها الدواء، وأمّا إنْ أعطاه الطبيب وصفةَ الدواء في الصباح، فسيقول: لا بأس عليّ.. ليس من الضروري أن أذهب الآن لشراء الدواء فوراً ، لأنّ عندي فرصة كبيرة لذلك، فالصيدليّات ستظلّ مفتوحةً حتّى الليل، وبالتالي إن لم أحضر الدواء الآن، بإمكاني أن أفعل ذلك بعد ساعة أو ساعتين، ولكن إذا لم أشترِ الدواء حتّى الليل فإنّ الفرصة ستفوت وسأقع في الخطر! فالإمام عليه السلام يقول لنا: بالنسبة لأمور الدنيا، لا تجعلها شاغلك الوحيد وهمّك الأكبر، بل اجعل همّك منصبّاً على أمور آخرتك.. هذه هي الأمور التي عليك الاهتمام بها وتقديمها.
الأشخاص على قسمين: قسم يقدم الأمور الدنيوية على الأخروية وقسم بالعكس
كان المرحوم السيّد الوالد يقول: إنّ الأفراد الذين يأتون إلى هنا على قسمين؛ فبعض الناس ينظّمون جميع برامجهم ويرتّبون كلّ أمورهم حتّى يتمكّنوا من ملاقاتنا، فهو مثلاً إذا كان بصدد المجيء إلينا وصادف أن طرق بابه ضيفٌ بشكل مفاجئ وبدون تنسيق مسبق، فإنّه يقول له باحترام: أعتذر كثيراً منكم.. تفضّل وادخل، وأرجو أن تنتظرني قليلاً فأنا عندي عملٌ مهمّ يجب أن أذهب إليه، وسأعود سريعاً. أو في بعض الأحيان قد يتلقّى اتصالاً هاتفياً في الوقت الذي كان عازماً فيه على الخروج لملاقاتنا، فيقول المتّصل: عفواً هل أنت في المنزل الآن؟ فيجيبه: أنا آسف! إنّي على وشك الخروج؛ وعندي عملٌ ينبغي أن أذهب إليه. أو مثلاً عندما يريد الخروج فإنّ زوجته المصونة المكرّمة تأتي إليه وتقول له: يا فلان إلى أين تذهب؟ فأنت وصلت إلى البيت منذ دقيقتين فقط؟! فيجيبها: اصبري قليلاً، فسوف أذهب إلى هناك وأعود لأنّ عندي عملاً مهمّاً، وسرعان ما أعود... وهكذا تجد هذا النوع من الأشخاص يحرصون على الحضور ويعملون على إزالة جميع العقبات التي تصادفهم.
ومن الناحية الأخرى نجد قسماً آخر من الأفراد يتصرّفون بشكل آخر، فمثلاً عندما يريدون المجيء يطرق ضيفٌ بابهم، فيُصابون بالحرج من الضيف، ويقولون: إنّ من المعيب أن نخرج الآن وقد جاء هذا الضيف.. لا بأس.. فلنجلس معه ربع ساعة، وبعد أن نقوم بواجب الضيافة نعتذر منه ثمّ نذهب، وهكذا يجلس هذا الشخص قليلاً، فيطرق الباب شخص آخر، ويتصّل غيره، وتتوالى الشواغل عليه، ثمّ تأتي زوجته إليه وتقول له: إلى أين تذهب تاركاً ضيفك؟ فهذا قبيح ومعيب، وأنت بإمكانك أن ترى السيّد كلّ يومٍ، وأنت تحضر في جلسات "ليلة الثلاثاء" وتحضر جلسات التفسير.. وهكذا تجده يتأخّر في الخروج، وعندما يصل، تكون الجلسة قد انتهت.. لقد ظلّ هذا الشخص يرجّح الأمور الأخرى حتّى انتهى الأمر!
كان سماحته يقول ـ ضمن شرحه لهذه الرواية ـ إن الأفراد على قسمين.. هناك أفراد يحرصون على الدنيا، فيزيحون كلّ شيء يقف في طريقهم من أجل الوصول إلى الدنيا، وهناك أفراد يزيحون كلّ الدنيا من طريقهم من أجل الوصول إلى الآخرة.
ونحن كنّا نشاهد هذا الأمر في ذلك الزمان، كان يُقال لأحدهم: يا فلان، لماذا لم تأت إلى الجلسة الفلانيّة؟! فيجيب: ماذا أفعل؟ ماذا أفعل؟ لقد حُرمنا التوفيق.. هذا من قلّة نصيبنا، فنحن بمجرّد أن أردنا الخروج من المنزل لنحضر الجلسة، فإذا بأخي زوجتي قد جاء من طهران ليزورنا، فلم نتمكّن من الخروج!
هل تعلمون ما هو معنى ذلك؟ إنّ معناه أنّ قيمة الحضور في خدمة أحد الأولياء الإلهيين لا يساوي عند هذا الشخص حفنة من التبن! ثمّ يطلق على نفسه اسم سالك ! يا عزيزي.. إذا جاء أخو زوجتك فقل له: أهلاً وسهلاً.. تفضّل واسترِح هنا.. فأنا عندي عمل مهمّ ينبغي أن أؤدّيه. أخبرني يا هذا.. لو كان عندك في هذا الوقت موعد عند الطبيب، وجاء أخو زوجتك من طهران، فهل كنت ستقول للطبيب: لقد جاء أخو زوجتي، ووجدت أنّ مغادرة المنزل ليست مناسبة بل معيبة، وكذلك كان رأي زوجتي؟!! أم لا ، بل إنّ نفس زوجتك كانت ستقول لأخيها: عذراً.. فإنّ زوجي عنده موعد عند الطبيب الآن، ولا بدّ أن يذهب؟! وهذا يكشف أن الذهاب إلى الطبيب، وهو يكلّف ألف تومان.. (لا أدري كم صارت كلفة زيارة الطبيب في هذه الأيّام!).. فعلاج ألمٍ في البطن أو في الأسنان أهمّ عند هؤلاء الأفراد من إدراك اللقاء مع أحد الأولياء الإلهييّن وأكثر قيمة!! هذا هو حالهم.
