المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني
القسمعنوان البصري
المجموعةالعلم والتعلم
التوضيح
هل هناك فرق بين المعرفة وبين العلوم الظاهرية؟ و هل دراسة الكتب و تحصيل العلوم الظاهرية بحدّ ذاته كافٍ للارتقاء بالإنسان؟ تعرّض سماحة آية الله السيد محمّد محسن الطهراني قدس سره لهذا الموضوع الحيوي في إطار شرحه للفقرة الأخيرة من حديث عنوان البصري.
ويجدر بالذكر أنّ أهمّ عناوين المحاضرة كانت كالتالي:
اهتمام العظماء بحديث عنوان البصري. لا حدّ للفيوضات الإلهيّة. ضرورة السعي المستمرّ للارتقاء بالمعرفة وخطورة التوقّف . من علامات الانحراف: المنع من الفهم. في مدرسة الإمام الصادق يجاب على جميع الأسئلة والإشكالات. العلوم الظاهرية لا تنفع بدون المعرفة. قصّة طالب العلم الشاب مع الصدر الأصفهاني، نموذجا على قلة المعرفة.
هو العليم
ضرورة الارتقاء بالمعرفة
شرح حديث عنوان البصريّ - المحاضرة ٢٣٩
ألقاها:
آية الله الحاجّ السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ
قدس الله سره
أعوذ باللـه من الشيطان الرجيم
بسم اللـه الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين
والصلاة والسلام على سيّدنا ونبيّنا أبي القاسم محمد
وعلى آله الطيبين الطاهرين
واللعنة على أعدائهم أجمعين
«وأمّا اللواتي في العلم؛ فاسأل العلماء ما جهِلت، وإيّاك أن تسألهم تعنُّتًا وتجرِبة، وإيّاك أن تعمل برأيك شيئًا، وخذ بالاحتياط في جميع ما تجد إليه سبيلا، واهرب من الفُتيا هرَبَك من الأسد، ولا تجعل رقبتك للنّاس جسرًا».
[يقول الإمام السجّاد عليه السلام:] وبالنسبة لما هو مرتبط بالعلم والمعرفة، أحدها: أن تسأل عن كلّ ما لا تعرفه، ولا تكن حركتك مصحوبة بالجهل، وتبرّر ذلك بقولك: إن شاء الله لن يحصُل شيء، فكلّ خطوة تخطوها يجب أن تكون على أساسٍ من العلم، وعلى أساسٍ من اليقين، فبقولك: "إن شاء الله لن يحصُل شيء" لن تُصلِح الأمر، بل إنّ هذا يُفسده.
[ثمّ يقول عليه السلام:] «وإيّاك أن تسألهم تعنّتًا»؛ فحينما تسأل العلماء لا تسألهم قاصدًا تحقيرهم وإذلالهم والنّيل منهم، بل ينبغي أن يكون الغرض من سؤالك الاستفهام والفهم، لا الاختبار والامتحان - بالطبع إنّ مسألة الامتحان تختلف، وسوف أوضّحها لاحقًا - والمقصود هنا هو التطاول على العلماء وتحقيرهم، كأن تقول: "أريد معرفة رأيه ما هو"، ثمّ بعد أن تعرف رأيه تدخل معه في جدالٍ، فجميع هذه الأعمال خطأ.
[بعد ذلك يقول عليه السلام:] «وإيّاك أن تعمل برأيك شيئًا»؛ واحذر من أن تعمل وفقًا لرأيك وذوقك الخاصّ، وذلك دون أن يكون لديك أساسٌ متينٌ وأصلٌ رصينٌ ومحكمٌ تستند عليه في عملك.
واعمل بالاحتياط في جميع الأمور التي تستطيع الاحتياط فيها ... عجيبة إنّها من المسائل العجيبة حقًّا!!
[ثمّ يقول عليه السلام:] واهرب من الإفتاء والحكم بين النّاس كما لو كان هناك أسدٌ مفترس يجري خلفك. «هرَبَك من الأسد»؛ هذه العبارات عباراتٌ عجيبةٌ، فالإمام عليه السلام لم يقُل فِر من الإفتاء أو فِر من نشر الرسالة العمليّة، أو اُهرب من التصدّي للفتوى والمرجعيّة؛ بل قال: اُهرب منها كما لو أنّ أسدًا يسعى خلفك! فهذه المسألة تختلف عن الفرار، إذ عندما يلاحق الإنسانَ أسدٌ فإنّه حينئذٍ سيركض بستّة أرجُل [يضحك سماحة السيّد]، وإلاّ فإنّ الأسد سيصل إلى الإنسان بقفزتين، هل التفتّم؟ ـ يا للعجب! ما الذي أدركه هؤلاء (الأئمّة عليهم السلام) حتّى بيّنوا المسائل بهذا الشكل؟! وأين نحن من ذلك؟ أين نحن منه؟! ـ إنّه يقول: اُهرب من الفتوى واحترز عنها تمامًا كما لو كان ثمّة أسد يلاحقك.
[ثمّ يقول عليه السلام:] «ولا تجعل رقبتك للناس جسرا»؛ لا تجعل رقبتك للناس معبرًا بحيث يجعلونك جسرًا ووسيلةً للوصول إلى مآربهم.
