المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني
القسمعنوان البصري
المجموعةالطعام و التغذية
التوضيح
هذه هي المحاضرة المائتين من سلسلة محاضرات شرح حديث عنوان البصري عن الإمام الصادق عليه السلام، وقد تناول فيه سماحة آية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني قدس سره أشار فيها إلى أن الطعام مقدمة ووسيلة لا غاية مستقلة، وأن الصوم والجوع ضروري في تجرّد الإنسان، وتعرض إلى اهتمام النبي بفعل الخيرات عن روح السيدة خديجة، ثم أشار إلى ضرورة الإتيان بالأعمال الظاهرية للوصول إلى الكمال، مؤكداً على أن الصوم حركة تكاملية للإنسان، لافتاً إلى الخصوصية التي يتمتع بها شهر رمضان في الصوم على سائر الشهور، ثم ذكر وصايا العلامة الطهراني حول شهر رمضان، وضرورة الاهتمام بليلة القدر من أول شهر رمضان، والتسليم للمشيئة الإلهية سواء في الصوم أو الإفطار.
هو العليم
الصوم وأثره في تكامل الإنسان
شرح حديث عنوان البصريّ - المحاضرة ٢۰۰
ألقاها
آية الله الحاجّ السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ
قدس الله سره
أعوذ باللـه من الشيطان الرجيم
بسم اللـه الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين
والصلاة والسلام على سيّدنا ونبيّنا أبي القاسم محمد
وعلى آله الطيبين الطاهرين
واللعنة على أعدائهم أجمعين
قبل متابعة الكلام حول طريقة الأكل والتغذية الواردة في حديث عنوان التي تحدّثنا عنها سابقاً مع الرفقاء، وبما أنّنا تعرّضنا سابقاً لدراسة العديد من الموارد المرتبطة ببعض الشبهات والأسئلة المطروحة ـ سواءاً من داخل إيران أو من الخارج ـ حول حجيّة فعل وليّ الله، فقد قرّرنا أن نجمع كلّ هذه الأسئلة، كما نرجو من الرفقاء والأحبّة إذا كانت عندهم بعض الأسئلة والقضايا المبهمة التي تدور حول هذا الموضوع أن يتكرّموا بتسجيلها، لكي نقوم بعد ذلك في أحد المجالس التي تُعقد بمعزل عن مجلس عنوان بالإجابة عنها شفهيّاً. نعم، ينبغي علينا الأخذ بنظر الاعتبار أنّ الرفقاء والأحبّة هم في صدد إعداد وتنظيم هذه المسألة، لكي تُطبع وتُنشر على شكل كتاب مستقلّ مع إلحاق بعض الإضافات إن شاء الله، لكن بما أنّه ينبغي طرح هذه المسائل بشكل صوتي أيضاً، فمن المناسب أن نتعرّض لها في مجلس أو مجلسين بمعزل عن مجلس عنوان، ونبحثها أكثر في المجالس التي يحضرها الأخلاّء والفضلاء الروحانيّون.
الطعام مقدمة ووسيلة لا غاية مستقلة
كلامنا كان يدور حول طريقة الأكل والتغذية، وأنّه ينبغي على الإنسان أن ينظر إلى الطعام كمقدّمة ووسيلة للوصول إلى المراد والمطلوب، وألاّ ينظر إلى الطعام ونوع المأكولات بنظرة استقلاليّة. وقد قلنا في الجلسة السابقة، بأنّه لو كان الأمر كذلك، فلن يوجد أيّ فارق بيننا وبين الحيوانات.. كالبهيمة المربوطة همّها علفها. فالتشبيه الذي يُورده أمير المؤمنين عليه السلام حول الأشخاص الذين لا هدف لهم ولا مقصد، والذين ينحصر مرادهم ومقصودهم من هذه الدنيا في الوصول إلى الأطماع الدنيويّة والتكالب على حطامها.. هو تشبيه بالحيوان الذي ربطوه بالاصطبل، ووضعوا أمامه العلف؛ فهو لا يُفكّر إلاّ في الأكل والنظر إلى ما يلتهمه، ولا يتصوّر شيئاً عن العالم خارج ذلك، فلا يعنيه أن يجتاح السيل كلّ العالم مادام علفه موضوعاً أمامه.. هذا هو الهمّ الذي يحمله هذا الحيوان. وأمّا في نظام خلقة الإنسان، فلا اعتبار لهذه المسألة، إذ ينبغي النظر إلى المأكولات كمقدّمة لارتقاء الروح، وعبور هذه الدنيا، والوصول إلى ذلك الهدف والمقصود، وهذه من المسائل التي ينبغي أن تحظى بعناية فائقة من طرف الإنسان وألاّ يكون عنده فهم سيّء لها. فكثيراً ما كان يطرح عظماء السير والسلوك مطالب ويعطون برامج ودستورات حول طريقة الأكل والتغذية. كما أنّه نرى من المناسب أن نذكر هذه المطالب استقبالاً لشهر رمضان المبارك الذي سيحلّ علينا بعد بضعة أياّم، وأن نعرض بين يدي الأحبّة بعض الكلام حول الصيام وطريقته.. على أن نوكل إكمال بقيّة المسائل إلى ما بعد الشهر المبارك إن أراد الله ذلك.
ضرورة الصوم والجوع في تجرّد الإنسان
فنفس هذه القضية والمسألة هي التي جعلها الله تعالى في شهر واحد من أشهر السنة الإثني عشر، حيث جعله شهراً للجوع والإحساس بالجوع وصرف النظر عن المأكولات، وهناك مسألة مهمّة جدّاً تكمن في أنّه لماذا كان العظماء وأرباب السير والسلوك يعطون برنامج صيام يومين في الأسبوع طيلة السنة، أو برنامج صيام ثلاثة أيّام في الشهر أثناء السنة ـ نعم، يبقى أنّ برنامج اليومين في الأسبوع هو أخصّ نوعاً ما من تلك المسألة ـ أو اهتمامهم بصوم رجب وشعبان بالإضافة إلى رمضان، مثلما ورد عن رسول الله أنّه صلّى الله عليه وآله وسلّم كان يصل شهري رجب وشعبان بشهر رمضان؟ فما هو السرّ في هذه المسألة؟ عندما نسمع مثل هذه الأمور عن رسول الله، وعن الأئمّة وعن إمام الزمان، ألا نتساءل أحياناً مع أنفسنا: هل يحتاج هؤلاء لمثل هذه المسائل؟! أفهل يحتاج الرسول إلى الصوم؟! فلماذا يصوم الإنسان؟ لأجل الحصول على التجرّد. فهل يعني ذلك أنّ هؤلاء لم يحصلوا على التجرّد؟! لماذا يصوم الإمام؟ لكي يصل إلى التزكية ويحصل على تقرّب أكثر! لقد وصل هو إلى أصل التقرّب وحقيقته، أي إلى عين الوحدة والوحدة في العين، فما معنى القيام بهذه البرامج؟!
اهتمام النبي بفعل الخير عن روح السيدة خديجة
قبل عدّة أيّام دار الحديث مع أحد الرفقاء في مجلس من المجالس ـ وقد كان يضم العديد من الأشخاص ـ حول مسألة أنّ رسول الله كان يُؤدّي طيلة فترة حياته عدّة أعمال مستحبّة عن مولاتنا خديجة سلام الله عليها بشكل دائم، حيث كان يُعطي الصدقات ويجعل ثوابها لمولاتنا خديجة، ويذبح الأنعام ويهبها ثوابها.. وكان بعض نساء النبي يعترضن على ذلك ويقلن له: لا زلتَ تُفكّر في تلك المرأة العجوز، ويوردن بعض الألقاب في حقّها عليها السلام. نحن لا نريد الآن الخوض في هذه الاعتراضات وفي جواب رسول الله عنها، حيث كان صلى الله عليه وآله سلّم يقول: أين كنتنّ عندما كانت تقوم بكذا وكذا... وهنا أقول واقعاً إنّ لمولاتنا خديجة حقّاً في أعناق الجميع، حقاً في عنق كلّ واحد منّا فرداً فرداً، إذ أنّها عليها السلام قد أفنت نفسها بشكل كلّي في رسول الله، ووهبته جميع أموالها دفعة واحدةً، حيث أنّها كانت ثريّة جدّاً. وعندما كان المشركون يقومون بإيذاء النبيّ ورميه بالحجارة، ويُحرّضون الأطفال في سن سبع سنوات أو عشر سنوات أو اثني عشر سنة أو أكثر من ذلك، كي يتبعونه ويرمونه بالأحجار ويؤذونه.. كانت مولاتنا خديجة تأتي وتجعل من نفسها درعاً في مقابل تلك الحجارة. هل التفتّم! حيث كانت الحجارة تصيبها، وتُهشّم رأسها عليها السلام، وتكسر رجلها.. لقد كانت المسألة بهذا الشكل! وكذا في شعب أبي طالب، حيث قضى المسلمون هناك ثلاث سنوات، فكم تحمّلت مولاتنا خديجة من المشقّات، ومع ذلك كانت تقف خلف النبيّ تماماً، لم تنسحب من الميدان، لتترك الرسول وحيداً مع تكاليفه وتقول له: أنت رسول الله، ولديك تكليفك الخاصّ بك، فما ذنبي أنا لكي أبقى صامدةً معك! أنت رسول الله، وستحصل على أجر ذلك، فلماذا يجب عليّ أن أتحمّل أنا هذه الأمور!
لقد كانت مولاتنا خديجة تشعر بأنّها شريكة للرسول في رسالته، فلم تكن المسألة مرتبطة بزوجة مع زوجها، بل كانت تقول إنّ الرسول في جانب وأنا في جانب، وينبغي عليّ أن آتي وأدافع عنه حتى يصل إلى هدفه، وإذا لم أدافع عنه، فلن يتمكّن من القيام بأيّ شيء، وإذا لم أدافع عنه، وقاموا بإيذائه، فإنّه سيعجز عن الوصول إلى هدفه، وإذا لم آت وأجلب الطعام إلى غار حراء ـ حيث كانت تأتي عدّة مرّات في الأسبوع من مكّة إلى غار حراء مع أنّ المسافة لم تكن قريبة ـ فلن يتمكّن من التعبّد هناك، ولن يستطيع إنهاء تلك المرحلة. أفهل كان الرسول يذهب إلى غار حراء من أجل الترفيه! يذهب إلى غار حراء سعياً وراء اللذّة والسرور مثلاً! لقد ذهبتم إلى هناك، ذهبتم جميعاً واطّلعتم على ما يوجد هناك. فالرسول الذي ينبغي عليه ألاّ يأتي إلى مكة طيلة أربعين يوماً ـ إلى درجة أنّه ينبغي ألاّ تقع عينه على شخص من الأشخاص وإلاّ فسد عليه الأمر ـ من سيأتيه بالطعام؟ ومن سيصل إليه؟ ومن الذي سيأخذ هذه الأمور بالحسبان؟ ومن الذي سيقوم بهذا العمل؟ لقد كانت مولاتنا خديجة تقوم بذلك، فكانت تضع الطعام هناك وتقفل راجعةً، وفي الكثير من الأحيان التي كانت تأتي فيها مولاتنا خديجة... هل ذهبتم إلى غار حراء؟ من المفترض أن يكون العديد من الرفقاء قد ذهبوا إلى هناك! فنَفَس الإنسان ينقطع كي يصل إلى هناك. فعندما كانت تذهب إلى هناك لتضع الطعام أو تجلب له الماء ـ حيث لم يكن ماء في تلك المرتفعات ـ ربما كان الرسول منهمكاً في السجود، ومهما بقت واقفة هناك، فإنّها كانت ترى بأنّ الرسول لا يرفع رأسه من السجود، فكانت تقفل راجعةً. وقد تكرّرت هذه الحادثة بنفس هذه الطريقة لعدّة مرّات! حيث أنّها لم تكن لتفسد على الرسول حالاته الحضوريّة، فمن الذي يُمكنه القيام بمثل هذه الأمور! [ضحك من السيّد] فأيّ عوالم هذه التي نتحدّث عنها! لقد كانت تمشي من مكّة وتأتي إلى هناك، وترى بأنّ الرسول جالس وغارق في الفكر، ومنهمك في الذكر ـ سواءً كان ساجداً أو جالساً ـ فلا تقوم حتى بالسلام عليه، بل كانت تضع في جانبٍ هناك المستلزمات التي يحتاجها الرسول؛ إذ عليها أن تجلب له اللباس؛ لأنّه ينبغي عليه تبديل لباسه كلّ يوم، خصوصاً مع تلك الدرجة العالية من الحرارة. فكانت تأتي باللباس، وتضعه هناك.. ثمّ تقفل راجعة. هل هذا واضح! فمن الذي كان يقوم بهذه الأعمال؟! ولهذا، لم تغب مولاتنا خديجة عن مخيّلة الرسول مادام على قيد الحياة. لذا كان يذبح الشاة ويُوزّعها على الفقراء ويجعل ثوابها لمولاتنا خديجة، ويُعطي المال للفقراء ويجعل ثوابه لها.. يصلّي ويقرأ القرآن وهكذا.
ضرورة الإتيان بالأعمال الظاهرية للوصول إلى الكمال
أفهل كان الرسول محتاجاً للقيام بمثل هذه الأعمال؟! فالذي يكون أصلاً للوجود كلّه، ورأساً للفيض، وواسطةً بين الله وعباده، أفلا يكون العالم بأجمعه بين يديه؟! والذي يكون وسيلة لنزول البركات والنعم والنفحات الإلهيّة على عالم الوجود برمّته ـ ومن جملته مولاتنا خديجة ـ لماذا يذبح الشاة إذن ويجعل ثوابها لها؟! إذ يكفيه أن يريد.
لا، ليس الأمر بهذا الشكل! ففي نظام العالم، ينبغي أن يُؤدّى هذا العمل في الخارج، سواءً الذي أراد أن يقوم به الرسول أم غيره، فكلاهما ينبغي عليه ذبح الشاة، وإذا أراد أن يصل إليها الثواب، عليه أن يُعطي الصدقة. أنا الآن رسول، وأستطيع أن أوصل إليها ضعف ثواب تلك الصدقة مائة مرّة من خلال إرادة واحدة فقط. لا، ليس الأمر بهذا الشكل! بل ينبغي على الرسول أيضاً أن يُعطي [الصدقة]، وأن يقرأ [القرآن]، وأن يُصلّي، وأن يقرأ الحمد وقل هو الله أحد عندما يقف على قبرها، ويقرأ الفاتحة. وأمّا أن يقول أنا رسول، وبإرادة واحدة فقط تصل إليها تلك النفحات...
لقد كان المرحوم العلاّمة يوصيني ـ وليحرص الرفقاء على القيام بذلك دائماً ـ في كلّ وقت تمرّ به بمستشفى، اقرأ فيه سورة الحمد من أجل شفاء المرضى، ومتى مررت بمقبرة، اقرأ سورتي الحمد وقل هو الله أحد من أجل الموتى المتواجدين هناك. فعندما تكون مسافراً أو مارّاً بالطريق، وتصل إلى قرية أو مدينة، وكانت هناك مقبرة في طرف من الأطراف، ينبغي عليك أن تقرأ سورتي الحمد وقل هو الله لأجلهم جميعاً. والظاهر أنّ العلاّمة الطباطبائي هو الذي ذكر له هذه المسألة نقلاً عن دستور المرحوم القاضي. لاحظوا كم كان هؤلاء العظماء يراعون المسائل الأخلاقيّة! فما دمت مررت من هنا، فلتقرأ قليلاً [من القرآن]، لكي يصلهم بعض الثواب، فلماذا تبخل، مادام الأمر لا يُكلّفك شيئاً! اقرأ قل هو الله أحد مرّة واحدة، واقرأ الحمد مرّة واحدة، ودع البركة والفيض تصلهم ولو بشيء قليل.
هل هذا واضح! فهذا العمل هو من الأعمال التي ينبغي القيام بها، وعلى الرسول أيضاً أن يقوم به، كما ينبغي على الرسول أن يصوم من أجل التقرّب أكثر والاستفاضة أكثر، عليه أن يصوم شهري رجب وشعبان، عليه أن يصوم على امتداد السنة، ولا يحقّ لنا أن نقول لماذا هو إذن رسول! نعم هو رسول، غير أنّ الصيام الذي يقوم به الرسول هو في مرتبة، وهو يتكفّل بإيصال الرسول إلى تلك المنازل والمقامات التي ينبغي عليه أن يصل إليها، وأمّا الصيام الذي نقوم به، فهو بالمقدار الذي يكون مفيداً بالنسبة إلينا، كلٌّ بحسبه، فكلّ واحد يُحصّل الفائدة بما يتناسب مع سعته الوجوديّة. ونفس الشيء ينطبق على الحاجة إلى الأكل في هذه الحياة الدنيا من أجل استمرار الحياة والبقاء فيها، فقد كان الرسول يحسّ بالجوع، والأئمّة يحسّون بالجوع أيضاً، شأنهم في ذلك شأن بقيّة الناس. أفهل النبي لي بحاجة إلى طعام لأنّه رسول؟! هذا خطأ! لقد كان مثل بقيّة الناس يمرض ويحتاج إلى الدواء، هل هذا واضح!
الصوم حركة تكاملية للإنسان
وبناءً عليه، فإنّ مسألة الصوم هي مسألة ينبغي علينا أن نأخذها بعين الاعتبار، وكيف أنّ الله تعالى قد جعلها على طريق سيرنا الصعودي وحركتنا التقربيّة والتجرديّة، وهي مِنّةٌ منه تعالى في أعناقنا أن جعل لنا شهراً للصوم.. هي منّةٌ منه تعالى علينا. إذا أردنا أن نتنعّم في يوم القيامة بنعم أكثر، علينا أن نصوم شهراً واحداً من الأشهر الإثني عشر كحدّ أقلّ، وعلى الإنسان أن ينظر إلى هذا الحدث كوسيلة من وسائل الحياة، لا كحدث قسري وتعسّفي، وأنّ هذا أمر إلهي، فينبغي علينا الإتيان به، وإلاّ فمن المعلوم ما الذي سيفعلوه بنا في ذلك العالم! ألم تسمعوا ببعض الناس يذهبون إلى مكّة، وعندما يصلون إلى هناك، يبدؤون بعدّ الأيّام متى يرجعون إلى بلدانهم. في أحد الأيّام تشرّفنا بالذهاب إلى مكّة، وكان ذلك منذ مدّة طويلة وفي زمان المرحوم العلاّمة، غير أنّه لم يكن معنا، لكنّ ذلك حصل في زمانه، وقد كنّا برفقة مجموعة من الأشخاص، فجاء أحدهم إلى الغرفة، وكان من معارفنا، وكان طاعناً في السنّ، فقلت له: كيف وجدتم هذه المدينة [المدينة المنوّرة]؟ لأنّها كانت زيارته الأولى، فقال لي: سينتهي كلّ شيء يا سيّدي، سينتهي كلّ شيء ونعود إلى زوجاتنا وأولادنا.. [ضحك من السيّد] وأضاف سينتهى كلّ شيء! نعم، لقد كنت في الغرفة، حيث كان هناك مجموعة من الأشخاص يشتكون، فقلت لهم عدّوا الأيّام بأصابعكم: مضى يوم، مضى يومان، فينتهي الأمر، ففي الأخير سنرجع! فنظرت إليه بتعجّب! حسناً، ما الذي يُمكننا قوله! سينتهي كلّ شيء، أنتم الآن تضحكون من هذا الكلام وتتبسّمون انطلاقاً من الأفق الفكري والوجودي الذي منحكم الله تعالى إيّاه، متعجّبين من هذه المسألة، ومن حقّكم أن تتعجّبوا. فالذي يذهب إلى مكّة أو إلى المدينة عليه أن يقول عند مضيّ يوم: آخ !! لقد مضى يومٌ آخر! ولم يبقَ إلاّ ثمانية وعشرون يوماً، وفي اليوم التالي يقول: آخ!! لم يبقَ إلاّ سبعة وعشرون يوماً.. فمثل هذا يختلف حاله كثيراً عن ذاك الذي يعدّ الأيّام لكي يرجع إلى زوجته وأولاده.
وكان حال الأعاظم بما يخصّ شهر رمضان المبارك يشبه هذا الحال، فكانوا يقولون: آخ! لقد انقضى اليوم الثالث من شهر رمضان.. آخ! مرّ أسبوع.. آخ!! مرّت عشرة أيّام... لقد كانت حالهم بهذا الشكل، لماذا ؟! ما الذي كانوا يفهمونه؟ وبماذا كانوا يشعرون؟ وما الذي يدركونه حتى كانوا ينزعجون من انقضاء الوقت، وأن الأيام والليالي تأتي وتذهب وتسوق الشهر إلى آخره؟! أصلاً هو متضايق ويتمنّى لو أنّ حركة الليالي والأيّام تتوقّف، وليت الشمس والقمر يتوقّفان عن الحركة! فما هي القضية؟ وما هو السبب الذي يدفعهم لذلك؟ يجب أن نرى ما هو نوع الصيام الذي يؤدّيه هؤلاء العظماء؟ وما هو نوع الاهتمام الذي كان عندهم بهذه الفريضة؟
خصوصية شهر رمضان في الصوم على سائر الشهور
ينبغي علينا أن نعلم أولاً بأنّ البركات الموجودة في صيام شهر رمضان ليست موجودة في أيّ صوم آخر في باقي أيّام السنة، فنحن عندنا الكثير من الأيّام التي يستحب صومها مثل يوم عيد الغدير والنصف من شعبان، وأيام رجب، ويوم عرفة ويوم دحو الأرض وأمثال ذلك.. فهذه جميعاً يستحبّ صومها، وقد ورد في الروايات أنّ من يصومها له أجرٌ كبير، والإخوة مطّلعون على ذلك إجمالاً، ولكن الصوم في شهر رمضان المبارك هو صومٌ يقع في جوّ وفضاء خاص، وذلك الجوّ والفضاء الخاصّ ليس موجوداً في أيٍّ من أيّام السنة الأخرى، يعني ذلك اللطف الخاصّ وتلك العناية الخاصّة [بهذا الشهر غير موجودة في غيره]. ولذلك يقول رسول الله صلّى الله عليه وآله: «رمضان شهر أمّتي»، فهو عبّر عن شهر رجب بأنّه شهر الله، وعن شعبان بأنّه شهره هو، وأمّا شهر رمضان فقد عبّر عنه بأنّه «شهر أمّتي»، فانتساب هذا الشهر إلى أمتي ماذا يعني؟ يعني أنّ هناك فضاء خاصّاً، وظهوراً خاصّاً، وأثراً خاصّاً من مقام رحيميّة الله سبحانه وتعالى بعباده موجودة في شهر رمضان ، وحتّى يحصل الإنسان على هذه الفوائد والنعم الإلهيّة لا بدّ له من الصوم، ولا يوجد طريق آخر لذلك غير الصوم، فهذا الصوم يوصل الإنسان إلى ذلك الجوّ والفضاء الخاصّ.
لقد تحدّث المرحوم السيّد العلامة الطهراني رضوان الله عليه في كتبه عن أحوال الأعاظم في شهر رمضان.. في كتاب «الشمس الساطعة» و«الروح المجرّد» وفي محاضراته وكلماته.. فقد بيّن كيفيّة تعاملهم مع شهر رمضان المبارك، وكيفية صيامهم فيه.. وكيف كان المرحوم القاضي رضوان الله عليه يقضي شهر رمضان! فهذه الأمور لم تكن هزلاً ومزاحاً، حيث لم يكن أحدٌ ليراه في النجف في الأيّام العشرة الأخيرة من شهر رمضان!! إلى أين كان يذهب؟! أنا لا أقول أنّ علينا أن نفعل ذلك، ولكن في النهاية ما هو الإحساس الذي كان عند سماحته؟
وما أعظم تلك الحالات التي كانت تحصل لأولياء الله في شهر رمضان المبارك بحيث أنّه لم يكن يعرف رأسه من قدميه، وأنا بنفسي كنت شاهداً أنّهم لم يكونوا يطيقون انتظار قدوم شهر رمضان، وكانوا يقولون بحالة من السرور الشديد والابتهاج الكبير: إنّ شهر رمضان قد بات على الأبواب !! ها قد جاء شهر رمضان!! فما هو الإحساس الذي كانوا يشعرون به؟! وما هو نوع الصيّام الذي كانوا يؤدّونه؟! هل كانوا يصومون مثلنا.. نأكل السحور ثمّ نتناول الإفطار؟! هل كان صيامهم هكذا، أم أنّ حالهم وصيامهم يختلف عن حالنا وصيامنا؛ فالمراقبة التي كانوا يلتزمون بها في شهر رمضان بضميمة الصيام الذي هو تكليف ظاهري وعمل ظاهري.. تلك المراقبة تقوم بإيصالهم إلى الهدف الذي يرومونه.
وصايا العلامة الطهراني حول شهر رمضان
عندما كان شهر رمضان يقترب، كان السيّد الوالد رضوان الله عليه يجمع رفقاءه ويذكّرهم ببعض المسائل، ويبيّن لهم بعض المطالب ـ وبطبيعة الحال كان ذلك في سابق الأيام، لا في أواخر عمره ـ وكان يهتمّ ويعتني كثيراً بشهر رمضان. ومن ضمن الأمور التي كان سماحته يوصي بها أن: لا تدخلوا في جدال مع الناس، وتجنبوا النقاش معهم! يعني لو فرضنا أنّه في سائر الأيام كان من عادة الإنسان أن يناقش ويجادل، فعليه في هذا الشهر المبارك أن يترك ذلك؛ لأن الجدال والنقاش يجرّ الإنسان إلى الأسفل، ويحرُم الإنسان من تلك الفوائد العظيمة، ويحبس الإنسان في مراتب الأسماء الجزئية ويحصره فيها، فليعمل الإنسان قدر المستطاع أن يتجاوز عن ذلك، ولا يسمح للمسألة أن تصل إلى النقاش والمشاجرة.
ومن الواضح أنّ هذا الدستور يجري في جميع أيّام السنة! ولكن من العجيب كيف أنّ الغفلة تستولي على الإنسان، ولكن في شهر رمضان المبارك، وبواسطة ذلك الجوع ورقّة النفس والروح التي تحصل للإنسان بسبب قلّة الاهتمام بالطعام والمأكولات وأمثال ذلك، فإنّ الإنسان يلتفت إلى هذه المسألة ويتذكّرها بشكل أكبر، مع العلم أنّ هذا ما ينبغي عليه أن يفعله في طوال أيّام السنة، وليس هناك دستور خاصّ بأنّ على الإنسان أن يلتزم ببعض الأمور في شهر رمضان، وأما في باقي أيّام السنة فهو مهمل ومتروك ليفعل ما يشتهي! كلاّ ليس الأمر كذلك، ولكن الأرضية في شهر رمضان مساعدة بشكل أكبر من باقي الأيّام والشهور، وأجواؤه تساعد الإنسان أكثر على الالتزام بهذه المراقبة وتلك الدستورات التي كان الأعاظم يوصون بها.
حسناً .. كان سماحته يوصي باجتناب النقاش والجدل مع الناس، والإصرار على مسألة ما بدون سبب، فهذه الأمور تسلب فائدةَ الصوم من الإنسان أو تقلّل أثرها، وتخفّف الحالة التي يحصل الإنسان عليها وتضعفها، ولذلك كان سماحته يوصي بأنّه إذا أحسّ الإنسان أنّه سيبدأ بنقاش وشجار مع أحد، فعليه أن يتجاوز ويغيّر الموضوع ويبتعد عن المسألة التي تسبب ذلك. أو مثلاً عندما يأتي شخص إلى الإنسان، ويريد أن يتحدّث عن شخص آخر غائب، فبمجرّد أن يبدأ بالكلام فإنّ الإنسان سيلاحظ أنّ قلبه ونفسه قد بدءا بالتغير والانقلاب! ولذلك عليه أن يبادره بالسؤال عن أمرٍ آخر ليغيّر الموضوع، ولا يسمح لنفسه أن تحبس بهذه المسألة. لقد كانت هذه النقطة من الأمور التي كان السيّد العلاّمة الطهراني رضوان الله عليه يؤكّد عليها كثيراً، وخصوصاً في شهر رمضان حيث كان يهتمّ بها بشكل أكبر.
ومن المطالب التي ينبغي الاهتمام بها بشكل كبير في شهر رمضان المبارك الابتعادُ عن التوهّمات والخواطر التي نوجدها في أذهانها عن الأفراد الآخرين، سواءً كانت واقعية أم لا، فليس حديثنا عن ذلك، فنفس وجود هذه الخاطرة في الذهن مضرّ للإنسان الصائم، وبطبيعة الحال فنحن لا نتحدّث عن الخواطر الإيجابية والحسنة بل حديثنا عن تلك الخواطر التي بمجرّد أن يتذكّرها الإنسان فإنّ يعبس بشكل لا إرادي.. وهذا يحصل حتّى لو كان الإنسان لوحده دون أن يتحدّث مع أحد! فعلى الإنسان ألاّ يسمح لمثل هذه الخواطر أن تأتي إلى ذهنه أصلاً؛ لأنّها بمجرّد أن تدخل في الذهن فإنّها تخرّب وتؤثّر بشكل سلبي. ولذلك ينبغي للإنسان ألاّ يفسح المجال لها بالدخول من البداية. فمثلاً لو جاء شخص إلى الإنسان وأراد أن يتحدّث عن شخص آخر ويغتابه، حتّى لو كان كلامه صحيحاً وصادقاً، ولكنّ نفس ذكر ذلك مضرّ، ولذا فإنّ المرحوم الوالد رضوان الله عليه كان يقول: إذا اغتابني أحدٌ فلا يأتينّ إليّ ويخبرني بذلك. وقد سمعت ذلك منه مراراً عندما كان في طهران.. كان يقول: لا يأتينّ إليّ لكي يخبرني، بل عليه أن يستغفر الله وحده دون أن يأتي، لأنّه بمجرّد أن يأتي ويقول: يا سيّد، لقد استغبناك، وحتّى قبل أن يقول الكلام الذي قاله في حقّي، بل بمجرّد أن يقول ذلك، فإنّ خاطرة ستدخل في ذهن الإنسان، وسيبدأ الإنسان بالتفكير والسؤال ماذا قال هذا عنّي؟! ولمن قال ذلك؟ وما هو الموضوع الذي تحدّث عنه؟ هل ترون، فذهن الإنسان لا يتوقّف عن توليد هذه الأفكار، وهذا كثيراً ما يحصل، وأنا بدوري أيضاً أطلب نفس هذا الأمر من الرفقاء الأعزاء [يضحك سماحة السيّد]، مع العلم أنّ الرفقاء ليسوا من أهل الغيبة وأمثال ذلك لا سمح الله، ولكن لو سمعوا أنّ شخصاً قال عنّي شيئاً، فأرجو ألاّ يأتي إليّ ويخبرني بذلك، فنحن لا حاجة لنا بسماع هذه المطالب أصلاً وأبداً، فإمّا أن العيب موجودٌ فينا فعلاً، فليس ذلك بالأمر المستهجن بحيث أن الإنسان يهرب من الإقرار بعيوبه، بل عليه أن يطلب من الله أن يصلح هذا العيب، وإمّا أنّه ذلك العيب غير موجود فيه، وفي هذه الحالة لماذا يشغل الإنسان ذهنه بأمرٍ قاله أحدهم لا وجود له؟! ولماذا يسمح الإنسان لحالته الذهنية تجاه الأفراد الآخرين أن تخرب وتتعكّر؟! فهذا الشخص قد اغتابك وانتهى الأمر، فدعه وشأنه وانسَ الموضوع برمّته!
إنّ هذه الأمور تسلب الإنسان حالاته المعنوية، وتخرّبها، مع العلم أنّ بعض هؤلاء ليس عندهم غرض في نقل هذا الكلام، بل هو نابع من محبّتهم وإخلاصهم بحسب ما يتصوّرون... قبل بضعة أيّام، كنّا في المنزل، فجاء أحد الأشخاص لينقل لي كلاماً عن قضيّة ما، وهذه القضية المزعومة ليس لها أيّ واقعية أبداً، فقال لي: إنّ فلاناً وفلاناً كانوا يقولون عنك كذا وكذا، واتّفاقاً فإنّ الكلام كان متعلّقاً بأحد أقاربي. حسناً.. لقد كانت هذه المسألة موجبة للتكدّر والانزعاج، ولكنّ الذي أزعجني أكثر من هذه المسألة وأنهم قالوا أشياء لا واقعية لها، هو أنّه لماذا وصلت هذه القضية إلى سمعي؟! فالإنسان كان عنده تصوّر عن هؤلاء الأفراد، والآن قد أُضيف إلى هذا التصوّر شيءٌ آخر، والحال أنّه لا يوجد في الاطّلاع على ذلك أيّ نفع.. لا نفع دنيوي ولا أخروي، فذلك الشخص قد قال كلاماً مبنياً على تصوّراته، وأخطأ في كلامه!! حسناً هو أخطأ فليكن، وليفعل ما يشاء، فما هو الداعي لكي أسمعه أنا؟! فنحن لا ينبغي لنا أن نقضي هذين اليومين من الدنيا بأمور كهذه، فنحن عندنا الكثير من الأشغال، وعندنا الكثير من الأمراض، والكثير من النقائص، والكثير من نقاط الضعف، والكثير من التأخّر والتسويف، ولا وقت لدينا لكي نستمع إلى ما قاله هذا عنّا وراء ظهرنا، وماذا قال ذاك وأمثال ذلك، فهذه المطالب ستكبّل أيدينا وتمنعنا من الارتقاء!! يا عزيزي، كم بقي من عمرنا حتّى نضيعه في هذه الأمور؟
إنّ هذه الأمور هي من المسائل التي كان الأعاظم يؤكّدون عليها! وكل شخص بحسب المقدار الذي يهتمّ بها ويراعيها، فإنّه هو الذي سيستفيد، وسيحصل على المنفعة من ورائها. اعلموا قطعاً أنّ الصلاة التي تؤدّونها بعد سماع الكلام المنقول لكم ستختلف عن صلاتكم التي أديتموها قبل استماعه، فسماع هذا المطلب قد فعل أثره.. لقد ترك فيكم أثره التخريبي! حسناً، فلماذا يستمع الإنسان لمثل هذا الكلام حينئذٍ؟! واضح! وهاهنا يقول الأعاظم: إن السالك الذكي هو السالك الذي يحصر تفكيره في نفسه! هل التفتّم إلى ما أريد قوله؟ يعني ذلك الشخص الذي يأتي ويقول لك: يا سيّد، لقد كنت جالساً في المكان الفلاني، وسمعت الشخص الفلاني يقول عنكم كذا وكذا.. فاعلم أنّ هذا الشخص يقوم بتخريبك ويضرّك!! [يضحك سماحة السيد].
لو جاء شخص إلى منزلك وأحضر معه كأساً من السمّ، فهل ستتناوله، أم ترميه فوراً؟! طبعاً إنّك سترمي السمّ فوراً، بل إنّك ستغسل الكأس عدّة مرات لكي تتأكّد من زوال كلّ آثار السمّ. فلماذا تفعل ذلك؟ لأنّك تشعر بأنّ هذا السمّ يضرّك، وهذا الأمر يحصل حتّى لو أنّ هذا الشخص لم يكن يدري أنّ ما يحمله كان سمّاً! إنّ هذا النوع من المسائل مضرٌّ لنا، وهو يقضي على الحالات المعنوية في روح الإنسان!
لقد ذكرت للرفقاء مراراً بأنّ الكذب والنفاق فيه ضرر أهمّ وأخطر من ذلك الأثر الخارجي الناشئ عنه، وهو ذلك الأثر الذي يوجده في نفس المتكلّم أوّلاً! فهذا كيف يمكن علاجه! افرضوا أنّ شخصاً جاء وألقى كلاماً كاذباً أو تعامل بغش ورياء وأمثال ذلك، فهذه الأمور لها آثار خارجية، وتبعات سلبية خارجية، وهذه محفوظة في مكانها، ولكنّ قبل تلك التبعات والآثار الخارجيّة، ماذا ستفعل بذلك البلاء الذي نزل على النفس؟! إنّ أمثال هذه التصرّفات تغيّر الإنسان وتقلب أحواله، وبعد مدّة من الزمان تنظر إليه فتتعجّب من شكله، إنّك تشعر أنّ هذا الشخص لم يعد إنساناً، بل كأنّه صار حيواناً، فلماذا صار كذلك؟! لأنّه كذّب وكذّب حتّى صار حيواناً.. لقد صار تمثالاً للكذب، فإذا أردت أن ترى الكذب فانظر إليه.. انظر إلى جبهته فسترى مكتوباً عليها: الكذب!! النفاق!! الرياء!! الغش!! الحيوانية!! فما هي هذه الأمور؟! إنّها الأثر الذي أوجده في نفسه، فضلاً عن الآثار الخارجية لهذه الأعمال.
إن الدستور الذي يعطيه لنا الأولياء والأعاظم هو في المقام الأوّل من أجلنا نحن، لا من أجل الخارج والآخرين، فما علاقتنا نحن بالخارج؟! بل إنّ منفعته راجعة لنا نحن.
الاهتمام بليلة القدر من أول شهر رمضان
ولهذا السبب كانوا يوصون في شهر رمضان أنّ على الرفقاء أن ينتبهوا إلى أنّ تلك الآثار السلبية التي تصيب الإنسان بسبب الغفلة وترك المراقبة، فإنّ هذه الآثار السلبية تفقد الصوم أثره في نفس الإنسان، والحال أنّ هذا الشهر أيّ شهر هو؟! إنّه الشهر الذي يتمّ فيه كتابة تقدير الإنسان ومصيره.. في اليوم الأوّل: اقتربنا خطوة واحدة.. في اليوم الثاني: اقتربنا خطوتين.. في اليوم الثالث كذلك.. اليوم السابع.. اليوم العاشر.. اليوم الخامس عشر.. اليوم التاسع عشر.. اليوم الواحد والعشرين.. ثم نصل إلى ليلة الثالث والعشرين ، فيتمّ الأمر ويحسم! انتبهوا.. فالله جعل لنا اثنان وعشرين يوماً كمقدمة للتهيّؤ للوصول إلى ليلة القدر، حيث يتمّ فيها التقدير للسنة القادمة، وأمّا ليلتا القدر اللتان تسبقان ليلة الثالث والعشرين فيجب أن يقضيهما الإنسان في حالة من العبادة والتهجد، والتهيّؤ والإعداد من أجل الورود في مقام التقدير والمشيئة الإلهية، يقطعها الإنسان حتّى يصل إلى ليلة الثالث والعشرين. ولذا على الإخوة والرفقاء أن يعلموا أنّ التقدير الذي يكتب لهم في ليلة الثالث والعشرين يبدأ منذ اليوم الأول من شهر رمضان، ها قد أعلنت ذلك بوضوح! فلا تظنّوا أنّ بإمكان الإنسان أن يقضي عشرة أو عشرين يوماً من شهر رمضان كيفما اتّفق، وعندما تأتي ليلة الثالث والعشرين نبدأ بتلاوة القرآن وقراءة دعاء الجوشن وباقي الأدعية!! كلاّ فهذا لا فائدة فيه أصلاً، فلا تتعبوا أنفسكم بدون طائل! فدعاء الجوشن الذي نتذكّره فجأة في ليلة الثالث والعشرين، وتلك الصلاة التي نتذكرها فجأة في ليلة الثالث والعشرين لا فائدة فيها! ولكنّ دعاء الجوشن المفيد هو ذلك الدعاء الذي تمّ إعداد الأرضية له منذ اليوم الأوّل لشهر رمضان، حينئذٍ سيكون الدعاء مؤثراً في ليلة الثالث والعشرين، وليس الكلام عن خصوص دعاء الجوشن طبعاً، وإنما ذكرته من باب المثال فقط، بل المقصود هو التوجّه والتنبّه والتذكّر لمقام العبودية والمعبودية، فهذا الحال هو ما ينبغي إعداده منذ اليوم الأول لشهر رمضان المبارك. وبناء على ذلك فإنّ هذا التهيّؤ والاستعداد يزداد قليلاً قليلاً ... وقد أوضحت ذلك سابقاً في بعض المحاضرات، ولا أدري إن كان الإخوة قد سمعوها أم لا، وبيّنا هناك هذه المسألة: أنّه كيف تكون ليلة الثالث والعشرين هي ليلة القدر ومع ذلك نجد أن ليلة التاسع عشر وليلة الحادي والعشرين يطلق عليها أيضاً ليلة القدر، وهناك أوضحت للإخوة بأن مسألة ليلة القدر ليست أمراً يحصل في لحظة واحدة كالورقة التي تطبع بالطابعة؛ بأن يأتي جبرئيل عليه السلام من فوق ويأتي بصحيفة أعمال الإنسان ويضعها بين يدي صاحب الزمان عليه السلام، فيأخذها حضرته، ويمضي عليها بأنّ هذا الأمر سيحصل في الزمان الفلاني، وذاك الأمر سيقع بهذا الشكل لفلان... كلاّ، ليس الأمر كذلك، بل مسألة ليلة القدر عبارة عن حدث تكامليّ، وهذا الحدث التكاملي له بداية وخاتمة؛ أمّا بدايته فمن أوّل شهر رمضان، بل من قبل ذلك، فشهر رجب وشعبان لهما تأثير في هذا الموضوع أيضاً...
أجل.. مع بداية شهر رمضان يبدأ هذا الحدث، ويتكامل تدريجياً يوماً بعد يوم، والحالة التي يحصل عليها الإنسان في هذه الأيّام بسبب المراقبة، أو بسبب عدم المراقبة، فالمسألة تجري في كلا الطرفين، وهذه الحالة التي يصل إليها تتمّ وتكتمل في ليلة القدر ، وهذا يصبح تقديره ! إنّها نفس تلك الحالة التي حصل عليها بالتدريج سواء كانت إيجابية وحسنة أم سلبية وقبيحة.
ولذلك كان الأولياء يوصون الرفقاء بأن يتوبوا إلى الله قبل شهر رمضان المبارك، وذلك بأن يغتسلوا غسل التوبة، وهو نفسه غسل الاستخارة، ثم بعد ذلك يصلّي ركعتين، ثم يقول مائة مرّة في حال السجود: أستغفر الله ربي وأتوب إليه، وحالته عند الاستغفار ينبغي أن تكون الخروج واقعاً من جوانب الكثرة والورود في حريم العبودية.. يقول: يا ربّ كلّ ما كان عندنا من الأنانيّة حتّى الآن.. وكلّ ما كان عندنا من الفرعونيّة حتّى الآن.. نضعها الآن جانباً، ونلجأ إليك ونتوجّه نحوك لكي تختار لنا وتقدّر لنا، وما تقدّره لنا فذلك هو مرادنا ومطلوبنا.
فحتّى الصيّام إذا كان من أجل النفس فنحن لا نريده.. إنّ الصيّام مهمّ جداً، ومن الضروري أن يصوم الإنسان حتّى يصل على تلك الحالات والمقامات والنعم، ولكنّ الأولياء يأخذوننا إلى ما هو أعلى وأعظم من ذلك! يقولون لنا: لا تقفوا هنا! يا ربّ إنّ الصوم الذي نصومه هو من أجل الوصول إليك والتقرّب منك، فإذا عجزنا في أحد الأيّام عن الصوم، وفقدنا القدرة على الصيام، فلا بأس في ذلك، ولا إشكال فيه، ولا داعي لأن نتضايق بسبب ذلك.. يعني افرضوا أنّ الإنسان طرأ عليه أحد الأمور التي تمنعه من الصوم، كما لو أصيب بمرض يمنعه من الصوم، والطبيب منعه من الصوم، يا ربّ نحن عبيدك، فإذا شئت ألاّ نصوم، فلن نصوم، ولا نصرّ على الصيام خلافاً لحكمك.
التسليم للمشيئة الإلهية في الصوم أو الإفطار
انتبهوا أيّها الإخوة فلا يكوننّ صيامنا خلافاً لمرضاة الله تعالى! فعندما يضع الإنسان نفسه في مقام العبودية، فحينئذٍ لا ينبغي لكيفية الأطوار الخارجية أن تؤثّر على حاله ! وما ذكرناه قبل قليل عن اهتمام الأعاظم بالصيام وابتهاجهم به لا يتعارض مع هذا الذي نقوله هنا أبداً؛ فأنا مبتهج ومسرور بالصيام لما أشعره من كون الصيام مقرّباً لي إلى مقصودي، ولكن لو أراد الله لي ألاّ أصوم، فأنا طوع أمره أيضاً.. نفس المرحوم السيّد العلامة الطهراني رضوان الله عليه في أواخر حياته لم يكن يصوم، فالأطباء كانوا قد منعوه من الصيام! وعندما كنّا نذهب إليه في وقت الإفطار، كان سماحته يقول: ضعوا المائدة، وكان يأتي هو أيضاً ويجلس معنا، ويقول مازحاً: أنا لا أصوم، فإذا لم آكل طعام السحور، ولم أتناول الفطور أيضاً فسأصبح كافراً مطلقاً حينئذٍ [يضحك سماحة السيّد]، فعلى الأقلّ ينبغي أن نأكل طعام الإفطار معكم!!
واضح؟ ولكن ماذا عن حال سماحته؟ لم تكن حالته لتختلف؛ لأنّ الله تعالى أراد منه هذا التكليف، والله هو الذي قدّر له هذه المسألة، فإذا وجد الإنسان نفسه في مثل هذه الوضعية.. وهو أمرٌ يمكن أن يحصل للجميع! وحتّى الحقير ابتُلي بمثل هذا، فقد أصبت بمرض منعني من الصوم لمدّة خمسة عشر سنة، ولكن الحمد الله فقد ارتفع المانع بتوفيق الله في السنوات الأخيرة... فهذه الحالة والوضعية التي يمكن أن تحصل للإنسان، والانكسار الذي يرافقها.. تعني في الواقع: يا ربّ، إنّ أيّ شيء تقدّره لي، فأنا راضٍ به، فإن قسمتَ لنا السلامة وعافية البدن؛ نصوم، وإن لم تمنحنا سلامة البدن، وأمرتنا بالإفطار؛ أفطرنا وامتثلنا لأمرك أيضاً.. ومن الممكن أن تكون هذه الحالة مفيدة للإنسان حتّى أكثر من الصوم نفسه، ويكون فيها من المنافع له ما لا يوجد في الصوم! انظروا كم رحمة الله واسعة، فلا تتصوّروا أنّ الأمر منحصر بالصوم.. تجد البعض يقول: للأسف.. إنّنا محرومون، ويا للحسرة، فهؤلاء المؤمنون يصومون ونحن لا نستطيع، وأمثال ذلك.. كلاّ! إذ من الممكن أن يكون نصيب أولئك الذين لا يقدرون على الصوم أكثر من الباقين، خصوصاً عندما يتعامل الإنسان مع المسألة بهذه الطريقة وبهذه النظرة.
دعوني أخبركم بهذه القضية أيضاً.. فالظاهر أنّ الوقت قد شارف على الانتهاء.. كنّا في سفر الحجّ مع السيّد الوالد، وذلك في سفرنا الأوّل إلى الحجّ عندما كان سنّ الحقير أقلّ من سبعة عشر سنة بقليل، وكنّا في المدينة المنوّرة، فجاء أحد الأفراد ممّن كان يحب السيّد الوالد كثيراً رغم أنّه لم يكن من رفقائه، وكان هذا الشخص قد ابتلي بمرض جلديّ في يده من قبيل (الأكزيما)، وكان متضايقاً ومتألّماً من أنّه بعد أيّام قليلة سوف يذهب إلى مكّة المكرّمة، وهناك سوف يحرم ويرتدي لباس الإحرام، ومع هذه الوضعية التي هو فيها فإنّ الأمر سيكون شاقّاً عليه، وكيف يمكن له أن يؤدّي كل تلك الأعمال؟!
عندما جاء إلى السيّد الوالد، تبسّم سماحته في وجهه، ثمّ قال له: إنّ الآخوند الملاّ فتحعلي السلطان آبادي.. وهذا الآخوند نفسه الشخص الذي كان عنده درس تفسير في النجف الأشرف، وفي أحد السنوات في شهر رمضان المبارك قام بتفسير آية واحدة من القرآن الكريم بثلاثين طريقة مختلفة، وكان أمثال المرحوم النائيني والآغا ضياء الدين العراقي يحضرون في درسه ذاك، حيث كان المجلس ينعقد بعد الإفطار بساعة ونصف تقريباً في منزله، وكانت الجلسة خصوصية. وقام في المجلس الأوّل بتلاوة آية كريمة من آيات القرآن المجيد، ثمّ بيّن تفسيرها بحيث أنّ الحاضرين كانوا يقولون: نحن حتّى الآن لم نسمع بمثل هذا التفسير، وفي الليلة التالية عندما ذهبوا رأوا أنّه: يا للعجب.. لقد تلى نفس تلك الآية الشريفة، وشرع ببيان مطالب أخرى غير التي ألقاها في الليلة الأولى، ورغم أنّ الحديث كان عن نفس الآية إلاّ أنّه لم يكن هناك أيّة علاقة بين مطالب تلك الليلة مع مطالب الليلة الأولى أصلاً، فقال الحاضرون: نحن حتّى الآن لم نسمع بمثل هذا التفسير لهذه الآية! وتكرّر الأمر في الليلة الثالثة، والليلة الرابعة والخامسة.. حتّى الليلة الثلاثين! وفي كلّ ليلة كان سماحته يقرأ نفس تلك الآية الشريفة ويتحدّث حولها بمطالب جديدة لمدّة ساعة كاملة بحيث لم يكن هناك أيّ ارتباط بين مطالب تلك الليلة وما سبقها من الليالي!
تذكرت قضية أخرى الآن، وقد نقلها لي المرحوم السيّد الوالد رضوان الله عليه عندما كنت معه في المستشفى.. في قسم القلب التابع لمستشفى مشهد، وذلك قبل ارتحاله بثلاث سنوات، حيث كنت في خدمته في قسم العناية المركّزة، ثم في قسم القلب، وطالت إقامته هناك لمدّة أسبوعين. وكنت قد أحضرت ديوان «مثنوي» معي إلى هناك، لأقرأ فيه عندما كان سماحته ينام، وذات يوم التفت سماحته إلى الكتاب، وقال لي: يا فلان! ما هو هذا الكتاب الأزرق الذي وضعته هناك؟ فقلت: إنّه مثنوي. فقال: ممتاز جدّاً.. هاتِه واقرأ لنا منه، فشرعت بالقراءة، وكان يدقّق عليّ في طريقة القراءة، وينتقد أي خلل يجده، فيقول مثلاً: هنا يجب أن تمدّ صوتك، وفي هذا الموضع ينبغي أن تقرأ بهذا الشكل، وعندما كنّا نمرّ ببعض الفقرات، كان يستوقفني ويطلب منّي أن أشرح معنى تلك الأبيات، ثمّ كان يبيّن المعنى بنفسه.. أجل، تعدّ تلك الأيام غنيمة عظيمة بالنسبة لي.
وذات مرّة قال لي: احفظ هذا عنّي، لقد قال لي أستاذي المرحوم السيّد الحدّاد أنّ أستاذه المرحوم السيّد القاضي قال له: قرأت ديوان "مثنوي" ثماني مرّات من أوّله إلى آخره!.. (أمّا نحن فهل قرأناه ولو لمرّة واحدة من أوله إلى آخره؟ بالنسبة لي لم أفعل ولا أدري عن الإخوة والرفقاء [يضحك سماحة السيّد].. نسأل الله تعالى أن يوفّقنا لكي نستفيد من بحار النعم الرحمة الإلهية هذه، فديوان «مثنوي» واقعاً يحتوي على خزائن من الأسرار).. يقول المرحوم السيّد القاضي: وفي كلّ مرّة من هذه المرّات الثماني كنت أجد معنى جديداً من هذه الأشعار غير التي وجدتها في المرات السابقة !! حسناً .. ما معنى هذا؟ وما هو المعنى الذي يخفيه مثل هذا الكلام؟!
حسناً.. المرحوم الآخوند الملاّ فتحعلي السلطان آبادي قام بتفسير آية واحدة خلال ثلاثين ليلة من ليالي شهر رمضان المبارك، ثمّ بعد ذلك وفي آخر ليلة من ليالي شهر رمضان قال لهم: يقولون إنّ للقرآن الكريم سبعين بطناً، ونحن قد أُعطينا ثلاثين بطناً منه فقط، وأمّا الأربعون بطناً الباقية فعليكم أن تبحثوا عمّن عنده تلك البطون ليعلّمكم إياها، وأمّا أنا فلم أصل إلى أكثر من ثلاثين بطناً!!
هنيئاً له حيث رزقه الله أن يعرف ثلاثين بطناً من بطون القرآن الكريم، ولاحظوا أنّ الأفراد الذين كانوا يحضرون ذلك الدرس كانوا من أعاظم علماء الشيعة أمثال المرحوم العراقي والمرحوم النائيني والسيّد جمال الدين الگلبايگاني وأمثال هؤلاء.
حسناً.. نفس هذا المرحوم الآخوند الملاّ فتحعلي السلطان آبادي كانت له حالات عديدة، واختلفت حالاته في آخر عمره، ولا يمكن أن نقول بأنّه ظلّ على نفس هذه الحالة إلى آخر عمره.. أجل، في إحدى السنوات قرّر الذهاب إلى الحجّ، وكان يعاني من مرض جلدي، وكان هذا المرض يزداد ويشتدّ في الشتاء ويتحسّن قليلاً في الصيف، وهذه طبيعة الأمراض الجلدية كالأكزيما، وكان سفره إلى الحجّ قد وقع في فصل الشتاء، وعندما أراد الخروج إلى الكوفة، توجه إلى الله تعالى بالدعاء قائلاً: يا إلهي ارفع عنّي هذا المرض في هذا السفر حتى لا يبقى ذهني وفكري مشغولاً بهذه المسائل، ولا أنشغل بالطهارة وتطهير هذه الأمور! فقال [المرحوم العلاّمة]: ما إن تقدّم بهذا الطلب إلى الله تعالى حتى شُفي في الحال، ثمّ انطلق إلى مكّة والمدينة، وأدّى الحج والزيارة وعاد، وكان ذلك يستغرق أكثر من شهر وشهرين.. وما إن وصل إلى بوّابة الكوفة حتى لاحظ بأنّ المرض قد عاد من جديد [ضحك من السيّد].. قال الله تعالى له: حسناً، أنت طلبت منّا الشفاء في هذا السفر فقط، ونحن استجبنا لك، ولم تطلب أكثر من ذلك، ولهذا فقد أعدنا المسألة إلى حالتها الأولى!
يريد المرحوم العلاّمة أن يقول بأنّه على الإنسان أن يرى ما هو التقدير والمصلحة التي جعلها الله تعالى لنا، فمن أين لنا أن نحكم بأنّ الحجّ المؤدّى بتلك الكيفيّة هو أقلّ ثواباً وأثراً وروحانيةً من الحجّ المؤدّى دون تلك المشاكل والابتلاءات، لقد كان ذلك الرجل من الأعاظم، لكن لاحظوا إلى أين وصل أولياء الله، وإلى أيّ حدّ بلغوا في السير، وإلى أين يُريدون أن يسيروا بنا! نعم، من الجيّد أن يُؤدّي الإنسان الحجّ مع طهارة وأمثال ذلك، وأن يطلب من الله تعالى، وأن يستجيب سبحانه وتعالى له، لكن هل يوجد أرقى من ذلك أم لا يوجد؟! نعم، الأرقى والأرفع من ذلك هو أن يقول الإنسان: يا إلهي، لقد قصدت إليك بهذه الحالة وأنت أعلم بالمصلحة. هذا أعلى! وأمّا ذلك الذي يُحصّله الإنسان بنفسه فمختلف تماماً.. هذا مع أنّ الله تعالى يستجيب له، ويقبل الله تعالى ذلك الحجّ، فالحجّ الذي يُؤدّيه الملاّ فتح علي معلومٌ حالُه، لكن مع ذلك يوجد ما هو أعلى؛ وهو أن يكون الإنسان عبداً.. يقول يا إلهي، إذا تقرّر أن يسيل الدم، فليكن ولا علاقة لي بذلك، وسأؤدّي تكليفي الواجب تجاه هذه الأمر، سيتنجّس لباس الإحرام، فليتنجّس! هل من المقرّر أن يبقى لباس الإحرام طاهراً.. بل يكفي أن نطهّره عندما نصل إلى موضع مناسب وينتهي الأمر! لاحظوا، فالنفس تريد أن تتدخّل حتّى في الأمور المعنويّة، وتُريد أن تعيش في تلك الحالات والأجواء التي ترتضيها. فحينما يرى بأنّه يرتدي لباس الإحرام، والدم يسيل من يديه، وسيبتلى بالنجاسة والتطهير، سيقول يا ليت هذا الأمر لم يحصل، إذ سنشرع في التلبية، وسنتوجّه إلى مكّة، وإذا لم يكن الأمر كما ينبغي، فلربّما لن نحصل على ذلك التوفيق! لكن المسألة ليست كذلك! فإنّه إذا ما خلّص نفسه وحرّرها، فإنّه سيحصل على أشياء أهم.
وبناءً عليه، إذا ما توفّقنا للصيام في شهر رمضان، فإنّنا سنصوم، وأمّا إذا قيل لنا لا تصوموا، فلن نصوم ولنحافظ على نفس تلك الحالات والأجواء التي يمنحها الصوم.
ومن بين المسائل التي كانت تحظى بعناية كبيرة من طرف المرحوم العلاّمة في شهر رمضان هي مسألة ليالي هذا الشهر المبارك، حيث كان يقول إنّ أثر الصيام في الشهر المبارك يظهر ويتجلّى في الليل، ولهذا على الإنسان أن يُقلّل نوعاً ما من النوم في ليله، وينشغل بالتهجّد وأمثال ذلك، وهذا لا يعني أن يقضيه كلّه بالصلاة، لا، بل يأخذ من باب المثال ديوان حافظ ويقرأ أشعاره، فشهر رمضان المبارك لا يفرض علينا دائماً أن نقرأ «روضة الشهداء» للكاشفي، أو «اللهوف» للسيّد ابن طاووس [ضحك من السيّد]، أو كتاب المقرّم وكتب المقاتل والعزاء، لا ليس الأمر كذلك! فشهر رمضان المبارك هو شهر النور، هو شهر البهجة والسرور، هو شهر التمتّع، هو شهر الوله والهيام بالله تعالى، وأمّا البكاء والعزاء وأمثال ذلك وقتها الخاصّ بها، وهي الأيّام والليالي المرتبطة بالمصيبة. لكن على الإنسان كذلك أن يسعى للاقتراب بحاله وروحيّته من تلك الأجواء ليعيشها ويتعرّف عليها، لا أن يجعل كلّ شيء عزاء وبكاء، ويظنّ أنّه أحسن صنعاً، لا، ليس الأمر كذلك.
وينبغي كذلك قراءة قصص العظماء والكلمات القصار الواردة عنهم ومطالعة أحوالهم، وقراءة أشعار العرفاء وأولياء الله تعالى، نظير حافظ الشيرازي ـ بالنسبة للناطقين باللغة الفارسيّة ـ قراءة مثنوي.. اقرءوا في الليل مقداراً منه وانظروا ما الذي قام به ذلك الرجل! اقرءوا صفحة أو صفحتين من مثنوي وتأمّلوا في أشعار مولانا جلال الدين الرومي، وكذلك الأمر بالنسبة لبقيّة الأشعار والحكايات والقصص الواردة عن العظماء، والكتب الأخلاقيّة، وكتب المرحوم العلاّمة، والتي يُمكنها أن تكون مفيدة وبنّاءة جدّاً بالنسبة للإنسان في مختلف المستويات، خصوصاً مع أخذ الصيام بعين الاعتبار وما له من آثار.
وتوجد أيضاً مطالب أخرى، الرفقاء مطّلعون عليها، ولا حاجة للتذكير بها وإعادة الكلام حولها مرّة أخرى، وسنواصل الحديث إن شاء الله تعالى ـ إذا وفّقنا سبحانه وتعالى ـ حول المسائل المرتبطة بعنوان البصري بعد الشهر المبارك إن شاء الله تعالى.
اللهم صلّ على محمّد وآل محمّد.