هذا هو معنى «اعمل لدنياك كأنّك تعيش أبداً، واعمل لآخرتك كأنّك تموت غداً» ، ولكنّ هؤلاء طبّقوا هذا الكلام بالعكس تماماً، فهم يعملون للدنيا بأسلوب «كأنّك تموت غداً»، وكأنّهم إذا لم يؤدّوا هذا العمل الدنيوي فإنّه سيفوت فوراً، ولن يمكن تعويضه، وأمّا الأمور المتعلّقة بالآخرة فيتعاملون معها بأسلوب «كأنّك تعيش أبداً»، فهو يقول لنفسه: إذا لم نذهب للقاء سماحة السيّد اليوم، فلا مشكلة، فنحن سنراه بعد بضعة أيّام، أو عصر يوم الجمعة، أو يمكن أن نذهب بعد ليلتين ونراه حينئذٍ!! إنّ هذا الشخص يتخيّل أنّ الذهاب للقاء السيّد العلاّمة هو من أجل رؤيته فقط، ولكنّه لا يعلم أنّ تلك الجلسة التي لم يحضرها ربّما كانت تشتمل على أمرٍ لن يحصل عليه حتّى آخر عمره! انتهى الأمر!! نعم.. قد تحصل على شيءٍ آخر، ولكن هذا مطلب مختلف.. شيء آخر، وأمّا ذلك الأمر فقد فقدته وضاع من يدك!
الله تعالى ينظر إلى قلب الإنسان وإخلاصه لا إلى عمله
والله سبحانه وتعالى ينظر إلى قلب الإنسان، فكما ذكرت للإخوة والرفقاء في الليلة البارحة أو التي قبلها، أنّ الله سبحانه يقول لنا: من أراد أن يعرف مدى علاقتي به وشدّة ارتباطي به، فلينظر إلى قوّة ارتباطه هو بنا، فأنا قريب منه ومرتبط به بنفس ذلك المقدار.. فلينظر ما هو مقدار أهمّيتي أنا عنده؟ وما هي موقعيّتي عنده؟ وكم بذل من نفسه في سبيل ذلك؟
طبعاً هذا لا يعني أن المسالة كذلك كيفما اتّفق، كلاّ! فهذه الأمور لها حسابات دقيقة، وفي كثير من الموارد التي كان بعض الرفقاء يريدون أن يُفرِطوا في إظهار المحبّة والتعلّق، كان السيّد العلاّمة يمنعهم من ذلك، وكان يرسم لهم الحدود التي لا ينبغي تجاوزها، فالمسألة ليست بهذه البساطة، فلا ينبغي للإنسان الإفراط، بحيث أن حاله يخرب.. كلاّ! فالحساب والكتاب في هذه المسائل محفوظ في محلّه، ولكنّ كلامنا هنا يدور حول مقدار الاهتمام الواقعي الذي نمتلكه؛ فما هو مقدار الاهتمام الذي عندنا تجاه سيرنا وسلوكنا في هذا الطريق؟ أمّا كيف يظهر هذا الأمر؟ وما هي الأمور التي يفعلها الإنسان في الظاهر؟ فذلك أمرٌ آخر، وله حساب وكتاب، وليس من حقّ أحدٍ أن يتجاوز الحدود التي يضعها العظماء لنا.. لا يحق لأحد تجاوز هذه الحدود، ولو حاول أحدهم تجاوز هذه الحدود فسوف يواجه ردّاً قاسياً ومحكماً!
فالحسابات والحدود محفوظة في محلّها، وقد حصل هذا بالفعل، حيث إنّ بعض الأفراد في زمن السيّد العلاّمة رضوان الله عليه كانوا يحاولون أن يسيئوا الاستفادة من الفرص المتاحة لهم، ويتعدّوا حدودهم، إلا أنّهم كانوا يمنعون من ذلك.. ولكنّ كلامنا في أن نأتي ونوجّه عدم التزامنا الجدّي وحالتنا القلبيّة، من خلال التعذّر بالتكليف الظاهريّ.. هذا هو موضع حديثنا، وها هنا نقول: إنّ الله تعالى لا يمكن أن يُخدع، إذا كنت مقصّراً في أمر ما فاعلم أنّ الله لا يمكن خداعه، فلا تحاول التحايل والمواربة، فكلّ شيء له محلّه المحفوظ، وكل إنسان يلقى نتيجة عمله.
أداء العبادة للوصول إلى نتيجتها الآن لا لسقوط التكليف
إنّ الأولياء والعظماء يدعوننا إلى هذا الجانب، ويسوقوننا إلى هذا الاتّجاه دائماً، وأمّا في المدارس الأخرى ـ حتّى في مسائل الفقه الظاهري ـ نلاحظ أنّ الدعوة هي إلى الطرف الآخر: «صلّ من أجل أداء التكليف».. «صلّ لأنّك إن لم تصلّ فسوف تعاقب».. «صلّ لكي تصلَ إلى ثواب الله ونعيمه».. «صمْ من أجل أن تحصل على ما وعد الله من الثواب»، ولا أحد يقول لنا: صمْ لكي تحصل الآن على نتيجة صومك، وصلّ لتقطف الآن ثمرة صلاتك، واقرأ القرآن لكي يحصل لك الآن ارتباط بالله تعالى.. لا أحد يقول ذلك. بل يقولون: اقرأ القرآن لكي يكون ذلك ذخيرة لك في الآخرة، وصم حتّى يكون ذلك ذخيرة لك في الطرف الآخر، فهذا هو ما يقال للناس في الظاهر. ولكنّ العارف ماذا يقول؟ إنّ العارف يقول: صلّ صلاتك لتحصل الآن على نتيجتها.. الآن! الآن في نفس الوقت الذي تصلّي فيه وتقيم ارتباطاً مع الله تعالى، فأنت عندما تقول: «الله أكبر» فأين تجد في هذه العبارة ذكراً للجنّة؟ لا ذكر لا للجنّة ولا للحور العين في عبارة «الله أكبر»، فكيف انتقل ذهنك من «الله أكبر» إلى الحور العين؟! الحور العين لهنّ رأس ويد ورجل، فأين وجدت ذكر الحور العين في «الله أكبر»؟!