اهتمام العظماء بحديث عنوان البصري
هذه آخر الفقرات التي بيّنها عليه السلام في الحديث الشريف، وهي قَطْعًا مليئةٌ بالمطالب التي ينبغي أن يُخَصَّص لكلٍّ منها جلساتٌ عديدةٌ. والحقيقة أنّ حديث عنوان البصري هو كما كان يقول العظماء: يجب على الإنسان في كلّ أُسبوع أن ينظر فيه ولو مرّة واحدة، فالمرحوم العلّامة الطهرانيّ رضوان الله عليه كان يقول: "عندما كنت في النجف كنت قد كتبت هذا الحديث ـ [يعلّق سماحة السيّد:] وقد رأيتُ تلك الصفحات بنفسي ـ وهذا الحديث كان في جيبي، وكنت كلَّ أُسبوعٍ أنظر فيه، فقد كنت آتي وأجلس إلى جانب الصّحن العَلَويِّ، وأُخرجه وأنظر فيه، وذلك في الأوقات الفاصلة بين مباحثاتي، حيث كان يوجد فرصة مدّتها نصف ساعة".
وما هي نتيجة ذلك؟ نتيجته أن يتّجه الإنسان بأفكاره ورغباته وأهدافه إلى وجهةٍ أخرى، فيطابق حياتَه ومعاشَه وحركته وعلمه ودرسه وعمله وأهدافه ونفسه مع هذا الحديث. وهذه المسألة عجيبة جدّا، إذ هناك فرقٌ كبيرٌ بين أن يعلم الإنسان بمسألةٍ ما، وبين أن يلتفت إليها ويتذكّرها في كلّ يوم؛ فهناك الكثير من المسائل التي نعلمها وهي محفوظة في ذِهننا؛ ولكنْ هل نستذكرها دائمًا ونستحضرها كلّ يوم؟
قال المرحوم العلّامة لي مرّةً عندما كان في طهران، وكان ذلك في أواخر عمره، (قال): "يا فلان لقد مرّ عليّ زمنٌ وأنا أعتلي المنبر في المسجد للخَطابة لأجل الرفقاء والحاضرين في المسجد، ولكنّني الآن أشعر بالرغبة في أن يجلس أحدهم ويتحدّث إليّ وينصحني، وأنا أجلس وأستمع إليه، ملتفتًا إلى ما يقوله من مسائل". قال هذا في أواخر عمره!
لم أكن أفهم كلامه جيّدًا حينها - فكيف يمكن لشخصٍ بهذه المكانة وبهذا الوضع أن يقول كلامًا كهذا ؟! - وغاية ما كنت أفسّر به كلامه أحيانًا أنه نوعٌ من التواضع، ولكنّي صِرتُ أشعر الآن بأنّ ما كان يقوله حقٌّ، إذ صرت أشعر بالرغبة في الجلوس والاستماع لأحد الرفقاء والأصدقاء من أهل العلم عِوضًا من التكلّم بنفسي وتسبيب الصداع للرفقاء؛ فأنا حقًّا عندما آتي للمجالس التي تعقد في منزلنا أو في مكانٍ آخر كهذا المكان(۱) وحيث يكون الخطيب فيها أحد الرفقاء، أتذكّر تلك الأجواء التي كان المرحوم العلّامة يقول فيها ذاك الكلام، وأرى أنّي أستفيد وأغتنم منها كثيرًا.
أتدرون لماذا؟ لأنّ ما يُطرح من مسائل ليست من كلام هذا وذاك، وإنّما هي تأتي من مكان آخر، ومن الواضح أنّ كلامي ليس عن المسائل الخاطئة، بل عن الأمور الحقّة التي تُطرح، ففي بعض الأحيان أقول: "يا للعجب كيف غفلت عن هذه المسألة؟!" وعندما بيّن الخطيب مسألةً ما، أرى بأنّ مسألةً جديدةً حضرت إلى ذهني، فأتأمّل بها وأفكّر فيها ثمّ أذهب بعد انقضاء المجلس لمتابعة التفكير والبحث في هذه المسألة، أي أنّني لا أتركها بل أتعقّبها، وقد أتوصّل من خلال ذلك إلى أمورٍ أخرى بعدها.
لا حدّ للفيوضات الإلهيّة
لماذا الأمر كذلك؟ لأنّ فيض الله وعلم الله ورزق الله لا نهاية له، هل التفتم! لا نهاية له؛ ألم يقل النبي صلّى الله عليه وآله وسلم ـ وهو من هو! ـ : «ربّ زدني فيك تحيّرا»(۱) ؟! فما سبب التحيّر؟ سببه العلم، فرسول الله، مع أنّه المظهر الأتمّ والاسم الأعظم لله، وأعلى حقيقة متنزّلة بعد مقام الذات؛ حيث إنّ جميع الاسماء ناشئة من ذلك الاسم، وجميع الصفات والظهورات في جميع العوالم ناشئة منه؛ ولكن مع ذلك ما هي الأمور الكامنة في الذات الإلهيّة، وما هي المسائل الموجودة هناك بحيث يطلب الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم من الله هذا الطلب: «ربّ زدني فيك تحيّرا»؟!
