المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني
القسمعنوان البصري
المجموعةرياضة النفس
التوضيح
ما هي أهمّية الرياضة في تكامل الإنسان معنويًّا؟ وهل يحصل هذا التكامل من خلال مجرّد جمع المعلومات؟ وهل أنّ لكلّ مرحلة من عمر الإنسان برنامجًا خاصًّا للتكامل؟ ولماذا يمتلك الأحداث استعدادًا أكبر للتكامل؟ وما هو المفهوم الحقيقي للرياضة التي تؤّدي للتكامل؟ هي تساؤلات سعى سماحة السيّد قدس سره تعالى للإجابة عنها في هذه المحاضرة؛ علاوةً على تساؤلات وقضايا أخرى.
هو العليم
المفهوم الحقيقي للرياضة
شرح حديث عنوان البصريّ - المحاضرة ۱٦۱
ألقاها
آية الله الحاجّ السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ
قدس الله سره
أعوذُ بِاللَه مِنَ الشَّيطانِ الرَّجيم
بِسمِ اللَه الرَّحمنِ الرَّحيم
وَصَلَّى اللَه عَلى سَيَّدنا وَحَبيبِنا، أبي القاسِمِ المُصطَفى مُحمَّد
وَعَلى آلِه الأطْيَبينَ الأطهَرين الهُداةِ المَعصومين
لاسِيَّما بقيَّةِ اللَه في الأرَضين، أرواحُنا لِتُراب مقدَمِهِ الفداء
وَاللَعنة عَلى أعدائهم وَمُخالِفيهم ومُنكِري حُقوقِهِم وَفَضائِلِهِم وَمَناقِبِهم
إلَى يوم الدّين
قال الإمام الصادق عليه السلام لعنوان البصري: «أمَّا اللَوَاتِي في الرِّيَاضَةِ: فَإيَّاكَ أنْ تَأكُلَ مَا لا تَشْتَهِيهِ، فَإنَّهُ يُورِثُ الحَمَاقَةَ وَالبَلَه»
أهميّة الرياضة في الحياة الإنسانيّة
تقدَّم في المجالس السابقة أنَّ موضوع الرياضة هو موضوع حيويّ ومصيري للإنسان، ويتوقّف عليه ترقّيه وتكامله ووصوله إلى مرحلة الفعليّة؛ ولولا هذه المسألة، لفسدت حياة الإنسان، ولم تترتّب عليها نتائجها المرجوّة منها، وتحوّلت إلى ما يمكن أن يُطلق عليها حياة حيوانيّة لا تمتلك أيّ هدف ولا تطمح للوصول لأيّة فعليّة ولا تسعى لبلوغ درجة الصلاح؛ وستكون منزلة الإنسان ومرتبته عند مغادرته الدنيا بنفس ذلك المقدار من المعرفة والفهم والإدراك الذي كان عليه في ذلك الحين من دون أن ينضاف عليه في عالم ما بعد الموت ولو بمقدار رأس الإبرة؛ فلن يختلف لديه سوى أمر واحد وهو انفتاح عينه البرزخيّة التي كانت عمياء قبل رحيله عن الدنيا، ولم يكن يعرف شيئًا عن الدنيا سوى كيفيّة مواصلة حياته اليوميّة؛ ولعلّ الشيء الوحيد الذي كان يستطيع إدراكه عن ذلك العالم يكون بواسطة ما يُكشف له عن طريق المنام.
فالكلّ يعلم ـ وبصورة مجملة ـ بوجود شيء ما وراء هذا العالم؛ وهذا الأمر غير مختصّ بنا نحن كمسلمين، بل يعلم به حتّى اليهود والنصارى والهندوس...، ولا ينكره غير طائفة خاصّة من الناس نظير الماديّين والطبيعيّين الذين ينكرون بشكل مطلق كلّ ما وراء عالم المادّة، بل وينكرون حتّى المسائل المرتبطة بالمنام، ويُفسّرونها على أنَّها ناشئة عن نوع من التخيّلات التي لا تعدو كونها أوهامًا، ولو أنّنا نضفي عليها صبغة الواقعيّة؛ فلا يمكننا البحث مع هؤلاء القوم ما دام أمرهم مبنيّ على الإنكار ولا غير. لكن بشكل عامّ، جميع الناس وبغضّ النظر عن انتمائهم لأيّ دين أو مذهب أو ملّة يعتقدون بوجود حقائق تتعلّق بما بعد الحياة الدنيا، والتي هي خافية عن أنظار من يعيش في هذا العالم، غير أنَّها ستنكشف لهم بعد العبور عن هذه الدنيا، سواءً كان ذلك في المنام، أو في اليقظة عن طريق المكاشفة، أو حين الموت؛ فاعتقاد الناس لا يتجاوز هذا القدر المحدود.
مجرّد جمع المعلومات لا يزيد في ترقيّ الإنسان معنويًّا
ولهذا، من يكون همّه في حياته الدنيا جمع المزيد من المعلومات، سواءً كانت هذه المعلومات متعلّقة بالعمل والتجارة وتحصيل القوت اليومي وكلّ ما يتعلّق بالبدن والحياة المادّية، أو متعلّقة بالمسائل الدينيّة والتكاليف الشرعيّة ـ لأنّ الحكم في جميع هذه الأمور واحد ـ فلن يحصل على رقيّ وتكامل نفسي نتيجة لتحصيله هذه المعلومات، بل كلّ ما يمكن أن يحصل عليه هو تراكم لكمٍّ هائلٍ من المعلومات في ذهنه.
فما هي طبيعة هذا الميكروب على سبيل المثال؟ وما هي البيئة والعوامل المساعدة على تكاثره؟ وكم هو مقدار تكاثره في تلك الدرجة الحراريّة؟ وما هي المضادّات الحيويّة التي بإمكانها القضاء عليه؟ فهذا هو كلّ ما يمكن إضافته إلى معلوماتنا في هذا المجال، ولا يمكن أن يُضاف أيّ شيء آخر إلى وجودنا نتيجة لاكتسابنا هذه المعلومات؛ وكما أنَّ هذه المعلومات إن كُتبت في كتاب أو سُجِّلت على شريط، فهي لا تمنح ذلك الكتاب أو الشريط أيّة قيمة إضافيّة، فكذلك هي لا تضفي على قدر الإنسان وقيمته ولو بمقدار رأس الإبرة إذا ما أُضيفت إلى معلوماته الذهنيّة.
فما ذكرته للإخوة يتعلّق بمجرّد تجميع المعلومات في داخل الذهن والنفس، سواءً كان الأمر يتعلّق بالعلومات الماديّة التجريبيّة، أو بالمسائل الرياضيّة التي تختلف بطبيعتها عن العلوم التجريبيّة، أو حتّى بالعلوم والتكاليف الإلهيّة والشرعيّة والدينيّة؛ فمجرّد اطّلاع الإنسان على هذه المعلومات لا يزيد من قدره شيئًا؛ ولهذا نرى وجود أصناف مختلفة من الناس تكون لهم مواقف مختلفة بحسب اختلاف الظروف، حيث نرى وجود شريحة من المجتمع يتعاملون مع الآخرين بالأساليب الأخلاقيّة والإنسانيّة، في الوقت الذي نرى فيه وجود آخرين من ذوي الثقافة المنحطّة وممّن يتعاملون مع الآخرين بطريقة غير لائقة. وهكذا الأمر في جميع شرائح المجتمع؛ فأولئك المجرمين الذين تواجدوا على مرّ العصور لم يكونوا بأجمعهم من الجهلة، بل العديد منهم كان قدم السبق في حصولهم على المعلومات الدنيويّة، غاية الأمر بما أنَّهم كانوا يمتلكون نفوس منحطّة وقلوب ظلمانيّة وأرواح ملوّثة بالتعلّق بالدنيا وكثراتها، لذا نراهم يوظّفون معلوماتهم تلك في خدمة أهدافهم الخبيثة والمشؤومة، بل كلّما ازداد حجم معلوماتهم، ازداد الخطر الناشئ عن استخدامهم إيّاها لتحقيق نواياهم الخبيثة.
فإذا أراد شخص عادي أن يُدمّر مكانًا ما مثلاً، فكلّ ما يمكن أن يفعله هو أن يُمسك بيده بمعول ليُحطّم بواسطته أحد الأبواب، وأمّا إذا أراد مهندس فضائي أن يُدمّر أحد الأمكنة، فإنّه يصنع صاروخًا ويُدمّر بواسطته مدينةً بأسرها؛ فكلاهما يقوم بالتدمير، غير أنَّ التفاوت يكون في حجم الدمار الذي تسبّبت به كلتا العمليّتين التدميريّتين، والذي هو ناتج عن حجم المعلومات التي يمتلكها كلا الطرفين. وكمثال آخر على هذا الموضوع، فإنَّ الضرر الذي يتسبّب به الجاهل وغير المثقّف يتمثّل في إيجاد الفساد وإحداث الفوضى والاضطراب بين أفراد عائلته أو محلّته التي يعيش فيها، وأمّا ذلك العالم صاحب النفس الخبيثة، فهو يستطيع تخريب عالمًا بأسره، وجرِّه إلى الفساد والانحراف وتحطيمه روحيًّا ومعنويًّا.
ولذا، نلاحظ التأكيد الشديد في كلمات الأئمّة عليهم السلام على عدم الاغترار السريع بظواهر الأمور وحُسن مظهر الأفراد وتواضعهم الظاهري وسكوتهم وابتساماتهم العريضة وسائر حيلهم التي يسعون من ورائها إلى جذب اهتمام الآخرين نحوهم، والتي هي عبارة عن فخاخ لاصطياد الناس من ضعفاء الفهم ومتوسّطيهم؛ فيتّبع هؤلاء المساكين أولئك الأشخاص ليكتشفوا بعد مرور الأيّام حجم الخسارة التي منوا بها من جرّاء متابعتهم تلك، وكيف أنَّهم خسروا رأسمال عمرهم بعدما أغلقت في وجوههم جميع السبل للرجوع والتعويض؛ لأنّ عمرهم يكون قد انقضى ورأسمالهم قد انتهى! ومن هنا، ينبغي على الإنسان التحقيق، وألاّ يكتفي بالنظر إلى ظواهر الأمور، بل عليه أن ينظر إلى أحوال من يريد اتّباعهم.