نقول: «الله أكبر» خوفاً من جهنّم.. نقولها حتّى لا ينتهي بنا الأمر في جهنّم، فنحن نخاف من النار والعقارب والحيّات وما شابه ذلك، ولكن هذا ليس هو معنى «الله أكبر»، وليست هذه حقيقة {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمينَ} ، وليست هذه حقيقة {وَ لاَ الضَّالِّينَ}، ولهذا فإنّ الأولياء يقولون: عندما تقول «الله أكبر» فإنّ ذلك يعني أن تزيح كلّ شيء سوى الله تعالى جانباً، فماذا تشمل «سوى الله» هذه؟ إنّ النار هي «سوى الله»، والجنّة كذلك داخلة تحت «سوى الله»، وحور العين «غير الله»، والغلمان المخلّدون «غير الله» أيضاً.. إنّ جميع هذه الأمور هي «غير الله»، فعليك أن تدعها كلّها جانباً! هذه هي الصلاة التي ينبغي أن تصلّيها، لا أن تقول: «الله أكبر» من أجل أن يغرسوا لك شجرة في الجنّة، فهذه عبارة عن غرس أشجار وزراعة، فعندما نصلّي أربع ركعات فسوف نحصل على أربع شجرات، وأمّا عندما نصلّي ركعتين فسنحصل على شجرتين، وعندما نصلّي صلاة المغرب فسنحصل على ثلاثة شجرات، وأمّا صلاة الظهر والعصر فتعطينا ثمان شجرات... ها قد غرسنا ثمان شجرات من التفاح والبرتقال! هذه لم تعد «عبادة»! بل هذه عبادة العبيد، وعبادة التجّار.
العبادة الحقيقية هي تلك العبادة التي علّمنا إيّاها أمير المؤمنين عليه السلام: «بل وجدتك أهلاً للعبادة» .. ماذا يعني ذلك؟ إنّه يعني أنّني عندما أنظر إليك فإنّني شئت أم أبيتُ سأرغب بالتوجّه إليك بالمناجاة والمسألة؛ لأنّني لا أرى أحداً غيرك! والإمام السجّاد عليه السلام يقول: «فحقّق رجائي واسمع دعائي يا خير من دعاه داعٍ وأفضل من رجاه راجٍ» ، وهذا هو معنى قول أمير المؤمنين عليه السلام: «بل وجدتك أهلاً للعبادة».. يعني عندما أنظر إلى الأفراد من حولي.. أولئك الأفراد الذين نلجأ إليهم وندعوهم لأسباب مختلفة ولأغراض عديدة.. إذا نظرنا إلى كلّ واحد منهم، فسوف نجد أنّ كلاً منهم سيخذلنا في يوم من الأيّام؛ فمثلاً الصديق يأتي أوّل يومين نحو الإنسان ويتقرّب إليه، ويقول له: ماذا تأمر؟ نحن في خدمتك... وأمثال ذلك، ولكن في اليوم الثالث تجده يقول: عفواً.. عندي عمل ينبغي أن أذهب إليه وسأعود بعد ساعة، وفي اليوم الرابع يقول: سآتي بعد ساعتين، أمّا في اليوم الخامس فإنّه لا يردّ على التلفون أصلاً !! [تبسّم من سماحة السيّد] فهو يضع الجوّال على الصامت أو يغلقه بالكلّية، أو يستخدم بعض البرامج التي تتعرّف على رقم المتّصل، فإذا اتّصلت به يجيبك التلفون بشكل آليّ أنّ الرقم مشغول أو لا يمكن الاتّصال به الآن!! إنّ هذه من الأمور الجيّدة ها! فهذه الأمور التي صنعوها مفيدة جدّاً لنا لكي يُفهمونا حقيقة «يا خير من دعاه داعٍ» بشكل جيّد!! وأنّ جميع أولئك الذين يتودّدون ويتملّقون هم كاذبون مخادعون!
فبعض الناس يأتي ويتقرّب إلى الإنسان ليكون رفيقا وصديقاً له... وليس حديثنا بطبيعة الحال عن الرفقاء السلوكيين، فهؤلاء حالهم يختلف وحسابهم يتفاوت، بل الحديث عن رفقاء الدنيا.. فيتّصل الإنسان بمثل هذا الشخص فيأتي الجواب: عفواً.. إنّ الشخص المطلوب لا يمكن الاتصال به الآن!! التلفون موجود بجانبه، ولكنّ الجواب يأتي كذباً: إنّه ليس بالقرب ولا يمكنه أن يتحدّث الآن، إنّ سبب ذلك ـ كما ذكرنا سابقاً ـ هو أنّه لا يوجد عدّاد ليظهر لنا أنّ هذا المتكلّم يكذب، إذ لو كان هناك عدّاد على جبهة الإنسان يظهر مقدار كذبه، لكان الإنسان أكثر مراعاةً وانتباهاً لكلامه! يقول لك: إنّ فلاناً ليس بالقرب من هنا، والحال أنّه قريب جدّاً، بل التلفون بمتناول يده، ولكن غاية الأمر أنّه رأى رقمك فعرف أنّك أنت المتّصل قام بتشغيل ذلك البرنامج!! وهنا نفهم معنى «يا خير من دعاه داعٍ».
