المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني
القسمعنوان البصري
المجموعةالسلوك العقلاني و المراقبة
التوضيح
تكلم السيد في هذه المحاضرة عن مفهوم المراقبة، وأهميتها في حياة السالك،وأنه على الإنسان أن يهتم بمسائل حياته الأخروية أكثر بكثير من اهتمامه بمسائله الدنيوية. وذكر بعض المصاديق للمراقبة و التي تخفى على كثير من الناس، وركّز على أهميّة الفهم وعدم الإغماض والتغافل عن الأمور التي تمرّ علينا أو نسمعها في حياتنا. وهل للإنسان أن يأخذ بكلام الأشخاص من دون أن يَزِنه ويقيسه على المباني التي عنده؟ وبالنسبة لأوامر أولياء الله كيف علينا أن نتعامل معها؟ وكيف أن اختلاف مراتب أولياء الله يجعلنا نتعامل معهم بطريقة مختلفة ؟ ثم بيّن سماحته كيف أنّ عدم المراقبة يجعل النفس تنساق خلف الأشخاص وتصحّح أخطاءهم ، وترقّع لهم.ثم ختم كلامه ببيان أهميّة العشر الأُوَل من شهر ذي الحجة الحرام وماهي الأعمال المهمّة فيه، وكيفيّة أدائها
هو العليم
كيف نطبّق المراقبة في حياتنا؟
شرح حديث عنوان البصريّ - المحاضرة ٢۱٣
ألقاها
آية الله الحاجّ السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ
قدس الله سره
أعوذ باللـه من الشيطان الرجيم
بسم اللـه الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين
والصلاة والسلام على سيّدنا ونبيّنا أبي القاسم محمد
وعلى آله الطيبين الطاهرين
واللعنة على أعدائهم أجمعين
كان الكلام في الجلسات السابقة حول كيفيّة الطعام، وإن جرى الكلام بشكل استطرادي عن كيفيّة المراقبة؛ باعتبار أنّ بعض الإخوة سأل عن ذلك فبمناسبة الشهرين المباركين: ذي القعدة وذي الحجّة، تكلّمنا بعض الشيء عن ذلك. ومن جهة أخرى، نحن في معرض الدخول في شهر ذي الحجّة، لذا نوقف الكلام في هذه الجلسة أيضاً، بشكل مؤقّت عن كيفيّة المأكول للسالك، حتى نرى ما الذي يقدّره الله تعالى في المستقبل إن شاء الله.
بالنسبة إلى المراقبة، ذكرنا للإخوة والرفقاء بأنّ تصوّر الناس للسير والسلوك إلى الله تعالى هو أن المسألة المهمة فيه هي الاشتغال بالأذكار والأوراد، وكلّما كان الشخص مشتغلاً بالذكر والورد، فلن يكون لديه ـ بطبيعة الحال ـ أيّ مشكلة في سيره، ولن يكون لديه شيء يمنعه في أثناء سيره. وذكرنا بأنّ هذه المسألة ليست واقعية، بل مسألة الذكر ليس لها إلا نسبة بسيطة من القضيّة، والنسبة الأكبر والأهم هي مسألة المراقبة؛ وهي عبارة عن تطبيق أمور الحياة على أساس ما يُطلب منه، وعلى أساس رضا الله، الذي يعتمد على ما بيّنه العظماء وذكروه ، وعلى المباني التي لديهم، وهذه المباني هي أمور مشخّصة وواضحة، وخصوصاً في هذه السنوات الأخيرة، حيث بيّنها المرحوم الوالد رضوان الله عليه بوضوح في تأليفاته التي دوّنها في الأمور الاجتماعية وغير الاجتماعية، وهي تكفي الإنسان إن طالع كتبه وتأليفاته بدقّة وتأمّل، وأن لا يغمض ويغضي، وأن لا يتجاوز ما هو موجود، ولا يعمل على التوجيه والتأويل، لا يعمل على التوجيه والتأويل، هل التفتم! حتى يجد هذا المطلب بوضوح في تأليفاته وكتبه.
إنّ أصل المراقبة يعني أن يطابق الإنسان أموره على أساس رضا الله؛ وأن لا يخدع نفسه، وعندما يصل إلى مطلب عليه أن لا يمرّ عليه من دون تأمّل وتوقّف وغور في أطرافه ومن دون أن يقيسه على الأمور التي يعلمها ، وأن لا يلتفت إلى كلام هذا وذاك، وأن لا يبني سعادة الدنيا وفلاح الآخرة على أساس أخبار آحاد، وأن لا يعير أذنه إلى ما يقال هنا وهناك..
لقد شاهدنا في هذه السنوات.. شاهدنا ما اشتهر بين الناس من أن فلاناً قال هذا الكلام.. وقد شاهدت الكثير من المسائل التي كانت تصدر من أشخاص معروفين ومشهورين، حيث كنا نسمع أنّ خبراً أشيع عن فلان، وكنّا عندما ننظر إلى أنفسنا ونطبّقه على ما لدينا من أمور ومعلومات، نرى أنّه لا ينسجم معها، إذ كيف يمكن أن ينطبق ذلك مع ما نعرفه عن واقع هذه المسألة؟! والحال أننا بذلنا عمرنا للوصول إلى هذه الواقعية، وجعلنا ديننا وحياتنا على أساسه، وطبّقنا دينانا وآخرتنا على وفقه، إذ كيف ينطبق ذلك على هذه الواقعيّة؟ ثم بعد ذلك علمت حقيقة الأمر، وهي أنّ شخصاً قال أمراً ونقل مطلباً، ثم زيد فيه انطلاقاً من التخيّل والتوهّم، إلى أن خرجت المسألة بهذا الشكل.