وإنَّني لأتعجّب حقًّا عند سماعي أحيانًا لمواضيع في غاية السخافة تُطرح من قبل أناس يتمتّعون بمكانة ظاهريّة مرموقة.. تلك المواضيع التي يخجل عن التفوّه بها حتّى أكثر أفراد المجتمع انحطاطًا؛ فهذا الأمر إن دلَّ على شيء، فإنَّما يدلُّ على أنّ طول العمر أو كثرة المعلومات التي يمتلكها هؤلاء الناس ـ بما فيها المنقولة من أحاديث أهل البيت وكلمات العظماء ـ لم يكن لها أيّ دور في الارتقاء المعنوي والتكامل الروحي لهؤلاء القوم، ولو بمقدار رأس الإبرة؛ فترى سنّ أحدهم قد بلغ التسعين عامًا، غير أنَّ أخلاقة لم ترتق عن أخلاق أراذل المجتمع وأوباشه؛ فإن نظرت إلى ظاهره، فستراه ظاهرًا صالحًا، غير أنَّك إن تمعّنت في أفكاره ونواياه، فستجدها أفكارًا ونوايًا ظلمانيّة ومكدَّرة.
وكنت قد ذكرت في المجلس السابق قضايا تتعلّق بهذا الجانب؛ وهذا ممّا يدفع الإنسان للبحث عن السبب الكامن وراء ما يحصل وعن علّة هذه الإشكالات؛ فلو كان الأمر يتعلّق بالمسائل المتداولة في هذا العصر على مستوى العلوم التجريبيّة، لكان واضحًا ولا يُعاني من أيّ إشكال؛ لأنّ هذه المسائل مرتبطة بالدنيا، وبالمعادلات الرياضيّة ـ مثلاً ـ التي يتمّ ضمّ بعضها إلى البعض الآخر للخروج بنتيجة معيّنة، ولكنَّ ما يوجب التساؤل والتعجّب هنا هو: لماذا لا يحصل ترقّي روحي لمن يكون موضع اهتمامه الاشتغال بتلك المسائل الدينيّة والروحانيّة وكسب العلم في المواضيع المعنويّة؟ وما هي النتيجة التي يفترض ترتّبها على هذا الأمر؟ ولماذا لا يحصل ذلك؟ بل لماذا ينحطّ أخلاقيًّا وتترشّح عن قلمه وتخرج عن لسانه هكذا مسائل وهو قد بلغ الثمانين أو التسعين من العمر؟ فلو كان ما حصل منه قد حصل عندما كان في سنّ العشرين، لهان الأمر!
وقد ذكرت في المجلس السابق بأنَّ تلك الأمور التي نشرت في الكتب عن أولياء الله، وربّما يتمّ تداولها على الألسن ويجري الحديث بشأنها، بل ربّما تحصل مثل تلك الإهانات في الملأ العام، لم يتم طرحها من قِبل أناس عاديّين، بل طرحت من قبل أشخاص يتمتّعون بمكانة اجتماعيّة وعلميّة متميزة. [فلقد تمّ توجيه إهانة] لرجل قال عنه المرحوم آية الله السيِّد أحمد الخونساري في موارد متعدّدة بأنّه يُعدُّ من مفاخر عالم التشيّع، ويأتي ذلك الرجل ليقول عنه بأنَّه من العرفاء الكذّابين.. انظر إلى مقدار التفاوت بين الموقفين! فكم هو مقدار الانحطاط الأخلاقي والظلمة النفسانيّة والاعوجاج الذي يهيمن على شخصيّة هذا الرجل بحيث يورد مثل هذا التعبير! هذا في الوقت الذي نشاهد فيه السيِّد الخونساري يورد ذلك التعبير بشأنه! فكم من الصفات والفضائل الأخلاقية قد أُضيفت إلى هذا الرجل خلال مدّة عمره بحيث يكتب مثل هذه الأباطيل والترّهات في كتابه؟! وما الذي كسبه من تواجده في تلك المجامع العلميّة؟
ضرورة التدقيق في اتّباع الأشخاص وعدم الانخداع بالظواهر
لا بدَّ للإنسان من فتح ذهنه، فنحن نختلف عن الحيوانات، وقد منحنا الله رِجلين اثنين، ولم يمنحنا أربعة أرجل! فتلك الأرجل الأربعة قد منحها الله للحيوانات لكي تستطيع حمل الأثقال كالطوب والبطّيخ، وأمّا نحن، فقد منحنا الله رجلين ويدين ومخّ لكي نستخدمه للتفكير ووزن الأمور حتّى لا نُخدع بسهولة، ولا ننجذب لأيٍّ كان لمجرّد الشائعات التي تُطلق بشأنه أو لكثرة المحيطين به أو ما يُقال عنه؛ بل علينا أن نتابع كلّ ذلك بأنفسنا {إِنَّ السَّمْعَ وَ الْبَصَرَ وَ الْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً}۱.
فسيسألنا الله يوم القيامة عن جميع تلك المواهب التي منحنا إيّاها الواحدة تلو الأخرى، وعن تلك الوسائل الأوّلية والأسباب اللازمة لاتّضاح الحقائق وإنارة الطريق لنا، وسيقول لنا: لقد منحتك عينًا، فلِمَ أغمضتها؟ فهل حصل لك مرّة أن وصلت إلى نهرٍ أثناء مسيرك، ثمّ قمت بإغماض عينيك عند وصولك إليه لتُكمل طريقك مُغمض العينين؟! لو فعلت ذلك، لسقطت في الماء وغرقت! وهل حصل لك أن سِرت في بيداءٍ وأنت مغمض العينين مع علمك باحتمال وجود بئرٍ أو منحدرٍ حادٍّ أو صخرةٍ قد تعترض طريقك؟ّ ما كنت لتفعل ذلك، لأنَّك تحبّ نفسك ولا تريد أن تموت! فكيف أصبح موضوع الدين والحياة بالنسبة لنا بهذا المستوى المتدنّي من الأهميّة، بحيث أصبحنا نسير وراء هذا وذاك ونحن مغمضو الأعين ولمجرّد ما يُشاع من أنَّه إنسانٌ صالحٌ؟! فيتوجّب علينا ـ والحال هذه ـ التفكير مليًّا في هذا الموضوع!
چون بسى ابليس آدم روى هست | *** | پس به هر دستى نشايد داد دست۱ |
[ترجمته: لمّا كان هنالك الكثير من الأبالسة من ذوي المظهر البشري، فلا تضعنَّ يدك ـ والحال هذه ـ بيد أيٍّ كان من البشر]
فظاهر هؤلاء الأشخاص يبدو صالحًا، أمّا الباطن فهو مخفيٌّ عن أبصارنا؛ نعم، يبقى أنَّ هذا الباطن غير خافٍ على أولياء الله أو أولئك الذين سلكوا طريق الله فانفتحت أعينُهم الباطنيّة، بحيث صاروا يعرفون باطن الإنسان لمجرّد رؤيته؛ فلا خوف على هؤلاء من الانخداع، وأمّا بالنسبة إلينا نحن ذوو الأعين العمياء، والذين لا نفهم من حقيقة الأشخاص سوى جاذبيّة مظهرهم الخارجي، ونُفسّر تباطؤ خطاهم أثناء السير على أنَّه من التواضع وحسب، ونستنتج من حسن الهندام استقامة الباطن، فعلينا أن نكون منتبهين، ولا نتّبع أيًّا كان من الناس، ولا نستجيب لأيّ نداء يصدر من أيّ مصدر كان، بل علينا الصبر والتأمّل بشأنه؛ لأنّ الله تعالى وهبنا عقلاً لكي نستثمره، وعلينا أن نفكِّر بالأمر لمدّة يوم أو أسبوع أو شهر حتّى تظهر لنا الحقيقة؛ فما هذه العجلة في الحكم؟ ولماذا يستعجل الإنسان بتقبّل ما يقوله أحدهم عن الآخرين، فيقبل كلامه فورًا؟ على الإنسان التفكير والتأمّل فيما سمع بمقدار ما يمتلكه من قابليّة؛ لأنّ الله تعالى لا يُطالب الإنسان إلاّ بذلك المقدار من العلم الذي تمكّن من التوصّل إليه في طريق معرفة الحقيقة؛ فذلك هو التكليف المطلوب منه، لكن بشرط أن يكون صادقًا في مسعاه، ولا يحاول خداع نفسه والانتقاء في القضايا التي تحصل له، فيُغمض عن واحدة ويتمسّك بالأخرى، بل عليه أن يأخذ الأمور بجدّية بالغة؛ فالمسألة مصيريّة وتتعلّق بتسليم زمام أموره الدينيّة والدنيويّة بيد من يدّعي الإرشاد والهداية. ولقد رأينا بأنفسنا الكثير من ذلك، وها نحن نراه الآن، وسنراه في المستقبل؛ فهكذا هو الأمر منذ أن خلق الله آدم وسيستمرّ حتّى قيام إمام الزمان عليه السلام، حيث سيُطوى البساط من تحت أقدام أولئك المدّعين. فلقد رأينا البعض لهم ظاهر أنيق وجذّاب، لكنّ باطنهم خبيثٍ، حيث ترى الرجل يمتلك ظاهرًا وقورًا، غير أنَّه يكذب ويُلصق التهم بالآخرين بل وقد يكون من المنافقين؛ فيكون الظاهر على درجة من الوقار، بحيث أنّ الإنسان لا يستطيع التصديق بتركه للأولى أو فعله للعمل المكروه فضلاً عن صدور الكذب عنه؛ وإذا بكذبٍ من النوع العجيب والغريب يصدر منه، إلى الدرجة التي تجعل المرء يُذهل لسماعه.
فما هو السبب في كلّ ذلك؟ سببه هو انخداعنا بالمظهر الجذّاب ووسائل الخديعة؛ ولقد قال لنا العظماء ولآلاف المرّات بضرورة عدم الانخداع بظاهر الأشخاص، لكنَّنا لم نتّعظ؛ ولقد حذّرونا من الوقوع في البئر، فوقعنا بها؛ ولقد قالوا لنا: إن لم تكن تمتلك العين الباطنيّة ولا تمتلك البصيرة اللازمة لمعرفة خباثة نفس الشخص المقابل، فعليك التوقّف بشأنه على أقلّ تقدير، وعليك التريّث وعدم تصديق كلّ ما يقول وتقبّل كلّ ما يفعل، وعدم العجلة بالحكم على سلامة سيرته، بل عليك الصبر والتأمّل والتحقيق في سيرته وماضيه وطبيعة أصدقائه.
فلو أنَّ أحدهم قد جاءنا يطلب يد ابنتنا، فهل كنّا سنوافق على هذا الأمر فورًا؟ أم كنَّا سنقوم بالتحقيق بشأنه والسؤال عن عائلته وأقاربه، وأين يدرس أو أين يعمل ومن هم أصدقاؤه وما هي المجالس والمحافل التي يرتادها؛ فلا يمكن لنا الموافقة بهذه البساطة.. هل هذا صحيح؟ وهكذا يكون الأمر بشأن هذا الموضوع، بل وبدرجة أعلى وأدقّ؛ لكون خطورته أشدّ! وإلاّ سيستيقظ الإنسان فجأة ليرى بأنَّ عشرة سنوات أو خمسة عشر أو عشرين سنة من عمره قد ذهبت هباءً من دون أن يتمكن من إرجاعها. صحيح أنّه قد يرغب في أن يعمل فيما بقي من عمره، إلاّ أنّ ذلك أمر آخر، وأمّا بالنسبة لتلك المدّة التي ضيّعها، فقد ذهبت ولا ترجع أبدًا.
لكلّ فترة من عمر الإنسان برنامجًا خاصًّا للتكامل
حيث أنّ الله تعالى قد جعل للإنسان في كلّ مرحلة من عمره ملفًّا خاصًّا بها من أجل تكامله وترقّيه؛ ففي سنّ العشرين، يجب أن يكون سائرًا في مسير الكمال، فإن مضى سنّ العشرين [دون أن يستثمره في هذا المسير] فلن يتمكّن من تحصيل الآثار المترتّبة على التكامل في ذلك السنّ عندما يبلغ سنّ الثلاثين؛ لأنّ سنّ الثلاثين له حسابه الخاصّ. فيمكن تشبيه ما يحصل للنفس الإنسانيّة بالمرض، حيث أنّ بعض الأمراض لا يمكن شفاؤها بالدواء، لأنّ كلّ ما يفعله الدواء هنا هو العمل على الحدّ من انتشار ذلك المرض واستفحاله؛ كبعض أمراض العين والقلب وتصلّب الشرايين والتي لا بدّ للمرء من الاستعداد المسبق لها لمنع حصولها؛ فيُنصح هنا باتّباع نظام غذائي خاص والتقليل من تناول الدهون؛ لأنَّه إذا ما حصل انسداد للشريان، فلن يكون قابلاً للفتح مرة أخرى، وغاية ما يُمكن للإنسان فعله هو الحدّ من ازدياد ذلك الانسداد. وأمّا إذا اتّبع المرء منذ طفولته برنامجًا غذائيًّا صحيحًا، فلن يحصل له انسداد للشرايين ولو لمليمتر واحد، وإن بلغ السبعين من عمره؛ لماذا؟ لأنَّه استعدّ له مسبقًا. وكذا الأمر فيما يتعلّق بأمراض العين، فيُنصح الإنسان بتناول أنواع من الأغذية لكي لا يُبتلى بهذا النوع من الأمراض في المستقبل، وأمّا إذا أُصيب الإنسان بالمرض، فعليه السعي للحدّ من انتشاره بأكثر ممّا هو عليه.
فلنفس الإنسان وفي كلّ مرحلة من مراحل التكامل وبلوغ مرحلة الفعليّة برنامجًا خاصًّا بتلك المرحلة؛ فإن أهمل الإنسان العمل بذلك البرنامج، فستنتهي تلك المرحلة لتأتي بعدها المرحلة اللاحقة؛ فعلاقة الإنسان بربّه في سنّ الثلاثين غيرها في سنّ العشرين أو الخامسة عشر، وهي غيرها في سنّ الثامنة عشر؛ حتّى إذا ما وصل عمر الإنسان إلى الستّين، فسوف تكون علاقته بربّه أضعف بكثير من تلك التي كان عليها عندما كان في سنّ السابعة والعشرين أو السادسة والعشرين، وإن كانت هذه العلاقة لا تنقطع بالمرّة، لكنَّ قوة جريان الماء ستضعف؛ لأنّ قُطر الأنبوب الناقل للماء يضيق باستمرار، ولن يكون للماء ضغط التدفّق السابق.
سبب امتلاك الأحداث لاستعداد أكبر للتكامل
ولذا نرى أمير المؤمنين عليه السلام يقول: عليكم بالأحداث۱. فالشابّ أكثر استعدادًا لتلقّي الحقائق من ذلك الذي مضت من عمره السنون؛ لأنَّه يمتلك قلبًا صافيًا لم يتلوّث بأوساخ الدنيا بعد، ولم يتعلّق بالدنيا كما تعلّقت قلوبنا نحن بها. ولقد ذكرت لكم في المجالس السابقة الأسباب التي تجعل الأطفال أقرب إلى التوحيد؛ لأنَّهم لم يتوغّلوا في الدنيا بعد ولم يعرفوا عنها شيئًا، كما أنَّهم لا يعرفون معنى الموت؛ فترى الفتى ذي العشرة أو الإثنتي عشرة سنة يُلقي بنفسه إلى الموت دون أن يُبالي؛ فهذا لا يُعدُّ فضلاً، بل الفضل وحُسن الصنع يتمثّل في قيام الرجل البالغ من العمر الثلاثين أو الأربعين أو الخمسين عامًا بذلك العمل؛ فهو يُقدم عليه مع كامل علمه بالنتائج المترتّبة على ما يقوم به.
قامت ألمانيا النازية في الحرب العالمية الثانية بتشكيل فرقة من الأطفال من سنّ العشرة سنوات؛ فاختاروا الأطفال دون الكبار، لأنَّ الكبار لا يستطيعون القيام بما يقوم به الأطفال في هذا السنّ. وعند هجوم الحلفاء على مدينة برلين وعلى وجه الخصوص عند هجوم القوات الروسيّة، كان هؤلاء الأطفال هم من تصدّى لذلك الهجوم، فكان المسؤولون الألمان يُعطونهم الهدايا ليُفجّروا أنفسهم تحت دبّابات الجيش الغازي، وتمكّنت بذلك هذه الفرقة من الأطفال من ذوي العشرة أو الاثنتي عشرة سنةً من صدّ الهجوم الأوّل للقوّات الروسيّة على برلين؛ فلماذا لم يفعل ذلك الكبار؟ لأنَّ الكبار غير مستعدّين لعمل ذلك، أمّا هذا الطفل، فهو لا يعرف معنى القتل، ولذا تراه يُقدم على ذلك العمل؛ إذ ليس لديه تعلّق بالدنيا، وهو لم يتزوّج بعد حتّى يدفعه حبّه لزوجته وتعلّقه بها إلى الرغبة في البقاء والخوف من الموت، وليس لديه أطفال لكي يحثّه حبّه لأطفاله وقلقه على مستقبل حياتهم على إبعاد نفسه عن مصدر بعض الأخطار، ولا يشعر بوجود نفسه واستقلاله الذاتي لكي يخاف من الموت. وأمّا عندما يكبر، فسيشعر بوجوده وبالحاجة إلى زوجة ويحسب لمستقبل حياته حسابًا، ثمّ يشعر بالحاجة لأن يكون له أطفالاً ومنزلاً وعملاً؛ وهكذا تزداد كثرة تعلّقه بالدنيا. وكذا الأمر بالنسبة للفتاة، فهي تشعر بالحاجة إلى رجل.
إنَّ الطفل يعيش في عالم الوحدة ما دام طفلاً، فهو لا يدرك من هذه الدنيا سوى حاجته إلى أمّه، وهو لا يعرف حتّى أبوه؛ فجميع دنياه وآخرته تتمثّل في هذه الأمّ التي تُرضعه الحليب. وعندما يكبر، يزداد أنسه بأمّه، ثم تبدأ علاقته بأبيه عندما يقوم بحمله ومداعبته، ثمّ يصل الدور إلى إخوته إن كان له إخوة؛ وهكذا تتفرّع تلك العلاقة وتزداد مع حصوله على كرة وألعاب متنوّعة، لكن مع كلّ هذا، فإنّه لا يزال يعيش في عالم الوحدة.
رحمة الله على المرحوم الحدّاد؛ فقد نقل عنه المرحوم الوالد هذه المسألة ولمرّات عديدة ـ ويبدو أنَّني سمعتها منه بصورة مباشرة أيضًا في إحد المرّات ـ فكان يقول: عندما أفكّر أحيانًا باستقلالي الذاتي ونفسي ومكانتي ووجودي في هذا العالم، أرى بأنَّه أقلّ من شعور طفل حديث الولادة بنفسه؛ أي أنَّ هذا الرجل العظيم يكون في وضعٍ روحي وعلاقة تجرّدية [هي أشدّ من تجرّد روح الطفل حديث الولادة]؛ على أنَّ هذا الأمر غير مختصٍّ بالمرحوم الحدّاد وحده، بل هذا هو حال جميع الأولياء الإلهيّين؛ فعندما يصل هؤلاء إلى مرتبة الفناء، لا بدّ لهم من طيّ هذه المرحلة؛ لأنّه لا يمكن لأحدٍ أن يصل إلى الفناء الذاتي بدون طيّها.
فما الذي يفهمه الطفل عن الدنيا والله والرسول والجنّة والآخرة؟ هو لا يفهم غير تلك الأمّ التي تحمله وتُرضعه الحليب. فحينما تنظر إلى الطفل، تشعر بأنَّه لا يمتلك شيئًا، بل هو كالهواء؛ فليس لديه استقلال ولا أنانيّة.. تلك الأنانية التي تُشعره بالاستقلال وعدم السماح للآخرين بلمسه أو الاقتراب منه؛ ولذا، ترى هذا يحتضنه وذاك يحمله، من دون أن يعرف من الذي حمله؛ فهو لا يرى نفسه ولا ينظر إليها، وكلّ ما يعرفه هو أنَّه عندما يجوع، يكون بحاجة إلى من يُرضعه الحليب؛ سواءً كان مصدر الحليب أمّه أو زجاجة الحليب، المهمّ أن يملأ معدته بشيء ما ولله الحمد!! فلا يهمّه أيّ شيء وراء ذلك؛ فهو لا يُدرك وجوده، ولا يعرف شيئًا عن الأمّ أو الأب أو الأخ أو الأخت أو الأقارب، بل كلّ ما يعرفه هو الجوع والشبع ولا غير.
يقول المرحوم الحدّاد: في بعض الحالات، لم أكن أشعر في نفسي حتّى بمقدار ما يشعر به ذلك الطفل! ففي نهاية الأمر، ترى الطفل يبدأ بالبكاء عندما يجوع؛ ممّا يعني أنّه يشعر بحاجته إلى الحليب كحدّ أقلّ... يقول المرحوم الحدّاد: في تلك الظروف، لم أكن أستطيع إيجاد نفسي أبدًا، ولم أكن أعرف من أكون أنا، وأنا ابن من، ومن هي أميّ، ومن هو أخي، ومن هي زوجتي، ومن هم أبنائي.. ذلك هو الوليّ الإلهي الذي تحقّق بجميع المراتب الفعليّة.
وكلمّا يكبر ذلك الطفل، يزداد تعلّقه بالآخرين، ويزداد شعوره بوجود نفسه؛ وهذا الشعور بالوجود هو الذي يمنعه من الانتقال من هذا العالم إلى العالم الآخر؛ فيبدأ بإدراك معنى الموت بشكل تدريجي، غير أنَّ هذا الأمر لم يكن قد استحكم في نفسه بعد، ولم يطغ على جميع شراشر وجوده؛ ولذا، تراه يُسارع بالإمساك بالبندقيّة ويُسرع باتّجاه العدو، من دون أن يهتمّ بما إذا كان ذلك العدوّ متواجدًا على قمّة الجبل أو أسفل الوادي. وأمّا ذلك الذي بلغ من العمر الثلاثين أو أكثر، فتراه يرفض الذهاب إن طُلب منه ذلك، ويحسب للمسألة ألف حساب، ويقول لمن يأمره بالذهاب: ولماذا لا تذهب أنت؟! فنحن سواء، وكلّنا من بني آدم! فيتجادل معه ويرفض الذهاب، بينما ترى ذلك الفتى يذهب لمجرّد أن يُؤمر بذلك. وعندما يكبر ذلك الطفل، تبدأ حالات التعلّق بالدنيا والكثرات بالظهور لديه تدريجيًّا إلى أن يصل إلى مرحلة التكليف، لكن حتّى عند وصوله إلى هذه المرحلة، يكون قد بقي أمامه الكثير، حيث أنّ إدراكه للأمور لم يكن قد اكتمل بعد؛ فهل يكون إدراك الشابّ ذي الخمسة عشر عامًا لتكاليفه وظروفه بنفس الدرجة من إدراك الرجل ذي الثلاثين أو الأربعين عامًا؟ كلاّ، فإدراك الطرفين للظروف وما يحيط بهما من أمور لا يمكن أن يكون متساويًا.
ولذا، نجد أنّ الله تعالى يطلب من الشابّ اليافع استغلال هذه المرحلة والشروع بالسير وعدم تضييع هذه الفرصة؛ فيقول له: عليك العمل بتكاليفك، وإقامة الصلاة؛ فالصلاة أو الصيام الذي تؤدّيه في عمر الخامسة عشر لها من التأثير ما ليس لتلك الصلاة التي ستصلّيها أو الصيام الذي ستصومه عندما تبلغ الأربعين أو الخمسين عامًا! نعم، إن كان المرء سالكًا للطريق ومستمرًّا في هذا المسير، فستوصله أعماله في سنّ الخمسين أو الستّين إلى نفس تلك المرتبة من الفعليّة، خلافًا لذلك الذي أمضى جميع أيّام عمره في الغفلة والتعلّق بالدنيا ـ مع كونه يؤدِّي الصلاة ـ ولسان حاله يقول: لم يُطلب منّا وفقًا للرسائل العمليّة غير إقامة الصلاة والصيام، فقد نهضت صباحًا وصلّيت الركعتين، ثمّ صلّيت أربعة ركعات لصلاة الظهر، ومثلها لصلاة العصر، وصليّت صلاة المغرب والعشاء؛ فما الذي يريده الله منّي أكثر من هذا؟!!
يقول الله تعالى: صحيح أنَّني طلبت منك الصلاة، ولكنَّني لا أقبلها بأيّ نحو كان؛ كأن تقوم بخلع معطفك حال دخولك البيت لتذهب وتتوضّأ وتضع التربة فورًا وتشرع في الصلاة. نعم، أنا لا أعاقبك بإلقائك في جهنّم على ذلك، ولكنَّني في نفس الوقت لا أقبل مثل هذه الصلاة، بل أنا أقبل تلك الصلاة التي تؤدّيها بهذا النحو عند وصولك بيتك: وذلك بأن تخلع لباسك وتستريح، لتقوم زوجتك المجلّلة خلال ذلك بجلب العصير لك؛ هذا إن فعلتْ ذلك؛ لأنّه لم يحصل لي شخصيًّا لحدّ الآن!!! فلم يحصل لي التوفيق بأداء صلاة كهذه لحدّ الآن!!! وعسى أن يحصل ذلك مستقبلاً!!! فتُرحّب زوجتك بقدومك وتلاطفك بقولها: «لقد كنت خارج المنزل، وتحمّلت الكثير من العناء، وأنا ممتنّةٌ لك لذلك» وأشياء أخرى من هذا القبيل! فتمضي بذلك ربع ساعة من الوقت تكون قد استرحت خلالها، ثمّ تستأذن منها لكي تنهض وتصلّي، فتقول لك: حسنًا، انهض لصلاتك وسأقوم خلال ذلك بتهيئة الطعام لك! وهذا الذي أقوله هو ما جاءت به تعاليم الدين الإسلامي، إلاّ أنَّ ذلك يحتاج إلى التوفيق للقيام به، بل التوفيق والحظّ معًا!!! فيذهب الإنسان إلى الغرفة المعدّة للصلاة، حيث يجب أن يكون لكلّ أحد مكانه الخاصّ به للصلاة، لا أن يصلّي في أيّ مكان كان، حيث يكون هنالك جهاز التلفزيون وهو يقوم ببث أنواع الترّهات والموسيقى.. لا يا عزيزي، هذا غير صحيح، حيث ينبغي إطفاء التلفزة؛ لأنّ الموسيقى حرام! ويجب الصلاة في المكان المعدّ لها، حيث يقوم المرء بفرش سجّادة الصلاة التي يجب أن تكون بيضاء اللون، لا من هذا السجّاد الملوّن والمزخرف الذي يعمل على تشتيت ذهن المصلّي، فلا يعلم هل يركّز نظره على التربة أم على النقوش والنسيج. وبين الحين والآخر، يجلب لي الإخوة سجّاد من هذا النوع بعنوان هديّة، وأنا لا أرميها، إلاّ أنّ السجّادة ينبغي أن تكون بيضاء، بحيث لا تصرف انتباه المصلّي إلى هذا الجانب أو ذاك؛ فالألوان المتنوّعة والنقوش المختلفة التي على السجّادة تعمل على تشتيت الذهن؛ فما إن يحصل ذلك حتّى يخسر المصلي كلّ شيء؛ وسيجري الحديث عن هذا الموضوع لاحقًا.
متابعة المسلمين للمسيحيّين في طراز بناء معابدهم
انظروا الآن إلى الفارق بين طريقة العبادة في الإسلام وطريقة العبادة في اليهوديّة والنصرانيّة، وانظروا إلى تلك الكنائس.. هذا مع أنّ مساجدنا قد أصبحت تُضاهي الكنائس ولله الحمد، ولا تنقص عنها في شيء! كما أنّ ثقافتنا قد أصبحت شبيهة بثقافتهم! فعندما تدخل الكنيسة، تنبهر من مقدار ارتفاع السقف؛ إذ يبلغ ارتفاع سقف إحدى الكنائس في ساحل العاج في إفريقيا ستّين مترًا، وقد ذهبت هناك ورأيتها بنفسي، حيث أنّ مؤسّس تلك الكنيسة يتفاخر بكون سقفها أعلى من سقف كنيسة «سان بيتر» في الفاتيكان بأربعة عشر مترًا.. هذه هي الكنيسة المُعدَّة للصلاة!! كما أنَّهم وضعوا هناك صليبًا يبلغ طوله مترين ونصف، وهو مصنوع من الذهب، وقد أعدّوا مكانًا عظيمًا ومرتفعًا للقسّ لكي يقف عليه عند الموعظة والصلاة ولكي يكون متسلّطًا على الحاضرين.. إنَّ هذه الأبّهة تبهر أبصار الحاضرين، وتجعل أنفسهم تخضع تجاه تلك العظمة الفارغة والمزعومة والتافهة والمجازيّة؛ فالهدف هو إعطاء القسّ مكانة مرموقة لكي يظهر بمظهر عالٍ ومقدّس في الوقت الذي يكون فيه الحاضرون في وضعٍ أدنى، وهذا الوضع والترتيب مقصود ومحسوب له الحساب! كما أنَّ الهدف من وضع تلك النقوش والرسوم المنقوشة على الجدران الداخليّة للكنيسة هو إخضاع نفوس الحاضرين والمتفرّجين للعظمة الظاهرية والدنيويّة لذلك الفن؛ فهل هنالك وجود لله في هكذا مكان؟ فها أنتم تعرضون أنواع الفنون للناس، لكن أين هو الله في البين؟ وما الذي يجنيه المتعبِّد في هذا المكان من هذا الارتفاع البالغ ستّين مترًا؟ وما علاقة هذا الارتفاع بالعبادة؟ فلو أنَّكم بنيتم كنيسة بارتفاع ستّمائة متر أو حتّى أكثر من ذلك بحيث يلتصق سقفها بالغيوم، فهل سيعمل هذا على رفع العبادة أكثر؟ وهل سيُفضي إلى تقريب الإنسان من الله بشكل أكبر؟
فما الذي تعكسه هذه التصرّفات؟ إنّها تدلّ على أنّنا لا نملك شيئًا وأنّ أيدينا خالية من الواقعيّة؛ فترانا لأجل ذلك نتوسّل بمثل هذه الأمور، فنزيد من ارتفاع السقف، ونزيد من الزخارف والفنون الدقيقة؛ فهل تتمّ عبادة الله بواسطة هذه الزخارف؟ فتراهم يزيدون من ارتفاع الركائز، ويتفاخرون بكون ارتفاع هذه الكنيسة أكبر بأربعة عشر مترًا من الكنيسة الرئيسيّة حيث مقرّ البابا الأعظم.
ولقد ابتلينا نحن بهذا البلاء أيضًا، حيث قاموا ببناء قبّة لمدرسة دينيّة في إحدى المدن، وقد سمعت ممّن كان يحضر أحد المجالس التي كانت تضمّ القائمين على بناء تلك المدرسة بأنَّهم كانوا يتفاخرون بكون قبّة هذه المدرسة هي أكبر من جميع قباب المدارس العلميّة في العالم؛ فهل يختلف هذا عمّا يفعله أولئك المسيحيّون؟! وهل سيساعد حجم القبّة على نفوذ علوم أهل البيت في ذهنك بشكل أفضل؟! فلأجل أيّ شيء تقوم ببناء هذه القبّة؟ أليس الهدف من بناء المدرسة هو دراسة العلوم الدينيّة؟ ولو فُرض أنّ ارتفاع هذه القبّة أعلى من غيرها بخمسة أمتار، فما الذي سيعمل هذا الارتفاع على تغييره؟ وليكن أعلى بخمسين مترًا، فهل سيساعد ذلك على زيادة فهمك لأحاديث الإمام الباقر والصادق؟ أتلاحظون كيف أنّ أسلوب التفكير واحد! كلّ ما في الأمر هو أنَّنا نسخر من ذلك المسيحي، ولا نسخر من هذا المسلم، لكن ما هو الفرق بين كلتا الحالتين؟!
في أحد الأيّام الصيفيّة على زمان المرحوم العلاّمة رضوان الله عليه، تشرّفت بزيارة مشهد المقدّسة، فجاء أحد علماء قمّ للزيارة، وكان بدوره جالسًا عند المرحوم العلاّمة؛ وهو لا يزال على قيد الحياة، حيث أنّ ذلك كان في عهد حكومة حزب البعث في العراق، فبدأ بالحديث، وأبدى امتعاضه الشديد ممّا قامت به الحكومة العراقيّة من تخريب القبور في مقبرة وادي السلام في النجف وفتح الطرق في وسطها وبناء المساكن مكانها، وكان على وشك البكاء أثناء حديثه. وعندما أنهى حديثه، قال له المرحوم العلاّمة: ألم يقوموا بتخريب القبور في مقبرة «تخت فولاذ» في مدينة أصفهان؟! وكان الرجل أصفهانيّ الأصل، فبُهت! فالمقبرة مقبرة أينما كانت! [ثم أردف قائلاً:] ألم يفتحوا فيها الشوارع؟! ألم يُجروا فيها قنوات للمياه؟! فهل إنَّ المقبرة هي المكان المناسب لفتح قناة ماء وزراعة الأشجار والأزهار؟! وهل إنَّ مقبرة جنّة الزهراء۱هي على النحو الذي أوصى به أئمّة أهل البيت؟ فالمقبرة هي المكان الذي يُقصد لقراءة الفاتحة لأرواح الموتى، وليست المكان المناسب لإقامة الاحتفالات؛ فلا بدَّ وأن يكون الهدف من الذهاب إلى المقبرة هو من أجل إسعاد أرواح الموتى الذين رحلوا عن هذا العالم إلى العالم الآخر والذين هم بأمسّ الحاجة إلينا نحن الأحياء لكي نرسل إليهم الهدايا؛ على أنَّ تلك الهدايا ليست من قبيل باقات الزهور التي توضع على نعش الميّت أو قرب جنازته، حيث أنّ جميع تلك الأعمال جاءتنا من الغرب وتعتبر مخالفة للشرع! فلا يجب وضع باقات الزهور على الجنائز، بل يجب حمل الجنازة بصورة عادية ولا يُنادى عليها إلاّ بلا إله إلاّ الله، وكلّ ما يقوم به الناس من الحديث عن مكانة المتوفّى وتاريخ حياته، ووضعه في تابوت من نوع خاصّ، ووضع إكليل من الزهور عليه، ممّا لا وجود له في الإسلام.
الانحرافات التي تشوب مسألة تشييع الجنائز
فما يجب عمله أثناء تشييع الجنازة هو المناداة عليها بـ (لا إله إلاّ الله محمّد رسول الله) ولا غير! ثم يجب الاعتبار بهذا الميّت الذي فارق الحياة والذي يؤخذ الآن ليُوارى الثرى.. هذه هي تعاليم الدين الإسلامي فيما يتعلّق بالتشييع! كما يجب على المشيِّعين المشي وراء الجنازة لا أمامها؛ فالمشي أمام الجنازة مكروه كراهيّة شديدة؛ وما أصبح متعارف عليه اليوم من مشي أقارب المتوفّى أمام الجنازة هو مخالف للسنّة النبوية، بل يستحبّ التربيع؛ وهو حمل الجنازة من الطرف الأمامي الأيمن ثم من طرفها الأيسر ثمّ من الطرفين الأخريين، كما يسير بقيّة المشيِّعين خلف الجنازة. وجميع ما يقوم به الناس من زراعة الأشجار في المقابر ووضع باقات الزهور على القبور هو مخالف للشرع، كما أنَّه ليس من السنّة أن يُقام مجلس باسم ذكرى الوفاة، بل ينبغي أن يُقام مجلس للترحيم؛ والذي هو عبارة عن طلب الرحمة والمغفرة للمتوفّى وقراءة سور: الفاتحة، الإخلاص والقدر. وعلى الأخلاف التفكير فيما يحتاج إليه الميّت بعد انتقاله عن الدنيا؛ فهل هو بحاجة إلى الزهور وزراعة أشجار السرو والسدر؟ أم أنَّه بحاجة الآن إلى أن نقرأ له سورة الفاتحة والإخلاص وآيات من القرآن وإهداء الصلاة إليه؟
ولو ذهبتم إلى مقبرة وادي السلام في النجف ـ أسأل الله أن يمنَّ عليكم بزيارة العتبات المقدّسة، فتذهبوا هناك وتشاهدوا بأنفسكم ـ فستعرفون حينها هل إنَّ زيارة مقبرة وادي السلام تُذكِّر المرء بالموت أم زيارة مقبرة جنَّة الزهراء، وهل إنَّ الأولى تُذكِّر الإنسان بالآخرة وتعمل على إيجاد تغيير في حياته وتوجِّه إليه ضربة تنبيه بالمطرقة على رأسه، أم التفرّج على الورود والرياحين وما عملت على إيجاده المؤسّسات المختلفة من عمران وتجميل للمكان؛ وكأنَّ ذلك الميّت المسكين بحاجة إلى تلك الأشجار والحدائق!
قال المرحوم العلاّمة: ألم يقوموا بتخريب مقبرة تخت فولاذ إصفهان؟ ألم يُدفن في تلك المقبرة العظماء والأولياء؟ وفي كلّ مرة كان المرحوم العلاّمة يذهب فيها إلى إصفهان ـ فقد زار سماحته إصفهان لمرّتين أو ثلاث وربّما لأربعة مرّات ـ كان يزور تلك المقبرة، كما كان يُوصينا بزيارتها عند ذهابنا إلى هناك؛ فالمرحوم المير فندرسكي والمرحوم البيدآبادي والمرحوم الآخوند الكاشي والمرحوم جهانكيرخان القشقائي والذين هم من الفقهاء الصالحين العظام ومن أولياء الله قد دُفنوا هناك، حيث يشعر الإنسان حقًّا بحصول تغيِّر في حاله عند الذهاب إلى هذه المقبرة التي لها خصوصيتها الخاصّة بها.
قال المرحوم العلاّمة: وما الفرق بين كلتا الحالتين، سوى أنَّنا نسخط من تلك الحالة لأنَّها تمّت بواسطة حكومة البعث العراقية! فإن كان الأمر يتعلّق بتخريب المقابر وفتح الطرق فيها، فما هو الفرق بين حصول ذلك هنا أو هناك؟! فيجب علينا النظر إلى أصل القضية، لا إلى الظواهر والخصوصيّات الخادعة.
خصائص المسجد الذي يُقرّب من الله تعالى
هذا فيما يخصّ هذه المسألة، لكن ماذا عن الإسلام؟ فحينما أتى رسول الله وبنى مسجدًا، هل كان ارتفاع سقفه ستّين مترًا؟ وهل كان مزخرفًا بأنواع الزخارف والنحت والمرايا؟ وعلى حدّ قول البعض: يتمّ التقدّم في البناء مليمترًا مليمترًا! فهل كان مسجد الرسول على هذا النحو، أم أنَّه كان عبارة عن أربعة جدران فقط؟ وعندما طلب المسملون من رسول الله بناء سقف، أمر بأن يكون السقف من الحصير وتتمّ معالجته لمنع نزول ماء المطر، كما أمر بألاّ يزيد ارتفاع الجدران عن ارتفاع أكتاف المصلِّين ورؤوسهم.
فتلك الكنيسة تدعو الناس لعبادة الله بذلك الشكل، وهذا المسجد الذي بناه رسول الله يدعو الناس لعبادته بهذه الكيفيّة؛ ففي أيّ المكانين نرى أنفسنا أقرب إلى الله؟ إنّ الله تعالى لا وجود له في المكان الأوّل، وكلّ ما تتمّ مشاهدته هناك هو عبارة عن رسوم وتماثيل ولا غير! فتلك الرسوم الدقيقة قد بُذل جهد كبير في إنجازها، وتمّت بواسطة فنّانين بارعين، حيث تَطَلّب إنجازُ نحت تمثال السيِّدة مريم الموجود هناك سبعة وعشرين عامًا! وذلك التمثال من الجودة والدقّة بحيث يُقال بعدم وجود نظير له فنّيًا في جميع أنحاء العالم، وأنَّه لا يُقدَّر بثمن، لكن ما الذي يقدّمه ذلك للإنسان؟ وما علاقته به؟ وهل يقرّبه ذلك إلى الله؟ كما قاموا بنحت تمثال للسيِّدة مريم والسيِّد المسيح وهو عاري؛ فهل ينمّ ذلك عن الاحترام للسيد المسيح؟ وهل يعتبر ذلك رفعًا لمقام عيسى، أم إهانة له؟
فذلك هو المسجد، لا مسجد المدينة الفعلي بما فيه اليوم من العمارة والزخارف؛ على أنَّنا يجب ألا نخلط بين الأمور؛ فمراعاة المسائل الصحّية والأمنيّة والرفاهيّة يعتبر من أوجب الواجبات، بل المذموم هو الاهتمام بالنقوش والزخارف، حيث يجب الفصل بين الأمرين. فلا بدّ من توفير أجهزة تكييف الهواء، بل ينبغي جلب أفضل الأجهزة للمساجد، ويُفترض أن تكون المساجد أنظف من أيّ مكان آخر وهذا ممّا لا يمكن وللأسف الشديد مشاهدته؛ لأنّ المصلِّي الذي يقصد المسجد للصلاة يجب أن يشعر بالراحة هناك بحيث يستطيع إطالة صلاته ويزداد حضور قلبه فيها، لا أن يقوم بعدِّ اللحظات للخروج من المسجد بسبب عدم رعاية المتواجدين هناك لمسألة النظافة.
إنَّ المسجد الذي يُقرِّب المصلِّي إلى ربّه هو ذلك المسجد الذي يعمل على عدم تشتيت فكر المصلّي وذهنه وخياله عن التوجِّه إلى الله.. انظروا إلى مساجدنا، تجدون الجدران مغطّاة بالصور والآيات والأشعار واللوحات بالشكل الذي يلفت انتباه الداخل إلى المسجد ويشغله بالتفرّج على هذه اللوحات وقراءتها الواحدة تلو الأخرى! كلّ هذا مخالف للتعاليم الدينيّة، حيث ينبغي أن يكون جدار المسجد أبيضًا وخاليًا من كلّ شيء، إلاّ من الآيات القرآنيّة أو بعض الأحاديث المنقولة عن المعصومين؛ فهذا ممّا لا بأس به، بخلاف ما يُشاهد من وجود لوحات كبيرة تتضمّن تفاصيل صلاة الغفيلة، أو تلك المصابيح التي تُشير إلى الركعة التي فيها إمام الجماعة؛ ولقد كنَّا نصلّي في المسجد على عهد والدنا، ولم يكن لتلك اللوحات أو المصابيح وجود في المسجد؛ فهل سيكون تركيز المصلّي والحال هذه موجّهًا إلى التربة، أو إلى المصباح؟! فكلّ ما يُشاهد في المساجد اليوم من إنارة مصباح يُشير إلى الركعة التي فيها الإمام هو مخالف للتعاليم الشرعيّة، ولا بدَّ من إزالتها؛ لأنّ عين المصلِّي يجب أن تتركّز على التربة، ولا ينبغي أن يكون هنالك شيء يصرف ذهنه عن التوجِّه نحو المعبود... يا عزيزي، إنّ هناك فرق بين المسجد وبين حفل الزفاف و المسرح والمعرض وأماكن اللهو واللعب على سبيل المثال، غير أنّا عملنا نحن على جلب هذه الأمور إلى محيط المسجد لكن بشكل آخر!
ولقد أوصى رسول الله بأن يكون المسجد خالٍ من البهرجة والزينة، حيث ينبغي ألاّ تكون إنارته بالشكل الذي يلفت النظر، بل يجب أن تكون الإنارة بالحدّ المطلوب؛ لا بالشديدة ولا الضعيفة، وأن تكون باعثة على السرور والبهجة، كما ينبغي إزالة الصور وغيرها من على جدران المساجد؛ فجميع هذه الصور التي ينسبونها للإمام علي والإمام الحسين هي زائفة ولا أساس لها من الصحّة ولا واقعيّة لها، بل هي من بنات أفكار الرسامين وخيالاتهم! فما هو الوجه في شرعيّة هذه الصور؟ ومتى كانت صورة أمير المؤمنين أو الإمام الحسين بهذا الشكل؟! إنَّ وضع الصور في المساجد هو من أشدَّ المكروهات؛ وهذا ممّا أصبح وللأسف رائجًا هذه الأيام! كما ويضعون اللوحات والأعلام، في الوقت الذي كان بإمكانهم وضعها خارج المسجد، حيث من الممكن أن توضع الأشياء الضروريّة في صحن المسجد أو أيّ مكان آخر، وأمّا الفضاء الداخلي للمسجد [فهو ليس محلّ لوضع هذه الأشياء].
{إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الآخِرِ}۱ فعمران المساجد هو بالصلاة الصحيحة فيها، وأداء الصلاة في أوّل وقتها، والتأذين للصلاة فيها، والذي يجب أن يكون بمستوى مناسبٍ من الصوت ، لا بواسطة مكبّرات الصوت التي يصل الصوت بواسطتها إلى عاشر حيٍّ في المنطقة، فتصكّ الآذان، ويتأذّى منها المرضى، وقد يصاب أحدهم بالسكتة من جرّائها. فالأذان بهذا الشكل حرام، ويجب ألاّ يصل صوت الخطيب الذي يتحدّث داخل المسجد إلى خارجه، حيث إنّ التسبّب في الأذى والحرج للمرضى حرام شرعًا، ويجب ألاّ يتجاوز مستوى صوت المكبّر الذي يوضع في المسجد حدود ذلك المسجد، ولا يكون بالمستوى الذي يصمّ الآذان. فترى بعض الخطباء يُقرِّب فمه من لاقط الصوت، بحيث يكون ارتفاع الصوت بالمستوى الذي يكاد أن يتهدّم له جدار المسجد! فلم يعُد ذلك المجلس مجلس للعزاء، بل أصبح ... . يجب أن يكون جيران المسجد في مأمن ممّا قد تتسبّب به النشاطات التي تجري في ذلك المسجد، وينبغي أن تكون بالشكل الذي لا تجعلهم يتضوّرون ممّا يجري فيه، ممّا يدفعهم للعن المتسبّب في ذلك؛ إذ سينعكس هذا اللعن على الجوِّ الملكوتي والصور المثاليّة للمسجد ويترك أثره السيّئ عليها.
يحصل أن يذهب أحدنا إلى المسجد فلا يلحظ وجود آثار معنويّة فيه! فلِمَ يحصل ذلك؟ إنَّ السبب في يعود إلى اللعن الصادر عن ذلك المريض المجاور للمسجد، فهو يقول: أنتم تؤذونني الآن بعملكم هذا! وحتّى وإن كان هذا الرجل يهوديًّا أو نصرانيًّا، فهو إنسان على أيّة حال.
فكلّ هذا الذي يحصل إنّما يحصل بسبب الاهتمام بهذه المسائل الظاهرية، وذلك لكي يُقال بأنَّ فلانًا قد بنى مسجدًا؛ فإن قام أحدهم ببناء مسجد بالقرب من ساحة الشهداء هذه على سبيل المثال، تراه يرفع الصوت بجيث يصل إلى الساحة الأخرى لكي يُعلِم الآخرين بوجوده؛ فالعامل الأساسي الكامن وراء بناء هذا المسجد ومنذ بداية الأمر لم يكن جلب رضا الله، بل للإعلان عن النفس؛ فيريد أن يقول بعمله هذا: أنا الذي بنيت هذا المسجد، وعلى الآخرين هجر المسجد المجاور والقدوم نحو هذا المسجد لكي يمتلئ بالمصلّين!
تذكّرت الآن إحدى الحكايات؛ ففي زمان المرحوم العلاّمة، تمّت إقامة مجلس للعزاء في إحدى ليالي السبت من شهر محرّم أو صفر في مسجد القائم، وكان عدد من يحضر هذه المجالس قليلاً عادةً، لكون معظم سكنة المنطقة هم من الكسبة؛ فكان عدد من يحضر للاستماع إلى موعظة الخطيب لا يتجاوز الخمسين، كما لا يتجاوز من يبقى منهم لحضور مراسم العزاء العشرين أو الثلاثين شخصًا، وقد يصل العدد أحيانًا إلى سبعة أو عشرة أشخاص. فبينما المجلس منعقد ولم يصل الدور إلى القارئ بعد، دخل أحد المجاورين للمسجد وكان من العاملين في الدوائر الحكوميّة في عهد النظام الملكي السابق، فطلب من أحد المتصدّين لإدارة المسجد أن يدعو الحاضرين للانتقال إلى منزله حيث يُقام مجلس للعزاء هناك، فقال له: ولماذا عليّ أن أطلب منهم ذلك؟ قال: لأنَّني دعوت أحد الخطباء البارزين ـ لا أذكر اسمه ـ لإقامة مجلس في منزلي، ولا يوجد لدينا الكثير من المستمعين. فقال له الرجل: ولكنَّ عدد الحاضرين لدينا قليل كذلك ونحن نريد المزيد منهم أيضًا، فكيف تطلب منِّي ذلك؟ لقد كان هذا الرجل ـ رحمه الله ـ رجلاً بسيطًا بالطبع، وكان مؤذِّن المسجد، يُسمّى «مش ميرزا»، ولعلّ الإخوة الذين عاشوا تلك المرحلة يتذكّرونه. فارتفعت أصواتهم في باحة المسجد، فخرجت وكان سنِّي بحدود العشرة أو الاثنتي عشرة سنة، ووجدت المعركة قد اندلعت بينهما، فذاك يقول: على حاضري المسجد الانتقال إلى بيتنا لكي يمتلئ بالحاضرين، فقلّة عدد الحاضرين يضرّ بسمعتنا، وهذا يقول: إنَّ عدد الحاضرين لدينا قليل، ونحن بحاجة إلى المزيد منهم؛ فهذا رجل بسيط ولا يُلام على تصرّفه هذا، ولكن ماذا عن ذلك الرجل على ما كان عليه من مكانة اجتماعيّة؟!
إن كان الهدف من إقامة المجلس هو العزاء على الإمام الحسين، فما الذي يعنيه عدد الحاضرين لك؟ فمن شاء فليحضر، ومن لم يشأ فلا يحضر! فما دمت قد دعوت فلانًا من الناس، فلا بدّ وأن يحضر مائة شخص ويمتلئ بيتك بالحاضرين لكي تحرز رضا الخطيب، وتكون قد أدّيت واجبك تجاهه! فإن لم يمتلئ، فستطأطئ رأسك خجلاً؛ ألسنا الآن على هذه الشاكلة أيضًا؟ أليست الشعائر الدينيّة التي نقيمها على هذا النحو؟ ألا ننظر نحن أيضًا إلى كثرة الحاضرين؟ أم أنَّ همنا هو تحصيل رضا الله؟
قلت لكم سابقًا بأنَّ والدي عندما كان يُصلّي في المسجد، كان عدد المأمومين في صلاة الظهر اثنين فقط، وكان المأمومون يطلبون منه تأخير وقت الصلاة، فكان يقول: أنا أصلّي الصلاة لوقتها، فمن شاء أن يأتمّ فليحضر مبكّرًا؛ فكان يشرع في أداء صلاة الظهر باثنين من المأمومين، أمّا في صلاة العصر، فكان عدد المأمومين يبلغ العشرين، الثلاثين أو الأربعين مأمومًا؛ فالفرق بيننا وبينه هو أنَّه يضع الله نصب عينيه في جميع الأحوال، أمّا نحن فنجعل الأمور الدنيويّة وكثرة التابعين نصب أعيننا.
وجوب تحصيل الاستطاعة في الحجّ
يقول الله تعالى: إن كنت تريد السير، فلا بدّ وأن يكون ذلك وفقًا لبرنامج معيّن؛ فيجب أن تكون صلاتك وفقًا للبرنامج والدستور، وعلى الطريقة التي بيّنتها لكم آنفًا، والتي أسأل الله أن يمنّ علينا جميعًا بتحقيقها!!! ويجب أن يكون الصوم لله وحده، وألاّ يكون لأيّ أمر آخر دخلٌ في هذا الموضوع، وسنتحدّث عن ذلك لاحقًا. وكذلك الأمر فيما يتعلّق بالحجّ؛ فعليك التحضير لابنك حتّى يتمكّن من أداء فريضة الحجّ حال وصوله إلى سنَّ البلوغ، فالحجّ يجب على المكلّف منذ سنَّ البلوغ؛ أي عند سنَّ الخامسة عشر، لا عندما يبلغ السبعين من العمر؛ فعلى الإنسان السعي لتهيئة مستلزمات الاستطاعة، غير أنَّ هذا لا يعني أن يُرهق الإنسان نفسه بهذا المجال، بل يعني ذلك أنَّ عليه الاقتصاد في الموارد غير الضروريّة وتجنّب الإسراف، وعليه تحصيل الاستطاعة لابنه ولو بعد أربع أو خمس سنوات من بلوغه سنّ التكليف؛ فتحصيل الاستطاعة واجب شرعي، والحجّ غير متوقّف على الاستطاعة، بالشكل الذي يصبح فيه واجبًا متى ما حصلت الاستطاعة. فمع أنَّ الاستطاعة شرط للحجّ، إلاّ أنَّ تحصيل الاستطاعة هو واجب بحدّ ذاته؛ فعلى المرء السعي بنفسه لتحصيل الاستطاعة سواءً استغرق ذلك الأمر سنة واحدة، أو ثلاثين سنة.. فعلى المرء العمل بموجب التكليف الملقى على عاتقه.
فكلّ ما سبق ذكره يجب أن يُنجز بموجب ما تمّت التوصية به، حيث ينبغي أن يكون لدى المصلّي حضور قلب في صلاته، وعليه تطبيق جميع الشروط المطلوبة لأداء الأعمال، كما لا ينبغي له الإنصات إلى ما يصدر عن الآخرين، ويتحتّم عليه في حياته متابعة ما يمليه عليه العقل والعلم؛ فكلّ هذه هي برامج ودساتير لا بدَّ من رعايتها، وهذا هو ما يُطلق عليه اسم الرياضة.
المفهوم الحقيقي للرياضة التي تفضي للتكامل
فالرياضة لا تعني الامتناع عن تناول الطعام، ولاترك تناول الطعام من مصدر حيواني ـ على أنَّنا سنتحدَّث عن هذا الموضوع لاحقًا ـ ،كما لا تعني الرياضةُ الاعتزال عن المجتمع، ولا ترك العمل؛ فتلك هي التهم التي يوجّهها إلى طريقة العرفان وينشرها بين الناس من لا يعرف الله ولا يخافه، بل الرياضة هي الالتزام بالتكاليف الشرعيّة بالشكل الذي وردت فيه عن الإمام عليه السلام؛ فالصلاة والصيام والحجّ يجب أن تؤدَّى وفقًا للكيفيّة والتعليمات الصادرة عن الإمام عليه السلام.. فتلك هي الرياضة.
تشرّفت لأداء فريضة الحجّ قبل عامين، حيث من المستحبّ استحبابًا أكيدًا أن يبقى الحاجّ في لباس الإحرام بين العمرة و الحجّ؛ فينتقل بواسطة هذا العمل الحالُ الذي كان عليه الحاجّ حين الإحرام إلى مرحلة الحجّ ويترك أثره عليه. فكنت وبقيّة الإخوة في لباس الإحرام، ونحن بطبيعة الحال لم نكن محرمين، بل كنَّا نلبس فقط لباس الإحرام؛ فبدأنا نسمع اللغط من هنا وهناك، وأنّ هذا العمل بدعة.. يا للعجب! كيف أصبحت المستحبّات الشرعية بدعة؟! وانظر كيف يُسمّي هؤلاء الجهلة والمهملين في دراستهم والذين يتصدّون لمسؤوليّة إرشاد الحجاج تلك السنّة الشرعيّة المؤكّدة بدعة! وقد جاءني أحدهم مبعوثًا من قبل ذلك المتصدّي، فقلت له: قل لذلك السيّد أنّه عليه إتقان دروسك العلميّة جيدًا أوّلاً، ثم تتصدّى بعد ذلك لمسؤوليّة إرشاد الحجّاج. نعم، قد لا يلتزم أحدهم بهذه السنّة، ولا إشكال في ذلك، لكن لماذا نُشكل على من يريد الالتزام بها؟ فمن المستحبّ بقاء الحاجّ في لباس الإحرام بين العمرة والحجّ، وعليك مطالعة الكتب الفقهيّة قبل اعتبار ذلك العمل بدعة؛ لأنّ هذا الكلام صادر عن الإمام عليه السلام، وليس كلامي الشخصي.
على المسلم أداء الحجّ وفقًا لما أوصى به الإمام عليه السلام، لا طبقًا لما يقوله أنا وأمثالي، والمبنيّ على أفكارنا وتخيّلاتنا، وكذا الأمر بالنسبة إلى الخمس والزكاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حيث ينبغي أن يكون من يأمر بالمعروف على اطّلاع كافٍ بمسائل الحلال والحرام وفهم وافٍ بالمواضيع والأحداث المختلفة، لا أن يقوم أيّ من الناس بإبداء وجهات نظره؛ فمن تكون أنت؟ وما هو مقدار إدراكك للأمور؟ فأنت من الجهل بحيث تعجز عن إجابة ما يُوجّه إليك من أسئلة! فعلى كلّ أحد أن يعرف قدر نفسه ولا يتجاوز حدوده.
فكلّ من عمل وفقًا للشريعة المقدّسة التي وصلتنا على لسان الأئمّة عليهم السلام فقط ـ لا ما يُنقل عن المدّعين ـ والمثبت في الأحاديث وكتب الروايات والأخلاق، سيصل إلى المقصد المطلوب والفعليّة المطلقة.. هذا هو المراد من الرياضة؛ وسيتم التحدّث إن شاء الله عن الرياضة بشكل أوسع ممّا جاء في الرواية عن الإمام الصادق عليه السلام، وإن كانت بقيّة فقرات الرواية لا تخلو من إشارات لهذا الموضوع، إلاّ أنّنا سنتحدّث عنه بشكل أوسع في مجالات الطعام والمعاشرة وتحصيل العلم والمعاملات الشخصيّة والاجتماعيّة، ووفقًا لما وصل إلينا عن طريق المعصومين عليهم السلام. فالذي يلتزم بهذه الأمور يُسمى مُرتاضًا، حيث قد يُقلِّل هذا المرتاض من مقدار طعامه في فترة زمنيّة وقد يزيد منه في فترة أخرى اعتمادًا على ما يقتضيه حاله في تلك الفترات؛ نعم، فالإنسان صحيح المزاج يستطيع تناول الكثير من الأطعمة ممّا لا يستطيع المريض تناولها، كما تتفاوت حاجة الإنسان للطعام من وقت لآخر، حيث تراه يستطيع تناول الوجبات الدسمة والغنيّة بالمواد البروتينيّة في وجبة الغداء، بينما تجده لا يشتهي مثل هذه الأطعمة في وجبة العشاء، فتقتصر وجبة عشائه على طعام بسيط كالخبز والخضروات أو الجبن، أو قد لا يأكل شيئًا ويكتفي بتفّاحة واحدة؛ لأنَّه إن كرّر تناول الطعام الدسم في وجبة العشاء أيضًا أو تناول ما هو أدسم منه، فلن تستطيع معدته هضم ذلك الطعام، وسيتبدّل في كبده إلى سمّ يُدمّر خلايا جسمه ويُعرِّض سلامته للخطر.
يقول العظماء: عليك مراعاة حالك وروحك ونشاطك في اختيار نوع الطعام الذي تتناوله؛ وهذا ما ذكره الإمام الصادق عليه السلام في هذه الرواية، حيث يقول: لا تأكل ما لم تشعر بالحاجة إلى تناول الطعام. فهذه هي الرياضة التي قال عنها الإمام الصادق: أمَّا اللَوَاتِي في الرِّيَاضَةِ: فَإيَّاكَ أنْ تَأكُلَ مَا لاَ تَشْتَهِيهِ. فأوّل تلك الأمور الثلاثة التي في الرياضة هي عدم الأكل إلاّ عند الحاجة؛ إذ إنّ عبارة: «ما لا تشتهيه» تعني: ما لم تشعر بالحاجة إلى الطعام؛ وهذا ما أكَّد عليه الحكماء والأطبّاء قديمًا وحديثًا، بل هذا هو ما تقتضيه القاعدة العقلائيّة.
وبناءً على هذا، فإنّ الرياضة ليست بتلك الكيفيّة التي تمّ تصويرها من قبل البعض للآخرين، بحيث يعزل من يريد السير في الطريق إلى الله نفسَه عن المجتمع والحياة اليوميّة ويحرم نفسه من الكثير من نِعم الله، بل على العكس من ذلك، يجب الاهتمام بكلّ ما هو مفيد للروح والنفس والصحّة؛ وكم كان المرحوم الحدّاد رضوان الله عليه يؤكّد عليّ شخصيًّا بضرورة الاهتمام بموضوع الطعام! حيث كانت لي تصورّاتي الخاصّة عن هذه المسألة، وكان يقول: عليك أن تتصرّف بالشكل الذي لا تكون فيه حاملاً لبدنك عندما يتقدّم بك العمر، بل يكون جسمك هو الحامل لك؛ فكم هو من كلام حكيم ومنطقي وعقلائي هذا الذي صدر عن ذلك العارف الإلهي! فمعنى كلامه هو: إن فرطّت في مقدار طعامك وما يحتاج إليه بدنك من مواد غذائيّة، فستمرض وتُمضي معظم وقتك في مراجعة هذا الطبيب وذاك، والتردّد بين هذا المختبر وذاك، وتضييع عمرك في التقاط الصور الشعاعيّة وما شابه ذاك؛ فتصبح بذلك حمّالاً للبدن! فهذا البدن الذي جعله الله تعالى وسيلة لنيل الأمور المعنويّة والعلوم والتكامل والرقيّ وإنجاز المسائل الاجتماعيّة المختلفة سيتحوّل إلى حمل ثقيل عليك، حيث تبدأ في نقله من هذه العيادة إلى تلك، وتقضي الساعات في الوقوف في الطابور انتظارًا لوصول الدور إليك؛ فهذا هو مصداق لعبارة الحمّال.. أفهل تُطلق هذه العبارة على ذلك الذي يحمل كيس الأرزّ فقط؟!
فتُصبح والحال هذه تحت تسخير هذا البدن؛ فها هو يجرّك من هذا الجانب إلى ذاك؛ فإن لم تستجب، ستبدأ أعضاء بدنك بالشكوى الواحدة تلو الأخرى، ابتداءً من القلب إلى الكبد ثم الصفراء؛ فإن اشتكى عضو، فلا يمكن إهمال شكواه، بل لا بدّ من حلّ المشكلة التي يُعاني منها، وسواءً كان ذلك بواسطة إجراء عمليّة جراحيّة أو غيرها.
لقد كان من الممكن تلافي ذلك منذ البداية، وذلك بالعمل وفقًا لما أوصى به الإمام الصادق عليه السلام، وعدم تجاوز ما يحتاج إليه جسمك من الطعام، والاستماع إلى نصيحة الأطباء في الامتناع عن الأطعمة التي نصحوا بعدم تناولها، وعدم تحميل معدتك فوق طاقتها؛ فللمعدة حجم محدود، فلا تأكل من الطعام تلك الكمّية التي تعمل على تمدّد حجم المعدة عن حجمها الطبيعي، الأمر الذي يؤدِّي إلى الضغط على الحجاب الحاجز والقلب، وبذلك تبدأ المشاكل، بل عليك تناول كمّية من الطعام تتناسب مع حجم معدتك، بل أقلّ من ذلك لكي لا تتحمّل المعدة جهدًا إضافيًّا، وتستطيع إفراز العصارات الهاضمة بالتزامن مع ورود الطعام إليها، وتتمكّن بذلك من هضم الطعام في وقته المحدّد؛ فإن فعلتَ ذلك، فستشعر بالنشاط في نفسك عند أداء عباداتك، وأمّا إن كانت المعدة ممتلئة بالطعام وقمت إلى الصلاة وأنت بهذا الحال، فلا نفع في هكذا صلاة!
سألني الإخوة عن كيفيّة تناول الطعام أثناء الصيام، فقلت لهم: ينبغي أن يكون الطعام الذي يتناوله الصائم في السحور بحيث تنتهي المعدة من هضمه قبل حلول الظهر من اليوم التالي، وذلك لكي يشعر الصائم بالجوع في فترة ما بعد الظهر، لا أن يكون الطعام الذي يتناوله في وجبة السحور بالشكل الذي يحتاج فيه إلى تناول العقاقير عند الغروب من أجل إتمام هضم ما تمّ تناوله في تلك الوجبة، حيث لم يعد ذلك صيامًا؛ فما الذي سيدركه ذلك الصائم من الصيام؟ وأيّ حالٍ معنوي سيبقى له مع هكذا صيام؟
فعلى الإنسان مراعاة حالة الاعتدال في تناول الطعام، على أنَّنا لم نكن بصدد الحديث عن موضوع الطعام، وقد تطرّقنا إليه هنا من باب المثال؛ فهنالك أمور أخرى وفي مجالات مختلفة يُمكن أن تكون مصاديق عمليّة واجتماعيّة وشخصيّة لتبيين معنى الرياضة التي أشار إليها الإمام عليه السلام؛ وهي تعمل على جعل الإنسان يسير في ذلك الطريق نحو الواقع إذا ما قام برعايتها.
فالرياضة بشكل مختصر هي عبارة عن مخالفة هوى النفس.. هذه هي الرياضة؛ فإذا أمرت النفسُ الإنسانَ بالإكثار من تناول الطعام، فعليه مخالفتها والتقليل من الطعام؛ وإذا أمرته بالقيام بالعمل الفلاني، وهو يرى بأنَّه من غير الصحيح القيام به، فعليه أن يخالفها.. وهذا ليس بالعمل الشاقّ جدًّا! وإذا أمرته بإلصاق كذا تهمة بصديقه، أو أن يكذب كذا كذبة لكي يقبله الآخرون بين صفوفهم، فعليه أن يُجيبها بأنَّ الكذب حرام، وهو مخالف للشريعة الإسلاميّة، ولا يجوز القيام به بحقّ اليهودي أو النصراني أو أيّ مسلم آخر؛ فكيف إن كان الأمر يتعلّق بواحد من شيعة أمير المؤمنين؟ فيا للهول إذًا! فيمتنع عن الكذب والمكر والنفاق؛ فتلك هي الرياضة. أو أن يتمّ إغراء الإنسان بمنحه المنصب الفلاني مقابل قيامه بعمل حرام؛ فترى الله والإمام والعقل والوجدان يحكمون بعدم قبول مثل هذا الأمر، فعدم الاستجابة لذلك الإغراء هو من أنواع الرياضة. فالرياضة ليست هي ذلك المفهوم الذي أُلقي علينا، بل الرياضة هي عبارة عن جميع الأعمال التي تخالف هوى النفس وتوافق رضا الله؛ فانظروا كم هو من أمر مريح للنفس! وحقيقةً، عندما يتعرّض أحدنا لموقف ما، وينطق بالصدق بدلاً عن الكذب، ألا يشعر بالسعادة أكثر؟ فكم نكون تعساء ومساكين حين نُضحّي بهدوئنا وراحة بالنا عندما نكذب ونبقى خائفين من أن يُفتضح أمرنا في يوم من الأيّام.. لقد كان علينا ألاّ نكذب منذ البداية لئلاّ نضطرّ للسعي جاهدين وراء سدّ هذه الثغرة أو الخوف من انفتاق تلك؛ فكم هو جميل أن يكون الإنسان صادقًا، ليكون مرتاح البال ولا يحتاج إلى تناول الأقراص المهدّئة ليلاً، ولكي لا يرى الكوابيس في منامه، ولكي لا يكون مجبورًا على إضافة المئات من الأكاذيب الواحدة تلو الأخرى من أجل ترقيع موقفه الحاصل عن تلك الكذبة؛ فهكذا تجري الأمور، فعندما يكذب أحدهم، يرى نفسه مضطرًّا لإدامة مسلسل أكاذيبه.. لقد كان بإمكانه تفادي جميع ما حصل، وذلك بأن يكون صادقًا منذ البداية، وألاّ يعمل إلاّ بما أمر الله به؛ فسيكون بذلك مرفوع الرأس أينما ذهب. فعندما يدَّعي المرء لنفسه مقامًا ليس له، ويأتي الآخرون للتحقّق من الأمر، سيكون مضطرًّا لأن يكذب كذبة أخرى؛ فكم كان مناسبًا أن يقول المرء الحقّ ولا يدّعي ما ليس له، وهذا ما أفعله أنا دائمًا.
فبعد ارتحال المرحوم العلاّمة، وقعت الكثير من الأحداث ـ والأصدقاء مطّلعون على ما جرى ـ فقد جاءني بعضهم وقالوا: ما دمت تقول بعدم وجود وصيّ للمرحوم العلاّمة، فهل أنت الوصيّ؟ قلت لهم: لا، لست بوصيّ، فقالوا: فماذا أنت إذن؟ قلت: لا شيء، فبما أنَّني لست بوصيّ، فها أنا ذا أقول: أنا لست بوصيّ ولا خليفة ولا أيّ شيء من هذا القبيل؛ وها أنا أقولها الآن وبرأس مرفوع!
لقد كان بإمكاني أن أكذب وأقول: نعم أنا الوصيّ، وقد قال لي المرحوم العلاّمة في السرّ: أنت وصيّي، ولكن عليك ألا تُفصح بذلك إلاّ بعد موتي؛ فستكون هذه هي الكذبة الأولى. وعندما يأتي آخر للسؤال، فسأكذب كذبة أخرى وأقول: نعم، لقد كان المرحوم الوالد قد كتب لي وصيّة، إلاّ أنَّني أضعت تلك الورقة، وسأبحث عنها، فتُصبح كذبة ثانية! ثمّ يأتي الثالث فأقول له: نعم، لقد أخبرني بذلك في المنام أيضًا؛ وهكذا سيتراكم الكذب بعضه فوق البعض الآخر، وسأكون مضطرًّا لأن أكذب ألف كذبة من أجل تبرير تلك الكذبة الأولى؛ مع أنّه كان بوسعي أن أنفي هذا الأمر عن نفسي منذ البداية؛ وهذا ما فعلته، فقلت: أنا لست بوصيّ! قالوا: فمن هو الوصيّ إذًا؟ قلت: لا أحد! قالوا: وهل يمكن أن يكون ذلك؟ قلت: هذا ما حصل بالفعل؛ فهل يتوقّف دين الله على هذا الوصيّ؟ فكم من أعاظم الأولياء رحلوا عن الدنيا من دون أن يكون لهم وصيّ من بعدهم، فيكون والدي بذلك واحد منهم؛ فما هذه الأباطيل التي تُنشر عن حتميّة أن يكون للمتوفّى خليفة أو من يقوم مقامه؟ فهل الأمر من قبيل العرش والسلطنة؟ وهل هي حكومة؟
على المرء أن يكون صادقًا دائمًا لكي يكون مرفوع الرأس؛ فما الذي رأيناه من القبح في الصدق لكي نكون مجبورين على الكذب على الناس؟! وما هو الضرر الذي أصابنا من جرّاء قول الصدق بحيث نضطرّ إلى أن ننافق الناس؟ فلماذا لا نكون صادقين؟ فهل إنَّ ثقة صديقي بي تزداد عندما أكون صادقًا، أم عندما أكون كاذبًا؟ فلا بدّ وأن تنكشف الأمور في يوم من الأيّام، فلا تبقى الأمور على ما هي عليه إلى الأبد.
ها قد مضى الوقت، كما أنَّني تعبت؛ وكما هو الحال في المجالس السابقة، فقد كان من المقرّر أن أطرح بعض المواضيع التي خطرت ببالي غير التي تطرّقت إليها الآن!
إنَّ الشرط الأول الذي اشترطه العظماء من الأولياء الإلهيّين والعرفاء بالله في مجال تزكية النفس والسلوك إلى الله هو الرياضة، والتي هي عبارة عن العمل وفق ما يرتضيه الله؛ فالأمر يتلخّص بكلمتين لا غير، ولكن يا لهما من كلمتين! ويا له بحر من المعاني منطوٍ تحت هاتين الكلمتين! فنحن نطرح على الإخوة منها بما يتناسب مع إدراكنا وسعتنا.
نرجو من الله تعالى أن ينعم علينا جميعًا بلطفه، وأن يفتح أذهاننا ويزيد من فهمنا، ويجعل ذلك أساسًا لكي يوفّقنا لاتّباع العلم واليقين.
اللهمَّ صلِّ عَلى محمَّد وآلِ محمَّد