المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني
القسمعنوان البصري
المجموعةالعلم والتعلم
التوضيح
شرح فقرة : وأما اللواتي في العلم : فاسأل العلماء ما جهلت ، وإياك أن تسألهم تعنتا و تجربة وإياك أن تعمل برأيك شيئا ، وخذ بالاحتياط في جميع ما تجد إليه سبيلا ، و اهرب من الفتيا هربك من الأسد ، ولا تجعل رقبتك للناس جسرا
هو العليم
التخلّي عن النفس قبل سؤال العلماء
شرح حديث عنوان البصريّ - المحاضرة ٢٤۰
ألقاها:
آية الله الحاجّ السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ
قدس الله سره
أعوذ باللـه من الشيطان الرجيم
بسم اللـه الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين
والصلاة والسلام على سيّدنا ونبيّنا أبي القاسم محمد
وعلى آله الطيبين الطاهرين
واللعنة على أعدائهم أجمعين
"وأمّا اللواتي في العلم فاسأل العلماء ما جهِلت، وإيّاك أن تسألهم تعنُّتًا وتجربة، وإيّاك أن تعمل برأيك شيئًا، وخذ بالاحتياط في جميع ما تجد إليه سبيلاً، واهرب من الفُتيا هرَبك من الأسد، ولا تجعل رقبتك للنّاس جسرًا".۱
ما يجب أن أوصيك به فيما يرتبط بالعلم يا عنوان هو أن تسأل أهل العلم والمعرفة عمّا تجهله، وحينما تكون جاهلاً فلا تقم بعملٍ من تلقاء نفسك. ولكن احذر أن تكون الغاية من سؤالك هي تحقير العلماء والحطّ من منزلتهم وامتحانهم، كأن تسألهم لاختبارهم وامتحانهم، أو لتتباهي باختبارك لهم وامتحانك وتجربتك إيّاهم.
واحذر أن تعمل برأيك أبدًا!! ولا تعمل وفقًا لتفكيرك، بالطّبع إنّ الرأي والتفكير الذي يعنيه الإمام هنا هو الذي لا يكون منطبقًا على الموازين ولا يكون نتيجة للتحقيق، وإلا لو كان الرأي مبنيًّا على أساس العلم واليقين، ومنطبقًا على الموازين العلميّة والمباني اليقينيّة، لكان العمل به أمرًا مستحسنًا جدًّا.
واحتط في أمورك قدر ما تستطيع، احتط بما يمكنك في شؤونك ـ واقعًا إنّها فقرات عجيبة! ـ "وخذ بالاحتياط في جميع ما تجد إليه سبيلاً"، لو عملنا بهذه الفقرة ما الذي سيحصل؟!
خطورة التصدّي لمقام الإفتاء والتحوّل إلى وسيلة للآخرين
"واهرب من الفُتيا هرْبك أو هرَبك من الأسد" فكما تهرب وتفرّ من الأسد فاهرب بنفس الطريقة من إعطاء الفتوى للنّاس، أي إيّاك أن تفتي بين النّاس! بالطّبع كلّ فقرة من هذه الفقرات لها بحوث مفصّلة تختصّ بها، و سنوضحها إن شاء الله إلى حدٍّ ما بمقدار ما يوفّقنا الله إليه، وبحسب بضاعتنا الناقصة.
فما هي نظرة الإمام عليه السّلام بالنّسبة لمسألة الفتوى حتّى يعبّر بهذا التّعبير ويحذر عنوان ويقول له: إيّاك أن تجعل نفسك وسيلة لتصرّف النّاس.
فتارة يكون للإنسان رأيٌ ما ونظرة خاصّة كأن يكون مجتهدًا ـ ومن المسلّم أن التّقليد حرام على المجتهد ـ فيصل المجتهد إلى رأيٍ ما أو نظرٍ ما، وبالتّالي يتوجّب عليه العمل طبقًا لما توصّل إليه، ونحن مأمورون بهذا ولا إشكال فيه، ولو سأله سائل فيقول: رأيي هو هذا، إن أردتَ فاعمل به أو لا تعمل، ولا أجبرك أن تعمل به.
وفي بعض الأحيان يأتي ويقول للناس: تعالوا واعملوا وفقًا لرأيي. فهذان نوعان، والنوع الثاني هو مورد الحديث لا الأوّل، هذا الثاني هو مورد الكلام؛ وإلا فإنّه لا يجوز لأيّ مجتهد أن يُعطي ويبيّن غير رأيه هو، لماذا؟! لأنّ الرأي الآخر باطل عنده، ولا يجوز له شرعًا إعطاء رأيٍ وحكم باطل لأحد. بالطّبع وكما أشَرْت فإنّ هذه القضيّة لها أبحاثها الخاصّة بها، كما أن أبحاثها تخصّصية.
ولكنّ كلام الإمام هو فيما يخص إظهار الفتوى للناس؛ كأن يقوم الإنسان بإصدار إعلان أو رسالة أو بيان، ويقول فيه: هذا هو رأيي، يا أيّها النّاس! تعالوا واعملوا وفقًا لهذه الرّسالة [العمليّة] التي كتبتها، وإن شاء الله يكون العمل بها مجزئًا.