المطلب الذي أريد بيانه هو أننا صرنا نتعامل مع مطالب السلوك ومطالب ديننا بتساهل، فعندما نصاب بألم في معدتنا مثلاً نطرق لأجله ألف باب حتى نعالجه، ونسأل ألف شخص عن هذا المرض، فنذهب إلى هذا الطبيب فيقول كذا، وإلى ذاك فيقول كذا، ونذهب إلى آخر لمعرفة رأيه، وننتقل من الطبيب المتخصّص إلى طبيب أكثر تخصّصاً في ذاك الموضع الخاص من المعدة، وفي ذلك التخصّص نختبر العديد من الأطباء؛ فبعضهم يقول عليك أن تجري عملية جراحية، وبعضهم يقول لا فائدة من العملية، والآخر يقول عليك بتناول الدواء، والآخر يقول لا فائدة في الدواء، وهذا يقول اذهب إلى هنا، وذاك يقول اذهب إلى هناك.. فترانا نطرق ألف باب للحصول على معالجة للمعدة. أما بالنسبة إلى أهم مسألة في حياتنا، وهي مسألة آخرتنا ومصيرنا و أبديّتنا، وكيفيّة انتقالنا عن هذه الدنيا، هل ننتقل عنها هكذا كيفما كان؟! و هل يمكننا أن نتدارك هناك النقصان الذي ألحقناه بأنفسنا في هذه الدنيا؟! فلو كان الأمر كذلك فجيد حينئذٍ، فيمكن للإنسان أن يعيش في هذه الدنيا كيفما يشاء، ثم عندما يذهب إلى ذاك العالم يصحّح ما أفسده ويجبر النقص الذي صدر منه في هذا العالم. [هل الأمر كذلك]أم أنّ المسألة مختلفة عن ذلك، فبناء على ما نُقل لنا وأخبرنا به الذين شاهدوا، وبناء على ما رواه لنا الصادقون المصدّقون، وما ذكره لنا الأنبياء والأولياء والعظماء من أنّه عندما نرحل عن هذه الدنيا يُغلق ملفّنا تماماً؛ "اليوم عمل ولا حساب وغداً حساب ولا عمل"۱. فعندما نعرف هذه المسألة، فهل نمشي ونرحل هكذا؟ حيث يموت أحدنا في سنّ الخمسين والستّين والسبعين والخامسة والستّين والخامسة والأربعين؟ إننا لأجل معالجة مرض معدة نذهب إلى كل مكان لنصل إلى النقطة المطلوبة، ولكن بالنسبة إلى هذه المسألة فقد تساهلنا بها إلى حدّ أنه يمكن أن نترك ديننا ودنيانا لأجل كلام شخص واحد، فنقول: فلان قال كذا! يا أخي لعلّه قال ذلك اشتباهاً! أو يقول فلان قال هذا أو ذاك.. أليس كذلك؟! ونحن لدينا الكثير من نظائر هذه المسألة في الموارد الاجتماعية، وبعد أن نبحث في هذه المسألة التي انتشرت بين الناس، نرى أنّه لا صحّة لها بتاتاً.
الآن انظروا! فبعض الناس يبني حياته على هذا الأساس وبعضهم يجود بحياة أولاده.. كل ذلك على أساس أنّ فلاناً قال هذا الكلام ولا شك أن ّكلامه صحيح! وعلى أساس أنّ كلامه صحيح حتماً يبذل حياته، والحال أنّ الروح ليس بالأمر البسيط الذي يمكن تعويضه، أو أن يبذل روح أولاده، ويضع مسائل أخرى في هذا السبيل، كل ذلك على أساس أنّ فلاناً قال كذا على المنبر! أو فلاناً قال كذا في التلفاز. هل المسألة بهذه الراحة، يعني هل المسألة سهلة وبسيطة إلى هذا الحد؟! فعندما يقال لنا: عليك أن لا تخطو خطوة إلا بيقين، المراد به أن لا نصل إلى هذا المستوى، إذ بعد خمسة عشر عاماً نقول عجباً! ما كنا نقوم به من عمل إنما كان على أساس قول شخص، والحال أنه تبيّن لنا الآن أنّ قوله كان اشتباهاً، فتكون تلك السنوات قد ذهبت هباءً. اذهب وتحقق من قبل أن تُقدم! ولهذا السبب لم يجعل العظماء مبنى اعتقاداتهم على أساس خبر الواحد، إذ ينبغي أن يكون الخبر في ذلك خبراً متواتراً؛ فيتفحصون وينظرون إلى هذا ماذا يقول وذاك ماذا يقول، فإذا كان هذا يقول كذا وذاك كذا.. عليّ أن أسأله مرة أخرى لأرى هل تغيّر كلامه أم لا؟
لقد حدث في قضيّة سابقة وذكرتها فيما بعد للإخوة؛ وهي أن شخصاً نقل كلاماً وباعتمادنا عليه تكلّمنا به، وبعد أن ذهبتُ وتحقّقت بنفسي منه ووجدت أنّ المسألة لم تكن كذلك! قلت عجبا! وعندما تكون المسألة بهذا الشكل، فلماذا تعتمد على عبارات الآخرين في نقل هذا المطلب؟! فإذا تغيّرت عبارة واحدة في هذا المطلب سيختلف الأمر اختلافاً جذرياً، بكلمة واحدة وبعبارة واحدة وحرف واحد. ومع ذلك يأتي شخص ويعتمد على كلام شخص، وبعد مدّة يرى أنّ المسألة لم تكن كذلك! فيكون قد خسر الدنيا والآخرة؛ لأنّه لم يأخذ المسألة بشكل متقن، ولم يفهم المطلب ولم يدقّق فيه كما ينبغي.
وهنا لا يمكن أن يصدر منه شيء، فالوقت والعمر قد انقضى! وذاك المقدار من العمر خمسة عشر عاماً أو سبعة عشر عاماً أو عشرة أعوام التي ذهبت من عمره لن يكون لها ما بإزاء. نعم يمكن أن يسعى مجدّداً ويعمل، فذاك أمر آخر، أما هذه السنوات التي ذهبت منه ليس لها ما بإزاء، ولا عوض لها فيعوّضها الإنسان.
