المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني
القسمعنوان البصري
المجموعةرياضة النفس
التوضيح
هو العليم
الأساس المعنوي للتشريعات الإسلامية
شرح حديث عنوان البصريّ - المحاضرة ۱٦۸
ألقاها
آية الله الحاجّ السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ
قدس الله سره
أعوذ باللـه من الشيطان الرجيم
بسم اللـه الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين
والصلاة والسلام على سيّدنا ونبيّنا أبي القاسم محمد
وعلى آله الطيبين الطاهرين
واللعنة على أعدائهم أجمعين
الدين الإسلامي قائم على التكاتف والتعاضد من أجل البقاء
قد بينّا للأصدقاء في الجلسة الماضية أنّ بناء التشريع في الأديان الإلهيّة، وخصوصاً الدين الإسلاميّ المتكامل، قائمٌ على التكاتف و التعاضد للبقاء، والمساعدة والتعاون في الحياة، وليس على أساس تنازع البقاء، والمواجهة والمخاصمة لاستيفاء الحقوق، فمسألة تنازع البقاء تقبل التفسير في المدرسة الماديّة التي تقول بأصالة وحكومة المادّة في حياة الإنسان متجاهلةً الجانب المعنوي منها، وذلك لأنّ الإنسان إذا توجّه نحو المعنويات، فسوف يصبح الجانب المعنويّ الروحيّ والإلهيّ هو الأصل والأساس بالنسبة له، وسيكون الجانب المادي أمراً فرعيّا ثانويّا في نظره، وسيرى هذه الحياة والمعيشة وكلّ الاعتباريّات الموجودة في الدنيا على حقيقتها، وبواسطة إدراكه وفهمه لهذه الحقيقة فإنّ أعماله وأقواله وكلّ تصرفاته سوف تتغيّر وتتحوّل على أساس ذلك.
سريان المدرستين الماديّة والمعنويّة إلى الحياة الاجتماعية
ومثل هذا الأمر كثيراً ما يتّفق للإنسان في حياته؛ فعندما يرتبط الإنسان بشخص آخر بعلاقة تملؤها المحبّة والصداقة، فإنّ أثر ذلك يظهر في كيفيّة تعامله وكلامه مع هذا الشخص، وحتّى عندما يُخطئ هذا الشخص فإنّ تصّرفه معه يكون بشكل خاص.
أمّا لو حصل بينهما - لا قدر الله- اختلاف و خصومة فتبدّلت الصداقة إلى عداوة، فإنّ تصرفاته مع هذا الشخص ستتغيّر وتنقلب، كما أنّ تعامله مع نفس تلك الأخطاء التي كان يقابلها بالعطف والرحمة و اللين، سيكون بشكل مختلف تماماً.
ولو حقّقنا في المسألة، و بحثنا عن سبب تغيّر تصرفاته مع هذا الشخص، لِنعرف الحدث الجديد الذي وقع؛ لرأينا أنّ أمراً جديداً لم يقع، وأنّ شيئا لم يتغيّر سوى أنّ هذين الشخصين قد اختلفا وتخاصما مع بعضهما، فإنّ شخصية أيٍّ منهما أو تصرّفاته لم تتغيّر، بحيث تستدعي هذا الانقلاب في التعامل، وكل ما في الأمر أن المحبّة التي كانت بينهما قد انقلبت إلى عداوة وخصومة.
إنّ التغيير الحقيقيّ الذي حصل لم يكن تغييراً خارجيّاً، بل هو تغيير داخليّ، في داخل النفس، و هذا التغيير الباطنيّ النفسيّ هو الذي أدّى إلى تغيّر التصرفات وأسلوب التعامل بهذا الشكل؛ فالأحداث الخارجيّة أثرها قليلٌ على الإنسان، أمّا الجانب المؤثّر بشكل أساسيّ في تصرّفاته وكلماته وأحواله هو الجانب الباطني من قبيل رأيه في الأمور، و نظرته إلى المسائل المختلفة.
فلو فرضنا أن ولدين صغيرين كانا يلعبان معاً، وكلاهما طفلان صغيران، وكلاهما بريء لا يقصد الأذى، فالأطفال لا يصدر منهم تقصير، إذ أنّ التقصير يُحتمل صدوره من الشخص الذي يتصرف عن تأمّل وتفكّر واختيار؛ أمّا ذانك الطفلان ذوا الخمس أو الست سنوات فإنّهما يلعبان ويتحركان بشكل تلقائيّ دون تأمّل و رويّة وتخطيط مسبق، و لذا فمثل هذين الطفلين قد يكسران كأساً أو نافذة أثناء لعبهما، أو قد يخرّبان شيئاً ما دون قصد.
و هنا نرى أنّ بعض الأشخاص يتعامل مع هذا الطفل بشكل خاص مِلؤه التفهّم والعطف إذا كان الطفل الذي قام بالكسر والتخريب هو ابنه؛ أمّا إذا كان الذي قام بذلك هو ابن الجيران، أو ابن شخص لا تربطه معه علاقة مودّة، فإنّه يثور ويغضب و بدأ بالسبّ والشتم قائلاً: ما أسوأ تلك العائلة، فنحن لم نرَ منهم إلاّ كلّ شرّ وأذى... هذا الشخص وأولاده قد عكّروا صفو حياتنا، وجعلوها جحيماّ لا تطاق...
المنهج الصحيح لكيفيّة تأسيس الإنسان لتصرفّاته
يا عزيزي، ليس لهذا الطفل أي ربط بعلاقتك مع أهله، كما أنّه لا فرق بين تصرّف هذا الطفل وذاك الطفل (ابنك)، فكلاهما عمره خمس سنوات، وكلاهما كانا يلعبان، وقد صدر من كليهما نفس التصرّف. إنّ هذه النقطة مهمّة جدّاً، وهي كيفيّة تأسيس الإنسان لأفعاله و تصرّفاته على الأسس، و المباني العقلائيّة والمنطقيّة، لا على الأسس والمصالح الماديّة والظاهريّة. ونحن في هذه الأيّام نرى - للأسف- أنّ المعيار الحاكم في الكثير من مجتمعاتنا، حتّى المجتمعات الدينيّة منها، بات المعيار ماديّ ظاهريّ.
وكما بينّا في الجلسة الماضية، فإنّ حقيقة المادّية هي أن يكون تفكير الإنسان ونظرته للأمور قائماً على أساس المادّة والروابط المادّية، وعلى كون الشخص قريباً لي أو بعيداً عنّي. لا على أساس المنطق والواقع وحقيقة الأمر. وتبعاً لذلك، ستتشكل تصرّفات الإنسان وأفعاله وأقواله وعلاقاته الاجتماعية، حتّى ينتهي به الأمر - في كثير من الأحيان- نهاية قبيحة ومذمومة جدّاً...، في حين أنّنا نجد أنّ المسألة تأخذ شكلاً آخر في منظار أهل التوحيد وأتباع الأديان الإلهية، فجميع الأمور عندهم تدور مدار المباني العقلانيّة والمنطقيّة والإلهيّة، كما أنّ الأحكام التي يصدرونها إنّما تصدر بناءً على الجنبة الروحيّة والإلهيّة، لا على أساس الجنبة الماديّة؛ ففي أحكام أهل التوحيد لا مكان لقريبٍ أو بعيد، فهذا النوع من الأحكام التي تصدر على أساس القرب والبعد الشخصيّ، لا على أساس الواقع والحقّ، ليس إلاّ حكم الكفر والشرك، وهو حكم أهل الإلحاد والزندقة، أمّا في مدرسة الإسلام فالمسألة ترجع إلى الإيمان؛ فإذا وُجد الإيمان في شخص غريب، صار في منظار الإسلام قريباً، وإذا لم يوجد الإيمان في قلب الشخص القريب فهو غريب في نظر الإسلام.
أثر المنهج المعنوي في نظرتنا للأمور
الإمام علي عليه السلام نموذجاً
ومن هنا، فإنّنا نرى أنّ المرحوم الوالد ـ رضوان الله عليه ـ عندما تحدّث عن ترسيم الحدود في الإسلام، فإنّه لم يعتبر أنّ الحدود هي حدود التراب والأسلاك الشائكة، بل بيّن أنّ الحدود في الإسلام هي حدود التوحيد والكفر؛ ففي أيّ منطقة من مناطق العالم يرفرف عليها علم التوحيد ـ حتى لو كانت تحت سلطة دولة كافرة- فتلك المنطقة داخلة في حدود الإسلام، وبالمقابل فأيّ منطقة يكون أهلها خارجين عن لواء التوحيد- حتى لو كانت تحت سيطرة دولة مسلمةـ فهي خارجة عن حدود الإسلام، وأينما وُجد شخص مسلم وَجب على حكومة الإسلام أن تدافع عنه في حال تعرضه للهجمات والاعتداءات من الكفار، حتّى لو كان في أقصى بقاع الأرض، دون أدنى فرق في ذلك بين أن يكون في دولة قريبة كدول الشرق الأوسط أو في دولة بعيدة كدول أفريقيا وأمريكا، فوظيفة حكومة الإسلام أن تدافع عن المسلمين أينما كانوا بدون ملاحظة الحدود الجغرافيّة وبدون مراعاة المنافع السياسيّة.
هذا هو واجب حكومة الإسلام، وهذا الأمر يجب أن يُصرّح به بشكل رسمي وواضح، وأن يتمّ تطبيقه والعمل به بشكل حازم وقطعي دون تهاون أو تساهل. هذا هو منظار التوحيد فيما يخص العلاقات الدولية في حكومة الإسلام.
و هناك فكرة تُعتبر أرقى من ذلك، فما ذكرناه يمكن للإنسان- على الأقل- أن يتصوره ويدركه، أمّا ما قام به أمير المؤمنين سلام الله عليه فهو أرفع و أرقى؛ فعندما تمت الإغارة على امرأة يهوديّة كانت تعيش تحت رعاية الدولة الإسلامية، و نزعوا ذهبها من يديها أو قدميها، غضب أمير المؤمنين كثيراً إلى الحدّ الذي قام في الناس خطيباً قائلاّ لهم: لو مات الإنسان أسفاً بسبب هذه المصيبة التي وقعت لما كان عجباّ ولما كان به ملوماً، لقد كانت هذه المرأة اليهودية تعيش تحت حكومة الإسلام وفي ذمّته، وقد أقامت في أمان دولة الإسلام ولجأت إلى حمايته، وقد كانت تنام وتستيقظ وتعيش أيّامها بناءاً على ذلك، فكيف سأجيبُ اللهَ سبحانه (أنا عليّ، حاكم المسلمين) لو سألني عن هذه التجاوزات والتعدّيات التي لحقت بتلك المرأة في حكومتي التي هي حكومة الإسلام؟
إنّ هذه المسألة مسألة عجيبة حقاً، وهي واقعاً محيّرة أشدّ ما يكون من حيرة، ولا يمكن لإنسان أن يفهم كُنه الأمر وحقيقته، ما لم يكن هو نفسه يُعايش حال أمير المؤمنين عليه السلام، ولا يمكن للإنسان أن يفهم حقيقة هذا الأمر إلاّ إذا كان قد وصل إلى منبع وأصل المفاهيم الإلهيّة، فصارت نفسه تحت تلك الولاية وبلغت مقام التوحيد والولاية والعرفان، فمثل هذا الشخص يمكنه أن يُفهم ويُدرك ذلك.