"ولا تجعل رقبتك للنّاس جسرًا" لا تجعل رقبتك جسرًا للنّاس يمضون عليه، يركبون عليك فيصِلون إلى رغباتهم، يستعينون بك ويجعلونك واسطة لأهدافهم غير الشرعيّة والأهداف... مثل من؟! مثل ابن زياد حينما أمر شريحًا القاضي بإصدار فتوى تقضي بأنّ الحسين بن عليّ خارج عن الدّين والشّريعة، أي عن شريعة جدّه، فيجب إذن صدّه، حسنًا! ما الذي نلته يا جناب شريح؟! كيس من الذّهب، كيس واحد من الذّهب، بهذا الكيس من الذّهب تأتي وتمضي على أنّ صدّ الحسين بن عليّ واجب!! وبسبب عملك هذا يقوم الأفراد بتجهيز الجيوش وتشكيل القوّات، ثمّ يتحرّكون باتّجاه كربلاء وماذا فعلوا؟! أتوا بتلك الواقعة. من الذي وصل [جرّاء هذه الفتوى] إلى أهدافه؟ ابن زياد هو الذي وصل إلى أهدافه ويزيد كذلك وصل إليها، وعمر ابن سعد وصل... ـ لا بل عمر بن سعد لم يصل لأهدافه بل كان سيّء الحظّ ـ أولئك هم الذين وصلوا إلى أهدافهم. لقد جعلوا [شريحًا القاضي] جسرًا لهم، واستخدموه وجعلوا منه وسيلة وآلة للوصول إلى أهدافهم، فصارت التّعاسة واللّعن والوِزر والوبال في الآخرة مِن نصيب مَن؟ صارت من صيب شريح، يقول الإمام "ولا تجعل رقبتك للنّاس جسرًا" كن حذرًا يقظًا أيّها التّعيس، كي لا يتّخذوا منك مطيّة يركبونها، يركبون عليك ليصِلوا إلى طموحاتهم تلك وأهدافهم، فالإنسان لا يصل إلى أهدافه هكذا وبكلّ بساطة، بل يحتاج الأمر إلى مقدّمات ووسائل وأسباب ووسائط، فلا بدّ من وجود عدد من الناس، مجموعة تلتفّ حول الإنسان، وأخرى ترفع صوتها بالصلوات وتقول: ارفعوا أصواتكم بالصلوات، وأخرى تشتغل بطباعة الجريدة، وأخرى لا أدري أي شيء تصنع، فأي شيء هم هؤلاء؟! إنهم وسائل؛ وإلّا لما أمكن أن تحصل الواقعة.
حسنًا، من هم الذين سبّبوا حصول هذا الأمر وتحقّقه؟ هؤلاء هم من قاموا بذلك.
حسنًا على كلّ حال إن شاء الله نتكلّم عن هذا الموضوع لاحقًا.
سؤال العلماء
كان كلامنا يدور حول مسألة العلم حيث يقول الإمام الصادق عليه السلام: "اسأل العلماء ما جهلت" فلا تقدم على أمر لا تعرفه؛ بل توقّف، ثم اذهب واسأل من هو عالم به؛ وذلك لكي تصل إلى مرتبة العلم. لقد ذكرنا في الجلسة الماضية للرفقاء إن كنتم تذكرون، أنّ المهمّ هنا مسألتان أو ثلاث، وسنبدأ فعلاً بالمسألة الأولى، وهي مستفادة من قوله عليه السلام: "واسأل العلماء" في قوله "فاسأل العلماء ما جهلت" فأيّ عالم هو هذا؟ ومن هو العالم الذي ينبغي سؤاله؟ وأيّ عالم ينبغي أن يُقصد؟ فهل كلّ من ترى له ظاهرًا حسنًا فهو عالم؟! هل كلّ من ادُّعى أنّه عالم أو ادُّعي له ذلك، فعلى الإنسان أن [يدقّق]...
ضرورة التخلّي عن النفس وإخلاص النيّة قبل سؤال العلماء
انظروا، قد نأخذ نحن المسائل على نحو الهزل وعدم الجدّية؛ ولكنّ الإمام الصادق عليه السلام لا يقول شططًا، بل يبيّن المسألة على حقيقتها، فيقول: إن أردت أن تكون شقيًّا وتعيسًا، فلماذا تقرأ رواية عنوان البصري؟! فاذهب وقم بما تحبّ وما تريد، وبأيّ كيفيّة تريدها وبأيّ نحو، وابنِ أعمالك كلّها على نحو "إن شاء الله يكون عملي صحيحًا" و"إن شاء الله يكون خروفًا"، فيمكن تمضية المسائل بهذا النحو؛ ولكن بما أنّك أتيت إليّ يا عنوان قائلاً: أنا لا أريد أن أكون من الأشقياء [فالأمر يختلف].