معناه: أنّ ما فهمته حتى الآن هو بهذا الحدّ، ولكن ما الذي يوجد بعد ذلك؟! فيتنزل مرّة أخرى الفيض الإلهي، فيتعجّب النبيّ مرّة أخرى؛ لأنه لم يكن ملتفتًا لذلك من قبل، ولم يلتفت له إلاّ الآن، فلو كان ملتفتًا له لما كان للتحيّر من معنى، فهو في حالة تغيير دائمًا، وفي حالة انكشاف مستمرّة، وفي حالة ظهور بعد ظهور وتجلٍّ بعد تجلٍّ بنحو دائم، لماذا؟ لأنّ ذات الله ليست متناهية، فلو كان رسول الله ـ الذي هو في مقام المعلوليّة، وفي مقام أول اسمٍ أعظمٍ وأوّل تجلٍّ ـ لو كان قد وصل إلى نقطةٍ لا جهل بعدها، للزم من هذا تناهي الله عزّ وجلّ؛ وللزم أنّ الله قد تنزّل من مقام الإطلاق واللاتناهي إلى مقام التقيّد والتشخّص والتعيّن، مع أنّ ذات الله غير متناهية، فرسول الله يتحرّك ويسير في مقام أسماء الله وصفاته غير المتناهية.
يقول المرحوم العلّامة نقلًا عن المرحوم السيّد الحدّاد رضوان الله عليه: "أرى في بعض الموارد أنّهم حرّكوني وسيّروني في بعض العوالم ـ التي هي مراتب الأسماء والصفات ـ بحيث أنّني ما إن أريد أن أرى ما الذي يوجد في تلك المرتبة وما هي الحقائق المختفية فيها إلا وأجد أنّي قد تجاوزت تلك المرتبة، وذهبت إلى عوالم أخرى، يعني إنّهم لم يكونوا يُعطوني الفرصة حتّى لأرجع إلى ذلك العالم وأرى ماذا يوجد خلفي، ولأرى ما الذي يوجد في تلك العوالم التي عبرت عنها وما هي تلك الحقائق التي تعدّيتها".
هل التفتّم؟! نسأل الله عزّ وجلّ أن يجعل ذلك من نصيبنا إن شاء الله، فما ذلك بمستبعد من كرم الله، فالأمر عند الله سيّان، فلو جعل الله الناس كلّهم مثل السيّد القاضي فهل في ذلك إشكال؟! أو هل هناك مانع من أن يجعل (الله) جميعَ العالم أولياء، وأن يذيق (الله) جميعَ العالم ما أذاقه لخواصّه؟!
ولكن شرط ذلك أن نكون صادقين في استغاثتنا واعتمادنا والتجائنا؛ فمتى ما كنّا صادقين فليس في ساحة الله بخلٌ، فهو كريم؛ فلا يوجد أيّ فرق بالنسبة له بين أن يعطي شخصًا واحدًا أو أن يعطي جميع العالم! لماذا؟ لأنه غير متناهي.
لقد ذهب أحد الرفقاء إلى حرم الإمام الحسين عليه السلام في كربلاء، وحظي بحالة من البهجة هناك، فجاءني بعدها وقال:
كنت أريد أن يكون الإمام الحسين كلّه لي، لي أنا فقط.
فقلت له: يا عبد الله، لو أنّ الإمام الحسين أتى لجميع الدنيا، فسيكون هناك مجال لهم أيضًا؛ يعني لو أنّه أتى بجميع وجوده إليك أنت، وأتى بجميع وجوده إلى فلانٍ وفلانٍ وهكذا، فسيبقى هناك مجالٌ أيضًا؛ فارتباط الامام الحسين معك وجلوسه معك لا يقلّل من حصّة الآخرين، فهو مثل البحر كلّما أتى إليه أحد يغرق فيه، ولا يزيد ذلك فيه ولا ينقص منه (ولو) بمقدار رأس الإبرة، فلماذا تبخل على الآخرين وتريد أن تحرمهم؟! لا ينبغي للإنسان أن يكون كذلك؛ بل عليه أن يستشعر مقام إطلاق الله عز وجل وسعته اللامتناهية في وجوده، فيشعر دائمًا بحالة العموميّة والشمول في وجوده.
ضرورة السعي المستمرّ للارتقاء بالمعرفة وخطورة التوقّف
حسنًا إنّ هذه العبارات عبارات عجيبة حقًا، يقول الإمام عليه السلام: «فاسأل العلماء ما جهلت» يعني اسأل عن كلّ شيء لا تعرفه. ولكن ممّن ينبغي أن تَسأل؟ ينبغي السؤال ممّن هم أهلٌ للسؤال.
وهذه النقطة هي أصل وأساس حركة الإنسان وينبغي عدم الغفلة عن هذه المسألة أصلًا؛ فالمسألة الجوهريّة في حركة الإنسان وسيره وسلوكه إلى الله تعالى تكمن في أنّه مُطالَبٌ بالارتقاء بعلمه ومعرفته في كلّ خطوة يخطوها، وألاّ يُغلق باب قلبه أمام العلم أبدًا، وإلاّ فإنّ ذلك سيُشكّل بداية الخطر الذي سيتهدّده. فإذا وصل بنا الحال في يوم من الأيّام إلى أن نواجه انكشاف حقيقةٍ ما، بأن نضع الستار عليها، أو تُصُدِيَ لنا بالقول: «لا حاجة لكم في الاطّلاع على هذه المسائل» (فقبلنا)، أو أنّنا بلغنا درجة أنّه لم يعُد يفرُق لدينا أنّنا علمنا بتلك المسألة أو لم نعلم بها؛ فاعلموا أنّنا حينئذٍ سنكون قد وصلنا إلى مرحلة التوقّف والجمود، بل إلى مرحلة السقوط.