ونحن كنّا نرى أمثال هذه المسائل أيّام حياة السيّد الوالد، فكثيراً ما كان يهتمّ ببعض الأمور التي لم يكن لها ـ بنظرنا القاصرـ علاقة مباشرة به، ولم أكن لأوليها أيّ اهتمام، فعلى سبيل الفرض لو وقع أمر من الأحداث اليوميّة العاديّة لأحد الأفراد ولم يكن لسماحته علاقة بالمسألة أصلاً، بحيث لم أكن أنا لأهتمّ بالمسألة بل أعتبرها عادية، ولو مرّ بعض الوقت، لقلت: قد انقضى وقتها ولا داعي لمتابعتها بعد ذلك، بينما كان ـ رضوان الله عليه ـ يكتب ملاحظة في دفتره الخاص حول تلك المسألة، ومن ثمّ كان يستدعيني، ويطلب منّي أن أذهب وأحقّق في المسألة متابعاً لها حتى النهاية، فلا أدعها حتّى أحضر الجواب له، وما كان ليشطب تلك الملاحظة، التي دوّنها سابقاً، من دفتره حتى يتأكّد أننّي ذهبت وأدّيت المهمّة التي كلّفني بها كما طلب منّي بالضبط.
وأحياناً كنت أتأخّر في إحضار الجواب له يوماً أو يومين، وكنت أنظر في الدفتر لأرى هل شطب الملاحظة أم لا، فكنت أرى أنّه لم يشطبها بعد، وعندما أخبره بالجواب، فقد كان يقول لي: "لماذا لم تخبرني بذلك قبلاً؟ فطالما أنّ هذه الملاحظة موجودة في الدفتر، فإن ذهني يبقى مشغولاً "، يعني: لأنّني قد تسامحت وتأخّرت بإخباره بالنتيجة ليوم أو يومين فقد تسببت بانشغال ذهنه.
فالخلاصة: إنّ طريقة تعامله مع الأمور كانت مختلفة، فلم يكن ليرضى أن يكلّفنا بمهمّة ثم ينسى الأمر، بل كان يكتب الملاحظة، ويطالبنا أن نُحضر له نتيجة المسألة ليتأكّد أنّها قد تمّت كما أراد، وعند ذلك فقط كان يشطبها من الدفتر، أمّا لو لم تتمّ بالشكل الصحيح، فإنّه كان يقول: "اذهب مرة أخرى، و أدّ العمل بشكل صحيح، و تمّم النقص الذي فيه"، ولم يكن يقبل منّا لو أدّينا العمل بشكل مخالف لما طلبه منّا سواء بالزيادة أو النقص، بل كان يقول: "يجب أن ترجع بنفسك وتصلح ما أفسدته"، فكنّا نذهب ونقوم به كما أمر وعندما نخبره بذلك، حينئذٍ كان يشطب الملاحظة من الدفتر.
عن أيّ نفس وعن أيّ روحيّة يحكي ذلك؟! يجب أن نستفيد من هذه التجارب نموذجا لحياتنا و نطبقها في أعمالنا وتصرفاتنا مع الآخرين، و ينبغي أن نبذل قصارى جهدنا في أن نتخذ منها قدوة و أسوة لنا في جميع أعمالنا وأقوالنا لعلّنا نصل إلى هدفنا وغايتنا.
الفرق بين رؤية أهل العرفان والتوحيد وأهل الدنيا
نعم! تلك هي رؤية أهل العرفان وأهل التوحيد، رؤية من لا يرى الأشياء بمنظار المادّة، ونظرة من لا يجعل أساس رؤيته قضاء بضعة أيّام في الدنيا، ومن لا ينصبّ فكره على أربع سنوات من الحكم، ومن لا يجعل أكبر همه يومين يجلس فيهما على كرسيّ الزعامة.
أيّها العزيز! إنْ هي إلاّ أيّام وتُؤخذ منك هذه الكرسيّ ! عليك أن تفكّر جيّداً في مستقبل ما تقوم به من أعمال؛ تلك المُحرّمات التي تمارسها،وتلك الأقوال التي تتفوّه بها، والأسرار التي تفشيها، وكرامات الناس التي تنتهكها، وبغض النظر عن كون ما تُقدّمه بذلك عبارة عن خدمات وهدايا "للآخرين" ، فإنّ ما قمت به سيُدوّن في صحيفتك، سواء أطّلع عليه أعداؤك والذين يبحثون عن ذريعة ليدينوك بها أم لم يطّلعوا، بل فلنفترض أنّ أحداً لم يطّلع على ذلك! فمع ذلك، فإنّ هذا العمل الذي يصدر عنك سينتقش في نفسك، ويترك آثاره فيها كعمل تفوح منه رائحة الماديّة؛ فماذا أعددت لكلّ ذلك؟! أم تقول أنّ هذا مجرّد كلام لا يمتّ إليّ بصلة، وما يهمّني هو الوصول إلى مآربي ومنافعي؟! إذا كان الأمر كذلك فلا بأس، وقد علمنا ما هو تكليفنا معكم حينئذٍ !
هذه هي الحقيقة، ولا يمكن للإنسان أن يخدع نفسه، فقد ميّز الله صراط النجاة عن الهاوية، و بيّن مسالك الضلال والضياع، فلمَ نستغشي ثيابنا، ونُغمض أعيننا مع أنّ الآخرين يروننا؟! فالناس لم يغطّوا رؤوسهم، والناس لم يدسّوا رؤوسهم في التراب كطيور النعام، والناس أصحاب عقول، إنّهم لا يأكلون "العلَف" ! بل هم في كامل الوعي ومـتأهّبون دائماً لمحاسبتنا، ويتعاملون معنا على أساس نتائج هذه المحاسبة؛ فمهما حاولنا أن نذهب يميناً وشمالاً، ومهما ادّعينا وقلنا نحن كذا وكذا، فهذا يبقى كلامنا نحن، ولكن ماذا يقول الناس في حقّنا؟! إنّهم يرون أعمالنا ويتناقلونها ويتفكّهون بها في مجالسهم؛ فما هي رؤيتهم لنا؟ علينا أن نفكّر في ذلك! صحيح؟! وينبغي لأهل المعرفة وأهل التوحيد أن يبالغوا في الاهتمام بهذه المسألة.
الأصنام الكامنة في باطن النفس أشدّ وأعتى من الأصنام الخارجيّة
إنّ بناء الإسلام وبناء كافّة الأديان الإلهيّة يرتكز على أصالة الباطن وأصالة المعنى وأصالة الغيب، لا على أصالة المادّة ولا على الوعود الكاذبة، ولا على المكر والخداع والاحتيال وقَصر النظر على أيّام الدنيا الزائلة، نعم! إنّ صَرْحَ الدين يعتمد على الأسس المعنويّة، ويهتمّ بالوجهة الإلهيّة للأمور، وعلى هذا جاء موسى عليه السلام، وبهذا أرسل عيسى عليه السلام {تُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ}۱
يذكر الله تعالى في سورة إبراهيم أنّه قد أرسل موسى ـ عليه السلام ـ ليخرج الناس من الظلمات إلى النور٢ ؛ فما هو هذا النور؟ وهل يجتمع مع الكذب؟ وهل يجتمع النور مع الاتهام و البهتان؟ وهل ينسجم النور مع إفشاء أسرار الناس؟ وهل يتلاءم النور مع التجسّس على أسرار الناس بشتّى الأساليب؟! أيّ نور هو هذا؟! بل أيّة ظلمة؟! وفي أيّ نوع من الظلمات أمسينا؟! هل الظلمة في مجرّد عبادة الأصنام؟! الصنم أصلاً لا يُعدّ ظلمة! فهو ينهار بضربة واحدة بالفأس على رأسه، ويستحيل بذلك فُتاتاً... ، إنّ الظلمة هي ما يبثّه صنم النفس - بل أصنامها- القاطنة في أعماقنا، والتي تعمل على مضاعفة ما تبثّ، تلك الظلمة التي تعجز عن إزالتها من قلبك ولو استعنت بآلاف الفؤوس والمعاول وأدوات التدمير و"الديناميت"، هذه هي الظلمة التي بشّر موسى عليه السلام بتبديلها نوراً، هذه هي الظلمة، وإلاّ فقد حطّم إبراهيم ـ عليه السلام ـ كلّ الأصنام وقال للناس حين جاؤوا إليه يتّهمونه: { بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا }٣ ، فهل قُضي الأمر بذلك وعمّ التوحيد الدنيا؟! هل قُطع رأس الشيطان فلم يعد هناك من ظالم؟! أم كان الأمر على العكس تماماً، حيث انبعثت تلك الأصنام قائلةً: بل نحن سنُعدمه! فلو كان الأمر ينتهي بتحطيم تلك الأصنام، فما كان معنى جمع الحطب وتأجيج النار وإلقاء إبراهيم فيها؟! إنّها بداية نهوض تلك الأصنام أن انظروا إلى هذا ! إنّه فتى صغير "لا يبلغ حرف الألف في طول قامته" جاء ليفسد كل أمورنا، وقد أفسد علينا ديننا، وخرّب حياتنا. من الذي أمرك بذلك؟ لقد ارتكبت خطأ فاحشاً، هل قمت بذلك من تلقاء نفسك؟ هل استأذنت؟ أم لم تستأذن؟؟ وحينئذ تتابع الأصنام الداخليّة كلامها مناديةً: من تكون أنت لتُقدِم على عمل كهذا؟ هل قمت بذلك وأنت في كامل قواك العقليّة؟! من أنت لتعتديَ على كرامتنا التي يمثّلها ديننا ومذهبنا وعقيدتنا؟ فلتجمعوا الحطب! ولتحضروا المنجنيق! ولتحرقوا هذا الفتى في النار دفاعاً عن أصنامنا الباطنيّة وصوناً لأنفسنا من الزوال! لا بدّ أن تبقى هذه الأصنام حيّة وإلى الأبد! لا بدّ أن تستنشق رَوح الحياة! لا بدّ أن تقضي أيامها بصحّة وسلامة وعافية! هيا أعدّوا لها غذائها ... !