قصّة السالك المتمرّد وعدم استفادته من سؤاله
لقد كنت في خدمة المرحوم العلامة في مشهد ذات يوم، وقد ظهر عند أحد تلامذته شيء من التمرّد، فكان العلّامة لا يلتفت إليه ولا يهتمّ به، وقد مرّت مدّة على ذلك بحيث لم يكن يلتفت إليه؛ فقد كان متمرّدًا، ولم يكن العلامة يلتفت إليه.. فجاء ذاك الرجل إلى مشهد لكي يفهم حقيقة الأمر ـ وقد كنت أنا جالسًا هناك ـ علمًا بأنه كان على علم بالسبب، ولم يكن جاهلاً، فجميعنا نعلم ما هي مشاكلنا، كلّنا نعرف أين تكمن مشاكلنا، كلّنا نعلم، وكلّ إنسان يعرف ذلك بحسب مقدار فهمه وبحسب مقدار إدراكه، واللهِ كلّنا نعرف، وإني أقسم على أننا كلّنا نعرف؛ ولكنّ المهمّ هو هل أنّنا في مقام العمل نلتزم بعلمنا هذا أم أنّنا لا نلتزم؟ فقد تكلّمت في يوم ميلاد الإمام الحسن العسكري عليه السلام عن تلك الرواية الواردة عن الإمام الحسن العسكري عليه السلام عندما سُئل عن علماء اليهود وعلماء النصارى، وعن علماء المسلمين، وعن الفرق بينهم، فقال عليه السلام: "بلى من عرف الله من قلبه أنه لا يريد إلا صيانة دينه، وتعظيم وليه، لا يتركه الله في يد هذا المتلبس الكافر".۱ فلو علم الله من قلب إنسان أنّه يريد أن يتّبع الواقع، لا أنّه يريد أن يقضي حياته في هذه الدنيا بلا طائل، لا يريد أن يقضي حياته مثل حمار الطاحونة، يمرّ عليه الليل ثم يصله بالنهار وكذا يصل النهار بالليل بأي نحو كان وبأي شغل، فهو مثل النعامة التي وضعت رأسها في الرمال؛ فهو لا يريد أن يكون كذلك بل يريد أن يتابع ويستمر، يريد أن يتابع المسألة، فهو يعلم بأنّ الفرصة ستنقضي، ويعلم بأنّ الله لم يعطه عمرين وإنما أعطاه عمرًا واحدًا، وهذا العمر في طور الانتهاء، فليس هناك ضمان للإنسان أنه سيبقى إلى الغد، فإن كان أحد من الحاضرين عنده ضمانة أنه سيبقى إلى الغد فليرفع يده!! ابتداءً منّي وانتهاء بالباقين، فلم يأخذ أحد ـ أبدًا أبدًا ـ ضمانًا من حضرة عزرائيل بأن يبقى حيًّا إلى الغد، أليس كذلك؟! فلو علم الله أنّ إنسانًا عنده هذه الحالة... [فإنّه يقيّض له مؤمنًا يقف به على الصراط]
كلّ المشكلات ترجع إلى النفس لا إلى الجهل والحلّ هو التضرّع إلى الله
كنت أقول للدكتور في طريقي إلى هنا: القضيّة كلّها ترجع إلى النفس، كلّ المسائل ترجع إلى النفس، لا إلى العلم ولا إلى المعلومات ولا إلى العقل ولا إلى الفكر ولا إلى الانتساب، كلّها ترجع إلى النفس، كلّها ترجع إلى النفس، فعندما يكون لهذه النفس تدخل في المسألة، فلو جاء رسول الله لن يقبلوا بكلامه، لن يقبلوا حتّى بكلام رسول الله، لِمَاذا؟ لأنّ النفس تتدخّل، وإن لم يكن للنفس دخالة، فإنّ خمس دقائق كافية لحلّ كلّ شيء، فهذا إن لم تكن النفس في البين. فإذًا علينا أن نهتمّ بأنفسنا أولاً، نحلّ مشكلتها أولاً، وإنما يكون ذلك بواسطة التوسّل فنقول لله: يا الله إنّك تعلم ضعفنا ونقائصنا وأوضاعنا؛ فأنت من خلقتنا وسوّيتنا، فخذ بأيدينا إذن. فإذا انحلّت مشكلة النفس، فقل عندها ما شئت فليس هناك مشكلة، فعندما تنحلّ مشكلة النفس لن يكون هناك مشكلة، ولن يكون هناك صعوبة، ولا حاجة حينئذٍ لكتابة مقالة ونشرها هنا وهناك، ولا حاجة لكتابة الكتب ولا إلى المحاضرات بهذا المقدار، لماذا؟ لأنّ الطرفين يعلمان ما هو الحق في المسألة، فلماذا يُحتاج إلى الكتابة؟! فنستنتج من هذا أن جميع هذه المقالات التي تكتب هدفها إخفاء الحق، فمن بدايتها، ومن "بسم الله " التي يشرع فيها يظهر أن هدفه منها هو إبطال الحقّ، ولا حاجة إلى قراءتها حتّى آخرها؛ لأنّ نفس الكاتب يعرف بأنّه يكذب. إذن ليس المهمّ في المسألة ما قاله فلان وما قاله فلان، المهمّ هو ما يحدث هنا "وأشار إلى الصدر"، ما يحدث هنا، وما هي حالة النفس وما هو وضعها؟! وعلى هذا الأساس يقرّر الإنسان ماذا عليه أن يصنع.
لقد جاء ذاك الرجل إلى المرحوم العلامة قائلاً: ما الذي فعلتُه لكي تعاملني بهذه الطريقة؟!
ألا تعلم ما الذي فعلتَه؟! ألم تسمع بالرسائل التي أرسلها لك المرحوم العلامة، يخبرك بها عن أخطائك؟! أنا بنفسي أبلغتك بها، ألم تسمع بها ثمّ خالفتها؟! ألم يقل لك العلامة: لا تقل هذا الكلام وأنت قلته؟! ألم يقل لك لا تقم بالعمل الفلاني وقمتَ به؟! ثمّ تأتي وتقول: ما الذي فعلتُه؟! هل تحاول المراوغة؟! وتحاول اللّف والدّوران؟! هل الأمر كذلك؟! أتُحاول الاحتيال على القاضي؟!
كي لا أنسى سأُنهي الرّواية التي بدأتُ بها أوّلاً ثم نكمل الحديث. يقول الإمام العسكري بعدها: "بل يقيّض له مؤمنًا يقف به على الصراط" حينما يرى الله أن حاله بهذا الشّكل يأتي بمؤمنٍ ويجعله في طريقه، أيًّا يكن هذا المؤمن، سواءً كان معمّمًا أم من دون عمامة، وسواء كان رجلاً مسنًا ابن تسعين سنة أم شابًّا ابن ثلاثة وعشرين سنة، لا فرق في ذلك، فحينما يشاء الله أن يأخذ بيد أحدهم فسيأخذ بيده، ولا فرق عند الله بأيّ وسيلة يأخذ بيده، فترى هذا الرّجل يمشي في طريقه وفجأة يخطر في باله أن يشتري كيلوًّا من البرتقال، ويكون في متجر لبيع الفواكه شابّ واقف، فينظر إلى هذا الشاب ويقول في نفسه: يا له من شابٍّ حسن المظهر جميل الطلعة. فيسلّم عليه بحفاوة، فيردّ عليه ذلك الشّاب السّلام، فالله يُلقي في قلب هذا الشّاب كما ألقى في قلب ذاك الرّجل أن يردّ عليه مرحّبًا ويتفاعل معه بشكل مناسب.