المراقبة تعني أن يأتي الإنسان ويعمل بتشخيصه فيما يقتضيه صالحه، هذا الذي يقال له مراقبة! والعظماء كانوا يذكّرون بهذا المطلب، وبهذه النكتة. فكلّما اهتمّ الإنسان بهذه المسألة أكثر، كلّما استفاد أكثر، وإذا قصّر فيها فهو الذي يكون قد خسر!
ومن الخطأ أن يقال: بأنّا نريد أن نصلّي لنخرج عن عهدة هذا الدين، وكأنّ الله يطلبنا بشيء فنصلي له حتى نخرج عن هذا التكليف! أو يقال: نحن فعلنا هذا الأمر حتى نسوّي حسابنا مع الله، وقمنا بهذا العمل لنصفّي الحساب مع الله.. يا عزيزي! ليس لله تعالى حساب مع أحد، ولا يطلب من أحد شيئاً، ممن يطلب الله شيئاً؟ فذاك المستغني بنفسه عن كل شيء، وذاك المتّصف بصفة الصمدية بمعنى أن ذاته لا تحتوي على أي نقطة خلاء أبداً حتى يأتي ويملأ ذاك الخلاء من الآخرين.. ذاك ما الذي يطلبه منا؟ لا يطلب شيئاً! لذا فمن الخطأ أن نبيّن المطلب بهذا الشكل، فالصلاة التي نصلّيها لا تسوّي الحساب بيننا وبين الله، بل الصلاة التي نصلّيها تجعلنا نتقدّم إلى الأمام، لا أنّها تسوّي الحساب مع الله، فالله لا يطلب منّا شيئاً ولا يحتاجنا بشيء.. فأن تأتي وتقول: إلهي لقد صلّيت لك صلاة الظهر والعصر، فهل تطلب منّي شيء بعد ذلك؟ لقد خمّسنا أموالنا على رأس السنة، فهل تريد شيئاً بعد ذلك؟ وأعطينا الزكاة، وذهبنا إلى الحج مع تحمّل ألف مشقّة، وهو يشتكي ويتأفف.. إذا نظرنا إلى المسألة بهذه النظرة فلن يكون لها أي تأثير، أو أنّ تأثيرها سيكون بسيطاً؛ بل علينا عندما ننهض للصلاة أن نقول: إنّ بدني الآن صار بحاجة إلى ماء، وعليّ أن أشرب كوب ماء حتى أرفع الخلل الناتج عن ذلك، وإلا فسوف أقع في ضرر نتيجة قلّة الماء، وعندما نريد أن نقوم للعبادة أو لسائر الأمور، علينا أن ننظر أن هذه النفس في حركتها وسيرها بحاجة إلى الإتيان بهذا العمل؛ كالمريض الذي يحتاج إلى تناول القرص المضاد للالتهاب عند موعده، فإن لم يتناوله بوقته فلن يعود القرص نافعاً له، بل سيصير بحاجة إلى عمليّة جراحيّة لاستئصال المرض، لأنّ بدنه صار مقاوماً للمضاد.
لذا لا بد لنا من تحصيل هذا النظر عند قيامنا للعبادة، فالله تعالى لا يطلبنا بشيء، وليس عند الله خوف حتى يأتي الإنسان ويقوم بعملٍ خوفاً منه، وما ورد في الآية:
{الَّذينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللَّهِ وَ يَخْشَوْنَهُ وَ لا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اللَّهَ}۱ أو آية {يَخافُونَ رَبَّهُم}٢، أو {يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ}٣ هل تدرون ما معناها؟ معناها أنّ الخشية والخوف يعود إلينا لا إلى الله، والخوف يعود إلينا لا إلى الله، يعني أنّ الوجود الذي لديه هذه المنقصة، هذا الوجود عندما ينظر يوم القيامة ويرى أيّ خسران حلّ به، كان يمكنه أن يرفع هذا النقصان عنه في هذه الدنيا، بحيث تحصل له حالة تكون هذه الحالة جهنم بالنسبة إليه، وتكون هذه الحالة هي التي تحرقه من داخله.
عندما يرحل الإنسان عن هذه الدنيا ويرى أنّ الطريق الذي جعله الله له والذي كان عليه أن يطويه في هذه الدنيا خلال هذه السنوات الستين التي كتبها الله له في هذه الدنيا، هذه الستين سنة سيجعلها الله له في ذلك العالم أيضاً، غاية الأمر أنّه في هذه الدنيا تكون ستين سنة، لكن هناك تكون بإضافة ما لا نهاية. لذا كان عليك أن تنفق هذه السنوات في هذه القضية؛ كان عليك أن توصل هذه النفس إلى كمالها، وكان عليك أن تصلح هذه النفس، كان عليك أن تعمل بما قيل لك، كان عليك الخروج عن دائرة أنانيّتك ونفسانيّتك، والحاصل أنّ هناك حساباً بين هذا العالم وذاك العالم، فلا يُعطى أحد شيئاً مجّاناً. هذا الحساب الموجود في هذا العالم وذاك حساب قائم على أساس المنطق؛ فكل شيء له مكانه الخاص. عندما أتخلّف عن التقدّم لخطوة إلى الأمام، فأنا الذي لم أتقدّم.. وكنت أشعر بهذا الموضوع بوضوح في زمن المرحوم الوالد رضوان الله عليه؛ إذ عندما كان يتحدّث ويطلب من الأشخاص شيئاً، كانوا يرون أنّهم بإطاعتهم إيّاه يُسدون له خدمة! وهذا الأمر كان مشهوداً بوضوح؛ فإذا أمر شخصاً بأمر وقال له: اذهب وقم بهذا الفعل! عندما يقوم به يقول: لقد قمت بما طلبتَ مني.. يا عزيزي لقد طلب منك الفعل لك لا له! فهو كان دليل لك فقط. عندما يصف الطبيب الدواء للمريض، هل يأتي المريض ويقول للطبيب: لقد تناولتُ الدواء الذي أمرتني به! التفت إلى ذلك! إذ يقول الطبيب له عند ذلك: أنت الذي تنتفع بالدواء، وإن لم تتناوله تَمُتْ! فلماذا أتيت إليّ مرّة أخرى؟ يكفيك أن تدفع أجرة المعاينة مرّة واحدة، اذهب واعمل بما وصفتُ لك!
كنت أشاهد بعض الأشخاص عندما يُطلب منهم أن يفعلوا هذا الأمر أو ذاك، كان يحصل لهم حالة من السرور، فالسيد قد أعطانا أمراً، فعليّ أن أذهب وأقوم به، ثم آتي وأقدّم تقريراً له بذلك.. والحال أنّه لا داعي لجميع هذا الكلام، فهو عندما يأمرك أن تفعل هذا الأمر، بمعنى اذهب وتناول ذاك الدواء! وتناول هذا المضاد الحيوي وهذا القرص، تناول هذا الماء وهذا الطعام الضروري لك الآن! هو يقول لك ذلك، لكن الشخص يفهم منه شيئاً آخر! فما يكون منه [العلامة] إلا أن يشكره على ذلك ويتبسم في وجهه ويقول له جزيت خيراً بقيامك بهذا الفعل! لكن ما نتيجة هذه الحالة؟ نتيجتها هي أن الإنسان مهما عمل من عمل فهو يعمله وفي ذهنه أمر آخر، أي أنه يقوم به لأجل شيء آخر، فهو يقوم بالعمل لقاء عوض محدّد. فهذا الأمر لا يجعل السالك يتقدّم للأمام!
هكذا كانت علاقة المرحوم العلامة بأستاذه المرحوم الحداد رضوان الله عليه؛ فهو كان ينتظر أي شيء يقوله ليأخذه من فمه مباشرة ويعمل به، لا أن ينتظر منه أن يقول له: سيد محمد حسين اذهب وقم بهذا العمل.. وهذه من الأسرار، وما أقوله لكم من المطالب الأساسية، وعلى الإنسان أن يلتفت جيداً إليها، خصوصاً أننا على مشارف شهر ذي الحجّة، وفي فترة ورود الواردات التوحيديّة.. والحاصل أنّ فهمه لهذا الأمر من الأول كان مخالفاً لهذا الفهم، لا فقط بالنسبة إلى هذه المسألة، بل بالنسبة إلى السابق أيضاً، حيث كانت هذه المسائل واضحة من كيفيّة المطالب والعبارات التي يطرحها، وذلك عندما كان في خدمة المرحوم العلامة الطباطبائي، وبعد أن ذهب إلى النجف، حيث استمر على هذا المنوال أيضاً، ففي جميع هذه الموارد كان يعتمد على هذه المسألة.
لذا عندما وصل إلى ذاك الأستاذ الواقعي، قال بحسب تعبيره: "عندما وصلت إلى السيد الحداد، وصلت إلى كل شيء"، وقد سمعت هذه العبارة منه مراراً، وقال: كان بالنسبة إليّ كلّ شيء. وعندما وصل كان مثل شخص والهٍ وظمئان يركض للوصول إلى الحقيقة..
عندما ذهب للقاء المرحوم السيد الحداد، كان ذلك في وقت كان يتتلمذ سلوكياً على يدي المرحوم الأنصاري، والحال أنّ الشيخ الأنصاري لم يقل له اذهب إلى السيد الحداد! لكن ما الفهم الذي فهمه وما الحال الذي كان لديه، بحيث أنه عندما ذهب إلى السيد الحداد ـ وكانت تلك المرة الأولى التي يلتقي به ـ رأى أنّه هو الذي كان يبحث عنه!
نعم، علينا أن نراعي الاحترام أمام العظماء، وأن نراعي الأدب في العبارات التي نسوقها، وهذا هو الذي تعلّمناه من هؤلاء العظماء، ففي عين الاحترام ونفس احترام موقعيّتهم ومكانتهم ينبغي أن نلحظ حيثيّة كلّ منهم، ورتبته. ألم يقل هو [العلامة] نفسه بالنسبة إلى المرحوم الأنصاري: عندما كنت أنظر إليه، كنت كأنّي أنظر إلى نبيٍّ من أنبياء الله تعالى! ألم يقل ذلك؟ ألم يُكنّ له الأدب والاحترام الكبير، وكم من المسائل التي كانت تجري بينهما، وأي الأفعال كانت بينهما، عندما أذكر بعضها للإخوة يتعجّبون من ذلك، ويقولون: عجباً هكذا كان يفعل مع أستاذه! لكن في نفس الوقت كان لكلٍ منهم مرتبته الخاصّة به. قطعاً لم تكن مرتبة المرحوم الأنصاري عند المرحوم الوالد كمرتبة المرحوم السيد الحداد! لم تكن قابلة للقياس أساساً، فذاك كان في أفق وهذا في أفق آخر، وإن كان كل منهما قد طوى مراتب ومراحل، حيث كان المرحوم الأنصاري رضوان الله عليه قد وصل في أواخر عمره إلى مراده ومقصوده، لكن هناك اختلاف بين وصول ووصول، ولدينا اختلاف بين سعة وسعة أخرى. وكل من هؤلاء له رتبة ومقام خاص به، وعلى أساس هذه المرتبة يقوم بتدبير أموره.
قلت يوماً للمرحوم العلامة رضوان الله عليه: كيف كنت تتعامل في الفتاوى التي كان رأيكم مخالفاً لرأي المرحوم الأنصاري؟ فتأمّل وقال: كنت أحتاط! ضعوا هذا الكلام إلى جانب المطلب الذي ذكرته في المجلّد الثاني أو الثالث من أسرار الملكوت، عند قوله: لو أمرني بشرب كوب منهيٍّ عنه ـ وقال ذلك أمامي وأمام أخي ـ أشربه بلا تردّد! من الذي يذكر هذا الكلام؟ هذا الكلام يصدر من مجتهد كان بالحدّ الأدنى أعلم من أقرانه. ما الذي فهمه من هذه الشخصية، بحيث لم يقل: أحتاط في المقام! هناك قال أحتاط، أما هنا فلم يقل أحتاط، والحال أنّ كليهما كان من أولياء الله والعظماء ومن العرفاء، إذ لا كلام في ذلك، ولدينا أمل بشفاعتهما أيضاً!
هذا هو الذي يقال له مراقبة، يعني أنّ كلّ خطوة تخطوها يجب أن تكون منطبقة مع ما تشخّصه، دون أن تخدع نفسك، وبدون أن تغمض عينك، وبدون أن تعمل على التأويل والتوجيه وغضّ النظر.. لو كان المرحوم العلامة قد تعامل مع المرحوم الحداد كما ذكر أنّه كان يتعامل مع المرحوم الأنصاري لكان وقف في مكانه، لم يكن قد تقدّم وارتفع، فهنا عليه أن يتجاوز هذا الأفق. هناك كان عليه أن يحتاط، وأن يخالف.. حيث كان المرحوم العلامة على ارتباط مع الكثير من الأفراد كما ذكرت لكم.
في مرة من المرّات حصل أمر، والظاهر أنّ ذلك كان في النجف، وكنت في السابعة عشرة في ذلك الوقت ـ لن أذكر أسماء الأشخاص ـ فقال شخص لأحد العلماء الكبار وكان وصياً للمرحوم السيد القاضي أمر شخصاً بأمر ـ أو أنه طلب منه دستوراً فأعطاه إياه ـ عند ذلك التفتُّ إلى المرحوم العلامة وقلت له: هل هذا الدستور صحيح؟ انظروا شاب في سن السابعة عشر يعمل على تعيين تكليف لبعض العظماء[يبتسم السيد].. وعلى كلّ حال هكذا كنّا جريئين.. فتبسّم المرحوم العلامة بسمة مليئة بالمعاني ولم يقل شيئاً! حسناً، ما الذي يستفاد من عدم قوله شيئاً؟ ولو كان صحيحاً لقال نعم صحيح، ولا إشكال فيه، لهذا السبب ولذاك الدليل، ولكان عمل على رفع اشتباهي في ذلك، حيث كان لديّ إشكال على هذا الدستور؛ حيث قلت له لو كنت مكان ذاك الشخص لما عملت بهذا الدستور.. فلم يقل شيئاً واكتفى بالضحك! والحال أننا كنا نفهم الكثير من الأمور، بل كلّ من هو على علاقة بالعظماء يفهم من خلال لحن الكلام والجواب والقرائن والشواهد الكثير من الأشياء.. في حين أنّه كان مخالفاً له، غاية الأمر أنّه لم يقل شيئاً من باب الأدب. وقد جرى نظائر لهذه القضيّة كثيراً؛ كما ينقل هو نفسه في بعض موارد، ليس من المناسب ذكرها.. ولكن كنّا نرى أنّه كان يعمل طبقاً لتشخيصه. أما الكلام في أنّه عندما يكون مقابل أستاذه فهل يتعامل كذلك؟ هل كان يقول: بالنسبة إلى المطلب الذي تفضّلتم به ينبغي أن أفكر فيه قليلاً وأتأمل به لأرى ماذا سيحصل! هل كانت المسألة كذلك؟ أم أنّه كان يقول تلك العبارة؟ بأنّي دون تردد أتناولها! هذا هو المراقبة.
من يتحرّك في هذا الطريق وعلى هذا الأساس هو في كلّ لحظة في حالة صعود! لأنّه وضع نفسه في هذا الخط، ووضعها في هذا المسير، لا يغلق عينه ولا يسدّ أذنه، ولا يقول: ننظر ما الذي سيحصل! عندما تقول ذلك تكون قد خسرت، وانتهى الأمر! وقولك: لا إشكال أن نقوم بهذا الأمر الآن، معناه أنّك قد انتهيت! لأنّ حياة الإنسان في كلّ لحظة في حالة تحرّك! اليوم عندما تتوقّف في هذا المكان يؤدّي إلى أن تتوقّف في مكان آخر، اليوم عندما تغمض النظر عن أمر فسيؤدي إلى استمرار هذا الإغماض؛ وسوف نغمض العين غداً عن مسألة أهمّ من هذه، وبعد غدٍ مسألة أخرى، وفي السنة القادمة.. إلى أن نتبدّل إلى أشخاص مداهنين، إلى أشخاص نزيّن الأمور، فالنفس تتبدّل، إلى أن لا تقدر على أن تفهم شيئاً.
كنت أفكّر مرّة في مسألة الانتخابات ـ وقد انتهت تلك المسألة فعلاً ـ فقلت في نفسي لماذا يقوم بعض الأشخاص بدعم هذا الشخص؟ فتحيّرت في ذلك، إذ هذا الشخص معروف وكذا وكذا... ما السرّ في ذلك.. أما أنا فكنت أعلم من هو هذا الشخص، وقد اتضح فيما بعد للآخرين حقيقة الأمر. لكن ما السرّ في أن يحصل تمايل للنفس إلى هذا الشخص؟ فهذه مسألة مهمة، إذ لماذا لا يحصل هذا الميل عند ذاك أو الآخرين؟ فهذا الميل الذي حصل عند هؤلاء من أين نشأ؟ فرأيت أنّ هذا الشخص مثل ذاك، فهما في أفق واحد، فهو شاء أم أبى في هذا الأفق ويميل نحوه.. فلو سألته لماذا تفعل ذلك؟ يقول لا أعلم لكن القلب يميل نحوه! فيحصل هذا التمايل بنفسه، وهنا مطالب كثيرة.. أعتقد أني تعرّضت لذكرها للإخوة سابقاً، ولعله في شهر رمضان، حيث ذكرنا لماذا تشعر بأن النفس قد مالت دفعة نحو شيء معين، والحال أنها لم تكن تميل إليه قبل ذلك! فما هذا الميل؟ وما الذي حصل؟ فقد كنت تنفر منه فيما سبق، أما الآن فلا تنفر! أو على العكس فما كنت تميل إليه صرت تنفر منه! فما الذي حصل في هذا الأمر.. وهذا من الأمور التي ينبغي التوجّه إليها جداً. فالإنسان لا يجد أي مبرر للميل نحو ذاك الشخص؛ لا في شكله ولا في علمه ولا في شيء.. ومع ذلك ترى أن هذا الرجل يميل نحوه، فما الذي حصل في هذا المجال؟ هنا يكمن الخطر، حيث يرى الإنسان نفسه يعدّد مزايا هذا الشخص، وإذا قلت له الآخرون كذلك يقول لك كلا، فهذا فيه هذا العيب وذاك كذا.. فهذا الذي هو أسوأ من الآخرين بألف مرة تأتي وتعمل على توجيه كلامه وأفعاله؛ فقد تورّط معه، وصارت نفسه مصنعاً للتوجيه والتبرير، وبعد أن صار كذلك لا يعود يصدر منه إلا ذلك.. فالمصنع يعتمد على تصنيع ما يقدّم إليه من مواد أولية، فصناعة السيارة تقتضي أن يوضع في المصنع حديد وبلاستيك وبعض الأمور فتخرج سيارة، أما إذا وضعنا الكذب والاحتيال والخداع والانتشال في المصنع فنتيجته ستكون معلومة، وعند ذلك يبدأ بالتوجيه والترقيع؛ الأمر كذلك، وهذا هكذا، وليس صحيحاً، وفي ذلك الوقت كان هذا هو الصلاح أما الآن فالصلاح في هذا، وهكذا... يا تعيس الحظ! اخط خطوة للخلف وتراجع عن موقفك، ولا تُسء إلى نفسك وإلى الآخرين لهذا الحدّ! قل: أخطأت! وأرح نفسك وأرح الآخرين. لكن عندما لا نقرّ بأننا أخطأنا ننزل السماء على الأرض ونقلب الأرض رأساً على عقب! لكن ما الفائدة في ذلك؟ وما نتيجة هذا العمل؟ هل التفتم؟!
المرحوم العلامة كان يقول لتلامذته بأنّه ينبغي أن يكون طريقكم على العكس من هذا؛ لا مجال للتوجيه والترقيع، ولا مجال لغمض العين، بل افتح عينيك على وسعهما وانظر جيداً.. بعضهم كان يقول: كل ما ترونه هنا ينبغي أن تغمضوا أعينكم ولا ترفعوا رؤوسكم.. يا عزيزي هل نحن في مزرعة حتى لا نرفع رؤوسنا؟ فنحن بشر وإنسان، لا خراف! يقال لنا آدم وإنسان! هذا المسير هو مسير السلوك، وهذا هو المراقبة، وهذه المراقبة هي السلوك! فالسلوك ليس مقتصراً على الذكر فقط، بل السلوك عبارة عن المراقبة؛ بمعنى أنّ عليه في كلّ خطوة أن يفتح عينيه أضعاف ما يفتحهما عادة! فعليه أن يشعر بالتغيير عبر الحركة التي يتحرّكها؛ اليوم تغيّر فيه شيء، وغداً تغيّر شيء آخر، وبعد سنة يقول: عجباً! منذ سنة كنت أفكّر هكذا! وهكذا كنت أنظر إلى الأشخاص، أما الآن فهو يضحك من ذلك التصرف.. في السنة السابقة كان ينظر إلى الأمور بشكل مختلف، وكان يهتم بأخبار فلان وفلان، أما الآن فعندما يريدون الحديث عنها يقول لهم: في أمان الله، ويخرج، فهو لا يريد أن يستمع أساساً.
من كه ملول گشتمى از نفس فرشتگان | *** | قال ومقال عالمى مى كشم از براى تو |
[لقد صرت ملولًا من أنفاس الملائكة، فقد تحمّلت لأجلك كلام الناس جميعا]
فما كنت في السابق أسعى إليه هنا وهناك، وأن أرى الملائكة وأكون معهم وكذا وكذا.. يقول الخواجة حافظ: بأني وصلت إلى مكان؛ بحيث أني صرت أملّ من التحدّث إلى الملائكة، يعني أنني لم أعد أتوجّه إلى غير الذات، فقد صرت منغمراً في الذات، ولا يمكنني أن أتنزّل إلى مرتبة الأسماء والصفات التي هي مرتبة وجود الملائكة.
هذه هي المراقبة التي اعتنى بها العظماء، يعني على الإنسان أن يراعي وضعه في حركته وفعله وكلامه وتصرّفه.
أمّا الشخص الذي يريد أن يتحدّث إلى شخص آخر، فيسأله من أنت وإلى من تنتسب؟ فإن سأله ذلك فقد وقع! يا عزيزي ما شأنك وانتسابه، بل انظر إلى كلامه إذا قال لك شيئاً! أما أن تسأله إلى أي طرف تنتمي، إلى اليمين أو اليسار أو إلى هنا أو إلى هناك حتى نعرف كيف نتصرّف معك؟ لا يقول لننظر إلى كلامه بماذا يتحدّث؟ فهل ينبغي أن يكون الكلام كلّه من جهة [جماعة]واحدة؟ اسمع ولو لمرّة واحدة كلاماً من جهة [الجماعة] الأخرى، فما الإشكال في ذلك؟
أحياناً يأتي الشيطان وينصح الإنسان، نعم نفس الشيطان ينصح! يُنقل أنّه ذهب إلى أحد الأنبياء فقال له النبي: هل وقعت أنا في حبالك يوماً ما؟ فقال له: نعم! فأنت عندما تذهب إلى بيت أمّك ويعجبك طعامها تزيد تناولك منه أكثر من المعتاد لأجل طعمه الطيب، فيحصل لك تعلّق بالدنيا، عند ذلك أشرع بالتصفيق! وأقول: أحسنت لقد أوقعت بنبي الله! طبعاً الشيطان لا يأتينا نحن، فنحن نذهب وراءه مباشرة، فلا حاجة له أن يأتينا، فإننا نسبقه وهو الذي يمشي وراءنا، بل يقول لنا: تمهل قليلاً! فأنا لا أريد أن أغويك هكذا.. فأنت تعمل أكثر من المطلوب. فالشيطان يذهب وراء الأنبياء والأولياء، أمّا نحن فلا يأتي الشيطان إلينا، بل نحن نمشي قبل الشيطان! لذا لا نلقي الأمور على عاتق الشيطان، إذ نحن الذين أردنا هذا الأمر!
فقال النبي: لله عليّ أن لا آكل من ذاك الطعام مرة أخرى. فقال الشيطان: لله عليّ أن لا أنصح أحداً شيئاً؛ فإنني قلت له شيئاً! فأخذه منّي وأغلق عليّ دكّاني وعطّل عملي، إذ كنت آنس بأنّه كان يغفل بتناوله الطعام.. وهذا المطلب دقيق جداً وحساس.
حسناً نحن على مشارف أيام ذي الحجة، ويبدو من خصوصيات هذا الشهر وآثاره أنّ أجواء هذا الشهر، وخصوصاً العشرة الأول منه تشتمل على أجواء توحيدية، يعني أنّ فضاء هذه الأيام يشتدّ في التوحيد إلى أن يصل إلى شدّتها في اليوم العاشر وهو عيد الأضحى.
الأذكار المستحبة في هذه الأيام هي الأذكار الواردة عن أمير المؤمنين عليه السلام، وقد ذكرت للإخوة فيما سبق بأنه يستحب للإنسان أن يقرأ هذه الأذكار مرّة واحدة على الأقل، والأفضل أن يقرأها عشر مرات، وأن يتأمّل بها ويقرأها بدقّة وتأمّل. وأنّه ما معنى كلمة لا إله إلا الله عدد الليالي والدهور؟ وما معنى لا إله إلا الله عدد لمح العيون؟ وما معنى لا إله إلا الله عدد الشعر والوبر والشوك والشجر والرمل والقطر والبحار؟ ما معنى هذه العبارات التي يبيّنها الإمام؟ فهذه الأذكار عجيبة جداً.
ومن الجيّد أن يُقرأ هذا الذكر عشر مرات يومياً في شهر ذي الحجة، ومستحب جداً الصوم فيها، وكذا قراءة دعاء عرفة مستحب جداً، وكذا صوم يومه، لكن إذا كان الصوم موجباً للضعف فالدعاء مرجّح عليه، وهذا الدعاء عجيب جداً.. طبعاً ما هو موجود في مفاتيح الجنان يحتوي على زيادة، وهذه الزيادة ليست من الدعاء، بل ينتهي الدعاء عند قول الإمام: يا رب يا رب.. وتلك الزيادة ليست من الدعاء قطعاً، وبعض فقراتها لا يمكنني فهمها فهماً صحيحاً.. مثل عبارة: "إلهي أنا الفقير في غناي فكيف لا أكون فقيراً في فقري"، أنا لا أفهم لماذا قيل ذلك، وأي غنى هذا، وأي فقر هذا الذي ينسبه الإمام إلى نفسه هل هو الفقر الظاهري؟ والحاصل أنه لا ينبغي الزيادة على الدعاء؛ إذ النُسَخ الأصليّة المنقولة عن السيد ابن طاووس لا تحتوي على هذه الزيادة. نعم في نسخة واحدة توجد هذه الزيادة. وهذا العمل [الزيادة في الدعاء] عمل خاطئ جداً واشتباه، كان ولا يزال، فإن الزيادة والنقص والحذف والإضافة والتصرّف.. كلها خطأ بل هي خيانة.
أن نأتي إلى كلام أمير المؤمنين عليه السلام ووصيّته ونحذف منها ما نشاء ونشرحها۱، فهذا خيانة! أو بالنسبة إلى أمور أخرى، فهذه ـ للأسف ـ كانت ولا تزال موجودة. فذاك الخطّاط وذاك الشخص الذي يأتي ويُعمل سليقته ويضيف على الدعاء ـ يوجد تفاصيل كثيرة في هذا المقام ـ والحال أنّ هذه المطالب التي يلقيها الإمام عليه السلام تختلف جداً، فحال الإمام وكلام الإمام يختلف.. ومن الواضح أنّ الإمام عندما يصل إلى عبارة يا رب يا رب ينتهي كلامه، يعني أنّ كلّ ما ينبغي أن يقوله قاله عليه السلام وذكره، وانتهى بعبارة يا رب.. وقد أوضحنا بعض الشيء الكلام في هذه المسألة في الرسالة التي أكتبها، وذكرنا بأنّ هذه الإضافة هي من الكاتب أتى بها من كتاب أحد العظماء وألصقها بالدعاء. والحال أنّ الآخرين يعتقدون بأنّ هذا الكلام من الكتاب، ثم تظهر إشكالات في ذلك.. فجميع الوزر والوبال يعود في الواقع إلى ذاك الشخص الذي أضافها وقام بالخيانة، فالخيانة ليست مختصّة ببعض الأمور فقط، فأن يأتي الإنسان ويضيف أو يحذف أو يقتص ويجتزئ، أو يُعمل رأيه ونظره في النقل؛ بأن ينقل نصف الكلام ويترك النصف الآخر بحجّة أنّه ليس من الصلاح نقله، أو أن يقول: من الأفضل أن لا نقول تلك القضية الآن فإنّه لا مصلحة في ذلك فعلاً.. كل ذلك من باب واحد. والحاصل أنه ما دام للنفس دخالة في المقام فسوف يحصل مثل هذه المطالب.
