المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني
القسمعنوان البصري
المجموعةالسلوك العقلاني و المراقبة
التوضيح
لماذا يخشى الإنسان من الوقوع في الخطأ عادة؟ وماهي أهميّةالاعتراف بالخطأ وتصحيحه بعد الوقوع فيه؟ وماهو تكليفنا إذا أخطأنا؟ وماذا ينبغي علينا أن نفعل؟ ثم أوضح بعض الأمراض التي يُبتلى بها الإنسان ولايمكنه إصلاحها إلا بالوقوع بالخطأ، ثم أشار إلى مسألة أن على الإنسان أن يعرف موقعيّته الحقيقيّة، وفي الأثناء بيّن كيفيّة علاقة السيّد العلّامة مع السيّد الحدّاد رضوان الله عليهما.
هو العليم
الاعتراف بالخطأ وأثره في التكامل
شرح حديث عنوان البصريّ - المحاضرة ٢۱٢
ألقاها
آية الله الحاجّ السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ
قدس الله سره
أعوذ باللـه من الشيطان الرجيم
بسم اللـه الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين
والصلاة والسلام على سيّدنا ونبيّنا أبي القاسم محمد
وعلى آله الطيبين الطاهرين
واللعنة على أعدائهم أجمعين
[يبدون أن سماحة السيّد جلس وكان أمامه أكثر من آلة تسجيل فبدأ ممازحاً] واحدة من هنا وواحدة من هناك وواحدة أمامنا ولا أدري إن كان هناك خلفنا شيء، {ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقيبٌ عَتيدٌ} ۱.
لماذا الخشية من وقوع الإنسان في الخطأ؟
كنت أحدّث بعض الإخوة بأنّه إن كنّا نخاف من هذا الجهاز المؤلّف من سِلكين وقطعة بلاستيكية، ونلتفت إلى كلامنا حتى لا يأخذ أحد علينا شيئاً، ولا يطالبنا أحد.. فلو أعملنا عشرة بالمائة من هذا الخوف مع الله وبالنسبة إلى الآخرة، لكان كافياً في تحسين وضعنا، لكن المسألة ليست كذلك.
في يوم من الأيام أتى أحد الإخوة ـ وكان من أطباء الجراحة المعروفين في العالم ولعلّه لم يكن له نظير ـ وقال لي: عندما يأتون لتصوير فيديو عن عيادتي وغرفة العمليّات، لا أشاهد ما يصوّرونه أبداً، فقلت له لماذا لا تشاهده؟ فقال: أخشى أن أكون قد أخطأت فأبقى أتألّم من ذلك طوال عمري! لذا لا أنظر إليه عند عرضه. فقلت له: في الواقع هذا ليس جيّداً! بل ينبغي أن يصير الأمر لديك عاديّاً، بحيث يكون الأمر لديك سواء أخطأت أم لم تخطئ سيّان، فعندما يكتشف الإنسان خطأه عليه أن يعالجه ويرفعه.. والحال أنّ هذا الطبيب كان بلا مثيل له في مجاله.
وهذه الأمور تحكي عن مسائل ينبغي أن يتمَّ معالجتها، إذ لماذا أتأذّى من هذا الاشتباه الذي فعلته الآن؟ فهل ينبغي أن يكون عملنا دائماً صحيحاً؟! فهل نحن معصومون؟ كلّا! حسناً! فإذا فرضنا أنّ هذا الكلام كان خطأ، وكان بإمكاننا أن نقوم بأفضل مما قمنا به ـ والحال أن هذا الفعل قد انتشر بين الناس وجميع الأطباء قد شاهدوه، ورأوا هذا الضعف الذي فيه ـ على الإنسان في هذه الحالة أن لا ينزعج، فعليه أن يقول: لقد أخطأت! لكن لماذا ينزعج الإنسان؟!
كان هناك رجل وقد مات فعلاً رحمه الله، وكان من أصدقاء المرحوم العلامة، وكان فاضلاً ولديه استعداد وسليقة وحافظة جيّدة.. وفي يوم من الأيام كنا في مجلس وتطرأ الكلام لذكر كتاب كنت قد قرأته دونه، وكان فيه مسألة وهي: أن شخصاً كان يذهب إلى مقبرة تخت فولاذ في أصفهان، وفي ليلة من الليالي فاز بلقاء الإمام بقية الله، فقدّم للإمام الشاي، فقال له الإمام: أنا لا أشرب الشاي، فقدّم له ماء حاراً (هذا لا يعني أن لا تقدّموا الشاي، إذ لا أعرف ما السبب في عدم شربه الشاي في تلك الحالة، ولا علاقة لنا بصحة المسألة أو عدم صحتها، وهل كانت مكاشفة أم واقعاً، لكن على كل حال هكذا كان في الكتاب) فقال ذاك الشخص [الرجل الفاضل الذي لديه استعداد وحافظة]: كلّا! بل الصحيح أن ما قدّمه إليه هو الخبر والجبن، فقال له الإمام أنا لا آكل الجبن! فقلت له: بل القضيّة كانت امتناعه عن الشاي! فقال كلّا! اذهب وجئني بالكتاب، ومن باب الصدف أنّ الكتاب كان موجوداً هناك، فجيء بالكتاب، ورأى أن الذي امتنع عنه هو الشاي لا الجبن.. فانزعج هذا الرجل من عدم صحة كلامه واحمر لونه، فقلت له ما الذي حصل لك؟ فأنت تكاد تموت! إذ المسألة ليست مهمّة! فإمّا أن تكون شاي أو جبن أو أيّ شيء آخر..
لماذا ينزعج الإنسان ويتضايق؟! لماذا لا يعترف الإنسان بأنه قد وقع في الخطأ؟! فهذه المسألة مهمّة، وهي أن يرى الشخص نفسه تتّجه في هذا الاتجاه، إذ ما معنى انزعاجي من اكتشاف الآخرين خطأي؟! فهذه أنانيّة! وهي تعني أن "الأنا" ينبغي أن لا يقع في الاشتباه، وإذا وقعتْ في اشتباه ينبغي أن لا يراها أحد.