وأثناء حديثهما يتفوّه الشّاب بكلام، فيتعجّب منه ذاك الرّجل ويقول في نفسه: يا للعجب! يا له من كلام دقيق! ما هذا الكلام؟! لماذا لم أنتبه إلى هذا الأمر من قبل؟! ولماذا حتّى الآن لم أصل إلى هذه المسألة؟!
هذا والحال أنّ عُمْر هذا الرّجل ستّون عامًا بينما ذاك الشّاب في الثالثة والعشرين من عمره، ولكن شاء الله أن يوصل أمرًا ما إليه على لسان هذا الشٍّاب. فتراه يقول له: لن أدعك تذهب، وعلينا أن نكون رفيقين، ولا تظن أنّك أتيت إلى هنا عبثًا، فلن أدعك تذهب. خلاصة الأمر أنّه ينظر إلى هذا الشّاب ويتعجّب منه ومن كلامه ومن المسائل التي يُلقيها فيقوم بالتّمسك به ويدقّق في كلامه ويقيس الأمور التي يقولها فيرى أنّها تنطبق مع فطرته.
خلوّ دعوة الأنبياء من الأغراض النفسيّة وانسجامها مع الفطرة (معيار الأخذ من أيّ أحد)
لماذا كان الناس يميلون إلى الأنبياء؟ لأنّهم كانوا يرون بأنّ كلام الأنبياء يتناسب مع فطرتهم، هل التفتُّم؟ أنتم إذا تحدّثتم إلى النّاس باسم (الله) وكان من وراء حديثكم هذا أهداف وأغراض شخصيّة، فإنّ مخاطبكم سيشعر بذلك ولن يميل ويتوجّه نحو هذا الإله، وإنّما يميل ويتوجّه نحو إله لا يكون من ورائه أغراض ونفاق. إنكم الآن تستمعون إلى كلامي وتصغون إليّ، وتظنّون أنّي على شيء وأنّي أملك شيئًا يسيرًا، فجيّد جدًّا، ولا بأس باستماعكم إليّ، فلو سلّمت معكم بأنّي أملك شيئًا، فلا إشكال في استماعكم إليّ، لو قبلت بهذا الحدّ، فالأمر جيّد جدًّا. ولكن لو كانت نيّتكم من الاستماع والتدقيق في كلامي هذا الذي أقوله هي أنّي ابن ذلك الرّجل العظيم ولابدّ أن يكون عندي شيء، ولا بدّ أن يكون هناك أمر ما، فلن يكون [لاستماعكم] أيّة فائدة، ولن تحصلوا على أيّة نتيجة من هذه المسائل التي أقولها لكم، ولن تكون مفيدة لكم أبدًا. متى يكون [هذا الكلام] مفيدًا لكم؟ عندما تضعون هذا الارتباط جانبًا، وتضعون هذا الانتساب جانبًا وتضعون هذه المكانة والمنزلة جانبًا، وتقومون بقياس كلامي على فطرتكم، فأنا اللّيلة حيّ وغدًا أنتقل إلى رحمة الله، عليكم أن تنظروا إلى كلامي هل هو متناسب مع موازينكم الفطريّة وموازينكم الوجدانيّة وعقولكم أم لا؟ إن تناسب معها فاقبلوه، وإن لم يتناسب فاقبلوا المقدار الذي تناسب معها منه لا أكثر، فلا تأخذوه بعنوان أنّه كلام ابن العلّامة ولن يتحدّث بكلام خاطئ وغير صحيح، كلّا، فمن الممكن أن أكون قد قلتُ كلامًا خاطئًا؛ أفهل أنا معصوم؟! المعصومون منحصرون في أربعة عشر، وانتهى الأمر! والآن، لدينا في هذا العالم معصوم واحد فقط، والباقي هباء! هل هذا واضح؟! وأنا بدوري أدخل في هذا الهباء، ومن هنا، ينبغي عليكم النظر إلى كلامي، والتدقيق في المسائل التي أتحدّث عنها، وعليكم أن لا تنظروا إلى كوني ابن المرحوم العلاّمة. نعم، لقد كان والدي رجلاً عظيمًا، ولم يكن له مثيل، وأقولها من دون مجاملة، فلم يكن له مثيل، وكانت المسائل التي يطرحها حقًّا كلّها، وكان يبيّنها استنادًا إلى الشهود والواقع والحقّ؛ وبالتالي، فأمره مختلف عن الآخرين؛ وهذا كلام صحيح في محلّه، لكن، ما علاقتي أنا بكلّ ذلك؟! فغاية ما يُمكنني فعله احترامًا للأمانة هو: أن أبيّن المسائل التي سمعتها منه، ولمستها، ورأيتها منه، من دون أن أغيّر فيها شيئًا، ويبقى عليكم أن تحكموا وتُقيّموا وتنظروا في الأمور بأنفسكم.
والأمر الآن هو بنفس هذا النحو، حيث أسمع العديد من المسائل التي تُنقل عن المرحوم العلاّمة، فلا أقبل بها؛ لأنّني أراها لا تنسجم مع منطقي، فأقول: هذا ليس كلامه!
ـ يا سيّدي، لقد سمعناه بآذاننا!
ـ لا أقبل، ولو أقسمت مائة مرّة!!