دعاء عرفة دعاء عظيم جداً، وكم هو حسن أن يلتفت الإخوة إلى معانيه عند قراءته، ويتوجّهوا إلى مضامينه، فهو دعاء عجيب جدّاً، فهو مثل دعاء أبي حمزة الثمالي في اشتماله على تمام خصوصيات الإنسان وجميع شراشر وجوده ومراتبها، حيث يبيّنها الإمام عليه السلام بشكل واضح للإنسان ويضعها أمامه ليدعو الله بها؛ إلهي أنا كذا وأنا كذا، وكنت هكذا وهكذا.. أخرجتني من العدم إلى الوجود، أخذت بيدي ووضعتني تحت تربية العظماء والأولياء، وعرّفتني الطريق القويم.. ألا يعود الإنسان إلى التفكير في نفسه واقعاً عند قراءة هذا الدعاء؟! ما الحال الذي كان عليه وهو الآن؟ ألا يجعله يفكّر في ذلك؟! إذ بإمكان الله تعالى أن يجعل له طريقاً آخر غير هذا، بحيث لا يكون هنا، ولا يكون في هذه المدرسة، ولا يجلس على هذه المائدة.. ألم يكن بمقدوره ذلك؟! لكنّه لم يفعل ذلك، بل أتى به شيئاً فشيئاً وجعله يذهب ويجرّب... تعامل مع كلّ شخص بحسب ما يناسبه وبموقعيّته. عندما تقرأ دعاء عرفة ترى كأنّ الإمام الحسين يتحدّث بالنيابة عنّا، بل إنه يتحدّث عنا فعلاً.. عند ذلك يعلّم الإنسان قَدره في هذه المسألة. وأقول لكم حتماً ـ لا أقل بالنسبة إليّ إذ لكل من الإخوة أمره الخاص به ـ أقسم بالله لو لم يأخذ الله تعالى بيدي، وبالأخص بعد وفاة المرحوم العلامة، فمن غير المعلوم أين كنت الآن! وأنا لا أقول هذا الأمر من باب التواضع، إذ التواضع له محلّه.. لكن إذا كان هذا هو الواقع لماذا لا ينبغي عليّ أن أقوله؟! لماذا لا يدرك الإنسان النعمة التي منّ الله بها عليه ويبرزها؟!
الآن عندما أنظر إلى المجتمع، وأنظر إلى الزملاء والأقران وجميع الأشخاص، أرى عجباً وأحدّث نفسي: هل كان قد عمل شيئاً مع الله حتى يجعلْه يذهب في مسير آخر ، ولا يختار هذا الطريق، ويجعلنا معه في مسيره وفي تلك الحال..
منذ عدّة سنوات أتى شخص إليّ وقال لي: هل لك أن تتكلّم مع فلان ـ وكان لديه مسؤوليّة معيّنة ـ فقلت له: لا فائدة في ذلك، فقال: لا عليك تكلّم معه! لعلّه يقبل بكلامك، فقلت: لا فائدة من التكلّم معه! فهذا الرجل قد حدّد مساره وأجمع أمره، وعندما يحدّد الإنسان مسيره ما الذي يمكنني أن أفعله؟ نرود ميخ آهني بر سنك آب در هوا كوفتن
(لا يدخل المسمار في الحجر، ومن يفعل ذلك يكون كمن يدكّ الماء في الهواء)
ولكنّه لم يقنع مني، بل ذهب وتحدّث إلى ذاك الشخص وطلب منه أن يتنازل ويأتي للجلوس معي، والحال أنّه يعلم من أنا ويعرف كلامي وأفكاري. وبعد أن ذهب إليه وعاد قال: لقد فعلت معه كل شيء، لكن لم أستطع أن أقنعه بالعودة عن المسير الذي اتخذه، والآن هو نفسه يقول أنا نادم! انظروا؛ من الذي أخذ بأيدينا في هذه المسائل؟ إذ أنا مثل هذا الرجل، فما الفرق بيني وبينه؟ فهل فئة دمي مختلفة عنه؟ بل أنا مثله تماماً، لكن من الذي أخذ بيدي؟ هنا يأتي دعاء عرفة ويقول لي: انتبه جيّداً! من الذي ألقى هذه الأفكار في ذهنك؟ ومن الذي جعل قلبك يميل نحو هذه الأمور؟ ومن الذي جعلك تنفر من هذه الدنيا وتعلّقاتها؟ وما ذكره لنا العظماء وأملوه علينا سطّروه وبينوه لنا، فهل هذا منك؟ إن كان منك، فتفضل! وعندئذٍ يرى الإنسان أنّ قدمه تزلزلت، وصار مثلَ ذاك، فيقول: إلهي لقد أخطأت وتبت إليك، فأنت الذي منحتني كلّ ذلك، فيقول الله تعالى هل تريد أن أفهمك أنّ التوفيق ليس بيدك؟
دعاء عرفة دعاء مهمّ جداً، وقد لا تتكرّر هذه الفرصة للإنسان، لذا على الإنسان أن يستفيد من هذه الفرص.
وعيد الأضحى له خصوصيّاته أيضاً، ومن الجيد للإخوة أن يصلّوا صلاة العيد؛ إمّا جماعة أو فرادى، أو بمن حضر في المنزل، أو كما يريدون. وليلتفتوا إلى أن آثار هذه الصلاة في عيد الأضحى إن لم تكن أكثر منها في عيد الفطر فليست بأقل حتماً، فهي مهمّة جداً، لذا كان العظماء والأولياء يؤكّدون جداً على صلاة عيد الأضحى، فتلك لها فضاؤها الخاص وآثارها الخاصة، أمّا صلاة عيد الأضحى فلها فضاؤها وآثارها الخاصة بها.
وعلى كل حال، المطلب الأهم في هذا الشهر المبارك هو المراقبة والعمل بما بيّنه العظماء في هذا المجال.
إن شاء الله يوفقنا الله تعالى لطريق الوصول إليه والمقتضي للحركة نحوه وأسبابها، وأن يبعدنا عما يوجب الانحراف والعدول عن هذا الطريق.
اللهم صل على محمّد وآل محمّد