تشرّفت بالذهاب إلى مشهد ـ منذ سنوات ـ وأراد أحدهم أن يسلّم عليّ في الصحن، فأخذ ينظر يميناً وشمالاً وإلى الأسفل وإلى الأعلى ليطمئن أن أحداً لا يراه، وبعد ذلك سلّم وقال: السلام عليكم! فأجبته وقلت له: لم تنظر إلى الخلف، فقد يكون أحد يراك من خلفك! لماذا لم تنتبه جيداً [ضحك].. إنّ هذا السلام لا يفيد! هذا فعل النفس، هذه حركة من النفس، فإمّا أن تريد السلام فتسلّم، وإمّا لا تريد السلام فلا تسلّم بشكل حازم، فلماذا تتعامل مع المسألة وكأنّ روحك تطلع من جسمك؟ أو كمن ينازع الروح بهذا العمل؟! فأنت لست مجبراً على السلام، وبالنسبة إليّ لا ألتفت أنا إلى ذلك.
فالإنسان يشتبه، فإذا فرضنا أنه اشتبه ينزعج من ذلك! فيقول لقد أخطأت في هذه المسألة، هذه الرواية التي قرأتها بالأمس كانت خطأ! فيا ويلي! فقد كنت أتحدّث على الهواء مباشرة، وكل الناس شاهدوا هذا الخطأ منّي، وقالوا لقد أخطأ السيد بقراءته للرواية. يا أخي فليخطئ! ما العيب في ذلك؟! إذا أخطأت بها بالأمس، أعيد قراءتها صحيحة الآن، ما العيب في ذلك؟! وغداً سوف أشتبه أيضاً، ومن كان يتوقّع أن يسمع كلاماً لا خطأ فيه منّي فتوقّعه هذا هباء.. نعم هناك شخص واحد في العالم لا يشتبه، أمّا نحن فكلّنا نخطئ ونشتبه.
الاعتراف بالخطأ وتصحيحه يساعد الإنسان في تكامله
لكن المهم أنه عندما نعرف بأننا أخطأنا، علينا أن نتدارك الأمر، هذا الأمر هو المهم! والتدارك والتراجع هو الذي يبني الإنسان ويكمّله. فإذا فرضنا أنك تعاملت بطريقة بحيث لا يظهر خطأك أمام الناس لمدّة عشر سنوات، فلن يكون لما تقوم به في تلك العشر سنوات فائدة ولن يحصل لك تقدّم! ـ هذه الأمور نستطيع أن نعدّها من محسنات الإشتباه[يضحك السيد] ـ لأنّ نفسك في هذه العشر سنوات التي كنت تعمل فيها عملا صحيحاً ولكنك تعاملت بطريقة بحيث لايظهر خطأك أمام الناس ـ بقيت مكانها ..متوقّفة.. متجمّدة؛ والدليل على ذلك هو أنّك بعد هذه العشر سنوات أخطأت أمام الناس بقراءة رواية أو بيت شعر أو نقل حكاية، فترى أنه حصل لك اضطراب كبير! من هنا تعلم بأنك توقفت لعشر سنين. فهنا إمّا أن يأخذ الله تعالى بيد الإنسان ويجعله يقول: لقد أخطأت في نقل الرواية وقراءة الشعر، والحق هو هذا، وأنا اشتبهت في ذلك. فإن اعترف الإنسان يخطو خطوة إلى الأمام! هذه الخطوة التي خطاها هذا الشخص جاءت بعد عشر سنين من التوقف، إذ أنه في هذه العشر سنين كان متوقفاً، وكان يظن اشتباهاً أنه يتقدّم، لكن دون أن يتحرّك.
وإما أن يعمل ـ لا قدّر الله ـ على توجيه هذا الاشتباه، فهنا نرى الويلات.. فيقول أنا لم أشتبه، ولم أقل هذا الكلام! عجباً! ألم تتحدّث بهذا الحديث؟! أنظر إليّ جيداً، ألم تقل هذا الكلام لي؟! والآن تقول: أنا لم أقل هذا الكلام؟! لكن ما المانع من أن تعترف وتقول لقد اشتبت وأخطأت! ما العيب في ذلك؟! يا تعيس الحظ أنت تتقدم بهذا الكلام؟! تخطو بذلك خطوة إلى الأمام؟!
الوقوع في الخطأ والتوبة منه ضروري للتكامل
هنا نرى أنّ الروايات أشارت إلى أن الله تعالى يقول: لو لم يعصني عبادي لخلقت عباداً يعصوني ويتوبون.. هل فهمتم معنى الرواية الآن؟ ولماذا يقول الله تعالى بأن العبد الذي لا يذنب ولا يخطئ لا فائدة فيه، بل الفائدة في التوبة التي يقوم بها، هذه هي المفيدة.