الأيمان المغلّظة ليست معيارًا للصواب (قصّة قسم اثنين من العلماء بمقدّسات العالم على صواب طريقيهما)
قبل عدّة أيّام، رأيت في مكان ما حكاية عن المرحوم الشيخ مهدي الحائري أخ المرحوم الشيخ مرتضى الحائري، وكان رجلاً فاضلاً، وكان من المؤيّدين لمصدّق في تلك الأحداث التي وقعت بين مصدّق والكاشاني وغيرهما، فكان يُخطّئ الجبهة المعارضة. وفي أحد الأيّام، أتى الشيخ الكاشاني إلى منزل الشيخ مهدي الحائري في طهران لرؤية أحد الأفراد هناك لسببٍ ما، وحينما أراد الانصراف، نظر إليه، وقال له: "أقسم بجميع مقدّسات العالم أنّ الحقّ معي!"، فأجابه الشيخ مهدي الحائري بدوره: "وأنا أيضًا أقسم بجميع مقدّسات العالم أنّ الحقّ مع مصدّق!". ففي هذه الحالة، مع من سيكون الحقّ؟!! بل قد لا يكون الحقّ مع أيّ منهما: لا مع هذا، ولا مع ذاك!! فما هو سبب حصول هكذا أمور؟ لأنّ كلاًّ منهما يعتقد أنّ الحقّ معه طبقًا لعقليّته الخاصّة، وأجوائه الشخصيّة، بل الأدهى من ذلك، أنّه يُقسم بجميع مقدّسات العالم، فيردّ عليه الخصم له: أنا أيضًأ أقسم بجميع مقدّسات العالم، فلن أرضخ لقولك؛ لأنّه لا يُمكن إثبات شيء من خلال اللجوء إلى الأيمان المغلّظة!! وهكذا الأمر بالنسبة إلينا نحن أيضًا، حيث ترانا نلجأ مباشرةً إلى الحلف بجميع مقدّسات العالم.. لا يا عزيزي، فجميع أيماننا لا تساوي شيئًا!
يقول عليه السلام: يأتي هذا الإنسان، فيأخذ بيد ذلك المؤمن، "فيجمع الله له بذلك (أي بواسطة تلك الهداية) خير الدنيا والآخرة"؛ ولا يخفى أنّني حينما ذكرت ذلك الشابّ ذي العشرين سنة، فإنّ ذلك كان من باب المثال، وإلاّ، فإنّ الذين يُوفّق الله تعالى الإنسانَ لمصاحبتهم قد يكونون حائزين على مقامات عظيمة.. فيجمع الله له بذلك خير الدنيا والآخرة.. لماذا؟ لأنّ الله تعالى يعلم أنّ هذا الإنسان قد أعرض عن نفسه، ويريد الوصول إلى الواقع، ولا يرغب في أن يخدع نفسه، ولا يحبّ اللفّ والدوران، وأمّا نحن، فنريد الله تعالى، ونريد في الوقت نفسه التمر؛ أي أننا من جهة نلتزم بتلك المدرسة والمبادئ والحقائق، ومن جهة أخرى نريد أن نحتفظ بما عندنا من مواقف، والتي خبّأناها في ذلك الصندوق وراء الخزانة!
فتجد ذلك الرجل يقول للمرحوم العلاّمة:
"ما الذي فعلتُه يا سيّدي، حتّى تقول في حقّي مثل هذا الكلام؟!"
فيردّ عليه العلاّمة: "لا شغل لي معك!" ثمّ يصل الحديث بينهما إلى أن يقول له المرحوم العلاّمة: "إن تخطّيت الحدود، فإنّ مصيرك سيكون الإلقاء على أمّ رأسك في جهنّم!"
أي: لو حاولت الانحراف عن هذا المسار، والعمل وفقًا لرغباتك الشخصيّة...
ثمّ قال ذلك الرجل: "أنا لا أريد أن أدخل جهنّم! أنا لا أريد أن أكون من أهل جهنّم!"
فقال له: "أنت لا تريد أن تكون من أهل جهنّم، جيّد جدًّا، فعليك أن تقوم بهذا العمل!"
حيث وضع يده بالضبط على تلك المسألة التي تُمثّل نقطة ضعفه، فوافق ظاهرًا على ذلك، لكن، في نفس الوقت الذي قال فيه: نعم، خطر في بالي أنّه لن يلتزم بالعمل!! وحينما غادر المنزل، رجع المرحوم العلاّمة من غرفة الاستقبال، فقلت له: "هل تعتقد يا سيّدي أنّه سيعمل بما أمرته به؟!"
فقال لي: "لا يا عزيزي.. لا يا عزيزي!!"
وهكذا كان.. هل التفتّم؟ ما هو السبب في ذلك؟ لأنّه في الظاهر جاء إلى المرحوم العلاّمة، لكنّه في الباطن كان يجلب نفسه معه أيضًا، فيُخفيها في الوراء داخل ذاك الصندوق، ويحتفظ بها هناك، وإلاّ، لو كان قد عمل في تلك الليلة بما كان قاله المرحوم العلاّمة، لصلُح حاله من تلك الليلة، ولما كان هناك حاجة لأن يعمل بذلك الدستور عندما يحلّ اليوم التالي؛ بل لصلح حالُه في نفس تلك الليلة، بل لعلّه لم يكن يصل الأمر إلى احتياجه لأن يقوم بذلك العمل من الأساس.. لماذا؟ لأنّه حينما يعلم وليّ الله تعالى أنّ ذلك الإنسان قد أعرض عن نفسه، فإنّه لن يرى هناك حاجة في أمره بأداء هذا الفعل أو ذاك؛ وذلك لأنّ هدفه من اللجوء إلى كلّ تلك المسائل هو عودة النفس وأوبتها، وإلاّ، فإنّه لا يلجأ إليها أبدًا.