إنّ حركة الإنسان نحو الله تعالى حركة علميّة ومعرفيّة، وليست حركة كمّية؛ لأنّنا لا نتحرّك نحوه تعالى في هذا العالم بأبداننا، ففي هذا العالم تجد أنّ أحدهم يزن ستّين كيلو، وآخر تسعين كيلو، وثالث ثمانين كيلو، ورابع سبعين كيلو؛ فهذه أمور مرتبطة بالبدن الظاهري، ولا علاقة لها بسيرنا نحو الله. إنّ الذي يؤدّي إلى تغييرنا وتبدّلنا، ويرتقي بنا إلى مقام القرب، إنّما هو العلم والمعرفة؛ ففي حركتنا نحو الله تعالى لا يتحقّق فينا أيّ شيء زائد، ولا يتبدّل فينا أيّ شيء، وإنّما الذي يزداد فينا هو العلم والمعرفة فقط، فيتحرّك الإنسان بواسطتهما نحو التوحيد وتجرّد النفس؛ فمتى ما توقّف الإنسان عن التزوّد بالعلم والمعرفة الإلهيّين ، أدّى ذلك إلى توقّف حركته.
من علامات الانحراف: المنع من الفهم
ومن هنا يتبيّن أنّ كافّة المدارس التي تدعو الإنسان إلى أن يُغلق عينيه ويصمّ أذنيه ويُخرس لسانه، إنّما تدعو في الحقيقة إلى الكفر وطريق الشيطان والخداع، وهي بهذه الدعوة تنصِبُ شِراكها وحبائلها للإنسان حتّى لا يُفتضح أمرها، ولا ينكشف فسادها، فإذا سأل الإنسان في مثل هذه المدارس قائلاً:
ـ لماذا حصل هذا الأمر يا سيّدي؟
ـ لا يجوز لك الحديث عن هذه المسائل!
ـ لماذا صارت القضيّة بهذا الشكل يا سيّدي؟
ـ لا ينبغي لك السؤال عن ذلك!
ـ يا سيّدي، إنّ هذه المسألة مخالفة للشرع!
ـ لا دخل لك في هذا الأمر!
ـ يا سيّدي، لماذا آلت المسائل إلى ما آلت إليه؟
ـ لا تتفوّه بأيّة كلمة! سوف تفهم لاحقًا! سوف تُدرك حقيقة الأمر مستقبلاً!
ولماذا لاحقًا؟! وما هو الفرق في ذلك بين الآن والمستقبل؟! ومتى سوف يأتي هذا المستقبل؟ ولنفرض أنّه بعد سنة، ثمّ تمرّ تلك السنة، فيقال: بعد خمس سنوات، وهكذا! إذن، متى سوف نطّلع على حقيقة المسألة، ونعلم بحقيقة الأمر؟! هل التفتّم؟!
إنّ جميع تلك المدارس مبتنية على هذا الأمر؛ أي أنّ أوّل مبدأ يعتمدون عليه هو: «لا ينبغي أن يُسمع لك صوت!»؛ فأيّ منطق هذا؟! إنّه منطق أبي بكر؛ «لا تنبس ببنت شفة! لا تتفوّه بأيّة كلمة! ينبغي أن تقصر نظرك على ما هو موجود! » ،أمّا إذا أصررت على الكلام، فإنّه سيُتعامل معك بطريقة أخرى!. إنّ هذا المنطق مخالف لمنطق أمير المؤمنين، ومنطق الإمام الصادق عليهما السلام.
في مدرسة الإمام الصادق يُجاب على جميع الأسئلة والإشكالات
ففي منطق الإمام الصادق عليه السلام، يجب أن يُسمح للجميع أن يأتوا؛ فيأتي الشيعيّ، ويطرح مسائله، ويأتي السنّي ويُلقي أسئلته، ويأتي الملحدون والمنكرون لوجود الله تعالى ويعرضون تساؤلاتهم، حيث إنّ باب المسجد كان مفتوحًا في وجه الجميع؛ فكان حتّى اليهود يأتون إلى مسجد المدينة عند أمير المؤمنين عليه السلام، ولم يكن ليقول لهم: «أنت يهوديّ، اخرج من هنا!»، بل كان يتحدّث معهم في نفس مسجد المدينة، وكان يُخاطب أحدهم قائلاً: «السلام عليك يا أخا اليهود!».. لماذا؟ لأنّه لم يكن له ذنب في كونه يهوديًّا؛ حيث إنّ الحقّ لم يصله حتى تلك اللحظة، ولم يُخبره أحد بحقيقة الأمر؛ ففي هكذا حالة، هل من مسوّغ لأمير المؤمنين ليُسيء معاملته؟! وهل هناك ما يدعوه لكي ينتهره؟! وهل سوّغ له أن يحاكمه بسبب جهله غير الاختياريّ دون عناد؟! فهو غير مقصّر في ذلك، وهو الآن قد جاء، فينبغي أن يرحّب به ويقال: تفضّل على بركة الله!
إنّ هذه المسألة بالغة الأهمّية، ولو وفّقني الله تعالى ـ إن شاء سبحانه ـ لعرض مزيد من التوضيح بشأن هذه المسائل، بحسب ما يقتضيه الحال ويسمح به المقام، فسنُدرك حينها أنّ مدرسة التشيّع ومدرسة الإمام الصادق هي مدرسة مغايرة تمامًا لما يُطرح هنا وهناك، وسيتبيّن لنا ما هو الأفق الذي كان [الأئمّة عليهم السلام] يتحرّكون فيه، وما هو المنهج الذي كانوا يتّبعونه، حيث نرى الإمام عليه السلام يُسلّم على اليهوديّ قائلًا: «يا أخا اليهود»؛ وهذا عجيب حقًّا!
فهل يختصّ هذا الأمر بذلك العصر فقط، أم أنّه يشمل حتّى هذا العصر؟ فحتّى الآن، ما هو الذنب الذي ارتكبه اليهود والنصارى وأهل الكتاب وبقيّة الناس، حتّى المنكرين لوجود الله تعالى من المستضعفين الذين سلكوا في أفكارهم واعتقاداتهم مسلكًا مغايرًا؟ هل التفتّم؟ فلماذا ينبغي أن يبقى هؤلاء مستبعدين؟ ولماذا لا يسعى الإنسان للتواصل معهم، وإطلاعهم على نهجه ومبادئه؛ عسى أن يكون ذلك سببًا في تغيّرهم وتحوّلهم؛ فهؤلاء يمتلكون بدورهم فطرةً وعقلاً وإدراكًا، ويُشخّصون السيّء والحسن، ولا يزال وجدانهم وفطرتهم موجودين، وما تزال تلك الوديعة الإلهيّة المكنونة في وجودهم حيّةً، ولم تضمحلّ بعدُ.
لقد حدث معي ـ أنا نفسي وفي مواطن متعدّدة ـ أن التقيت مع بعض هؤلاء من أهل الكتاب غير المسلمين، فتغيّر ذلك المسيحي أو اليهودي بسبب معاملتي له. لماذا؟ لأنّني لم أتصرّف معهم كما يتصرّف بعض السطحيّين الذين يجعلون بينهم وبين هؤلاء حجابًا، ويُعاملونهم بطريقةٍ وأسلوبٍ خاصّين؛ فيصير هذا التصرّف والتعامل بنفسه سببًا في إبعادهم وابتعادهم عن الحقّ والحقيقة.
فأنا لم أعاملهم بنفس المعاملة، بل اتّخذت مسلكًا آخر؛ لأنّني عاشرت العظماء والأولياء في السفر والحضر، وكنت أطّلع على حركاتهم وسكناتهم، وأستمع إلى كلماتهم، وأشاهد أسلوب تعاملهم مع مختلف الناس؛ ذلك التعامل الذي كان ينغرس في وجود أولئك الناس الذين تعاملوا معهم فيبقى على الدوام، فيتحرّكون ويعيشون حياتهم في أجواء وظلّ ذلك.
إنّ هذه المسألة من المسائل التي استفدناها من منهج الأولياء والأئمّة وسيرتهم، وليست ناشئة من الخيالات والآراء والأذواق الخاصّة، بل إنّ مبادئنا تقتضي هكذا مسائل.
العلوم الظاهريّة لا تنفع بدون المعرفة
وعلى الإنسان أن يسعى نحو تحصيل المعرفة واكتسابها، وبواسطة ازدياد المعرفة يتمكّن من الحركة، وعليه أن يرجو من الله تعالى أن يُوفّقه إلى تحقّق المزيد من هذه المعارف و الأمور في وجوده كلّ يوم، فقد كان يوجد (وما يزال) العديد من الأفراد الذين لهم حظّ من العلوم الظاهريّة، ولكن، عندما يطّلع الإنسان على أحوالهم، يراهم خالي الوفاض، ولا يملكون ذلك الفهم والإدراك، وهذا هو بعينه الأمر الذي كان الإمام عليه السلام يأمر بالالتفات إليه.
في أحد الأيّام قبل خمسٍ وثلاثين سنة تقريبًا، كنّا في قمّ، فزارنا المرحوم الشيخ الرضويّ في منزلنا هناك؛ وهو من علماء مشهد وكانت تربطنا به قرابة سببيّة، وكان من الأخيار والصلحاء ورجلاً نزيهًا يبجّل المرحوم العلاّمة كثيرًا، ويحبّه بحقّ.وذات يوم، عندما كنّا جالسين في الباحة الخارجية للمنزل نتحدّث مع بعضنا، إذا بأحد علماء قمّ المشهورين يأتي لزيارة الشيخ الرضويّ، وهذا العالم قد توفّي، وكان معروفًا جدًّا، وعلى ما يبدو أنّه كان من حضّار دروس المرحوم السيّد البروجردي وكان معروفاً بأنّه يطرح إشكالات دقيقة في الدرس، وكان شخصيّة متميّزة، ويحمل ألقابًا كثيرة، وحينما شرع هذا الزائر في الحديث، نقل لنا حكاية عن الحادثة والفتنة التي وقعت في قمّ في الزمن السابق، حيث كانت المسائل قد تعقّدت، وانقلبت الأمور رأسًا على عقب، واختلّ الأمن، وكان الناس متوجّسين ومضطربين، لا سيّما العلماء منهم؛ يقول هذا الشيخ: «لقد أراد أحد السادة ـ ولا أريد أن أذكر اسمه الآن ـ أن يتشرّف بزيارة مشهد، فطلب منه السيّد الفلاني ـ الذي كان بدوره من أعاظم هذه البلدة الطيّبة ـ أن يلتمس من الإمام علي بن موسى الرضا حينما يذهب لزيارته، ويطلب منه أن يُساعد في حلّ هذه الأزمة؛ لأنّ أخته السيّدة فاطمة المعصومة سلام الله عليها لم تتمكّن من ذلك؛ فهي امرأة عفيفة ومخدّرة وغير ذلك؛ ولا طاقة لها على حلّ هذه المشكلة العظيمة»!