وكذلك الأمر لو كانت العلاقة مع شريكك في العمل مع اختلاف شكلها، فطالما أنّ العلاقة تناسبه وتنفعه فستجد أنّه يتودّد ويسلّم ويتلطّف، ولكن بمجرّد أن تتغيّر الظروف قليلاً، أو تحصل له فرصة أفضل، أو يكون في مجلس أفضل، فستجد أنّ معاملته قد تغيّرت، وأنّه لم يعد يتجاوب كما سبق، وهذا من حقّه أيضاً! إذ هل يتوجّب على الإنسان أن يظلّ ماسكاً لهاتفه في يده طوال الوقت ليجيب على كلّ من يتّصل به؟! إذا فعل ذلك فلن تبقى له حياة ليعيشها! واضح؟
معنى لا تأخذه سنة ولا نوم
ولكن عندما ننقل النظر باتّجاه الله سبحانه وتعالى، فسنجد أنّ الله ليس كذلك؛ فالله تعالى ليس عنده وقت مناسب ووقت غير مناسب، وليس عنده حال يستطيع أن يجيب فيه وحالٌ لا يقدر فيه على ذلك، وليس عنده وقت يكون فارغاً فيه وآخر يكون مشغولاً، فهو {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَ لا نَوْمٌ}.. لا ينام.. لا يغفو.. متى ما التفتَّ وتوجّهتَ نحوه، تجد أنّه كان متّجهاً نحوك قبل أن تلتفتَ إليه وأنّه كان بانتظار توجّهك إليه، وكّلما تمايلت نفسك تجد أنّه حضر قبل ذلك ثمّ حصل لديك الميل، ثمّ ناديته، ثمّ قلت له: لبّيك، ثمّ جئت وعرضت نفسك لخدمته. ففي الأوّل كان هو المبادر، ثمّ أنت، هو لا يتعب، وليس لديه حالة من الانبساط أو الانقباض، وليس لديه حالة المرض والصحّة، وليس لديه حضور وغياب، وليس لديه ملل وأمثال ذلك، ليس لديه شيءٌ من هذا، ما أعجبه من موجود! سبحانه.. ليس لديه نوم واستيقاظ!
كان هناك أحد الأفراد وقال: كنت في محضر سماحة السيّد الحدّاد رضوان الله عليه، وعندما أردت المجيء إلى إيران، قلت: يا سيد، ماذا ينبغي عليّ أن أفعل حتّى أعلم أنّه حصل بيني وبينك ارتباط؟ في أوقات أتّجه نحوك؟
كان يتخيّل أنّ عليه ـ لكي يحصّل الارتباط بين قلبه وقلب السيد الحدّاد ـ أن يدخل إلى غرفة خاصّة ويغلقها، ويطفئ الأنوار ثمّ يتأمّل.. وإلى ما هنالك من هذه الأفعال التي يقوم بها بعض المرتاضين والدراويش والمراويش.. فيتخيّل أنّ عليه أن يهيّء أجواءً خاصّة لكي يصل إلى عالم هفروت شفروت.. لا أعلم إلى أيّ عالم سيصل؟!! ويحصل بعدها الاتصال.. كان يعتقد أنّ التواصل سيتمّ بطريقة من هذا القبيل؛ وذلك لأنّ السيّد الحدّاد بطبيعة الحال لديه أوقات ينام فيها، وأوقات يتناول الطعام وأوقات يستريح بها؛ ولذا ينبغي أن يكون وقت التواصل وقتاً خاصّاً.
قال له: يا سيّد، متى يمكنني أن أجعل قلبي يتوّجه نحوك، وإن كان لديّ مسألة أريد أن أعرضها عليك؟
فأجابه السيّد الحدّاد: توجّه نحوي في أي لحظة من ساعات اليوم.. وفي أيّ ساعة من الساعات الأربعة والعشرين ليلاً أو نهاراً، وسترى الجواب.
في كلّ لحظة، أوَلا ينام؟! بلى كان ينام ونحن كنّا نراه ينام، أوَلا يتناول الطعام؟! بلى يتناول الطعام ونحن كنّا نراه يتناول الطعام، أوَليس لديه مجالس يتحدّث فيها؟! بلى كان يتكلّم وكنّا نراه يفعل. ومع ذلك قال له: في أيّ لحظة أردت، أليس كذلك؟ يعني: حتّى لو كان نائماً؟!!
قال هذا الرجل: لقد تعجّبت جداً من هذا الكلام، وكان هذا الكلام ثقيلاً عليّ، فهو يقول: في أيّ لحظةٍ أردت...
[يبتسم سماحة السيّد ويقول:] ومع ذلك يأتي البعض ويقول: «إنّ كلام أولياء الله ليس بحجّة!!» أليس قولهم هذا كلاماً خاوياً.. قبل أن نحاكمه ككلام فردٍ عاقل!!
بلى قال ذلك الرجل: لقد كان هذا الكلام ثقيلاً عليّ.
يقول: جئت إلى إيران، وبعد مدّة أردت أن أعود إلى العراق، لكن للأسف علق جواز سفري (كان ذلك في زمن الشاه) ومهما فعلت لكي أخلّصه لم أتمكّن من ذلك (مع أنّ بعض أقاربه كانوا من المتنفّذين في الإدارات)، ومهما فعلت إلاّ أنّ المسألة لم تعد بنتيجة أبداً، وفي آخر الأمر أخبروه أنّ المسألة لا يمكن حلّها، وأنّ المسألة قد تعقّدت فلا يمكن حلّها أبداً.
يقول: فجأةً تذكرت كلام السيّد الحدّاد، وكان الوقت عصراً وهو وقت نومه، فقلت في نفسي: هو قال: متى ما أردت أن تتّجه إليّ فاتجه.. وسترى الجواب. فقلت: لقد تعلّقت بأذيال ثوبك أيّها السيّد الحدّاد.
قال: عندما قلت تعلّقت بأذيال ثوبك.. رنّ الهاتف: يا فلان، تمّ الموضوع!!