ولهذا، ترى أنّ هذا الإنسان بعد أن ينقضي يوم أو يومان، وتطرأ بعض المسائل، يتراجع عن كلّ شيء، ويُنكر كافّة المسائل، ويبدأ بالاعتراض: "من قال هذا الكلام؟! ومن قال بأنّ كلام هذا السيّد صحيح؟! لا.. فالحقّ معي أنا! وهل الإسلام يأمر بهكذا مسائل؟!" حيث كتب رسالة بهذا الخصوص، وقال فيها أيضًا: "متى أُمر في الإسلام بهكذا أمور؟! إنّ ما تفضّلتم به مخالف للنصّ!" يا للعجب!! فمع كلّ تلك السنوات التي قضاها المرحوم الوالد في الحوزة بقمّ والنجف وغير ذلك، تأتي أنت وتقول: "هل يأمر الإسلام بهكذا مسائل؟"!! وهل أجبرك أحد على المجيء إلى هنا؟! لماذا لا تذهب عند أولئك السادة الذين يعملون بالأوامر الإسلاميّة؟!! فعلمهم أفضل، وعملهم بأوامر الإسلام أحسن! لماذا طرقت هذا الباب؟! ولماذا دققت هذا الجرس؟! هل التفتّم؟! إنّ أولئك السادة الذين تدّعي أنّهم يعملون بأوامر الإسلام هم أنفسهم الذين صبّوا على رأسك كلّ تلك المصائب، بحيث اضطررت إلى المجيء إلى هنا! إنّك جئت إلى مكان ينظرون فيه إلى باطنك ونفسك وقعر سويداء قلبك، وبعد ذلك يقولون لك: "قم بهذا العمل"؛ فتأتي أنت وتريد أن تعلّمهم بالأوامر الموافقة للشريعة الإسلاميّة! وتقول: "هذا حكم موافق للإسلام! هذا تكليف إسلامي! هذا قانون قرآنيّ! هذا ينسجم معه! هذا لا ينسجم معه!"، جيّد جدًّا، فالذين يناسبونك موجودون، فاذهب إلى هنا وإلى هناك، واعثر على من سيحلّ لك مشاكلك! هل التفتّم؟
لبّ المسألة: الإعراض عن النفس قبل البحث والسؤال
هذا هو لبّ المسألة! يعنى أنّ كلامنا هو عن: أنّ الإنسان حينما يُريد أن يذهب إلى العالِم، عليه أن يبدأ في المرحلة الأولى بنفسه؛ فيُعرض أوّلاً عن نفسه، أمّا من هو هذا العالم [وما هي صفاته]، فمسألة أخرى يستدعي البحث عنها مجالاً آخر سنصل إليه إذا وفّقنا الله تعالى.
وعلى هذا، فإنّ المرحلة الأولى تتمثّل في [أن نبدأ بأنفسنا] قبل أن نفتح كتب الأولياء، وقبل مطالعة كتب الأئمّة، والروايات، وقبل أن نفتح القرآن الكريم ـ فمع كلّ تلك التأكيدات الصادرة من العظماء والأولياء بشأن قراءة القرآن والروايات وكتب الأولياء ـ وقبل أن نسعى للاطّلاع على ما قاله العظيم والعالم الفلاني، وماذا كتب في رسائله، وما ذكره في خطبه؛ نظير الرسالة التي كتبها المرحوم السيّد أحمد الكربلائي لذلك الشخص الذي طلب منه أن يُحرّر له بعض المطالب بخصوص مسألة سلوكيّة ومعرفيّة معيّنة، حيث ضحك المرحوم السيّد الكربلائي وقال له: اذهب لحال سبيلك! أنت يا مسكين تريد أن تحصل منّي على كتاب ورسالة! اعلم أنّك لو نحّيت نفسك جانبًا، وجئت لي بقلبٍ صافٍ، فإنّ سطرًا واحدًا منّي فقط (لا رسالة بأجمعها) يكفي ليقلبك رأسًا على عقب! سطر واحد فقط.. هل التفتّم؟!
ومن هنا، كان العظماء يُحيلون الإنسان أوّلاً على نفسه، ويأمرونه بإصلاحها، أو أن يكون في صدد إصلاحها كحدّ أقلّ؛ فأنا لا أدّعي بأنّ هذا الأمر سيتحقّق بكلّ سهولة، وبأنّ جميع المسائل ستنحلّ من الليلة الأولى، لا! فهذا هو المراد من تلك المراقبة التي كان يتحدّث عنها العظماء؛ أي أن يكون الإنسان في مقام الإصلاح، وألاّ ينقطع عن تأديب نفسه؛ لأنّه حينما تكون نفس الإنسان ملوّثة، فإنّ المسائل التي يتلّقاها تستقرّ في وعاء ملوّث؛ فتصير هذه المسائل بحدّ ذاتها سببًا في وقوعه في الفتنة؛ أي أنّها ستترك أثرًا معاكسًا:
تيغ دادن در كف زنگى مست | *** | بِهْ كه آيد علم ناكس را به دست |
علم ومال ومنصب وجاه وقران | *** | فتنه آرد در کفّ فتنه گران ۱ |
چون قلم در دست غداري بود | *** | بی گمان منصور بر داری بود ٢ |
[يقول: إنّ إعطاء الخنجر لعبدٍ مخمور أفضل من أن يحصل ذلك الوضيع على العلم
*** فالعلم و المال و المنصب و الجاه والأمر النهي هي أسباب للفتنة إن وقعت في يد مثيري الفتن
ولمّا صار القلم بيد أهل المكر، فلا جرم سيكون المنصور۱ على المشنقة]
فإذا وقع هذا العلم والفنّ في يد نفس خبيثة وملوّثة ونفسٍ تسعى إلى تعزيز مكانتها وشخصيّتها، وليس تلك النفس التي تجرّدت عن النفسانيّات، وتنزّهت عن الأهواء، وصارت طاهرة، فما الذي سيحصل والحال هذه؟ وما هي المسائل التي ستنبعث من هكذا نفس؟ وما هي الثمرة التي ستتحصّل منها؟ وما الذي سيصدر من ذاك اللسان وذلك القلم؟ إن تلك الرغبات والأهداف المشؤومة والسعي نحو إبراز الأنا ستظهر على شكل الانتساب إلى العالم الربوبي، وستبرز كلّها من خلال اللجوء إلى هذه الوسائل والوسائط؛ فيظنّ الجميع أنّ هذه الأمور تخضع للمبادئ والمعايير والقواعد، لماذا؟ لأنّ النفس لم تصلُح عند حصولها على هذه الوسائل، بل بقيت على حالتها الأولى، ولم تتبدّل؛ نظير ماء عفِنٍ صببت فيه بعض القطرات من الماء القراح، فإنّ هذا الماء القراح لا يُغيّر ذاك الماء العفن، بل العفن هو الذي يُصيّر القراح مثله؛ وهكذا الأمر لو وضعت تفّاحة في جوّ متعفّن، فمع أنّ التفّاحة قد تكون طريّة ولها رائحة زكيّة، إلاّ أنّها لن تتمكّن من تغيير ذلك الجوّ المتعفّن، بل هو الذي سيُصيّرها متعفّنةً! هل التفتّم؟!فهذا ما تفعله هذه العلوم مع النفس الفاسدة.
