المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني
القسمعنوان البصري
المجموعةالطعام و التغذية
التوضيح
ألقى سماحة آية اللـه السيّد محمّد محسن الحسيني الطهراني قدس سره هذه الحاضرة في الخامس من ربيع الثاني لعام ألف وأربعمائة وأربع وثلاثين للهجرة. وضمن شرحه لحديث عنوان، بيّن سماحته مدى تأثّر الإنسان سلباً وإيجاباً بالأجواء التي يدخلها ولو لدقائق، وكذلك بحالتي التخمة والجوع الشديد، وخلص إلى أنّ حدّ اعتدال المزاج هو المطلوب، وبالمناسبة بيّن أنّ تنويع الضيافة لا ينافي الزهد، وإنّما ينافيه الإكثار ولو من نوع واحد، وأمّا في مجالس الذكر فللاقتصار على نوع واحد شأن آخر.
هو العليم
الإسراف في الأكل والجوع الشديد من موانع الطريق
شرح حديث عنوان البصريّ - المحاضرة ٢۰٦
ألقاها
آية الله الحاجّ السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ
قدس الله سره
أعوذ باللـه من الشيطان الرجيم
بسم اللـه الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين
والصلاة والسلام على سيّدنا ونبيّنا أبي القاسم محمد
وعلى آله الطيبين الطاهرين
واللعنة على أعدائهم أجمعين
كان الكلام في كيفيّة التغذية، وهنا مطالب ذكّر الإمام الصادق عليه السلام عنواناً بها في هذا الحديث.
وكما ذكرنا في الجلسات السابقة، فإنّ مسألة التغذية وكيفيّة تناول الغذاء واختياره ليست مطلوبة في نفسها بالذات، لأنّ الإنسان لم يأت إلى هذه الدنيا لأجل تناول الطعام، ولهذا العمل عنوان الواسطة والوسيلة لبقاء الجسم، فبواسطة الغذاء يمكن للإنسان أن يصل إلى مرتبة الكمال والتقرّب الروحي. لذا، فأفضل طريقة للتغذية بالنسبة إلى السالك هي التي تجعل جسمَه في أفضل حالة من اعتدال المزاج، وبواسطة هذا الاعتدال يحصل للنفس أو للروح استعداد وتهيّؤ للحركة والتقرّب المطلوب منها. ومن الواضح أنّه لا يمكن للإنسان أن يُغفل تأثير الجسم، لأنّ هناك ارتباطاً بين النفس والجسم، فإنّنا ـ شئنا أم أبينا ـ مبتلون بالجسم، ومبتلون بتدبير البدن، فإمّا أن نضع الاهتمام بالحركة الروحيّة جانباً، ونعيش بأيّ شكل أردنا؛ نأكل كل ما نشتهيه، وكل ما يخطر على فكرنا حتى لو كان مضـرّاً لنا، ونرغب في كل ما نراه أمامنا.. وفي هذه الحالة لا يبقى مجال للتقرب [وإمّا أن نهتم بهذا الأمر].
آداب مجالس الذكر وتأثير الأجواء المحيطة على النفس
في وقت من الأوقات، أذكر أنه في زمن المرحوم العلاّمة كنّا في إحدى الليالي في جلسة من الجلسات، حيث كان الإخوة يأتون عصراً لقراءة دعاء السمات، وكذلك الأدعية الأخرى في سائر الأوقات كالأدعية الرجبيّة في شهر رجب، أو المناجاة الشعبانيّة في شهر شعبان، وكذا في الليالي.. كان المرحوم العلاّمة يقول: ينبغي في هذه الجلسات أن تراعى القوانين والقواعد، فهذه الجلسات توجب للإنسان حالات، حيث توجد له توجّهاً، وتوجد له تجرّداً، وهذا من الأمور الملموسة، فإلى أيّ مكان من الأماكن المقدّسة والمطهّرة ذهبت، تشعر في نفسك بتبدّل للحال. فإذا ذهبت إلى مجلس ذكر أو مجلس لسيّد الشهداء أو مجلس عزاء.. لا إلى هذه المجالس التي هي أشبه بالمسرحيّات والتمثيل، ولا يوجد فيها غير إراقة ماء الوجه.. بل المجالس التي تشتمل على نيّة صالحة وخيّرة، ويوجد فيها حالة الصفاء.. فعندما يذهب الإنسان إليها يشعر بتغيير في حاله، وهذا التغيير في الحال يعني التجرّد، والتجرّد يعني التقرّب، فالحالة التي كانت لديه قبل الدخول لم تعد موجودة، بل تغيّرت، كان لديه في الخارج حالة مختلفة، وكان يتكلّم بطريقة مختلفة ويتصرّف مع الناس بشكل آخر.. كلّ هذه الأمور يراها قد تغيّرت عندما دخل. هذا التغيّر الذي حصل له من أين أتى؟ لقد جاء من هذه الأجواء! يعني أنه عندما دخل إلى هذه الأجواء وحصل له ارتباط فيزيائي به، حصل بموازاته ارتباط غير عضوي، وهذا الارتباط غير العضوي هو ارتباط بعالم مثال هذا المجلس وملكوته، وهذا الارتباط هو الذي غيّر حالته، حيث يرى أنه صار خفيفاً، وصار له رغبة في قراءة القرآن، حيث لم يكن لديه هذه الرغبة قبل ذلك. وهذا كلّه ببركات سيّد الشهداء، يأتي ويغيّر حالته بشكل كامل. فالإكسير عندما يصبّ على النحاس يبدّله إلى ذهب.
لذا كان العظماء يوصون دائماً بأنه ينبغي اختيار الأماكن التي يمكن أن تغيّر حالتك، ويحذّرون من الذهاب إلى الأماكن التي توجد فيك خلاف هذه الحالة، بأن تنقلك إلى الحالة الحيوانيّة والشهوانية وتنزلك إلى الكثرات!
لا تقل: لا بأس بأن أذهب خمس دقائق فقط وأعود.. فهذه الخمس دقائق تقضي عليك. لا تقل: أذهب نصف ساعة! فإنّ هذه النصف ساعة لها دخالة في حالك...
في إحدى المرّات أردت الذهاب إلى عرس، وكانوا قد أقاموه في المنزل كي أحضره، وعندما أردت الدخول، رأيت أنه مكان عجيب، ولم أستطع أن أضع قدمي.. لا أدري ما الذي يفعلونه في هذه المجالس، وما هي النفوس التي تكون هناك وما الذي يحدث هناك حتى يصير هذا الفضاء فضاء ظلمانياً إلى هذا الحد! فرأيت أني لا أستطيع الدخول أساساً، فبقيت عالقاً أمام الباب، وقد توالت الدعوات: سيّدنا تفضّلوا! فنحن لم نقم الحفل في الصالة، بل أقمناه في المنزل لكي تحضـروا. ولم أكن قد كشفت المكان [ضحك].. إذ كان ينبغي أن آتي أوّلاً وأستطلع المكان، ومن الآن فصاعداً عليّ أن أذهب بعمليّة استطلاع للمحيط والمكان، كما يفعلوا في العمليّات العسكريّة [ضحك]...
لكن في النهاية، خفضت رأسي إلى الأرض ودخلت.. حيث كنت قد أعطيتهم كلاماً بأنّي سأحضر. صدّقوا بأنّ حالتي لم ترجع إلى ما كانت عليه قبل الدخول لمدة شهر كامل، هذا كلّه بسبب ذهاب إلى حفل زفاف، وبقيت كذلك إلى شهر. هل التفتّم!؟ لمَ كان هذا؟
هذا كله بسبب قولنا: دعه! لا تهتم به! دعه الآن! بهذه الكلمات لا يحصل شيء، ولا يمكن لأحد أن يصل إلى مقصده بقوله دعه الآن.
المرحوم العلاّمة كان يقول: عندما تكون في الجلسة لا ينبغي أن تذهب بفكرك إلى مكان آخر، فإمّا أن لا تأتي أساساً، فترتاح ولا تنقل هذه الحالة التي لديك إلى الآخرين، لأنّ الفضاء يتأثّر بما يجري فيه، فعندما لا يكون الشخص متوائماً مع المجلس، سوف يترك ذلك أثراً على جوّ المجلس كلّه.
الحقير بنفسي كنت شاهداً في إحدى الجلسات التي كانت في طهران، حيث أمر المرحوم العلاّمة اثنين من الحاضرين بالخروج من المجلس! وقال: ما دامت هذه الحالة بينكما، فلا تأتيا للمشاركة في الجلسة.. وهذا الأمر ينتقل إلى الآخرين، والأثر ليس مختصّاً به فقط. إذ عندما يأتي شخص وتكون نفسه في حالة من التعارض والتضاد مع شخص آخر، فهذا يرمي ذاك بحجر، وذاك يرميه بسهم، وهذا يرميه برصاص وذاك بقذيفة... لماذا؟! فما هذه الجلسة؟! هل الجلسة مثل الإدارة حتى يأتي الإنسان ويسجّل حضوره ويجلس؟ كلاّ بل الجلسة تحتاج إلى ملكوت، فعندما يأتي الإنسان إلى الجلسة عليه أن يعلم بأنّ الذي يؤثّر فيه ملكوت هذه الجلسة، وإلّا فقد كان جالساً في منزله، وكان بإمكانه الذهاب إلى الحديقة ليتمشّى فيها، لماذا أتى إلى هنا إذاً؟! عندما يأتي الإنسان إلى هنا عليه أن يراعي القوانين المقرّرة هنا، وإلّا فلا فائدة في المجيء؛ لأنّه سوف يخرّب على نفسه ويلوّث الآخرين بذلك، إذ نرى أنّ بعض الأشخاص أحياناً يأتي من منزله إلى المجلس، لكن دون أن يستفيد شيئاً.
يقول بعض الأصدقاء: نذهب إلى بعض المجالس ونرى أنّ حالتنا لا تختلف! لمَ هذا؟ لأنّنا لم نرتّب أثراً على ما ذكره العظماء، فقد قالوا لنا بأنّه ينبغي أن نستريح في يوم الجمعة، لا تذهبوا هنا وهناك، ولا تدعوا أحداً إلى منزلكم، ولا تتعاملوا مع أحد هذا اليوم، ولا تتحدّثوا مع أحد! ولا تقضوا اليوم من الصباح إلى العصر هنا وهناك.. إذا كنّا كذلك، فبماذا يختلف حالنا عن أحوال سائر الناس؟! فما يقوم به الناس نفعله نحن أيضاً، فما هو الفرق إذاً؟ ولو بقينا على هذه الحالة خمسين سنة فلن نتحرّك أبداً، بل لو تحرّكنا لكان عجباً! ولو أعطينا عمر خمسمائة سنة وعمّرنا عمر نوح لما تحرّكنا مقدار (٢ سم)، لماذا؟ لأننا لم نعمل بالقاعدة. لقد ذكر المرحوم العلاّمة بأنّه ينبغي أن لا نتحدّث بعد الجلسة! بل دعوا تلك الحالة التي حصلت لكم بسبب ملكوت هذا المجلس تثبت، إذ الكلام بعد المجلس يذهب بهذه الحالة، فعندما يحصل لدى الإنسان حالة معيّنة ـ اختبروا ذلك بأنفسكم ـ ويأتي صاحبه ويقول له: هل قرأت ما كتب في الصحيفة أمس؟! [ماذا سيحصل له؟] فهل الآن وقت الكلام عمّا كتب في الصحيفة؟! أو أن يأتي ويسأل هل تعلم ماذا حصل في المكان الفلاني؟ ما علاقتي أنا بما يحصل هنا وهناك، فهذا الكلام يجري كلّ يوم ألف مرة! فهل هذا الوقت وقته؟!
هذه المسألة تأتي وتقضي على جميع تلك الحالة التي كانت لديه، وتأخذ ما حصل عليه! وكان المرحوم العلاّمة يغضب أحياناً بسبب ذلك! يعني عندما كان يرى اثنين يتحدّثان وقت الصلاة، كان يقول: مع من نتحدّث بهذه الأحاديث؟! هل التفتّم؟! هذه الأمور لها قانون، ولها قواعد.
الملاك في مقدار الطعام هو عدم الشعور بالثّقل
والغذاء من هذا القبيل أيضاً، فعندما يرى الإنسان نفسه ترغب بأيّ شيء، ولو كان مضرّاً له، أو أن يتناول جميع ما في الصحن كاملاً والحال أنه ينبغي أن يأكل نصفه فقط، أو أن يضع بدل ملعقتين أو ثلاثة من المرق جميع ما في الوعاء.. أو يتناول من جميع المأكولات الموضوعة أمامه، حتّى لو كانت دسمة أو مقليّة أو الطعام المليء بالسعرات الحرارية التي لا يحتاجها جسمه.. فسوف يشغلنا البدن بهضم هذا الطعام. فالبدن لا يمكنه بنفسه أن يقوم بهذا العمل، لذا يشغل النفس بهضم هذا الطعام، وبعد ذلك لا تستطيع هذه النفس القيام بشيء أبداً، لا يمكنها أن تستحضر القلب.. فأنت عندما تأكل طعاماً ثقيلاً، هل يحصل لديك بعده حضور قلب أم لا؟ هل تختلف حالتك أم لا؟ انظر هل بقيت تلك اللطافة والحالة التي كانت لديك أم لا؟
لماذا يرى الإنسان نفسه قريباً من الله في شهر رمضان؟ لأن تلك الرقّة واللطافة اللازمة لحركة الروح والنفس قد ازدادت بواسطة الخفّة وعدم اشتغال النفس بهضم طعام ثقيل ومليء بالسعرات الحراريّة، لذا فالنفس لا تريد أن تتخلّى عن تلك الحالة، لا تريد أن تنتهي، بل تريد أن تبقى في هذه الحالة.
لكن عندما ينادي المؤذّن "الله أكبر" ويصير وقت الإفطار وتوضع المائدة بأنواعها المختلفة، وكثرة الأطعمة الموجبة لثقل الإنسان.. فالنفس تأتي وتقول: آكل من هذا قليلاً ومن ذاك قليلاً... وبعد أن يفطر يرى أنّ تلك الحالة السابقة التي كانت لديه قد ارتفعت وذهبت، لماذا؟ لأنه أكل كثيراً هنا.
لهذا السبب حصل تأكيد كثير على أنه ينبغي على الإنسان أن يكون هو الراكب على البدن لا أن يكون هو المركب له؛ لأنه إذا أراد أن يتناول أيّ شيء وبأيّ شكل، فسوف يفقد تلك الحالة التي تساعده على الحركة.. وإن شاء الله في الجلسات اللاحقة نتحدّث عنها.. وإن كان من المفترض أن أنهي الكلام في هذه المسألة، لكنّي رأيت أن هناك بعض المطالب التي ينبغي ذكرها هنا، بالنسبة إلى الصوم والدستورات المتعلّقة بترك الغذاء الحيواني وغيرها من المطالب.. ففي النهاية ينبغي علينا أن نذكّر بهذه المطالب خلال حديثنا عن هذا الأمر، حتى لا يبقى كلام ينبغي ذكره دون أن يذكر.
أمّا كلام الإمام الصادق عليه السلام لعنوان ـ وهو كلام عجيب جداً، ومجرّب ـ وهو أنه قال له: لا تتناول ما لا تشتهيه، ولو وضع هذا الطعام أمامك، فإذا ذهبت إلى منزل صديقك، ولم تكن تشتهي شيئاً ووضع أمامك فاكهة، فلا تأكل! بل اكتف بشـرب الشاي فقط، وصاحبك لن يتأثر لذلك.. أو أن تأكل حبّة واحدة من الفاكهة أو نصفها مثلاً، فلو كان أمامك برتقال، وأحسست بأنك إن أكلتها كلّها سوف تثقل، فكل نصفها فقط، واترك نصفها الآخر لغيرك. إذ الإنسان في حياته لا يبقى في منزله دائماً، بل يذهب ويشارك في المجالس ويذهب إلى الوظيفة والعيادة، ويذهب إلى مدرسته ومنزل صاحبه وأقاربه، ويأتي الآخرون إليه أيضاً.. ولا ينبغي للإنسان أن يعمل دائماً بما يرغب به الآخرون من أكل هذا وذاك.. بل ينبغي عليه أن يجعل لهذه الأمور برنامجاً.. وهذا الذي أذكره للإخوة هو ما سمعته من العظماء.. عليه أن يجعل برنامجاً من الصباح إلى المساء، بأنه ينبغي أن يحصل بدنه على هذا المقدار من السعرات الحرارية فقط.. بالإضافة إلى سائر الأمور الأخرى في هذا المجال التي لن نتحدّث عنها الآن؛ مثل الرياضة وأمثال ذلك، ولعلّنا نتحدّث عنها لاحقاً.. بل نتحدّث فعلاً عن خصوص هذه المسألة، وأنّ عليه أن يتناول ما هو المفيد له فقط.
الأكل الزائد والجوع الزائد مانعان من حركة السالك
وكما أنّ امتلاء المعدة يوجب صرف اهتمام النفس إلى تدبير البدن والاشتغال به، كذلك الحال فيما إذا غلب الجوع على الإنسان وأضعفه.. فهذا خطأ كذلك، كلاهما مانع من الحركة، بل خير الأمور أوسطها. عندما يشتهي الإنسان شيئاً عليه أن يرى هل حالته الآن تقتضي هذا الأمر أم لا؟ عندما يكون قبل نصف ساعة قد تناول حبة فاكهة، ووضع أمامه فاكهة أخرى فعليه أن لا يتناول حبّة أخرى، بل يقول لقد أكلت، فهذه الفاكهة التي يأكلها ثانياً، وهذا الطعام الذي يتناوله بعد ذلك، يتنافى مع كلام الإمام الصادق عليه السلام عندما يقول لا ينبغي أن تأكل كل ما تراه، بل عليك أن تترك النفس تصل إلى مرحلة الاشتهاء المطلوبة، وبعد ذلك تناول.
على الإنسان أن يكون بالنسبة إلى مأكوله بحيث لا يشعر بأنّ في معدته شيئاً، هذا هو المعيار في الطعام؛ لأنه عندما يشعر بأنّ معدته قد ثقلت، فهذا يعني أنه تناول مقداراً أكثر من الميزان الذي يحتاجه بدنه، بل عليه أن يأكل على دفعات. لماذا يجعل معدته ثقيلة بالأكل دفعة واحدة، فليأكل على دفعات! أو ليأكل بين الوجبات.. فتلك الحالة من الخفّة التي يشعر الإنسان أنها أفضل حالة لنفسه هي التي يقصدها الإمام عليه السلام في كلامه مع عنوان، لا أن يشعر الإنسان بثقل بعد تناول الطعام بحيث يلزمه أن يجلس للاستراحة بمقدار ساعة أو نصف ساعة حتى يقل الثقل الذي حصل لديه، وإذا فعل ذلك فحالته قد ذهبت، وذاك الارتباط قد انقطع، لذا ورد في حديث رسول الله صلّى الله عليه وآله: «ما ملأ آدميّ وعاء شراً من بطنه»، يعني أنّه يعلم ما هو الضرر الذي يحصّله الإنسان من ذلك، وإلّا ففي أسوأ الحالات سوف يصاب الإنسان بثقل معدته، وبعد ذلك يأخذ دواء أو شيئاً من العرقيات ويستريح قليلاً، ثم شيئاً فشيئاً ترجع حالته إلى سابق عهدها، وقد تعوّد على هذا الأمر، ولم يخسر شيئاً بذلك، حتّى لو كان قد جلس لمدّة ساعتين أو تحدّث حتّى صار خفيفاً.. فلماذا كلّ هذا التأكيد على قلة الطعام؟! ولماذا قولهم: «المعدة بيت الداء والحمية رأس كلّ شفاء»؟! الحمية بمعنى الاحتماء.. لقد شاهدت في بعض الكتب أن الحمية فسـّرت بمعنى الحمّى والحرارة.. كلّا! بل بمعنى الاحتماء، فالاحتماء رأس الشفاء والدواء. حسناً، لماذا كلّ هذا التأكيد؟! لماذا قولهم بأنّ عليك أن ترفع يدك عن الطعام قبل أن تشبع؟! ولماذا أوصوا بأن تتناول في الليل طعاماً خفيفاً كي تستطيع النهوض قبل الفجر؟! فلو فرضنا أنّ المسألة هي مجرّد الاشتغال بأمر ظاهري فقط، لما احتجنا إلى كل هذا التأكيد. إنّ هؤلاء العظماء يعلمون.. والأئمّة يعلمون بأنّ الطعام الزائد يوجب سلب التوفيق، بحيث أنّه لا يستحق أن يجلس الإنسان بعد ذلك لمدة ساعة أو ساعتين حتى يخفّ! إذ قد يكون مقدّراً أن يأتي شيء في هذه الساعات، لكنّه بسبب امتلاء المعدة ذهب ذلك المقدّر. لذا نرى أن جميع العظماء ـ بحسب علاقتي بهم وسماعي عنهم ـ كانوا يراعون هذه المسألة، وكانوا يأكلون.. يأكلون [باقتصاد] من كلّ شيء..
الزهد ليس ترك التنوّع بل ترك الإسراف ولو في النوع الواحد
وأنا أتعجّب ممّا أسمعه في هذه الأيّام أو في السابق، من أنّ الإنسان عليه أن يأكل نوعاً واحداً من الفاكهة فقط، من قال بأنّه ينبغي أن يأكل نوعاً واحداً فقط؟!
قبل مدّة رأيت في موضع أنّ بعضهم كان يمدح شخصاً ميّتاً ـ رحمه الله فقد كان رجلاً صالحاً، لكن ليس من الضروري أن تكون جميع أفعال الإنسان صحيحة ـ بأنّه لم يكن في منزله أكثر من نوع واحد من الفاكهة!
من قال بأنه ينبغي أن يكون لديه نوع واحد فقط؟! إذ ما الإشكال في أن يكون لديه نوعان أو ثلاثة أو أربعة؟! هل فقط هذا النوع هو من خلق الله، وأما سائر الفواكه فليست مخلوقة لله؟! ما الفرق بين التفّاح والبرتقال والعنب؟ هل من الزهد أن لا يكون في منزل الإنسان أكثر من نوع واحد من الفاكهة؟ كلّا ليس هذا زهداً. بل الإسراف هو الخلاف، والإضافة على ما يحتاجه البدن هو الخلاف؛ سواء كان نوعاً واحداً من الفاكهة أو أكثر من نوع، ما الفرق في ذلك؟
فإذا فرضنا أنّ ضيفاً أتانا ولا يرغب في هذا النوع من الفاكهة، فهو لا يحبّ التفاح مثلاً، ووضعنا أمامه تفّاحاً، وهو يحبّ البرتقال! هل يجلس هكذا دون أن يتناول شيئاً؟! لا، بل ينبغي أن نقدّم له البرتقال!
فعندما تريد أن تشتري بعشرة آلاف فاكهة، ما الفرق بين أن تشتري بعشـرة آلاف تفاحاً وتضعها في البرّاد، وبين أن توزّع هذه العشـرة آلاف على ثلاثة أنواع من الفاكهة: التفاح والبرتقال والعنب أو الإجاص؟ ما المشكلة في ذلك؟ بل هذا أفضل، لأنّه يتيح لك فوائد أكثر. فلو كان الأمر زهداً، فأنت قد دفعت نفس المبلغ من المال! لماذا هذا التحجّر في التفكير؟! والقول بأنّ الزهد هو أن يأكل الإنسان نوعاً واحداً من الفاكهة! كلّا بل هذا تفكير خاطئ.
سمعت أنّ أحدهم كان يقف في الصيف ويصلّي تحت الشمس، وفي الشتاء كان يصلي تحت الظل، ويقول بأنّه يفعل ذلك حتى لا يحصل رياء! أيّها الأبله إذا وقفت تحت الشمس تمرض! وهذا ليس زهداً، وإلّا فلمن جعل الله الظل؟! ولماذا جعل الله الحرارة؟! هل التفتّم؟ هذه الأمور كلّها لا أصل لها لا في الشرع ولا بين الناس، بل هذا فقط لكي يقال بأنّ فلاناً زاهد!
كلّا يا أخي بل ضع عشرة أنواع من الفاكهة، لكن ينبغي أن لا يحصل إسراف! فكما أنّ التفاح من ثمار الله تعالى، كذلك البرتقال، وكذا العنب هو من خلق الله، وأيضاً الإجاص والبطيخ.. عليك أن تأكل بالمقدار المحدّد، ولو كان من عشرة أنواع من الفاكهة، بل هذا أفضل، إذ إنّ فوائده ستكون أكثر.. وإن كان بعضهم يقول بأنّه لا ينبغي الجمع بين نوعين من الفواكه، لكن هذا لم يثبت..
وعلى كل حال المسألة هنا ليست زهداً، الزهد هو أن يقف الإنسان أمام نفسه في كلّ شيء تشتهيه وتريده، لا أن يمدّ يده إلى كل ما تطلبه النفس، هذه هي المسألة. وإلا فإذا أراد الإنسان أن يأكل لأجل الفوائد الموجودة فيها والفيتامينات المشتملة عليها فليس خطأ.
الفارق بين الضيافة في مجالس الذكر وبين ضيافة المنزل
إلاّ أنّ هنا مسألة، وهو أنّ المرحوم العلّامة كان يوصي فيما مـضى بأن يوضع في الجلسات نوع واحد من الفاكهة. وينبغي أن أذكر هذا وأوضّحه، حتّى لا يخطر في ذهن بعض الإخوة الذين أدركوا ذاك الوقت إشكال في هذا الأمر.
إنّ المطلب الذي كان يذكره المرحوم العلّامة يختلف عمّا نذكره نحن، فأوّلاً: أجواء الجلسات تختلف.. [أمّا في المنزل] فعندما كان يأتيه ضيف كان يقدّم له عدّة أنواع من الفاكهة، وكنت أنا بنفسي أذهب وأشتري عدّة أنواع من الفاكهة وأضعها أمام المرحوم العلّامة، وكذا في مجالس الأعراس والمجالس العامّة لم تكن المسألة كذلك، بل كان يوجد العديد من أنواع الفواكه.. أمّا تلك المسألة فقد كانت مرتبطة بجلسات عصر الجمعة فقط، حيث كان مراده من ذلك هو مسألة توجّه النفس، حيث إنّ النفس تبحث عن مبرّر حتّى تشتغل بالأمور الجزئيّة هنا وهناك، كما نرى مثل هذه الأمور بشكل دائم.. فإذا كان المقرّر أن يكون المجلس مجلس ذكر وتوجّه، وأردنا أن نحضر فواكه مختلفة، فيمكن أن يحصل للنفس توجّه إلى هذه الأمور، وهذا من الأمور الواضحة التي لا تقبل الإنكار ـ وإذا استطاع شخص أن يحفظ نفسه في مثل هذه الحالات، فهذا ممكن، إذ الأشخاص مختلفون فيما بينهم ـ حيث ينصبّ التوجّه على مسائل أخرى، ويحصل للإنسان انشغال بما يأخذه. ولذا جعل المرحوم العلّامة نوعاً واحداً من الفاكهة ليغيّر مذاق فمه، ويكون قد تناول شيئاً في النهاية دون أن يؤثّر ذلك في توجهه. وفي أواخر حياته نهى عن ذلك أيضاً، ورأى أن يقدّم الشاي فقط، وقد كنت أنا السبب في تغيير رأيه، فقد ذهبت في يوم إلى المرحوم العلّامة وسألته: ما الدليل على أنّه ينبغي تقديم الفاكهة في الجلسات؟ فقال أنت على حق، قل لهم لا يقدّموا فاكهة بعد الآن. فاعلموا أنّي كنت السبب في تعطيل ذلك وتخريب الأمور [ضحك]..
وكما ذكرت لكم، فإنّ حالة التوجّه التي تحصل للإنسان قد تذهب ولو بتناول فاكهة، أمّا الشاي فليس مهماً، بل هو مثل الماء، فإنّ الماء لا يوجب انصـرافاً للنفس. أمّا إذا أرادوا تقديم فاكهة، فيحدّث نفسه: أيّ نوع من الفاكهة سيقدّمون؟ هل سيقدّمون البرتقال أم العنب؟! ليتهم يقدّمون هذا الصنف.. إذا طرأ مثل هذا الأمر على ذهنه، فذاك التوجّه الذي كان لديه يذهب بشكل كامل. لذا ينبغي أن نقضي عليها من الأساس..
أمّا في سائر المجالس، فإذا أردت أن تقدّم أكثر من نوع فلا إشكال، لكن لكلّ شيء موضعه الخاص به، فهنا يكفي تقديم الشاي.. هذه الأمور نقاط ينبغي للإنسان أن يتأمّل فيها، لماذا؟ لأنّ القانون هو هذا. ولا يمكننا أن نسبح عكس التيّار، ولو فعلنا ذلك نكون قد صرفنا طاقتنا عبثاً وأتلفنا وقتنا، وبقينا في مكاننا. هل جرّبتم السباحة في النهر؟ فمهما جدّفت باتجاه مخالف للتيار فسوف تبقى مكانك أو تتحرك قليلاً، لأنّ مسير الماء لا يدعك تتقدّم. هذا المسير هو الذي وضعه الله تعالى، وهذا الطريق هو الذي جعله الله.
وعليه، فما ذكره المرحوم العلّامة من أنّه ينبغي أن يكون هناك نوع واحد من الفاكهة، إنّما يرجع إلى ذاك الوقت وخصوصيّات ذاك المجلس، أمّا هو فقد كان يتعامل مع الضيوف الذين يقدُمون عليه بخلاف ذلك، وكذا في المجالس العامّة التي كان يقيمها لم يكن كذلك. وكما ذكرت لكم فإنّ على الإنسان في هذه الأمور أن لا يكون مسـرفاً ولا مفرّطاً، بل عليه أن يحافظ على المقدار المطلوب.
أعتقد بأنّه لم يعد لديّ توفيق للاستمرار، حيث لم يُسمَح لي بأن أتكلّم أكثر من نصف ساعة هذه الليلة. لذا إن شاء الله نترك المطالب الباقية إلى المجالس القادمة، إن شاء الله، فكلّ ما تتعلّق به إرادة الله تعالى علينا أن نكون مسلّمين له ومطيعين.۱
اللهم صل على محمد و آل محمد