إنّ كافّة حكومات الجور، وكافة أنواع الظلم التي مورِست عبر التاريخ، و كذلك التي تمارَس الآن، وستمارَس حتّى ظهور الحجّة عليه السلام، إنّما كانت وتكون لأننّا نرفع شعار حماية هذه الأصنام؛ لماذا قتلوا سيّد الشهداء عليه السلام؟ لأنّهم كانوا يقولون: نريد أنّ نحمي هذا الصنم، نريد أن نحافظ على ما نحن عليه؛ ولو أنّ الحسين عليه السلام بايع يزيدَ لسلّمه يزيد الحكومة كلّها: هذا الذي سار في طريقنا، هذا الذي انحاز إلينا، هذا الذي بايعنا، هذا الذي قبّل أيادينا أمام الناس وقال: أنت الخليفة بعد رسول الله عليّ، ولك الولاية عليّ، ولك أن تفعل ما تشاء، فماذا يتمنّى يزيد فوق ذلك؟! هل يرغب بأكثر من ذلك؟ و لو حصل ذلك، لقال للناس حينئذٍ: أرأيتم، ها قد جاؤوا واستسلموا في النهاية، جاؤوا وركعوا بين أيدينا، لقد انتهى كل التهديد الذي لوّحوا لنا به.
ولو تمّت تلك البيعة "لبلغ ارتفاع صنم يزيد إلى مائةٍ وخمسين متراً...!" ولو كان ذلك هو حجمه الطبيعي قبل البيعة لصار بعدها منارة ...! ولو كان منارة لصار "مبنى ذا مائة طابق..." وهكذا يكبر ويكبر حتى يناطح السحاب و"يصل إلى الله" قائلاً له: أنت واحد وأنا واحد، هيّا إلى المبارزة لننظر أيّنا الأقوى !
كان هارون يجلس على عرشه متعالياًـ انظروا إلى أيّ حد كان قد بلغ أمر هذا الصنم- وكان يقول: أيّتها السحب أمطري حيث شئتِ فخراجك يرجع إليّ! انظروا ماذا يقول: أيتها الشمس أشرقي حيث شئت فأنت تحت سلطاني. ما أعظم الفرق بين هذه الحالة التي يعيشها هارون، وبين حالة أمير المؤمنين عليه السلام حين كان يصلح نعله في الحرب كي لا يُفلت من قدمه؟ هذا يقول: أيّتها السحب أمطري حيث شئتِ! أيتها الشمس أشرقي حيث شئت! أيها القمر أضئ حيث شئت! وفي المقابل فإنّ ذاك الذي يخصف نعله بنفسه مع أنّه الحاكم، قد أمات صنمه أوّلاً ثم امسك بالحكم. اقطعْ أولاً رأس هذا الصنم ـ لا صنم في نفس عليّ عليه السلام ليسعى إلى رفع رأسه، أو ليتنفّس، لقد سيطر الله على نفس عليّ مبيداً هذا الصنم، وسواء أعطيَ الحكومة أم لم يعطَها، وسواء تسلّم الحكم آخرون أم تسلّمه هو، وسواء قيل له: هناك من هو أعلم منك أنت يا عليّ رغم كلّ علمك ـ افرضوا ذلك- جاء من هو أعلم منك يا عليّ، أفصح منك، يجيب على أسئلة الناس خيراً منك، وقد اجتمع الناس حوله خير اجتماع؛ فإنّه عليه السلام سيقول حينئذ: جيّد، جاء الأعلم فمرحباً به، وأنا أيضاً أقصده مع القاصدين، وأستفيد منه كما يستفيدون. هذه حال أمير المؤمنين عليه السلام، وأنا أُقسم أنّ أمير المؤمنين لم يكن إلا كذلك، فلو رأى من هو أعلم منه في أيّ بقعة من بقاع الأرض، ولو بكلمة واحدة، لتوجّه إليه، وأقبل عليه، وجلس بين يديه جلسة العبد، ثم راح يتعلّم منه... هذه حالة عليّ عليه السلام، ولكن لم يكن على وجه الأرض من هو أعلم منه، لم يكن هناك من يفوق أمير المؤمنين عليه السلام.
أتعلمون لماذا كان يصنع ذلك لو وَجَده؟ لأنّه كان سيرى ما عند الآخر وما عنده من منشأ واحد، وما كان ليرى نفسه غير ما يرى الآخر، ولقال: إنّه لا يملك في نفسه شيئاً بالاستقلال، كما لا أملك في نفسي شيئاً كذلك؛ فلماذا إذاً نتظاهر وكأنّنا "نصرف من حسابنا الخاص"؟! ما دام المال لغيرنا فلمَ لا نصرف من حسابه هو وباسمه هو، إذا كان المال مال غيرنا فلماذا نضعه في جيوبنا نحن؟! ولماذا نمهَر الأوراق بخاتمنا نحن؟! ولمَ لا نمهَرها بخاتمه هو؟! هكذا كانت حال عليّ عليه السلام.
إنّه حطّم ذلك الصنم، وبعد أن زال هذا الصنم، لو قيل له: كن جليس بيتك! فسيقول: نعم، حاضر! وإن قيل: قُم وتولّ سدّة الحكم! يقول: جيّد، أنا جاهز! فإن قيل: تفضّل واستلم الوزارة! يقول: لا بأس أنا في الخدمة! و إن قيل: استلم الرئاسة! أجاب: حاضر! لا فرق عنده بين مورد وآخر... ، يقولون له: قُم وامض إلى مكان آخر، إلى مكان ناء بعيد، وابتعد عن جميع الناس! يقول: حاضر، حاضر، حاضر... وكل كلمة " نعم، حاضر" مما يقوله تساوي أخواتها بلا أيّ زيادة أو نقيصة؛ فكلّها "حاضر" فحسب، ولا شيء سوى ذلك؛ ومن هنا نعلم أنّ صنم النفس قد مات، أمّا أصنام نفوسنا فهي تنمو كلّ يوم وتكبر، وبحمد الله هي في تطوّر مستمرّ، وكلّ صباح تزداد قاماتها الجميلة أمتاراً: عشرة... عشرين ... أو مائة ... ، وفي كلّ يوم يطالب هذا الصنم بمطالب جديدة، وحاجات جديدة، وتوقّعات جديدة: فلان لا أحتمل رؤيته! لا ينبغي أن يتحدّث بذاك الكلام! لا ينبغي أن يقوم بذاك العمل! هذا يُسيء إليّ من تلك الناحية ... .
إنّ هذه الأصنام القاطنة في باطننا، والتي تنمو يوماً بعد يوم قد صبغتنا وجميع حياتنا بصبغة المادّية المحضة، صارت رؤيتنا مادّية، وصارت أحكامنا مادّية، نظريّاتنا مادّية، آراؤنا تحوّلت إلى مادّية، كل ما عندنا يقوم على أسس المادّة، اهتماماتنا تتمحور حول المصالح ... .
على الإنسان أن يتدارك أخطاءه التي يقع فيها
لقد اتفق منذ مدة أن تكلّم أحدهم بكلام في مكان عام أمام جمع غفير من الناس، ثم تبيّن أنّ كلامه كان خاطئاً، وكان كلامه إهانة لأحد كبار العلماء العظام، فلمّا سألوه: أأنت تكلمت بذلك؟! قال: اشتبهت .. فقد نقلوا لي الأمر على ذلك النحو.
نحن نقول له: جيّد، فكما نقلوا لك المسألة كذباً، و قمت بدورك بنقلها لجميع الناس وأذهبت ماء وجه ذلك العالم، وجعلته مخالفاً للدين منحرفاً - تفضّل الآن أمام الناس أيضاً وقل: لقد ارتكبوا عملاً شيطانياً وقالوا كذباً وزوراً، وإنّما قلت ما قلته على أساس من هذا الكذب. وهذه الأيام تمضي وحتّى الآن لم يقل شيئاً! فما هذا؟ هل هذا النحو من التفكير إلهيّ؟! كلاّ، هذه ماديّة وتقديس للمادّة أيّاً كان ذلك الرجل الذي تحدّث عنه! لقد ذهبتَ بكرامة مؤمن، فلا بدّ أن تخرج أمام الناس وتعيد له شأنه واعتباره، فلماذا لا تقوم بذلك؟! هل السبب أنّ ذلك المؤمن ليس على قيد الحياة الآن! إذا لم يكن موجوداً، فالله موجود! والملائكة عن اليمين وعن الشمال قعيد! ثمّ ماذا عن الغد؟! اليوم تُطأطئ رأسك ـ وإن شاء الله ستطأطئه- ولكن غداً يأتي نفس هذا الذي ذهبت بماء وجهه ليأخذ بتلابيبك ويسألك: لمَ لم تتفوه بكلمة الاعتذار في هذا الامتحان الذي امتحنك الله به؟! جيّد! لقد اشتبهتَ أوّلاً إذ لم تحقّق حول المسألة، ولمجرّد إخبار كاذبَين مخادعَين أقدمت على مثل ذلك الكلام، فهذه هي المشكلة الأولى، ولن نطالبك بها! ولكن بعد أن تبيّنت لك حقيقة الأمر، وبعد أن وضعوا الكتاب أمامك وأشاروا لك إلى هذه الصفحة وتلك, وبعد أن أدركت اشتباهك, بعد كل ذلك، لمَ لم تخرج أمام الملأ قائلاً: لقد وقعت في خدعة شيطانيّة...؟! لماذا؟! أَلأنّ هؤلاء المخادعين لا زالوا على قيد الحياة؟! ألأنّك في حاجة إليهم؟! ألأنّهم من أنصارك وأعوانك!؟ نعم! ألأجل كلّ ذلك ...؟! هذه هي الماديّة المحضة، هذه هي أصالة المادّة، وهذه هي مدرسة الكُفر والنفاق والزندقة لا مدرسة التوحيد.
إذا ما ارتكب أحد في مدرسة أمير المؤمنين هذا الخطأ في حقّ غيره، وحيث أنّه قال ذلك الكلام الخاطئ في العلن، فعليه أن يقول ويعلن: لقد ارتكبت خطأً. جيّد، لقد عَرض لك هذا الامتحان فهل ستنجح فيه؟! غير أنّك رسبت و"كانت العلامة صفراً"، ستمرّ أيام دُنياك المعدودة، فماذا ستصنع غداً يوم القيامة الذي تؤمن به؟ ماذا عساك أن تصنع؟ علينا نحن أن نفكّر في هذه المسألة ولا علاقة لنا بأخطاء الآخرين، فكلٌّ يأخذ بكتابه ويمضي، وعلينا نحن أن نفكّر في مكاننا غداً، مع أيّ الطائفتين سنكون؟ وما هي رؤيتنا لهذه المسألة؟
وكثيراً ما كان يحدث ذلك في زمان المرحوم العلاّمة، فقد جاءه يوماً أحدهم وكان قد أساء وخالف ما عاهد عليه أحد إخوانه، إمّا تقصيراً أو عمداً... فكانوا يأتون إلى العلاّمة، وكان يقول لهم أنّ الحقّ مع فلان، وأنت يا فلان مخطئ وعليك أن تقوم بعدّة خطوات تصحيحاً لذلك، وعلى نحو الإجمال عليك:
أولاً: أن تدفع كافة الخسائر المادية التي تسبّبت بها.
ثانياً: أن تعلن اشتباهك، وتعيد لذاك الرجل كرامته التي أهرقتها بين أصحابه في السوق (فيما لو كان تاجراً مثلاً).