من يُسلّم له هو صاحب البصيرة والباطن
فهل أدركتم الآن لماذا كان العظماء يوصون بشدّة أن يُسلّم الإنسان نفسه لمن لا نفس له؟ فما معنى ذلك؟ معناه أن لا تقصر نظرك على الظاهر! وإن لم تكن لديك عين تُبصر الباطن، فعليك بالاحتياط! فإما أن تمتلك عينًا تنفذ إلى الباطن، فتُدرك بواسطتها ما هو موجود خلف هذه الملامح المنمّقة وهذا المظهر الخدّاع، [وإما أن لا نمتلكها] غير أنّنا لا نمتلكها؛ ولهذا، ترانا نرافق أحدهم لمدّة شهر وشهرين وسنة؛ فلا يُظهر حقيقة نفسه ولا يُبرز ذاته طيلة هذه المدّة، إلى أن تمضي سنة أو سنتان، فنتعجّب..
قصّة مدّعي المهدويّة وإخبار السيّد الحدّاد عن حقيقته قبل افتضاحه
لا أعلم هل أخبرتكم بقصّة ذاك الذي ادّعى أنّه إمام الزمان، حيث إنّ مثل هذه الدعاوي مما هو رائج هذه الأيام.. حسنًا، لقد أُصبنا بالإرهاق، ولكن لا بأس بالحديث عن هذه الحكاية والمسألة:
رحمة الله على أسلافنا جميعًا؛ ففي أحد الأيّام، نقل لنا المرحوم العلاّمة قصّة عن أحد المعمّمين ـ ولا أريد أن أذكر اسمه الآن فقد ارتحل عن هذا العالم.. فاذكروا موتاكم بخير ـ وقد كان من أهل الصلاح والتهجّد، ومن أقربائنا أيضًا، وكان رجلاً صالحًا جدًّا، حيث التقى في كربلاء بأحد الأشخاص معتقدًا أنّه مولانا بقيّة الله عليه السلام، وذلك من خلال ما رآه في سلوكه وتصرّفاته وقيامه وقعوده وحركاته وسكناته وردّه على السلام وغير ذلك من الألاعيب التي كان يُتقنها، ويستعملها لأجل خداع مثل هؤلاء؛ هذا مع أنّ الذي خدعه هنا لم يكن شخصًا عاديًّا؛ فصحيح أنّ الناس العاديّين تحصل معهم العديد من المسائل [الغريبة]، ويرون الكثير من الأشياء؛ في الحائط في السماء وفي سائر الكواكب.. فهذه الأمور عادية لديهم! وعلى ذلك فقس، فهذا حديث مجمل وتفصيله عليكم، فقد ذكرنا هنا نكتة لطيفة وتجاوزناها. لكنّ الكلام أنّه لماذا يصدر مثل ذلك عن بعض أهل العلم والصلاح والعمل والملتزمين والمتشددّين في الدين؟! فما هذا المخلوق الذي يأتي ويُلقي مثل هؤلاء في مثل هذه الشبهة والتوهّم! حتى يظهر لهم هذا التوهّم بشكل واقعي وحقيقي، ويجعلهم يتبعونه، ويتركون دينهم وإيمانهم لأجله، ويضحّون بأزواجهم وأولادهم. كان يقول ذلك للمرحوم العلامة وهو يضحك.. وإنّي لأذكر تلك الحادثة؛ حيث كان عمري في وقتها خمسة عشر عامًا أو ستة عشر، وكان ذلك في العراق.. ثمّ أتى ذلك الرجل إلى السيّد الحدّاد وقال له: "لقد شاهدت إمام الزمان وتشرّفت بلقائه!" ولم يكن من دأب السيد الحدّاد أن يصدّ أحدً على الفور، لذا قال له: "حسنًا، إن شاء الله خير!" ثمّ سأله ما هي خصوصيّاته؟! فقال له: "لا يمكن أن أبيّنها لك بل ينبغي أن نذهب إليه ونزوره" فقال له: أين هو؟ فقال: "هو في مسجد الكوفة" ثم طلب من السيّد الحداد أن يذهب إليه في مسجد الكوفة!! انظروا كم هم أولياء الله مبتلون بنا وبأمثالنا! يا عزيزي إن كنت تريد لقاءه فاذهب وحدك واستفد منه بنفسك، فلماذا تريد أن نذهب معك؟! ثمّ قال المرحوم العلاّمة إنّ المرحوم السيد الحداد قال له: "حسنًا فلنذهب، وبما أننا سنذهب إليه فعلينا أن نشتري علبة من الحلوى لإمام الزمان، فلا نذهب إليه بأيد خالية!"