انتبهوا فأنا لا أمزح! لقد قال مثل هذا الكلام واقعًا! وخلاصة القول أنّه قال له: «اطلب من الإمام أن يُقدّم يد العون حتّى نتمكّن من عبور هذه الأزمة وتجاوز هذه القضيّة»؛ هذا كان حاصل ما نقله هذا العالم الذي جاء لزيارة الشيخ الرضويّ، وكان هو بدوره ينقل الكلام مؤيّداً، وكان يعلّق بقوله: «نعم، ينبغي ألاّ تُترك هذه السيّدة العفيفة لوحدها من دون مساعدة!» ، أجل ، كان يتحدّث بنفس هذه العبارات!!
وكنّا من جهتنا ننظر بتعجّب إلى تلك العمامة التي لا يُعلم كم يبلغ طولها، وإلى تلك اللحية التي كانت ولله الحمد جميلة، وتزيد في طولها عن لحيتي قليلاً، كما كانت عمامته تفوق عمامتي بأضعاف مضاعفة، فكنّا ننظر إليه بذلك النحو، بينما كان المرحوم الشيخ رضوي يضحك ويُحرّك رأسه من دون أن يتفوّه بكلمة، وهكذا فعلنا نحن، إلى أن ذهب ذلك الشخص، فالتفتُّ إلى الشيخ رضوي، وقلت له: «من كان هذا الشخص الذي أتى إلى هنا، من هذا الذي يتفجّر معرفةً وولايةً وعرفانًا وحقيقةً؟!!!»؛ فبدأ يتحدّث عنه ويُعرّفنا به، وأنّه كان المستشكل الأوّل على درس السيّد البروجردي، وكان، وكان...
فقلت له: يا للعجب! لقد بلغ هذا الرجل الستّين من عمره، وكان له مستوى معيّن من الفهم والإدراك، ويُمارس الدراسة والتدريس، علاوةً على المشاركة في أنشطة علميّة أخرى كالمؤسّسات البحثيّة وغيرها، لكنّه في نهاية المطاف، يبلغ به الحال إلى أن يقول: إنّ السيّدة المعصومة قدرتها محدودة، وينبغي أن يأتي الإمام الرضا عليه السلام ليعينها على إنهاء هذه الأزمة! فقال لي: «أجل، إنّ هؤلاء هم على هذه الشاكلة!».هل التفتّم؟
إنّني حينما أحدّثكم بهذه المسائل، أنتم تبتسمون، وتتعجّبون؛ ولكنّه لا عجب في الأمر.. لماذا؟ لأنّ جميع تلك العلوم التي كان يمتلكها ذلك الشخص كان يُكدّسها في صدره من دون أن يتعرّض للتربية، ومن غير أن يأخذ أحدٌ بيده؛ فصار حاله كحال جهاز التسجيل الذي يقتصر دوره على التسجيل، لكنّه يفتقر إلى التفهّم والشعور والإدراك؛ ولهذا، يصل به المقام إلى أن يقول عن السيّدة المعصومة إنّها مجرّد امرأة... يا عزيزي، إن كان الأمر كذلك فما هو سرّ كلّ تلك الروايات التي تحدّثت عن السيّد المعصومة سلام الله عليها وعن عِظم قدرها، وتلك العبارات العجيبة الواردة بشأن شفاعتها التي تشمل جميع الناس؟ إنّ سرّ ذلك هو امتلاك تلك السيّدة المطهّرة لسعة وجوديّة تُؤهّلها لإدخال جميع أهل العالم تحت شفاعتها.
ولكن، من الذي يتسنّى له فهم هكذا مسائل؟ إنّه وليّ الله الذي يقول: «إذا جاء أحد من أقصى ناحية من الكرة الأرضيّة لزيارة السيّدة المعصومة، فلن يكون خسراناً أو مغبوناً». هل التفتم؟!
فلماذا تحصل مثل هذه المسائل [ولماذا يقع هؤلاء في مثل هذا الخطأ]؟ السبب هو عدم وجود المعرفة، إذ ليس عنده إلا مجموعة من المسائل العلميّة التي كُدّست فوق بعضها البعض، صحيح أنّه كان يطالع ويباحث ويكتب؛ ولكن ما هو الفهم الذي فهمه؟!! وإلى أيّ حدٍّ تعمّق في هذه المسائل؟!