هل يمكن أن يقوم الإنسان بفعل حسن ويتوب بعده؟! حتماً لا! لأنه عندما أصلّي في أول الوقت لا خارجه، فلا ضرورة للتوبة عندئذٍ، لكن يمكن أن نصل إلى مرحلة يتوب الإنسان حتى من هذا الفعل! أمّا الآن فلا، إذ التوبة الآن من المعصية، وإلى أن نصل إلى تلك المرحلة التي يشير إليها الإمام السجاد عليه السلام نحتاج إلى عمل كبير. لكن الآن ننظر إلى الأشخاص العاديين.. إلى أنفسنا.. هل يمكن لشخص أن ينهض إلى صلاة الليل، ثم يقول: لقد اشتبهت عندما نهضت لصلاة الليل ويستغفر الله على هذا الفعل؟! كلا، بل يأنس بهذا الفعل، وإذا أراد هذا الشخص أن يكون موحّداً، يقول: الحمد الله، فلقد منّ الله تعالى علينا وشملنا بعنايته، فجميع الناس نائمون، ونحن بتوفيق الله تعالى نصلّي صلاة الليل، لقد تجاوزنا برد الشتاء والتعب والعناء وقمنا إلى الصلاة.. بخ بخ! وهل حصل أن تاب الإنسان على إنفاقه على فقير؟! كلّا، لأنه فعل حسن! بل ينبغي أن يشكر الله تعالى على هذا التوفيق، والأمر كذلك فعلاً، فعليه أن يقول: الحمد لله الذي وفّقنا لهذا العمل، وهذا بلحاظ جانب الربوبية، فكونه هو الذي وفقنا للقيام بهذا الفعل هو المهم. وإذا كان الأمر كذلك، فإن لم نوفق يوماً لذلك، علينا أن نقول: إلهي ما الذي فعلناه حتى يُسلب عنا التوفيق للقيام به، فمن الجيد أن يعاتب الإنسان نفسه: لماذا لم أوفّق، ولماذا يا رب حرمتني هذا الأمر، ولماذا صرفت وجهك عنّي؟ ولماذا غيّرت نعمتك عليّ؟ ولماذا حُرمنا التوفيق للقيام بهذا العمل العظيم؟
لذا المرحوم العلامة يقول ـ لا أدري إن كان قاله في مجلس عام أو في درس خاص ـ : في بعض الأوقات يوقع أساتذة الطريق بعض تلاميذهم في موقع يؤدي به إلى الخطأ! وبعد ذلك يوفّق لعبور عقبة لا يمكن عبورها لولا ارتكاب ذلك الاشتباه. وعندما يشتبه، يقول: عجباً لقد وقعت في اشتباه، يعني أنني مثل البقية! يعني أنني لست من صفوة القوم، وأنا لست تاجاً على رؤوس الأنام! ولا فرق بين طينتي وطينة الآخرين، ولا اختلاف بيني وبين الآخرين، وعلمي لم يستطع أن يعينني في هذا الموقف، ولم تستطع موقعيّتي أن تميّزني عن الآخرين.. هذه الحالة جيّدة للإنسان! وهذه الحالة هي التي تساعد السالك على العبور، وعلى تجاوز الطريق الذي كان مسدوداً ومغلقاً بسبب التمايلات النفسانية والأنانيّات التي يمارسها الإنسان..
التزام العظماء بالاعتراف بخطئهم
يقول المرحوم العلّامة، عندما كنّا نوزّع الإعلانات في الأعياد والمناسبات على المساجد في السابق، ونهدي بعض الأشخاص بعض اللوحات، ولعلها لا تزال موجودة عند الإخوة الذين كانوا في تلك الفترة، حيث كنا نوزّع اللوحات في مناسبة عيد الغدير وفي النصف من شعبان، وكان لدينا واحدة منذ ذلك الوقت كنا قد وزعناها في النصف من شعبان، مكتوب فيها: "اللهم إنا نرغب إليك في دولة كريمة تعزّ بها الإسلام وأهله..." وكان ذلك في سنة ۱٣٤٢ هـ ش. [۱٣۸٣ ه ق، ۱٩٦٤م] وفي ذلك الوقت كان المرحوم العلّامة مع المرحوم السيد الخميني رحمة الله عليه يعدّون الأرضيّة المناسبة للثورة، وكان عمري آنذاك سبع أو ثمان سنوات، وأذكر أنه عندما تم توزيع هذا الإعلان، قال المرحوم المهندس بازركان ـ حيث كان يتحدث في مسجد هداية ـ بأن جميع مساجد طهران وأئمتها كانت في نوم وسبات وركود، والمكان الوحيد الذي علا منه الصوت يدعو الشعب للثورة على النظام هو مسجد القائم، حيث تم إبراز هذه الدعوة بنشر إعلان: "اللهم إنا نرغب إليك في دولة كريمة...". رحمة الله عليه، فقد كان المهندس بازركان رجلاً جيّداً، حيث لم يكن يرضى بأن يكون ألعوبة بيد غيره، ولم يكن يقبل بأيّ شيء يقال له، وبعد ذلك حدثت مسائل بسبب هذا الأمر، وكنت أعرفه وعلى ارتباط به من بعيد، نعم كان لديه اشتباه، إذ ليس لدينا رجل بلا اشتباه، فهل أعمالنا الآن صحيحة مائة بالمائة؟! وإن كان لدى أولئك الذين ذهبوا اشتباهين أو ثلاثة، فنحن لدينا مئات .. بل آلاف الاشتباهات في أفعالنا.. والحاصل أنه كان يوزّعها في ذلك الوقت.
في إحدى تلك المرات كانت ليلة عجيبة؛ حيث كان فصل الشتاء ـ لا أذكر بالضبط هل كانت ليلة الغدير أو ليلة النصف من شعبان ـ وكان الخطيب سيداً معروفاً، وبعد انتهائه من الحديث تلك الليلة طلبت السلطات الأمنية أن لا يُدعى هذا الشخص مرّة ثانية، وتم الالتزام بذلك..
فقال [العلامة]: بعد أن ذهب الجميع، أتى إليّ المدّاح الذي كان يلقي المدائح تلك الليلة وناولني ورقة مطوية ومضى، فوضعتها في جيبي لأنظر إليها في المنزل، وبعد أن جئت إلى المنزل نسيت أن أفتحها وأنظر فيها، ثم تذكّرت، ففتحتها ورأيت فيها آية قرآنية، وبعد أن تأمّلت رأيت أنّ هذه الآية هي التي كتبناها في الإعلان الذي وزّعناه الليلة، فتساءلت عن السبب الذي جعله يكتبها في ورقة ويناولني إياها، فتناولت الإعلان الذي وزعنا منه، فرأيت أن ما كنا قد دوناه في الإعلان مختلف عن الآية التي كتبها في الورقة! فقلت في نفسي: لقد كتبتُ الآية صحيحة، فلا شك أن المداح هو الذي أخطأ في كتابتها، بعد ذلك أتيت بالقرآن وفتحته فرأيت أنني أنا المخطئ في كتابتها، وهذا المداح التفت إلى هذا الخطأ وكتب الآية على ورقة وناولني إياها حتى أقف عليه، والحال أن هذا الإعلان كان قد وزّع في جميع مساجد طهران.. وكانت إعلانات مسجد القائم معروفة في ذلك الوقت، حيث كان لدى المرحوم العلامة بيان إنشائي متين وجذّاب ولطيف. فقال: عجباً! لقد اشتبهنا في هذه الآية القرآنية، والحال أنه دوّنها اعتماداً على محفوظاته دون الرجوع إلى القرآن، لكن هذا الاشتباه كان بشكل أنه لم يكن ليكتشفه بهذه السهولة، ومن المعلوم أنه قد ذكرها أكثر من مرة على المنبر وفي كلامه، لكن أتى هذا المداح وبين له اشتباهه.