في نفس اللحظة التي قال فيها تلك العبارة!! فلم تعبر حتّى دقيقة أو دقيقتين للمسألة، بل بمجرّد أن قالها، رنّ جرس الهاتف.. [يبتسم سماحة السيّد].. لم يصبر حتّى خمس دقائق أخرى، وكأنّه أصلح المسألة من قبل لكنّه كان منتظراً إلى أن يتوجّه هذا ويطلب المساعدة! فكأنّه يقول له: يا عزيزي، نحن قد أصلحنا الأمر من قبل ولسنا بحاجة حتّى للحظة واحدة! يقول هذا الشخص: لقد رنّ جرس الهاتف فجأة، وكان عمّي هو المتكلّم، فقال لي: يا فلان، لقد انحلّت المسألة الآن.. لقد وقّعوا على معاملتك بالموافقة! لقد انحلّ الأمر، وحصلنا على التوقيع المطلوب بدون أي سبب ولا علّة. يعني بمجرّد أن توجّه نحو السيّد الحدّاد طالباً المساعدة، انحلّت المسألة! وحتّى ذلك الشخص الذي كان يحاول التوسّط لحلّ المسألة تحيّر واستغرب من الأمر، فهذا المسؤول كان مصرّاً حتّى الآن على ردّ المعاملة، وعدم إمضائها، ثمّ وجد أنّه فجأةً يقول له: تعال أعطني المعاملة، فأخذها ووقّع عليها بالقبول! فما هي الحكاية؟ وما هو السرّ؟ هكذا يكون وليّ الله: {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَ لا نَوْمٌ}.
ألم يذكر المرحوم السيّد الوالد في كتابه "الروح المجرّد" هذا الأمر؟ لقد ذكر أنّه قال لسماحة السيّد إبراهيم الكرمانشاهي: إنّ أولياء الله نومهم ويقظتهم سواء! ألم يقل ذلك؟! فقال له ذلك السيّد: إن كان الأمر كذلك فامتحنه الآن؛ اسأله سؤالاً فهو نائمٌ الآن! فأجابه: لا أرى أنّ ذلك لائقاً! وفي اليوم التالي عندما كانوا جالسين على سفرة الطعام، قال سماحة السيّد الحدّاد ابتداءً: إنّ بعض الناس يقولون أنّ أولياء الله لا يفرق عندهم النوم واليقظة! إنّ هذا الأمر ليس بيدنا بل بيد الله يعطيه من يشاء! [تبسّم من سماحة السيّد]
إنّ هذا هو عين ما ذكرناه؛ إنّه يقول: في أيّ لحظة تطلب مساعدتي فسأجيبك؛ إذا ما كنتُ نائماً فسوف أجيبك وإن كنت أتناول الطعام فسوف أجيبك، وإن كنت أتحدّث في المجلس فسوف أجيبك! (لا يشغله شأن عن شأن).. وهذا هو ما يسمّى "مقام الجامعيّة"، ففي مقام جامعيّة الولاية لا يوجد انصرافٌ عن حيثيّة معيّنة بسبب الانشغال بحيثيّة أخرى، ففي آنٍ واحدٍ..
عدم صحة ما ذهب إليه الأصوليون من استحالة إرادة معنيين من كلام واحد
وهذا البحث موجود عند الأصوليين، فهم يبحثون عن هذه المسألة؛ أنّه هل يمكن للإنسان أن يقصد من كلام واحد في آنٍ واحد معنيين اثنين؟ حسناً.. بحسب الظاهر فإنّ ذلك غير ممكن، لأنّ كلّ كلمة لها مفهوم نفسي وكلام نفسي، وإرادة الإنسان لأيّ كلام تقتضي أن يترتّب عليه كلام ومفهوم نفسي واحد يكون مقصوداً منه... هذه هي المسألة المبحوثة عند الأصوليين، وفي أحد الأيّام سمع المرحوم الشيخ بهجت رحمة الله عليه هذا المطلب من السيّد الخوئي رحمه الله في مجلس درسه، وكان رأيه السيّد الخوئي في هذه المسألة كبقيّة الأصوليين.. رحمه الله.. السيّد الوالد ينقل عن السيّد الخوئي قوله: نحن لا نقدح في عدالة الأولياء والعرفاء كما يفعل الآخرون! حسناً.. يجب أن نشكره على هذا اللطف الذي أبرزه بأنّه على الأقل لم يقدح في عدالة الأولياء الإلهيين كما فعل الآخرون.. فلنترك الحديث عن هذا الآن، فحالنا لا يسمح أن نتحدّث عن الأمور التي سمعناها ورأيناها بخصوص هذا الأمر.
حسناً.. بعد أن سمع الشيخ بهجت هذا المطلب، قام بنقله لسماحة المرحوم السيّد القاضي رضوان الله عليه، فأجابه السيّد القاضي: كلاّ.. إنّ ما ذكرته صحيح بحقّ الأفراد العاديّين لأنّ سعتهم محدودة! اذهب وقل لسماحته: أنت عندما تتحدّث مع شخصٍ ما، وفي عين الوقت تحمل طفلاً بإحدى يديك، وإناءً من اللبن في اليد الأخرى، فهل حديثك مع هذا الشخص يحملك على الانصراف عن هذين الأمرين بحيث أنّك تترك الطفل ليسقط، وينقلب الإناء فيسقط منه اللبن أيضاً؟! أم لا.. بل أنت في آن واحد تتكلّم مع هذا الشخص، وتنتبه للطفل، وتحافظ على إناء اللبن أيضاً.. وكلّ ذلك حال محافظتك على جسمك أثناء الوقوف.. إنّ هذه عدّة إراداتٍ مختلفة متعلّقة بمصاديق مختلفة، وهي تصدر منك في آنٍ واحدٍ، فما هو الإشكال إذاً في أن يتمكّن الشخص الذي وصل إلى مقام الجامعيّة أن يقصد بكلامٍ واحدٍ في آنٍ واحدٍ معاني عديدة ومختلفة؟
لقد نقل هذه القضيّة سماحة الشيخ بهجت للمرحوم الوالد، وكنت حاضراً في ذلك المجلس.. قال سماحته: ذهبت في اليوم التالي إلى السيّد الخوئي وقلت له: إنّ كلامكم بالأمس يرد عليه هذا الإشكال، وبيّنت له الإشكال، فأجابني السيّد الخوئي فوراً: إنّ هذا ليس كلامك أنت! من الذي قاله لك؟ فهذا الكلام ما كان ليصدر منك! فقال له الشيخ بهجت: إنّ هذا كلام السيّد القاضي، فقال: نعم! من الواضح أنّ هذا الكلام صادر منه، فهذا الكلام ما كان ليخطر على بالك، ثمّ إنّ السيّد الخوئي لم يقدّم جواباً أو إشكالاً على هذا البيان.