قصّة طالب العلم الشاب مع الصدر الأصفهانيّ، نموذجًا على قلّة المعرفة
لقد تذكّرت للتوّ قصّةً أخرى، ولا بأس بذكرها لكم أيضًا:
عندما كان المرحوم العلّامة في مشهد في أواخر حياته، ذهبت معه إلى أحد مجالس العزاء، وكانت ليلة الثامن والعشرين من صفر، وكان المجلس لأحد علماء مشهد، وقد انتقل إلى رحمة الله، وكان هناك بعض العلماء الآخرين أيضًا في ذلك المجلس كالسيّد مهدوي دامغاني وغيره من العلماء، فجلسنا هناك، ثم أتى أحد مواكب العزاء التابعة لمنطقة في أطراف مشهد، وكان قدومهم وعزاؤهم بأسلوب ونمط خاصٍّ بهم، وكان صاحب المجلس واقفًا على الباب ويقول بشكل مستمر: "يا الله يا الله" بحالة من التوسّل، وبعد أن أتمّوا عزاءهم ذهب نفس صاحب المجلس وأعطى محاضرةً من على المنبر، وفي أثناء المحاضرة نقل هذه القصة:كان هناك أحد علماء أصفهان في زمن المرحوم "الصدر الأصفهاني"، وعندما كان هذا العالم ـ وكان من السادة ـ في شبابه كان طالبًا للعلم، التقى هذا السيّد بإحدى الفتيات بنحوٍ ما فسُحر بها، وبما أنّه كان من الطلاب الشباب، لم يكن عنده تلك الإمكانيّات الماديّة، وبعد أن اطّلعت أمّه على الأمر تضايقت جدّاً وقالت له: "هذه البنت هي ابنة التاجر الأصفهاني الفلاني، فما هذا الوضع الذي نواجهه!" وبعد مضيّ فترةٍ، مرض هذا الشاب وساءت أحواله، فأرشدوه إلى الصدر الأصفهاني الذي كان حينها حاكمًا لأصفهان ومن الأثرياء، وكان ـ رحمه الله ـ يقوم بأعمال الخير كالمدرسة التي بناها ، وهي المسماة باسم "مدرسة الصدر" في أصفهان. على كلّ حال، أرشده أحدهم وقال له: "إن ذهبت إلى الصدر الأصفهانيّ فلعلّه يستطيع أن يساعدك في حلّ مسألتك هذه". فذهب هذا الشاب صباحًا إلى البناء الذي كان يسكن فيه الصدر؛ ولكنّه استحى أن يدخل عليه ويقابله، فبماذا سيخبره؟! وكيف سيقول له عن المشكلة التي يواجهها؟! هل سيقول له: أنا طالب علم وليس عندي عمل وما شابه ذلك؟!. في النهاية وقف هناك لمدة ثم رجع، فسألته أمُّه:
ماذا فعلت؟
فقال لها: لم أفعل شيئًا غير أنّي ذهبت إلى هناك وانتظرت، ولكنّي استحييت ولم أدخل عليه.
وبعد ذلك وفي اليوم التالي ذهب ووقف هناك؛ ولكنّه لم يستطع أن يدخل عليه، فهو لم يتمكّن من أن يدخل عليه ويخبره بقصته ويفاتحه بها، فعاد أدراجه. ثمَّ ذهب في اليوم الثالث؛ ولكنّه في هذه المرّة جاءه أحد الخدم وقال له: إنّ الصدر يريدك. فذهب ودخل عليه.
قال الصدر له: "إنّي منذ ثلاثة أيام أراك تأتي إلى هنا ثم ترجع، فما هي قضيّتك؟" فخجل ذلك الشاب؛ ولكن الصدر أصرّ عليه ليخبره بقضيّته، فأخبره بقضيته، فقال له الصدر: "حسنٌ جدًا، تعال إليّ غدًا لنرى ما سيحدث". فيأتي إليه ذلك الطالب في اليوم التالي، ويركبان كلاهما ويذهبان إلى منزل التاجر [التاجر الاصفهاني المعروف والد تلك الفتاة التي أُعجِب بها طالب العلم هذا]، فيطرقان الباب في الصباح الباكر، فيفتح ذلك التاجر الباب ويقول مبتهجًا: ما الذي حدث لكي يأتي إليّ الصدر الأصفهاني!! تفضلوا تفضلوا...
فيدخلون ويجلسون، ثم يُقبِل الصدر على ذلك التاجر ويقول له:
لو أنّ رسول الله أتى وخطب ابنتك لابنه فبماذا ستجيبه؟
فقال: هذا يوم السعد أن يخطب رسول الله ابنتي.
فقال له الصدر: جيّد جدًا، إن هذا السيّد الطالب للعلم ابن رسول الله، وقد جئنا إلى هنا لكي تزوّج هذا العريس من ابنتك، وإنّي أتعهد من جهتي أن أجهّز له كل ما يحتاجه لحياته، ومن جهتك أنت عليك أن تزوّجه وتنهي موضوع زواجه.
فقال: نعم، جيّد جيدًا.
وخلاصة الأمر قاموا بإجراء عقد الزواج في ذلك المجلس، وأعطى الصدر الشاب أرضًا ومالًا وخادمًا، ومنزلاً، ورتّب لهذا السيّد الذي هو من أبناء رسول الله أمره.. [يقول سماحة السيّد ممازحًا:] وإن شاء الله يعطي الله باقي السادة مثل هذا النصيب. ففي بعض الأحيان تحصل هكذا أمور؛ ولكن إلى الآن لم يقسم الله لنا ذلك، ولكن ربّما يحصل في المستقبل، الله واسع كريم، فلعلّ أحدهم يأتي ويكون كالصدر الأصفهاني فيهتمّ بذريّة رسول الله [يضحك سماحة السيّد والحضور].