وبعد ذلك أرسل رسالة تشكّر لذاك المداح، وأعلن على منبر المسجد بأن الآية التي وزعت في الإعلان كانت خطأ والصحيح هو هذا. انظروا كم المسألة كانت سهلة عنده! دون أن ينزعج من ذلك ويتضايق ويلوم نفسه ويقول لها: لماذا اشتبهت هذا الاشتباه ولماذا وو..! لكن الذي حصل له هو حالة من الابتهاج العجيب، بل أرسل رسالة تشكّر للمداح تشجعّه على الإقدام على تصحيح مثل هذه الأمور.
هذا الفعل يؤثّر أكثر من تأثير عشرين سنة من صلاة الليل في تقدّمه وسلوكه، فلو فرضنا أنّك صلّيت صلاة الليل عشرين سنة، وفعلت الخيرات عشرين سنة، فلن تكون بمقدار تصحيح واحد وتحوّل واحد وبمقدار التغيير الذي يحصل لك من خلال هذا التصحيح! بل هذا هو الذي يؤثّر؛ بأن يأتي الإنسان ويقبل الخطأ من نفسه؛ بحيث يصل إلى مرحلة يصير صدور الفعل الصحيح والاشتباه منه على حد سواء، بل قد يأنس بحالة الخطأ، فيطلب من الله تعالى ويقول: ماذا جرى إذ لم يحصل لي اشتباه منذ مدّة؟! وهذه من الأمور التي كان المرحوم العلامة يجعلها من الدستورات؛ وهي أن على السالك أن يكون هكذا، وعلى السالك أن تكون حركته على أساس هذه المسألة، نعم، الدستورات والأوراد والأذكار والأمور العباديّة لها مكانتها الخاصة، إذ لا ينبغي إغفالها أبداً، بل ينبغي التأكيد عليها والاتيان بها بشكل مضبوط، ولكن الأمر الآخر الذي ينبغي الاهتمام به أيضاً هو هذه المسألة؛ بأن يتحرك الإنسان في طريق يكون مقصوده هو ما أراده الأولياء منه...
عدم الاعتراف بالخطأ منشؤه الأنانيّة
في يوم من الأيام ـ منذ مدة طويلة ـ كتبت لشخص رسالة، ذكرت فيها عشر إشكالات له، وختمتها بعبارة (تلك عشرة كاملة)، وكانت عبارة عن عشر مسائل وقضايا كانت في نظري اتجاهه، وذيّلتها بتلك العبارة. وبعد مدة.. انظروا عندما يقول العظماء بأنه ينبغي أن يتجاوز الإنسان عن نفسه فهم لا يمزحون بذلك، بل ينبغي أن تؤخذ كلماتهم على محمل الجد لا الضحك واللعب والتبسّم والتواضع الكاذب بأن تقول: أنا لست بشيء وليس عندي شيء.. فعندما تقول بأنك لست شيئاً؛ فنحن نعلم أنك لست شيئاً ؛لأنك لا تعرف شيئاً واقعاً، وعباراتك تلك صحيحة، لكن عندما تقول: إني لست بشيء، عليك أن تكون صادقاً في ذلك، لا أن تدّعيها فقط، وعندما يُتَعامل معك على هذا الأساس [أي أساس أنك لست شيئاً] تثور ثائرتك! إذاً أنت تعتدّ بنفسك، وتعتقد بأنك شيء، فإذا كان الأمر كذلك، فقل أنا رجل مهم، وأثبت وجودك واستقلالك...
وبعد مدّة التقيت بهذا الشخص الذي أرسلت له تلك الرسالة، وجلسنا نتحدّث، وقال: لقد قرأت رسالتك وتأمّلت فيها، لكن يرد عليها: أمّا أولاً، أذكر دقيقاً هذه العبارة التي بدأ بها بالإشكال، قال: أما أولاً، فالإشكال الأول الذي ذكرته لا يرد، فقلت له: حسناً، كلّي سمع لأسمع منك ذلك، فقال: لا يرد إشكالك لهذا السبب! فأجبته: دليل كلامي هو هذا! فسكت ولم يجب! فقلت: أجب! وكنت أظنّ بأن سيستمر في هذا الإشكال لبضع دقائق، لكنه سكت مباشرة![ضحك]
فقلت له حسناً ما الجواب الثاني، فقال: ثانياً: لقد ذكرتَ في هذا المورد هذا الكلام! فقلت له: نعم، لقد ذكرتُ هذا الكلام، وهذا دليله، فسكت مرّة ثانية ولم يتكلّم! فقلت إذا كانت إشكالاتك الأخرى من هذا القبيل فلا داعي لتتعب نفسك، والحال أنك تحمّلت عناء السفر من مكان بعيد إلى مكان آخر لأجل هذا الأمر، حيث كنت أظنّ أنّ الأمر يستحق، لكنّك سكت بهذه السرعة.
والحاصل أنه انتقل إلى الثالث والرابع، ولم يكمل الأخرى، لكن في الرابع رأيتُ أن الأمر فيه أخذ وردّ، وتكلّمنا فيه لثلاث أو أربع دقائق، وفي آخر المطاف قال: أنا لا أقول بأن الفعل الذي قمتُ به باطل، لكن الفعل الذي قمتَ به أنت أصحّ! حيث لم يقبل ببطلان فعله، فقلت له: لا بأس اقبل بالأمر الأصح، ألا تقول بأن هذا أصح؟! حسناً! فعلك صحيح لكن هذا أصح، فاقبل به.. وانتهى الكلام عند هذا الحد.
وبعد مدة، أرسل إليّ رسالة، فرأيت فيها عجباً! إذ جميع تلك الجلسات والحوارات التي دارت بيننا جميعها أعطت أثراً معاكساَ تماماً.. هنا ينبغي أن يأخذ الله بيد الإنسان، يا أخي بالأمس أثبتُّ لك صحة ما أقوله، فما هذه الرسالة؟!! فلو كان كلامك هو الصحيح وكلامي مجرّد اتهام باطل، فهذا صحيح، لكن بعد أن أثبتُّ لك بطلان كلامك وصحّة كلامي فلماذا هذه الرسالة إذاً؟!
هذا هو الذي ذكرته لكم من أن الإنسان إذا أخطأ عليه أن يعترف بذلك حتى يتقدّم، وإلا يبقى في مكانه ويبقى.. إذ يبقى في مكانه، لا أنه يبقى مكانه فقط، بل يضاف عليه ويضاف، [أي يتراجع أكثر فأكثر].
الجميع مبتلى بالخطأ ومكلّف بالتصحيح
على الإخوة أن يعلموا بأن هذه الحالة تحصل لنا جميعاً ـ بدون مجاملة ـ وجميعنا مبتلى بذلك، فإن لم تحصل اليوم تحصل غداً، وإن لم تحصل غداً تحصل بعد غد.. لذا علينا أن نهيئ أنفسنا لذلك.. أن نهيئ أنفسنا للاعتراف بالخطأ، فالاستعداد لذلك مهم، سواء أخطأنا فعلاً في المستقبل أم لا. فإذا كان هذا الاستعداد موجوداً وحصل اشتباه ما، فسريعاً ما سيقول أمام الجميع: لقد أخطأت! ويرفع رأسه دون أن يخفضه ويقول: لقد أخطأت في هذه المسألة، وحسناً فعلت! والآن نقول بأن الصحيح هو هذا! لماذا أحسنت عندما أخطأت؟ لأنني لست إماماً! ذاك الإمام هو الذي لا يشتبه ولا يخطئ، الإمام فعله الحق، والحق فعل الإمام. أمّا نحن فلا إشكال أبداً في أن نقع في الخطأ ونصحّح، والسبب في أننا نشعر بالخجل عندما نخطئ ونشتبه، هو أننا لم نقيّم موقعيتنا بعدُ، من أننا بشر، بل نعتقد أننا إمام أو نبي.
هل يذكر الإخوة في أول الجزء الأول من كتاب أسرار الملكوت، حيث ذكرنا رواية أنس بن مالك أو مالك بن أنس الذي كان خادماً عند الرسول؛ حيث ذكرنا أنه ذهب مع سلمان وبعض الصحابة على البساط.. وهي قصة مفصّلة ذكرها المرحوم العلامة أيضاً في كتبه.. هناك عندما طلب منه الإمام أمير المؤمنين أمام أبي بكر وعمر وقال له: يا أنس ألم تكن معنا عندما ذهبنا وطوينا تلك العوالم، وشاهدنا تلك الأمور التي حصلت معنا، فقال له: يا علي لقد كبرت ونسيت؟! والحال أن المسألة لم تكن بعيدة الأمد، ولا يفرق بين كونك صغيراً أو كبيراً، بل إنها جرت في وقت قريب؛ قبل أسابيع وأشهر.. لماذا؟ لأنك إن قلت هذا الأمر فسوف يذهب ماء وجهك أمام أبي بكر وعمر؟! وسيؤخذ منك المنصب والموقعيّة التي أعطوك إياها؟ّ! وبالنتيجة وبسبب عدم اعترافه بالحق توقّف وبقي مكانه. فعندها قال الإمام: إن كنت كاذباً فيما تقول ضربك الله ببرص لا تواريه العمامة. وابتلي في مجلسه ذاك ببرص، لم يستطع أن يخفيه بالعمامة، لماذا؟ لأنه وقف مقابل الحق، هذه المسألة تجعل النفس تقسو شيئاً فشيئاً، فالنفس لا تقسو بشكل مباشر.. فالذين وقفوا مقابل سيد الشهداء عليه السلام ورموه بالنبال والسهام، كانت تحصل كل يوم لهم قضية ومسألة جديدة، فكانوا في كل يوم يقفون مقابل الحق...
إذا لاحظتم بعض الأشخاص فإنهم يصلون إلى هذه المسألة، فبعض الأشخاص تراه بشّاشاً ولديه انبساط وينظر جيّداً، لكنه لا يكون قد ابتلي بعد. بينما ترى شخصاً آخر ينظر من طرف خفي، فإن استطاع أن يجيب على كلامك يرفع رأسه ويجيب، وإن لم يجد جواباً يخفض رأسه وينظر من طرف عينه.. ما هذا؟ لقد طوى شيئاً في تقوية أنانيته وفرعونيته، فهذا سالك أيضاً... فهذا سلك في مسير تقوية النفس والأنانية. بينما نرى شخصاً آخر مهما تكلّمت معه يبقى محنياً رأسه، لا يريد التكلم معك أبداً، فيشغل نفسه بالكتابة أو يتصل بشخص بالتلفون أو بأي شيء آخر في يده، فهؤلاء أشخاص مختلفون في آفاق متغايرة للنفس، وبسبب هذه الأفُق المختلفة نرى اختلاف مراتب هؤلاء الأشخاص.
هذا الذي يتصرف كذلك لم يكن من أول الأمر هكذا، بل كان بشّاشاً، لكنه وقع في محيط وتأثّر بذلك المحيط وحصلت لديه هذه الأمور شيئاً فشيئاً، إمّا بسبب مصالحه أو مطالبه أو أقاربه وأمّه وأبيه وزوجته.. فكم نرى أشخاصاً وقعوا في الهلاك بسبب زوجاتهم، أو نساء وقعن بسبب أزواجهن؛ كأن يكون لدى الزوج فكراً معيناً، فتقول إن قلتُ هذا فإن زوجي سوف ينزعج وتخرب حياتنا، ونحن نريد حياة هادئة وأريد أن أعيش مع زوجي، فهو المهم في حياتي، وأولادي هم المهمين بالنسبة لي، وصهري هو المهم، فإن فعلت هذا الأمر فسوف ينزعج ويغضب، فكل شخص في هذه الدنيا لديه أمر مهم، والذي يبقى عنده بلا أهمية هو الله والنبي والإمام فقط، فلديهم الزوج هو المهم والزوجة والأولاد والصهر والجار وشريك العمل، فإن فعلت هذا الأمر سوف ينزعج ويغضب مني..
ضرورة القبول بمرّ الحق وإن كان مكلفاً
كنت في مكان والتقيت بشخص وقال لي ـ وكان كبير السن ـ : أنا أعلم بأن الحق في هذه المسائل معك، لكني لا أجرؤ على التصريح بذلك، وكان هناك شخص ينظر إلينا، فدنوت منه وقلت له بصوت خافت، هل هذا الذي تعلّمته من صحبتك للمرحوم العلامة خلال السنوات المديدة؟ هل هذا الذي علّمك إياه الوالد؟! وكان قد قال لأحد الإخوة: بأني لو قلتُ الحقّ في هذا المورد لأخرجني شريكي من العمل!! إن أخرجك فليخرجْك! فكم سنة تريد أن تعيش بعد؟! فمهما حصل معك لن تُعدم النوم في الشارع، أو في صحن الإمام الرضا عليه السلام، اذهب إلى هناك ونم مع الزوار! ألم ننم في الصحن؟! بلى نمنا هناك وفي كربلاء وفي النجف وفي المسجد الحرام...
ذهبنا سنة إلى مكة ـ رزق الله الجميع ـ وكنّا مع بعض الإخوة، ولم ندخل بيتاً منذ أن خرجنا يوم الثامن إلى نهاية اليوم الثاني عشر، فجميع هذه الأيام قضيناها في العراء، حيث كنا ننام في الشارع وفي الصحراء. والحال أني لم أحج كحجي في تلك السنة! حيث حصلت على الكثير من المسائل في تلك الحجّة.. ما الذي خسرته بذلك؟ هل لسعني العقرب؟ كلا! ذهبنا ونمنا كسائر الناس.. فإما أن تنام في على سرير في فندق كذا .. في مرّة ذهب بعض الأشخاص واستأجر لنا فندقاً من هذه الفنادق، فقلتُ لهم: لا أريد المبيت في الفندق، بل سأذهب وأنام في الشارع، وفعلاً نمت مع سائر الأشخاص الذين ينامون في الشارع بألوانهم المختلفة الأسود والأبيض والأحمر.. ونمتُ مرتاحاً إلى الصباح لم يزعجني شيء، سوى صوت ذاك الرجل [في الحرم المكي]عندما صاح في المذياع "الله أكبر" عند ذلك قفزت من نومي ذعراً [ضحك].. يا أخي تنحنح قليلاً أو قدّم شيئاً قبل ذلك.. فقد أتلفت أعصابنا بهذا الصوت، فالذي أفزعنا هو الصوت المنكر لذاك المؤذّن الذي يذهب بالحلقوم.. ولولا ذلك لكنّا مرتاحين ومستأنسين.. كيف كان الأئمة المعصومون عليهم السلام يقضون أيّامهم؟ لقد اعتدنا على بعض العادات وجعلنا ذلك أصلاً لنا، وظننا أن هذا هو الأمر المهم، وغير ذلك ليس بشيء! كلاّ بل هو أمر عادي عادي...
يا أخي إذا أخرجك اذهب ونم في حرم الإمام الرضا، فالمقام يشتمل على عدّة صحون.. ألم يقل المرحوم السيد القاضي: لقد بتُّ في كل شبر من صحن سيد الشهداء! لكن هل تستحق أيّام عمرك والسنوات التي مضت بعد وفاة المرحوم العلاّمة أن ترى الحقّ وتخفيه؟! هل يسوى ذلك؟! لو لم تفعل ذلك أين كنت ستصير الآن؟! أنظر إلى نفسك!
لقد تشرفت [بالذهاب إلى مشهد] منذ مدة ورأيته من بعيد وتأسّفت لحاله، كم أمضينا برفقته مع المرحوم العلاّمة الليالي المختلفة، وماذا كنّا نتكلّم! أمّا الآن فقد صار في هذا الوضع!
المرحوم الوالد علّمنا الحريّة، علّمنا الاعتراف بالخطأ، هذا هو الذي علّمنا إياه! علّمنا قول الحق وعلّمنا كسر النفس وعدم الإغماض عن الحق، علّمنا الشهامة في قول الحق، علّمنا التذلل والتواضع مقابل الحق ومقابل الرب تعالى، والعزّة في مقابل سائر الأشخاص والعباد. لقد كان نفسه يتمتع بالمناعة وبالعظمة والكرامة إلى حد أنه أحد كتبه ـ وهو أحد أجزاء كتاب معرفة الإمام ـ لم ينشر بسب الاعتراض عليه، وقد جاء بعض الأخوة إلى منزله وقالوا لي: اذهب وقل له إذا كتب رسالة إلى شخص معيّن فقد يساعده على تذليل العقبات وتسهيل أمر الطباعة، فقلت لهم: إن الوالد لا يفعل ذلك، فقالوا: اذهب وقل له! فقلت لهم: سمعاً، ثم ذهبت إليه فوجدته مستلقياً ـ وكان الوقت بعد الظهر ـ متهيّئاً للنوم، فقلت له: سيّدنا هناك أمر أريد أن أحدّثك به! فقال: تفضّل! قلت: يقولون بالنسبة إلى الكتاب الذي تريد أن تطبعه لو تكتب رسالة... فقاطعني وقال: كلا! أبداً! فنحن لا نمد أيدينا لأحد حتى لو كان ذلك لاستيفاء حقّنا، فحتى لو كان حقاً لنا.. لا نمد أيدينا إلاّ إلى الله، فإن شاء أن يطبعه طبعه ورفع الموانع، وإلا أبقاها، أمّا نحن فلا نطلب من غير الله، ولو كان حقنا! والحال أن هذا حقاً لنا، حيث هو طبع كتاب فيه المعارف، ومسائل لا يوجد أوضح منها في كونها تبليغاً للمسائل والشريعة والعقائد.. هل التفتم؟! فعدت إليهم وقلت لهم كدتُ أن أضرب على وجهي بسببكم! [ضحك].. واستمرّت المسألة كذلك إلى أن ارتفع المانع وحده بعد ذلك.
بعض الأحيان يكون الدفاع عن الحق والعرفان لأجل النفس لا لله
هذا الذي تعلّمناه، وهذه الأمور هي التي توصل الإنسان إلى مقصوده، فالدفاع والإعلان وغيرها لن تنفع ولا فائدة فيها ما لم تصلح نفسك! فأنت الذي تنكر الشمس في النهار، لماذا تدافع عن الله والعرفان؟! ما الفائدة في ذلك؟! أنت الذي تعلم بأنك تضع الحق تحت قدمك وتعلم بأنك تكذب، فما هذا الدفاع عن العرفان والكلام؟! هذا كله نفس، فالنفس تأتي يوماً وتقف مقابل علي وتغصب خلافة علي وتقتل بنت النبي وزوجة علي لأجل الخلافة.. نعم تقتلها!
وتأتي النفس يوماً وتقف مقابل الإمام الحسن وتأخذ الخلافة منه، وتمزّق الصلح الذي أمضته معه، وبعد ذلك تقتل الإمام الحسن وتسمّمه! وتأتي يوماً وتصير مثل يزيد وابن زياد وأمثالهم وتقتل ابن النبي وتسبي ذراري النبي.. فالنفس نفس!! وهكذا تبقى النفس إلى الإمام العسكري.. لكنها لا تستطيع الوصول إلى إمام الزمان، ولو وصلت إليه لنال نصيبه منها.. لأننا نعرف الأمور ـ وأريد نفسي ـ فلو وصلنا إلى إمام الزمان لوفيناه حسابه.. لكن أيدينا لا تصل إليه، فللأسف أو لحسن الحظ أننا لا نصل إليه، وإلا فإنهم مازالوا يقتلون الأئمة ويضربونهم ويعذّبونهم ويحبسونهم إلى زمان الإمام العسكري.. فقد أمضى الإمام موسى بن جعفر سنين في السجن، كل ذلك لكي أكون أنا لا أنت! هكذا استمرّت المسألة بأشكال مختلفة..
فهذه النفس تأتي وتتحرك بعنوان الدفاع عن العرفان والتوحيد والدفاع عن مدرسة العرفان.. فأنت الذي تكذب وتنكر كل شيء عن ماذا تريد الدفاع؟! وإلاّ فما هذا الكذب الذي تكذبه؟! وما هذه التوجيهات التي تأتي بها؟ تريد أن تكتب كتاباً يا سيدي، اكتب كما كتب العلماء السابقون والحاضرون، فالعلماء بحمد الله كثيرون، وهم من أهل التقوى والفضيلة.. اكتب عنهم وعن حياتهم! وهذا جيد، ويصلك به شيء ما.. لكن لماذا تأتي وتكتب عن شخصية لا تفهم من هي هذه الشخصية؟! من الذي أجبرك على هذا الأمر؟! أنت الذي لا تميّز بين الرفيق والأستاذ وتقول بأن السيد الحداد كان رفيقاً لا أستاذاً.. من الذي ألزمك بالكتابة؟! هل أنت مجبر؟ لماذا نأتي ونبتدع، ولماذا نحرف مدرسة التوحيد، لماذا؟! ما هذا الرفيق الذي كان دائماً يأخذ دستوره من رفيقه، ولم يحصل يوماً أن انعكس الأمر فأخذ ذاك دستوراً منه؟! ما هذا الرفيق؟ نعم، أنا سمعت بأنه كان رفيقاً، لكنّه كان رفيقاً لم يجلس أمام رفيقه متربعاً ولو لمرة واحدة في حياته، كان رفيقاً بحيث أنه في تمام عمره لم يقل "لا" ولو مرة واحدة، بل كان سمعاً وطاعة له. لماذا لم يكن الأمر معكوساً؟
حقيقة العلاقة بين المرحوم العلّامة والسيد الحداد
ألم يقل أمير المؤمنين رسول الله أخي؟! والحال أنّه قال عن عثمان بن مضعون: كان لي أخاً وكذا وكذا.. فهل هذه الأخوّة وتلك الأخوّة واحدة؟! هذه الرفاقة التي كان يتحدّث عنها المرحوم العلّامة كانت أعظم بألف مرة من كونه أستاذاً له! فهذه الرفاقة كان فيها اتحاداً ووحدة وعينية، لا الرفاقة التي تحصل بين أي اثنين في هذه الدنيا ويحصل بها ما يحصل؛ فتشتد بحبة زبيب وتضعف بحبة حصرم! أو تلك التي تحصل بتبسم، وإذا عبس بوجهه يذهب ولا يعود ينظر إليه! أنت يا من لا تفهم معنى الرفاقة؛ لماذا تأتي وتتحدث فيها؟! فإن كنت تريد الكلام اسأل من يفهم في ذلك، حتّى لا يحصل لك اشتباه، ولا يحصل تناقض بين ما نُقل من مطالب العظماء وبين ما تقوله، فتلك الرفاقة أعلى بألف مرة من الأستاذيّة، لأنه في الأستاذيّة يوجد جهة تغاير، فهذا يأخذ الأمر من ذاك ويطيعه، أما هناك فلم يكن يشعر بأنه يأخذ دستوراً ولم يكن يشعر بالاثنينية!! لقد انجرّ البحث إلى هنا.. ولكن لا بأس..
سألت يوماً المرحوم العلّامة في أواخر حياته وقلت له: هل حصل يوماً أن قبّلتَ قدم السيّد الحداد؟ فقال كلّا! فقلت له: لماذا؟! مع العلم بأنه لم يكن يسمح لأحد أن يقبّل رجله أبداً.. فقال لي عبارة لا زلت أفكّر فيها حتىّ الآن! قال: كنت أشعر بيني وبينه بحالة؛ بحيث أني لم أُرد التنزل عن تلك الحالة بسبب تقبيلي لقدمه!! يعني أنّه كان يشعر بوحدة؛ فمن يرد أن يقبّل قدم شخص آخر فإنه يفعل ذلك من باب التواضع، والحال أن [العلاّمة] كان قد تجاوز مرحلة التواضع [في معاملته مع السيّد الحداد]، فحين ينحني الإنسان لتقبيل القدم يرى نفسه دانياً والآخر عالياً ويقبّل رجله، وكنّا نرى الذين كانوا يأتون إلى السيّد الحداد في كربلاء ويقبّلون ركبته أثناء جلوسه، ولا يكترث بهم، طبعاً بعض الذين كانوا يأتون من المدن المختلفة كانوا يفعلون ذلك لا كلّهم! لكن عندما كان يأتي المرحوم العلاّمة كان يقبّل يد السيّد الحداد، وكنا نفعل ذلك بالتبع. هل حصل يوماً أن قبّل السيد الحداد يد العلامة؟ كلا! لماذا؟! هل حصل يوماً أن قال السيد الحداد: أيها السيد محمّد حسين ما الذي تأمرني به هذه المرّة؟ أو هل لديك دستور آخر غير اليونسية تعطيني إيّاه؟ في تلك المدّة التي كنا فيها لم نر ولم نسمع أنه طلب ذلك من المرحوم العلامة، وكان هذا حاله.
وهل حصل يوماً أن السيد الحدّاد سأل العلاّمة عن مكان سكنه؛ هل كربلاء أفضل أم النجف؟ أو هل آتي إلى إيران أو أي شيء آخر؟ ولكن بأمر من هاجر المرحوم العلّامة من طهران إلى مشهد؟! بتكليف السيّد الحداد، وبأي دستور هاجر العلّامة من النجف إلى إيران؟ بدستور السيّد الحدّاد! وبأمر من زوّج العلاّمة ابنته لبعض أصهرته؟ بأمر السيّد الحدّاد! وبأمر من كان العلاّمة يقبل الرفقاء أو لا يقبلهم، كل ذلك كان بأمر السيّد الحدّاد! هل حصل يوماً أن قال العلاّمة له: سيّدنا أنا لا أرى من المصلحة أن يأتي هذا الشخص إلى بيتك. هل حصل ذلك ولو لمرة واحدة؟ كلّا! لم يحصل ذلك ولو لمرّة واحدة، إلى آخر عمره. إذاً لماذا نأتي ونقول بأنه كان رفيقاً له لا أستاذاً؟ هذه الرفاقة أعلى مرتبة.. فعندما يقول أمير المؤمنين كان رسول الله أخي! من الذي كان يأمر ومن الذي كان يأتمر؟ ألم يقل أمير المؤمنين في الرسول: "كنت أتّبعه اتّباع الفصيل أثر أمه"، كان يفتح لي في كل يوم ألف باب من العلم يفتح من كل باب ألف باب، وكنت أسمع كلام الملائكة وغيرها... تفضل.. هل أعطى هذا الأخ ـ الذي يقول كان رسول الله أخاً لي ـ هل أعطا لأخيه في عمره أمراً أودستوراً ؟ هل قال: يا رسول الله اذهب الليلة وقل في سجودك هذا الذكر فهو أفضل لك، وقال له النبي حسناً يا علي سأفعل ذلك؟! أو أن الأمر كان بالعكس تماماً؛ حيث كان يقول: يا علي افعل كذا يا علي افعل كذا.. والحال أنه كان أخاً له!! فهل الأخوّة تتنافى مع الآمرية والمأمورية؟! نحن نعتبر الأخوّة أخوّة عاديّة، أمّا تلك الأخوة التي بين علي ورسول الله كانت أفضل بألف مرّة من الأستاذيّة، فتلك تثبت وحدة وعينيّة واتحاد نفس بين هذين الأخوين، وهي غير الأستاذ الذي يذهب إليه الشخص ليتعلم منه الخط أو العلم أو أي شيء آخر، فهنا يوجد شخص مستقل ويرى أنّ التلميذ أدنى منه وهو يعطيه والآخر منقاد له، فهذا ليس في مقام الانقياد أساساً، بل هو في مقام الاتحاد، وعندما يكون في مقام الاتحاد، فذاك الفيض الذي ينبغي أن يصل إلى هذا المنقاد يأتيه من باب رسول الله، هل التفتم؟ فذاك الفيض الذي ينبغي أن يصل إلى المرحوم العلاّمة يصله من خلال نفس أستاذه السيّد الحدّاد، فهذا أعلى بكثير من مقام الرفاقة العاديّة التي لا قيمة لها، بل هي أعلى من الأستاذيّة بألف مرّة، وعليه فلماذا تأتي وتلقي الشبهات؟! هناك مسائل أخرى وأفراد آخرون، فاشتغل بهم واترك هذه المسائل لأهلها، فهذه المطالب ليست بالشيء البسيط التي يمكن أن تكون في متناول فهم كلّ شخص، فإنها تؤدّي إلى الشبهات، فليس من الصحيح طرح هذه المسائل!
هذا ممشى العظماء الذين كانوا يأمرون به، فقد كان بهذه الكيفيّة وبهذا النحو ويعملون بهذا الشكل.
حسناً، لقد صار الحديث الليلة بهذا الشكل، والحال أنا كنا نريد الكلام في تتمة حديث عنوان البصري، ولكن الظاهر أن التقدير تغلّب على تدبيرنا، وهو غالب دائماً..
الله تعالى يقول في الحديث القدسي بأنه ينبغي أن تعمل دائماً على ترجيح إرادتي على إرادتك، فإن قبلت فسوف تصل إلى ما تريد، وإلا ـ فمهما تفعل ـ لن يكون إلا ما أريد. يقول: "...فإن أسلمت لما أريد أعطيتك ما تريد، وإن لم تسلم لما أريد أتعبتك فيما تريد، ثم لا يكون إلا ما أريد"۱.
ففي الأخير لن يكون إلا ما يريد الله، فلذا من الأفضل أن يكون الإنسان من أوّل أمره مرتاحاً ولا يأخذ الأمور بصعوبة، فلا يقول: لا بد أن يحصل هذا الأمر بهذا الشكل. فبمجرد أن يحصل اختلاف بسيط ينهار؛ بل عليه أن يترك في نفسه مجالاً خالياً لإمكانية أن لا يتحقق ما يريده، فإن حصل الشيء الآخر فليسلم بذلك، وهذا جزء القضايا والمسائل التي تحصل كذلك.
إن شاء الله نأتي على تتمة المطالب في شرح حديث عنوان في الجلسات الآتية، وهذه المطالب التي ذكرناها من المطالب المهمّة جداً، يعني أن من المطالب الأساسية في السلوك هي هذه التي ذكرناها الليلة للإخوة، فإن التوجه والالتفات إلى هذه القضيّة مؤثّر جدّاً على تسريع الحركة، ففي ليلة واحدة يطوي الإنسان ما يطويه في مائة سنة، لذا ينبغي على الإنسان أن يرتّب أثراً عليها
اللهم صل على محمد وآل محمد.