؛ إذ يحسن بالإنسان عندما يذهب إلى لقاءٍ ما أن يأخذ معه شيئًا؛ برتقالاً أو تفاحًا.. ثمّ قال العلامة: ذهبنا إلى متجر الحلويات واشترينا علبة من الحلوى، ثمّ ذهبنا إلى النجف وكنّا ثلاثة أو أربعة؛ بل كنّا أربعة حيث كان برفقتنا ذاك الذي ذكر اسمه في الروح المجرّد. والحاصل أنّهم ذهبوا إلى مسجد الكوفة، قال المرحوم العلامة: ذهبنا إلى حجرة مغلقة فيه، وعندما تقدّمنا لنطرق الباب سمعنا صوت وقع أقدام في الداخل؛ ولكن ما إن طرقنا الباب حتى توقّف الصوت في الداخل، ومهما طرقنا الباب لم يكن أحد ليفتح لنا، وكان ذاك المرحوم الذي أخذنا يقف وراءنا احترامًا؛ حيث كان واقعًا معتقدًا بذلك! لم يكن لديه تقصير، بل كان معتقدًا فعلاً بهذا الأمر! وكان صافيَ الضمير، وذكرت لكم بأنّه كان من أرحامنا، رحمة الله عليه، لكنّ المسألة تحتاج إلى عين وبصيرة؛ إذ الكثير من المسائل لا تُحلّ بالاطلاع فقط، بل تحتاج إلى شيء آخر! والحاصل أنّه كان يقف في الخلف، وكنّا نحن في المقدّمة، وفتح السيد الحدّاد الباب، فشاهد رجلاً جالسًا على السجّادة متعمّمًا بعمامة خضراء وكان مطرقًا برأسه، وهو نفسه الذي كان يمشي قبل أن نطرق الباب، هذا هو إمام الزمان!! لقد تسمّر فجأة على سجّادته، فلا يجيب حتّى على السلام؛ لأنّا سلّمنا عليه ولم يجب! بل بقي مطرقًا في حالة توجّه وذكر.. ثم التفت السيّد الحداد إلى ذاك الرجل [الذي قال هذا إمام الزمان] وقال: "هل تعتقد بأنّ هذا الحمار هو إمام الزمان؟! لنعد!" متى عُلم بأنّ هذا حمار فعلاً؟! عندما قام بعمل مخالف للشرع ومحرّم وافتضح أمره أمام الجميع! فقد ارتكب الزنا بمحصنة! هل التفتّم؟! ثم قبضوا عليه وأخذوه بعد ذلك! من الذي يعرف ذلك؟! ذاك الرجل مع كونه عالمًا، لكنّه لم يتمكّن من تشخيص الأمر! أما وليّ الله فبنظرة واحدة يقول له: "هذا حمار!".
أو مثل ذاك الذي ادّعى البابيّة في سامرّاء وجمع إليه الكثير من الناس، وكان الكثير من التجّار في طهران، بل حتى ممّن كان على علاقة بالمرحوم العلامة، يجمعون له الأموال ويرسلونها إليه لكي يهيّؤوا أسباب الظهور، والظاهر أنّه ذكر في الروح المجرّد بأنّه ذهب إلى سامرّاء، وعمل على إخماد تلك الفتنة التي كانت ستحصل. وكان المرحوم العلامة قد سأله عن هذا الرجل. وقد كان رجلاً عديم الفهم أساسًا ـ لا مثل ذاك الذي كان جانيًا ومحتالاً ـ بل كان نفس هذا الشخص [المدّعي للباببّة] قد وقع بنفسه في حالة توهّم! فذهب إليه وأعاده إلى حالته السابقة! سأل المرحوم العلامة السيد الحداد: أيّ إنسان كان ذاك الرجل؟ فأجابه بمثل هذه العبارات التي وصف بها الأول! وانتهت المسألة عند هذا الحدّ!
عمل من هذا؟ أليس هذا عمل من يكون لديه بصيرة وعين، ويشخّص الأمور على ذلك الأساس؟!
يبقى كلامنا غير تام، وإن شاء الله نترك التتمّة للجلسات الأخرى. لكن خلاصة المطلب هي أنّ الإنسان في المرحلة الأولى وقبل أن يذهب إلى العظماء ويقرأ مطالبهم ويستمع إلى كلامهم، عليه أن يقيّم نفسه! فعندما يقول الإمام الصادق عليه السلام: "اسأل العلماء ما جهلت" يريد الإمام الصادق أن تضع نفسك في البداية جانبًا، وإلا فما فائدة الذهاب إلى العالم؟! ما فائدة ذلك؟! ألم يكن أولئك إلى جانب النبيّ؟! ألم يكونوا معه؟ ماذا فعلوا بعد النبيّ؟! هؤلاء الذين كانوا يصلّون في الصف الأول خلف النبيّ، وكانوا يستمعون إلى النبيّ! لكنّهم لم يستطيعوا أن يتجاوزوا عن أنفسهم بهذه الكلمات، بل بقوا في هذه النفس! وبعد أن ذهب ذاك الظاهر، برزت هذه النفس وقالت لهم تفضّلوا! الآن لم يعد النبيّ موجودًا، فلا مانع لديكم، والأمور مهيّأة أمامكم، فارتعوا حيث شئتم وحيث تستطيعون. لذا قاموا بتلك الأفعال التي فعلوها مع بنت النبي! هل التفتّم؟!
لذا نسأل: ما هو الطريق الذي يمكن للإنسان من خلاله أن يتخلّص من هذه العويصة؟! وما هي الوصايا التي قدّمها العظماء في هذا المجال؟!
نترك الجواب عن ذلك إلى الجلسة القادمة إن شاء الله! نسأل الله أن يمنّ علينا بالتوفيق في العبور من هذه المهالك، ويمنحنا توفيق ثبات الأقدام في مسير الأولياء إن شاء الله.
اللهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد.