المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني
القسمعنوان البصري
المجموعةالطعام و التغذية
التوضيح
في إطار بحثه عن مسألة الغذاء وتأثيرها على السير و السلوك تحدّث سماحة آية الله السيد محمد محسن الطهراني في هذه المحاضرة عن حاجة السالك إلى بدنه، مبيّناً أن هذا البدن هو وسيلة السالك للحركة في طريق الله، و أنّ المحافظة عليه ضرورية لقطع هذا الطريق، و تطرّق بعد ذلك إلى كيفية تعامل الأولياء مع مختلف الوسائل الماديّة المتاحة لهم، و ختم المحاضرة بالحديث عن كيفية المحافظة على الآثار النورانية لشهر رمضان المبارك.
هو العليم
البدن وسيلة ضرورية للتكامل
شرح حديث عنوان البصريّ - المحاضرة ٢۰۱
ألقاها
آية الله الحاجّ السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ
قدس الله سره
أعوذ باللـه من الشيطان الرجيم
بسم اللـه الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين
والصلاة والسلام على سيّدنا ونبيّنا أبي القاسم محمد
وعلى آله الطيبين الطاهرين
واللعنة على أعدائهم أجمعين
في الحديث الشريف المرويّ عن عنوان البصري، يذكر الإمام عليه السلام لعنوان البصري عدّة مسائل مرتبطة بطريقة الأكل والتغذية، ومن الطبيعي أن نتوفّر في هذا المجال على مجموعة من المسائل؛ إذ ينبغي أن تُؤطّر مسألة التغذية وطريقة الاستفادة من هذه النعمة الإلهيّة بالقوانين والقواعد المنطقيّة للسلوك، وإلاّ ستضحي هذه المسألة ـ بحدّ ذاتها ـ مانعاً أمام حركة النفس وسيرها، سواءً في جانب الإفراط أو التفريط.
البدن وسيلة ضرورية لطيّ طريق الله
والدليل على هذا الأمر ـ كما بيّنا ذلك سابقاً ـ هو أنّ السالك يحتاج في سيره وطريقه إلى البدن، حيث أنّنا لازلنا أسرى للبدن العنصري والمادّي، وينبغي علينا أن نطوي هذا السير وهذه الحركة بواسطة هذا البدن وهذا اللباس. كما أنّ الخصائص التي ميّز الله تعالى بها هذه النفس لها علاقة بهذا البدن، ومن اللازم علينا سلوك طريق الله تعالى من خلال نفس هذه العلاقة، حيث ينبغي الاحتراز عن الأهواء والتخيّلات والتوهّمات، والامتثال للأوامر والاجتناب عن النواهي، وعلى السالك أيضاً ألاّ يتدخّل في القضايا والمسائل التي لا تهمّه، ولا يتقاعس في نفس الوقت عن التدخّل في الأحداث والوقائع الواجب عليه التعرّض لها؛ وكلّ ذلك إنّما يتمّ بواسطة هذا البدن، أي أنّكم إذا تأمّلتم قليلاً ستلاحظون أنّ جميع الأفعال والتصرّفات الواجب على السالك أداؤها [تؤدّى في الحقيقة بواسطة هذا البدن]... نعم، يبقى أنّ هذا الأمر مختصّ ببداية المسير أو أواسطه، لكن بعد ذلك ثمّة هناك حالات وآفاق وعوالم يمكن للسالك فيها أن يستمرّ في طريقه حتّى من دون حاجةٍ إلى البدن، غير أنّ الحركة والسير اللذين نتحدّث عنهما فعليّاً يرتبطان بالأشخاص المبتدئين الذين يسيرون في هذا الاتّجاه ويمتلكون هذه الأوضاع والأحوال العاديّة؛ فمن الطبيعي ـ والحال هذه ـ أنّ السالك لن يتمكّن من الحركة ببدن مريض ومنهك أو ببدن لا يستطيع أن يُعينه على القيام بهذه المسائل، لأنّه في هذه الحالة سيبقى السالك مشغولاً ومتورّطاً بمجموعة من الأمور المرتبطة بهذا البدن.. فاليوم يعاني من ألم الرأس، وغداً معدتُه تؤلمه، وبعد غد يأتي دور الأمعاء، وفي يوم آخر يُصاب قلبه بالمرض... وهكذا، فينبغي عليه أن يقضي جميع أوقاته في مسائل من هذا القبيل، بينما كان من اللازم عليه أن ينشغل ـ بدلاً عن ذلك ـ بأمور ومسائل أفضل.
كيفية تعامل العارف مع الوسائل الحديثة
في أحد الأيّام، كان المرحوم القاضي رضوان الله عليه جالساً وسط أصحابه، فدار الحديث بينهم حول مسألة أنّ الدولة تنوي القيام بتعبيد الطرق والشوارع، فقد كانت السيّارات غير موجودة في ذلك الوقت وكانت الطرق ترابيّة وغير معبّدة، كما كانت وسائل المواصلات بدائيّةً جدّاً، فجاء بعض الاشخاص و قالوا للسيّد القاضي بأنّهم ينوون تعبيد الشوارع من أجل تسهيل تردّد السيّارت و حركة العبور والمرور، لتصبح بشكل أفضل وأسرع، و كان البعض منزعجاً و قلقاً من حصول هذا الأمر، ولطالما وُجد هذا النوع من التشدّد والتزمّت في مثل هذه المسائل، حيث أنّ هناك بعض الأشخاص دائماً ينظرون إلى كلّ مسألة جديدة وظاهرة جديدة على أنّه أمر ٌخاطئ ومضرّ، فهم يعتقدون أنّ المفترض على الإنسان أن يستفيد من أكثر الوسائل بدائية ومن الأشياء الطبيعيّة، إلى درجة أنّه عند ظهور السيّارت، فإنّ الكثير من هؤلاء لم يكونوا ليركبوا فيها! بل كانوا يمتطون الحمير والأبقار والأحصنة وأمثال ذلك، وكانوا يقولون بأنّ السيّارات هي من الأشياء التي أتتنا من الناحية الأخرى وهي من التقنيات الغربيّة. وأتذكّر أنّه حينما ظهرت مكبّرات الصوت (و هذا لم يحصل في زماننا بل قبل ذلك) ، فإنّ العديد من المساجد والحسينيّات امتنعت عن الإتيان بها، وكانوا يقولون بأنّ مكبّر الصوت والميكروفون (وأمثال ذلك) مصدرُها الغرب، فلا يجدر بنا أن نضعها في المكان المنتسب للأئمّة، كما أنّهم أطلقوا عليها اسم "بوق الشيطان"! أجل، أطلقوا على هذه المكبّرات التي على شكل صناديق اسم أبواق الشيطان! حسناً، لقد كان هذا الاعتقاد خاطئاً ولا محلّ له؛ إذ ما هو المانع من أن يستفيد الإنسان من الأشياء المفيدة والتي يكون وجودها أنفع من عدمها؟! فالغربيّون هم بدورهم أناسٌ مثلنا! وكما أنّ الله تعالى ـ من باب المثال ـ يلقي بعض الأشياء في ذهن هؤلاء الأشخاص، فإنّه يُلقي أيضاً بعض الأشياء في ذهن أولئك الأشخاص. أفهل تُعدّ هذه الكهرباء [أمراً سيّئاً أيضاً؟!!]... لقد كانوا يمتنعون حتّى عن استعمال الكهرباء متذرّعين بأنّ الكهرباء قد أتتنا من تلك الناحية! حسناً، هذا غير صحيح، كما أنّ هذا التشدّد والتزمّت هو أمر خاطئ؛ فلكلّ شيء مجاله الخاصّ. فكما أنّ الإفراط غير صحيح، فإنّ التفريط لا يصحّ أيضاً، بل الصواب في مثل هذه الأمور هو أن ننظر على أيّ نحو سوف تُستعمل مثل هذه الأشياء، ولأيّ غرض وهدف؟ هذا هو المهمّ.
حسناً لقد كانوا جالسين مع المرحوم القاضي... فدار الكلام حول تلك الأمور، فقال المرحوم القاضي: ما الإشكال في ذلك؟ فهذه لا تعدوا كونها وسائل و أدوات... لاحظوا كيف ينظر العارف إلى الأمور، وإذا ما أردت أن أتعرّض هنا لبعض المسائل، فإنّ ذلك سيؤدّي للمساس بالعديد من القضايا [والشخصيّات]، حيث كان العديد من خصوم المرحوم القاضي في ذلك الوقت يعارضون مثل هذه الأمور، وقد كان أحدهم يمتلك مكانة مرموقة، وصاحب مرجعيّة، ويحتلّ وسط الناس منزلة خاصّة ـ ولن نتعرّض الآن لذكر اسمه ـ، فكان يقف في موقف المعارضة ويقول: لا، ينبغي أن نحتفظ بالحمير، والبقر، والبغال، وهذه الروائح الطيّبة ، وأن نحتفظ بهذا التراب... هل التفتّم؟! لكن في المقابل، انظروا كيف يُقيّم العارف الأمور، حيث يأتي في خضمّ هذه المسائل ويقول : من اللازم علينا أن نرى هل أنّ الاستفادة من هذه الوسائل تُسرّع سيرنا نحو هدفنا المقصود أم لا. فياله من ملاك يضعه بين أيدينا! يا له من ملاك! علينا أن نرى هل أنّ استعمال هذه الوسائل تُسرّع وتسهّل طريقنا وسيرنا نحو المقصود وتُقرّبنا أكثر منه، أم لا؟
كان المرحوم العلاّمة يقول بأنّ السفر للزيارة ـ ومن باب المثال زيارة الإمام الرضا عليه السلام ـ هو أمرٌ جيّد جدّاً ومحبّذ كثيراً ومن المستحبّات المؤكّدة، بحيث أنّ الإنسان يُمكنه أن يُحصّل منها فوائد عظيمة، ويُمكن للسالك أن يُحصّل من الزيارة فوائد عظيمة... فبالنسبة للشخص الذي يتمكّن من ذلك ويقدر عليه ويريد أن يستعمل السيّارة، فإنّ سفره هذا سيتطلّب قضاء يوم كامل ـ نعم، قد يفرق الأمر في بعض الموارد ـ لكن بصفة عامّة، فإنّ سفره سيستغرق يوماً واحداً. حسناً، لقد كان بإمكانه السفر لساعة واحدة فقط وقضاء بقيّة اليوم في ذلك المكان [أي الحرم المطهّر] ووسط تلك الأجواء، فهل هذا أفضل، أم أن تطول المدّة ويمضي اليوم في السفر؟! نعم، قد يفرق الأمر في بعض الموارد، وتكون الظروف والحالات التي تمرّ على الإنسان مختلفة، لكن بشكل عامّ، فإنّ المسألة هي بهذا النحو.
السالك يحتاج إلى بدن سالم لكي يؤدّي تكاليفه
وعليه، فإنّ الملاك والخصوصيّة التي نستنتجها مما تقدّم هي بنفس هذا الشكل؛ لماذا؟ لأنّ الإنسان ملزم باستعمال هذا البدن، ومقيّد بالارتباط بالبدن، وله تعلّق بالبدن، فلا مفرّ له من ذلك، إذ أنّه لا يزال أسيراً في قفص البدن المادّي، ولا يزال يُؤدّي أعماله بهذا البدن المادّي، و من هنا فإنّ الإنسان يحتاج أن يكون بدنه قادراً على تحمّل هذه المسائل و قادراً على أدائها؛ ولهذا على الإنسان أن يهتمّ بالمسائل المرتبطة به.. فمن باب المثال، من يريد أن ينشغل بالأذكار والأوراد ( و سوف يتعرّض الإمام عليه السلام في آخر حديث عنوان البصري لعدّة مطالب حول الذكر والورد وكيفيّتهما) مثل هذا الشخص كيف يُمكنه أن يُؤدّي ذكر اليونسية أربعمائة مرّة ـ أو أقلّ أو أكثر ـ بذهن مضطرب ومرهق، أو مع معاناته من المرض والألم ؟! (و كلامنا هذا بغضّ النظر عن الموارد التي تخرج عن اختيار الإنسان وتقع بنفسها) وكيف يُمكنه أن يحافظ على تركيزه؟ وكيف يُمكنه أن يجعل نفسه تتناغم مع معاني ومفاهيم الأذكار الشريفة، ويسير بنفسه في هذا الطريق وفي هذا الاتّجاه في الوقت الذي يُعاني فيه من آلام في المعدة مثلاً؟ وذلك لأنّ تفكير مثل هذا الشخص سيكون معطّلاً، ولن يكون له أدنى توجّه! فهو دائم الانشغال بألمه، وجُلّ تفكيره منصبّ حول مسألة متى سينتهي هذا الذكر لكي يقوم ويشرب دواءه... فهذا لم يعُد ذكراً؛ لأنّ التوجّه سينتفي في هذه الحالة.
ولكن كما ذكرت فهذا لا يخصّ الموارد التي يحلّ فيها مرض من تلقاء نفسه أو تقع فيها حادثة بصورة تلقائيّة، فلا ينبغي علينا أن نخلط بين الأمرين؛ إذ أنّ ذلك المرض يُعدّ بنفسه من ضمن البرنامج وفي إطار الخطّة المرسومة للإنسان، مثلما قال الإمام الصادق عليه السلام لأبي بصير [ما مفاده]: إنّا أهل بيت نحمد الله على نعمه دائماً: فنشكره عند السلامة لأنّه تعالى اختار لنا ذلك، ونشكره أيضاً عند المرض لأنّه قدّر لنا ذلك.
العارف يرى الصحّة و المرض من الله تعالى دون فرق
فلا يصحّ أن يقول حينما يُسأل عن حاله: "الحمد لله، أنا مريض، وأنا مسرور جدّاً لأنّني أرى نفسي مريضاً"، هذا على الرغم من أنّه كان صادقاً، ولم يكذب على الإمام؛ فمن المحتمل أنّه كان يعيش مثل هذه الحالات، حيث كان يشعر أنّه باستطاعته في حالة المرض أن يُقوّي من توجّهه نحو الله تعالى، بنحوٍ لا تتمكّن معه العوائق الظاهريّة أن تقف في وجه هذا التوجّه والتركيز، لكنّنا نرى هنا أنّ الإمام عليه السلام يُنبّهه إلى ضرورة أن يمتلك مثل هذه الحالات في جميع الأحوال، لا أن يرغب في بقاء ذلك [أي المرض] على الدوام، فإنّ ذلك خطأ، بل عليك أن تفوِّض الأمر إلى الله، وسلّم نفسك له، ولا تطلب منه أن يبقيك مريضاً على الدوام، وطريح الفراش على الدوام، فإنّ هذا أمر خاطئ ومجانب للصواب؛ والسرّ في ذلك أنّ ظهورات الحقّ تعالى متنوّعة، وقد يكون الابتلاء بهذا المرض مفيداً بالنسبة لك إذا استمرّ لمدّة محدودة لا أكثر! فإذا تجاوز تلك المدّة، فإنّه لن يُصبح مفيداً، بل قد يُفضي إلى إصابة نفسك بالانكسار؛ وهي مسألة خطيرة جدّاً، وقد لوحظ أنّ بعض الأشخاص (أو بالأحرى الكثير منهم) ابتلوا بهذا الأمر، فتخلّفوا عن الطريق؛ لأنّهم لم يُسلّموا أمرهم لرضا الله تعالى، بل استسلموا لرغباتهم النفسيّة، وقدّموا النفس في هذا الموضع.. فتراه يتلذّذ من كونه مريضاً، وتراه مسروراً ويشعر بالرضا لأنّه يتميّز عن بقيّة الأشخاص بهذا الابتلاء؛ هذا مع أنّ جميع هذه الأمور ترجع إلى النفس! وتراه يحسّ بالابتهاج في قلبه لأنّ بعض الظروف قد طرأت عليه، فلم يعُد قادراً على التمتّع بالنعم الإلهيّة مثل بقيّة الناس؛ وهذا أمر بالغ الخطورة، و هذا الانحراف قد يظهر في العديد من القضايا والمواضع!
تفضيل البلاء على العافية يعدّ انحرافاً أيضاً
مثلاً إذا كان طعامه يختلف عن طعام البقيّة، فإنّ ذلك يمدّه بحالة من البهجة والوجد! فأنا آكل الخبز والبقول، بينما يأكل البقيّةُ الأرزّ والطعام اللذيذ! أنا آكل الخبز والبطاطس من باب المثال! فهو يلتذّ في نفسه من أن طعام البقيّة هو بذلك الشكل، بينما طعامه هو بهذا الشكل. إنّ سبب هذا الشعور هو الشيطان! إنّه الشيطان الذي حضر عنده! وقد كان ينبغي عليه أن يباغته في تلك الساعة ويقول: أحضروا لي نفس ذلك الطعام الذي تأكلونه! فعندما يأكل الطعام، و ينظر إلى نفسه فإنّه سيرى أنّه : يا للعجب! ماذا! إنّني آكل كما يأكل بقيّة الناس، وهذا سيّء جدّاً!
انتبهوا! إنّ قوله: "هذا سيّء جدّاً " يدلّ على أنّه يُعاني من مشكلة في هذا الموضع! ويكشف أنّ مرضاً موجوداً ها هنا!
تجده يحدّث نفسه قائلاً: يا للعجب، إننّي أتصرّف مثل بقيّة الناس، فبماذا سأتميّز عنهم حينئذٍ؟! ويشعر بالانزعاج لأنّ الناس ينظرون إليه الآن ويقولون: عجباً! إنّ هذا السيّد يأكل مثلما نأكل نحن! بل لربّما يأكل أكثر منّا! فما الذي دهاه؟!! فيقول في نفسه: ينبغي عليّ ألاّ آكل إلى هذا الحدّ، بل عليّ أن أكتفي بالخبز والبطاطس... فالناس ينظرون إليّ! ولا ينبغي أن يروا أنّني آكل مثلهم؛ ففي الأخير، يجب أن يوجد فرق في البين ؛ فأنا أريد أن أكون في مقام الأمر والنهي، ولهذا عليّ أن أكون مختلفاً عن البقيّة، ويجب أن يرى الناس أنّني آكل الخبز والبصل، وأنّ الدموع تجري من عينيّ أيضاً!! أجل! هكذا أفضل، فهم ينظرون ويشاهدون وضعي بنفسهم! ويقولون : (ما شاء الله، أنعم به وأكرم!) ، جيّد جداً ، فالآن فقط، أصبح الأمر على ما يُرام! و هكذا تجده يأنس ويفرح بأنه صار في هذا اليوم مورد توجه الناس والتفاتهم.
إنّ هذه الحالة التي تحصل للنفس هي شيطان، فإنّها لا تدع حالة العبودية تحصل لدى الإنسان، وعندئذٍ ترى أنّ مثل هذا الشخص عندما يريد أن يقدم على عملٍ ما.. عندما يريد أن يشتري منزلاً مثلاً.. تراه يختار شيئاً متواضعاً يكون فيه بعض الطين والحجارة والتراب!!
ما الذي كان يفعله عُمَر؟ إنّه كان يفعل هذه الأمور ويخدع الناس بهذا الأسلوب! ألم تسمعوا بزهد عمر؟! هذا هو الأمر بعينه هنا ، فلو أنّ هذا الشخص انتخب لنفسه منزلاً عادياً ومنظماً ونظيفاً.. سيأتي الناس ويقولون: إنّ منزله مثل منازلنا! فلماذا له الأمر والنهي ولماذا يكون له حساب خاصّ و مقام متميّز عن الآخرين ؟!
العارف يساعد الإنسان على التخلّص من أمراض نفسه الخفيّة
انظروا! ما هذه الأمور؟ هذه الأمور هي التي يأتي العارف ويأخذ بيد الإنسان وينقذه منها، ويبيّنها له، وإذا وفّقنا الله في الليالي الآتية فسوف نطرح أمثلة على هذا الأمر، ونتكلم ببعض المطالب حوله.
لقد كنت أحياناً أتعجب من بعض الناس، إذ كان المرحوم العلامة يأمر بعضهم بدستور خاص، ويقول له: اذهب وافعل هذا الأمر الفلاني! مع أنّ سماحته هو نفسه ما كان ليقوم بهذا الفعل الذي طلبه من هذا الشخص!! وبعد ذلك نلتفت إلى أنّ هذا الشخص واقعٌ في أمرٍ مشكل ومعضل، ينحصر حلّه بذاك الأمر الذي كان المرحوم العلامة قد أمره به في ذلك الوقت وتلك الموقعيّة. وهذا الأمر كان ملفتاً جداً بالنسبة إلينا ، يعني [كان سماحته يؤدّي ذلك] بدون أن يلفت النظر ، أو تحصل قضيّة ما أو تظهر حقيقة الأمر لأحد وذلك بدقّة متناهية و لطف شديد!
أذكر من أمثلة ذلك أنّه كان يوجد شخص كان يصلي إماماً للجماعة في العادة ، وكان محترماً ومورد توجّه الناس واهتمامهم، وكان هناك شخص آخر يقيم الأذان والإقامة حتّى يأتي هذا الرجل فيؤمّ المصلين.. وفي يوم رأيت المرحوم العلامة أشار إلى هذا الشخص الأوّل أن: قم وأذّن! فما إنْ أمره بذلك حتّى رأيناه قد اضطرب وتبدّلت أحواله.. وبقي محتاراً ماذا يفعل، ثم قال: هل تقصدني أنا؟ فقال السيّد العلاّمة: نعم! أنت! [ضحك].
أنظروا.. ما الإشكال في الأذان؟ فالأذان أمر مستحبّ يقوم به الجميع، ألم يكن الأئمة يؤذّنون؟ ألم يكن أمير المؤمنين عليه السلام يؤذّن في مسجد الكوفة؟ ولكن صار الأذان الآن بشكل إذا أردت أن أؤذّن أنا، ففيه حالة من الانكسار و الشعور بالعار والضعة، إذ أنا ينبغي أن أكون إمام الجماعة!! فالأشخاص الذين يصلون جماعة ويصوّرونهم أثناء الصلاة، عندما يؤمرون بإقامة الأذان، ويقال لهم: تفضّل و أذّن. ضع يدك على اذنك و ارفع صوتك بالأذان. فإنّه سيقول: يا سيدي، وهل أنا مؤذّن؟ نعم ما الإشكال في أن تؤذن أنت؟! ألم يكن الإمام الحسن عليه السلام يؤذّن؟ ألم يكن يسمع الناس صوته، وألم يكن الناس يسمعون صوت أذان الإمام السجّاد عليه السلام؟ وكذا الإمام الرضا عليه السلام كان يسمع أذانَه الناس الذين كانوا يمرون قرب داره في وقت أذان الصبح أو المغرب. وهكذا كان المرحوم الوالد يؤذّن أيضاً، حيث كان يؤذّن لصلاة الصبح أو صلاة المغرب.. وذلك عندما كان يصلّي في البيت ولم يذهب إلى المسجد لسببٍ ما، وكان صوته عالياً يسمعه الجيران. و
لكن الآن صارت هذه المسألة عاراً.. السنة الإسلامية تبدلت إلى عار، وتبدلت إلى أمر يوجب انكسار النفس.
وفي النهاية لم يؤذّن ذاك الرجل، إذ لم يستطع أن يفعل ذلك! لقد تبدل لونه واحمرّ وجهه، فصار كأنّ روحه تنتزع منه!! فأمر المرحوم الوالد شخصاً آخر بالأذان، إمّا أنا أو شخصاً آخر..
انظروا!! هذه الصلاة التي كنا حتّى الآن نصليها ماذا صار بها؟ الصلاة التي كنا نعتني بالتكبير فيها بحيث أن الملائكة كانوا يقفون بالصف للنظر إلى هذه الصلاة الجميلة.. ماذا فعلت؟ لم تستطع أن تلزمنا بأذان! بأذان نعلم أنّه سنة إسلامية وسنة نبوية، حيث كان النبي نفسه يؤذّن، وكذا أمير المؤمنين؛ فأمير المؤمنين عليه السلام قد أذّن في ليلة التاسع عشر، حيث صعد المئذنة وأذّن، ثمّ نزل.. وكان ابن ملجم نائماً، فأيقظه الإمام برجله وقال له: انهض. لقد صار وقت الصلاة.. وإني لأعلم ما الذي تنوي فعله وأعلم ما تخفي ـ وكان واضعاً السيف تحته ـ إنّك تريد أن تفعل أمراً تهتزّ له الأرض والسماء..
من الذي فعل ذلك؟ أمير المؤمنين عليه السلام. لقد أذّن عليه السلام ونزل عن المئذنة وأيقظ قاتله في تلك الليلة، وكأنه يقول له انهض وقم بعملك الذي جئت له..
إنّ الذي كان العظماء يسعون إليه هو هذا الأمر، وهو أن لا نقع يوماً في مثل هذه المسائل التي وقع فيها الكثير من الناس.
ففي مسألة الغذاء علينا أن نكون في موضع لا تغلبنا فيه النفس، فالنفسُ نفسٌ، ولا يمكن التعامل معها إلا كذلك، و هي قادرة أن تدخل من أيّ باب، وتريد أن تدخل بأيّة وسيلة، فذاك الشخص [صاحب المكانة الظاهرية] لا يمكنه أن يتسوّر الحائط ويدخل منازل الناس سارقاً، ولا يمكنه شرب الخمر.. فشرب الخمر لا يصدر منه ولا من أمثاله، ولا يمكنه حمل السلاح والسرقة به، (ولا يمكنه سرقة مليارات المليارات ، مع أنّ ذلك وقع الآن فعلاً !!) هو لا يستطيع فعل ذلك، لكنّه يأتي ويدخل من باب آخر، و يختار طريقاً آخر، بل هو ينتخب طريقاً يكون مورداً لإعجاب الناس و تحسينهم و مدحهم، فيقولون عنه: عجباً كم هو إنسان جيد! وكم هو إنسان مُعرض عن الدنيا! وكم هو إنسان لا تعلّق ولا اعتناء له بهذه الدنيا.. يأتي من هذا الطريق ويتوقّف هنا.
التظاهر بالزهد خلاف الزهد
كنت مرّة مدعوّاً على مائدة، وكان هناك أشخاص مختلفون، وكان هناك شخص معمّم، لكن لم يكن من أهل الفضل والعلم، لكنه كان يضع عمامة على رأسه ويقوم ببعض المسائل غير العادية على ما ينقل عنه، فعندما أتوا بالطعام، تناول قطعة من الخبر وشيئاً من الخضار، دون أن يتناول الأرز وسائر الطعام الموجود، علماً بأن الطعام كان عادياً وليس بالشيء العظيم. وكنت أنظر إلى حركاته وكيفية تعامله، فرأيت أنّه كان متوغلاً في هذه المسألة بشكل كامل، حيث كان أسيراً لهذه المسألة، واستمرّ الأمر على هذا الأساس و بهذه الطريقة حتّى بعد انتهاء الطعام، وكان ظاهراً تعامله ذلك للجميع، ولكن كان مشخّصاً بأن جميع ما قام به إنما كان ناشئاً من التذاذ النفس، لا من الزهد، فالزهد يعني عدم التعلّق وعدم الاعتناء، وهذا عين التعلّق وعين الاعتناء.
كيفيّة المحافظة على آثار شهر رمضان المبارك
إن شاء الله، يمكن أن نتحدث حول هذه المسألة ونأتي ببعض الشواهد والضوابط التي يمكن للإنسان أن يجعلها ملاكاً لهذه الأمور، ويستطيع أن يفهم ما هي الأعمال التي يمكنه القيام بها، وكيف يمكن أن يعارض نفسه ويواجهها، ويعمل طبقاً للدستور المطلوب منه.. إنّشاء الله سوف نتحدث عن هذه الأمور لاحقاً.
لكن هناك مسألة هامة كان ينبغي الإشارة إليها قبل هذا الوقت، وهي التأكيد الذي كان العظماء يؤكّدون عليه وخصوصاً المرحوم العلامة الطهراني رضوان الله عليه، وهو أنه: ينبغي على السالك بعد انتهاء شهر رمضان أن يهتم بأعماله وحركاته وأقواله، ومن الطبيعي أنّ هناك فارقاً و اختلافاً بين موسم الصوم و الإمساك و فترة عدم الإمساك ، و هذا بالتبع سيترك أثراً على حالة الإنسان حتماً.
المرحوم العلامة كان يقول: إنّ السالك في شهر رمضان كان لديه حالة مراقبة خاصة، فأولاً هو يعلم بأنّ الشهر هو شهر رمضان وشهر نزول البركات والشهر الذي دعا فيه الله تعالى عباده إلى ضيافته. وهذه المسألة تجعل الإنسان ـ شئنا أم أبينا ـ في فضاء خاص من الروحانية والنورانية، يعني أنّها بنفسها تجعل الإنسان في هذا الفضاء. فهو يرى أنّ هذا الشهر هو الذي عيّنه الله تعالى، فيجب الاستفادة منه، وبما أنّ هذا الشهر هو الشهر الذي جعله الله تعالى لضيافة عباده فيجب الاستفادة من روحانيته ونورانيته، يعني أنه يشعر بنفسه بهذا الجو وبهذا المناخ، فهذا الشهر جعله الله تعالى للإمساك والضيافة، فينبغي الاستفادة منه على النحو الأتمّ، وينبغي الدقة والمراقبة بشكل كامل.. فهذه الأمور تحصل للإنسان وبالأخصّ السالك بشكل تلقائي، والسالك يلجأ إلى الاستفادة من الفرص، كما يقول الشاعر:
صوفى ابن الوقت باشد اى رفيق | *** | نيست فردا گفتن از شرط طريق |
[على الصوفيّ أن يكون ابن الوقت أيّها الرفيق، فالتأجيل و التسويف ليس من شروط الطريق.]
لذا ينبغي على السالك الاستفادة من أيّ فرصة، وأي فرصة أكبر من شهر رمضان؟!
ومن الطبيعي أنّه في شهر رمضان يقلّ كلامنا، ويقلّ التفكير بالأمور المخالفة، وتقلّ خيالاتنا.. إذ نسعى دائماً أن لا نتدخّل في أعمال الآخرين، ولا نلتفت إليهم، ولا نشتغل بغير أنفسنا.. هذه الأمور حث العظماء على الالتفات إليها والاهتمام بها في شهر رمضان، ويمكن الإتيان بهذه الأمور في هذا الشهر على النحوّ الأتمّ والأكمل.
ولكن عندما ينتهي شهر رمضان، فسوف نشعر بشكل تلقائي بتغيّر حالنا، و ذلك بسبب اختلاطنا بالمجتمع من جديد، ذلك المجتمع الذي ابتعد بدوره عن شهر رمضان و أجوائه، و عاد إلى ممارسة الأمور السابقة و الحياة العادية في مجال الكلام والأعمال ونقل الأخبار والمطالب المختلفة.. فجميع هذه الأمور تتغير وتصير جزءً من حياتنا وأمراً عادياً، وهي التي تجعل حالة الإنسان تذهب بشكل أو بآخر، فحتّى تلك الحالة التي حصلت للسالك في شهر رمضان ستتغيّر وتذهب، وشيئاً فشيئاً يرى أن ذلك التوجّه الذي كان لديه قد سلب منه، وتلك الحالة التي كانت أثناء الصلاة قد تغيّرت، وتلك النورانية والصفاء التي كان يراها لم يعد يراها.. هذه الأمور بسبب أنّه فقد موقعيته الخاصّة، يعني أن الإنسان يفقد موقعيته، ويفقد حالته النفسية، ويفقد ذاك الاطمئنان والسكينة والاستقامة.
كان المرحوم العلامة يقول بأن على السالك بعد شهر رمضان أن يحاول المحافظة على حال شهر رمضان.
بعض الإخوة نقل لي أنّه: قبل شهر رمضان التقيت بالمرحوم العلاّمة وأخذت منه دستورات خاصّة حول شهر رمضان والصوم، وكيفية الصوم، وما الأمر الذي ينبغي عليه أن يفكر فيه أثناء الصوم، وما النية التي ينبغي أن تكون لديه، وما العمل الذي ينبغي القيام به، ( إذ لدينا صوم عام، وصوم خاصّ، وصوم خاصّ الخاص) و قد بيّن سماحته شروط كلٍّ من هذه المراتب، ونقل لي التأكيد الوارد على الاهتمام بقراءة القرآن في هذا الشهر.. والحاصل أنه بين لي الفضاء و الجوّ الذي ينبغي أن يحصل لدى الإنسان في شهر رمضان، ثم قال: لقد دخلنا الشهر بهذه الخصوصيات وحصلت لنا البركات والفيوضات وانكشفت لنا أمورٌ وحالاتٌ مختلفة، وبعد شهر رمضان ذهبت إلى المرحوم العلاّمة وقلت له: يا ليت شهر رمضان لم ينته، فقد حصلنا على تلك الأمور والمسائل، بينما الآن قد فقدناها!
فقال له: هذه المسألة بيدك أنت! فتعجب هذا الرجل من ذلك؛ إذ شهر رمضان ليس بيده، فقال له السيّد العلاّمة: يمكنك أن تجعل شهر رمضان يستمرّ، يعني بإمكانك أن تجعل ذاك الحال وذاك الفضاء الذي كان في شهر رمضان مستمرّاً إلى ما بعده أيضاً، يمكنك أن تجعله يستمرّ معك.. فهل تريد أن تختبر ذلك بنفسك؟ انهض غداً وتناول السحور، واعتبر نفسك أنّك في ضيافة الله تعالى، وانوِ في نفسك ذاك الصوم.. صوم خاصّ الخاصّ والصوم الذي يأتي به بعض عباد الله المكرمين فقط، واجعل نفسك في تلك الأجواء.. حافظ على تلك المراقبة التي كانت لديك في شهر رمضان.. افعل ذلك ثم تعال في الغد لنرى. يقول هذا الأخ: ذهبت وأتيت بما ذكره لي، فرأيت أنّ نفس تلك الحالة التي كانت في شهر رمضان قد عادت بعينها، وكأنّها لم تتغير ولم تتبدّل، فهي تلك الحالة والنورانية والروحانية نفسها.
(ولكن ينبغي الالتفات طبعاً، إلى أنّ ما يحصل له من الحالات ليست بنفس النسبة مائة بالمائة، بل لشهر رمضان وضعه الخاص وحالته الخاصة، ولكن يمكننا أن نقول بأن القسم الأهمّ من تلك الحالة التي كانت تحصل للإنسان في شهر رمضان ترجع إلى الإنسان )
بعد ذلك قال له السيّد العلاّمة: هل تعلم لماذا يشتمل شهر رمضان على هذه الخصوصيّات؟ لأنّ جميع الناس يكونون في هذه الوضعية.
أنظروا إنّ الناس عندما يقترب شهر رمضان يقولون: إنّ شهر رمضان سيأتي، سيأتي شهر الصيام!! يعني أن النفس تتهيّأ وتعدّ نفسها لحصول تحوّل وتبدّل وتغيّر لديها، فالنفس عندما تتهيّأ وتستعدّ لهذا الأمر ؛ يؤدّي ذلك إلى حصول تصرّف في المثال والملكوت، و هذا له كبير الأثر.
وهكذا عندما يأتي أشخاص ذوو نفوس وخصوصيّات معيّنة ولديهم أوصاف خاصّة ويدخلون إلى مجلسٍ معين.. فسوف ترون تغيراً في فضاء هذا المجلس، و سيكتسب هذا المجلس فضاءً روحانيّاً و جوّاً نورانيّاً، ويلفّه الصفاء واللطف، بحيث أنه عندما يدخل الإنسان إلى هذا المكان يشعر بأنّ فيه شيء، حتّى لو كان المجلس قد انفضّ فعلاً. لكن لو فرضنا أن المسألة اختلفت، فبدلاً من هؤلاء أتى أشخاص آخرون.. أشخاصٌ من أهل الدنيا الذين يدور حديثهم حول الغلاء والرخص والأخذ والردّ، ومن المنشغلين بهذه الأمور التي نراها يوميّاً بحمد الله في كلّ مكان.. فعندما يحضر هؤلاء في المجلس؛ فإنّك ولو لم تكن تعلم بمن كان في هذا المجلس [ستشعر بكدورة]، فعندما تدخل تتساءل في نفسك: لماذا صرتُ هكذا؟ لماذا حصل لي انقباض وكدورة؟!
لاحظ أنّك لم تشاهد الأشخاص الذين كانوا هنا! ومع ذلك فإنّهم يتركون أثراً.. فعندما يقال بأنّ السالك ينبغي أن لا يذهب إلى أي مكان؛ إنّما هو لأجل هذا الأمر، وما يقال من أنه لا ينبغي التكلم مع أي شخص هو لأجل هذا أيضاً.
كنت قد ذهبت في زمن المرحوم العلاّمة مع بعض الأشخاص إلى مكان ما، وكنّا ثلاثة أشخاص، وعندما ذهبنا إلى ذاك المكان ، والحال أنه لم يكن لدينا اطلاع أنّ شخصاً معيّنا ً كان مدفوناً فيه، وقد بني له بناء ومرقد، ويزوره بعض الناس ، فدخلنا كي نرتاح قليلاً، فإذا بي قد شعرنا بحالة من الكدورة والانقباض، فخرجنا سريعاً من هناك، ثم سألت أحد الذين كانوا معنا: ألم تشعر بحالة من الانزعاج؟ فقال بلى، لقد شعرت كأنّ أحداً أمسكني من عنقي، فقال الآخر وأنا شعرت بذات الشعور، وقال: لقد كدت أختنق!! فقلت: كأنّنا أصبنا بصاعقة كهربائية من هذا المكان [ضحك].. ثم سألت من هذا المدفون هنا، فقيل قبر فلان! فقلت: أوه! أوه! أنا أعرف هذا الشخص جيداً! إذاً هذا قبر فلان!؟ فلنذهب من هنا بعيداً، وبعد أن ابتعدنا شعرنا براحة وانبساط وانشراح صدر. انظروا! قبرٌ لأحد الأشخاص المنحرفين يفعل هذا الفعل! والحال أنه كان محلاً لزيارة عدة من الطوائف المختلفة والسلاسل الكذائية.. كم يترك هذا الأمر أثراً على الإنسان؟ وعلى العكس من ذلك، فيما لو ذهب الإنسان إلى قبر وليّ من الأولياء والعظماء، فإنه من دون أن يعرف شيئاً سيشعر بشيء من الانبساط، ويقول: كم هو صافٍ هذا المكان؟! كم هو مريح هذا المكان؟! فما ذكره المرحوم العلامة في كتابه الروح المجرد حول آثار وخصوصيات حضور ووجود المرحوم السيد الحداد، لم يكن اعتباطاً، فالأولياء عندما يذهبون إلى هذا المكان أو ذاك، يتركون آثاراً كبيرة، ما هذا التأثير الذي يتركونه؟ إنّه تأثير النفس في عالمي المثال والملكوت لذلك المكان.
هذا التأثير يحصل للإنسان في التغذية والطعام، وعليه فكم ينبغي علينا أن نراقب أنفسنا ونحافظ عليها بأن يكون التأثير تأثيراً إيجابياً، لا تأثيراً سلبياً.
لذا كان المرحوم العلامة دائماً يوصي تلامذته ورفقاءه ـ في كيفية التغذية والإمساك وفي سائر المسائل ـ بأنهّ ينبغي المحافظة على حالة الاهتمام التي كانت في شهر رمضان تستمر في غير هذا الشهر.
فمثلاً بعض الناس يتناول كل ما وقعت عليه عينه واشتهاه، فتجده يأكل الفاكهة في كل ساعة أو نصف ساعة، و بعد قليل يحضرون له صنفاً آخر فيأكل منه.. إنّ هذه الحالة ليست جيدة للإنسان، بل عليه أن يكون أكثر دقة في هذه الأمور.
إن شاء الله نديم الكلام حول هذا المطلب في مجلس آخر ووقت آخر ونذكر الخصوصيات والملاك لهذه الأمور. و لكن بناء على التوصية التي أُلزمنا بها، فليس لدينا توفيق لنتحدث أكثر من هذا إلى الإخوة في هذه الليلة، وأملنا أن نستمرّ على هذا المنوال دون أن يحصل تأخير، فنحن لم نوفّق لنكون بخدمة الإخوة منذ ما قبل شهر رمضان إلى الآن! فنسأل الله أن يجعل هذا التوفيق مستمراً.
اللهم صل على محمد وآل محمد