حقيقة ولاية إمام الزمان عليه السلام وكونه واسطة في الفيض
حسناً.. [إنّ وليّ الله] لا يشغله شأن عن شأن.. فهذا هو مقام الولاية، وهذا هو مقام الإمامة، ففي مقام الإمامة لا يوجب الالتفاتُ إلى أمرٍ ما الانصرافَ عن أمرٍ آخر، فإمام الزمان عليه السلام وأرواحنا فداه، هو واسطة الفيض الإلهي الآن، فما هو معنى كونه واسطة؟ يعني أنّ كلّ واحد من الموجودات ما سوى الله.. يعني الموجودات من المادّيات أو المجرّدات.. إنّ جميع هذه الموجودات لولا إعمال الإمام نظره في كيفيّة إيصال الفيض إليها من المبدأ الفيّاض لانعدمت فوراً.. هذا هو معنى كونه واسطة، وهذا الأمر ينطبق بالنسبة للفيض الأوّل والفيض الثاني والثالث وهكذا.. وكذلك الأمر بالنسبة للأسماء والصفات الكلّية التي تتنزّل جميعاً، في كلّ موجود من الموجودات.
انظروا إلى أي فرد من الأفراد مثلاً.. فهذا الفرد من الحيثيّة الأولى حيٌّ.. موجودٌ، هذا الوجود الذي له.. لولا تعلّق إرادة إمام الزمان بوجوده لفنيَ وانعدم فوراً، يعني مثلاً هذا السيّد المكرّم الجالس هنا.. لو أنّ إرادة صاحب الزمان لم تتعلّق بوجوده الآن، فإنّني لن أراه أصلاً متّكئاً على هذا العمود، وعندما أنظر إلى مكانه فسأجد أنّه قد اختفى! أين هو؟ أين ذهب؟ وكيف اختفى؟! [يتبسّم سماحة السيّد]. ومن هنا يتبيّن أنّ حضوره هنا ورؤيتي له سببها أنّ إرادة الإمام قد تعلّقت الآن بوجود هذا السيّد الكريم من ذريّة رسول الله!
هذا أوّلاً.. هذا ما يتعلّق بأصل وجوده، وعندما نصل إلى الأمر الثاني فإنّكم ستندهشون وتتعجّبون كثيراً! فالأمر الثاني هو أنّه ما لم تتعلّق إرادة الإمام بمشاعر هذا الفرد وإحساساته كسماعه بأذنيه، فإنّه لن يتمكّن من سماع كلماتي وصوتي! ثالثاً: إذا لم تتعلّق إرادة الإمام بأن تتمكّن عينه من رؤيتي ومشاهدة شكل وجهي فإنّه لن يرى شيئاً من ذلك! رابعاً: ما لم يُرد إمام الزمان له أن يسمع ويفهم فإنّه لن يفهم شيئاً.. وهكذا سنرى أنّه ما لم تتعلّق إرادة الإمام، فإنّ أيّاً من الأسماء والصفات الجزئيّة لن تتحقّق فيه، وكلامنا هذا كلّه عن شخص واحد، فعليكم أن تضربوا ذلك في ستّة مليارات؛ أي عدد أفراد البشر على الكرة الأرضيّة، ثمّ اضربوا ذلك في عدد الكواكب والمجرّات، ثمّ اضربوا ذلك في جميع السماوات، وبعد ذلك احسبوا معهم جميع المجرّدات. وحينئذٍ ستفهمون ما هو معنى ولاية إمام الزمان!! يعني إنّ كل جفن يُطبق على عينٍ في هذا الوجود الآن، بل كلّ ذرّة تتحرّك في هذا الكون.. فإنّ نفس وجودها قائمٌ بوجود الإمام عليه السلام ونفسه! وهذا هو معنى {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَ لا نَوْمٌ}.
فحقيقة {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَ لا نَوْمٌ} متعلّقة بإمام الزمان عليه السلام، وحقيقة (لا يشغله شأن عن شأن) تصف حاله عليه السلام، ثمّ بعد ذلك يأتي بعضهم فيبحث: هل يمتلك الإمام علم الغيب أم لا؟!! [يضحك سماحة السيّد].. والإنسان لا يدري هل يضحك على هذا الكلام أم يبكي؟! فعندما يكون عندنا روايات تقول: «بوجوده ثبتت الأرض والسماء» و «بِيُمْنه رُزق الورى» .. إنّ معنى ذلك أنّ جميع الورى وكلّ ما سوى الله يُرزق بواسطة وجود حضرة بقيّة الله، وهذا يشمل الرزق العادي من الخبز والماء، ويشمل رزق العلم ورزق الحياة ورزق الكمال، فكلّ رزقٍ يفيضه مبدأ الوجود الإلهي المطلق والبسيط على كلّ العالم يحصل بواسطة إمام الزمان عليه السلام.
والوليّ الإلهي هكذا أيضاً.. غاية الأمر أنّ الولي الإلهيّ ليس له ذلك مستقلاًّ بل تحت ولاية الإمام عليه السلام [وضع سماحة السيّد إحدى يديه فوق الأخرى] هذه هي القضيّة! فليس الوليّ الإلهي في عرض إمام الزمان، فذلك يصير كفراً [وضع سماحة السيّد إحدى يديه بجوار الأخرى]، بل هو تحت ولاية الإمام، فهذا الوليّ حال كونه تحت ولاية الإمام عليه السلام (لا يشغله شأن عن شأن) ، و{لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَ لا نَوْمٌ} ، هذا هو معنى الولاية! هيّا.. بسم الله.. أخبروني أين الإشكال في هذا؟! هذا هو معنى الولاية!
والإمام السجّاد عليه السلام يدعونا إلى اتّباع هذه الولاية: «يا خير من دعاه داعٍ»، فمن هو أفضل مدعوّ في هذا العالم؟ إنّه ذاك الذي لا يمرض بحيث يعتذر بسبب مرضه قائلاً: أنا أعتذر منك الآن فأنا مريض، ولن أتمكّن من خدمتك. إن شاء الله سأكون في خدمتك في وقت آخر، وسأعمل على أداء هذا الأمر لاحقاً... أو يكون هو نفسه متورّطاً في مشاكل بحيث يقول: أنا نفسي متورّط وعندي مشاكلي الخاصّة، أو غيرها من الأعذار والموانع... أمّا الله سبحانه فإنّه حاضر دائماً؛ فإذا دعوته في أيّ وقت ستجده حاضراً سميعاً لا ينام، سواءً كان دعاؤك في منتصف الليل أو في الصباح أو بعد الظهر، واشتغاله في أمور سائر العباد لا يوجب غفلته عنك أنت العبد الخاصّ، فبمجرّد ورود اسمك في ضمن قائمة الموجودات فقد تمّ تسجيله وانتهى الأمر، وصار ظاهراً على شاشة الله تعالى (و أنا هنا أضرب مثالاً فقط فالتفتوا)، وبهذا فقد انقضى الأمر وتمّ، يعني أنّ شخصاً باسم السيّد محمّد قد تمّ تسجيله هنا، وبهذا ينتهي الأمر، فهذا الشخص لا يمكن أن يختفي في بعض الأحيان ويبرز في أحيان أخرى، ولا يمكن أن ينشغل الله عنه في بعض الظروف!
عدم اشتغال الإمام ببعض الناس عن بعض
قال السيّد الوالد ذات يوم: كنّا يوم الغدير في كربلاء، وكان الكثير من الرفقاء جالسين.. بعضهم كان قادماً من إيران وبعضهم الآخر من أماكن أخرى، ومن ضمنهم الحاج عبد الجليل الذي جاء من الكاظميين، وكان ابن السيّد الحدّاد الأكبر حاضراً، وكان ابنه هذا محترماً جدّاً، لقد كان هذا الرجل طاهراً وصافياً جدّاً إلى درجة أنّ كلمة الصفاء قليلة في حقّه، كان صافياً طاهراً يخلو من كلّ غلّ وغشّ، وكان هذا السيّد يريد الذهاب إلى النجف ليزور أمير المؤمنين ويعود، فالتفت إليه الحاج عبد الجليل، وقال: يا سيّد، عندما تذهب إلى هناك، فأنا لديّ حاجة، أرجو أن تذكرها لأمير المؤمنين، ثمّ خذ الجواب منه وأحضره معك، فضحك السيّد الحدّاد، وبعض من كان حاضراً، وقد قبل ابن السيّد الحدّاد بذلك ومضى، فذهب وعاد عصراً، وكانوا موجودين، فاستقبله الحاج عبد الجليل وقال له: هل ذهبت إلى هناك، وأخبرت أمير المؤمنين بحاجتي؟ فأجابه: بلى والله، لقد ذهبت وأخبرته، ولكنّ عليّا كان مشغولاً جدّاً فلا أدري أسمعني أم لا!! [ضحك من سماحة السيّد والحضور] أنا ذكرت له حاجتك، ولكنّ عليّاً كان مشغولاً جدّاً بسبب كثرة الزوّار والصراخ والدعاء هناك، فلا أدري أسمع أم لا! فلمّا سمع السيّد الحدّاد ذلك منه ضحك كثيراً هو والباقون.
[إنّ أمير المؤمنين عليه السلام] {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَ لا نَوْمٌ} و(لا يشغله شغلٌ عن شغل)، فهو لا يغفل ولا ينام، ولا يفرق عنده النوم واليقظة، ولا يؤثّر عليه كثرة الزوّار وارتفاع الأصوات... ولكن طبعاً أولئك الذين يذهبون إلى الحرم ويبدؤون بالصراخ ورفع الصوت، فإنّ فعلهم حرامٌ وخطأ، فالحرم ليس مكاناً للصراخ ورفع الصوت، بل هو مكانٌ للهدوء والسكوت ومكان للدعاء والتوجّه، فقد سمعت أنّ البعض يذهبون إلى الحرم ويشرعون بقراءة الأشعار بصوت عالٍ هناك! يا عزيزي، اذهب إلى منزلك واقرأ الشعر هناك، فالناس هنا يريدون أن يزوروا ويصلّوا ويدعوا... أفهل تظنّ أنّ هنا مكان إحدى الهيئات؟!! أو تجد بعضهم يذهبون إلى حرم الإمام الحسين عليه السلام فيشرعون بقراءة مجالس العزاء هناك! يا عزيزي، اذهب إلى منزلك، واقرأ مجلس العزاء هناك! لماذا تقرأ هنا؟! أو يمكنك أن تذهب إلى الصحن فتختار أحد أطرافه وتقرأ هناك، ونحن نشاهد ذلك، فبعضهم يذهب إلى أطراف الصحن فيقرؤون مجلس عزاء أو لطميّة هناك، أمّا في داخل الحرم .. فهذا مكان للعبادة ومكان للسكوت والتوجّه، وهذه الأفعال سبب لمزاحمة الآخرين وأذيّتهم ولذا فهي خاطئة بل يمكن أن نقول أنّها مخالفة للشرع.
الإمام يدعونا إلى أفضل من دعاه داع
إنّ الإمام السجّاد عليه السلام يقول لنا: تعالوا إلى هنا.. تعالوا إلى هذا الربّ .. «يا خير من دعاه داعٍ، وأفضل من رجاه راجٍ»، يا من هو أعلى من كلّ مرجوّ ومأمول، وذلك أنّ الإنسان حتّى لو كان عنده أملٌ في شخص ما، فإنّه مع ذلك يحتمِل أن يخذله فلا يقضي له حاجته بشكل صحيح وكما ينبغي، فمن الممكن أن لا يسعى في قضاء حاجته بكلّ طاقته بل ببعضها فقط، أو يتأخّر قليلاً في أدائها.. وأمثال ذلك، فهذا الأمر ممكنٌ حتّى لو كان هذا المرجوّ هو والد الإنسان أو أمّه أو أخوه، ففي هذه الدنيا التي ينادي كلّ شخص فيها "وا نفساه" يشاهد الإنسان كلّ ذلك، وتحصل له كلّ أنواع التجارب، ويا لها من تجربة مفيدة أن يكشف الله للإنسان ويريه بعينه كيف أنّ أولئك الأشخاص الذين كان يرجوهم ويعلّق آماله عليهم.. أخوك.. أختك.. ابنة خالتك.. ابنة العمّة.. ابن الخال.. ابن العمّ.. الشريك.. الصديق.. العمّ.. الأقارب.. فهؤلاء يقولون للإنسان: نحن نحميك وندعمك.. اتّكل علينا ولا تقلق، فجميع هؤلاء سيأتي يومٌ يتخلّون فيه عن الإنسان ويقطعون أمله فيهم.
خذلان بعض الأصدقاء بعضاً إلا الله تعالى فلا يخذل أحداً
كنت جالساً ذات ليلة مع أحد الأشخاص فقال لي: لماذا لا تهتمّ بفلانٍ ولا تعطيه ما يستحقّه من الأهمّية والعناية؟ لماذا؟ فهو الآن يفعل كذا وكذا..
فقلت له: أنا لا أنظر إلى ابتساماته الذي يقابلني بها الآن، بل أنظر إلى موقعيّته بعد سنتين أو ثلاث سنين.
فقال لي: كلاّ.. إنّ ما تفعله خطأ واشتباه و...
فمضت الأيّام والمسائل والأوضاع، وبعد سنتين أو ثلاث تغيّرت الأحوال والأمور، فإذا بجميع تلك الابتسامات قد ذهبت وتلاشت! وليت الأمر اقتصر على اختفاء الابتسامات! فقد حلّ محلّها ألف أمرٍ آخر غيرها، وحلّت محلّها ألف مسألة من نوعٍ آخر!
وذات يوم قلت لذلك الشخص [الذي كان ينصحني قبل مدّة]: كيف حالك الآن؟ ها أنت ترى المطالب والأمور بنفسك، وتشاهد الأحداث بعينيك.. هل تذكر الحديث الذي دار بيننا قبل سنتين أو ثلاث سنوات؟!
إنّ جميع الابتسامات والمجاملات التي يواجهك بها الناس نابعة من أغراضهم ومصالحهم وحساباتهم، ولكنّ الأوضاع تتغيّر، والظروف تتبدّل، فلا تبقى هذه الابتسامات بل تختفي وتتغيّر إلى أمور أخرى! فكم هو جيّد لو أنّ الإنسان يلتفت ويفهم الأمر منذ الآن.. يفهم حقيقة موقعيّته وأحواله.. فيعرف ماذا ينبغي عليه أن يتصرّف الآن.
طبعاً إنّ كلّ كلامنا يتعلّق بالصداقة العادية والرفاقة المتداولة، وأمّا الأخوّة والرفاقة في طريق الله فحكمها يختلف، ولها حساب آخر، فهي خارجة عن دائرة هذه الأمور التي ذكرناها، بل كلامنا عن الصداقة العاديّة التي نراها في الدنيا.. عن تلك الصداقة المبنيّة على المصالح الماديّة والعلاقات والآمال الدنيوية...
فالإمام السجّاد عليه السلام يقول: إذا كنت أريد أن أعلّق آمالي على أحد، وأجعله موضعاً لرجائي، فهل أجد شخصاً أفضل منك؟! وإذا أردت أن أدعو أحداً وألجأ إليه، فلا يوجد أحدٌ خيرٌ منك؛ فأنت تجيبني سواءً في منتصف الليل، أم في الصبح أم بعد الظهر، في الشدّة أم في الرخاء، وفي كلّ مكان، بل إنّ جوابي جاهز قبل أن أسأل، فأنا أصل إلى مرادي من خلالي طلبي وسؤالي، ولكنّ ك في الواقع قد أعددت الجواب، وحفظته عندك، ولسان حالك يقول: اسأل واطلب لترى كيف ألبّي حاجتك، أمّل بي وارجوني لترى كيف يتصرّف مرجوّك وتشاهده.
ولهذا فعلى الإنسان في سيره وسلوكه في طريق الله أن يلتفت إلى هذه النكتة وهي: أنّ السير إلى الله ليس عبارة عن الأمور الدنيويّة، بحيث يكون على الإنسان أن يؤدّي بعض المسائل لكي يصل إلى المقصد والمطلوب "لاحقاً وفيما بعد"، فذلك محفوظ في مكانه، بل إنّ السير نحو الله عبارة عن الحركة في كلّ ثانيةٍ وفي كلّ لحظةٍ، واستلام الأجر والثواب عن ذلك فوراً في نفس تلك اللحظة.. هذا هو معنى السير والسلوك! وبطبيعة الحال فإنّ كلّ واحد من هذه المراتب يصبح مقدّمة للمرتبة التي تليها حتّى يصل الإنسان إلى تلك النتيجة النهائية.
لقد انتهى الوقت، ولذا سنكِل باقي المطالب إلى الليالي القادمة إن شاء الله، لكي نعرف كيف أنّ الأمل بالله تعالى توجب حركة الإنسان وشوقه، وكيف أنّ هذه الحالة في النفس تسبّب تغيّر القيم وتبدّلها، فيتحوّل الأمر الذي كان سيئة إلى ثواب وحسنة، فالله لا يغفر ذنوب الإنسان فقط ويعفو عنها، بل يبدّلها إلى خير وحسنات، وسنعرف كيف يحصل هذا النوع من التبديل؟
اللهم صلّ على محمّد وآل ومحمّد