والحاصل أنّ هذا الطالب يتزوّج، ثم يصير من علماء أصفهان. وبعد أن صار هذا الشخص من علماء أصفهان، سافر إلى زيارة العتبات المقدّسة، وعندما وصل إلى النجف، وقبل أن يذهب إلى أمير المؤمنين عليه السلام ذهب لزيارة الصدر الأصفهاني، إمّا في وادي السلام أو في نفس الصحن الشريف، اختلطت عليّ المسألة الآن؛ لأنّ الصدر الأصفهاني مدفون في النجف [فإمّا أنّه مدفون في وادي السلام أو في الصحن الشريف]. وعلى كلّ حال، ذهب هذا السيّد إلى زيارة قبره أولًا ثمّ ذهب إلى زيارة أمير المؤمنين عليه السلام، وعندما سألوه معترضين عليه:
"لماذا تقوم بهذا؟!" فكان يذكر لهم هذه القصة، يقول لهم: "ألا ينبغي عليّ ـ بعد الذي تفضّل به عليّ ـ أن أذهب إلى زيارته أولاً؟!" فيقوم الشخص المعترض بتأييده، ويقول له: "نعم ينبغي عليك ذلك".
عندما ذكر ذلك الخطيب هذه القصّة صرت أنا والمرحوم العلّامة أحدنا ينظر بوجه الآخر استغرابًا، وبمجرّد أن سمع أحد العلماء الجالسين هناك هذا الكلام، حتّى قال بصوت مرتفع: "كلّا ليس كذلك، ما تتفضلون به هو أصل مثبت"، والرفقاء [وأشار سماحة السيّد إلى المعمّمين منهم] يعرفون هذا الاصطلاح، ومراده من ذلك أنّه وإن كان الصدر الأصفهاني قد قدّم لك خدمةً إلاّ أن هذا ليس علّة تجعلك تزوره أولًا، وهنا لم ينبس الخطيب ببنت شفةٍ.
فمن الواضح أنّ مستوى معرفة هؤلاء كلّهم؛ سواء الخطيب الذي كان ينقل هذه القصّة مؤيّدًا لها، أم ذاك العالم الذي سمع كلام الشاب وارتضاه أم نفس ذلك الشاب، من الواضح أنّ مستوى معرفتهم هو هذا؛ حيث إنّهم يقولون: عملك صحيح ومن الواجب عليك أن تذهب إلى قبر الصدر أولًا، ثم تذهب إلى زيارة أمير المؤمنين! فهل هذا الكلام صحيح؟!
عندما خرجنا من هناك قال المرحوم العلّامة: ما هذا الكلام؟! كيف لهذا أن يقول هذا الكلام؟! إنّ الدنيا بأسرها تُدبّر بواسطة ولاية أمير المؤمنين، وما نال ذلك الشخص هذا التوفيق من خدمة الصدر له، إلا بواسطة أمير المؤمنين!
أجل كم هو ضعيفٌ فهمنا لهذه المسألة!
انظروا إلى هذه المسألة، فالقضيّة التي نقلتها أولًا وهذه القضيّة كلاهما من وادٍ واحد، فالقضيّتان متشابهتان.
وكذلك المطلب الذي بيّنته للرفقاء [سابقًا]؛ حيث كان ذلك الشخص يقول للمرحوم العلاّمة: لا ينبغي هدم تلك المنازل الموقوفة هناك، لا ينبغي هدمها لتوسعة حرم الإمام الرضا عليه السلام، بل ينبغي أن تبقى في مكانها ولا تُهدم.
فقال له المرحوم العلّامة: إنّ الحرم للجميع وينبغي تقديمه و... . ولكنّه لم يدرك المسألة، ولم يفهم القضيّة.
وقد قلت للعلّامة بعدها: هؤلاء لا يفقهون هذا الكلام، فقال: نعم يا سيّد هؤلاء لا يفقهون، لا يعرفون الإمام الرضا، ولا يعرفون الولاية؛ فتراهم يساوون بين زيارة الإمام الرضا المستحبّة وبين أيّ استحباب عاديٍّ آخر، فهذا مستحبٌّ وذاك مستحب!!.
وأمّا كيف تحصل هذه المعرفة ولمن تحصل؛ فإنهم ليسوا في هذا الوادي أصلًا، ولم يخطوا [خطوة] في هذه المسألة أصلًا، كلّ ذلك بسبب الجهل، فمن يرد أن يدرك مبتغاه ويحقّقه، عليه أن يزيح هذا الجهل؛ وذلك يكون بواسطة التعامل مع أشخاصٍ يكون حالهم وأحوالهم وأمورهم متميّزة عن الآخرين، ولابدّ لهم أن يكونوا في أجواء أخرى.
نسأل الله أن يوفّقنا للوصول إلى ذلك العلم الذي يقصده الإمام عليه السلام، وأن نحصل على ذلك الفهم والإدراك، وإلا فإنّ تلك المطالب والكتب قد قرأها جميع أولئك ودرسوها. واقعًا في بعض الأحيان أسمع بعض المطالب عن بعض العلماء، ومع أنّهم من العلماء الكبار، ولكن عندما أستمع لمحاضراته وما يطرحه أتساءل: لماذا كان وضعه هكذا؟! فقد كان توقّعي منهم أكثر من هذا الحدّ وأعلى من هذه القضايا، ثم أقول: نعم إنّ المراحل الأعلى من الفهم تحتاج إلى طريقٍ آخر وأسلوب آخر، وهما ليسا موجودين في كل مكان . نسأل الله أن يوفّقنا في صراط أهل البيت وأوليائهم أكثر فأكثر.
اللهمَّ صَلِّ على محمَّدٍ وآلِ محمَّد.