وهذه الأحداث واقعيّة، وأنا بنفسي كنت شاهداً على إحداها، حيث جاء اثنان من الأصدقاء من إحدى المدن إلى طهران، وقصدوا منزل المرحوم العلاّمة، وأذكر أنّه حدّد لهم ما ينبغي فعله: أنِ اذهب يا فلان إلى السوق، وأعلن أمام الناس أن عمل صديقي كان صحيحاً وأنا من أخطأ. كان يقول له: عليك أن تقول هذه الكلمات حرفاً بحرف، أنا اشتبهت وأخلفت بوعده، وعمله هو الصحيح.
الكلام عن ذلك سهل ولكن كيف يمكن للإنسان أن يطبقّ ذلك؟! إذا كان للإنسان مكانة وموقعيّة وشأن، والناس تحسب له ألف حساب في السوق، وكلّ التجار يحترمونه، وهم يعتبرونه تلميذاً للمرحوم آية الله الأنصاريّ، لكنّ المرحوم العلامة كان يقول: ليس التتلمذ عند المرحوم الأنصاريّ هو المهمّ عندي، ولا كِبر سنّك مهمّ، لا ولا اتكاؤك على العصى، ولا صلاة الناس بإمامتك، ولا إيداعهم أموالهم عندك أمانة، لا شيء من ذلك يهمّني! لقد أذهبت ماء وجه مؤمن، فعليك أن تمضي وتعيده بهذا النحو والسلام ! مثل هذا الكلام، عمّن يمكن أن يصدر؟ ومن يكون صاحبه؟ إنّ من يتكلّم بذلك هو العارف بالله! العارف بالله هو الذي لا يهمّه شيء... ، إذا استطعت أن تقول: أيّها الناس! أنا المذنب، حينها ستكون للمرحوم الأنصاريّ قيمته بين الناس. التفتوا كم هي دقيقة هذه المسألة! إذا تعلّلنا وقلنا الآن لا يجب ذلك؛ فالقضيّة تتعلّق بالمرحوم الأنصاريّ، الأفضل أن لا نتكلّم، فهذا الكلام ينقص من كرامتنا، اعلموا أناّ إذا لم نُقدم على الاعتراف فقد وقعنا في خسران كبير.
ولا شيء أهمّ عند المرحوم الأنصاريّ - مع كل مقامه ورفعته وقربه من الله ـ من أن يكون هو وتلامذته من أتباع عليّ ـ عليه السلام _ خطوة بخطوة، فلا شيء أعلى من اتباع عليّ، وأرقى هدف هو أن نحذو حذو عليّ، هذه هي الحقيقة ولا شيء سوى ذلك. وإلاّ فإنْ فكّرنا بالناس ماذا سيقولون؟ و قلنا: فلنعدّل المسألة شيئاً ما! فإنّنا حينئذٍ نكون من أتباع عمر، وسواء كنّا من تلاميذ المرحوم الأنصاريّ أو غيره فلا فرق حينئذ.
في مدرسة العرفان ومدرسة التوحيد لا وجود للتفكير في المصالح الظاهريّة والماديّة، فذاك العمل كان اشتباهاً ولا بدّ من الاعتراف به، مهما كان انتماؤك. تقول: "إن اعترفتُ ففي ذلك فساد لجماعتنا... ! إذا أعلنت ذلك فسيفرح الأعداء... !"، فليفرح العدوّ ما المشكلة في ذلك؟! وهل فرح العدوّ -مع كونه صعباً ومبغوضاً- بحاجة إلى ارتكابك للخطأ؟! ثمّ أيّهما أولى رضا الله تعالى باتّباعنا للحقّ أم عدم فرح العدوّ؟! أيّهما أهمّ؟ هل إراقة ماء وجه المؤمن خير عند الله من أن يقول الناس لقد اشتبه فلان؟! تعتقد بأنّه: إذا أعلنتُ اشتباهي أمام الملأ فهذا خطر كبير! إنّه يزلزل مكانة هذا المنصب! إنّه يعكّر صفاء هذا الجوّ الذي تمّ إيجاده! سيُدرك الناس أنّنا أيضاً ممن يخطئ!
- فليدركوا! وهل أنت إمام؟ وهل أنت معصوم؟ هل أنا وأنت إمام الزمان حتى لا نشتبه؟! لا يا أخي فأنا وأنت مثل سائر الناس، نخطئ ونشتبه، فلا نغالي بأنفسنا أكثر من الحدّ! لا يا عزيزي ! فالناس خير منّا بدرجات! ونفوسهم أفضل! وفكرهم أقرب إلى الله! وقلوبهم أقرب من الله وأزكى؛ فلا داعي لهذا الكلام، فمشاكلنا كثيرة، كثيرة جداً، وقصصنا وحكاياتنا في هذا المجال لا تعدّ ولا تحصى...، ولدينا الكثير الكثير مما يقال...؛ فالمشاكل كثيرة جداً...!!.
لا مكان للمادّة في مدرسة أمير المؤمنين عليه السلام، لا مكان للمصالح الماديّة، لا مكان للمصالح الدنيويّة، بعد ذلك فلان من الناس يريد أن يكون على ارتباط بمرجع من مراجع التقليد، بعارف من العرفاء، بالمرحوم الأنصاريّ أو غير المرحوم الأنصاريّ، بالمرحوم القاضي... ، لا فرق في ذلك؛ فالخطأ خطأ ولا بدّ من تصحيحه، والحقّ حقّ ولا بدّ من إعلانه، ولا شيء وراء ذلك، وعليّ أن أقوله.
نعم، أحياناً لا معنى لأن يعلن الأمر، ما دامت القصّة طيّ الكتمان فلا داعي لإذاعتها، وكما يقال: الكذب حرام ولكن ليس كل صدق واجباً، لا! إنّ كلامنا ليس في مثل هذا المورد، بل كلامنا فيما لو أُشيعت القضيّة، أُعلن الكلام الكاذب، أُريق ماء الوجه وتحطّمت مكانة المؤمن، سواء كان حيّاً أو ميتاً، ففضلاً عن أنّ هذا المؤمن الذي تعتبره ميّتاً هو في الواقع حيّ ويراك من ذاك العالم، فإنّ الله أيضاً حيّ شاهد على أعمالك؛ فليس عند الله موت وحياة، هنا ماذا ينبغي أن نصنع؟! هل صار محل الكلام واضحاً؟!
فما هو التكليف من وجهة نظر الأديان الإلهيّة وعلى أساس مراعاة الجوانب الواقعيّة والروحيّة، لا في المذاهب الماديّة وعلى أساس المادّة؟
عودة إلى مسألة الزواج
إنّ مسألة الزواج، والتي شرعنا في الحديث عنها في الجلسة السابقة، لا بد أن تُدرس من زاويتين:
الأولى: زاوية الرؤية الظاهريّة والقانونيّة، وتمثّلها الأحكام القانونيّة القاطعة والحاسمة.
الثانية: زاوية الرؤية المعنويّة، وتمثّلها الأحكام التي يدفع بنا الإسلام من خلالها نحو الترقّي والتكامل، والتي تترتب عليها تلك الدرجات الرفيعة.
ونحن نلمس هذين القسمين من الأحكام في التشريعات الإسلامية ككلّ، وخصوصاً في الأحكام القضائيّة والجزائيّة، وفي المسائل الحقوقيّة، والعلاقات الاجتماعيّة.
فلسفة التشريع القانوني الظاهري وأهميّته
إنّ الرؤية الأولى لا بدّ منها، والأحكام التي تُنظّم الظاهر وتسنّ القوانين، وبدونها لا قوام للمجتمع؛ فلولا القانون لاستحال المجتمع غابةً، نعم غابةً، لا رقابة فيه ولا حساب، ولكن أيّ نوع من الحيوانات تحوي هذه الغابة؟! إنّها غابة تملؤها أنواع من الحيوانات ذوات قدمين اثنين فقط ـ بدلاً من الأربع ـ حيوانات تعدّ نفسها زهرة عالم الوجود من أوّل الخلقة ـ أو كما يسمّونه هم هذه الأيام "الانفجار الكونيّ " !! ـ إلى أن يتّخذ هذا العالم لنفسه وضعاً آخر، فهذا الحيوان يرى نفسه خيراً من كافّة مخلوقات الله ومصنوعاته.
فلو عطّلنا القوانين لساعة واحدة في نفس بلدنا هذا إيران، مثلاً لو قامت الدولة بامتحان، وقالت للناس: نحن مثلاً أوقفنا العمل بالقانون يوم السبت من الساعة الثانية عشر إلى الساعة الواحدة، فأيّ شخص يقوم بأيّ عمل كان، فهو غير مسؤول عنه جزائيّاً وحقوقيّاً ! عندها فكلّ من كان له أدنى حقّ عند آخر، سيحمل سكيناً أو مسدساً وسيقتله، ثمّ سيمدّد القتيل في الشارع، كما سنرى التعدّي على الأعراض، السرقات، العنف، وكل ما يحلو للناس، لأنّه امتحان. لكن أولسنا مسلمين، أولسنا شيعة؟! إذا أعلنت الحكومة ذلك غداً من الساعة الثانية عشر حتى الواحدة، في هذا المجتمع ذي الحضارة العريقة التي يفاخرون بها، حضارة الألفين وخمسمائة عام، التي تمتدّ منذ مدنيّة قوروش وداريوش! فلدينا بحمد الله إرث حضاريّ عريق! فلو رفعوا القانون من هذا المجتمع صاحب الحضارة العريقة التي ترجع إلى ألفين وخمسمائة عام أو ستمائة عام، فليرفعوه لساعة واحدة فقط، فماذا ستكون النتيجة؟! هل هم على استعداد لأن يقوموا بهذا الامتحان أم لا؟! بالطبع سيجيبون: وهل أُصبنا بالجنون ليصدر عنّا مثل ذلك؟!
لقد حدث ذلك في سويسرا بعد الحرب العالميّة الثانية، حيث عطّلوا القانون لمدّة ستّ ساعات، وفي هذه الساعات الستّ، يعجز اللسان عن بيان ما جرى من الجنايات، بحيث اضطر الجيش إلى التدخل لإعادة النظام إلى الدولة، رغم أنّ تلك المدينة الفلانية هي مهد الحضارة، وهذا أيضاً في بلدنا إيران، ولا نتكلّم هزلاً أو جزافاً.
] تقولون:[ هؤلاء نصارى ويهود، أمّا نحن فندّعي كوننا شيعة... .
في النهاية لماذا ننكر ما نشاهده بأعيننا؟! كلّ الناس في هذه الظروف المعاصرة لا تعتمد إلاّ على القانون، فإذا رُفع هذا القانون، ماذا سيحدث؟ ليس كل الناس "سلماناً" و"أبا ذرّ". هنا في بلدنا يوجد قانون، ورغم ذلك ماذا يصنع بعضنا ببعض؟! أيّ الجرائم لم نرتكب؟! وأيّ الفجائع لم تصدر عنّا بعد؟! مع وجود القانون! فلو فرضنا أن مراكز الشرطة وقوى الأمن لم تكن موجودة، وأعلن جميع المسؤولون للناس أن افعلوا في هذه الساعة ما شئتم، فأنتم أحرار، اصنعوا ما يحلو لكم! بالله عليكم، كم هم الذين سيعتمدون على وجدانهم في هذا المجتمع؟! كم هم؟! مثلاً عشرة أشخاص، وربما أكثر... ، أنا لا أدري! من الذي سيستند إلى فطرته ووجدانه؟! إلى تلك المبادئ الفطرية التي أودعها الله في باطن الإنسان؟ من سيلتزم بما فرض الله على كلّ منا؟! من سيراعي القانون في هذه الساعة الواحدة؟! إذا عُطّل القانون ساعة واحدة فسنحتاج إلى عشرين سنة لتعويض ما يفوت وإصلاح ما سيفسد... .
لقد وقعت على مرأى منّي حادثة في مشهد، و كان ذلك زمان المرحوم العلاّمة حيث كنّا نعيش هناك، ففي إحدى الليالي- وهذه الحادثة عجيبة واقعاً- جاء جماعة من الناس، لا أدري من أين جاءوا، ثمّ تبيّن أنّهم جاءوا بهدف التخريب. كانوا جماعة من المتهتّكين، وبدؤوا بأعمال الشغب من تكسير المنشآت وإشعال النار في البنوك، وكانت ليلة غريبة، نحن صعدنا سطح المنزل وأخذنا نشاهد، فقد كان الدخان يتصاعد من أرجاء المدينة، من كلّ حدب وصوب، ومن جملة "بركات" تلك الليلة أنّ الناس اتجهت نحو المتاجر والأسواق جماعاتٍ جماعات للإغارة عليها وسلبها، فهذا يحمل ثلاجة، وذاك كيساً كبيراً من الأرز، وكان الناس يقولون لبعضهم: لقد أُعلن التوزيع المجّاني للبضائع لكلّ الناس وفي كلّ مكان ۱!! [الحضور يضحك بصوت مرتفع]، أنا بنفسي سمعت اثنين يحملان ثلاجة و أحدهما يقول للآخر: "أسرع؛ فقد أُعلن التوزيع المجاني في كل مكان! [ضحك من الجميع]
فما هذا؟! نفس هذا الرجل هو الذي يذهب إلى المسجد ويصلّي! من قال أنّهم أعلنوا التوزيع المجانيّ؟! هذه أموال الناس أيها المسكين! لنفترض أنّ الناس فعلوا ذلك، فهل يعني ذلك أن تتجاوز أنت حدود القانون؟! هذا المال الذي تذهب به هو ملك لِمن حتّى تقوم بأخذه؟! من هو صاحبه؟ و بأي دليل تأخذه؟! التفتوا ... ، إنّهم لم يعلنوا تعطيل القانون لأسبوع، بل توهّم الناس لساعة واحدة فقط أن لا وجود للقانون، فقالوا: لنفعل ما نريد، لنسرق الصناديق، لنسرق التشيكات، لنسرق السندات، كلٌّ بما يناسبه. ولكن يا عزيزي، أين ذهب تشيُّعك؟ أين الصلاة التي تصلّيها؟ أين لطمك الصدر في يوم عاشوراء؟ زعموا أنّهم أعلنوا التوزيع المجانيّ !؟ فليعلنوا ! ما علاقتك بذلك؟! لماذا أنت تنجرّ؟! إنّهم لم يعلنوه لك!
لماذا نحن نبتعد كثيراً عندما نضرب الأمثال، فنذكر هذا وذاك والأعداء، ونصنع لأنفسنا أعداء؟ أيها الأعزاء! القانون يجب أن يكون هنا بين هؤلاء الناس! ولحسن الحظ لم يتجاوز أولئك الناس هذا الحدّ من التعدّي، ولو جاء ـ لا سمح الله ـ أولئك الذين يتجاوزون حدوداً أخرى، فالناس في هذه القضية كانوا يسرقون الأرزاق والأموال، فماذا لو كانت القضية على مستوى أعلى من ذلك؟!
فلسفة القصاص لا تخرج عن فلسفة التشريع القانوني
لذلك يقول الله في الآية القرآنية: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ } ۱ فحياتكم في القصاص، وإذا رفع قانون >القصاص< ]فماذا سيحصل؟[
على هؤلاء الذين يقولون: إنّ قانون القصاص مناف للإنسانية أن يتأمّلوا في هذه الحقائق، فليُمعنوا فيها النظر، لماذا لا تأتون إلى ذاك الجاني، الذي جنى على البريء جناية أبديّة، وتقولون له: إنّ عملك عمل حيوانيّ، هو فعل الوحوش، فعل الحيوانات المفترسة، لماذا لا تتفتح أزهار إنسانيّتكم إلاّ عند القصاص، فتعدّون هذا العمل غير إنسانيّ؟! عندما يأتي إنسان كحيوان متوحّش فيتجاوز ويقود إنساناً نحو العدم، عندها كيف تقولون: إنّ إنزال العقاب به خلاف القانون وخلاف الإنسانيّة؟! أمّا عندما كان يرتكب جريمته لا تقولون له: لقد أقدمتَ على ذلك الفعل الشنيع كالحيوان ـ بل حتى الحيوان لا يقوم بذلك ـ لقد ارتكبت هذا العمل وقضيت على إنسان وقطعت رأسه! وهل عند إعدام المجرم فقط يصير هذا العمل عملاً غير إنسانيّ؟ وتتذرّعون بأنّ الآخرين ينظرون إلينا باحتقار، و أنّ العدوّ يسيء إلينا القول! فمن يكون هذا العدوّ؟! وما هذا الكلام!؟ الآية القرآنيّة تقول: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ }. فهي تريد أن تقول لنا : "أيّها الناس لو أنّكم كنتم بشراً، لما شرّعنا لكم قانون القصاص، ولكنّكم لستم بشراً! فأنا مضطر لأنْ أسنّ لكم هذا القانون لحفظ المجتمع، ولولا هذا القانون فتلك هي حال التكاليف وهذه حال المجتمع كما رأيتم".
يقولون: افترضوا أنّ الرجم لم يكن في الإسلام أصلاً! كلاّ، فالرجم موجود في الإسلام، بل هو أيضاً من الأحكام الضروريّة في الإسلام، ولا يمكن لأحد أن يُنكره، وقد طُبّق، نعم طُبّق في زمان أمير المؤمنين عليه السلام، وطبّق في زمان الخلفاء، وكلّ المصادر تؤكّد ذلك، ولا معنى لأنْ ننكر أحداث التاريخ اعتباطاً، فإنكارنا لن يصحّح شيئاً من الواقع، سواءً أعجب ذلك الآخرين أم لم يعجبهم، نحن علينا أن لا نتخلّف عن حكم الإسلام لأنّ فيه رجماً!
هل الرجم مخالف للإنسانيّة؟! فكيف لا يقال لمن يدخل منزلاً ما ويعتدي على شرف صاحبه وعرضه، كيف لا يقال له: عملك هذا غير إنسانيّ، بل عمل حيوان، وعمل متجاوز بعيد عن الكرامة الإنسانيّة، لماذا لا يقال له: إنّك أخرجت نفسك عن منزلة كرامة الإنسان؟ هذا بالنسبة للرجم ... .
أمّا إقامة العلاقات غير الشرعيّة التي ليس فيها تعدّ على حقوق الآخرين ۱، فعندها لن يكون هناك رجم، بل الحكم: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ }٢ ، ثمّ يقول بعد ذلك : {َلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ}، فعندما يراد تنفيذ الجلد، ادعوا الناس ليشاهدوا تنفيذ الحكم، من يخطئ منكم في المجتمع فهذا مصيره، سيقام عليه الحدّ، يجب أن تعمل وفق القوانين الفطرية، فإن تجاوزتَ فهذا جزاؤك، على أنّ ذلك لا يكون إلاّ إذا شهد عليه أربعة من الشهود، ومتى تتوفّر مثل هذه الشهادة على تلك الحالة الخاصّة، وبتلك الشروط الخاصّة؟
هل يتنافى حزم الإسلام في تطبيق القانون مع الرأفة و الرحمة؟
لكنّ هذا الإسلام مع كل تلك الرأفة التي يشتمل عليها، ومع كل العطف الذي فيه، ذلك العطف الذي يبهر العقول ويحيّر الألباب، فهو حازمٌ جداً في مثل هذه الأمور- واقعاً يعجز الإنسان عن البيان في هذا المقام، واقعاً ماذا أقول؟!ـ فهناك الكثير من القضايا في حياة الأئمّة عليهم السلام، ومن أقلّ ما نشاهده أنّ سيّد الشهداء ـ عليه السلام ـ عند خروجه من مكّة متّجهاً نحو كربلاء كان جيش الحرّ يحاصر طريقه عليه السلام، وكان قد جدّ في السير مدّة، وقد نفد ما معه من ماء، والعساكر ظمأى، والخيول كذلك، والجميع في غاية المشقّة والتعب، وكلّ واحد منهم يكاد يلفظ آخر أنفاسه، وكان من الواضح أنّ الجيش جيش ابن زياد الذي يُنفّذ مهمّة منع سيّد الشهداء من متابعة طريقه، وأن يُلزِم الإمام بالبيعة أو ينتظر آخر ما يصدر فيه... فلو كنّا نحن مكانه ماذا ترون أنّا نصنع؟! لو كنّا مكانه لما فوّتنا الفرصة، ولأصدرنا الأوامر بالهجوم عليهم هجمة واحدة، ها نحن ألف مقاتل وهم ألف مقاتل،فنحن متساوون، وهم بأجمعهم مع خيولهم لا يصمدون أمام أوّل ضربة من ضرباتنا، فينتهي الأمر، ونتابع طريقنا. ولكن ماذا قال الإمام؟ لقد أمر كافّة أصحابه، وقبل وصول الجيش إليهم، أن يملؤوا ما بحوزتهم من قِرب، قالوا: ولماذا نملؤها؟! قال: ستعلمون، سأخبركم في الوقت المناسب. فيملأ الأصحاب قِرَب الماء فوق حاجتهم، حتى إذا وصل جيش الحرّ، قال لهم الإمام عليه السلام: الآن حان الوقت لتقدّموا قِرَب الماء لهؤلاء!!
هذا هو الإسلام... !!
انظروا إلى ما صنع عليّ في معركة صفين، فقد كان معاوية قد سدّ الطريق إلى الماء، ولمّا سيطر الإمام على الماء قال له أصحابه: لنصنع به كما صنع بنا، فلنعامله بالمثل ـ مع العلم أنّه يجوز شرعاً أن يمنعهم الماء عقاباً بمثل ما صنعوا {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ}- قالوا له: لقد منعنا من الماء فامنعه أنت أيضاً! والحال أنّهم في حرب وأنّهم كفرة، ولكن لا يختلف الأمر بالنسبة للإمام عليه السلام، فالإمام يقول: ليس من شيمتنا ترك المروءة، هذا مخالف للمروءة والأخلاق؛ افتحوا لهم الطريق! نحن نقاتل قتال الشرفاء، ليس مهمّاً أن نُهزَم، كما ليس مهمّاً أن ننتصر، فليس في حركتنا اعوجاج!
إنّ هذا ما يجعلنا نقف أمام شخصيّة الإمام عليّ حائرين مدهوشين، هذه الخصائص وهذه المزايا.
نفس هذا الإسلام برأفته هذه وبرحمته هذه ... .
من الذي كان السبب في حادثة عاشوراء، ألم يكن الحرّ نفسه؟! لقد جاء الحرّ وقطع طريق الإمام الحسين عليه السلام، حتى وصل الأمر بالإمام الحسين أن يشدّد عليه في القول ويخاطبه بقسوة، وكان أن حاصر مسير الإمام بانتظار ما يصدر من الأوامر في حقّه، فكل أحداث عاشوراء هذه كانت نتيجة أفعال الحرّ بن يزيد الرياحيّ، فلو لم يكن الحرّ ما كانت تلك الوقائع لتحدث، ولتابع الإمام سيره إلى اليمن، حيث يتواجد له شيعة وأنصار يحمونه ويؤيّدونه، ولاتخذت الأحداث مجرى آخر... .
و عندما تفطّن الحرّ يوم عاشوراء إلی أنْ: "يا ويلتاه .. ماذا فعلت؟! " اشتعلت روحه، ورأى أنّه هو السبب في وقوع كلّ هاتيك الأمور، فجاء إلى عمر بن سعد سائلاً إيّاه: هل تريد أن تحارب حقاً؟ تعال لنرتب المسألة بطريقة ما ولنتفاوض و... .
فقال له عمر بن سعد: لماذا جئتُ إلی هنا بثلاثين ألفٍ من العسكر؟ إنّ أهون الأمر أن تقطع الأيدي و... ، فالتفت الحرّ إلی أنّ المسألة لها شكل آخر وخلاف ما كان يعتقد، فرأی نفسه واقفاً علی الصراط بين الجنّة والنار؛ فإذا التحق بالإمام الحسين ـ عليه السلام ـ فمن الواضح إلی أيّ مكان سينتهي الأمر به، ذلك أنّه لم يبق مع الإمام ـ عليه السلام ـ إلاّ بعض الأشخاص، بل إنّه من أوّل الواقعة إلی آخرها لم يثبت إلاّ ستون أو سبعون شخصاً، فبمجرّد الحملة الأولی في صباح يوم عاشوراء، سقط ثلاثون نفراً من أصحاب الإمام الحسين ـ عليه السلام ـ رمياً بالنبال، فكم بقي منهم؟ أربعون! ففي نفس تلك الحملة سقط ميّتاً كلّ من كان واقفاً بجانب الخيام للحفاظ عليها رمياً بالنبال.
لقد رأی الحرّ بأنّ المسألة مادّية ودنيويّة، وأنّ الأمر جدّي لا يحتمل المزاح، حسب المسألة، ثمّ أخرج عدّاده اليدويّ لتقدير الأمر في هاته الأيّام القصيرة من الدنيا، وقال في نفسه: لنفترض الآن أنّك ستعيش عشرين أو ثلاثين سنة أخری، فهل تستطيع الهرب من عزرائيل؟! وحتّى في هذه السنوات العشرين، بأيّ طريقة ستعيش؟ فلكلّ شيء حسابه الخاصّ، وجميع الذين جاؤوا إلی كربلاء، وكانوا من القتلة هناك، لم تمض بضع سنوات حتی نالوا جزاءهم في هذه الدنيا، فمن تلك الناحية هو ابن رسول الله، لم يرتكب ذنباً، وهو مظلوم، والحق إلى جانبه، بل هو صادق عندما يقول: لا يوجد أيّ مبرر لكي أبايع يزيد، ومدّة الصلح الذي كان بين معاوية وأخي محدّدة بفترة حياة معاوية، فإذا كان قد مات، ووصل إلی قعر جهنّم فإنّ المعاهدة قد انتهت، والحكومة والخلافة من حقّي، ويجب أن تعود إليّ، أنا الإمام ولن أبايع. أخذ الحرّ بعين الاعتبار جميع هذه المسائل، فقيَّم شفاعة الرسول، وقيّم هذه الدنيا، ووضع الجهة الأخرويّة من هذه المسألة مع جهتها الدنيويّة في العداد وقيّمها جميعاً، فرأی أنّها لا تنجسم مع بعضها، لا يوجد توافق بين الأمور الماديّة والمعنويّة، هنالك استمدّ العون من الله، فأعانه الله بدوره وألقی في قلبه ذلك النور، ثمّ تقدّم وحسم الأمر وذهب إلى ابنه وغلامه قائلاً: " أستودعكما الله، أنا ذاهب"، ثمّ أقبل إلی الإمام الحسين عليه السلام.
لقد كان الحرّ هو السبب في وقوع جميع هذه الحوادث، فكيف استقبله الإمام؟ لقد استقبله وكأنّه لم يرتكب أيّ شيء، بل هنّأه ورحّب به، لم يقل له أيّ شيء! قال له الإمام: ليس من الضروري أيضاً أن تقول أيّ شي. ما هي الحقيقة المستورة في باطن سيّد الشهداء حتّی يصدر منه مثل هذا التصرّف؟ ماذا يمكن أن تكون هذه الحقيقة، غير تلك الجنبة الإلهيّة للنفس التي ينتفي بها كل صنم عن النفس، فلا يعود الإنسان يمتلك وجوداً غير ذلك الظهور التامّ للحقّ تعالى، واسمه الرؤوف الذي تجلّی في هذه النفس بتمام معنی الكلمة، وشمل بذلك جميع الأفراد بعطفه ورأفته، غاية الأمر أنّ بعضاً من النّاس لا يأتون، وإلاّ فإنّه ـ عليه السلام ـ لا يستثني أيّ أحد، بل يقول: نحن مثل البحر نغسل جميع الأعمال الصادرة من أيّ شخص، وكلّ من ارتكب مخالفة ما، فليأت إلی هنا وليتبْ توبة حقيقية، فسنتغاضی عن جميع مخالفاته، وكذلك أضمن له يوم القيامة بأن آتي بنفسي وأحضر عند الحساب وأحاسبه ... . كان هذا الكلام لسيد الشهداء.
بالنظر إلی كل هذه الرحمة الموجودة في الإسلام، وما شاهدناه وقرأناه في التاريخ عن وضعية أئمّتنا في زمن الحكومة الإسلامية وما يرتبط بالحكام وكذلك في مجال علاقتهم بالناس، مع كلّ هذا فإنّنا لا نلاحظ مطلقاً وجود أيّ رأفة في مسألة القصاص والقانون والتعدّي علی حقوق الآخرين، فإذا تعدّيت علی حقّ الغير، فيجب أن تُجازی على ذلك وتعاقب عليه ولا يوجد هنا أيُّ مجال للعطف والرأفة.
لو كانت المسألة بينك وبين نفسك لكان من الممكن أن نتسامح، لكنّه وبما أنّك تجاوزت حدّك من خلال هذه المخالفة التي ارتكبتها، كأن تتعدّي مثلا علی حقّ الزوج و ليس فقط علی حقّ نفسك، بالنسبة لنفسك لا يهمّ و لكن أنت (الزاني) الذي ترتكب الآن المعصية مع هذه المرأة، فإنّك تنتهك وتتعدّی علی حق زوجها لا علی حقّها، ولهذا فإن جزاؤك في هذه الحالة هو الرجم، ويجب أن تُرمی بالحجارة إلی أن تموت وتدفن تحتها. {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ} يجب أن يجتمع المؤمنون أيضاً، ويشاهدوا: "تفضلوا، ولتكونوا علی حذر، وانتبهوا إلی أنّه لو أردتم التعدّي علی حقّ الآخرين سيكون جزاؤكم بهذا الشكل".
لا أن يذهبوا بهدوء خلف القضبان و يتمّ إعدامهم هناك، لا، ليس الأمر كذلك، بل يجب أن يُؤتى بهم، فيُرجموا أمام الناس حتی يشاهد الجميع ـ بطبيعة الحال لا يلزم عرض ذلك من خلال وسائل الإعلام العمومية ولا يعتبر ذلك ضرورياً، لِيعلنوا عنه فقط لأنّه في نهاية الأمر يوجد أطفال و غيرهم و بعض الأشخاص الذين لا يمتلكون الطاقة لتحمل ورؤية تلك الأمور وليس من الصحيح أن يشاهدوا مثل تلك المناظر ـ لكن يجب عليهم جمع المؤمنين، وإعلان أنّنا نواجه مثل هذا التعدّي بمثل هذا الجزاء. فلو تمّ القيام بهذا الأمر، فكم يا ترى ستحصل من هذه القضايا بعد ذلك؟ كم ستحصل؟
في مسألة قطع يد السارق، لو أخذ أحد الأشخاص مالاً من الشارع مثلاً، فإنّه لا يجوز قطع يده، بغض النظر عن قيمة ذلك المال، ولكن إذا ما اقتحم أحد الأشخاص منزل الآخرين وتعدّی علی حرمتهم وأمانهم، هذا الأمان الذي ضمنته لهم الدولة الإسلامية لكل فرد من أفراد المجتمع، فلو أنّها لم تقم بذلك، لوجب علی كلّ شخص أن ينام عند باب منزله من الليل إلی الصباح! فما هو السبب في ميل الإنسان إلی أخذ قسط من الراحة في بيته، أن يطفيء المصباح ويستغرق في النوم، مثلما يحلو له، وما الدافع الذي يجعل زوجته وأطفاله يحبّون الإستراحة فيه؟ إنّ سبب ذلك هي الحرمة والأمن التي فرضها الله، وجعلها لكلّ فرد من أفراد المجتمع، فالله سبحانه، وتعالی جعلها والحكومة الإسلاميّة ـ وكذا سائر الحكومات مع فارق أنّها حكومات دنيويّةـ مكلّفة بالدفاع عن هذه الحرمة التي جعلها الله تعالی، وهي مسؤولة عن حمايتِها والمحافظة عليها بمختلف الطرق والوسائل والأجهزة.
في هذه الحالة يأتي سارق ويخترق هذه الحرمة من خلال الوسائل التي يمتلكها، فيفتح البوابة، ويفتح القفل،ثمّ يكسر الباب أو يقفز من علی السور، ويدخل إلی حريم الدار، و بعد ذلك يأخذ مالاً. ففي مثل هذه الحالة، لو هجم عليه صاحب المنزل و قتله، يكون دمُه قد ذهب هدراً، وهو من يتحمّل المسؤولية في ذلك، وعينه حارّة! هو من انتهك الحرمة، فيجب علی الدولة أن تتعامل معه بقسوة، قطع اليد أمر سهل ويجب أن يقع له ما هو أسوأ بكثير من ذلك، في هذه الحالة يقول الله تعالی: اقطعوا يده وليشاهد البقية ذلك، ليشاهدوا أنّ هنا يوجد قانون، هنا لا يوجد قريب ولا غريب، ليشاهد الجميع هذا القانون وليروا كيف يكون احترامه، وأيضاً لا يجوز لهم بعد ذلك أن يُلحموا له يده و يخيطوها مرة أخری في المستشفی، لا هذا غير جائز، قطع اليد هو قطع و فصل. في هذه الحالة يقول البعض: ليقطعوا [اليد] في هذه الناحية من ذلك المستشفی ويلحموها في الناحية الأخری، عندئذ سيصير الأمر مضحكاً جداً وهذه الأحكام مضحكة. بطبيعة الحال توجد عندنا مسألة: أنّه إذا التأمت اليد بنفسها، لا نحتاج لقطعها، و هذا يكون مخالفاً لمسألة أن يأتي الآخرون وينجزوا هذا العمل لأجله.
في هذه الحالة، إذا ما تقرر العمل بهذا الحكم وفهِم السارق أنّه في حالة اقتحامه لمحل بيع المجوهرات مسلحاً فإنّ يده ستقطع، كم هو عدد السرقات التي ستحصل في هذا البلد يا تری؟ عندئذ هل سنعود في حاجة إلی كلّ هذه الأعمدة الحديدية؟ إلی كلّ هذه المغناطيسات؟ وإلی وضع كلّ هذه الأجهزة للإنذار ضدّ السرقة وغيرها؟ هل سنكون في حاجة إلی ذلك أم لا؟
شاهد على فائدة تطبيق القصاص
كنت قد ذهبت قبل عدّة سنوات إلی إحدی البلدان [المجاورة] لزيارة أحد الأصدقاء - ذهبت إلی دبي لزيارة الدكتور سجادي ـ وبقينا في منزله لمدّة ثلاثة أو أربعة أيّام، وعندما وصلنا لاحظت تواجد عدّة أمتعة في جانب المنزل، في القسم الخارجي منه، فقد كانوا قد اشتروا حاسوباً ووضعوه هناك، ولم يكونوا قد أدخلوه إلی الداخل بعدُ، وكذلك أجهزة السيارة وغيرها، وبحسب ما شاهدته في ذلك القسم من الفناء الخارجي ـ بقية الأماكن و كذلك المنازل الأخری كانت بنفس الشكل والكيفية - فقد كانت توجد هناك أجهزة تبلغ قيمتها عشرة أو عشرين مليون تومان تقريباً، لاحظت بأنّ بوابة المنزل مفتوحة فقلت له: ألا تغلقون الباب الخارجي؟! قال: لا حاجة لذلك، قلت: يا عزيزي ! كلّ هذه الأجهزة ... ، فقال لي: أتظنّ نفسك في إيران؟! حيث يفتحون السيارة فيأخذون المسجّل منها و يسرقونه ! كان يقول: لا ، ليس الأمر هكذا، هنا يقطعون اليد بكلّ إحكام وبدون تخلّف أيضاً. كانت توجد في وسط فناء المنزل عشرة أو عشرين ميليون تومان والباب مفتوح من الصباح إلی المساء ومع هذا ينام في المنزل بكلّ هدوء وسكينة، هذا هو الأمان الذي جعله الله تعالی لنا.
في هذه الحالة، إذا ما فرضنا تطبيق هذا القانون كم سيبقی بعد ذلك من السرّاق في هذا البلد؟ هل سيجرؤ بعد ذلك أحد علی تكسير باب السيارات؟ هل رأيتم تلك الأقفال العجيبة؟ تلك الأقفال الضخمة التي يربطون بها المقعد و المقبض و غيرها [ضحك من السيّد و الحضور]، لم يبقَ الشيء الكثير حتّى يربطوا عجلة السيارة بعمود الكهرباء! [ضحك من السيّد و الحضور] ما هذا الكلام؟
إنّ المرء ليتأسّف كثيراً، يتأسّف علی أنّه لماذا يجب أن يشعر الناس بعدم الأمن بهذه الكيفيّة مع وجود هذه الثقافة الإسلاميّة؟ إنّ هذا الأمر باعث علی الأسف كثيراً، بينما في بقية البلدان الأخری لا توجد مثل هذه القضايا، لا يوجد مثل هذا الكلام. من هو الأولی بالعمل بهذه المسائل؟ إنّ القانون الذي تم وضعه في الإسلام يقول: أيها السيّد، يد السارق المتعدّي يجب أن تُقطع لأنّه انتهك حرمة الغير وجاء و دخل إلی المنزل، أو فتح باب السيارة، جاء و أخذ... ، لهذا يجب أن تقطع يده حتی يعلم الناس بأن المسألة لا تنتهي بمجرّد المكث في السجن ليومين والخروج بعد ذلك من خلال تلفيق الملفّات والتشكيك فيها. يقول السارق: جيّد، ما حصّلناه يكفينا إلی آخر العمر! لا أيّها السيّد، يقطعون يدك والجميع يشاهد ذلك أيضاً والأمر جدّي أيضاً ولا يحتمل المزاح، هذا الحكم هو حكم الإسلام.
فلسفة الأحكام الأخلاقيّة
إذن حكم الإسلام الظاهريّ مبنيّ علی أساس القانون، خصوصاً في القضايا الجنائيّة والحقوقيّة، إذا أقرض شخصاً فلا يجوز أن يكون ذلك بالربا، ولا يجوز لذلك الشخص الذي يقترض أن يأخذ القرض بشرط الزيادة لأنّه حرام، كما لا يجوز للمُقرض الإلزام بأخذ الربح و الفائدة وفي هذه الحالة يكون كلاهما حراماً، وإذا ما حصل ذلك يكون ربا، والربا نار، وإنّما يأكل هؤلاء في بطونهم ناراً لكنّهم غير ملتفتين لما يفعلونه. هذا من جهة، ومن جهة أُخری توجد عندنا مسألة أخری، وهي أن المقترض يحسُن به أن يُقدّم من تلقاء نفسه مبلغاً إضافيّا عند السداد، على أن يكون ذلك بعنوان الشكر وإظهار المحبّة، فهذا الحكم ليس داخلاً تحت القانون؛ فماذا يكون هذا إذاً؟ يكون هذا حكماً فوق القانون، حكماً أخلاقيّاً، حكماً مرتبطاً بالعلاقات الإنسانيّة، حكماً فوق الأحكام الظاهريّة.
في ذلك الوضع الأول، يقول الشارع: إذا جعلت شرطاً يكون ذلك حراماً وسيحاسبك الله تعالی عليه بشدّة، لكنّك من نفسك أعطه مبلغاً إضافياً، وذلك أنّ هذا المُقرض قد فقد المال من يده مدّة من الزمان مثلاً، وقد كان بإمكانه أن يستفيد منه للقيام بعدة أشياء، نحن لم نطلب منك أيّ شيء، لكن أين هي أخلاقك؟ ماذا حصل لإنسانيّتك؟ فمن ناحية يقول: {أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَ الْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَ الْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَ الْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَ السِّنَّ بِالسِّنِّ وَ الْجُرُوحَ قِصاصٌ} ۱ ، فالأنف مقابل الأنف والعين مقابل العين...، إذا قتل شخص شخصاً آخر يجب أن يعاقب، و من ناحية أخری يقول: {وَ إن تَعفُوا فَهُوَ خَيرٌ لَكم}، أي:إنّ العفو أنفع لآخرتكم، صحيح أنّ ذلك الشخص قام بمخالفة وارتكب معصية وأبرز حيوانيّته فقتل أحد الأشخاص، لكنّك إذا رحمت زوجته وأولاده، ورحمت أباه وأمّه، فهؤلاء لم يرتكبوا معصية، وبطبيعة الحال، فإنّ مثل هذا العفو ينبغي أن يكون حينما نلاحظ الإحساسَ بالندامة بادياً على هذا الجاني، وأمّا لو جاء صاحبنا رافعاً رأسه إلی السماء، وقال لك: يجب عليك أن تعفو وإلا فإنّ رجالي وأعواني يعرفون كيف يؤدّبونك؛ فإنّه يجب عليك في هذه الحالة أن تضربه بشكل محكم وتقتص منه و تطرحه وسط الشارع.
في زمان أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ كان يوجد في الكوفة أحد الأشخاص المتسلّطين، و قد قام هذا الشخص بصفع أحد الأفراد، و كان ذلك الشخص المضروب مسكيناً معدماً ضعيفاً، بينما الآخر كان صاحب قدرة ونفوذ، كما كان بلحاظ القوّة الظاهريّة شخصاً قويّاً. فجاء ذلك الشخص المسكين إلى أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ مشتكياً، فأمر الإمام بإحضار الجاني، فجاء متأخّراً بعض الشيء، فقال له الإمام: لماذا جئت متأخّراً؟ قال:لم استطع أن آتي قبل هذا، وأنا في خدمكتم الآن! بعد ذلك، قال له الإمام: لماذا فعلت ذلك؟ فأجاب بوقاحة: لقد وقع ما وقع فماذا تريدون منّي؟ فالتفت الإمام إلی الرجل الآخر وقال له: بما أنّه يتكلّم بهذه الطريقة، فلك الحق أن تصفعه مثلما صفعك أو أن تعفو عنه. فخاف ذلك الشخص قليلاً من أن لو ضربه الآن فقد يتعدّی عليه بعد ذلك، خصوصاً وأنّ مثل هؤلاء لا يمتلكون حظّاً من الإنسانيّة، فيكون ذلك موجباً للأذى من جديد، وبسبب خوفه هذا، قال للإمام: يا علي لقد عفوت عنه. فلمّا فهم ذلك الجاني حقيقة المسألة تبسّم في وجه أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ وعزم علی الذهاب، فقال له عليه السلام: إلی أين أنت ذاهب؟ إذا كان هو قد غضّ النظر عن حقّه فأنا لا أستطيع ذلك، ثمّ ضربه الإمام علی أذنه، و قال له: لقد كان هذا حقّي حتّی لا تعود مرة أخری لارتكاب مثل هذه الأخطاء، لقد كان حكم ذلك القصاص مختلفاً عن هذا، لا تظنّن أنّك تستطيع الإفلات من عليّ من خلال إبراز العضلات والتلميح بأنّك ستفعل كذا وكذا... ، أنا وبعنوان الحاكم الإسلامي والضامن لأمن المجتمع.
فلم يكتف بلطمةٍ واحدة بل صفعه عدة صفعات علی وجهه، وخلاصة الأمر فقد وفّاه حسابه، ثمّ قال له: الآن فقط يمكنك الذهاب.
في حكومة الإسلام، لا يمتلك أيّ أحد الحقّ في التعدّي، فليس من حقك أن تتعدّی علی أيّ أحد، لا تظنّن أنّك متسلّط، أو ثري تمتلك خدماً وحشماً، فكن من شئت، ولتكن أيضاً كلّ الكرة الأرضيّة تحت تصرّفك، فأنت مع الناس في مقابل العدالة سواء.
ما هي هذه؟ هذه هي الحكومة الإسلاميّة، حكومة العدل، حكومة أمير المؤمنين عليه السلام، ففي مثل هذه الأوضاع فقط يمكن للإنسان أن يشعر بالأمان.
نعم! نعود للموضوع، إذا ما لاحظنا ظهور الإحساس بالندم والأسف علی ذلك الشخص، واكتشفنا من خلال وجناته أنّه نادمٌ حقيقةً وواقعاً، فإنّ الآية القرآنية تقول في حقه: {وَ إن تَعفُوا فَهُوَ خَيرٌ لَكم}، لكنّ هذا الأمر لا يَصدْق في خصوص الإنسان المتجرّئ الذي نتجاوز عنه في المرّة الأول، فيكررّ خطأه مرّة ثانية وثالثة، ونحن نسامحه مرّةً بعد أخرى ... ، كلاّ بل يجب القضاء علی هذا الشخص حفاظاً علی المجتمع.
الفلسفة الكليّة للأحكام الإسلامية
بناءً علی هذا، يوجد عندنا في الإسلام حكمان: يعتبر الحكم الأول بالنسبة لكثير من المواضيع بتّياً وقطعيّاً وجنائيّاً وحقوقيّاً، ويكون منجّزاً بالنسبة لذلك الأمر الذي يُراد تحقيقه، بينما يكون الحكم الآخر الذي يأتي بعد هذه المسألة هو حكم العفو والتجاوز والتغاضي والذي ينصح به في كلّ حال، هذا مع ملاحظة ما بينّاه سابقاً بأنّ هذا لا يجري في الموارد التي يشعر الإنسان فيها بأنّ ذلك الشخص سيصير متجرّئاً بشكل أكبر لو عفونا عنه و= تسامحنا معه، بل حديثنا في موارد المصلحة وعندما تظهر منه الندامة والأسف؛ ولهذا يقول تعالی في الآية الشريفة: {وَ لا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَ لاَ السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذي بَيْنَكَ وَ بَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَميمٌ}۱ ـ بحسب ما أعتقد فإنّ السيّد العلاّمة قال في خصوص تلك المسألة التي ذكرها في كتابه أنوار الملكوت: لقد تفاءلت بالقرآن وعلی ما يبدو جاءت نفس هذه الآية ـ الحسنة لا تعادل السيّئة أبداً، كافيء العمل السيّء بالحسن، لا تقابل العيب بالعيب، كافئ الشتم بالإحسان، بالتجاوز والحلم.
لنفترض الآن أنّ أحد الأشخاص قال في حقك كلاماً في مكان ما، اذهب ولا تلتفت، لقد أخطأ، كان حاله سيّئاً، كان غضباناً، أمّا أنت فلست بغاضب، وحالك الآن جيّدة، أنت الآن هاديء ومرتاح، فلماذا تقابله بالمثل فيقوم هو بعد ذلك بالردّ، فينتج لدينا في الأخير "دور باطل"، بل{ادْفَعْ بِالَّتي هِيَ أَحْسَنُ}، قم بما هو الأحسن لا المساوي، لا تتصرّف بشكل مساوٍ وإلاّ لصِرتَ مثله، فلو قابلت الإساءة بالإحسان، هل تعلم ما ستكون النتيجة؟ {فَإِذَا الَّذي بَيْنَكَ وَ بَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَميمٌ} نتيجة ذلك: أنّ ذاك الذي بينك وبينه عداوة سيتحوّل إلی صديق ورفيق شفيق لك، حميم يعني شفيق، وفيّ ومُخلص جدّاً، الحميم هو بمنزلة المُخلص، نعم، سيتحوّل ذلك العدوّ إلی كلّ هذه الأمور.
يقول بعد ذلك تعالی أنّه لا يستطيع إدراك هذه المسألة إلاّ من كان له حظّ عظيم {وَ ما يُلَقَّاها إِلاَّ الَّذينَ صَبَرُوا وَ ما يُلَقَّاها إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظيم}۱ فمن كان له حظّ كبير، و نصيب عظيم من الإيمان والارتباط بالغيب، و كان له نصيب من النظرة "ماوراء المادّة"، إنّ مثل هذا الشخص ينظر للمسألة هكذا: لو قابلت إساءته بإحسان الآن، فإنّ نتيجة ذلك ستعود عليّ، أنا من سيتجاوز،ولكنّني أنا الذي سيجني ثمرة ذلك، هذا هو حاصل ما يعطينيه العداد اليدويّ، الآلة الحاسبة تعطيني الآن: أنّه يجب علي أن أتجاوز ولا ألتفت، فيؤدّي ذلك إلى أن يشعر الطرف الآخر بدوره بالخجل والحياء، ويقول في نفسه: أنا قلت في غيبته ذلك الكلام، أنا فعلت ذلك، وانظر إلی الكلام الذي قاله لي بالمقابل ! أنا أسأت له فأجاب إساءتي بإحسانه! عندئذ سيشعر بالخجل والندم في كلّ مرّة يراه فيها.
كنت ذات يومٍ متواجداً برفقة بعض الأصدقاء - وقد كنت لابساً العمامة هناك- و كنّا قد دخلنا إلى محطّة الوقود فوقفنا منتظرين في الصف حتّى يصل الدور إلينا. وفي اثناء ذلك، أراد أحد الأشخاص أن يأتي من خارج الصفّ ويدخل أمامنا، فتقدّم الشخص الذي كان يقود سيّارتنا إلی الأمام ليمنعه من ذلك ممّا أدی إلی تصادمهما ببعض، كان رأيُ سائقنا أنّ الحقّ في جانبه، إلاّ أنّه و بالرغم من ذلك، فقد كان تقدّمه هو السبب في حصول التصادم؛ وبعبارة أخرى: صحيح أنّ الحقّ كان معه لكنّه لو تمهّل قليلاً لما اصطدم بالآخر. بعد ذلك، وقع شيء في قلب ذلك الشخص الذي تصادمنا معه، ولاحظتُ أنّه يقول للشخص الذي كان يرافقه: انتظر وسترى، فلنذهب الآن من هنا، وعندما نصل إلی الشارع سأصفّي حسابي معه، أمّا الآن فلنصبر... ، فالتفتُّ إلى صديقنا الذي كان يقود السيّارة، وقلتُ له: انزل من السيارة، واذهب إليه واعتذر إليه، وقل له: أيّاً كان المبلغ الذي يستحقّ عليّ فأنا مستعدّ لأن أدفعه لك الآن نقداً. فترجّل ذلك السائق ـ الذي كان من أصدقائنا ـ وذهب إلى ذلك السائق الثاني، وناداه مخرجاً حقيبة نقوده، وقال له: انظر يا عزيزي، لقد كان الحقّ معك، وعلی الرغم من أنّه كان دوري لتزويد السيارة بالوقود، إلاّ أنّني كنت السبب في وقوع التصادم، فخذ المبلغ الذي تريد.
لقد كنت أنظر إليهما، ولاحظت أنّ ذلك الشخص الآخر قد بقي ينظر إليه متسمّراً في مكانه لبرهة من الزمن، ثمّ قال له: "لا أريد شيئاً، اذهب في رعاية الله"، فأصرّ سائقنا، إلاّ أنّ ذلك الشخص لم يقبل أن يأخذ شيئآً. وعندما رجع صاحبنا إلينا، أخبرنا أنّه قال له: "إنّ شهامتك قد قضت عليّ "؛ لقد رأيته بنفسي كيف كان يقول في البداية: لنذهب إلی الشارع حتّی نصفّي حساباتنا هناك! وهو في مثل هذا الحالة لم يكن ليفكّر أنّه يوجد في السيّارة نساء وأطفال، وأنّه ما الذي ربما كان سيحدث لو قام بما كان ينوي القيام به. التفتوا جيداً، ماذا يكون هذا المقام؟ هذا مقام المقابلة بالمثل، إلاّ أنّ القرآن يقول: {ادْفَعْ بِالَّتي هِيَ أَحْسَنُ} اذهب وأنجز الأمر بطريقة أحسن وأفضل،. فكانت النتيجة أن قال: إنّ شهامتك قد قضت عليّ، وبعد ذلك سمعت بنفسي مرافقه يسأله عمّا حصل؟ فقال له: لقد حُلّت القضية وانتهی الأمر.
أيّهما أفضل: أن تُحلّ المشكلة بهذا الأسلوب، أم أن تُحلّ المسألة بالمواجهة، و بأن نقول: (إذا كنت تريد أن تريني ما الذي ستفعل بي في الشارع، فتعال إذن لأريك ما الذي سأفعله بك!) .. فيصبح الشارع بذلك تحت تصرّف بضع سيارات تريد كلّ واحدة منها أن تري الأخری من هي الأسبق، و عندها فالله وحده أعلم بنتيجة هذا الأمر ... .
بناءً علی هذا، يكون الأصل والقاعدة هو التجاوز، والأساس هو التغاضي والإغماض، ويكون من هذه الناحية حكم الزواج في الإسلام مبنيّاً علی هذا الأساس، ومن هنا يتبيّن لنا وجود قانونين وقاعدتين تحكمان العلاقة الزوجية.
إلاّ أنّنا لن نستطيع بطبيعة الحال أن نبيّن ذلك في هذا المجلس حتّی لا نطيل فيه أكثر من هذا، فهذه الأيّام هي الأيّام الفاطميّة، وكنّا قد التمسنا من رفيقنا أن يتعرّض لذكر مصيبة السيدة فاطمة ـ سلام الله عليها ـ حتی ننال فيض و بركة التوسل بتلك السيّدة العظيمة.
لقد كان في نيتي أن أطرح مسألة الزواج من خلال هذه النظرة، إلاّ أنّ تلك المقدّمة التي استعرضناها طالت كثيراً. ففي الإسلام، يوجد لدينا حكم ظاهريّ مرتبط بالزواج وهي أحكام قانونية، حيث لدينا مسائل حقوقية متعلّقة به سنتعرّض في محلّه للحديث عن كلّ واحدة منها، وسيكون ذلك في حدود بيان المسائل الكليّة طبعاً. بعد ذلك، سنتعرّض لمسألة أنّ العلاقة الزوجيّة في الإسلام ليست مبنيّة علی المسائل القانونيّة أصلاً، بل هي مبنيّة علی أساس الضوابط و القواعد التي هي فوق القانون، وهناك سنبيّن نظرة الإسلام ونظريّته حول ما هو فوق القانون من قضايا تخصّ الأُلفة والمحبّة والارتباط المعيشيّ القائم بين شخصين، وكيف يجب أن ينظر كلّ واحد منهما للآخر من أجل استمرار حياتهما معاً، سيكون ذلك في الجلسة القادمة إن شاء الله تعالی إذا لم يحصل بداء.
نرجو من الله تعالی أن يشملنا جميعاً بلطفه وعنايته حتّی تتّضح لنا هذه الأمور من خلال تلك النظرة الحقيقيّة التي يمتلكها أهل المعرفة والتوحيد، لا من خلال النظريّات الأخری، ولا من خلال بقيّة المدارس الأخری، ولا من خلال بقيّة الأذواق والأفكار الأخری. فأهل التوحيد هم الذين عرضوا علينا هذه النظريّات، فنسأل الله تعالی أن يعرّفنا علی هذه المسائل وأن يوفّقنا للعمل بها، إنّه سميع مجيب.
اللهم صلّ علی محمد آل محمّد